مفاجأة البروتوكول: قتل السوريين أمام أعين المراقبين.. الشعب يريد مراقبين.. لمراقبة المراقبين !
د. عمّار البرادعي
لو أمكن التأكد من دقة المعلومة التي أدلت بها مصادر في ‘غوغل إيرث’ من أن السيارتين اللتين فُجّرتا قرب المجمع الأمني بكفر سوسة كانتا موجودتين داخله منذ أربعة أيام، لأعفى ذلك كل المحلّلين عناء البحث عن شواهد جديدة لكي يثبتوا بالقطع وقوف النظام وراء هذه الجريمة .
عملية التأكيد هذه لا تتطلّب أكثر من إطلاع خبراء مختصّين على الصور التي التقطتها الأقمار الاصطناعية للمكان قبل استهدافه، تُظهر فيه هاتين السيارتين أو إحداهما على الأقل، خصوصا وأن عملية التصوير قد شملت ـ حسب قول المصادر نفسها ـ سائرالمباني الأمنية وكامل المنطقة التي كانت مسرحا للتفجير.
لو حصل ذلك فعلا، وجرى التأكد من دقة مصادر غوغل، لتمّ وضع حدّ لألاعيب النظام وأكاذيبه المكشوفة بالوثائق الثبوتية الدامغة، إلى جانب ما تمّ ترجيحه بالعقل وعن طريق المقارنة بين التصريحات المتناقضة في ضوء المعرفة التاريخية بمعدن النظام وأساليبه .لكن ذلك لم يتحقق، كما أن هناك شواهد أخرى أساسية لم تحظ بلفت الإنتباه المناسب لها من قبل معظم وسائل الإعلام، مع أنه كان من الممكن أن توصلنا الى نفس النتيجة دون الإستناد الى معلومة غوغل ولا صور الأقمار والخبراء، إلا أننا لم نقرأ عنها شيئا في تحليلات المتتبعين لهذا الحدث، ولاسيما تلك المتعلقة بكيفية فبركة الجريمة التي تُعتبر فضيحة الفضائح المؤشرة على ‘عراقة’ النظام السوري في أساليب التضليل وتلفيق الإتهامات.
في البدء وكمثال على ذلك، دعونا نسترجع خبرا مازال طازجا في الأذهان تداوله أكثر من مصدر صحفي وسياسي قبل يومين فقط من عمليتي التفجير، حيث نُقل عن لسان وزير الدفاع اللبناني فايز غصن قوله في اجتماع ضمّ عددا من الضباط ‘أن السلطات اللبنانية قد حذّرت سورية من تسلل بعض العناصر الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة عن طريق بلدة عرسال الحدودية’. وجاء هذا الكلام الذي ننقله بحرفيته في صيغة تقبل أكثر من تفسير، وإن كانت توحي بعموميتها أن هذه العناصر آتية على الأرجح من سورية، ولهذا استُوجِب التحذير لا مجرد التبليغ أو التنبيه.
بعد ذلك بيومين وتعليقا على خبر الإنفجارين، أزيلت هذه الغمغمة في عمومية الكلام من خلال تصريح فوري أدلى به الناطق باسم الخارجية السورية جهاد مقدسي إلى وكالة يونايتدبرس صبيحة يوم الحدث في 23الجاري، اتهم فيه تنظيم القاعدة بالوقوف وراء هذه العملية الإجرامية، ثم تابع موضحا خلفية هذا الإتهام بالقول ‘ .. لقد حذّر لبنان سورية من تسرّب عناصر من تنظيم القاعدة عبر بلدة عرسال ‘. وهكذا وَضَع هذه الصيغة في سياق يربط العملية بالتحذير المسبق، ويُفسّر الإثنين بما يخدم أطروحات النظام وادعاءاته، على الرغم من خروج رئيس الوزراء اللبناني بعد ذلك لينفي أي تواجد لتنظيم القاعدة، ويترك الرد التفصيلي على ما تردد الى مخابرات الجيش التي ستكشف حقيقة الوضع في عرسال ـ كما قال ـ وهو ما ينفي التفسير الذي استندت إليه السلطات السورية في توجيه الإتهام.
إذا كانت وسائل الإعلام قد قفزت عن كشف سر هذه الصيغة التي تحتمل أكثر من تفسير، واكتفت بتسليط الأضواء على حقائق بديهية لا تخفى على المتابعين، كتوقيت التفجير مع قدوم طلائع المراقبين، وردّ وزير الخارجية السوري وليد المعلم على سؤال صحفي وجّه إليه قبل يومين من الحدث حول احتمال وقوع أحداث أمنية خلال وجود المراقبين بالقول: ‘هذا سيعطي مصداقية للسلطات السورية أن هناك مجموعات إرهابية مسلحة’. كما اكتفت بالغمز من القدرة الخارقة لاستخباراتها في كشف الجهة الفاعلة لعملية التفجير والإعلان عنها في غضون أقل من ساعة على وقوعها، بينما لم تكشف حتى الآن عن أي جهة نفّذت عمليات إجرامية أخرى ومنها ما يماثل هذه، رغم مرور عدة سنوات عليها كعملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وتفجير السفارة الأمريكية في دمشق، واغتيال عماد مغنية، رجوعا الى اغتيال كمال جنبلاط ومفتي لبنان حسن خالد .. والقائمة طويلة جدا على الحصر.
إذا كان ذلك قد حصل فعلا، فإنه ليس من السهل علينا القفز من فوق ما أعلنه حزب الله، الحليف الأساسي لنظام بشار في بيان رسمي له أدان فيه العملية التي ‘وقعت بالتزامن مع التفجيرات التي شهدتها بغداد’ كما قال، واتهم الولايات المتحدة بالوقوف وراءها وليس القاعدة كما أعلنت السلطات السورية . وكان اللافت فيما جاء فيه أن’ هذه العملية الدموية الجبانة جاءت إنتقاما منها على إخراج قواتها ذليلة من العراق’. وكأن نظام بشار حليف المالكي الذي أتى ومن معه على دبابات الإحتلال هو الذي أخرج القوات الأميركية من العراق وأذ لّها أيضا، وليست عمليات المقاومة التي يجري التعتيم عليها منذ تسع سنوات.
وإذا كان سرّ عدم تطابق هذا الإتهام مع الإتهام الرسمي السوري لم يستوقف المراقبين أيضا ولم يدفعهم إلى سبر أغواره، فلأن عملية التنسيق الكامل مع السلطات اللبنانية الخارجة من رحم حزب الله لم تستوقفهم كذلك في مراحلها المتعددة، لا من حيث أسبقيتها لهذا الحدث ولا علاقتها المباشرة به، إلى جانب التصريحات المتعلقة بتسرّب عناصر القاعدة بين البلدين. ثم أخيرا وليس آخرا تنسيق عملية توزيع التهم إلى جهات متعددة لإبعاد أصابع الإتهام عن المجرم الحقيقي.
حتى مسارعة الرئيس اللبناني ميشيل سليمان إلى إدانة العملية ـ وهو أمر طبيعي ـ لم تخرج عن سياق هذا التنسيق وحتى التفسير المزدوج، عندما اعتبر في حديثه الهاتفي مع بشار أن ‘تزامن الحدث يستهدف خربطة الحل العربي’. ومع أن هذه العبارة الأخيرة صحيحة، إلا أنها ليست كما أوحى الرئيس اللبناني. أي ليست القاعدة هي التي تستهدف ـ في هذه الحالة ـ تخريب الحل، بل النظام الذي حاول قتله قبل أن يُولد، وماطل طويلا بقبوله، ولم يوافق عليه إلا تحت الضغط المتواصل وبأسلوب احتيالي واضح ،بعد أن حوصر في زاوية لم يعد أمامه أي مهرب منها إلا بمواجهة مصيره أمام مجلس الأمن، فالتدخل الخارجي وصولا الى محكمة الجنايات الدولية .
وبالعودة إلى تحويل أصابع الإتهام إلى القاعدة والولايات المتحدة، قبل أن تجري محاولة إلصاقها بعد ذلك بجماعة المسلمين، تجدر الإشارة الى الملاحظتين التاليتين:
أولاهما ـ منذ ما قبل اندلاع ثورة شعبنا لم يسمع أحد بأي نشاط لتنظيم القاعدة على الأرض السورية، لا على لسان النظام ولا غيره. فما معنى مسرحية اتهامه المفاجىء مع إطلالة اليوم الأول لوصول طلائع المراقبين العرب، وما الذي جدّ بالنسبة للقاعدة حتى تستهدف نظام بشّار الآن، وهي التي بقيت نائمة طوال الشهور التسعة الماضية ؟
ثانيهما ـ لماذا تستهدف الولايات المتحدة أيضا هذا النظام، وهو حليف حليفها الذي أعادته دبابات الإحتلال ليحكم العراق ـ كما تعرف كل الدنيا ـ، والذي ما زالت تربطه بالولايات المتحدة أوثق علاقات التبعية التي عزّزتها زيارته الأخيرة الى واشنطن ؟
ولم يتوقف مسلسل الفبركة والتناقضات عند هذا الحد، بل وصل كما سمعنا وقرأنا الى تسريب تفاصيل تثير الإستهزاء، كترويج أنباء عن إلقاء القبض على الإنتحاريّين الإثنين مع أنهما لقيا مصرعهما حتما، ثم على إرهابي واحد فقط، بدل أن نسمع أو نقرأ في المقابل شيئا عمّا التقطته كاميرات المراقبة التي زرعتها أجهزة النظام في كل مكان، خصوصا في مناطق تواجد المكاتب الأمنية الحساسة ومنها المنطقة التي شهدت عمليتي التفجير .
إن من يتتبع مراحل التمهيد لهذه الجريمة الجديدة وتحديد الجهة المتهمة بها سلفا، سوف يرى فعلا أن الجهة التي نفّذتها ‘أرادت أن يكون اليوم الأول للمراقبين في دمشق يوما مأساويا’ بهدف إخافتهم ودفعهم الى العودة من حيث أتوا، وهذا ما قاله حرفيا نائب وزير الخارجية فيصل المقداد نفسه فور وقوع العملية، ولكن من منطلق الإتهام الجاهز للقاعدة وليس أجهزة النظام بالوقوف وراء ها وما ترمي إليه من أهداف.
هنا يجدر السؤال: إذا كان هدف الإرهابيين إثارة الفزع واستعراض قدرة أياديهم الطولى على استهداف المواطنين الآمنين، فأيهما أيسر عليهم في الحالة هذه: استهداف مؤسسات رسمية محصّنة أم تجمعات شعبية لا تتمتع بمزايا الحماية المتوفرة للمقارالأمنية على وجه الخصوص، كتجمعات الشبّيحة وتظاهرات المحسوبين على النظام؟ اللهمّ إلا إذا كان الهدف الحقيقي من وراء الإيحاء باستهداف هذه المقار إقناع المراقبين بأن النظام ‘المسالم’ هو المستهدف من عمليات التقتيل التي يمارسها الشعب ‘المتآمر’ في كل أنحاء البلاد، وهذا هو الذي يُفسّر الفارق بين إصراره على عدم السماح لوسائل الإعلام بتغطية الأحداث التي تعكس ممارساته الدموية على الأرض، ثم مسارعته إلى فتح الأبواب أمامها واستدعائها كي تُغطّي الجانب الذي يريد إبرازه من وراء هذه العملية.
بهذا الأسلوب التضليلي يعتقد نظام بشار أنه قادر على استغفال الناس إلى ما لا نهاية . ولهذا لم يتورّع عن تكرار نفس النهج الذي اتبعه في فبركة عملية التفجير عندما حان موعد زيارة وفد المراقبين إلى مدينة حمص الغارقة بدماء أبنائها . فبالإضافة الى عملية الخداع التي اتبعها بوقف القصف لبرهة زمنية قصيرة أثناء وجود المراقبين الذين تجوّلوا كالسياح وسط الدمار وأمامهم دبابات الجيش، أوعز لبعض شبّيحته التقدّم بشكاوي الى المراقبين حول عمليات قتل وتعذيب قام بها أهل المدينة ضد عائلاتهم وأطفالهم، كما أوعزوا لعدد آخر بترويج ديباجة موحدة المضمون من على الفضائيات، كتلك التي بثّتها فضائية روسيا اليوم الساعة الثالثة من بعد ظهر الإثنين الماضي في اتصال مع من وصفته بالمحلل السياسي، سألته عن أجواء المدينة التي تنتظر قدوم المراقبين، فأجابها بنص مكتوب له قرأه كتلميذ حفظ درسه عن ظهر قلب، ثم كرّره بغباء جوابا على كل سؤال جديد وهو يردد دون الإكتراث لتدخل المذيع ‘هناك مئات الإرهابيين المدججين بالسلاح في شوارع المدينة وأحيائها. وهناك قوى قوية جدا ـ هكذا بالحرف ـ ومسلحة ومدرّبة على كل وسائل قتال الشوارع تقوم بعمليات إرهابية ضد المواطنين’!
يبقى القول: وماذا عن دور المراقبين، وكيف تمّ اختيارهم، وما هي المزايا التي حرصت الجامعة على توفرها فيمن سيقوم بمثل هذا المهمة الدقيقة، هذا إذا كانت هي التي قامت بذلك وليس غيرها ممن لا يريدون لمهمة المراقبين النجاح أساسا ؟
نطرح كل هذه التساؤلات لأن أمامنا نماذج لا تُبشّر بالتفاؤل فيما يتعلّق بكيفية اختيار البعض منهم. فإذا استثنينا الذين رشّحتهم دولهم من ذوي الخبرة والكفاءة كقائمة مجلس التعاون الخليجي على سبيل المثال ـ التي تمّ رفض قبولها ـ أو أولئك الذين رشحتهم المنظمات الحقوقية والإنسانية المعروفة بجدّيتها، نرى ودون دخول في التفاصيل، أن بعض الذين أُبلغوا بالرغبة في ترشيحهم، مع أنهم لا يتمتعون بالمزايا الواجب توفرها في أي مراقب، قد تم الإتصال بهم من قبل أشخاص لا علاقة لهم بالجامعة ولا بأي موقع رسمي في الوقت الحاضر. وهذا ما حصل مع بعض المقيمين في عواصم أوروبية مهمة.
لا نريد أن نسأل هنا هل يدري الأمين العام للجامعة بهذه الخفايا أم لا، ولكننا نسمح لأنفسنا بالسؤال الأصعب: من يضمن في مثل هذه الحالة وما يعترينا فيها من شكوك أن لا يشتري نظام بشار بعض الأنفس، لكي توقّع على سند براءته، وهذا ما تأمله جامعة الحكام وتتطلّع إلى المصادقة عليه.
‘ كاتب سوري يقيم في باريس