مفارقات روسيا في سوريا
عبد الوهاب بدرخان
كان “الأميركي البشع” استحق هذا النعت في ستينيات القرن الماضي، وكان ذلك على خلفية حرب فيتنام وفظاعاتها. والأكيد أنه لم يكسب حديثاً أي سمة جمال أو تجميل لا في حرب العراق ولا في حرب أفغانستان.
وبالنسبة إلى العرب كان الأميركي (أي الإدارة، وليس الشعب) ولا يزال يستحق اللعنة بسبب انحيازه الأعمى إلى إسرائيل واحتلالها وجرائمها واضطهادها للشعب الفلسطيني.
ها هو “الروسي القبيح” يسجل حضوره القوي في العالم العربي على وقع “فيتو” تلو آخر في المجلس مانحاً النظام السوري ترخيصاً للاستمرار في القتل ولاشيء غير القتل. هذا لا يعني أن روسيا كانت حملاً وديعاً أو حمامة سلام ثم انقلبت وحشاً كاسراً، فلا أحد نسي مجازرها في أفغانستان ولا تدميرها المنهجي لمدن الشيشان، على نحو ما يحدث اليوم في حمص وغيرها من مدن سوريا، وأسوأ البشاعات دعم نظام يسعى إلى الحسم عسكرياً ضد شعبه.
على مرّ الأعوام والأزمات، وحتى في أوج القوة السوفييتية، لم تذهب موسكو إلى هذا الحد من العنت والعناد، خصوصاً في أي قضية تهم العالم العربي.
ومنذ سقوط الاتحاد السوفييتي لم تعد لديها سياسة عربية أو شرق أوسطية، بل إن الولايات المتحدة هي التي حرصت على حجز مقعد لروسيا سواء في مؤتمر مدريد عام 1991، أو في “الرباعية الدولية” عام 2002 رغم علمها أن وجود الروس أو عدمه سيّان، إلا أن وجودهم غير الفاعل – كما تأكد واقعياً- يمنعهم من إزعاج التوجهات الأميركية (والأهداف الإسرائيلية). وهذا ما تأكد أيضاً خلال حرب 2006 على لبنان، إذ لم يكن الروس مؤثرين في المعركة الدبلوماسية التي خيّمت في مجلس الأمن، ربما لأن الحرب لم تتجاوز الحدود اللبنانية، أي أنها لم تقترب من مصالحهم.
فوجئت روسيا كغيرها بالانتفاضات الشعبية، وبمرور الوقت لم تتمكن من مغادرة سلبيتها، والملفت أنها كدولة كبرى لم تُفصح عن رؤية أو مواقف تنم على اهتمامها وتحليلها لما يجري من تحولات. كانت تُبدي حيادية حيال ما تعتبره مشاكل داخلية لا تعنيها. وحتى بعدما تفجرت الأزمة الليبية لم تقلع موسكو عن بلادتها، كأنها لم تفهم ولم ترد أن تفهم حركة الأحداث، رغم أن المصالح هنا كانت لتشكل دوافع مفهومة.
ولم تستفق من غيبوبتها إلا بعدما أحدث “الناتو” اختراقاً مهماً أدخل شيئاً من التوازن على الأرض. لكن في هذه الأثناء كانت روسيا تسلم نظام القذافي آخر دفعة دبابات تعاقد عليها. بعد نحو خمسة أشهر هبطت طائرة ميخائيل بوغدانوف في بنغازي ليلتقي قيادة المجلس الانتقالي ويسأل عن ضمانات مستقبلية لمصالح روسيا، وجاءه الجواب سؤالاً: هل فكرتم بهذه المصالح عندما سلمتم الطاغية دبابات حديثة لدك مدننا؟
لم تكف موسكو مذاك عن القول إنها وبكين خدعت في مجلس الأمن، فقرار حظر الطيران فوق ليبيا لا يسمح لـ”الناتو” بعمليات حربية، ولو جوية فقط، واقع الأمر أن روسيا لم تخدع وإنما لم تفطن إلى موازنة الهجوم الغربي حربياً بهجوم سياسي عندما كانت لاتزال تتمتع بشيء من النفوذ للتأثير في نظام القذافي، رغم إدراكها وقتذاك (أوائل صيف 2011) أن الدول الغربية منقسمة وراغبة في حل سياسي.
لذلك تبدو موسكو حالياً وكأنها في صدد “إصلاح” سياستها ومعالجة القصور والتكلس اللذين احتوياها، لكنها اضطرت للعودة إلى أساليب دبلوماسيتها خلال الحرب الباردة، مع علمها بأن الظروف تغيرت.
لعل ما أملى عليها ذلك أن ما لم يتغير هو النظام السوري الذي بقي “سوفييتياً” في عمقه وبركائزه الأمنية واستهتاره بالشعب.
بعد “الفيتو” الثاني لمصلحة النظام، شاع اعتقاد بأن موسكو “أحرجت” وأنها ستحاول “تصحيح” رسائلها إلى نظام دمشق.
بدأ الرهان الهش على تغيير في النهج الروسي منذ الإعلان عن زيارة وزير الخارجية سيرجي لافروف ومدير الاستخبارات ميخائيل فرادكوف، وانتهى لحظة انتهاء محادثاتهما مع المسؤولين السوريين، تبين بوضوح أن موسكو لا تملك مبادرة، وأنها تدعم خطة النظام الذي يريد كسر الانتفاضة وإخمادها ليطرح “إصلاحاته” استناداً إلى أنه باق ومستمر بقوة السلاح.
في معرض الدفاع عن موقفها، ردت موسكو على جمعة “روسيا تقتل أطفالنا” بأن الدول الغربية “شريكة” في تأجيج الأزمة في سوريا، وأن على مجلس الأمن ألا ينحاز إلى طرف ضد طرف، ما يعني أن روسيا تقف على الحياد، والدليل في ما نقله موقع قناة “دنيا” الموالية للنظام عن مدير الاستخبارات فرادكوف إذ سأل مضيفه السوري: كم من الوقت سأنتظر حتى تدعوني إلى الغداء في حمص؟ كل ما تريده موسكو هو أن يكون الحسم قريباً.
الاتحاد