مفهوم الدولة العميقة
1. ميلاد الدولة العميقة:
أول استعمال لمصطلح ( الدولة العميقة ) كان بتركيا خلال القرن الماضي.وهو مجموعة من التحالفات المنظمة بين أفراد نافذين ومؤسسات في الدولة العلمانية الأتاتركية للحيلولة دون العودة إلى الإسلام.وقد حمل هذا الحزب السري اسم:( أرجنا جون).وهي بمثابة دولة باطنية تمتلك نفوذاً قوياً على صناعة القرار السياسي العام في تركيا بعد إسقاط الخلافة الإسلامية العثمانية سنة 1924.وكان عمودها الفقري هو المؤسسة العسكرية ذات النفوذ العلني الرسمي والقانوني والباطني غير الشرعي.
لقد نجحت في وقف تقدم الفكرة الإسلامية نحو كيان الدولة لعقود من الزمان.منذ إعدام الزعيم الإسلامي المعروف عدنان منداريس في ستينات القرن الماضي بعد وصوله للسلطة بالطريق الديمقراطي.وانتهاء بحل حزب الرفاه في نهاية القرن الماضي بعد وصول الزعيم الإسلامي أربكان للسلطة بالطريق الديمقراطي أيضاً.وكانت المحاولة الأخيرة للإطاحة بحزب العدالة والتنمية في أواسط العقد الأول من هذا القرن لكنها اكتشفت وحوكم جنرالاتها وحلفائهم .حيث وضعت منظمة أرجناجون خطة لانقلاب يصفي حوالي 10 آلاف شخصية معادية أو مناوئة لفكرة العلمانية الأتاتوركية.يعلنون بعدها على ديكتاتورية تدوم 30 سنة حسب مصادر إسلامية تركية مضطلعة.والهدف الطرد النهائي لفكرة الإسلام والإسلاميين من التواجد بأي مقدار في كيان الدولة التركية.وبما أن الفكرة الإسلامية قد تأتي عبر الطريق الديمقراطي، فالدولة العميقة في تركيا معادية في العمق لفكرة الدولة الديمقراطية.
وبعد الحرب العالمية الثانية ونشوب الحرب الباردة بين المعسكريْن الرأسمالي و الاشتراكي استأنفت الدولة العميقة رحلتها إلى القارة الأمريكية.فدفاعاً عن المصالح القومية الأمريكية والمصالح الرأسمالية في العالم ضد هجمات المد الشيوعي العالمية،أعطى الرئيس الأمريكي ترومان أمره بإنشاء الوكالة المركزية للمخابرات ومكتب التحقيقات الفيدرالي في أربعينات القرن الماضي.كان هذا الحدث في تقديري الميلاد الرسمي للدولة العميقة في الولايات المتحدة.هذه الدولة العميقة ستنظم مئات العمليات السرية والانقلابات الفاشية في العالم، و بالأخص في أمريكا اللاتينية.والتي انتقلت لها فكرة الدولة العميقة.ثم انتشر كيان الدولة العميقة في جل دول العالم غير الديمقراطي.بفعل الحرب الباردة بين المعسكريْن.فمن هم أعداؤها اليوم وكيف تشتغل هذه القوة غير المرئية في بيئة الربيع الديمقراطي؟؟
2. أعداء الدولة العميقة في التاريخ المعاصر:
لقد ولد كيان الدولة العميقة في تركيا ما بعد الخلافة العثمانية، فالهدف الأكبر لها حتى الآن هو طرد الفكرة الإسلامية إلى الأبد من كيان الدولة التركية وكيان المجتمع التركي و من قلوب وعقول الأتراك.وأرجح أن القوى الماسونية ما زالت متربعة على عرش الدولة العميقة في تركيا المعاصرة،وربما على غيرها.فقد ساهمت في إسقاط الخلافة العثمانية عبر جمعيات الإصلاح والترقي وأتاتورك سنة 1924م.فسهل سقوط دولة الشريعة في جل أقطار العالم العربي والإسلامي أثناء الاستعمار وبعده.وهي في تقديري أكبر كارثة أصابت تاريخ البشرية.وبالتالي فالدولة العميقة في تركيا، بل وفي العالم الإسلامي لن تسمح بعودة الإسلام من جديد للقيادة إلا إن هزمت وستهزم بإذن الله.
وبعد رحيل كيان الدولة العميقة للولايات المتحدة أصبح العدو اللدود لها هو فكرة الشيوعية.وبعد استقرار الدولة العميقة في دول أمريكا اللاتينية و العالم الثالث بمعسكريْه الرأسمالي والاشتراكي أصبحت فكرة الديمقراطية السياسية عدو الدولة العميقة اللدود.
وبعد سقوط العالم الشيوعي في تسعينات القرن الماضي أصبح الإسلام والفكرة الإسلامية هي العدو اللدود للدولة العميقة والظاهرة عند الغزاة والطغاة معاً.
ومع الربيع الديمقراطي المبارك اليوم، بدأت قوة الدولة العميقة في تقديري تنتقل من العمل المنظم إلى العمل المهيكل معاً، لتقود الثورة المضادة للربيعيْن الديمقراطي و الإسلامي، عدواها اللدودان.لكن من وراء الستار وبكل الطرق القذرة.
3. وظيفة و قوة وأساليب الدولة العميقة :
فالدولة العميقة ليست لوبيات أو جماعات ضغط، لأن جماعة الضغط بإمكانها الاشتغال في النور ووفق القانون وتمارس ضغطها على صانع القرار بالطرق الشرعية.أما الدولة العميقة فهي قوة منظمة، قد تكون مهيكلة وغير مهيكلة، تمتلك القدرة على صناعة القرار السياسي السيادي أو التأثير فيه بقوة من خلال نفوذها في الدولة والمجتمع.لكن بدون حضور مباشر في اتخاذ القرار.فهي تحالف قوى غير مرئية بين شخصيات ومؤسسات ومنظمات نافذة في الدولة والمجتمع ،تشترك في مصالح حيوية بالغة الأهمية حضارية أو قومية أو سياسية أو اقتصادية أوعرقية أو مذهبية أو هي كلها.ولها ظيفتان في تقديري الوظيفة الأولى صيانة الدولة المطابقة لمصالح القوة الخفية إن كانت قائمة،والحيلولة دون هدمها.وإن سقطت تنتقل للوظيفة الثانية وهي الحيلولة دون انتقال الدولة إلى دولة غير مطابقة.من خلال ما تمتلك من قوة وسلطة ونفوذ خفي.قوة حقيقية غير مرئية أو نصف مرئية،وقوة غير قانونية وغير شرعية في عملها،فهي في مصر اليوم تتشكل بقوة كبيرة، فهي منظمة وقد تكون بلغت مرحلة الهيكلة، وهذا خطر يتربص بالثورة المصرية والربيع الديمقراطي.فحضورها ظاهر في مفاصل الدولة اليوم، في القضاء المصري،وأجهزتها المخابراتية، وفي قوتها المالية القذرة العالية، وقوتها الإعلامية تشتغل بالواضح.بل إن شبه التعادل في الأصوات بين محمد مرسي وغريمه شفيق دليل قوي على انتظام عملها.وهي تحالف ممتد خارج الكيان المصري.
والعقل السياسي القائد للدولة العميقة عقل متآمر وأساليبه قذرة للغاية.فهو اليوم عدونا، وقد يتسرب كالنمل من عيوبنا.فكيان الدولة العميقة في مصر وغيرها اليوم يعتمد إستراتيجية متعددة الرؤوس، منها أسلوب الصدمة والرعب والترهيب للشعب المصري وغيره عن طريق الفوضى واختلاق الفتن، والتوظيف القذر للفئات الرثة في المجتمع لمناهضة الثورة باسم الثورة.ومن أخطر الأساليب في الصراع من أجل الحفاظ على مصالحها الحيوية في السلطة والثروة والنفوذ، التفخيخ القانوني والقضائي لمؤسسات الدولة الديمقراطية الصاعدة. وعلى إثره حُلًّ البرلمان المصري المنتخب انتخاباً ديمقراطياً, وحلت اللجنة الأولى لصياغة الدستور من خلال نفوذ الدولة العميقة في القضاء المصري،ورفض جهاز المخابرات التعاون مع الثورة في كشف الحقائق حول المتورطين في قتل الثوار.مما أدى إلى إفلات المجرمين الكبار من العقاب.وهكذا دواليك.وكل هذا غايته وقف المد الديمقراطي والإسلامي في المنطقة؟
إن الانتصار على الدولة العميقة المهمة الأكثر صعوبة في الربيع الديمقراطي للعبور بأمتنا المجيدة نحو الديمقراطية والتنمية والعزة والعيش الكريم.