مقابلة مع الكاتب والمترجم السوري ثائر ديب
ربيع مصطفى وصباح جلّول
هموم الترجمة
كيف تختار الكتب التي تترجمها؟
ما زلت على المستوى الفردي أعتبر نفسي قارئاً، فاختياري للكتب التي أترجمها يتحكم به أوّلا ما أحب أن أقرأه وبالتالي ما أحب أن أقدّمه للقارئ العربي أيضاً إضافة الى نفسي. لكن لا بد أن يكون هناك أسباب أبعد من إحساسي الفردي أو النفسي بهذا الأمر. هناك أمور تتعلق بما أرى مثلا أنّه ينقص الثقافة العربية. من جهتي، هناك أمور تتعلق بميلي إلى ترجمة البحوث والدراسات التي يفيد منها الباحث والأكاديمي العربي، وهناك أمر يتعلق برغبتي الشديدة بترجمة الأفكار الكبرى والنظريات التي تحاول تفسير مساحات واسعة من الواقع، وأن أترجم ما ينطوي على فكر نقدي، بحيث يتوفر للقارئ العربي الفكر الذي لا يركن إلى ما هو قائم ولا يركن إلى ما هو مستقر، أيّ يشجع على التغيير والتطور. وأيّ فعل ثقافي هو فعل تغييري، ينطوي على إنسانية الإنسان كونه كائن فقد برنامجه الطبيعي الغريزي، أو بالأحرى انفصل عن الطبيعة وأصبح مسؤولاً عن ذاته من خلال الثقافة..
هل الترجمة الى العربية قاصرة؟
هذا الموضوع ممتد الأطراف كما يقال ويطول الكلام فيه، لكن هناك عدد مما يمكن أن ندعوه الأساطير المحيطة به أو الكلام غير الدقيق. مثلا يقال إنّ العرب لا يترجمون، هذه العبارة صحيحة وخاطئة في الوقت عينه. من جهة العرب يترجمون، مثلا إن أردت أن تعرف أي شي في حقل الفلسفة لوجدت كتباً كثيرة أو مقالات، أي مواداً مختلفة من كل الاتجاهات الفلسفية مترجمة إلى العربية. بالمقابل، ما هو مترجم في علم الاجتماع قليل جدا، كما ما هو مترجم على صعيد الثقافة العلمية، ويكاد يقتصر على الجامعات والمدارس. بالتالي الكلام عما يترجمه العرب يقتضي يقتضي كلاماً دقيقاً عارفاً له إحصاءاته وأرقامه. ومن جهة نوعية الترجمة العربية أيضا هناك تفاوت شديد جدا، مع سيطرة للترجمات الرديئة عكس ما كان في مراحل سابقة من التاريخ العربي الحديث. وسبب الرداءة الحالية أنّ العرب لا يهتمون بإعداد المترجمين كما ينبغي، وكذلك غياب المشاريع الثقافية لدى الأنظمة العربية الحاليّة.. هناك أسباب كثيرة لهذا الأمر، مع ذلك هناك بعض المشروعات التي قامت في الفترة الأخيرة في بعض المواقع العربية تلفت الانتباه سواء بخياراتها أو بنوعية مترجميها أو تعاملها مع المترجم، أذكر على هذا الصعيد المركز القومي للترجمة في مصر، والمنظمة العربية للترجمة التى كانت تابعة لمركز دراسات الوحدة العربية، ووزارة الثقافة السورية، ومشروع الترجمة الموجود الآن في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسة، ومشروع “كلمة” في أبو ظبي.. إلى آخره… هذه المشروعات ينطوي شغلها على خطة وتصور وتدقيق في نوعية الخيارات ونوعية المترجمين ونوعية المراجعة التي تجري. هناك الكثير من الجوانب الأخرى في الترجمة العربية يمكن الكلام عنها، وعلى هذا الصعيد ينبغي عدم الاكتفاء بترداد ما هو شائع في الجرائد والمجلات من أن إسبانيا تترجم أكثر من العرب بكثير مثلاً، هذا الأمر قد يكون صحيحا وقد لا يكون حسب كل حالة، مثلا هذا صحيح في الفلسفة مثلما هو صحيح في الأنتروبولوجيا، ولكن هل هو صحيح في الآداب؟
وأما بالنسبة للترجمة من العربية في الفترة الحالية، فأولاً الإنتاج الفكري العربي ــ وليس الأدبي ــ قليلا ما يترجم، وأغلب الترجمات هي لأعمال أدبية ويلعب دورا كبيرا في اختيارها الشلل الأدبية وصلتها بمنافذ الترجمة الأجنبية. كما يساهم كثيرا في اختيارها ما إذا كانت تقدم صوراً نمطية مطابقة عنا للصور لدى الغرب. مثلا رواية عن الختان أو العادة السرية أو الحجاب ربما تترجم أكثر بكثير من عمل أدبي فذ ورائع لكاتب عربي شديد الأهمية. وأخيراً فغياب الحضور العربي على كافة المستويات ينعكس في غياب الترجمة من لغتنا إلى بقية اللغات، وكلّ غياب ونقص في الإنتاج الفكري العربي ذو القيمة لا بد أن ينعكس غيابا في ترجمتنا إلى بقية ثقافات العالم، ناهيك عن أنّ الترجمة التي نتكلم عنها بالطبع هي أساسا وفي 99 في المئة من الحالات ترجمة نحو الإنكليزية بينما لا تحتل الترجمات من اللغة العربية إلى اللغات العالم الثالثية إلّا حيّزا بسيطا بالقياس إلى الترجمات من العربية إلى الانكليزية.
وفي الثقافتين الأنكلوفونية والفرنكوفونية، وربما الثقافات الأوروبية عموما، هناك شيء مما قد ندعوه استخفافاً.
ما أثر هذا على الصورة التي نظهر بها؟
بالتأكيد غياب الترجمات ذات القيمة من حيث موضوعاتها ومستواها، وغياب الحضور الثقافي العربي، وغياب صورة العرب كما يقدمها أبناؤهم، وغياب التنوع العربي وطغيان الصور النمطية.. كل هذا لا بد أن يترك أثره في تعزيز الصورة الاستشراقية وتعزيز الصور النمطية الجاهزة مسبقا عن العرب وثقافتهم.
من هم الذين تنقل لهم كتبك وهل تصل إلى سؤال الجدوى؟
أنقل لكل قارئ محتمل، ولكني لاحظتُ منذ قليل أنّني قلت للمثقف العربي والباحث العربي والأكاديمي العربي.. في الحقيقة أنا أكنّ احتراماً شديدا للقارئ العام. هناك أشخاص لربما على حساب عيشهم وعيش أولادهم يقتطعون من مداخيلهم أجزاء مهمة لشراء الكتب من دون أن يكونوا مختصين أو أكاديميين أو باحثين، هذا القارئ العام يهمني كثيرا، وكثيرا ما أثق به أكثر من بعض المختصين.
حتى الآن لم أصل إلى هذه اللحظة على الإطلاق، يمكن لأنني سبق لي أن مررت على المستوى الشخصي بتجارب تدفع إلى اليأس أكثر بكثير ربما مما تدفع اليه الترجمة مهما كانت معذِّبة، كالاعتقال السياسي لسنوات طويلة. حتى في تلك اللحظات لم أفقد إيماني بجدوى الثقافة وبجدوى الفعل الثقافي ومنه الترجمة. لم أصل إلى هذه الدرجة ولم أفقد ثقتي بجدوى المقاومة الثقافية لكل ما هو ظالم ومجِّهل.
هويات الانتساب وليس النسب
تجربة الاعتقال السياسي، وما غيرت فيك؟
في تجربة السجن، لا أحب أن أتحدث عن جوانب كثيرة، ومنها مثلا التعذيب وإحساس الاحتجاز، الذي هو إحساس شنيع ورهيب، ولا عن الاستيقاظ الصباحي. صباح المعتقل عكس صباحات الناس العاديين، يكون مقترنا بالقتامة والكرب والتنغيص… لكن أحب أن أتحدث عن تجربة المقاومة في السجن، عن تجربة الثقافة في السجن. أتيح لي في هذه التجربة أن اقرأ كثيرا وأن أكتب كثيرا، خرجت ومعي أربع مخطوطات مترجمة. أسسنا فرقة مسرحية أدت حوالي أربع أو خمس مسرحيات كاملة اقتضت كل واحدة منها تدريبا طويلا ومخرجا وإضاءة وملابس استطعنا أن نتدبرها في السجن، سجن صيدنايا. أقمنا الكثير من الندوات الثقافية والفكرية والسياسية، ومن الأمسيات القصصية والشعرية. أسسنا مجلة صدر منها بضعة أعداد وكانت تكتب باليد ومن نسخة واحدة.. هناك الكثير مما يمكن الحديث عنه حول المقاومة في السجن، المقاومة الثقافية، بمعنى آخر أن تحتفظ بإنسانيتك قرب جدران المعدن وجدران الإسمنت التي تطْبِق على الصدر بقوة شديدة.
أنت تمتلك هويات متعددة: انت عربي وسوري، طبيب ومترجم وكاتب وانتميت الى تنظيم يساري.. هل تشعر أن بعض هوياتك تتصارع فيما بينها، أو كيف تجد الانسجام بين هذه الهويات؟
أولاً كي أهيئ لنفسي او أعيد تهيئة السؤال لنفسي، أريد أن أقول إنّني لا أعتد إلا بالهويات الآتية من الإنتساب وليس من النسب، يعني لا تهمني هوياتي التي بلغتني بالولادة واكتسبها بالولادة مثل العائلة والدين الى آخره.. من دون أن أهمل هذه الهويات لأنها في بعض الأحيان تلعب أدواراً شديدة الخطورة، مثل أن تتحول الهوية الدينية إلى عنصر في صراع طائفي.. وباختصار لا أعتد كثيرا بهوياتي التى أتت من النسب لكن لا أهملها, في الواقع، تهمني هوياتي التي أكتسبتها بالانتساب مثل هويتي الفكرية، وهويتي القومية، لا بمعنى الانتساب إلى عرق معين لكن بمعنى أن هناك منطقة لها قضاياها القومية المحقة، لربما لها قضايا تجاه قوميات أخرى غير محقة، كأن تضطهد قوميتي قومية أخرى. تهمني هذه الهويات التي اختارها، وأظن أن بعضها قد تصارع لدي فيما بينها، مثلاً تصارعت هوية الطبيب وهوية المترجم لعديد من السنوات وكنت محتاراً جداً في ما أختاره، وحسم الصراع لمصلحة المترجم والكاتب بالتأكيد. وما أريد أن أقوله هو أنّنا نتحدث عن أمور تتعلق برفاهية الاختيار بين الهويات، لكن في حقيقة الأمر، هي لم تكن كذلك في الواقع. في بلد تحكمه الديكتاتورية والقمع الشديد ويُسجن فيه المرء بسبب رأيه لسنوات قد تتجاوز العقد ونصف أو العقدين، قد يبدو الكلام عن الهويات ترفاً. لكن حتى في مثل هذا السياق، يمكن تحويل هذا الكلام الى كلام مستنير، مفيد كثيراً في مقاومة القمع والديكتاتوريات، كأن تدعو إلى التعددية إزاء واحدية القمع والديكتاتوريات، وأن تدعو إلى الانفتاح أمام الانغلاق، وأن تدعو إلى الحريات أمام تقييد هذه الحريات.. لا أظن أن صراع هوياتي التي اخترتها كان صراعاً عنيفاً وشديداً، فربما كنت حازماً في اختيار هوياتي وربما مارست نوعا من الإصرار الشديد بهذا الاتجاه.
عن الصراع في سوريا
كيف ترى الصراع السوري في هذه اللحظة وما هي رؤيتك للمستقبل؟
باختصار شديد، ما جرى في سوريا، على الأقل في البداية، هو ذاته ما جرى في تونس ومصر من رفض الناس أن تستمر في العيش في واقع استبدادي وفاسد. ردة الفعل القمعية الشديدة تجاه هذا الرفض، وبنية المجتمع السوري المختلفة عن بنية مصر وتونس، أدّت إلى تحولات شهدتها الانتفاضة السورية بدت مختلفة عما جرى في تونس ومصر. في سوريا خرج الناس بعد عقود طويلة من الصمت، خرجوا أيضا في ظل غياب القوى السياسية المعبِّرة عنهم والتي كان القمع قد كسر ظهرها في السجون والمعتقلات والملاحقات، فبالتالي كان ثمة نواقص كثيرة كي تنجح انتفاضة في مثل هذا الواقع. وتلقفت انتفاضة الناس قوى وبلدان وسلطات أبعد ما تكون عن الثورة والمطالب الثورية، مثل دول الخليج، والدول الأوروبية، أو ما يدعى “الضواري الإمبريالية” مثل أميركا وفرنسا وسواهم…، بمعنى آخر، تضافر القمع الشديد والتدخل الخارجي الردئ وغير الثوري، ما أدّى إلى تحويل ما ابتدأ كانتفاضة يمكن أن تكون ثورة تنطوي على تقدم، حوّلها إلى حرب أهلية شنيعة جدّا، باتت فيها القوى التي تدّعي المعارضة الآن تشبه من تعارضه، بحيث أننا رأينا مثل هذا المصير الرهيب: ملايين النازحين، آلاف القتلى ومئات آلاف القتلى وعشرات المعتقلين وأرقام رهيبة جدّاً. كأنّنا نتحدث عن مأساة العصر أو كارثة. في سوريا، الوضع شديد السوء، ويغيب البديل الحقيقي الذي كان يطمح إليه الشعب السوري أو يقتضيه واقع السوريين.
كيف أرى المستقبل؟ الوضع الحالي بالغ السوء، كارثي، سوداوي، مأساوي.. هذه الكلمات يجدر بنا استخدامها عند وصفه، لكنني لا أظنّ، حتى بالتحليل “العلمي” “النظري”، أن دماء السوريين ستذهب هدراً. هناك كثير من التجارب في التاريخ مثل ثورات 1848 في أوروبا، أُغرِقت في الدماء في أوروبا وأخفقت وهُزمت، لكن المنتصر اضطر لأن يأخذ بالحسبان مطالب الثّوار، على طريقته طبعا. سوف يصعب كثيراً في القادم من السنوات أن يكتب أحد في دستوره أنّه لا يتداول السلطة. سوف يصعب كثيراً أن تعتدي على حقوق الناس وحرياتهم الأساسية بالشكل الذي كان يُعتدى فيه على حرياتنا وحقوقنا الأساسية. لا أعلم التعرجات التاريخية التي سيمرّ فيها حصول مثل هذا الشيء، أظنّه سيحصل بفضل ما سال من دماء على هذا الطريق، وما سال من آلام للناس الذين فروا وهربوا، وبفضل حتى ما هو سلبي من أخطاء ارتكبتها القوى التي ادّعت المعارضة.. أظنّ التاريخ رغم كل التعرجات التي يمر فيها والآلام التي تطفو على سطحه في كثير من الأحيان (بالمعنى العام والواسع الذي يشمل البشر)، لن يقبل أن يسير إلى الخلف لا على المستوى المحلي ولا على المستوى الأشمل. البشر يقدمون تضحيات جديرة بأن تجد ما يليق بها من أحوال للعيش.
* كاتب ومترجم من سوريا