مقاتلات كوباني/ شادي لويس
ربما منذ اندلاع الثورة السورية لم تحظَ أيّة معركة بقدر مكثّف من الاهتمام الإعلامي الغربي والإقليمي كالقدر التي حظيت به «معركة كوباني»، لا بوصفها معركة مصيرية أو اختباراً مفصلياً لمدى قدرة استراتيجية التحالف الغربي ضد ’الدولة الإسلامية‘ وقدرة ضرباته الجوية على تغيير موازين القوى على الأرض، بل، وبشكل أوضح، لمشاركة مقاتلات ’وحدات حماية المرأة‘ التابعة لـ’حزب الاتحاد الديمقراطي‘ الكردي-السوري في القتال في مواجهة ’الدولة الإسلامية‘. بينما تمثل قوات ’حماية المرأة‘ ثلث عدد القوات الكردية المقاتلة في كوباني وتمثل ’وحدات حماية الشعب‘ (من الرجال، والتابعة للحزب ذاته) النسبة الأكبر، إلا أن التركيز الإعلامي الغربي تحديداً يكثّف صورة وجه المقاتلة الكردية والذي مع صرامته لا يُخفي جمالاً لافتاً، بوصفه تجسيداً يرسم أُطُر المعركة الجارية وخطوط تماسّها، معركة بين الحضارة والبربرية، بين قيم الغرب وقيم الشرق.
التركيز الإعلامي الغربي تحديداً يكثّف صورة وجه المقاتلة الكردية والذي مع صرامته لا يُخفي جمالاً لافتاً، بوصفه تجسيداً يرسم أُطُر المعركة الجارية وخطوط تماسّها، معركة بين الحضارة والبربرية، بين قيم الغرب وقيم الشرق.
البنية الجندرية للعلاقات الاستعمارية
تزخر الأدبيات البوست-كولونيالية (أدبيات ما بعد الاستعمار) بدراسات معمّقة وتفصيلية عن البنية الجندرية للعلاقات الاستعمارية، مفكِّكة صورة الشرقي والمستعمَر في المخيلة الاستعمارية بوصفه أنثى، بما يحملة من صفات الأنوثة: اللاعقلانية، والعاطفية، والغموض. وبينما يجسّد الغرب بوصفه ذكراً تدعمه صفات العقلانية والمنطق والقدرة على السيطرة على الذات والآخر، تلعب صورة المرأة الشرقية في الخيال الاستشراقي دوراً لا يقلّ أهمية في بناء العلاقة الاستعمارية على أُسُس جندرية. فبالإضافة للصورة الاستشراقية عن المرأة الشرقية، وفي بعض الأحيان الرجل الشرقي أيضاً، كموضوع للاشتهاء الغربي وبالتالي للحق في الامتلاك والسيطرة، يتم تجسيد المرأة الشرقية كموضوع للحماية من تقاليد المجتمعات الشرقية المُجحِفة بحقّها، ومن وذكورها بالتالي. تلعب تلك البنية الجندرية للعلاقة الاستعمارية دوراً محورياً في تشكيل البُنية الخطابية لتبرير الهيمنة والاستغلال الغربي تجاة المجتمعات المستعمَرة برجالها ونسائها على حد سواء، وعلى أراضيها «البِكر» التي لم تفقد عذريتها سواءً ببسْط الغرب سيطرته عليها ووطء مواردها وحماية نسائها من مجتمعاتهنّ البربرية. تذهب الأسس الجندرية للعلاقة الاستعمارية لأبعد من هذا، فبصورة أكثر مباشرةً جُسّدت مشاهد تعذيب سجناء «أبو غريب» من الرجال العرب وإذلالهم باشتراك جنديات أميركيات، وثمة صور مشابهة لإذلال فلسطينيين على أيدي مجنّدات إسرائيليات، ليس فقط رغبةً في إذلال ذكورة المستعمَر وانتهاكها، بل والأهم تأكيداً على فحولة الغرب والذي حتى نساؤه قادرات على انتهاك فحولة العربي وتحطيمها.
صورة المرأة وثورات الربيع العربي
اضطلعت المرأة في المنطقة بأدوار حاسمة ليست بحاجة للتدليل عليها، منذ انطلاق الشرارات الأولي لثورات الربيع العربي إلى الآن. وكان منح الناشطة اليمنيّة توكّل كرمان جائزة نوبل للسلام لدورها في الثورة اليمنية تتويجاً لنضالات النساء العربيات في تلك المرحلة. لكن صورة المرأة في المنطقة في الثلاث سنوات الماضية في المخيّلة الغربية خضعت لعدّة تحوّلات فرضتها مآلات الثورات العربية ذاتها وموقف الغرب منها. فبينما تصدّرت صور المتظاهرات في الميادين العربية شاشات الأخبار والصحف العالمية بحفاوة في البداية، قاد تحوّل الحراك الاحتجاجي في كل من ليبيا واليمن وسوريا لصراع مسلّح، بالإضافة لصعود الأحزاب الإسلامية في كلّ من مصر وتونس، لتحوّل درامي في صورة المرأة، من كونها شريكاً وطليعة للحراك الثوري لصورة الضحية الاستشراقية التقليدية. دفعت أخبار العنف الجنسي البشع والممنهج في ميادين القاهرة واسترقاق النساء اليزيديات في العراق على يد ’الدولة الإسلامية‘ لاستعادة صورة المرأة العربية النمطية بوصفها موضوعاً للحماية، وأتت المناشدات الإقليمية لدول التحالف الغربي لإنقاذ اليزيديين العالقين في الجبال وخاصة النساء منهم لتأكيد تلك الصورة. ورغم أن النساء في المنطقة ما زِلنَ يضطلعن بدور جوهري في النضال السياسي على طول المنطقة وعرضها، وتسقط إحداهنّ صريعة الاغتيال في ليبيا منذ أسابيع، وترقد الألوف منهنّ في سجون النظام السوري والمصري والبحريني، وتناضل مئات الألوف منهنّ خارجها…، إلا أن صورة الضحية هي الصورة الوحيدة المتاحة عن نساء المنطقة مؤخراً، وذلك حتى ظهور مقاتلات كوباني في المشهد.
مقاتلات كوباني كاستثناء إثني وأيديولوجي
موقع دوت مصر، أحد أشهر منابر «التنوير المتأخر» المصري والذي يتميّز بنكهة استشراقية لا يصعب تبيّنها، نشر موضوعاً بعنوان «هنا كوباني… كرديات على خط النار»، ناقلاً عن قناة CBS الأميركية فيلماً وثائقياً عن مقاتلات كوباني، مقتبساً عن الفيلم النص التالي: «أن تقبض امرأة على زناد سلاح كلاشنكوف، أو تعتلي سطح مدفعية، أمر غير معتاد في الدول العربية، ولكنه ليس جديداً على المرأة الكردية». يؤكد الخطاب الغربي والخطاب الإقليمي المتماهي معه أن مقاتلات كوباني هنّ الاستثناء في المنطقة، وهو ادّعاء يعزّزه وصف دائم للمقاتلات بـ«الكرديات»، دون أي إشارة لسوريّتهن. أما موقع «خبر24»، وكالة الأنباء الكردية المستقلة، فنشر مقالاً للصحفي السوري نزار نيّوف، يقول فيه: «وربما الأمر نفسه كان وراء الكراهية والحقد الذي يُكنّه مجرمو الثورة الوهابية في سوريا، على خلاف واختلاف مشاربهم السياسية، لحزب ’الاتحاد الديمقراطي‘، ومعه شقيقه ’حزب العمال الكردستاني‘، اللذين منحا المرأة من الثقة وأوكلا لها من أدوار ومهمات ما لم يستطع فعله أو يتجرأ عليه أي حزب آخر في تاريخ الشرق، باستثناء ’حزب العمل الشيوعي‘ في سوريا خلال الثمانينيات، رغم الفارق النسبي بين التجربتين». تؤكد كلمات نيوف الاستثناء نفسه، فوضع المرأة الكردية استثناء في الشرق كله باستثناء ’حزب العمل الشيوعي‘ السوري، ثم يعود ليؤكد اختلاف التجربتين. يبدو خطاب الاستثناء ذلك تأكيداً على القاعدة لا نفياً لها، وأداة للتمييز بين نساء المنطقة، تمييز إثني تارةً على خط الكردي-العربي، وأيديولوجي تارة على خطوط الإسلامي-اليساري. يفصل ذلك التقسيم الخطابي مقاتلات كوباني عن المنطقة ويضعهم في مواجهة «الثورة الوهابية» و’الدولة الإسلامية‘ والتي تمثل أقصى ما يمكن أن تمثلة البربرية في المنطقة، بل وربما ما تمثله المنطقة للمخيلة الاستشراقية. هكذا لا تبدو المعركة المتشابكة في سوريا بين قوى التطرف والاعتدال من جانب وبين قوى الديمقراطية والديكتاتورية من جانب، بل بين المنطقة وقيمها كأنها ممثلة في ’الدولة الإسلامية‘ ومقاتلات كوباني اللواتي يتم تصوريهنّ وكأنهنّ لا ينتمين لتلك المنطقة ولا قيمها. إذاً إلى أين تنتمي مقاتلات كوباني؟ تختزل المخيلة الاستشراقية العالم في قسمة الشرقي-الغربي، وبما أن مقاتلات كوباني لا ينتمين للشرق فحتماً ينتمين للغرب، ولقيمه بشكل أكثر تحديداً. إذاً فهي معركة الشرق والغرب مرة أخرى.
هدفنا تفكيك الخطاب الاستشراقي وتبنّي خطاب بديل يضع نضال بطلات كوباني في سياقهنّ التاريخي، لا بوصفهنّ استثناءً بل جزءاً طبيعياً وامتداداً لنضالات شعوب المنطقة ونسائها.
مقاتلات كوباني كموضوع للحماية وتحطيم ذكورة الشرق
لكن السؤال الجدير بالطرح هنا هو، كيف تتمثل المخيلة الاستشراقية القيم الغربية، الذكورية بالتعريف، في مقاتلات كوباني بالرغم من كونهن نساء؟ يقود تقرير لـBBC عن المقاتلات في كوباني لإجابة عن السؤال، فالتقرير يستشهد بما قالته في لقاء سابق المقاتلة جيلان أوزالب، التي أطلقت النار على رأسها حتى لا تقع في يد ’الدولة الإسلامية‘: «يرتعدون خوفاً عندما يشاهدون امراة تحمل بيدها بندقية. يحاولون أن يقدّموا أنفسهم للعالم باعتبارهم رجالاً أشدّاء، لكنهم عندما يلمحوننا يولّون الأدبار.هم يحتقرون النساء ولا قيمة لهنّ عندهم، لكن المقاتلة الواحدة منا تعادل المئة منهم». هكذا يمكن للمخيلة الاستشراقية استيعاب صورة المرأة المحمّلة بقيم الغرب في نَسَق الذكورة الغربية، في قدرتها على تحطيم رجولة الشرق ممثلاً في مقاتلي ’الدولة الإسلامية‘، هنا مرة أخرى تستعلن فحولة الغربي على حطام ذكورة مدّعاة للشرق، سرعان ما يتبيّن زيفها في كل مواجهة مع الغرب وحاملي قِيَمه من النساء قبل الرجال. لكن هل للمخيّلة الاستشراقية أن تقبل ندّيّة للشرقي الحامل لقيم الغرب؟ بالطبع لا، تبقى مقاتلات كوباني، بالرغم من استيعابهم في منظومة القيم الغربية بحسب المخيلة الاستشراقية، موضوعاً للحماية، تعزّزه المطالبات الدولية والإقليمية للتحالف الغربي لتشديد الضربات الجوية ضد ’الدولة الإسلامية‘، في تأكيد دائم على مصائر المقاتلات إن وقعوا في الأسر، من اغتصاب واسترقاق وقطع رؤوس. تظل مقاتلات كوباني كموضوع للحماية لدى الغربي، وأداة للانتصار لفحولة الغرب على الشرق، عبر فرض اغتراب وتغريب مقصود عليهنّ، بفصلهنّ عن منطقتهنّ ونضالاتها.
بُنية خطابية بديلة
على عكس ما يدّعيه الخطاب المسيطر عن معركة كوباني، شاركت نساء المنطقة بشكل واسع في التاريخ الحديث في النضال المسلح ضد الاستعمار والأنظمة المحلية القمعية، بل وفي قيادة هذا النضال. فعلى سبيل المثال لا الحصر، في الجزائر قادت لالا فاطمة نسومر معارك عسكرية واسعة النطاق ضد قوات الاستعمار الفرنسي، حتى أطلق عليها الجزائريون لقب «لبؤة الجزائر»، والفرنسيون «جان دارك جرجرة». وتزخر مرويّات حرب التحرير الجزائرية بمئات من أسماء الشهيدات اللواتي قضينَ في خضمّها، وغيرهنّ من ألوف الجزائريات اللواتي تابعن نضالهنّ المسلّح حتى الاستقلال. وفي فلسطين حملت الفدائيات الفلسطينيات السلاح واستشهدت كثيرات منهنّ، ليس في فلسطين وحدها بل وفي الأردن ولبنان، وواحدة من أبرزهن المرحومة زكية شموط والتي بسبب عملياتها الفدائية التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود نالت 11 حكماً بالمؤبّد من المحاكم الإسرائيلية و15 عام سجن. وفي سلطنة عمان حملت نساء ’جبهة تحرير ظفار‘ اليسارية السلاح ضد الاستعمار البريطاني ومن بعده النظام الرجعي العماني لعِقدين كاملين، وواحدة من أشهرهن هي المناضلة البحرينية ليلى عبدالله فخرو، بطلة رواية وردة للروائي المصري صنع الله أبراهيم.
لا تهدف تلك المقدمات لبخس نساء كوباني نضالهنّ البطولي مع الرجال الكرد ضد قوات ’الدولة الإسلامية‘، ولا لنفي عدالة قضيتهم ولا جوهرية معركتهم، ولا للنأي عن دعمها ومؤازتها بكل ما نستطيع، بل بالأحرى هدفنا تفكيك خطاب استشراقي بمعناه الواسع في الغرب وفي منطقتنا، وهو خطاب جوهره دعاوى التقسيم الإثني والأيديولوجي وفرض اغتراب متعمّد على أكراد سوريا عن منطقتهم، وتشويه للتاريخ ينزع عن نساء المنطقة الحق في الاعتراف بنضالهن وبطولاتهن التي لم تتوقف يوماً، في معتركات القتال ودونها. من هنا تأتي الحاجة لتبنّي خطاب بديل يضع نضال بطلات كوباني في سياقهنّ التاريخي، ويهدف لاستيعابهنّ لا بوصفهنّ استثناءً بل جزءاً طبيعياً وامتداداً لنضالات شعوب المنطقة ونسائها. ينبغي لذلك الخطاب ألا يغرق في استجداء تاريخ كفاح المرأة المسلح في منطقتنا للتعمية على الوضع المأساوي لنسائها بعد ثلاث سنوات من الربيع العربي، وألا يؤخذ بنزعات الوحدة فينفي تمايزاً وتنوعاً إثنياً وعقائدياً ودينياً، وطموحات وحقوق تتبع الإقرار بهذا التنوع. على العكس، تبدو الحاجة اليوم لخطاب يجد في معركة كوباني دافعاً للنظر لقضايا تحرر المرأة بوصفها محوراً مركزياً لنضال طويل الأمد في المنطقة، وإعادة النظر في أسئلة التنوع الإثني والديني وكيفية استيعابه وإثرائه. تبقى لنا أيضاً الحاجة لتفكيك الاختزال العمدي لمعركة كوباني بوصفها معركة بين مقاتلاتها الكرديات ورجال الدواعش البرابرة، وإعادة صياغتها في سياقها الأكثر تعقيداً وتشعّباً.
موقع الجمهورية