صفحات سوريةميشيل كيلو

مقاتل النزعة الفصائلية/ ميشيل كيلو

 

 

اتخد دفاع السوريين عن أنفسهم طابعاً محلياً، حاراتياً، ضد عنف أعمى استهدفتهم به أجهزة قمع وجيش السلطة، بكل ما يمتلكانه من سلاح متطور وقيادة مركزية وتدريب منظم وحقد دفين على الشعب. بما أن طابع المظاهرات الشعبية كان محلياً، وارتبط غالباً بالمساجد المنتشرة في أحياء المدن السورية، فإن هذه المظاهرات التي كانت تنطلق منها كمراكز يمكن لمواطني الحي التجمع فيها قبل الخروج إلى الشوارع القريبة، حملت طابع الحارات التي هاجمتها قوات النظام، ودافع سكانها عن أنفسهم داخل حدودها. لذلك، لم تمتد أنشطتهم في أثناء مرحلة المظاهرات الأولى، إلى المدينة بكاملها، لاعتبارات تتصل بحاجة المتظاهرين إلى الاحتماء بمنازلهم ومنازل أهل الحارة، عند مطاردتهم من قوات السلطة. بسبب هذه المحلية، كان من المنطقي والمفهوم أن ترتبط المقاومة بالأحياء وسكانها.

في مرحلة تالية، وبسبب حاجة السكان العزل إلى تفعيل دفاعهم عن أنفسهم مع تعاظم همجية السلطة، اكتسبت مقاومتهم طابعاً فصائلياً، بدت محليته في الأسماء والصفات التي أطلقها على فصائلهم قادة برزوا من بين سكان وشبان الحارة أو الحي. وقد تعايشت فصائل الحارات بعضها إلى جانب بعض، من دون أن تقيم علاقات تعاون وتنسيق عسكري مركزية أو توحيدية، واستمر وضعها هذا فترة غير قصيرة، في ظل الفوضى التي أنتجها غياب الوعي السياسي والرؤية البرنامجية الموحدة، وشروع النظام في شن هجمات منسقة وواسعة على المدن، بعد أن قسمها إلى مربعات، واعتمد الحارات أهدافا له. وفي حين صعّد الجيش الأسدي أكثر فأكثر هجماته، وكثفها وحولها إلى حرب حقيقية ضد عموم الشعب، ظلت الفصائلية إطاراً تنظيمياً للمقاومة، وأدى التمسك بها إلى تعاظم فارق القوة بين السلطة وتنظيماتها التي خالط نشاطها المقاوم حراك أحيائها السلمي والشعبي، ما أسهم في نجاح النظام في إنزال خسائر كبيرة بالمقاومين والسكان، وسهل تنفيذ خططه لطرد وتهجير المواطنين إلى خارج مدنهم وقراهم وبلداتهم. بمرور الوقت وتصعيد هجمات النظام، تعاظم ثمن الفصائلية وعزّز استمرارها، شكلاً عفوياً وشخصي الطابع والسمات، من التنظيم رجحان موازين القوى لمصلحة السلطة وجيشها.

“تخوض فصائل حلب هذه الأيام معركة وجود، لن تربحها بفرقتها وخلافاتها وسلبيتها بعضها حيال بعض. وستنتصر إن هي قاتلت على قلب رجل واحد، وفي ظل قيادة تطاع”

باستمرار ضغط السلطة العسكري، تحولت النزعة الفصائلية من المكانية، حيث اختلطت فيها مواقف وردود أفعال سياسية وأيديولوجية متنوعة، عفوية غالباً، إلى فصائلية، اكتسبت تدريجياً طابعاً عقائدياً، غلبت عليه، بمرور الوقت، نزعة مذهبية، واكب انتشارها ظهور تنظيمات أسسها سجناء سابقون أصوليو الخلفيات، وشخصيات إسلامية ذات تأثير مجتمعي، بدت رد فعل شعبي الغطاء على عنف النظام، وحلت المذهبية فيها محل البرنامج السياسي والثوري الذي افتقر الحراك إليه، فعوض الشعور الديني بطاقته التعبوية عنه، أو قدم بديلاً عنه. على الرغم من الانتماء الإسلامي، كانتماء سياسي وهوية نضالية توحيدية، ظلت الفصائلية قائمة، مع أن تنظيماتها توسعت بسرعة، وغدت منظمات قتالية فاعلة، ضمت أحياناً آلاف الرجال، وانتشرت خارج أماكن نشأتها الأولى، واستقطبت مقاومين على الصعيد الوطني، مع اتساع حركة الانشقاق عن الجيش الأسدي، والتحاق المنشقين بمناطقهم أو بالتنظيمات المقاتلة التي استوعبت كثيرين منهم، بعد أن فشل المنشقون في بناء تنظيم عسكري وطني جامع خاص بهؤلاء، وحدثت اغتيالات طاولت بعض رموز هؤلاء، وصراعات نشبت بينهم، واعتماد بلدان عربية معينة سياسات أضعفتهم، فلم يبق لكتلتهم الكبرى غير الانضمام إلى ما هو موجود من تنظيمات، تدفعم إلى ذلك رغبتهم في القتال ضد الأسدية وحماية شعبهم من عنفها، ونصرة ثورته.

… شهدت الفصائلية بعض التبدل مع اشتداد الحاجة إلى وحدات عسكرية كبيرة، تنضوي في تشكيلات قادرة على استخدام أسلحة حديثة تخوض بها معارك على مستوى منطقة أو محافظة. ومع أن الفصائل حافظت على أسمائها، وفي حالات كثيرة على استقلاليتها وتنظيماتها، فإنها مالت إلى التنسيق والتعاون، واحتوت الفصائل الصغيرة التي تعاظم عجزها بتصاعد المعارك ونضوب مواردها وتراجع دورها الميداني، وما طرحه التطور العسكري عليها من مهام تحدّت قدراتها. هكذا تضخمت بعض الفصائل وازداد المنتسبون إليها، واكتسبت طابعاً وطنياً متزايد الوضوح، بعد رحيل عدد كبير من “المهاجرين” عنه، والتحاقهم بداعش.

أحدث هذا التطور تقدماً في مواقف معظم التشكيلات وعلاقاتها مع بعضها، وقد وحد معظمها جهوده في إطار جيوش فتح ونصر، فلم يبق إلا أن تعلن قريباً انخراطها في جيش وطني، سيكون الرد العسكري الحقيقي الوحيد على العدوان الروسي وجرائم الأسد. بينما بقيت مناطق قليلة أسيرة ظاهرة الفصائلية، وخصوصاً منها مدينة حلب وضواحيها التي تعثر فيها ما حققه غيرها، فلا عجب أن كانت أوضاعها صعبة وسلبية الارتدادات على العمل الوطني والثورة، وعلى المعارك في المدينة ومن حولها.

واليوم، وحلب مهددة من جيش السلطة وقوات البياده وداعش، تمسي الحاجة إلى تخطي النزعة الفصائلية والواقع الانقسامي الذي أنجبته فأنجب كوارث، ويغدو من المحتم والملح البدء بتوحيد المقاومين بقوة المشتركات الوطنية الجامعة التي يتقاسمونها، والمخاطر التي يتعرّضون لها، فإن حافظوا على أسماء تشكيلاتهم وهيكلها التنظيمي، كان عليهم قبول قيادة يلتزمون بإطاعتها وينفذون خططها، كأنهم جسد واحد، بدل القتال فرادى، والعجز عن مواجهة المخاطر باستباق وقوعها، والغرق في السلبية، بينما الحرب مبادرة وتخطيط.

تخوض فصائل حلب هذه الأيام معركة وجود، لن تربحها بفرقتها وخلافاتها وسلبيتها بعضها حيال بعض. وستنتصر إن هي قاتلت على قلب رجل واحد، وفي ظل قيادة تطاع، وتذكّرت أن معركة حلب حاسمة الأهمية، بالنسبة لما نعيشه هذه الأيام في وطننا.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى