مقاربات هامة للثورة السورية
وائل مرزا
ثمة جملة من المواضيع المهمة التي تتعلق بالثورة السورية وملابساتها يكثر حولها الجدل والحوار، وتُثار حولها الأسئلة، ولا بد من تحليلها والحديث فيها بدرجة من الوضوح والدقة، لاسيما أن هناك عملية خلط أوراق كبيرة يحاول النظام السوري ابتداءً ممارستها، فضلاً عن مساهمة أطراف أخرى لا تريد خيراً للثورة السورية في تأكيدها بشكلٍ معلنٍ أو غير معلن.
أولُ هذه المسائل يتعلق بالموقف التركي من المسألة السورية، وفي هذا الإطار لا بدّ من الاعتراف بواقعية أن لتركيا مصالح استراتيجية تريد أن تحققها. لكنّ هذا لا يعني إنكارنا لوجود منطلقات مبدئية تُعتبر من أسس السياسة الخارجية التركية عبّرت عن نفسها بوضوح خلال السنوات الماضية، وشكّلت مدخل الشعبية الكبيرة لحكومة حزب العدالة والتنمية في الأوساط العربية تحديداً. ورغم أي ملاحظات قد تكون لدى البعض على جوانب في تلك السياسة، وأحياناً من منطلق الجهل بالرؤية الشاملة التي تنطلق منها السياسة المذكورة، فإن كل من يعرف شيئاً عن الواقعية السياسية، وضرورة أخذها بعين الاعتبار في العمل السياسي، يدرك أن (المبدئية) التي نتكلم عنها قد تكون أقصى ما يمكن الحركة به سياسياً وسط معادلات النظام العالمي المعقّدة.
أكثر من هذا، يدرك الأتراك أن تحقيق المصالح الاستراتيجية التي يبحثون عنها عندما يتعلق الأمر بسوريا ترتبط في نهاية المطاف بمفهوم الدولة وليس بمفهوم النظام. وحين يكون الحديث عن دولة فإن هذا يقتضي حكماً أفضليةَ التعامل مع دولةٍ حديثة تمتلك مؤسسات تمثيلية حقيقية للشعب، ويسود فيها حكم القانون، وتمتلك إرادةً وقدرةً سياسية على بناء وتطوير عمليات تنمية داخلية وتعاون خارجي تكون أرضيتها ومشروعيتها نابعةً من تلك المؤسسات وذلك القانون. من هنا، يمكن القول بأن الموقف التركي سيكون ويجب أن يكون إلى جانب الشعب السوري وثورته التي تهدف حصراً إلى بناء دولة المؤسسات المذكورة. ونأمل أن حسابات السياسة الخارجية التركية ستأخذ الحقائق المذكورة أعلاه بعين الاعتبار.
ننتقل بعد هذا إلى ورقة الطائفية التي يحاول النظام اللعب بها بشكلٍ مستمر داخلياً وخارجياً من باب كونها المدخل لحديثه عن الفوضى والحرب الأهلية، وما إلى ذلك من دعاوى. تحدثنا في المقال السابق في هذه الصحيفة تحديداً وبشكل حصري عن العناصر التي تنقض تلك الدعاوى. وربما يكون مما يدلّ على فشله في تأجيج المسألة عمليا في الداخل رغم كل محاولاته الإعلامية والسياسية والعملياتية وصولُه إلى درجة من اليأس دفعته لمحاولة إظهار (تركيبة مفبركة) لها في لبنان منذ أيام في الأحداث التي وقعت في طرابلس. فنحن نرى أن المسألة حتى في لبنان تتعلق بعملاء يحاولون تأجيج الموضوع أكثر من أي شيء آخر. فهناك مثلاً تحركات جماهيرية لتأييد الشعب السوري وثورته في أكثر من مدينة عربية.
ونلاحظ ظهور احتكاكات أيضاً في حالة وجود عملاء للنظام في تلك المدن، الأمر الذي يعني ارتباط مثل هذه الأحداث بوجود العملاء أكثر من كونه احتكاكاً طائفياً.
ويجب الحديث في هذا المقام أيضاً عن مسألة «شعبية النظام»، وما يتعلق بها من مسائل منها على سبيل المثال قلة أعداد المتظاهرين في مدينة كحلب، بعد أن تجاوزت دمشق عملياً هذا الانطباع في الأسابيع الأخيرة وبشكلٍ متزايد. لا نريد الدخول في تحليلٍ معقّد في هذا المقام، ونكتفي بطرح تحد ذكره الكثيرون من رموز المعارضة في الداخل والخارج. إذ يكفي مثلاً أن يسمح النظام علنياً ومن قمة الهرم بخروج المظاهرات ويضمن علنياً أيضاً عدم إطلاق الرصاص واستخدام العنف ضد المتظاهرين. نعتقد بدرجةٍ من اليقين أن حصول مثل هذا الأمر سيؤدي إلى إظهار حقيقة ما يُسمى بشعبية النظام من جهة، وحقيقة السبب الكامن وراء قلة أعداد المتظاهرين في بعض المناطق من جهةٍ أخرى.
وأخيرا، فإن ثمة مفارقات تتعلق بالموقف الدولي هناك أيضاً درجةٌ كبيرة من خلط الأوراق تتعلق بها ويجب توضيحها والحديث فيها. فمن جهة، تتمحور عملية الدعاية السوداء للنظام السوري بشكل أساس على مقولة إن الغرب، خاصة الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية مثل فرنسا وبريطانيا، هي التي تقف وراء الثورة ابتداءً. لكن هذا الادعاء يقفز فوق حقيقتين من الضرورة بمكان توضيحهما. فثمة معطيات كثيرة تؤكد أن النظام نفسه يغازل كثيراً من أطراف النظام الدولي، وفي مقدمتها الدول التي يتهمها بأنها تقف وراء الثورة. يكفي هنا التذكير بأمثلة علنية مثل مقابلة رامي مخلوف مع صحيفة نيويورك تايمز، حين خوّف من أن البديل عن النظام هم «السلفيون»، وهي مقولةٌ يستخدمها النظام بكثافة كورقة، إضافة إلى ورقة «الفوضى». ومن المعبّر في هذا المجال أيضاً «التهذيب» الشديد في الردود التي يعلنها النظام على بعض المواقف الدولية. وهو تهذيبٌ تمنّى المفكر العربي عزمي بشارة أكثر من مرة أن يمارسه النظام مع منتقديه من المثقفين والمفكرين العرب.. أهم من هذا كله، الموقف السياسي العملي لهذه الدول من النظام، وهو موقفٌ لا يرقى بشكلٍ مؤكد إلى الانسجام مع مبادئه المعلنة المتعلقة بحقوق الشعوب في صياغة مصيرها ودعم الديمقراطية، وما يشابهها من الشعارات التي يرفعها بشكلٍ يصمّ الآذان، في حين تُظهر ممارساته العملية درجة عالية من التذبذب والتردد حين يتعلق الأمر بالثورة السورية. يكفي هنا مثلاً أن نتذكر كيف أعلنت الإدارة الأميركية فقدان الرئيس المصري السابق للمشروعية بعد أقل من ثلاثة أسابيع على بدء الثورة المصرية، وبدعوى خرقه لحقوق الإنسان وقمعه للشعب المصري، مقابل ترددها الملاحظ في اتخاذ نفس الخطوة بعد مضي أكثر من ثلاثة أشهر على اشتعال الثورة السورية، ورغم أن حجم الوحشية والعنف الذي قوبلت به هذه الثورة يفوق بأضعاف مضاعفة ما حصل في مصر من قبل نظام مبارك.
ستنتصر الثورة السورية في آخر الأمر بإذن الله، سواء وقف معها النظام الدولي أو لم يقف. وهو الخاسر إن لم يتخذ الموقف الصحيح، مع التأكيد على أن حديثنا ينحصر في مواقفه السياسية والدبلوماسية وعلى رفضنا المطلق لمسألة التدخل العسكري. فمن الواضح من جميع المؤشرات أن خيار الشعب السوري يتمثل في استمرار ثورته وتطويرها، حتى لو سار فترةً من الزمن على طريق الآلام كما سار المسيح عليه السلام، وهو يتحمّل الأذى بسلميةٍ مطلقة كما فعل المصطفى عليه الصلاة والسلام.
العرب القطرية