صفحات الناس

مقاربة ثقافية للرياضة: كرة القدم ضد العدو!/ حسام أبو حامد

 

 

ضحّى سقراط دي أوليفيرا بمسيرته الاحترافية في الدوري الإيطالي، ليكون تقريبا الصوت المعارض الوحيد بين زملائه في المنتخب البرازيلي. اختار طبيب الأطفال هذا، البقاء في ميدان كرة القدم “فقط من أجل الوزن السياسي لمحاربة المجتمع القمعي الذي يقوده العسكر” كما قال يوما. واستطاع “لاعب اليسار”، كما ذهب فيلم للمخرج الإيطالي ميمو كالوبريستي، موثقا سيرة سقراط، الجمع بين خفة الرياضة، وهدوء الطب، وعنفوان السياسة.

مع أن اليسار عموما كان من أكثر المنتقدين للرياضة، بوصفها أداة بيد اليمين، إلا أن ذلك المنحى بدأ بالانحسار منذ عام 1952 بعد أن احتل الاتحاد السوفييتي في الأولمبياد المرتبة الثانية، وتطوير الحزب الشيوعي السوفييتي لبروباغندا تصور أن ما حدث انتصار للنظام الاشتراكي والثقافة السوفييتية، لتحتدم المنافسة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي على حصد الميداليات الأولمبية على اختلاف معادنها.

الرياضة والدين والسياسة

تتقاطع الرياضة مع الدين والسياسة والأيديولوجيا والثقافة وغيرها. وإن كان للرياضة وزن سياسي، فإن السياسة ألقت ثقلها باستمرار على الرياضة. فمبكرا، أشارت أسطورة الأولمبياد الإغريقية عن رابط ما بين الفلسفة الرياضية الأولمبية وبين السياسة العامة، إذا تطلبت إقامة الأولمبياد إبان حكم بيلوسين لشبه جزيرة بيلوبونيز، شرطين: عقد السلام مع إسبرطة، وتقديم الذبائح للإله هركليس، قبل أن تلغى تلك الألعاب بقرار الإمبراطور الروماني ثيودوس، في عام 393 م، باعتبارها مهرجانات وثنية، لا تليق بالإمبراطورية الرومانية.

غالبا، لم يفلح الوزن السياسي للرياضة أمام قدرة البراغماتية السياسية على الاستحواذ على قيم الرياضة، وحين فازت البرازيل بكأس العالم لكرة القدم عام 1970، أسهم ذلك في تدعيم أركان الحكم العسكري لسنوات أخرى، ولم يكن أمام سقراط سوى مغادرة البرازيل احتجاجا.

“الجوهرة السوداء” بيليه، رأى في كرة القدم لعبة رائعة “تؤدي إلى إطلاق الحروب وإيقافها”. خبر بيليه ذلك بنفسه، حيث توقفت الحرب الأهلية النيجيرية 1967م (نتيجة المحاولة الانفصالية لإقليم بيافرا) لمدة يوم واحد، لإتاحة الفرصة أمامه للقدوم إلى نيجيريا مشاركا في إحدى المباريات.

أصبحت كرة القدم اللعبة الأكثر شعبية حول العالم، وباتت تحتل المقدمة في اهتمامات الشعوب. فإذا كنت إيطالياً، وتوفر لديك المال، فستشتري الطعام أولا، ثم تستمتع بمباراة كرة قدم، ثم تبحث فيما تبقى لديك من مال عن سكن. وإن كنت برازيليا، فستقتنع أنه في أي قرية صغيرة يوجد كنيسة، وملعب لكرة القدم، وإن تنازلت عن اعتقادك بوجود الكنيسة، ستحتفظ بإيمانك الجازم بوجود الملعب.

ضد العدو

وبحسب وصف سايمون كوبر صاحب كتاب “كرة القدم ضد العدو”: “صارت كرة القدم لغة كونية، تدور مصائر ملايين البشر في العالم حولها” هي “مشهد بانورامي رائع للثقافة التي تحيط باللعبة واستبصار ورؤية لكيفية تحول 22 لاعبا وكرة إلى سفراء للأيديولوجيا”. استغل موسيليني استضافة إيطاليا كأس العالم 1934 للدعاية للفاشية، وكذلك فعل هتلر في أولمبياد برلين 1938، أما وزير دعايته السياسية، يوزف غوبلز، فرأى أن “الفوز بمباراة دولية أهم من السيطرة على مدينة”.

أصبحت الرياضة عموما، وكرة القدم خصوصا، لعبة من ألعاب السياسة، بل وسيلة عقابية، فألمانيا المهزومة في الحرب العالمية الثانية منعت من المشاركة في المنافسات الرياضية الدولية. وأداة للضغط السياسي، فهددت أميركا بعرقلة إقامة أولمبياد 2008 في الصين ما لم تفرج الصين عن طائرة تجسس أميركية احتجزتها بعد أن هبطت على أراضيها، وباتت المناسبات الرياضية منبرا لترويج القضايا السياسية، فاستغل فلسطينيون أولمبياد ميونخ، في مثل هذا الشهر من عام 1972، للفت أنظار العالم إلى قضيتهم، باحتجاز أفراد من البعثة الرياضية الإسرائيلية رهائنا، فيما عرف بـ “عملية ميونخ”، التي ما زالت إلى الآن تثير جدلا سياسيا وأخلاقيا. باتت كرة القدم قادرة على قلب القيم، لتتحول فضيحة غش، إلى أحد أجمل الأهداف في كأس العالم، بيد أيقونة كرة القدم العالمية دييغو مارادونا في مرمى إنكلترا في مونديال 1986.

والرياضة تفرقنا، فوقعت مواجهات عسكرية بين هندوراس والسلفادور بعد سلسلة من المباريات عام 1969 ضمن التصفيات المؤهلة لمونديال 1970 خلفت نحو ألفي قتيل. وبينما قاطعت الولايات المتحدة الأميركية ودول غربية أولمبياد موسكو 1980 بسبب الاجتياح السوفييتي لأفغانستان، ردت موسكو بمقاطعة أولمبياد لوس أنجلز 1984.

والرياضة وسيلة للتنفيس عن أحقاد قومية، فنظر الأرجنتينيون إلى مباراة منتخبهم مع إنكلترا في المكسيك عام 1986، على أنها معركة للانتقام من هزيمة حرب جزر فوكلند قبل ذلك بأربع سنوات. وصرح علي خامنئي المرشد الأعلى في الجمهورية الإيرانية عقب فوز إيران على الولايات المتحدة في فرنسا 1998، أن أيران أذاقت العدو طعم الهزيمة مجددا. مع ذلك كانت الرياضة أحيانا وسيلة ديبلوماسية، فتوقفت الحرب الأهلية في راوندا شهرا لانشغال الأهالي بمباريات كأس العالم، وأعادت الرياضة الدفء إلى العلاقات الدولية، فعبر دبلوماسية كرة الطاولة حدث تقارب بين الصين والولايات المتحدة، وأسهمت سلسلة مباريات في المصارعة وكرة القدم، في تخفيف حدة التوتر بين إيران والولايات المتحدة.

كرة القدم وأبناء الزعماء

عربيا، ورغم إنجازاتهم الكروية المتواضعة، في بلدان يغلب على الرياضة فيها التمويل الحكومي، حدث ولا حرج. ورغم أن الشعوب العربية بدافع عاطفتهم القومية يكونون على قلب رجل واحد في المنافسات الدولية، مشجعين لهذا المنتخب العربي أو ذاك، فإن المنافسات المحلية، أو المؤهلة لمنافسات دولية، تعكس شوفينية وطنية واضحة. انسحابات، مقاطعات، تعطل بطولات، أو نقلها من هنا إلى هناك بسبب الحساسيات والخلافات البينية، الوفود الرياضية الرسمية تتعامل مع بعضها بعضاً انطلاقا من وجهة نظر قياداتها السياسية إزاء هذا البلد أو ذاك.

ومن غرائب كرة القدم العربية، أن الساعدي القذافي نجل الزعيم الليبي الراحل، أحب كرة القدم، فأنشأ نواد وملاعب، واستحضر لنفسه مدربا هولنديا، واستغلها للترويج له ولوالده، والتنفيس عن الليبيين، الذين ضاقوا ذرعا بنظام حكمه، ويتندر الليبيون بالحديث عن فرار مدافعي الفريق الخصم من أمام الساعدي خشية من عواقب تورطهم في إعاقته عن تسجيل الأهداف. مع ذلك، وجد المعارضون بتشجيعهم للفريق الخصم متنفسا ما للتعبير عن كرههم للساعدي ونظام والده معمر.

اعتبر الفرنسيون فوزهم بكأس العالم دليلا على نجاح الاندماج الاجتماعي، فسموا فريقهم لعام 1998، فريق الباءات الثلاث (black-Burn-Blond)، فهل تحقق الاندماج الفعلي بين هذ المكونات؟ وهل كان ذلك إسقاطا سياسا واقعيا؟ في مباراة جرت عام 2001 بين الجزائر وفرنسا في ملعب فرنسي، صفّر أبناء المهاجرين ضد النشيد الوطني الفرنسي، وبعد خسارة منتخب الجزائر بأربعة أهداف لهدف، نزل المهاجرون إلى أرض الملعب وأوقفوا المباراة؟ حتى في الدول الديمقراطية لا تمنع كرة القدم حربا أهلية باردة، فكيف الحال تحت أنظمة حكم شمولية تلوذ بالرياضة لتمتين وطنيات هشة؟

عربيا أيضا، انتهى الربيع العربي استعصاء، فجّر ثورات مضادة وحروبا أهلية حامية الوطيس، هزت أركان الدولة، ومزقت النسيج الاجتماعي، وفتتت الديمغرافيا. وألقت السياسة بكاهلها على كل شيء. فسورية التناقضات المتوازنة، ازدادت تناقضا، واختلالا في التوازن مع حربها الأهلية، وكان 22 لاعبا وكرة سفراء للتخبط والإرباك، في ظل استقطاب سياسي حاد، عصف بالمجتمع السوري بين موالاة ومعارضة.

مبارة إيران وسورية

في مباراة سورية وإيران ضمن تصفيات المجموعة الآسيوية المؤهلة إلى مونديال موسكو، كان على سورية تخطي إيران (بالتعادل على الأقل) لتحافظ على فرصة للتأهل إلى مونديال روسيا، زادت المباراة مشاعر السوريين الوطنية حيرة، وبرهنت على التجانس المفقود، ليس بين قطبي المعارضة والموالاة وحسب، بل داخل القطب الواحد كذلك.

معارضون، تمسكوا بسوريتهم كهوية جامعة، في الفصل بين السياسة والرياضة، وبين أحد عشر لاعبا لا يعلم أحد ما في صدورهم “إيمانا” و”كفرا”، ورأوا في هؤلاء ما بغيرهم من السوريين الذين اضطروا للبقاء تحت “قبضة النظام الأمنية”. اتفق معهم في هذا الفصل موالون اعتبروا أن المنتخب بلون سورية كلها وغير خاضع للتصنيف. أبدى موالون آخرون استعدادهم لـ “الصفح” عن لاعبين معارضين عادوا إلى حضن الوطن.

معارضون وجدوا في المباراة مواجهة بين “كتيبة الأسد” وكتيبة “زينبيون”، ورأوا أن فصلا بين السياسة والرياضة غير ممكن، منبهين قبيل المباراة بأن لاعبي المنتخب سيهدون إنجازهم للنظام كما درجت العادة، فكيف اليوم والنظام يبحث عن أية احتفالية ليوظفها سياسيا، ومذكرين بأن العَلَم الذي يرفعه هذا المنتخب، هو العَلَم ذاته الذي رفعته طائرات سلاح الجو السوري التابعة للنظام، التي دكت المدن والقرى. وبعد تصريحات عمر السومة، عبر قناة سما الموالية للنظام، التي أهدى فيها الفوز للرئيس السوري “راعي الرياضة والرياضيين” تعالت أصوات جماعة “قلنا لكم”، وطالبه بعضهم أن يسأل “الراعي” كشف مصير زملاء السومة من الرياضيين في سجونه.

اللي مو عاجبه يضرب راسه

بعض الموالاة أصرّ على أن هذا المنتخب، بعينين خضراوين، يمثل سورية شعبا وجيشا ونظاما، وأضاف فنان سوري عبر صفحته على فيسبوك “والي مو عاجبه يضرب راسه بستميت حيط”. ليست الروح الرياضية دائما أرقى من العقيدة القتالية لأعتى جيوش الأرض، بل أحيانا تصبح أشرس من العقيدة القتالية ذاتها.

عديد من السوريين، موالاة ومعارضة، اتفقوا في إظهار مشاعر العداء للمنتخب الإيراني، كل على طريقته. لمّح بعض المعارضة إلى دلالات مذهبية في الاسم “عمر” صاحب هدف التعادل، ورأى بعض الموالاة أن إيران بخلت على السوريين بمباراة تهديها لهم، في الوقت الذي ضمنت فيه التأهل بغض النظر عن نتيجة المباراة. الإيرانيون بدورهم بادلوا السوريين مشاعر العداء والغضب على المنتخب السوري، فصرح مهاجم الفريق الإيراني سودار أزمون (لا أدري لماذا يقولون سورية شقيقتنا، هؤلاء أهانونا في مباراتي الذهاب والإياب) منتقدا خشونة اللاعبين السوريين، وشتائم مشجعيهم. بل أثارت المباراة في طهران أحقادا نسائية، فدشَّنت مجموعة من الناشطات الإيرانيات حملة ضد الاتحاد الإيراني لكرة القدم، بعدما سمحت السلطات للمشجعات السوريات بدخول مدرجات ملعب “آزادي”، لمشاهدة مباراة سورية وإيران، ومنعت الإيرانيات.

خلال مباراة سورية وإيران لم تتوقف الحرب الأهلية السورية، واستمر أزيز الرصاص عاليا بحرب من نوع آخر. لم تقرّب الرياضة السوريين، بل انعكست حيرتهم السياسية حيرة عاطفية. في سورية، وفي غيرها، ليس من الضروري أن تصلح الرياضة ما أفسدته السياسة، بل تدفع متعة الرياضة فاتورة بؤس السياسة.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى