مقاربة لفض الإشتباك (1)
عبدالسلام إسماعيل
لم يكن الفضاء السياسي مجالا عاما في سورية، شأنه شأن بقية القطاعات خضع لتأميم مديد لم تنفك عراه رغم الخصخصة والسوق “الإنتهابي” الحر. فهرب كثير من المفكرين والمشتغلين بالثقافة إلى مجال مقارعة الإسلام السياسي الأقل إرعابا والأخف عقوبة وإن كان لا يقل أهمية، وأيضا هو مجال يتقاطع مع المجال السياسي من حيث اشتماله على سلطة فاعلة ومؤثرة في الوعي والممارسة، وأيضا تلازم مساريهما التاريخي، وإعتماديتهما الجدلية على حفظ مصالح بعضهما البعض في الهيمنة على المجتمع. ضمن سياق ثقافي عام عززه صعود الحركات الإسلامية في “عهد الصحوة” وحضورها المكثف في فترة “الحرب على الإرهاب”، وإن كان الجدل بين الإسلاميين و العلمانيين بدأ في مطلع القرن العشرين إبان انتشار مفاهيم الحداثة والنموذج الغربي المبهر بتقدمه الحضاري.
تأتي الأهمية المعرفية في نقد التراث الإسلامي، من أهمية الإسلام نفسه لجهة كونه المكون الثقافي الأكبر لهويتنا الحضارية. وبعد ظهور الأحزاب الإسلامية أصبحت هناك حاجة أخرى إلى نقد العلاقة بين السياسية والدين وهل هي فعلا علاقة بنيوية أم مجرد علاقة تاريخية نشأت عن تزامن انتشار الإسلام مع ظهور دولة جديدة تحولت الى إمبراطورية دينها الرسمي هو الإسلام.
يمكن رد كل الإشتباكات بين العلمانيين والإسلاميين إلى مسألة تقديم مشروع حضاري ينتشلنا من حالة التخلف الشاملة، وإن كانت تلك النقاشات والجدل الذي تحول إلى “صراع” يدور على أرضية الفكر المجرد دون أي مجال لإمكانية التطبيق، جاءت الثورات العربية لتعطي هذا الجدل معنى جديد ينقله إلى أرضية السياسة المغلقة في السابق.
ينطلق المشروع الإسلامي من ثلاث مسلمات، الأولى: صدور الشريعة عن ذات علية كاملة المعرفة، مما يقتضي كمال التشريع الإسلامي. ولاعتباره تشريع مكتمل النزول يقتضي هذا صلاحيته لكل زمان ومكان، المسلمة الثانية. أما الثالثة فتستند لقول مأثور لعمر بن الخطاب: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن إبتغينا العزة بغيره أذلنا الله”. أو التنويعة المستنبطة منه: “لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح أولها”.
وبصرف النظر عما يمكن قوله بحق هذه المسلمات والتي تحتاج برأيي إلى نقاش طويل سيثمر عن مجلدات ضخمة، تتبنى الأحزاب الإسلامية مقولة أن الإسلام دين ودولة، وهذا يقتضي أن إقامة الدولة الإسلامية واجب ديني لا يختلف عن بقية الواجبات كالصلاة والزكاة وغيرها . . ويعني هذا فيما يعنيه أن كل المجالات التي ترعاها الدولة من إقتصاد وسياسة وتعليم وصحة . . الخ تجد أحكامها ووسائلها في الإسلام. وهو إدعاء يكذبه الواقع والممارسة التاريخية للسلطة في عهد الدولة الإسلامية الممتدة من الخلافة الراشدية انتهاء بالعثمانية، وحتى في عهد الرسول كان الشأن الحياتي منفصل عن الشأن الديني “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، أمر لا ينفيه الإسلاميون بالطبع، لكنه لا يفضي بمنظورهم إلى إستقلال السياسة التي تعنى بالشأن الحياتي عن الدين بحجة أن الإجتهاد الإنساني مضبوط بمقاصد الشريعة، غير أن هذا الطرح لا يصمد على محك الممارسة العملية، نعم قد يُخرَّج بقاعدة “الضرورات تبيح المحظورات”، والسياسة مليئة بالضرورات الغير منتهية، فأي سياسة شرعية تلك التي تقوم بمجملها على الإستثناء!
وأيضا القيم الإسلامية بما فيها المقاصد الكلية الخمس للشريعة هي قيم إنسانية عامة لا يحتكرها المسلمون وحدهم، نراها موجودة بصور شتى في كل التشريعات الإنسانية. ومن هنا جاءت مقولة محمد عبده الشهيرة “رأيت إسلاما ولم أرى مسلمين”.
أعتقد أن المشكلة تدور حول مفهوم الدولة نفسه ومسؤولياتها، والمفاهيم الجديدة التي لا يمكن تجاهل حضورها الطاغي اليوم مثل المواطنة، والديمقراطية، والحريات العامة، وهي مفاهيم تطالب بها الجماهير التي خرجت في ثورتها الأولى على الطغيان. تتعامل بعض حركات الإسلام السياسي “الأخوان المسلمون” بإيجابية كبيرة حول هذه المفاهيم وتتبناها أيضا، غير أنه تعامل ينبع في تقديري من المنطلق العملي البراغماتي، دون تأصيل فكري حقيقي، يجعل منها مفاهيم من صلب هويتهم الفكرية.
ومن الجيد طرح أسئلة من قبيل: هل قيام الإسلام وتطبيقه مرهون بوجود دولة ترعاه ؟ وإن كان كذلك ألا يحيلنا هذا الى مقولة سيد قطب عن جاهلية مجتمعاتنا، وأن المسلمين الذين يطبقون تعاليم دينهم بصرف النظر عن طبيعة الدولة هم جاهليون بالضرورة ؟ وإن لم يكن كذلك، ألا يقود هذا إلى عدم إرتباط الدين بالدولة؟
ما هي مجالات فعالية الحزب السياسي الديني، وهل هي مجالات تضفي عليه الصفة الدينية؟ ما الذي ستتميز به الدولة الدينية عن العلمانية؟ ألا تصطدم الدولة الدينية “الإسلام دين ودولة” رغم بطلان فكرتها “برأيي” بمفهوم المواطنة، من حيث أنها تعطي امتيازا للمسلمين على غيرهم وتجعل من الدولة طرفا ينحاز لفئة من الشعب دوناً عن أخرى؟ ماذا عن الديمقراطية وسير العملية السياسية, طالما أن قيام الدولة الإسلامية واجب ديني ماذا لو نجح حزب غير إسلامي في الحكم ألا يعتبر هذا خروجا على الشريعة؟
ما الذي يضمن عدم الخلط بين الديني والدنيوي؟ وهذا أمر يحصل اليوم في مصر حيث يفتي المشايخ باعتبار التصويت للدستور واجب ديني، ألا يحمل هذا بذرة طغيان جديد؟
أليس الإكراه مسؤولية السلطة وحدها على المجتمع و”لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي”، “وقل الحق من ربك، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، “فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر” وغيرها من الآيات التي تشير صراحة إلى حرية الإعتقاد وفصل السلطة عن الشأن الديني وتجعله مفهوم قرآني بصرف النظر عن المسمى الذي سيسفر عنه، وبالتالي فيه إبطال لمفهوم الحزب الديني؟
أعلم أن الرد جاهز مسبقا على هذه الفكرة بأحاديث تجد سندها عن الرسول، من قبيل “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله” وغيره من الأحاديث والآراء الفقهية، وبصرف النظر عن تصادم معنى الحديث بمعاني الآيات السابقة، والتغلب التاريخي للسنة والتراث الفقهي على القرآن، ولعبة النصوص التي تخدم وجهات نظر تصل حد التناقض والتنافي، تبقى تلك الأسئلة بحاجة إلى أجوبة حقيقية من قبل الإسلاميين لمنع الإنفصام بين الممارسة والفكر، ومن شأن العمل على حل تلك الإشكاليات أن يفتح لنا أفاقا جديدة على الإسلام الذي يعتبر مكون أساسي وعريض لهويتنا الثقافية، وأيضا يحرره كطاقة دفع حضارية من جديد. فضلا عن ضرورته الثورية الراهنة في ظل تزايد التشدد الديني لطول أمد الصراع المسلح مع النظام.
المفارقة، أن معظم المشتغلين على هذه القضايا يعتبرون من العلمانيين وهو تقصير لا مبرر له سوى إكتفاء الإسلاميين بمقولة “الأولين لم يتركوا شيئا للآخرين كي يقولوه”، وأيضا الشكل الراهن يخدمهم أكثر في خطابهم السياسي والشعبوي.
إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا. صدق الله العظيم.