صفحات الرأي

مقاربة لنموذج تنمية قد يناسب سوريا

دريد درغام

ديمومة أزمة سوريا البنيوية وتراكم أخطاء الماضي يفسر المحنة الحالية، تعاني سوريا من مشاكل بنيوية ترتبط بعوامل عدة منها:

÷ دفق سنوي مخيف ممن وصلوا سن البحث عن فرصة عمل (نصف مليون سنوياً: تقدير أولي وصلنا له قبل 15 عاماً وبرهنا أن الحاجة الحقيقية لخلق فرص جديدة أكبر منه بكثير).

÷ عدم استقرار التوجهات التنموية في اي من الأنشطة الزراعية والصناعية والتجارية والخدماتية.

÷ العجوزات المتزايدة في مختلف برامج الدعم والديون في ما بين الجهات العامة، وهذه الديون بحكم التقادم وتدهور سعر الصرف أصبحت أقرب للديون المعدومة.

وبرغم محاولات التنمية عبر تنشيط شركات القطاع العام خلال العقود الماضية أصبح معظمها في حالة إفلاس غير معلن. وبرغم نجاح بعض تجارب القطاع الخاص إلا أنه بقي في إطار «الكومبرادور» الطفيلي الساعي للكسب السريع عبر علاقات غير متوازنة مع الجهات العامة.

يرتبط تكثف عمالة العالم النامي في قطاع الخدمات والتجارة بعقم تطور باقي القطاعات وانتشار اقتصاد الظل وثقافة الربح السريع مما يغيب المعلومات اللازمة لإدارة اقتصادية سليمة، يزداد تشوهها بانتشار مكثف للأوراق النقدية. وهذا يفسر ارتجال القرارات وسوء سياسات الدعم والتسعير، والأمثلة كثيرة. لم يستطع سعر 20 ليرة لليتر المازوت، كبح تهريبه لسنين الى بلدان الجوار، ومنها لبنان، حيث سعر الصرف مستقر حول 1500 ليرة لبنانية لكل دولار، وبمقدور كل لبناني شراء المازوت من سوريا بسعر يصل إلى 600 ليرة لبنانية لكل ليتر مازوت (سعر الصرف في سوريا حينها 50 ليرة لكل دولار). وبرغم رفع السعر سورياً ليصل إلى 60 ليرة سورية للمازوت، فقد زادت مغريات التهريب لأن تكلفة الليتر للبناني أصبحت أرخص (450 ليرة لبنانية). وبتعميم الامر على باقي السلع الإستراتيجية تكون سوريا أكبر داعم للبنان. ويتجلى مأزق كل حكومة سورية في تناقض بين زيادة الدعم (لتعويض نقص القدرة الشرائية) وأهمية الحد منه كونه مصدر تسرب هائل للاحتياطي الأجنبي (في ظل غياب الصادرات ونقص إرساليات المهاجرين عبر القنوات الرسمية). لذا لا بد من رؤية إستراتيجية لوقف نزف الموارد السورية، بما فيها هجرة الكوادر والأموال والتهريب والفساد، سواء كان مباشرا أو غير مباشر (وهو الأهم لأن إشغال المناصب العليا بغير المؤهلين يتسبب بخفض الأداء وفقدان فرص تنمية حقيقية وتراكم خسائر مادية ومعنوية وتشويه المناخ الاستثماري).

هل من سبيل لوقف النزف السوري؟

منذ عقود أصبحت عملات الدول تقاس بكفاءة اقتصاداتها، فطورت الدول المتقدمة منظومات لسبر المعلومات وكبح التهرب والفساد. أما الدول النامية فغرقت في تخلفها باستثناء عدد قليل، تلمس مخارج مقبولة في ظروف جيوسياسية، رافقت نهايات الحرب الباردة وانطلاقة المارد الصيني في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. ومنذ تلك الفترة لم تتمكن أية دولة نامية «صغيرة بحجم سوريا» من تحقيق معجزة نمو أو تنمية ملحوظة.

يدل انتشار النقود الورقية بسوريا على تواجد اقتصاد ظل يوازي تقريبا حجم الاقتصاد الرسمي. وبغض النظر عن مخاطرها فإن انتشارها يسهل تزوير حسابات الشركات والتهرب والتهريب وجميع الممارسات القادرة على تخريب الأداء الاقتصادي. وبالعودة إلى تكلفة بنية الدفع الالكتروني بالمعنى التقليدي (POS, NFC…) يصعب على الدول النامية (وخاصة المحاصرة منها بعقوبات ظالمة للشعب) التخلص من آفة النقود الورقية. وتحث اجواء التهرب الضريبي البائع على التملص من التسديد إلكترونيا من أي زبون. وهذا يتطلب حلولاً مقنعة وغير مكلفة وأكثر أمناً من النقود الورقية، وبما يضمن جعل التسديد خياراً بيد المشتري لا البائع. وهذا أمر متاح تقنياً عبر تقنيات نجحت تجاربنا عليها ونشرنا تفاصيلها في مقالات سابقة.

السياسة الضريبية عبر التهديد

أقل فاعلية منها بالإقناع!

استقت سوريا انظمتها الضريبية والنقدية من الغرب، وفرضت مسك دفاتر والتزاماً بالفاتورة، وتجاهلت أن نجاح هذه الأنظمة يستلزم وجود كفاءة ضريبية وإحساس عميق بالمواطنة. وهي شروط لا تتوافر إلا عند قيام الدولة بمهامها من خدمات وعدالة كافية لنشوء الثقة بين الشعب والحكومة.

أما العالم النامي فيعاني من حالة فصام، حيث يؤدي الفقر ونقص فرص العمل والعدالة للإحباط من حكومة تقصر بالاستثمار وتوفير الدعم. وعلى التوازي ينفر المواطن من تقديم أدنى جهد لتوفير الموارد اللازمة لتحقيق تلك المتطلبات، لا بل يعتبرأن استنزاف موارد الدولة لمصلحته الفردية على حساب الجماعة أمراً مشروعاً! وهنا لا ينطبق مفهوم اليد الخفية الذي يفترض أن المصلحة العامة تتحقق كمحصلة للسلوكيات الفردية (ولو لم تقصد ذلك). فالمصلحة الفردية في معظم العالم النامي تؤدي غالباً إلى استنزاف الموارد لا مراكمتها. وتزيد المشاكل عبر سياسات شعبوية تقدم فرص عمل جديدة في قطاع عام متخم بالبطالة ينشغل معظم موظفيه بمكاسب فردية.

رؤية جديدة:

عبر الزمن بذل جهد كبير لتعريف علاقة الحاكم بالمحكوم وتغيير طرق التمثيل أو التفويض في انظمة الحكم. وباستثناء بعض النجاحات المتواضعة نسبياً في العدالة الاجتماعية والتجربة الشيوعية التي لم يكتب لها النجاح، بقي الهاجس في دول المركز المتقدم زيادة النمو والتراكم الرأسمالي من دون اهتمام بالعدالة الاجتماعية مع تغيير الحكومات شكلياً عند الأزمات من دون الحياد عن الهاجس الاساسي. وتعقدت مشاكل دول المحيط الحالم بنموذج الغرب «الخصم» والمشكوك في إمكانية استمراره بناءً على تطورات الازمات العالمية.

نعتقد انه بنتيجة التطور الانساني يمكن التوافق على الفرضيات التالية:

÷ مكاسب الوسطاء أكبر بكثير من مكاسب المنتجين الحقيقيين للسلعة أو الخدمة.

÷ لا يمكن قيادة الاقتصاد بحكمة بغياب المعلومات وانتشار كبير لفعاليات اقتصاد الظل.

÷ مع التقدم التقني وتزايد السكان لا يمكن تأمين فرص عمل «مأجورة» للجميع، وبالتالي لا يمكن تهميش أو ازدراء من ليس لديه عمل، لأن ذلك سيؤدي الى ردات فعل لا تحمد عقباها.

÷ أساس المواطنة شعور بالانتماء لبلد يضمن الحدود الدنيا من رفاه الفرد ويمنع استنزاف الموارد.

ويتطلب كل ذلك بنى فاعلة على مستوى الانتاج (بين منتج ووسيط ومستهلك) والدخل (بين ثابت ومتغير) والجغرافيا (بين ريف ومدينة وداخل وخارج البلد). وتركز هذه المستويات على الثروات وتوزيعها مما يفسر تأكيدنا على أهمية التأكد من أن النقود تقوم بوظائفها الثلاث الرئيسية: قياس قيمة السلع وتبادلها (اي تسديد قيمها أو دفعها) وادّخار الثروات.

مع تدهور قيمة العملة تتأثر وظيفتا القياس والادّخار. وبانتشار الدولرة تتهدد وظيفة الدفع وتزداد الأمور سوءاً إذا لم يف المسؤولون بوعودعم عندها تفتقد الثقة. ومع الانتشار الكثيف للعملة الورقية في سوريا نلاحظ وظيفة رابعة ترتبط بإخفاء حقائق التبادلات وتسهيل التهرب الضريبي والمضاربة وغيرها من ممارسات التخريب الاقتصادي. وهذا يتطلب، إضافة لما ذكرناه في مقالات سابقة في جمعية العلوم الاقتصادية السورية وبعض المواقع الالكترونية، تطوير بنية دفع الكترونية ومنظوراً أكثر عدلاً وفاعلية ومتناسباً مع مقدرات البلاد عبر خطوات أساسية نذكر منها:

1- الانتقال السلس باقتصاد الظل إلى العلن

كلما كثرت سلبيات ونواقص التشريعات وكلما غابت العدالة عن السياسات تكون ردة الفعل عبر اقتصاد ظل يعوض عن تقصير الحكومات. وتؤدي ديمومة اقتصاد الظل إلى إكسابه مزايا وقوة ومناعة يصعب معه إعادته إلى العلن. بالعودة إلى الثمانينيات نجد أنه عندما سمحت الحكومة للمدن العشوائية بتركيب عدادات مياه وكهرباء سارع الجميع لتركيبها لإكساب منازلهم صفة الشرعية والاستغناء عن مشاكل السرقات.

2- البطالة والعمل المأجور

لا يمكن تقديم فرص عمل مأجور للجميع ولا يمكن الاستمرار بتهميش من لم يتمكن من دخول سوق العمل نهائياً أو مؤقتاً. والعديد من موظفي القطاع العام هم في الحقيقة عاطلون عن العمل ولكن لمجرد انهم يقبضون رواتب في نهاية كل شهر ينظر لهم نظرة مختلفة. ولكنهم في الحقيقة يتسببون بتكاليف كبيرة غير رواتبهم ومنها:

÷ نفقات غير مبررة.

÷ هدر ناجم عن الفساد وإشغالهم العمال المنتجين.

÷ إحباط زملائهم الجديين في العمل.

÷ غليان من لم تتوافر له العلاقات الشخصية اللازمة للانضمام إلى «البطالة المقنعة».

تفترض الرؤية الإنسانية من جهة الاستغناء عن المعنيين بالبطالة المقنعة ومعاملتهم أسوة بأقرانهم العاطلين عن العمل؛ ومن الجهة الأخرى لا يجوز تهميش أفراد المجتمع بل يجب تخصيص رواتب بطالة (يفضل تسميتها رواتب كرامة) تتناسب مع موارد الدولة التي ستزداد مع تحسين الأداء والايرادات والوفورات. وبالعودة إلى حسابات بسيطة نجد أن الظروف متاحة لتخصيص رواتب كرامة لكل مجموعة اسرية (4-5 اشخاص لا يعملون) أو ترميم ما ينقص من دخولهم الشهرية عن عتبة العيش الكريم المتفق عليها. فما هي العتبة التي نتحدث عنها؟

إذا جمعنا الوفورات الناجمة عن معالجة البطالة المقنعة (حوالي مليون شخص في سوريا) والوفر الناجم عن استغلال وسائل الإنتاج التي كانت مخصصة لإيوائهم وزيادة الموارد الناجمة عن دخول اقتصاد الظل في العلن وإمكانية التحصيل الفوري للضرائب (على المبيعات بدلا من القيمة المضافة) سيكون راتب الكرامة لكل عائلة (لا يعمل افرادها) لا يقل عن 30 ألف ليرة شهرياً (أي أعلى من الدخل الوسطي لنصف عدد موظفي سوريا).

ويفيد ذلك بتحقيق الحد الادنى من الكرامة والثقة بالدولة، والأهم توفير موارد إضافية لتحفيز حقيقي للعاملين والخبراء الحقيقيين ممن يرغبون مقابل الزيادة المحفزة بالتفاني في عملهم مع قدرة على تتبع انتاجيتهم.

3- ملامح تلاقي المجتمع حول الرؤية الجديدة المقترحة

مع تشجيع احتضان جميع المواطنين وتخصيص راتب كرامة للجميع يتناسب مع مقدرات البلاد وبوجود مقاربات وتقانات تسمح بمراقبة طرق الدفع بما يضمن إبراز الجزء الاكبر من التعاملات الى العلن والقدرة على مقارنة المدفوعات (بقيم صغيرة أو كبيرة) المثبتة مع المصرح عنها ستتحقق الكثير من المزايا ومنها:

أ ـ الحد من الكسب السريع أو الفاحش وتمنع الممارسات الاحتكارية فينضبط التضخم.

ب ـ تحجيم عمليات التهريب نظراً للقدرة على تعقب معظم التبادلات.

ج ـ الإحساس بالمواطنة:

د ـ صناديق التنمية: تجنباً للثراء الفاحش الذي يزعزع استقرار المجتمع يمكن وضع عتبات للأرباح القابلة للتوزيع (نسب من رأس المال..). كل ما يزيد عنها يحول لتمويل صناديق تنموية (لمشاريع خدمية وسكانية تجنبنا خطر الوقوع في أحزمة فقر جديدة من العشوائيات ولمشاريع تمويل المعونات والإغاثة…) وفي فترات الكساد إن انخفض الربح يرمم الفرق عن العتبة لصالح من ساهم بالصناديق.

هـ ـ تناغم أكبر بين الريف والمدينة: سيسمح ترشيد فروقات الدخول وتزايدها وإقرار رواتب الكرامة لغير العاملين في عكس اتجاه الهجرة نحو الريف حيث يعاد للزراعة والهدوء والسلام الاجتماعي اعتباره.

لقد أضاعت سوريا سابقاً الكثير من الفرص لتنفيذ السياسات السليمة بالأشخاص المناسبين ومحنة اليوم نتيجة طبيعية لذلك التأخير.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى