مقاربة نقدية للشعر السوري في زمن الثورة والخراب/ مازن أكثم سليمان
يوصف الشعر السوري ولا سيما في ستينات القرن المنصرم بأنّه شعرٌ مؤدلَج، أو بأنّه متأثّر بالإيديولوجيّات التي كانت سائدة في الحياة السياسيّة على أقلّ تقدير، وهذا أمرٌ لا يخلو من الصحة إلى حد ما إذا تعاطينا مع قصائد تلك الحقبة بوصفها تعكس قدراً غير قليل من مسبقات الاتجاه السياسيّ المهيمن على شعرائها، على أن نشير إلى ظهور بعض التجارب الجادّة لشعراء حاولوا في تلك الفترة أن يتخفّفوا من حجم حضور سلطة الإيديولوجيا، وسَعوا إلى بلوغ طموح الحداثة الشعريّة الشهير باستدعاء الغائب وكشف المجهول!
غير أنّ مساحة الشعر السوري عرفتْ في تاريخها أكثر من منعرج واضح المعالم، فجيل السبعينات الشعريّ أراد أن ينزاح عن مفهوم الرؤيا الشموليّة ذات الأبعاد الخطابيّة والإيديولوجيّة، باقتراح قصيدة يكون الحضور فيها للجانب اليوميّ، وتحتفي بالتقاط حركيّة الحياة الاعتياديّة، وكشف تفاصيلها الإنسانيّة البسيطة، وصيرورتها المتحوِّلة العابرة، في حين أنّ معظم شعراء جيل الثمانينات ظلّوا يدورون في فلك محاكاة تجارب الآباء بصورة عامّة، من دون أن يمنع ذلك من بدء ظهور تجارب مغايرة إلى حدٍّ ما، لم تلبث أن نضجت بوضوح أكبر في حقبة التسعينات عندما سعى بعض الشعراء إلى الانتقال من مشروع القصيدة الحداثيّة إلى مشروع الكتابة ما بعد الحداثيّة؛ أي بالتحوّل ممّا يُعرَفُ بتشظّي النصّ إلى ما يُعرَف بالنصّ المتشظّي، مع ضرورة الإشارة إلى وجود أكثر من تجربة حاولتْ أن تكون عابرةً للمراحل، وأن تجدّد أدواتها وخبراتها مع ظهور كلّ تيّار شعري جديد.
في الانتقال إلى العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، شهدت المساحة الشعريّة السوريّة تعدّديّةً عارمة في الكتابة الشعريّة ومرجعياتها بلغتْ حدود الفوضى التي يصعب معها الإحاطة بالتجارب منهجيّاً أو حصرها في مسارات حدّية واضحة، على الرغم من استمرار تأثير التيّارات الشعريّة الثلاثة الرئيسة؛ أي الشعر الرؤيويّ والشعر اليوميّ والشعر ما بعد الحداثيّ، مع ميلٍ نسبيّ إلى القول بعدم ظهور مشاريع شعريّة حقّقتْ خرقاً بيِّناً للسائد، أو أنجزتْ قطيعةً ما، فضلاً عن صعوبة الحديث عن وجود جهاز مفاهيمي نظريّ ومعرفيّ مغاير يقف خلف قصائد تلك الفترة.
إنّ نظرة شاملة في حركيّة المشهد الشعريّ السوريّ خلال نصف قرن، تُظهِر أن المؤسّسات الرسميّة وصحافتها عملتْ على استقطاب تجارب معظم الشعراء على اختلاف مشاربهم وتيّاراتهم السياسيّة والشعريّة، وذلك عبر تطبيق براغماتيّ مدروس لسياسة الاحتواء المتبادَل الذي يهدف إلى تجاوز الاختلافات الإيديولوجيّة لصالح إظهار هذه المؤسّسات بالمظهر الوطنيّ الجامع، في مقابل تقديم فرصة الحضور الذي يحتاجه أولئك الشعراء كي تترسخ تجاربهم وأسماؤهم، من دون أن ينفي ذلك سياسة الإقصاء التي طالتْ مرحليّاً أو كلّيّاً بعض التجارب، أو نأي بعض الشعراء بأنفسهم عن تلك المنابر، في الوقت الذي كانتْ فيه الصحافة العربيّة بوجهٍ عام، والصحافة اللبنانيّة بوجهٍ خاصّ متنفّساً لهم، ولجميع الشعراء السوريّين على اختلاف مشاربهم.
بعد قيام الثورة السوريّة ظهر استقطاب حادّ جدّاً قسّم الشعراء بغضّ النظر عن مدارسهم أو تيّاراتهم، شعراء مؤيدين للسلطة القائمة، أو رافضين للثورة على أقلّ تقدير، وشعراء ثوريّين، فظلّ القسم الأوّل منهم على صلته العميقة بالمؤسّسات الرسميّة وصحافتها، في حين أنّ القسم الثاني قاطع تلك المؤسّسات، وسعى إلى إيجاد منابره الخاصّة في إطار تكاثُر غير مسبوق للجرائد والمجلّات والمواقع الإلكترونيّة الثوريّة، فضلاً عن محاولة خلق اتّحادات أو روابط للكتّاب والشعراء تكون بديلة من الروابط الرسميّة السابقة.
إشكالية الراهن الشعري السوري بين الأنساق الحاضرة والأنساق الغائبة
تشكل معاصرة الشعراء عبر التاريخ للثورات والحروب فرصة استثنائيّة لهم كي يقدّموا شهاداتهم الشعريّة على عصرهم، فالشعر في أحد أوصافه الحداثيّة تعبيرٌ عن روح كلّ عصر جديد بلغة مغايرة وروح فريدة تحتفي بالكشف والمجاوزة والاختلاف. لهذا، فبقدر ما تبدو معاصرة الحدث السوريّ فرصة نادرة للشعراء، تمثِّل كذلك مأزقاً جماليّاً وفخّاً فنّيّاً شديد الوعورة قد يوقع تخارُجَهم الشعريّ فريسة الاستسهال في ضوء إغواء الحاضر. لذلك لا يبدو أنّ هناك مهرباً أمام الشاعر الحقيقيّ من مواجهةٍ صريحة مع وصف محمد الماغوط الخطير للشعر في مطلع إحدى قصائده بالجيفة الخالدة، ذلك أنّ هذا الشاعر هو وحده مَن يستطيع أن ينفخ الروح في هذه الجيفة، وأن يبعثها صافيةً حرّة، وهذا يتطلب جملة من الشروط المعرفية والفنية والتجريبية، فضلاً عن خبرة الامتلاء الوجودي الحيوي بروح المرحلة العابرة من ناحية، وبفضاءات الزمن الكلي من ناحية ثانية.
من الصعب حتى هذه اللحظة أن نتحدّث حديثاً قطعياً عن ولادة حساسيّة شعريّة جديدة في الكتابة السوريّة، فالأمر يتعدّى السطح الخارجيّ الظاهر إلى السطح العميق الغائر، بمعنى أن حضور الحرب، وتحوّلها إلى موضوع أثير لدى عدد كبير من الشعراء بما يشبه الموضة الشعريّة، هو أمرٌ طبيعيّ من حيث المبدأ، ولعلّنا نذكر في هذا السياق مقولة بريخت الشهيرة: “إنّهم لن يقولوا: لماذا ساءت الأزمان؟ لكنّهم سيقولون: لماذا سكت الشعراء؟”. غير أن المسألة أكثر تعقيداً ممّا نظنّ، ذلك أنه يمكن أن نتحدث عن تحوّل الحرب عند كثير من الشعراء إلى قناع يغيّب عدداً من القضايا المسكوت عنها، أو ربّما غير المفكَّر فيها على أقلّ تقدير.
ليس من المبالغة القول إنّ عدداً من شعراء لحظتنا الراهنة قد وجدوا في موضوع الحرب طوق نجاة يرأبون به – كما يعتقدون- صدوعَ ضعف ذخيرتهم المعرفيّة والنظريّة، ويعوّضون عن غياب مشاريعهم ذات الخصوصيّة والتفرّد، ولا سيما أن بعضاً من هؤلاء لم يكونوا أصلاً قد خرجوا قبل الثورة من عباءات الآباء الشعريّين. يضاف إلى حضور هذا الجانب، أن بعض الشعراء أضحوا يهربون من اتخاذ موقف سياسيّ واضح، بإغراق قصائدهم بمفردات الحرب اليوميّة، متفنّنين في توجيه أبلغ اللعنات نحوَ قسوتها الأليمة، بما لا يضيف إلى حدٍّ ما فرقاً نوعيّاً على أيّ كلام اعتياديّ قد يذمّ قبح الحرب. لعلّ أمثال هؤلاء يسوّغون غياب الموقف السياسيّ بالحديث عن شموليّة الموقف الإنسانيّ العام، وتجنُّبهم مقتلَ أنْ تسقط قصائدهم في المباشرة السياسية. إلّا أن أيّ معرفة بسيطة بالاختلاف الفنّي بين الشعر السياسيّ وسياسة الشعر تعرِّي دفوعهم المتهافتة، وتكشف انتقالهم من تحاشي الوقوع في مباشرةٍ ما، كما يدّعون، إلى الوقوع في نمطٍ آخر من المباشرة المحاصرة بضغط الراهن، حيث يتحوَّل معجمهم الحربيّ إلى عدّة قصديّة مسبقة، ومجموعة منتقاة من الآليّات التقنيّة التكراريّة التي يُحضِر بها هؤلاء الشعراء الحربَ وصفيّاً من الخارج، متمركزين عليها في مطابقةٍ تخلو من بلوغ أيّ كشفٍ يوميّ أو رؤيويّ مغاير، وفي ظلّ غيابٍ فادح للوجود الجماليّ بما هو بؤرة الدهشة والتباعد والاختلاف كما يُفترَض أن يكون.
إن مفهوم الالتزام الشعريّ لا يعني بتاتاً تقديم خطاب مباشَر في القصيدة، فهذا وعيٌ تبسيطيّ ينفي حتماً شعريّتها، وقد قيل قديماً إن أعذب الشعر أكذبه، لذلك لا بد من الإشارة إلى أن نسبة لا يستهان بها مما يكتب الآن تحت عنوان شعر الثورة والحرب يغلب عليه من حيث المبدأ الجانب التسجيلي الانطباعي، الذي يبقى إلى حد بعيد حبيس الدرجة الصفر في الكتابة، أو أسير خطاب التعبئة الخطابية القاصر فنياً، فضلاً عن عجز نسبة لا بأس بها من القصائد عن تحقيق الانتقال المجدي من التجربة الذاتية الخاصة إلى التجربة الإنسانية العامة. صحيحٌ أن الثورات والحروب تجارب عالميّة مشتركة، لكن ما الذي تضيفه قصيدة لا تخرج عن محاكاة السطح الخارجيّ للحدث، من دون أن تتمكّن من تحويل مادة الحرب الأوليّة بوصفها إقامة في الحضور إلى فائض معنى بوصفه اختراقاً للغياب! وهو الأمر الذي يتحقق بالتضافر الوجودي بين التجربة والتجريب عبر مكابدة عميقة بؤرتها جدلية الذات والموضوع ائتلافاً أو تنافراً، وهدفها بلوغ الخصوصية الجمالية نصياً، إذ من المفترَض نظرياً أن يتولّد الحيز الفني وأن ينمو داخل النص، لا أن يكون سجيناً لما هو مسبق في العالم الوقائعي، ذلك أن القاعدة النقدية الشهيرة تقول إنه ليس المهم موضوع القصيدة، إنما الكيفية الوجودية التخييلية التي ينبسط بها هذا الموضوع في عالم القصيدة التخارُجي، والذي ينبغي له أن يفتتح أفقاً جديداً يدعوه غادامير الزيادة في الوجود، ويدعوه ريكور شيء النصّ غير المحدود. هذا العالَم الشعريّ الجديد هو ما يسمح لمفهوم الالتزام الفنّيّ في الشعر من بلوغ غاياته المثلى بالوفاء للموقف الفكريّ والسياسيّ من ناحية، وللمستويات الوجوديّة – الجماليّة من ناحية ثانية، لتصبح القصيدة الراهنة على هذا النحو قصيدةً معاصرةً للثورة والحرب بقدر ما هي قصيدة تحتفي بأصالتها عبر الجدل الخلّاق بين الزمن الأفقيّ الوقائعيّ وزمن الشعر العموديّ، وليكشف هذا التوتّر الحرّ، وتلك المغامرة الجمّة، الانبثاقَ الجديد لعالم الاختلاف والغياب والمجاوزة الدائمة نحو المجهول.
تحاول هذه المقاربة النصية أن تختبر مدى قدرة النصوص الشعرية المكتوبة في زمن الثورة والحرب السورية على التخفُّف من سلطة المسبقات الوقائعية والتصورية، وتقديم فضاءات فنية مُجاوِزة يمكن أن تؤسِّس لحقبة شعرية جديدة، ولهذا يتوجّه الجهد النقدي في هذا العمل إلى النماذج التي تبدو مبشِّرةً بفتح آفاق فنية مشجِّعة، التي تظهر نقيضَها الفني المخفق على نحوٍ نسبي، مُحضرةً في الوقت نفسه المتحجِّبَ وغير المُفكَّر فيه إلى حد ما.
ينهض منهج الدراسة على آليات ظاهراتية – أنطولوجيّة تعتمد في تطبيقها على قصدية الوجود المتجهة مباشرةً نحو عالم القصيدة كما ينفتح أمامنا، بما يُمكِّنُ القراءة من تشييد حوار جدلي غاياته الفهم والتفسير والتأويل في حدود ما تسمح به طاقة النّصوص المدروسة.
من المسبقات اليومية الشخصية إلى الكشوف الشعورية العامة
يبدأ التحدي الوجودي – الجمالي للشاعر انطلاقاً من سعيه إلى الانفكاك من فخّ مسبقات الحضور اليومي للحدث الطاغي، والانتقال إلى مدارات الغائب والمسكوت عنه عبر جملة جدليات فنية ينهض عالم القصيدة بفعلها – كما هو مفترَض – على حامل مجازي تخييلي، منزاحاً من المستوى الشخصي الخاص إلى المستويات العامة، ومشيِّداً عبر الكشوف الشعورية بوصفها قيماً إنسانية جمالية مشترَكة عوالم وجودية جديدة.
يبدو في هذا السياق أن نماذج شعرية غير قليلة من نصوص الثورة والحرب في سوريا قد نجحت في الوفاء نسبياً بالمقتضيات السابقة، مع المحافظة على الخصوصيات الفنية لدى كل شاعر. فها هو ذا عيسى الشيخ حسن ينتقل في نصه “أمنية” من المستوى الذاتي الضيّق إلى الشعور الجمعي العام: “قولي لي/ إن سوريا ليست قطعة بازل/ لأضعها في مكان آخر/ شمال الهند/ جنوب البرازيل/ قبالة أوستراليا/ بعيداً عن شرور الشرق./ قولي لي/ حين يا ليلى نلعب لعبة الأماني/ نتدرب جيداً على إغماض عيوننا/ ونخلع البلاد/ كأسنان لبنية/ ونرميها في وجه الشمس/ لتعودَ بلاداً بيضاء/ دائمة”.
يقوم هذا النص اللافت على تشبيه مركّب يحتفي بالتضاد بين القبيح والجميل. فالشاعر يُنشئ تناقضاً عميقاً بين سوريا الحاضرة بوصفها جغرافيا سياسية وقائعية، وسوريا الغائبة بوصفها حلماً يوتوبياً منتظراً، إذ تنبسط فجوة الانزياح عبر توتر كثيف ينقل الدلالة من عالم السياسة والحرب، إلى عالم الطفولة واللعب المكافئ رمزياً في ممارساته للشعائر السحرية التي كان يقوم بها الإنسان البدائي بهدف تغيير مآلات الطبيعة، والقبض على أهدافه الوجودية كما في مسألة الصيد على سبيل المثل. فأن تسقطَ سوريا/الأسنان اللبنية، يعني أن تتلاشى دوامة الحرب والدمار وفقدان الأمان، وأن تحضُرَ سوريا/الأسنان البيضاء الدائمة بوصفها سوريا الجمال والاستقرار والازدهار.
إن الاتكاء على تقنية المفارَقة التي تؤدي إلى تخليق حقول مجازية ثرة، وتطمح إلى استدراج المتلقي إلى عالم الإدهاش، يظهر في تجارب واسعة في ما يُكتَب الآن من الشعر السوري. ها هو ذا مروان علي يبسط لنا في نصه “فوتوغراف” عالماً مشهدياً سردياً قد يلتبس للوهلة الأولى من ناحية التجنيس، لينتزع شرعيته الشعرية عندما تصل حركية السرد المتصاعدة إلى ما يشبه ذروة التعرّف في لغة المسرح، التي تنطوي عليها القفلة بوصفها بؤرة الدلالة وعلّتها المجازية الكثيفة: “الصورة واضحة جداً/ الشرطيُّ/ يرفع بندقيته إلى صدره/ يسند الأخمص إلى قلبه/ ويسدد طلقة/ طلقة واحدة إلى قلبي./ في الصورة الثانية/ الشرطيُّ الذي ركضَ/ توقّفَ فجأةً./ زميلُ الشرطي الأول/ يرفع بارودةً/ تشبهُ بارودة صيد/ نعم إنها بارودة صيد/ يرفع عينيه إلى السماء/ المتظاهرون يطيرون/ نحوَ الشمس”.
هذا اللعب الشعري على جماليات المفارَقة ينجح كثيراً في نزع ألفة الحاضر الوقائعي، لائذاً عبر كشف ما هو غائب إلى ما يمكن أن نصطلح عليه بليبيدو الحرب الذي يمثل حالة شعرية سورية شائعة الآن تنهض على رغبة غريزية دفاعية في مواجهة الخراب المادي والأخلاقي والجمالي، وذلك بخلق عالم شعري جديد يُعرّي تهافت قيم العالم الوقائعي، ويخلخل منظوماته بتفجير فضيحة جمالية شعرية نضرب مثلاً عليها نص مرام المصري الآتي: “على حيطان الباحة لمدرسة/ كُتِبَتْ كلمةُ الحرّية بالطباشير الأبيض/ بأصابع الطلاب الصغيرة./ على جدار التاريخ/ كَتَبَت الحرية أسماءهم بالدماء”.
يبدأ التوتر الإيحائي في هذا النص ببثّ ذبذباته المنطوية على ليبيدو الحرب الفضائحي انطلاقاً من التضاد بين حيطان الباحة لمدرسة وجدار التاريخ، ليتولَّد مستوى أعلى من هذا التوتر الإيحائي يقوم على التضاد بين التلامذة الصغار الذين كتبوا كلمة الحرية بالطباشير الأبيض، والحرية نفسها التي كتبتْ أسماءهم بالدماء. فالمسافة بين بياض الطباشير وحمرة الدماء تخلق فجوة دلالية تبلغ ذروتها الإيحائية عندما تنتقل الفاعلية والمبادرة من التلامذة في المرحلة الأولى من الكتابة، إلى الحرية نفسها في المرحلة الثانية من الكتابة، وليحقق حضور التاريخ هنا استيفاءً دلالياً رمزياً يتبعثر بين دلالة العار والقتل والدم، ودلالة المجد والخلود والحرية.
إن المتاهة الشعورية الكاشفة التي تتأسّس على تفجير البعد الوجودي اللغوي داخل النص عبر المفارقة التراجيدية، تعتمد عند دمّر حبيب على آلية وظيفية مزدوجة تلعب على التباس ثنائية الجلاد/الضحية، إذ تتبعثر الدلالة في دوّامة تضادّ عنيف ينفخ في النص زيادةً ملموسة في الوجود، فينقل شيءُ النص غير المحدود المعنى من الحضور المباشر للعالم الوقائعي إلى جماليات الغياب وغير المفكّر فيه، وتتملص الاستعارة من علاقات المشابهة الذهنية التصورية المتعالية، منفتحةً على علاقات التفاعل القائمة على التجربة والفعل والتأثر والتأثير. فالباب بعينه الساحرة، في نص دمّر حبيب الآتي، يفصل بين قنّاص قد يصير ضحية لمن يُفترَضُ أنه الضّحية المُنتظِرة خلف هذا الباب، التي تشتاق ربّما لقتل ذلك القنّاص، والالتباس المكثّف ينشأ من تبادل المواقع بين من يَرى ومن يُرى: “ماذا سيفعل القناص/ عندما يستبدل منظارَه/ بالعين الساحرة؟/ لذلك الباب الذي ينتظر خلفه/ من يشتاق لضحيته!”.
تأخذ المفارقة عند فراس الضمّان منحىً سردياً نامياً يتأسّس البُعد الشعري فيه على جماليات التكرار اللفظي أو المعنوي: “أخيراً/ سيعود كلّ شيء إلى مكانه/ السنونوةُ/ إلى أميرها السعيد/ الزجاجةُ/ إلى يديَ اليسرى/ الطعنةُ/ إلى عُشها الدافئ أعلى الظَّهر/ الحبرُ/ إلى عينيَّ العتيقتين/ الإبهامُ مرفوعاً/ إلى تحيّة أعدائي/ أنتِ/ إلى حضن غيري/ توقيعي…/ – توقيعي المجنَّح كالسنونو-/ إلى القصائد التي يرددها الجنود/ على جبهتين متقابلتين/ ويجهشون بالبكاء!”.
إن البؤرة – العلة في هذا النص، إذا صحّت التسمية، تتمثّل في تكرار حركية العودة، والتوتر الغنائي ينمو عبر تضاد إيحائي قائم بين دلالة العودة السلبية (الطعنة- أنتِ- توقيعي)، ودلالة العودة الإيجابية (السنونوة- الزجاجة- الحبر- الإبهام)، ليصبَّ الكشف الشعوري في لحظة الذروة المُفارِقة في القفلة التي توحِّد بذكاء مجازي بين جنود الجبهتين الذين يشتركون في فعل إنساني غاية في الدلالة الرمزية وهو فعل البكاء.
هكذا، يستمر الشعراء السوريون في مغامراتهم القائمة على التحدي الوجودي – الجمالي للحرب عبر تحرير كثير من نصوصهم من وطأة القيود التجنيسية، لصالح أولوية إطلاق ليبيدو الحرب الغريزي الدفاعي. فها هو ذا عبد الكريم عمرين الذي يكتب من داخل إحدى المناطق المشتعلة، يلتقط مُفارَقات الواقع اليومي نفسه، كأنه يقول ما حاجتي للمفارقات الشعرية إذا تفوّقت مفارقات الحرب التراجيدية عليها، ولا سيما عندما يغدو الحضور هو نفسه الغياب، لتؤسَّس المُفارَقة الشعرية على موسيقى داخلية تبطِّن التضاد بين إيقاع الألم وإيقاع الفرح المسروق من بين براثن الدمار، وفي ظلِّ تقشّف بلاغي عارم، وسرد مباشَر حار، ينتهي نص “عرس حمصي في زمن الحرب” بانتصار حزين للحب والخصب على الخطر والموت والخراب: “أرادَ أن يتزوج/ شابٌّ فقدَ أهله/ بعضهم في القبور/ وآخرونَ مُغيَّبون/ والبقيّة في منافٍ اختيارية./…/ على عجلٍ عملنا لهُ صرّة/ من أرزّ وبرغل وقليل من المعلبات/ فركنا لهُ وجهه ويديه/ بزهر الأكاسيا./ …/ هتفنا لهُ:/ “عريس الزين يتهنَّى”/ مشى وئيداً نحو غرفته ذات الاستقلال الذاتي/ بكى فرحاً، بل ألماً./ حين غاب عنّا/ سمعنا زغرودة واحدة لا شريكَ لها/ كانت عروسه تزغرد لرجُلها/ معلنةً استعدادها للحُبّ والخصب”.
في المنحى نفسه، تتخفّف أفين ابرهيم في نصها “ذاكرة الريش” من سلطة التجنيس، محتفيةً بالسرد المستمدّ من مفارقات الحاضر التراجيدي، مُحاوِلةً أن تشحن مفردة “أحبُّكَ” بدلالات متوترة تميل فيها الكفّة لصالح البعد الوقائعي على حساب البعد الرومنطيقي، حيث يُظهِرُ النّمو الدّرامي في النص حالةَ الحبّ قلِقةً مضطربة، ومتورطة بتضادّ دلالي يبلغ ذروته في القفلة الفضائحية المُفارِقة، التي تصلُ فيها كلمة “أحبُّكَ” قبل سيارة الإسعاف، ومع ذلك يُخفق هذا الوصول في إنقاذ الطفل الذي مات تحت الأنقاض: “عندما أكتبُ أحبُّكَ/ لا أعني تماماً أني أحبُّكَ…/ أعني أنَّ كيس السيروم قد انتهى وصوتُ المرأة العجوز لا يقوى على/ نداء الممرضة التي ما زالت تقرأ رواية حبّ منذ عشرين عاماً لتهرب من/ الحروب وتمسك بقلبكَ/ أعني أن كلمة أحبُّكَ وصلتْ قبل سيارة الإسعاف ومع ذلك مات الطفل تحت الأنقاض”.
لعلّ شغف شعراء سوريين كثيرين بالسرد في هذه الحقبة، يعكس عنف الجدل الدائر بين الذاتي والموضوعي من ناحية، ويكشف قوة ضغط الراهن الحالي من ناحية ثانية، ورغبة الشعراء بمواكبته فنياً، ولو استدعى الأمر انفتاحاً مقامِراً على الأجناس الأخرى وآلياتها التقنية، وهو الأمر الذي تتفاوت نسبته من شاعر إلى آخر تبعاً لخصوصياتهم المختلفة، وتبعاً لكيفية حضور الحرب أو غيابها ضمن ثنائية ما أدعوه الحرب الظاهرة والحرب المقنَّعة.
في هذا الإطار، يمنح حسين حبش نصوصَه المنفتحة على السرد، الشرعيةَ الجمالية عبر إطلاق ليبيدو الحرب ليخلق في عالم النص معادلاً وجودياً يحاكي جماليات الطفولة ومخيّلتها الخصبة، حيث تنبسط هذه المحاكاة لتولِّد توتراً مضاداً لحضور الحرب الظاهر، من دون أن يُفقِدَ هذا الحضور المفارَقةَ قدرتها المدهشة على نزع الألفة وملامسة المسكوت عنه أو غير المفكَّر فيه، كما في نصه الذكي “ملاك طائر”: “الطفلةُ التي ربطوا يديها المكسورتين/ بالشاش الأبيض/ ألحَّتْ على أمّها أن تعرفَ/ لماذا يداها مربوطتان هكذا؟/ عندما احتارت الأم ولم تجدْ جواباً/ همسَتْ لها: لقد أصبحتِ ملاكاً يا صغيرتي،/ أليسَ للملائكةِ أجنحةٌ بيضاء؟/ صدَّقتِ الطفلةُ كلامَ أمّها!/ إنّها تتعافى رويداً رويداً/ تحرِّكُ يديها كجناحين/ وتحاول الطيران”.
في سياق مشابه، يؤسِّس ماهر راعي ليبيدو الحرب في نصوصه عبر خلق معادل وجودي يحاكي أيضاً جماليات الطفولة، وهو الأمر الذي نلمحه في نصه اللافت “مُغطَّس بالشوكولا”، الذي ينطوي على بعد مشهدي درامي طَموح، يسعى الشاعر اعتماداً عليه إلى تخليق فضاءات مجازية جديدة تُبقي حضور الحرب فيها حضوراً مقنَّعاً على نحو كبير: “صوتُ خشخشة!!!/ كأنَّ آلافاً من الأطفال يفتحون/ ملايين البسكويتات دفعة واحدة…/ صوتُ خشخشة قادم من كلّ دكّانٍ في سوريا…/صوتُ خشخشة يقول أو هكذا تستطيع أن تفهم منه:/ نحن البسكويت المُغطَّس بالشوكولا/ نحن أسنانُ الأطفال رغم أنّها تؤلمنا لحظة القضم/ نحن أصابعهم وقت تسيخ طبقتُنا البنّية فوقها…/ نحبّ خياراتهم التي تميزنا باللون…/ منذ سنين/ لم يمنعنا الغلاف المحكم/ ولا طبقة الشوكولا/ أن نقف مشدوهين/ مشدوهين جداً من كل ما يحصل/ منذ سنين لم ننمْ نحن البسكويت المغطَّس بالشوكولا”.
إن نهوض تقنية المفارَقة الشعرية على رغبة عارمة ببلوغ الكشوف الشعورية العامة المجاوِزة للمسبقات اليومية الشخصية، هو الذي دفع خضر الآغا بخصوصية واضحة إلى توثيق تجربة اللجوء شعرياً كما في نصوصه “لا تصدِّقوا اللاجئ”، ويبدو أن المسافة الجغرافية والزمنية لم تخمد حرارة تجربته السورية، لتبقى فضيحة الموت السوري بؤرة التحدي الوجودي – الجمالي عنده، وليعيش صراعاً داخلياً محتدماً يشي به الالتباس المقصود الذي تنطوي عليه عتبة العنوان الموحي. فهو اللاجئ الذي نجا من الموت، والذي يراقب من بُعد كيف تفترس الحرب أبناء وطنه، حيث تتولّد جماليات المفارَقة في أحد المقاطع على التضادّ بين الموت الذي يرى كل شيء في سوريا، ونجاة الشاعر الذي أخطأه هذا الموت خطأ قلّما يحدث: “شاعرٌ لا يقرأ له أحد/ أحبَّ كلَّ البنات، ولم تحبُّهُ بنت/ حتى الموت،/ الموت الذي يرى كل شيء،/ أقامَ في سوريا/ ولم يرَهُ!”.
يبدو أن تحوُّل موضوعة الموت إلى بؤرة دلالية شاغلة للشعراء السوريين في حقبة الثورة والحرب، قاد بعض الشعراء على نحو تلقائي أو طبيعي إلى فتح سؤال الحرب اليومي بما تنطوي عليه من دم وقتل ودمار على الأفق الميتافيزيقي، وهذا ما يمكن ملاحظته في نصوص نارين ديركي التي تكرر في أكثر من نص مفردة “السماء”، وتحوِّلُها إلى بؤرة دلالية مهيمنة. ففي نص “سنجار” يكون وطن الشاعرة قلباً تضعه في صدر طفل لا يولد إلا لحظة موتها، وكأنّ المعادلة الغيبية تحضر يوتوبيّاً الوطن – الطفل، لتغيِّبَ تراجيديّاً الشاعرة التي تهدي إلى السماء ذات الدلالة الميتافيزيقية كل إخفاقاتها الحياتية في ما يبدو احتجاجاً وجودياً صارخاً على الغيب: “وطني هنا/ في هذا القلب/ المذهول…/ أتناوله برفق،/ وأضعه في صدر طفل،/ يولد لحظة موتي،/ في جبل سنجار/ أُعمِّده باسم زرادشت،/ أحمل بين يديَّ شمسَه،/ ثمَّ أمضي/ بعيون عطشى/ وأمومة عرجاء/ ونعال مهترئة/ أهديها للسماء…”.
في المنحى نفسه، ينجح نادر القاسم في تخليق حقول مجازية ثرة ذات رمزية عالية عندما يزاوج في نصه الآسِر “عيون”، بين سؤال الغيب والبعد العبثي للحرب، إذ يقوم بفتح سؤال الوجود اليومي على الغيب الميتافيزيقي، وذلك عبر مساءلةٍ وجودية احتجاجية للّه عن معنى ما يحدث وهو ما يتحقق في مفارقة تنتزع من المتلقي صرخة الدهشة المغمّسة بالألم الجارح العميق: “هذه الغربان تحوم في السماء/ الوليمة جاهزة/ ومع ذلك كم هي رحيمة بنا/ تأكل كلَّ شيء/ وتترك عيوننا الدقيقة/ والصغيرة مثل بحيرات/ تحدِّق/ وتثقب السموات/ وهي تنظر إلى الله”.
من مسبقات الموقف السياسي إلى الآفاق الرؤيوية المفتوحة
تقوم الرؤيا الشعرية على تغيير في نظام الأشياء وعلاقاتها، وعلى تفتيت منطق العالم الوقائعي وروابطه الجزئية المستقرة، ثم إعادة تركيبه في عالم شعري جديد، وفتح هذا العالم على رؤى كلية مستقبلية تكتنه دلالات المجهول. وقد انقسم الشعراء السوريون في حقبة الثورة والحرب الراهنة، شعراء كانت رؤى الحرب السوداء قيماً مهيمنة على نصوصهم، وشعراء كانت الرؤى الثورية المتفائلة قيماً مهيمنة على نصوصهم، مع الإشارة إلى أن كلا الطرفين وعلى اختلاف مشاربهم ومواقفهم السياسية، قد التقيا في ما أدعوه رؤى الاغتراب القائمة على بثّ دلالات الرفض والتغيير المناهضة للأوضاع الدموية المرعبة.
تتصف رؤى الاغتراب بقدرتها على تمويه الدلالة الرؤيوية بتخليق مناخ فانتازي غرائبي يوسِّع الهوة المجازية المخلخِلة لبنى العالم الوقائعي السابق، والمفجِّرة لعالم الوجود اللغوي الشعري الجديد، حيث يبلغ التحدي الوجودي – الجمالي للشاعر ذروته بتذويب الذاتي والموضوعي تحت السطح البصري العميق للمشهد الشعري المشوَّش. ها هو ذا عبد الوهاب عزّاوي يبسط عالمه الاغترابي ببناء تضادّ مقلوب ولافت بين القبيح والجميل، إذ يجعل الرصاصة نفسها سجينة كفأر في جمجمة، ويحشد ثلاثة أفعال مضارعة واصفة لحال هذه الرصاصة (تئزّ، تعجز، تصيح)، معمِّقاً الأحاسيس العارمة بالعجز والاختناق، ومحوِّلاً الرصاصة نفسها التي يُفترَضُ أنها أحد أهم مصادر تلك الأحاسيس البائسة إلى حامل مجازي فانتازي لاغترابٍ يشوِّش الدلالة ويموّهها: “الرصاصة تئزّ/ تعجز عن الخروج/ تصيح/ كفأر في جمجمة”.
في المنحى الاغترابي نفسه، تحتفي ريجينا ملّوك بالانفصال والقطيعة مع الحاضر الدموي: “الطعنة في الخاصرة/ لذيذة/ شرط أن تأتي بكامل أنوثتها”. لعل مكمن الغرائبية في مقطعها الشعري هذا ليس في تلذّذها بالطعنة، على جِدّته، فحسب، إنما في الشرط اللازم لهذا التلذّذ، وهو أن تجيء الطعنة بكامل أنوثتها، ليولّد هذا الشرط فجوة توتر تتمدّد كهوّة مجازية عميقة يمكن تأويلها بأنها احتجاج ورفض للعالم الذكوري القائم على الحرب والموت والدمار.
إن المناخ الاغترابي الذي يضع الرؤى أحياناً بين قوسين، ويعلِّق الأحكام ربما إلى حين بفعل تشويش الدلالة، يصل بدارين أحمد إلى أن تتسلّى بعَدِّ النهر نفسه، وذلك في انزياح نادر ومُجاوز للبلاغة التقليدية، وهو ما قد يقودنا إلى استحضار مقولة هيراقليطس: “إنكَ لا تستطيع أن تسبح في ماء النهر الواحد مرتين”. لذلك يبدو إمكان عدّ النهر ممكناً لتجدُّد مياهه الدائم، لكن بعد أن نعي بفعل تدخّلنا التأويلي العمقَ التراجيدي الذي يولِّد الاغتراب في هذه الاستعارة، وهو أن ما يجري عدُّه ويتجدَّد حقيقةً ليس سوى الجثث التي تجري في هذا الماء: “أتسلّى بعَدِّ النهر/ لا تضحك متسائلاً: “أيعَدُّ النهرُ؟”/ نعم يُعَدُّ كما تُعَدُّ الشجرة/ والطريق الذي نظنّه واحداً/ فمئات الطرق مرَّت عليه/…/ أتسلّى بعَدِّ النهر الذي أفلتَهُ الطوفان/ وقبضتْ عليه جثة”.
هكذا، يطغى حضور الموت على المشهد الشعري السوري الراهن، وتخرج الرؤى مغمّسةً بالدم والدمار والتراجيديا. إنها السوداوية المحكَمة، التي لا تفتح أفق الرؤيا عند معظم الشعراء إلا على النبرة التشاؤمية، ولذلك يكابد موسى رحوم عباس مكابدةً قاسية بفعل إحكام هذه النبرة سيطرتها عليه، فنصه “دراما” ينهض دلالياً على تكرار لازمة “وأنا أحمل جثةً تحجب ظلّي”، والظل المحجوب هنا يعني أن الشمس تعجز عن إحضار ماهيتها عبر الأشعة، وأن الجسد فاقد لكينونته، وأن الكينونة المفقودة ليست سوى الهوية الغائبة المحجوبة عن الذات الفردية والجمعية: “ألفُ عامٍ وأكثر/ وأنا أحمل جثةً تحجب ظلي عن هذه/ الأرضِ/…/ يا أنا، يا يوسفُ المرميُّ في الجبِّ/ أنادي أخوتي/…/ هأنذا مثقلٌ بالريح والحنظل البريِّ/ وألفِ كربلاء/…/ لكنَّني/ ما زلتُ أعدو، وأنا أحمل جثةً/ تحجب ظلي”. لعل المفارقة اللافتة التي تعمِّق الرؤيا السوداء في هذا النص تجيء في قفلته التي ينتقل فيها موسى رحوم عباس من حالة اللازمة المكررة والقائمة على حمل الجثة التي تحجب ظلَّه؛ أي من حالة المشي والسير بها، إلى حالة العدو والركض بما يحمل هذا التحوّل من تسريع للرؤيا السوداء الدالة على احتجاب الهوية!
في المنحى نفسه، تُطبِقُ الرؤى السوداء على رامي العاشق، فلا مهرب أو خلاص ما دامت حتى كل علاقة يقيمها مع أنثى لا تولِّد سوى المدافع المنذورة لسفك دم الحب والجمال، وما دام الشاعر يحسّ بانتهاكٍ صارخٍ لذاته يبلغ حدّ الاغتصاب من دون أن يتمكّن من الدفاع عن نفسه ربّما أو عن أنثاه أو عن وطنه، فكل شيء يهرم ويموت سوى الموت الذي يظلّ يافعاً: “كلُّ بنتٍ في فراشي/ تستريح/ تزيدُ أعدادَ المَدافِعْ/ كلُّ أصواتِ اغتصابي/ تنتخيني/ كي أدافِعْ/ قد هرمتُ وظلَّ هذا الموتُ/ يافِعْ!”.
على هذا النحو، يستمر الشعراء السوريون في مصارعة الرؤى السوداء الطاغية، ويحاولون أحياناً أن يتملّصوا من سلطانها على الشعر، فها هو ذا أنور عمران يسرد في قصيدته اللافتة “العسكري الجميل كهبوب أيلول”، بعض التفاصيل الإنسانية البسيطة، محاولاً أن يتعالى على حضور الموقف السياسي المسبق، لصالح البعد الإنساني الذي يختبر به الغائب واللامفكر فيه برسم صورة مغايرة للآخَر (العدوّ)، علّها تفتح أمامه أفقاً رؤيوياً مختلفاً، غير أن هذه المحاولة تُمنى في النهاية للأسف بانكسارٍ رؤيوي فادح، حينما يخفق هذا العسكري بالنجاة بإنسانيته تحت سطوة قوانين الحرب المتوحّشة: “العسكريُّ الساكنُ في حديقة بيتنا. /… الساكنُ… كأغنيةٍ ميتة/ شاهدتهُ يمشِّط بنتَ جارتنا…، ويبكي:/ قد أقتلُكِ إذا أُمِرْتُ…/… فلا تؤاخذيني”.
يبدو أن محمد العثمان لمس هذا البعد الطاغي للرؤى السوداء في قصائده، فعبَّرَ في نصه “هامش القصيدة” عن محاولته الدؤوبة لرسم زهرة مبتسمة تستجلب آفاقاً رؤيوية مغايرة، وتخلِّف وراءها تلك الرؤى المتشائمة، وهو ما يُظهره تكرار فعل “أحاول” مرتين في مطلع النص، ولعل عتبة العنوان نفسه التي تجعل من هذا النص هامشاً للقصيدة، تعني أنه ليس سوى الهامش الهارب من مركزية المتن الأسود في قصائده: “أحاول/ أحاول أن أرسم زهرةً مبتسمة/ تفتح ذراعيها للسماء/ ولا تحفر قبرها في الأرض”.
إن قصيدة “السورياذة: الإلياذة السورية” لحسن ابرهيم الحسن تنطوي على جدلٍ عنيف بين سطوة الرؤى السوداء بوصفها رؤى الحضور الراهن، ومحاولة اكتناه رؤىً متفائلة بوصفها رؤى الغائب الممكن، وهو جدل يبسط في سطحه البصري العميق صراعاً بين رؤى الحرب المتشائمة، والرؤى الثورية الحالمة، وهو الصراع الذي يتكثف بقوة في ما يعنونه الشاعر بالنبوءات، ومنها “نبوءة الماء” الرمزية التبشيرية بامتياز: “والماءُ يصعد/ ثمَّ يصعد/ ربّما جبلٌ سيروي سيرةَ الناجينَ والغرقى غداً/ جبلٌ سيصمد… حين تنهدُّ الصروحْ”.
هكذا، نجد أيضاً أن شعراء كثيرين استطاعوا أن يبثوا رؤىً تبشيرية متفائلة، وهو ما كان يجيء على حامل انفعالي رومنطيقي، يبطِّنهُ أحياناً حامل تصوّري معرفي. فها هو ذا محمد حاج بكري يقيم في قصيدته “إلى لاذقيتي” حواريةً مع البحر، هي أقرب إلى المونولوغ الداخلي الهامس، التي تنطوي على الإحساس العميق بالقلق. فاللاذقية، كما الوطن السوري بأكمله، في خطر، ولا مناصّ من الابتهال إلى البحر علّه ينقذها من المآلات السوداء، ليُختَتمَ هذا الاضطراب الانفعالي بثقة الشاعر المتفائلة باستجابة البحر منذ الصرخة الأولى: “والآنَ يا بحرَ الأحبّة/ كلُّ شيء صار مختلفاً/ عليَّ./ …/ اللاذقيةُ طفلةٌ تقتات منكَ سنينَها/ فارحم براءتها/ ومُدَّ لثغرها ثدياً لترتشف الحنين./ …/ قد عرفتُكَ عاشقاً/ بالصرخة الأولى عرفتُكَ تستجيب/ يا بحرُ لستُ أنا الغريب/ ولستَ أنتَ هوَ الغريب”.
لا تخرج لمى ديوب عن هذا المنحى الرؤيوي المتفائل، الذي ينطوي إلى حد كبير على بعد يوتوبي تبشيري، ففي نصها “مقصلة” ينشأ التوتر الإيحائي من تضادّ معنوي عميق، إذ تتمنى الشاعرة منذ مطلع النص أن تكون المقصلة قادرة على الإبصار “لو أن تلك المقصلة المتدلية من هدب إله مختلّ تبصر”، وبهذه الصورة يتحقق نزع الألفة انطلاقاً من بؤرة المقصلة التي يتكرر حضورها في لازمة لا تمنحها القدرة على الإبصار فحسب، وإنما القدرة على أن ترى بالمعنى القلبي لفعل الرؤية “تصرخُ المقصلة: إنني أرى…”. ولعل هذه الرؤيا التي تمتلكها المقصلة توسِّع الفجوة الدلالية وتموهها، مُربكةً أفق توقُّع المتلقّي، إذ ينشأ الالتباس من لحظة التساؤل عن ماهية المقصلة، وعن مرجعياتها، وهل تنطوي دلالاتها على قيم الظلم السلبية أم قيم العدالة الإيجابية؟ وربّما يضطر القارئ مُرغماً إلى تعليق الأجوبة، ليلتحق أخيراً بقفلة النص التي تبثّ رؤيا متفائلة محمولة على بعدٍ رومنطيقي شفيف: “السنابل تغني… نعم إنها تغني…/ ومالك جندلي يعزف في حمص/ الحنطةُ تنهمرُ في الشوارع… وأنا أقبِّلُ عينيكَ”.
إن خلفية المنحى الرؤيوي التفاؤلي عند أنس نادر تبقى وفية للحامل الانفعالي الرومنطيقي، ذلك أن البعد اليوتوبي التبشيري في نصوصه يحتفي بانتصار الحياة على الموت، في رمزية متصلة جوهرياً بالحدث السوري، وهو ما نراه في نصه الآتي الذي يمنح الحرية دلالة الخلود، ذلك أنها كالريح لا ظلَّ لها، وما تحمله أيضاً ليس له ظلال، لهذا هو لا يخشى الفناء: “كلُّ الأشياء التي لها ظلّ تفنى/ أما الحرية فهي كالريح/ تحمل عطرَ الشجر والزهر والمطر/ وترمي حملَها بين الأرض والسماء/ حملَها الطليق/ الذي ليس له ظلال ولا يخشى الفناء”.
في منحىً مغاير، تنهض قصيدة “بكارة الحياة” لغمكين مراد على غنائية يوتوبية متفائلة، لكنَّ رؤى هذه الغنائية تتأسّس خلفيتها إلى حد ما على حامل تصوري معرفي، وهذه المقولة لا تنفي حدّياً الحامل الانفعالي، لكنها تهدف إلى كشف ماهية فهم الشاعر للحدث السوري انطلاقاً ربّما من مقولات حركية التاريخ وحتميته. لعل هذا التأويل يستمد شرعيته من الخصوصية التي تنطوي عليها هذه القصيدة بمزاوجتها الحدسية بين البعد التبشيري المتفائل، ورؤى الولادة والخصوبة والانبعاث: “سأقلِّص رفقةَ الليل/ وأجعل الصباح يمتطي طريقي/ ويقود حلمي بعيداً/ إلى خارج أسوار الصخب/ يُغريني الصباح/ ويُخفِّف النَّفَسُ الريفيُّ/ تطفُّلَ الحياة عليَّ/ يُعبِّئ سنام الروح/ لولادة عسيرة في فجرٍ جديد/ حالماً بالكلمات/ حُرّاً بالشارع/ صِنوان لبقاء/ وإن لم يكن ففناء باختيار/ دعني يا غيبُ/ أفترش الأمل/ وأتغطّى بحُلمٍ/ يبتسم لحظات/ ويبكي لحظات/ على أسرّة مفروشة/ أزيِّنها بدم بكارة الحياة”.
في المنحى نفسه، تؤسِّس ندى منزلجي رؤيتها اليوتوبية المتفائلة على حدس انفعالي لا يخلو من خلفية فهم تصوري معرفي للحدث السوري، ولا مشكلة في ذلك ما دام الشعر في أحد تعريفاته هو معرفة حدسية، وما دامت هذه المعرفة تمدّ النصوص بطاقة مجازية وإيحائية خلّاقة، وهو الأمر الذي يولِّدُ معادلاً فنياً جمالياً نراه في عوالم هذه الشاعرة. الفرادة التي ينطوي عليها نصها، “فريدة في صيغة الجمع”، تستحق التأمّل طويلاً، حيث تنجح الشاعرة في إحضار الغائب الجميل، من دون تغييب الحاضر القبيح، فتشبِّه الوليدَ الرضيع بالثورات، وتجعله كما الثورات يمتصّ الحليبَ – الحياة من ثدي التراب الذي ينطوي على كثافة مجازية عالية تجمع دلالةَ الأم القتيلة والمدفونة فيه، ودلالة الأرض التي تتجدَّد فيها الحياة باستمرار، كأنّها تقول إن تضحيات هذه الأم – الثورة هي التي ستبعث الحياة الجديدة: “الوليد اليتيم/ كما الثورات/ يلتمس حلمةَ أمّه/ أمُّهُ القتيلة/ كما الثورات/ تعصر له الحليبَ/ في نومها الطويل./ …/ الوليد النهِم/ كما الثورات/ من ثدي التراب/ يمتصّ/الحياة”.
مكابدات التشظِّي والتشتُّت في ضوء تمزُق سؤال الهوية
يمثّل الانتقال من تشظي النص إلى نص التشظي تحدياً وجودياً – جمالياً للشعراء الطامحين بتفكيك وحدة العالم الشعري، ونسف نظامه المتماسك، وتحرير مفرداته من دلالاتها المهترئة القديمة. لكنَّ الملاحظة الجوهرية في هذا الكلام تكمن في أنَّ الانتقال إلى نص التشظي يرتبط عضوياً بتشظي الذات الشاعرة نفسها، وتمزّق وحدتها المركزية، وتشتُّت عوالمها المستمر، إذ لا يُمكن في حال من الأحوال فصل اللغة عن الوجود، والتشظي ليس حركية اللغة المجردة المتعالية كما فَهِمَ خطأً كثير من شعراء ما بعد الحداثة، بقدر ما هو حركية الموجود البشري المبعثرة في عالم القصيدة اللغوي.
إن حضور التمزق الذاتي في نص التشظي، يُظهِرُ غياباً سافراً للأجوبة المطمئنة الحاسمة حول أسئلة الهوية الفردية والجمعية القلقة، ولا سيما في ظلّ التشتُّت الوجودي الراهن الذي ولّدته الحرب السورية، وهذا ما يمكن أن نلمسه بجلاء عند كثير من شعراء هذه المرحلة. تنجح رشا عمران إلى حد كبير في ديوانها “بانوراما الموت والعزلة” في تخليق هذا الائتلاف بين تشظي الهوية الذاتية وتشظي الهوية اللغوية، وهي المسألة التي تظهر بوضوح حينما تنبثق في نصوصها تلك الصور الجزئية والكلية المتنافرة، والمحتفية بمناخ تراجيدي مُرعب، ومُحكَم الالتصاق بجماليات القبح: “وفي آخِر الليل أعيد أعضائي المبعثرة إلى أمكنتها/ قد أضع أصابعَ اليد اليمنى في القدم اليسرى،/ وقد أخطئ في ترتيب تفاصيل وجهي،/ وقد أضعُ القلب مكانَ إحدى الكليتين…/ لكنني إذا ما استيقظتُ صباحاً سأدركُ أنني/ استيقظتُ كجثة مكتملة”.
يضعنا هذا النص الذكي وجهاً لوجه أمام فكرة تهافت الوجود الإنساني العام، انطلاقاً من رسم صورة مجازية كلية تحوِّل الذات إلى مسخ بشري قبيح. وتبلغ الدلالة الإيحائية ذروتها المدهشة في القفلة التي تنهض على التناقض والتضادّ الحاد بين الاستيقاظ صباحاً (أي أن يكون المرء حياً بالمعنى الحقيقي للكلمة)، والموت المجازي (أي أن يكون المرء جثة مكتملة أو مومياء وهو حي)!
على النحو نفسه، تبعثر بسمة شيخو الوجود البشري المتهافت، وتعرّيه انطلاقاً من تبعثر العالم الوقائعي اليومي المثخَن بويلات الحرب، وهيَ إذ تُبقي موضوعة الحرب مقنَّعة في نصها الآتي، لكنّها تبثّ الدلالة بإحكام يستند إلى مناخات مأسوية مخيفة، باسِطةً أسئلة الهوية الممزقة عبر جماليات تحتفي جنائزياً بالقبح والعار وفقدان الأمل: “الفقرُ ينبح في الشوارع،/ يتجوّل ليلاً في الأحياء التعيسة/ يوقظ الجوعَ النائمَ منذ سنين/ على عتبات المطابخ،/ ويقضّ مضجعَ البرد، يُبكي أغطيتَهُ الممزّقة،/ يملأ الخوف بالرغبة/ فيغتصب نساءَ البيوت البعيدة/ يُنجبنَ أطفالاً/ لا يشبهون ذاكَ الرجل النحيل/ على ضفة السرير،/ أطفالٌ خائفون/ باردون/ جائعون/ بضاعة مثالية لسوق المستعمَل/ كأيِّ رداءٍ يتيم/ يغنون أناشيدَ الصبح/ ويقتاتون من ندى الأيام الباردة،/ يلاحقونَ الفقرَ/ ويرمون عظامهم بين أنيابه،/ يبكي هو من الضحك/ ويضحكون هم من الموت،/ فوق الغيمة/ يراقبونَ الرجل النحيل،/ يتأمّل صورَهُم/ ولأوّل مرة يلاحظ الشبه بينه وبينهم/ يسرح في لمعة عيونهم/ نباحٌ عالٍ مرة أخرى!/ يعانق زوجته/ وصور أطفاله/ وينام بهدوء فوق الغيمة”.
إن انفتاح قصائد عبد الكريم بدرخان على سؤال الهوية الملحّ، يمرّ عبر إحساس جامح بالاغتراب والتمزّق والرؤى السوداء، ويعكس التشظي الذاتيّ الخاص تراجيديا التشظي الوطني العام، وهذا ما نلمسه بوضوح صارخ في قصيدته “هواجس ليلية” التي تحضر فيها الحرب حضوراً سافراً عبر الإشارة إلى حال البلاد ونشرات الأخبار، وفي ظلّ انبساط مناخ أقل ما يقال عنه إنه مناخٌ جنائزي كئيب، تنبسط عبره أسئلة الوجود الهويّاتية بدءاً من مساءلة كينونة الذات الواقعة تحت سطوة دوامة عنيفة لا تستطيع أن تنفصل فيها عن المستوى المأسوي للحرب، ليتعمّق الشرخ النفسي – الجسدي لدى الشاعر، وتتباعد ذاته عنه في ضوء التشظي الوطني العام: “وجهُ المدينةِ غارقٌ بدموعه/ مثلي/ وريحُ اليأس تعوي في الخراب./ أرنو إلى وجهي… فتنكرني المرايا/ من أنا؟!/ اختلطتْ ملامحنا/ وذابتْ في الضبابِ./…/ الآنَ لا أحدٌ يجامل حين يسألُ:/ “كيفَ حالُكَ؟”/ صار للكلماتِ معناها/ وحالي مثلُ أحوالِ البلادِ/ ترونني في نشرةِ الأخبارِ/ في الجسدِ الممزّقِ فوق أسنانِ الحرابِ/…/ وكأنني أحدٌ سوايَ/ أوانَ أضحك ثمَّ أبكي/ أو أموت لعلّني أحيا/ وأصرخ ثمَّ أخبو/ مثلما يخبو شهيق الحزنِ في وترِ الربابِ”.
في الإطار نفسه، يؤسِّس حكمة شافي الأسعد التشظي الذاتي الخاص انطلاقاً من التشظي الوطني العام أيضاً، ويسعى بوضوح إلى شحن اللغة بإيحاءات تركيبية متنافرة تقود بعض نصوصه إلى تفجير وحدة “اللغة – الوجود”. فها هو ذا يبعثر العلامات في نصه الآتي انطلاقاً مما يبدو من حيث المبدأ تمركزاً على مفردة “السكّين”، ولعل التكرار المستمر لهذه المفردة – البؤرة يمكِّنُها مجازياً من التمدّد الدلالي الذي يبسط هوية التشظي، ولا سيما في ظل تجريد أوّلي واضح لا تقلِّل من حضوره أل التعريف عند كل تكرار لمفردة “السكّين”، لتتدخّل الخبرة التأويلية أخيراً لرأب الصدوع ولملمة الشظايا المعنوية المتناثرة وتجميعها في دلالةٍ قد يصعب أن تغادر فضاء التمزّق الوطني الذاتي والجمعي: “السكّين قصيدة حضارية/ ألّفها قومٌ، ويحفظها أطفالُ قومٍ آخَرين./ السكّين أتقنت اللغة العربية/ وحرّفتها/ السكّين تذبحُ شاعراً/ ولا تمشي في جنازته/ السكّين تقف خلف الكرسي/ ولا تجلس عليه/ السكّين غلامٌ نبيهٌ/ يُباع في سوق الصاغة، وليس في سوق النخاسة/ السكّين معدنٌ محلّيٌّ/ لا يصدأ ولا يُخلَقُ من عدم/ السكّين هي مجلس الشورى/ والبيان الصادر عنه/ السكّين فاعلٌ صامتٌ/ لا يسأل ولا يجيب/ السكّين هيَ القشةُ التي خلقتِ الأعداءَ/ واستدعتِ الطائرات لإنقاذها/ السكّين تكسر البابَ فلا يُغلَقُ أبداً/…/ السكّين لا تعرف الألم/ السكّين لا تعرف الندم”.
ومثلما تأسَّست هوية التشظي عند حكمة شافي الأسعد انطلاقاً من تكرار مفردة “السكّين”، تتأسّس هذه الهوية عند خلود شرف انطلاقاً من التكرار اللفظي أو المعنوي لمفردة “العبور”، التي ترتبط عميقاً بعتبة عنوان النص المسمَّى “مهاجرون”، وما يبدو في الدلالة البصرية السطحية عبوراً، ليس في دلالته البصرية العميقة سوى قيد أو سجن يعكس تمزّق وحدة الهوية الذاتية والجمعية، وهو ما تولِّده بإيقاعية لافتة حركية الوجود اللغوي في عالم النص، التي تتنامى بصخب أشبه بموسيقى جنائزية رثائيّة كلية، تنتهي بقفلة لا تفضي إلى وصول مطمئن لهذا العبور بقدر ما تفضي إلى هوة عدمية مفتوحة: “عبروا الغيبَ منهكين/ وصلت الأشجار قبلهم/ ومواء القطط، والطيور/ والأضواء التي رأوا وجوههم من خلالها في المرآة/ والأحلام عبرتْ خفيفة كريشة/ حتى الكوابيس عبرتْ/ وما دوّنوهُ على دفاتر وكتب وأبواب / ما دوّنوهُ على الخشب/ وعلى الشبكة الذكية/ وعدسة التصوير/ والغيم الذي راقب طويلاً فبكى/ والحَرُ الذي مرَّ من هنا في الأمس قد وصل/ والسماء مرّتْ على كسل/ أوغلوا جميعهم في الوصول/ وما بقيَ سوى عكاز أبي على كتفي/ فما وصلنا بعدُ إلى معنىً/ نحن مَن صنعَ الحدود/ ونحن مَن صدَّق”.
في الانتقال إلى نموذج مغاير من نماذج التشظي، يبدو علي جازو كأنه ينطلق من طريق معاكِسة تبدأ من تفجير الهوية اللغوية، في اتجاه تفجير الهوية الوجودية، على أن يُفهَم هذا التمييز من الزاوية النظرية البحتة لا الفعلية الحدّية. ذلك أن الهدف منه هو تلمُّس بعض ملامح الخلق الشعري في إطار مكابدات التشظي والتشتّت عند الشعراء، ولا سيما في ظل تمزق أسئلة الهوية ذات الأجوبة المرجأة. على أن علي جازو يسعى إلى تحرير الدال قدر المستطاع من ارتباطاته العلاماتية مع المدلول، محتفياً بقصدية الوجود المنفتح على احتمالاته الماهوية المستقبلية، على حساب قصدية الوعي المتمركز على الدلالات المسبقة. فإذا كانت اللغة بهذا التفسير هي “بيت الوجود” بحسب هايدغر، فإن هذا البيت يمتلئ عند الشاعر “بضوءِ مفاجآتٍ سوداء”، ولعل نظرة متفحِّصة لمحور الاستبدال تُظهِر صعوبة أن تحلّ مفردة أخرى مكان مفردة “ضوء” في علاقتها التركيبية مع “مفاجآت سوداء”، وهو الأمر الذي يخلق بقوة مسافة توتر يصعب طيّها على معنىً مستقرّ، ولا سيما عندما يُقفَلُ المقطع بعبارة “عراةً نتموّج”: “الموتُ هذا الحارسُ الجاهل/ مع ذلك،/ نصغي إلى مياه الملائكة الممزّقة/ كبيت يمتلئ بضوءِ مفاجآتٍ سوداء،/ عراةً نتموّج”.
في الإطار نفسه، يُمعن جولان حاجي في حركية تفجير الهوية الوجودية انطلاقاً من تفجير الهوية اللغوية، مبقياً الدلالةَ نائسةً تائهة في نصوصٍ تتقن فنَّ الحذف إتقاناً يفتح الاستعارات على فضاءٍ عريض من اللعب الحر للعلامات، وينتزع من هذه النصوص إلى حد بعيد وحدتها العضوية بالمعنى الكلاسيكي للمصطلح: “الضبابُ بخارُ كلمةٍ نُطِقَتْ ولم نسمعها./ الحائراتُ رأينَ هلالاً أرقّ من خيط العنكبوت/ مزّقهُ الصيادون./ آذانهُنَّ علامات استفهامٍ/ سقطتْ أقراطُها في الوحل/ برّاقةً كعين ببغاء/ لم يُلقَّنْ إلا كلمةً وحيدة:/ وداعاً”.
يلاحظ القارئ المتمعِّن الكيفية التي فخّخ بها جولان حاجي المعاني هنا، مطلقاً التداعيات المتوالدة لا مروِّضاً لها، ومشوّشاً الدلالات الجزئية على أقلّ تقدير لتبقى مستعصية على التقييد، وهو الأمر الذي يدفع المؤوِّل في كل مرة يقرأ فيها هذا النص إلى الاكتفاء ربّما فقط بالحديث عن دلالة كلية تتأسَّس على تشظي لغوي يعكس تشظياً هويّاتياً عاماً!
على هذا النحو، يمارس حمزة رستناوي فنّ الحذف بنجاح في نصه الآتي اللافت، مانحاً هذه الآلية دوراً وظيفياً لا غنى عنه في نزع الألفة، وفتح بؤرة المعنى على مسافات التوتر المنشغل بمكابدات التشظي، وأسئلة الهوية ذات الأجوبة المعلّقة، وهو ما يؤدي إلى تخليق حقول مجازية مولّدة لدلالات رمزية ثرية، يتحاشى بها ضغط الراهن المباشَر، ويحتفظ بطزاجة الغياب الحار: “النجوم تحدَّق في المذبحة/ يتفكّك ضوؤها/ لتعيدَ كتابة اسمها/ بعيداً عن صحبة القمر”.
لا يخرج أحمد م. أحمد عن التقاليد العامة للتشظي الهويّاتي المنتشر في المشهد الشعري الراهن، محاولاً في قصيدته ذات الخصوصية الفنية “أحرقتُ سفني إلا نعشاً”، أن يفتتح سؤال الجسد المسكوت عنه أو غير المفكَّر فيه بوصفه سؤالاً يبحث عن كينونةٍ غائبة غياباً مزمناً، في ضوء الحضور الطاغي لانتهاك هذا الجسد في المأساة السورية، ولذلك يحوِّله إلى بؤرة دلالية معادلة رمزياً للنعش، معتمداً التضادّ بين الحياة والموت (الجسد – النعش) على السطح البصري الخارجي، ومرسِّخاً التماهي الوجودي بينهما في نبرةٍ عبثية – عدمية تنبسط شاسعةً في السطح البصري العميق، ولهذا يُرجئ حرق هذا الجسد – النعش ما دامت أسنانُ الحرب والموت ستنهشه قريباً، مختتماً هذا المناخ الرمزي المأسوي بقفلة مباشرة يطلق عبرها صرخةً نافرة تدلّ على مدى شعوره بتمزق هوية الذات الفردية والجمعية، وتنتقل بدلالتي معجزة الإسراء أولاً، ومعجزة السير فوق الماء ثانياً، من حقلهما الديني الإيجابي إلى الحقل الوقائعي السلبي، وهو ما ينطوي عليه انزياح سيرِ السوري (أي غرقه) فوق الدم: “جسدي/ النعشُ-/ ال “لم يلد/ ولم يولد” ولن…/ لا أحرقهُ الآن،/ ثمة بقية من أسنانٍ/ ستنهش/هذا الخشب الهشَّ./ لعمري/ السوريُّ أُسرِيَ به/ من الوجع الأقصى/ إلى القتل الحرام…/ مشى فوق الدم”.
طموحات تجريبيّة حارّة
يوصف التجريب بأنه محاولة دائمة للانفصال والانشقاق وقتل الآباء الشعريين، ويهدف إلى تفجير اللغة، وكسر الأنماط الإيقاعية القديمة، وإعادة شحن المفردات المهترئة بطاقات دلالية مغايرة، وحشد مفردات جديدة مستمدة من معجم الواقع الجديد المعيش، واقتحام فضاءات شعرية مختلفة لم تُقتحَم من قبل.
ولمّا كانت صلة التجريب بالتجربة صلة أصيلة، فلا مناص من التساؤل عن المدى الذي بلغته تجربة الثورة والحرب السورية في دفع الشعراء لخوض محاولات تجريبية تحاول اكتناه الغائب والمسكوت عنه وغير المفكَّر فيه؟
في هذا الإطار، تعدّ النبرة التهكّمية في أدبيات الحداثة الشعرية من تقنيات التجريب اللغوي البارعة، وهذا ما نرى جوانب منه في نصوص مديحة مرهش التي تحاول أن تزاوج بين قدرة المفارقة الشعرية على انتزاع الدهشة العارمة من المتلقي، والمشهدية التهكّمية المنبسطة في عالم النص بمرارة شديدة الالتصاق بالحدث السوري: “شللٌ يباغتني،/ أتلاشى كشمع يذوب في حريق/ كلما حاولَتْ/ يدي اليمنى أن تنضمّ إلى يُسراها/ لأُمثّلَ حركةَ تصفيق لأولئك المهرّجين،/ قلبي يرقص فرحاً لفشل أدائي”.
من الواضح أن هذا المقطع ينطوي على محاولة تجريبية جادة، ولا سيما إذا ربطنا بينه وبين سعي الشعراء المجرِّبين إلى التملّص من سلطة الآباء الشعريين، بهدف خلق كتابة وجودية ملتصقة بالتجربة الشخصية. ربّما لهذا السبب تعتمد الشاعرة في مقطعها السابق على صورٍ حسية لا ذهنية لأنها أكثر قدرة على منحه حرارة ذات صدقية أكبر من ناحية، ولأنها تساعد النبرة التهكّمية على بلوغ تأثيرها العميق من ناحية ثانية، وذلك بما لا يتعارض مع ترميز يفتح الدلالة على تأويلات كثيرة تكمن بؤرتها في التساؤل عمّن هم هؤلاء المهرجون الذين يفرح قلبها لإخفاقها في التصفيق لهم!
في منحىً تجريبي مغاير، يحاول مخلص ونّوس في تجربته “مقام آرام على وزن الدمعة”، أن يؤرِّخ الحدث السوري الراهن شعرياً، لكنْ ليس بمعنى توثيق الحوادث، إنما بمعنى خلق معادل وجودي فني يؤرِّخ للمدن والبلدات والشهداء في نص جديد يمثِّل زيادة زمكانية في الوجود، تتحقّق عبر الاتكاء على عناصر غائبة تربط بين الأمكنة والأزمنة، وتنفتح على رموز ودلالات تاريخية، وتعتمد على أوصاف ذات صلة بخصوصيات تفصيلية باتت من ذاكرة الحدث السوري تبعاً للمكان المكتوب عنه، فضلاً عن الاعتماد على مقاطع رباعية شديدة الإيقاعية، وشبيهة بالومضات الشعرية المتفجِّرة. فها هو ذا على سبيل المثل يربط بين بلدة مورك الواقعة في ريف حماه، ورمز تاريخي شهير هو قناة العاشق التي شقّها قبل ألفي عام أمير منطقة سلمية بطول مئة وخمسين كيلومتراً، ليوصل المياه من قرب قلعة شميميس في سلمية إلى أفاميا، ولتكون هذه القناة مهراً لابنة ملك أفاميا الواقع في حبِّها: “موركٌ بوركتْ يداكِ غراسا/ كرماً روَّضَ الزمانَ وساسا/ موئلُ الطِّيبِ، نبضةُ العزِّ، ماءٌ/ من أفاميا حتى شميميس ماسا”.
في الانتقال إلى محاولة تجريبية أخرى، نجد علي سفر في “يوميات ميكانيكية”، يطمح إلى توثيق الحدث السوري الحاضر، انطلاقاً من مكافِئات ذاتية موازية أو متقاطعة مع هذا الحدث من ناحية، وساعية إلى استنطاق الغائب من ناحية ثانية. وهو إذ ينشر كتابه هذا تحت مسمَّى “اليوميات”، يفتح في مقاطع كثيرة الشعري على السردي أو الدرامي أو الملحمي الشخصي إذا صحّ التعبير: “طريقُ الغابة محفوف بصرخة/ لم نستطع أن نفسِّرَها…!/ امرأةٌ اغتصبها قاطع طريق/ امرأةٌ ضلّتْ طريقَها/ وأخافَها كلبٌ أسود مرَّ في العتمةِ/ امرأةٌ تعرف طريقَها/ ولكنّها تعثَّرَتْ بحجر/ امرأةٌ تمارس الحبَّ مع حبيبها/ و…/ بالتأكيد هيَ امرأةٌ/ ووحدهُ طريقُ الغابة/ يعرف سرَّها”.
يباغتنا هذا المقطع اللافت برمزية تتأسّس على مشهدية سردية تبدو للوهلة الأولى مفكَّكة، غيرَ أنَّ الانقطاعات القائمة في هذه السردية، هي نفسها التي تنفخ الروحَ في مسافة التوتر، مولِّدةً حقولاً مجازية عالية الكثافة قد تغري القارئ بترجيح تأويلٍ ما، ما دام يستطيع أن يُحيل هذا التشظي الرمزي باطمئنان على الحدث السوري، وما دامت المرأة التي جُرِّدتْ من أشياء كثيرة في عالم النص، وعانتْ ما عانتْ، وظلَّـتْ على الرغم من ذلك محتفظة بسرّها الذي لا يعرفه إلا طريق الغابة، ليستْ في النهاية سوى سوريا!
إنَّ تجربة محمد المطرود في كتابه “اسمُهُ أحمد وظلُّهُ النار”، الذي نشرَهُ تحت جنس “نصوص”، تكتسب شرعيتها التجريبية بسعيها الدؤوب للانتقال من علم جمال الخطابة إلى علم جمال الكتابة، ومن المسموع إلى المرئي، ومن الأشكال المسبقة إلى الكتلة الطباعية الواحدة، وهذا ما نجده مثلاً في نص “فصل العبور” الذي يتلاعب فيه الشاعر بمستويات الخطاب، منتقلاً بلا حدود واضحة المعالم من ضمير المخاطَب إلى ضمير المتكلِّم، وجاعلاً من حدث العبور قناعاً للذات الفردية والجمعية الممزّقة، وهو إذ يبقى على المستوى العام للنص في إطار الدلالة المعجمية القريبة، غير أنه يتجاوز هذه الدلالة بإقامة استعارة كلية تتملّص من علاقات المشابَهة الذهنية لصالح علاقات التفاعل المرتبطة عميقاً بالتجربة السورية القاسية، وهذا ما يفسِّر بثّ النص لمناخ وجودي قلِق كئيب ينحو كثيراً في اتجاه التشاؤم، ولهذا أيضاً تأتي شجرة العنب في خاتمة النص، ودمعُها الذي صار خمراً، لا بوصفها تحضر النشوةَ فحسب، إنما بوصفها تُغيِّبُ الوعي القاسي الذي يُبكي الرجال: “كيفَ عبرتَ الحدودَ يا أحمد وتعلّقتَ بسُرّةِ الموتِ أخيراً؟!/ الحدودُ سلكٌ شائكٌ ومَخفرٌ للجُندِ، حقلٌ من الشوكِ وأغنيةٌ/ مجروحةٌ ودمٌ ينزُّ من جسدٍ فتيّ. كانت خلفيَ النارُ إذا/ تحدثتُ عنِ الغدِ “الصّارَ”/ بعيداً، وعبرتُ، ونسيتُ في زحمةِ الخوفِ ولدي وقلبي/ وعيني وبعض جسدي التَّعِبِ إذ ضاقَ بأعبائهِ ومنها فُجاءَةُ/ العبورِ، ونسيتُ ما نسيتُ شجرةَ العنبِ، ولم أتذكَّرْ أنْ / أسكرَ بها، أنْ أسكرَ، يقول الحكيمُ المَخمورُ: شجرةُ العنبِ/ ودمعُها الذي صارَ خمراً، لا تخذلُ، فلا تخذلها./ الأشجارُ كالرجالِ تبكي ودمعُها غالٍ”.
في منحىً مختلف، يأخذ التجريب عند عماد الدين موسى أبعاداً أخرى تنبسط عبر ما يمكن تسميته بالنمو الدرامي المقطعي، أو التشظي المقطعي، كما في نصه “كجندي مُنشَقّ للتو، وبفردة حذاء واحدة”، حيث ينهض تلقي مثل هذه التجربة على مرحلتين، فتبدو المقاطع في المرحلة الأولى مبعثرَةً منفصلة عن بعضها إلى حد ما، وقد يتراءى للقارئ أن معانيها مشوشة مضطربة وصعبة المراس، لكنَّ هذه الانطباعات لا تلبث أن تتلاشى في المرحلة الثانية من التلقي، التي تسدّ فراغات هذا النص عبر تقليص الانزياحات، والقبض تأويلياً على ذلك الخيط المجازي الشفيف الذي يشدّ المقاطع إلى بعضها، والذي هو في هذا النص ليس سوى موضوعة الحرب، والتي تدوَّن فنياً هنا بما يشبه الخواطر الشعرية: “1- في يدي زهرةٌ/ أريدُ غصناً لها/ وعلى كتفي طائرٌ/ يرغبُ في زهرة./ في الحقل شجرةٌ تشتاقُ الزقزقات/ وتتحسَّسُ بين أغصانها دفءَ الأجنحة،/ وفي عيني حُلمٌ مقصوص الجناح. 2- تتمدَّد الأيام تحت سريري/ كأنها أفاعٍ أليفة…/ تتكاثر كالنمل/ وكالعشب تختفي. 3- حيثما بدأت الحربُ، أحبُّكِ./ كيفما تنتهي الحربُ، أحبُّكِ. 4- كجندي منشَقّ للتو/ وبفردة حذاء واحدة/ أظلُّ أحبُّكِ. 5- تستطيع أن تتعطّر بقليل من البارود/ قبلَ أن تذهبَ إلى موعدكَ”.
تبدو تجربة مها بكر في نصوص “الفايسبوك – فرع سوريا” شديدة الخصوصية التجريبية والذكاء الفني، فهي تتعمَّد أن تحتفظ بالحدث السوري بوصفه بطانة وجودية لا غنى عنها في نصوصها، لكنها تنزاح في علاقتها الجدلية بين الذات والموضوع من الفضاء الوقائعي إلى الفضاء الافتراضي، وذلك في محاولة طموحة لخلق وثيقة شعرية جمالية تؤرِّخ للحالة السورية الفايسبوكية في زمن الثورة والحرب، وهكذا تقوم بإحضار أصدقاء صفحتها إلى عوالم النصوص ممّن تعرفهم من قبل، وممّن عرفتهم افتراضيّاً، لتؤسِّس معهم حوارية لا تخلو أولاً من البعد الشخصي المرتبط بالحالة العامة، وتنفتح هذه الحوارية ثانياً على معجم ثري تغرف تناصّاته الغنية من معين الأعلام والرموز وأسماء المدن والأمكنة والتاريخ وعناوين الكتب والقصائد ومصطلحات النقد ونظريات الفن وعلم الجمال. فها هو ذا مقطع من نص بعنوان “منذر مصري”: “منذريوس الأول…/ منذريوس الأخير…/ وعفواً جوليا كريستيفا،/ أنا لا أحتاج إلى غرفة للكتابة،/ أجرُّ هذا الرعويّ معَ أغنامي،/ إلى بحيرة وان،/ وأُرضعُهُ من أصابع قدميَّ، منَ النسغ الأبديّ،/ من رائحةِ الفحم،/ من رهافةِ الحجر،/ وآلام أسلافي العظيمة،/ ليُقفِلَ كلَّ قصيدة نثرٍ،/ يفتحها على العالم برحيقي،/ بغيومي الميتة في حدقتيه،/ إذ كلما أمطرَ/ شيَّعوا قتيلاً بينَ سطوري”.
خاتمة
تحاول هذه المقاربة أن تبيِّن الملامح العامة لتجارب شعر الثورة والحرب الراهنة في سوريا، وتظهر بجلاء عمق الجدل الوجودي الفني الدائر بين الذات والموضوع في مستوىً جدلي أول، وبين الحرب الظاهرة والحرب المقنَّعة في مستوىً جدلي ثانٍ، وترصد بعض التحولات التي تطرأ داخل عوالم النصوص على مواقع انفتاح الحضور والغياب.
لا بدَّ في هذا السياق من الإشارة إلى بعض الملاحظات الضرورية، فإذا كان الحديث عن ولادة شعر جديد ومغاير طموحاً مشروعاً من حيث المبدأ، فإنَّ هذا الطموح يصطدم بعاملين موضوعيين ينبغي أخذهما في الاعتبار، أوّلهُما عاملٌ زمانيّ يتعلق بحاجة الشعر إلى “مسافة زمنيّة” تبعده عن انفعاليّة الحدث كي يستطيع تمثّله فنّياً، ولا تعني المسافة الزمنيّة هنا مرور وقتٍ طويل فحسب، وإنّما تعني أيضاً قدرة الشعراء الخلّاقة على توليد مثل هذه المسافة تأويليّاً وهم ضمن الحدث نفسه، وهذا ما يتطلّب نمطاً من الدربة الاستثنائيّة النادرة. العامل الثاني يتعلّق بالجانب المكاني، ذلك أنَّ نسبة كبيرة من الشعراء السوريين قد انتشروا خلال السنوات الأخيرة في دول العالم، وباتوا يقاربون الحدث السوري من بعد، فضلاً عن اختراق تجربة الغربة والبيئات الجديدة لعوالم قصائدهم، وهذا ما يفتح الباب واسعاً لبحث مطوَّل ليس مكانه هنا عن التحوّلات الهويّاتيّة في أشعارهم!
وإذا كان لا مناص من الكلام بالمعنى التاريخيّ عن جيل شعريّ يوصف بأنه جيل الثورة والحرب، فإنّ مسألة التحقيب الفنّي لا تزال بحاجة إلى مزيد من الجهود، ولا سيما في ظلّ الكمّ الهائل الذي يُضَخّ من الشعر ويصعب حصره. ففي سوريا توجد فضلاً عن الجيوش المتصارعة جيوشٌ من الشعراء، مع الإشارة إلى أنَّ الشاعر الواحد قد تنطوي تجربته على أكثر من اتجاه أو تيار فني، ناهيكم بأن أي بحث يحتفي بالبعد الجينيالوجي لشعر هذه المرحلة، عليه أن يضع في حسبانه أن الحقيقة وفق نيتشه تُخفي خداعها بإظهاره في المجاز، فالوجود أساليب مختلفة لخداع مجازي يتمّ فيه خلقُ منظومات القيم وتوليدها في فضاءٍ تفاضليّ تتصارع فيه القراءات والتأويلات.
النهار