مقاربتان بصريتان للنزوح السوري/ حسان عباس
ذكر الموقع الرسمي للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (يوم الجمعة 14 آذار 2014) أن عدد النازحين قسراً عن منازلهم في سوريا تخطّى التسعة ملايين نازح، أي ما يقارب40% من عدد سكان البلاد، مما يجعل من سوريا أكثر دول العالم شهوداً للنزوح القسري. وتقدر نسبة المهجّرين (أي النازحين خارج الحدود) من هؤلاء بحوالي الربع تقريبا.
بعيدا عن الأرقام المخيفة لجيوش النازحين والمهجرين هذه، ثمّة حكايات وقصص عديدةٌ عددَ الناس المتشاركين بصفات نازح، لاجئ، مهجّر، مطرود… لكل إنسان اسمه، وإحداثياته الخاصة، وحكايته الحميمة. وأخطر ما في دنيا الإعلام المهتم بقضايا المصائب والويلات الجمعية أنه يغيّب هذه الحكايات تحت أنقاض الأرقام وخلف وهم الصورة المثيرة. ومن حين لآخر، تظهر بعض الأعمال التي يبحث فيها محترفون أو فنانون أو ناشطون عن تلك الحكايات الخاصة ليخرجوها من قيعان الأرقام الرمادية ويضعوها أمام مجاهرهم الفنية كشهادات عن الحقيقة التائهة في تدافع الأحداث.
نتوقف في هذا النص أمام عملين من بين هذه الأعمال: الأول هو “نحنا مو هيك” للمخرجة اللبنانية “كارول منصور” وقد عرض لأول مرة في السابع من شهر تشرين الأول الفائت، في صالة أمبير صوفيل في بيروت، أما الثاني فهو فيلم “آهات الحرية” الذي أغفل اسم مخرجه وأسماء الفريق التقني أثناء عرضه على قناة الجزيرة، وكان عرضه الأول يوم 12 آذار.
الفيلمان يتشاركان في توجههما الإنساني. حيث ينتخب المخرجان نماذج من المهجّرين ممن يمكن القول إنهم ينتمون إلى شرائح متنوعة من ذاك المجموع الهلامي من المجتمع الذي يطلق عليه عادة اسم الطبقة الوسطى. تحدد “منصور” نماذجها من النساء في حين ينتقيها مخرج الفيلم الثاني من الجنسين دون تمييز. لكن النماذج في الفيلمين تشترك في كونها ذوات حكاية. ويكاد مخرجا الفيلمين يتشاركان في الأسئلة المفتاحية ذاتها لفتح أبواب الحكاية: سؤال الماضي/ ما قبل الثورة، وسؤال الخروج، وسؤال الراهن أو المنفى. لكن ثمة اختلافا كبيرا بين الفيلمين في بنيتهما مما يبرز التباين بينهما رغم التماثل، لدرجة التطابق تقريبا، في الموضوع وفي استنطاق الحكاية.
تعتمد “منصور” بنية هندسية صارمة لعملها تتميز أولا بتمركز الأطر المحيطة بالحكاية. فالعمل ينفتح بداية على مقدمة عامة محكية بصوت خارجي ومدعومة بصور فوتوغرافية ثابتة من أرشيف المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، ثم تنتقل إلى إطار أصغر لتحكي عن مأساة النزوح السوري مع لقطات عامة عن المخيمات، ثم تنتقل إلى إطار أصغر أيضا تقدم فيه الشخصية صاحبة الحكاية لتستقر أخيرا على الحكاية ذاتها مروية بصوت صاحبتها. وتتميز ثانيا بالتقطيع الزمني لمدة الفيلم إلى خمسة حصص تكاد تتساوى في مددها. كل حصة مهداة إلى واحدة من الشخصيات لتروي فيها قصتها، “دراماها” الخاصة، متكاملة، مما يتيح لها قوة الحضور ويتيح للمشاهد وقتا كافيا لتشبع الحكاية.
وتتميز ثالثا باستخدام كاميرا حيادية، باردة، تتلاشى أمام الشخصية حتى تكاد أن تذوب.
أما مخرج “آهات الحرية” فقد اعتمد بنية أكثر قلقاً لفيلمه. حيث لم يضع أي إطار للحكايات، لأن فيلمه هو الحكاية، وما الأشخاص الذين استنطقهم (وكاتب هذا النص واحد منهم) إلا أدوات للفيلم وليس الفيلم أداة لهم كما عند “منصور”. الحكاية في الفيلم هي حكاية المنفى. والمنفى حكاية الجميع فلا حاجة لمن يقدّم لها أو يؤطّرها. هكذا ينفتح الفيلم على الكلام وينتهي بالكلام بلا تمهيد أو استخلاص. فالمخرج لا يبحث عن نماذج تعيش حالة المنفى وإنما يبحث عن المنفى كما يتمثل في الإنسان. والمنفى تشتت، وقلق، واضطراب لذلك جاءت بنية الفيلم مثل ثوب الرقع (باتشوورك) لكل قطعة لونها وحجمها وأصلها، وهي حين تتراصف مع بعضها فلأن المخرج الذي يلهو بها، كطفل يلهو بقطع من نسيج تكوّمت أمامه، أراد لها هذا النسق من المونتاج. أما الكاميرا فهي لعوب هي الأخرى، فتُقدم وتتراجع وتواجه وتخاتل لتثبت وجودها كحكواتي بصري يروي لنا قصة المنفى.
في “نحنا موهيك” الشخصية هي الحكاية، أما في “آهات الحرية” فالمنفى هو الحكاية، وفي الحالتين نجح المخرجان، كل من وجهة نظره، وكل حسب حساسيته، في مقاربتهما البصرية لمأساة النزوح السوري.
المدن