صفحات الثقافةممدوح عزام

مقاطع في هذا النص أو ذاك/ ممدوح عزام

 

 

 

بحسب فولتير، فإن الأيدي تتلطخ بالدماء بسبب العقائد، أو بسبب العقائد حين تتحول إلى أصنام متحجرة، وتدفع معتنقيها إلى رفض أي فكرة أخرى موازية لها، أو شن الحروب وإشعال الحرائق من أجل القضاء على من لا يؤمنون بها.

يسمّي تلك العقائد “حماقات”، ويدعونا جميعاً إلى أن يتسامح أحدنا مع حماقات الآخر، عدا حماقة شائعة واحدة هي: “التعصب”، فإذا منحنا التعصب، كما يقول، الحق في أن يُحتمل، فإننا ندمر التسامح. و”الحق” في التعصب، إذا ما فكر أحدهم في ضرورة منحه للبشر، حق همجي وعبثي، إنه حق النمور، لكنه يفوقها بشاعة، فالنمور لا تمزّق إلا لتأكل، أما نحن، يقول فولتير، فقد أفنينا بعضنا بعضاً من أجل مقاطع في هذا النص أو ذاك.

يتزوّد سجل عدم التسامح بأسماء الضحايا من جميع أمم الأرض. وترى كيف يجنح المتعصبون للانتقام من خصومهم الفكريين وتصفيتهم أو تصفية أفكارهم بشتى الوسائل، ولدى معظم القراء أسماء مقتولين من أمثال الحلاج والسهروردي وجان دارك وجيوردانو برونو، أو مطاردين ومتهمين بالكفر من أمثال غاليلو والفارابي وابن سينا وابن رشد.

غير أن السجل لا يستطيع أو لن يستطيع البتة أن يحيط بأسماء ضحايا التعصب وعدم التسامح ممن يهملهم التاريخ. والفارق بين الفكر العربي والفكر الغربي مثلاً، هو أن الثاني قدّم للإنسانية خلاصات فكرية تسعى إلى الخروج من محن الحروب التي نجمت عن التعصب الديني والمذهبي، ولعل كتاب فولتير “رسالة في التسامح” وكتاب جون لوك، الذي تُرجم إلى العربية بعنوان مماثل وغيرهما من المفكرين، مؤشرات صريحة إلى الرغبة العميقة في التخلّص من أعباء تأنيب الضمير الجمعي.

وفي الثلث الأول من القرن العشرين، دعا غاندي إلى عدم الاكتفاء بمحبّة من يحبوننا، بل إلى حب من يكرهوننا. وهي دعوة في غاية الغرابة، وقد تثير الاستهجان، حين يفكر البشر في العنف وموجات المذابح التي يرتكبها الناس بسبب الكراهيات.

الأمر صعب للغاية، يعترف الرجل الذي قاد سياسة اللاعنف ضد البريطانيين المحتلّين في الهند، غير أن تجربة البدائل تثبت في رأيه صحة هذه الدعوة، فمن المستحيل تقريباً أن تقنع بها أولئك الذين تضرروا من ممارسات الكراهية، على الرغم من التحذير الذي يطلقه غاندي، منوهاً إلى أن اختيار الكراهية سوف يؤدي إلى نتائج وخيمة على البشر، وإلى أنه اختار في سياسة اللاعنف التي اتبعها مع خصومه، أن يواجه الشر، وهو يؤكد أنه يخوض مواجهة ولا ينسحب من المعركة، قائلاً: “أنوي اللجوء لأسلحة أخلاقية وروحية ضد كل ما هو لا أخلاقي”.

أظن أن النموذج الغاندي غير قابل للتكرار، إنه لحظة إنسانية فريدة، تتطلب شروطاً ذاتية، كأن يتكرر الشخص، أو موضوعية، كأن تستعاد الظروف المحيطة، فيما يبدو الخيار الأخلاقي الذي اتبعه واحداً من الحلول الأكثر قوة وحضوراً، لا في حل النزاعات وحسب، بل وفي التأسيس للحظة إنسانية قد تتمكن من مواجهة التعصب.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى