صفحات العالم

مقالات تناولت أداء الرئيس الأميركي باراك أوباما

عقيدة أوباما السياسية/ نعوم تشومسكي

أعاد الخلاف الأخير بين أوباما وبوتين حول الاستثنائية الأميركية إحياء نقاش مستمر حول عقيدة أوباما السياسية: هل يحوّل الرئيس مساره باتجاه سياسة الانعزال السياسي؟ أم أنه سيرفع بفخر راية الاستثنائية؟

والحال أن نطاق النقاش أضيق مما يبدو عليه، فثمة أمور مشتركة كثيرة تجمع بين الموقفين، وفقاً لما كشفه بوضوح هانز مورغنثاو، مؤسس مدرسة العلاقات الدوليّة «الواقعية» الطاغية الآن والقائمة على الابتعاد عن العواطف. في أعماله، يصف مورغنثاو الولايات المتحدة بأنها فريدة بين كل القوى الماضية والحاضرة، بمعنى أن لديها «غرضاً سامياً» عليها أن «تدافع عنه وتروّجه» في أرجاء العالم، ويقوم على «إرساء المساواة في الحرّية». ومن المعلوم أن مبدأي «الاستثنائية» و«الانعزالية» المتنافسين يقبلان بهذه العقيدة وبتوضيحاتها المتعددة، إنما يختلفان بشأن تطبيقها.

وفي الخطاب الذي وجّهه أوباما إلى الأمة في 10 سبتمبر، دافع بضراوة عن أحد النقيضين قائلاً، «إن ما يجعل أميركا مختلفة، وما يجعلنا استثنائيين» هو أننا ننكبّ على التصرّف «بتواضع، إنما بعزم»، عندما نرصد انتهاكات في مكان ما. «طوال سبعة عقود تقريباً، عملت الولايات المتحدة على إرساء الأمن العالمي»، وهو دور «تخطى معناه بكثير التوصل إلى اتفاقيات دولية، وأشار إلى ضرورة تطبيق تلك الاتفاقيات».

أما عقيدة «الانعزالية» المنافسة، فتفيد بأنه ما عاد بإمكاننا تكبّد تكاليف تنفيذ المهمّة النبيلة التي تقضي بالتهافت لإخماد الحرائق التي أشعلها الآخرون. وهي تأخذ على محمل الجد ملاحظة تحذيرية صدرت منذ عشرين عاماً عن توماس فريدمان عندما قال «إن السماح لمبدأ المثاليّة بالاستحواذ بشكل شبه كلّي على سياستنا الخارجية» قد يدفع بنا إلى تجاهل مصالحنا الخاصة، وسط تفانينا لتلبية حاجات الآخرين. وبالتالي، يدور النقاش محتدماً حول السياسة الخارجية بين هذين النقيضين.

وثمّة مراقبون في الكواليس يرفضون الافتراضات المشتركة، مستشهدين بسجل الأحداث التاريخية: فيذكرون مثلاً كون الولايات المتحدة قادت العالم «على امتداد سبعة عقود تقريباً»، لاجئة إلى العنف والتدمير ومطيحة بحكومات منتخبة، وفارضةً أنظمة ديكتاتورية شرّيرة، ومقوّضةً اتفاقيات دولية، ومخلّفةً دروباً من الدماء، والدمار، والبؤس.

وقد وفّر مورغنثاو إجابة لهذه المخلوقات الضاّلة. وبصفته باحثاً جدّياً، أقرّ بأن الولايات المتحدة انتهكت باستمرار «غرضها السامي».

لكنّه شرح قائلاً إنّ التطرّق إلى هذا الاعتراض هو «استعادة للخطأ الذي ارتكبه مذهب الإلحاد، الذي ينكر مصداقية الدين بالارتكاز إلى الأسس ذاتها»، علماً بأن الغرض السامي للولايات المتحدة هو «الواقع»، بينما السجل التاريخي الفعلي مجرّد «انتهاك للواقع».

وبالمختصر المفيد، تُفهم «الاستثنائية السياسية الأميركية»، و«الانعزالية» عموماً على أنهما نسختان تكتيكيتان متفاوتتان لديانة علمانية، ذات وطأة كبيرة فعلاً.

ويعرب آخرون عن العقيدة بفظاظة أكبر. وقد استحدثت جين كيركباتريك، إحدى سفيرات ريجان إلى الأمم المتحدة، طريقة جديدة لتحوير الانتقادات التي تطال جرائم الدولة. ومن لا يريد غضّ الطرف عنها اعتبارها مجرّد «أخطاء» و«سذاجة بريئة»، فيمكن أن توجه إليهم تهمة «التكافؤ الأخلاقي»!وهي وسيلة باتت مستخدَمة على نطاق واسع منذ ذلك الحين لوقاية السلطة من التدقيق. حتى أن العلماء الجديين يلتزمون بما سبق. وبالتالي، وفي الإصدار الحالي لمجلة «التاريخ الدبلوماسي»، يدرس الباحث جفري إنغل معنى التاريخ بنظر صنّاع السياسات. ويذكر إنغل فيتنام، مشيراً إلى أنه «رهناً بالقناعات السياسية الشخصية»، يقوم الدرس إما على «تجنّب الرمال المتحرّكة التي يمثّلها التدخل المتزايد (الانعزالية)، أو على الحاجة إلى منح القادة العسكريين حرية العمل بغياب أي ضغط سياسي». وتواصل حصيلة الوفيات الفيتنامية ارتفاعها حتى اليوم، بسبب الحرب الكيميائية التي أطلقها كندي.

وثمّة «إقناع سياسي» قابل للتصوّر، يتمثل بالغضب الذي يقرر الأميركيون إظهاره عندما تحتل روسيا أفغانستان، أو عندما يعمد صدام حسين إلى غزو الكويت.

وتقضي إحدى آليات الحماية الذاتية بالتحسّر لتداعيات عجزنا عن التصرف. وبالتالي، يستنتج ديفيد بروكس، في سياق تفكيره المتكرر عن انجراف سوريا في فظائع «تذكّر برواندا»، أن المسألة الأعمق تتمثل بالعنف بين السنة والشيعة، الذي يمزّق المنطقة إرباً إرباً. ويُعتبر هذا العنف شهادة على «فشل الاستراتيجية الأميركية الراهنة التي تقضي بالانسحاب بلباقة»، وعلى خسارة ما أطلق عليه غاري غرابو، المدير السابق لمكتب الشؤون الخارجية في وزارة الخارجية الأميركية، «النفوذ المهدّئ للقوات الأميركية».

وقد تستذكر الأطراف التي لا تزال غارقة في وهم «انتهاك الواقع» أن العنف بين السنّة والشيعة نتج عن أسوأ جريمة تعدٍّ خلال الألفية الجديدة، متمثلة بغزو الولايات المتحدة للعراق. إلى ذلك، حريّ بالأطراف التي ترزح تحت عبء ذكريات أوسع نطاقاً أن تستذكر أن محاكمات نورمبرغ قضت بإعدام المجرمين النازيين شنقاً، لأنه ورد، وفقاً للقرار الصادر عن المحكمة، أن التعدّي القائم هو «الجريمة الدولية العظمى التي لا تختلف عن جرائم الحرب الأخرى إلا بكونها تضم في صميمها الشر المتراكم من العالم أجمع».

ويشكّل النوع عينه من التحسّر موضوع دراسة نالت رواجاً كبيراً وأعدّتها سامانتا باور، سفيرة الولايات المتحدة الجديدة لدى الأمم المتحدة، بعنوان «مشكلة من الجحيم: أميركا وعصر الإبادة»، تكتب فيها عن جرائم الآخرين وعن ردّنا غير المتكافئ. وهي تكرّس جملة لإحدى القضايا القليلة التي يمكن فعلاً تصنيفها كإبادة جماعية خلال العقود السبعة المذكورة، وتتمثّل بالاجتياح الإندونيسي لتيمور الشرقية عام 1975، فتفيد بأنه من المأساوي أن تكون الولايات المتّحدة قد «غضّت الطرْف عنها».

أمّا دانيال باتريك موينيهان، الذي سبقها في منصب السفير لدى الأمم المتحدة في مرحلة الغزو، فرأى الأمور بطريقة أخرى. وفي كتابه «مكان خطير»، وصف بفخر كيف جعل الأمم المتحدة «منعدمة الكفاءة إلى أقصى الحدود بالنسبة لأي إجراءات كانت قد قرّرت اعتمادها» لوضع حد للاعتداء، لأن «الولايات المتحدة أرادت أن تصل الأمور إلى ما آلت إليه».

وبالفعل، منحت واشنطن الضوء الأخضر للإندونيسيين، ووفّرت لهم تجهيزات عسكرية فتّاكة. وكذلك، منعت مجلس الأمن من التصرّف.

غير أنّ ذلك كلّه مجرّد انتهاك للواقع. وإلى جانب كون استمراره سهلًا، يُعتَبر أيضاً عديم الجدوى. ولا شكّ أنّ بروكس محقّ بالإصرار على ضرورة أن تتخطّى نظرتنا الأحداث المريعة التي نراها أمامنا، وأن نتمعّن في إجراءات أكثر عمقاً، وفي الدروس المستنبطة منها.

وفي هذا السياق، ما من مهمة أكثر إلحاحاً من تحرير أنفسنا من العقائد التي تحكم برمي أحداث التاريخ الفعلية في بحر النسيان، ما يعزّز بالتالي الأساس الذي نستند إليه للإقدام على المزيد من «انتهاكات الواقع».

نعوم تشومسكي

أستاذ اللغويات في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا ومفكر أميركي بارز

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»

الاتحاد

زعامة قويّة في الغرب/ حازم صاغية

يبدو للكثيرين اليوم، في العالم الغربيّ كما في سائر العالم، أنّ الكون يسير على غير هدى، وأنّ ضعف الزعامة الأمريكيّة هو ما يقف وراء ذلك. فكيف حين نضيف أنّ البلدان الغربيّة الكبرى تشارك الولايات المتّحدة الأمريكيّة ما تعانيه من ضعف قياديّ وقراريّ؟

والحال أنّ التعاطي مع الأزمة السوريّة كان أبرز، وآخر، علامات الضعف المذكور. إلاّ أنّ الإغلاق الجزئيّ للمؤسّسات الحكوميّة الأمريكيّة، والذي لم يتمّ التغلّب عليه إلاّ بشقّ النفس، شكّل علامة قويّة أخرى على الوجهة نفسها.

صحيحٌ أنّ أغلبيّة الأمريكيّين حمّلوا الحزب الجمهوريّ، لا سيّما جماعة “حفلة الشاي” اليمينيّة، معظم المسؤوليّة عن ذلك الإغلاق المخزي. بيد أنّ الرئيس باراك أوباما حُمّل أيضاً جزءاً من المسؤوليّة، هو الذي باتت سياساته الخارجيّة موضع نقد يتعاظم وتتعدّد أصواته. وعلى ما يبدو فإنّ شعبيّة الرئيس الأمريكيّ ونسبة الموافقين على سياساته تنخفض اليوم بوتيرة يوميّة، حتّى إنّ آخر استقصاءات الرأي العامّ أعطاه 37 % فحسب.

ولا بأس بالتذكير بأنّ أوباما لم يفز لولايته الرئاسيّة الثانية، العام الماضي، ضدّ منافسه الجمهوريّ ميت رومني، إلاّ بـ 1،51 في المئة من أصوات المقترعين الأمريكيّين. ولئن سيطر حزبه الديموقراطيّ على 55 مقعداً في مجلس الشيوخ، مقابل 45 مقعداً للجمهوريّين، سيطر الجمهوريّون على 234 مقعداً في مجلس النوّاب مقابل 201 مقعداً فحسب للديموقراطيّين.

والشيء نفسه يقال عن بريطانيا، حيث عجز ديفيد كاميرون، قائد حزب المحافظين ورئيس الحكومة اللاحق، عن نيل أكثريّة نيابيّة لحزبه في انتخابات 2010 العامّة. هكذا اضطُرّ إلى إقامة ائتلاف مع الحزب الليبراليّ الذي يقف على يساره.

وإذا كان ذاك التصويت الشهير في مجلس العموم حول المسألة السوريّة قد كشف ضعف كاميرون، فإنّ تعاطيه الراهن مع الجريمة والهجرة ومسائل الرفاه تُحيله “أقلّ شعبيّة ممّا يكون عليه رئيس حكومة محافظ في ولايته الأولى”، بحسب صحيفة “الغارديان” البريطانيّة. ومن دون أن يكون منافسه وقائد حزب العمّال إد ميليباند صاحب مواصفات خاصّة، يبدو أنّ حظوظه في ارتفاع مقابل تعثّر الحكومة الحاليّة ورئيسها.

أمّا فرنسوا هولند الذي بلغ سدّة الرئاسة في فرنسا في العام الفائت، بنسبة أصوات تقلّ عن 52 %، فإنّ شعبيّته اليوم لا تتعدّى الـ 26 %. لا بل بدأ يُطلق على هولند وصف مُحرج لأيّ سياسيّ، هو أنّه “الرئيس الأكثر لا شعبيّةً في التاريخ الفرنسيّ الحديث”. ويلاحظ بعض المراقبين أنّ ضعف الأداء وضعف الإنجازيّة الراهنين هما اللذان يفسّران التوسّع الذي تشهده “الجبهة الوطنيّة” العنصريّة بوصفها الأقدر على استيعاب الصوت الاعتراضيّ في السياسات الفرنسيّة.

واقع الحال أنّ الأزمة الماليّة والاقتصاديّة التي انفجرت في 2008، ولم يتمّ تذليلها بعد، تفسّر الكثير من جوانب هذا الضعف الذي يتعدّى كاريزميّة السياسيّين، أو لا كاريزميّتهم، إلى اشتغال البُنى والمؤسّسات السياسيّة نفسها. وكنّا شهدنا قبل أسابيع قليلة كيف هُدّدت حكومة أنريكّو ليتّا في إيطاليا بالسقوط حين قرّر سيلفيو بيرلوسكوني سحب وزرائه منها قبل أن يُحمل على التراجع. ذاك أنّ إيطاليا، كسواها من البلدان الغربيّة، لم يتأدّ عن انتخاباتها العامّة التي أجريت هذا العام أيّ أكثريّة واضحة. هكذا، وبعد طول معاناة وانتظار، تشكّلت حكومة هشّة يسندها “ائتلاف كبير”.

وإذ فازت أنجيلا ميركل وحزبها المسيحيّ الديموقراطيّ، قبل أسابيع، في الانتخابات العامّة بألمانيا، بقي أنّ هذا الفوز لم يتعدّ نسبة 5،41 % من أصوات المقترعين الألمان. وهذا أيضاً ما ألجأها إلى السعي وراء “ائتلاف كبير” مع الحزب الاشتراكيّ الديموقراطيّ، المنافس التقليديّ لحزبها. وفيما تبدو المفاوضات طويلة ومتعثّرة بين الحزبين الألمانيّين الرئيسيّين، يلوح أنّ الحكومة التي ستنجم عن هذا “الائتلاف الكبير” مرشّحة لأن تجمع في داخلها نقائض تُحدث الشلل أكثر ممّا تنتج.

هل هذا الغرب، في ظلّ هذه الأوضاع، وتلك القيادات، قادر على إتيان ما نفترض أنّ الغرب يأتيه؟

موقع 24

عن السياسة الأوبامية الشرق أوسطية/ ماجد كيالي

يصعب على كثيرين فهم أو تفسير السياسة التي تنتهجها إدارة أوباما في الشرق الأوسط، لاسيما في المسألة السورية، والتي تبدو صبورة، وهادئة، والأصح منكفئة، وتعتمد الوسائل الدبلوماسية، وذلك بالقياس للسياسات التي طالما انتهجتها الإدارات الأميركية، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي اتّسمت في أغلب الأحيان بالتسرّع والتجبّر والتدخّل، باستخدام دبلوماسية القوة، وحتى “الحرب الوقائية”.

وكانت السياسات الأميركية إزاء الشرق الأوسط تركّز على أربعة أهداف، أولها، الحفاظ على تدفّقات النفط. وثانيها، ضمان أمن إسرائيل وتفوقها النوعي. وثالثها، حماية الأنظمة الصديقة. ورابعها، الحؤول دون تمكين أية دولة أخرى من الهيمنة على المنطقة.

لكن مراجعة هذه السياسات تمكّننا من ملاحظة أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على ضمان كل هذه الأهداف، بعد التحولات الحاصلة في مدخلات عوامل القوة في العلاقات الدولية والإقليمية، والتي لم تعد تقتصر على القوتين العسكرية والاقتصادية، إذ دخلت عوامل أخرى ضمنها، ملاءمة هذه السياسات للتوازنات الدولية، وتناسبها مع المصالح الداخلية (المجتمعية)، ناهيك عن صعود المجتمع المدني في تقرير السياسات العالمية وشرعنتها.

القصد من ذلك التوضيح، أن التغير الحاصل في طبيعة عمل السياسة الخارجية الأميركية ليس دليل تراجع في قوة الولايات المتحدة، لا عسكرياً ولا اقتصادياً ولا تكنولوجياً، فهي مازالت الأقوى في العالم، وإنفاقها العسكري يشكّل نصف الانفاق العالمي في هذا المجال، وإذا حسبنا تفوقها التكنولوجي والعلمي فهذا يبين كم هي الفجوة على الصعيد العسكري بينها وبين كل الدول الأخرى. وحسب فريد زكريا (في كتابه: “عالم ما بعد أميركا”) فإن القصة هنا لا تتعلق بتراجع قوة الولايات المتحدة، التي يرى انها نجحت في الحفاظ على قوتها، منذ مابعد الحرب العالمية الثانية، بقدر ما تتعلق بصعود قوى أخرى، كانت تأثرت في تلك الحرب، واستعادت عافيتها على مر العقود الماضية.

عدا عن هذا العامل، فمما لاشك فيه أن السياسات غير العقلانية والمكلفة التي انتهجتها إدارة بوش الابن في أفغانستان والعراق، والتي كبدت الولايات المتحدة خسائر باهظة، في الأرواح والأموال، وفي السمعة، لعبت دورها في اضعاف الميل لدى صانع القرار الأميركي للدخول في هكذا تجارب، ناهيك عن أنها أسهمت في إصابة الاقتصاد الأميركي بشكل موجع، في مطارح عدة، وهو ما تبدى في الأزمات الاقتصادية التي شهدنا الولايات المتحدة تعاني منها مؤخّراً.

على ما تقدم، فإن السياسة التي تنتهجها الإدارة الأميركية الحالية لا تتعلق بسوريا فقط، ولاتنبع من وجود رئيس بعينه، أوباما مثلاً، إذ شهدنا أن الولايات المتحدة اشتغلت في موضوع ليبيا (النفطية) من الخلف، وأن بريطانيا رفضت التدخل العسكري في الشأن السوري قبل الولايات المتحدة، وها نحن نشهد التجاذب الحامي بين إدارة أوباما ومجلس النواب الأميركي حول موضوع الموازنة الأميركية، ما يبيّن الوضع الحرج الذي تجد إدارة أوباما نفسها فيه، داخلياً، في ظل هذه الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة.

وفي أي حال، فإن المراجعة، أو الإنكفاء، في السياسة الأميركية إزاء الشرق الأوسط، لم يبدأ في عهد الرئيس أوباما، وإنما حصل في عهد الرئيس بوش الإبن، فهذه هي التي تخلّت عن احد أهداف السياسة الأميركية التقليدية، بتراجعها عن مبدأ حماية الأنظمة “الصديقة” في المنطقة، وفي ميلها لتغيير الأنظمة، حتى بوسائل القوة، وفي سعيها لمخاطبة مجتمعات المنطقة مباشرة، من وراء ظهر حكوماتها، وهو ما تم تشريعه في استراتيجية بوش للأمن القومي الأميركي، التي تم وضعها في سبتمبر/أيلول (2002). وطرحت هذه الإستراتيجية مشروع الإصلاح السياسي و”نشر الديموقراطية” في العالم العربي، ما أدخل إدارة بوش في مناكفات مع عديد من الدول العربية “الحليفة” وقتها. أيضاً، فإن إدارة بوش ذاتها هي التي سمحت لإيران بفرض هيمنتها على العراق، ما يفيد بأنها فرّطت بهدف ثان من أهداف السياسة الأميركية، التقليدية في الشرق الأوسط.

هكذا، فإن إدارة الرئيس أوباما ليست فقط تصد، أو تقلل، من مخاطر تركة الرئيس بوش المتعلقة بالتدخّلات العسكرية، وبالخسائر الاقتصادية، وإنما هي تواصل تركته المتعلقة بالتخلي عن الأهداف الرئيسية للسياسة الأميركية الشرق أوسطية، في إبدائها الاستعداد للعمل بالتشارك مع قوى أخرى، ولاسيما روسيا، في إعادة ترتيب الأوضاع في المشرق العربي، من مدخل ترتيب مستقبل سوريا.

بديهي أن هذا التحول هو رد فعل على الخسائر الاقتصادية والبشرية، التي تكبدتها الولايات المتحدة في العقود الماضية، وتعبير عن تعب أميركي من الشرق الأوسط، المرهق، وغير المفهوم، و”المتنكّر”، بالنسبة لها، وهو أيضا بمثابة محاولة أميركية لمراعاة واقع صعود قوى أخرى، بدلاً من مصارعتها.

ومع أهمية كل ما سبق، فإن التحول الأميركي الحاصل هو نتاج خيارات أخرى، أيضاً، باتت متاحة أمام الولايات المتحدة، ضمنها: أولاً، اطمئنانها لمستقبلها بشأن مخزونها من الغاز والنفط، مع الكشوفات الجديدة التي تفيد أن بإمكانها – في غضون العقد المقبل – ليس الاستغناء عن نفط الشرق الأوسط، فقط، وإنما أن تتحول إلى مصدّرة له، ومع توقعات تفيد بإمكان إزاحتها روسيا عن مكانة المصدّر الأول للغاز في العالم. ثانياً، تحول اهتمامها نحو مناطق أكثر أهمية في العالم لأمنها القومي، ولمصالحها الإستراتيجية السياسية والاقتصادية والعسكرية، فيما بات يعرف بالتوجه شرقاً، مع وجود نخب باتت تعتقد بأن ما يجري في الصين والهند واليابان، ودول أميركا اللاتينية، أهم بكثير لأميركا، لمصالحها وأمنها، مما يجري في الشرق الأوسط، بتعقيداته ومتاعبه. ثالثاً، يعتقد الرئيس أوباما أنه يصنع ثورته داخل الولايات المتحدة، بوقف التدهور الاقتصادي، وبخلق فرص وظيفية، وبتخفيض نسبة البطالة، وبإقرار الضمان الصحي.

مع ذلك ثمة ما يعزز الاعتقاد بأن أميركيا لن تتخلّى عن الشرق الأوسط، بسبب الهدفين الآخرين (النفط وإسرائيل)، وإنما هي ستتخلى عن شكل علاقتها فيه، وطريقة سعيها لفرض وجودها ومصالحها. طبعاً، هذا كله يحدث بسبب غياب فاعلية العالم العربي، وسلبيته، وافتراضه أن على الآخرين القيام بما ينبغي عليه القيام به، لاسيما مع حفاظه على بقائه خارج التاريخ، بتخلفه وتكلّس نظمه وتهمّش مجتمعاته وغربته عن العالم.

هذا يحدث من سوء حظ السوريين، الذين يدفعون باهظاً ثمن أشياء كثيرة، وضمنها ثمن الانكفاء الأميركي، وثمن التردد الدولي، إزاء ما يكابدونه من أهوال وعذابات.

المستقبل

معضلة أوباما السورية/ د. وحيد عبد المجيد

لكل رئيس أميركي منذ نهاية السبعينيات على الأقل، معضلة ما، وهي معضلة تتعلق بالسياسة الخارجية في الأغلب الأعم، ربما باستثناء بوش الأب الذي استغل منافسه بيل كلينتون عدم إعطائه أولوية للوضع الاقتصادي فرفع شعار «إنه الاقتصاد… يا» في انتخابات 1992.

ورغم تعدد المشاكل التي تواجه أوباما الآن، صارت سياسته تجاه الصراع على سوريا هي معضلته الأساسية. وكثيرة هي المؤشرات التي تؤكد ذلك، خاصة في الأسابيع الستة الأخيرة منذ استخدام غاز السارين الكيماوي في الهجوم على غوطة دمشق في 26 أغسطس الماضي. فلم يمر يوم منذ ذلك الوقت إلا وتجلت فيه معضلة أوباما السورية بشكل أو بآخر.

وبعيداً عن الانتقادات الكثيرة والمتنوعة التي تتعرض لها سياسة أوباما على هذا الصعيد، وسعياً إلى فهم طريقة تفكيره ومنطقه بشأن أزمة شديدة التعقيد، ينبغي البدء بتحديد جوهر المعضلة التي تواجهه وطابعها. وإذا جاز اختزال هذه المعضلة، للوقوف على جوهرها، ربما نستطيع القول إنها تتعلق قبل كل شيء بوجود مسافة بين خطاب أوباما الرسمي وسياسته الفعلية. فقد تحدث كثيراً عن أن نظام الأسد ارتكب جرائم تحول دون استمراره بأي شكل، وفسّر بيان مؤتمر جنيف الأول على هذا النحو. لكنه لم يوجه سياسة أميركا الخارجية في الاتجاه الذي يؤدي إلى التعجيل بإنهاء حكم الأسد، وبدا متردداً في اتخاذ موقف حاسم والتزم الحذر في التعامل مع الصراع الذي تحول إلى حرب أهلية.

ورغم أن بعض العلامات الدالة على وجود هذه المسافة كانت واضحة منذ بداية الانتفاضة السورية، سواء في الامتناع عن التدخل العسكري أو في القيود التي فرضها أوباما على تسليح المعارضة، فقد صارت أكثر انكشافاً الآن بعد أن تخلى عن خيار الضربة المحدودة لمعاقبة نظام الأسد على استخدامه السلاح الكيماوي، واتجه إلى خيار نزع ترسانته من هذا السلاح بالتعاون مع روسيا.

ولم يكن قلق أوباما من التورط المحتمل في حرب لا تحظى بشعبية في بلاده هو السبب الرئيسي وراء تراجعه عن خيار تبنّاه بل أعد العدة له فصارت قواته جاهزة لتنفيذه، لكنه سرعان ما عاد إلى حذره وطلب موافقة الكونجرس على قرار يملك حق اتخاذه وفق صلاحياته التنفيذية طبقاً للدستور. غير أنه لم تمض أيام حتى قرر تحويل دفة موقفه باتجاه نزع أسلحة النظام السوري الكيماوية. وقد ارتبط هذا التراجع، في المقام الأول، بجوهر معضلة أوباما السورية حيث لم يتطابق الخطاب الرسمي في أي وقت تقريباً مع السياسة الفعلية التي راهنت -ومازالت- على تسوية ما وفق قاعدة «لا غالب ولا مغلوب بشكل كامل أو مطلق».

ولم يحاول أوباما حتى الآن حل معضلته السورية هذه عبر تقريب خطابه من سياسته، ومصارحة الجميع بأن مصلحة الولايات المتحدة تفرض المحافظة على توازن بين طرفي الصراع لأن انتصار النظام يعني دعم المعسكر المناوئ لواشنطن (الأسد، إيران، «حزب الله»)، في حين أن انتصار المعارضة يحمل حسب تقديره خطر هيمنة القوى المتطرفة فيها على النظام الجديد حتى وإن أخذ شكلا ائتلافياً، أو توسع نطاق الاقتتال الحاصل الآن جزئياً بين هذه القوى والتشكيلات المؤيدة للتيارات الوطنية الديمقراطية في «الجيش الحر»، وبالتالي تعميق الحرب الأهلية إلى الحد الذي قد يقود إلى تقسيم سوريا.

ولم يكن بإمكان أوباما تعديل خطابه الذي يؤكد على ضرورة تغيير نظام الأسد واستحالة استمراره في السلطة، بحيث يركز على أن ما تفعله واشنطن هو ممارسة ضغوط عليه ودعم المعارضة في الحدود التي تدفع النظام إلى طريق مسدود يفرض على رئيسه التنحي وقبول حل سلمي يكون لهذه المعارضة الدور الأكبر فيه. فربما يكون في تعديل خطابه على هذا النحو رسالة خاطئة إلى الأسد الذي قد يفسره من زاوية أنه هو الذي يتحكم في مسار الصراع على سوريا.

كما أن هذا التعديل يفرض على أوباما شرح مخاوفه من انتصار كامل لمعارضة تفيد المعلومات المتوفرة لديه أن للقوى المتطرفة وزناً كبيراً فيها، وفق ما يتواتر في تقارير مختلفة ربما كان آخرها تقرير المعهد البريطاني للدفاع (أى.إتش.إس. جينز) الذي أفاد أن نصف المقاتلين في هذه المعارضة على الأقل «إسلاميون متشددون». وربما تؤدي مصارحته الرأي العام في بلاده بذلك إلى تعاطف مع نظام لم يترك جريمة إلا ارتكبها بحق شعبه، الأمر الذي قد يعرّض الإدارة الأميركية لضغوط داخلية يمكن أن تلغي أو تضيق الهامش الذي تتحرك فيه. وهذا هامش ضيق أصلا بما يكفي نظراً للحذر الذي يتسم به موقف أوباما وإدارته.

لذلك ربما يكون تراجع الرئيس الأميركي عن خيار الضربة العسكرية المحدودة، في ضوء هذه السياسة، مرتبطاً بإعادة قراءة مشهد الصراع على سوريا في ضوء اقتراب موعد انتهاء فترة رئاسة الأسد في منتصف العام القادم، أملا في أن يكون تجنب التصعيد ضده سبيلا لدعم التعاون مع روسيا لكي تقوم بدور سيكون مطلوباً منها، وهو العمل من أجل عدم ترشح الرئيس السوري مجدداً. وعندئذ قد تكون الانتخابات الرئاسية القادمة سبيلا لإخراجه من المشهد والتوصل إلى تسوية ملائمة لواشنطن من نوع تشكيل حكومة مؤقتة تضم المعارضة إلى جانب بعض رجال النظام الذين لم يتورطوا في إراقة الدماء، ووضع خطة انتقالية تتضمن إجراء هذه الانتخابات تحت إشراف دولي.

وإذا صح هذا التقدير لموقف أوباما، ربما يجوز تفسير عدم إقدامه على إعلان ذلك بوضوح وإنهاء التباين بين خطابه وسياسته بأغراض تكتيكية. فإذا كان أوباما يراهن على أن يخرج الأسد من المشهد، فقد يكون من الحكمة منحه مساحة يتحرك فيها ليبدو قراره عدم الترشح مجدداً -إذا اتخذه- نابعاً منه وليس رضوخاً لضغوط عليه أو اعترافاً بهزيمته.

لذلك ربما يرى أوباما أن إعلانه الآن تفاصيل تصوره للتعامل مع الصراع على سوريا في الأشهر القادمة قد يضعف فرصة جعل الانتخابات الرئاسية السورية القادمة مدخلا للتسوية، خاصة أنها ضعيفة أصلا في ظل عدم إمكان توقع سلوك حاكم ارتكب جرائم لا حصر لها ولا يثق سوى في إيران و«حزب الله» في المقام الأول ثم روسيا في المقام الثاني.

لذلك ربما تشتد معضلة أوباما إذا أخفق الرهان على عدم ترشح الأسد مجدداً، وبالتالي غلق آخر باب محتمل لتسوية ما. وعندئذ ربما يحدث تحول في سياسته باتجاه تجاوز الحذر الذي ألزم نفسه به وقبول المخاطرة المتضمنة في تحرك يهدف إلى إسقاط نظام الأسد مع السعي إلى ترتيب الأوضاع بحيث لا تستطيع القوى المتطرفة في المعارضة الهيمنة على النظام الجديد.

الاتحاد

أوباما يُعوّض و«القاعدة» تزدهر / نهلة الشهال

خفيفة ظريفة، العملية الأميركية الناجحة لـ «إلقاء القبض» على أبو أنس الليبي. وذلك بخلاف تلك الأخرى التي شنت في الوقت ذاته، في 5 الجاري، في بلدة «بروة» الشاطئية، المعقل الحالي لحركة الشباب الصومالية، بغاية قتل (فهو لم يكن مرشحاً للاعتقال) «عكرمة»، الذي نجا فيما وقعت خسائر للمهاجمين.

للحرب على الإرهاب دروبها الغامضة! ولعل رئيس الوزراء الليبي الموقت، و «المودرن»، علي زيدان، الذي خطفه مسلحون إثر ذلك، من ضمن ما يقال له في العمل العسكري «الأضرار الجانبية».

وبجدية أكثر، هناك عالم كامل تثيره هذه العملية تحديداً، بينما الاستخفاف بالصومال «المستوطى حيطه»، لأنه معدم، هامشي على ما يقال (والصفة الأخيرة تحتاج للفحص)، تقليد معروف. فقد سبق للمارينز، هم والفرنسيون، أن قصفوا جهات منها لمرّات من البوارج في عرض البحر أو من المروحيات. وبدا القصد دوماً تحجيم «القاعدة» أو حركة الشباب واحتواءها داخل الصومال أو في مواقع محددة، أو حملها على الانكفاء، وبكل الأحوال منعها من التمدد براً وبحراً (ما سمي عمليات «القرصنة»). لذلك ربما، كانت الحركة تتوقع ما جرى بعد «خروجها» للهجوم الدموي على مجمع «ويست غيت» في نيروبي.

قيل في تفسير العملية الليبية أن الرئيس الأميركي، الذي «تستوطي حيطه» أقلية «حزب الشاي» في الكونغرس منذ أسابيع، وتعطِّل إدارته، في عملية شد حبال كان يفترض أنها غير متكافئة، يحتاج الى تعويض لاستعادة التفوق. لكن الأرجح أن الرئيس يحتاج الى مثل هذا التعويض «الحربي» بعد وقائع معالجته لملف الكيماوي السوري. وهو اليوم موضع تنديد قاسٍ من المعارضة السورية الرسمية المقربة من الغرب، التي تشعر بأنها تعرضت لخيانة لأنها كانت تريد منه أن يقصف بلدها فلم يفعل، بل راح وزير خارجيته يطلق تصريحات اعتُبرت مشيدة بتعاون الأسد.

وقد استجلب أوباما لنفسه هذه الشبهة الأخيرة، حين قال إن «هناك فرقاً بين ملاحقة الإرهابيين وأن ندخل في حرب». وهو ذكّر بأنه انتخب كي يُخرج أميركا من حربيها في أفغانستان والعراق فلن يثير حرباً جديدة في سورية، مرشحة للتمدد الإقليمي (على الأقل!) بسبب المعطيات القائمة.

والكيماوي هو الحلقة الأخيرة في التخبط الغربي حيال سورية، وافتضاح قلة تقدير مجمل الموقف هناك، المميَّز بتعقيد هائل. وهو ما يترافق مع تفسخ الوضع في العراق، الذي احتله الأميركيون مباشرة بقوات هائلة وحكّام نهّابين وكلفة عالية على الخزينة الأميركية، لكنهم غادروه مدمَّراً، لا تستقيم فيه، وهو البلد النفطي الهائل، حتى الكهرباء، منخور بالفساد، وقد بسطتْ نفوذها فيه طهران بعكس القصد، وعادت إليه «القاعدة» تقتل كيفما تشاء.

والحال في أفغانستان ليست أفضل، حيث تفاوض واشنطن اليوم للإبقاء على بعض النخبة من قواتها بعد الانسحاب المرتقب منها، وإلا جرى التهام كارزاي حياً، كخطوة أولى لعودة «طالبان» الى السلطة فيها، ومعها «القاعدة».

إلا أن الأمر المثير في كل هذا، والبالغ الأهمية، يقع في مكان آخر. وهو ذاته أوحى به واستحضره الرئيس الأميركي. فبعد إشادته بقدرات عناصر القوات الأميركية، و «تفانيها وحِرفيتها النادرين»، عاد فقال مفسراً العمليات الأخيرة: «ضربنا النواة المركزية للقاعدة، ولكن توجد الآن مجموعات إقليمية»، في ما يبدو انه محاولة لتثمين المنجز (أي «ضرب النواة المركزية» في إشارة، من بين أشياء أخرى، إلى اغتيال أسامة بن لادن في ظل أوباما الأول). لكنه بذلك فضح نفسه والحالة.

فقد انتشرت «القاعدة» واكتسبت فروعها استقلالية أكثر من ذي قبل، وراحت تَنشأ مجموعات بـ «إدارة ذاتية» كاملة، تختار بحسب رغبتها أو إمكاناتها صلاتها الخارجية ومرجعياتها وتمويلها. تَشظٍّ كامل إذاً، ينبغي قبل وصفه بما يشبه الاستدراك بأنه «اقليمي»، تفحص مفاعيله على العالم وكذلك مآلاته. هذا أولاً. وقد خرج، ثانياً، جيل قيادي جديد من بين صفوفها، متخفف من كل تعقيد عقائدي أو عملي استراتيجي، جلف وقاتل أكثر من «القاعدة» الأصلية (نعم، هذا ممكن!)، فيبدو معه أيمن الظواهري، بتعليماته وما يصرح به ويفتي في شأنه، وكأنه حمل وديع.

يقول الرجل: ممنوع تفجير المساجد وأماكن العبادة، وساحات تجمع المدنيين، وقتل الشيعة والنصارى الخ، فيجري تفجير مزيد من المساجد في العراق، وقتل الأطفال بزرع عبوات في المدارس، وحصد أكبر عدد ممكن من الناس العاديين في الحدائق والشوارع. ويجري تفجير الكنائس في باكستان ونيجيريا. ويُهاجم مجمّع تجاري في نيروبي، حيث تطلق النار على كل الحضور بلا تمييز. وأما في سورية، فما يجري يفوق الوصف في وحشيته، تشجعه حالة الفوضى التامة. علاوة على ذلك، عدد أطر الجماعات المسلحة تجاوز كما يقال 600 تنظيم، تتصارع مع بعضها بالسلاح الثقيل والإغارات المتبادلة، تنظيمات يفترض أنها كلها تتحرك في إطار «القاعدة»، كحال «النصرة» و «داعش». ذلك هو المشهد اليوم.

ويمكن للإدارة الأميركية أن تتباهى مقدار ما تشاء، فلن تتمكن من تمويه هذا المشهد المرعب. ولن تجدي فيه المكافأة الذاتية لوزير الدفاع الأميركي المستر هاغل، إذ يقول تعليقاً على العملية في ليبيا إن قواته برهنت على «استطاعتها العمل على نطاق عالمي وقدراتها»! وكأنها هي الأخرى مجموعة مسلحة. ومما يدهش ويحتاج لدراسة التشابه بين هذا الكلام ومنطق «القاعدة» التي تتعولم منذ 11/9 بأشكال مختلفة. هي تضرب في كل مكان والكوماندوس الأميركي كذلك.

ثم إن أميركا، كرأس الغرب اليوم، تعيث فساداً حيثما تمارس احتلالاتها، ثم تنكفئ الى قارتها القصية بعد كلمة «آسفين» أو من دونها، تاركة الخراب يكمل فتكه بسائر العالم. وهي تمارس الاستنساب والاعتباط، كمثال خطف الرجل من قلب طرابلس عاصمة ليبيا، ومن دون إذن سلطاتها أو إعلامها (وهنا أيضاً يكذب المسؤولون الأميركيون ويغيرون رواياتهم مرات).

ثم تقول واشنطن على لسان كيري إنه «عمل مناسِب وقانوني»: وأما قانونيته فبموجب «قانون الحرب» الذي خطته واشنطن نفسها، وأما كونه مناسباً فلا يدري أحد لمن. ها قد مُدّ الإرهاب بحجج وفذلكات يمكنه استخدامها. والأكيد أن «القاعدة»، منطقاً وتنظيماً، ازدهرت منذ بدء تلك «الحرب على الإرهاب»، وان الحادثين الأخيرين ستكون لهما تداعياتهما في سياق تعزيز هذا الازدهار.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى