صفحات الناس

مقالات تناولت الاحداث الأخبرة في السويداء

 لا تضعوا اللجاة في مواجهة تاريخها!/ منير الخطيب

لا تعني اللجاة بالنسبة لأهل جبل العرب امتداداً جغرافياً حميماً فحسب، بل هي أكبر من ذلك بكثير. تقع اللجاة في بؤرة وجدانهم الجمعي ومخيالهم الاجتماعي، بين مغاراتها حيكت حكايات، صارت جزءاً من تراث الجبل، وتحولت تلك الحكايات إلى تواريخ وقصائد تشابكت مع تصديهم لحملة إبراهيم باشا نجل محمد علي ومع معاركهم مع الأتراك والفرنسيين. فتحولت اللجاة، في ضمائرهم، إلى رمز من رموز “مشروعيتهم العليا”، أي المشروعية الوطنية، في زمن كان فيه التصدي للعدوان الخارجي يجّب المسألة الوطنية.

أما، وقد تهتكت الوطنية السورية الهشة تحت ضربات القوميين الشرسة، الذين غرقوا في “هوياتهم” المذهبية والطائفية، وتهتكت أيضاً، تحت ضربات الفصائل الإسلامية المتطرفة. يصبح من المهم بناء معان ومضامين جديدة للوطنية؛ أول هذه المعاني، ضرورة الخروج من منطق الحرب الأهلية، الذي لن يكون إلا بالانعتاق من أسوار المذهبية والطائفية. وثاني معانيها، تناقضها المطلق مع الاستبداد بكافة أشكاله وصوره، وثالثها، ارتباطها العضوي في مسألتين، هما مسألة واحدة: الاندماج الوطني ودولة الحق والقانون. كي تكون اللجاة منسجمة مع تاريخها ومع رمزيتها، يجب أن تكون منسجمة مع هذه المضامين للمسألة الوطنية، وأن تتحول إلى مركز جيو- سياسي للتوحيد والاندماج، وليس بؤرة للتوترات والحروب.

إن سؤال: من بدأ التعدي؟ سؤال ساذج وأرعن وغبي في اللحظة المفتوحة على الجحيم. فكم بدا سؤال اللبنانيين في غمرة حربهم الطائفية المجنونة عن الذي بدأ بحادثة بوسطة عين الرمانة سؤلاً ساذجاً وسطحياُ! إن سؤال القادة التاريخيين في لحظات كهذه، يجب أن يكون: كيف نسحب عوامل الاحتقان والتفجير؟ وكيف يمكن أن نمنع المنتفعين وتجار الدماء وأمراء الحرب، وكذلك الأميين والجاهلين من جر البشر إلى التهلكة؟ سؤال: من بدأ الاعتداء؟ هو انفعال الغريزة، بينما سؤال: كيف نبطل عوامل التوتر؟ هو سؤال العقل والضمير.

إن وضع اللجاة في مواجهة تاريخها ورمزيتها، وفي مواجهة الجغرافيا، هو وصفة مثالية للانتحار الجماعي، وهو تأسيس مغاير للسيرورة التاريخية للدروز، التي اتسمت بالتناغم مع البيئة الاكثرية، فالدروز هم الأقلية الوحيدة في المنطقة العربية التي لم تتعرض للاضطهاد على الإطلاق، ومن أسباب ذلك، أنهم وضعوا أنفسهم في متن مشاريع التحرر الوطني، وكانت عصبيتهم الوطنية تغلب، على الدوام، عصبيتهم المذهبية. قطع الطريق على الذين يدفعون باتجاه التفجير هو الهدف الآني الذي يجب الاشتغال عليه. وهذا يتطلب: تطويق نتائج الصدامات المسلحة التي جرت على حدود اللجاة وسحب اللجان الشعبية من قرى تلك الأطراف أولاً. وثانياً، تشكيل رأي عام فاعل يشمل رجال الدين والوجهاء التقليديين والناشطين الميدانيين وقادة الرأي والفاعلين في النقابات المهنية وغيرهم، وتحويله إلى كتلة وازنة في معارضة منطق الحرب والمنطق المليشياوي، وأن تثقل هذه الكتلة العصبية الوطنية، وتحد من شطط اللجان الشعبية ومن يقف خلفها. وثالثاً، التعجيل باتخاذ التدابير التي تضمن عودة البدو الذين تركوا بعض القرى، وتمتين العلاقة مع البدو القاطنين في داخل بلدات الجبل، فتلك العلاقة من عناصر الحماية الهامة للسلم الأهلي، فضلاً عن كونها واجباً وطنياً وأخلاقياً. ويتطلب رابعاً، توثيق علاقة الجبل مع وجهاء حوران وفعالياتها المختلفة، وتكوين شبكة أمان اجتماعية، وكذلك الوصول إلى تفاهمات وميثاق شرف مع القوى المسلحة المعتدلة في اللجاة بهدف الوصول إلى تهدئة دائمة.

يحاول طرفان جر الجبل إلى مواجهة حقائق التاريخ والجغرافيا، طرف جاهل والآخر خبيث وماكر، فانتبهوا يا أهل الجبل، أن لا تذهب ريحكم ما بين الجهل والمكر. معاندة منطق التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا،لا تقود إلا إلى محرقة محتمة. وسيبقى البدو وأهل حوران هم بيئتكم الحاضنة ومحيطكم الآن وغداً وحتى فناء النوع البشري، فسارعوا إلى مصالحة اللجاة مع تاريخها ومع رمزيتها في تراثكم.المدن

 

 

دروز السويداء في أرض “اللجاة”/ مازن عزي

تحد السويداء، من الشمال الغربي، أرض “اللجاة”، وهي شديدة الوعورة، ذات صبّات بركانية زرقاء متموجة، كبحر من لهب متجمد. ينبت في قليل ترابها، ما تبقى من شجر البطم الذي أفلت من أيادي العثمانيين، حين قطعوه ليصنعوا من خشبه عجينة لتحضير ملح الصخر “البارود”. سكن الدروز “اللجاة” أول نزوحهم لأرضهم الجديدة، جبل العرب، أواخر القرن السابع عشر، واتخذوا منها حصناً منيعاً يحتمون فيه، ويُغيرون منه على جيوش العثمانيين، وحملة ابراهيم باشا المصري، وجحافل الفرنسيين. ثم غادروا شعابها ومتاهاتها نهائياً، حين اختاروا النزوح إلى السلم والعمران، مع بداية تشكل الدولة الوطنية الحديثة عقب الإستقلال.

فضّل الدروز الاندماج مع الكل السوري، منذ رفض زعيمهم التاريخي سلطان باشا الأطرش، صيغ الاستقلال الذاتي التي طرحتها فرنسا الكولونيالية. وانخرطوا في بناء الدولة السورية الحديثة. لكنهم سرعان ما وقفوا على الحياد بعد تصفية وجودهم الكبير في قيادات حزب البعث العربي الإشتراكي، واتضاح معالم الديكتاتورية العسكرية. وتحولوا مع الوقت إلى أقلية منعزلة، غير فاعلة، تقطن جبلاً خامداً.

لكن ما يحدث في سوريا منذ سنوات أربع، أعاد خلط الأوراق، وبدأ يتطلب من هذه الجماعة البشرية، اتخاذ مواقف صريحة منحازة لأطراف النزاع. والحرب الأهلية التي أعقبت الثورة، لم تبق مجالاً في الفضاء العام يلوذ به الحياديون. فالاصطفاف واقع، والمعسكرات بيّنة. وفيما يتصاعد الصراع السني-الشيعي إلى حدود غير مسبوقة في المنطقة، ترتعب فرائص الأقليات، ومنها الدروز، مُفضّلة الدخول في حالة إنكار جمعي، أشبه بتخبئة النعامة لرأسها في الرمال، والفيل جاثم في الغرفة.

الدروز كحلف قبلي يجمع قبائل “لخم وتنوخ وقضاعة”، حرصوا، منذ بدء تشكلهم الديني على مذهب “التوحيد” في القرن الحادي عشر للميلاد، على عدم الانخراط في الصراعات المحلية بين السنة والشيعة. وحازوا شرعية “تمايزهم” واختلافهم، ضمن هذا البحر الإسلامي، بأثر من تصدّرهم لمواجهة الآخر–الغريب: المردة والجراجمة كجيوب للبيزنطيين على الساحل اللبناني، ثم الغزوات الصليبية. وبعدها من قتال العثمانيين، والمصريين، ثم الفرنسيين، في حملاتهم المجردة على جبل العرب في سوريا. وحين اضطروا للاصطفاف في معارك الأخوة –الأعداء، غالباً ما تعرضوا لانشقاقات وانقسامات داخلية، كلفتهم الكثير في ضوء أقلويتهم العددية، واقترابهم من حدود الإثنية الثقافية المعرضة لخطر الزوال.

السنوات الأربع الماضية، لم تنجح سوى في زيادة عزلة الطائفة، ونمو خوف غريزي لديها من القادم المجهول: نظام يتداعى، ومجموعات تكفيرية سنية أو شيعية، تنمو على أطرافه. وعلى الرغم من كل المحاولات التي بذلها أقطاب المعارضة والنظام، داخل الطائفة، إلا أن الكتلة البشرية الأكبر، فضلت الصمت على وقع جنازات أبنائها في صفوف جيش النظام، أو القتلى تحت التعذيب في سجون النظام، أو المخطوفين على أيدي مليشيات متشددة مثل “جبهة النصرة”.

الأيام الماضية شهدت ذروة جديدة من تطور الأحداث، في اشتباك مسلح هو الأول من نوعه على صعيد عدد القتلى والضحايا، بين مسلحين من عشائر بدوية تقطن “اللجاة”، وبين مسلحين دروز، غالبيتهم من رجال الدين الشباب. كل من الجيش الحر وجيش النظام، وقفا نسبياً على الحياد، وفي حين شاركت “جبهة النصرة” مسلحي البدو في اقتحام قرية دير داما، شارك مقاتلو “الدفاع الوطني” إلى جانب الأهالي في القرية.

خطاب موالي النظام استمر في الاستثمار في تخويف الدروز من القادم المتربص بهم، في سرد سياقات مشابهة لما حدث مع مسيحيي الموصل، وأيزيديي سنجار في العراق على يد تنظيم “الدولة الإسلامية”. في حين تخشب خطاب المعارضة على الوحدة الوطنية، والأخوة التي تجمع أبناء السهل والجبل، ومسؤولية النظام عن خلق الفتنة المستجدة. وبين الخطابين خرجت تظاهرات في مدينة السويداء تطالب بتسليح الأهالي للدفاع عن الذات، في حين نحا خطاب المؤسسة الدينية – مشيخة العقل – إلى التهدئة وتطييب الخواطر.

الحوادث الأخيرة على أطراف “اللجاة” لم تأتِ من عدم، بل كانت تتويجاً لجولات من الخطف المتبادل والقتل والأعمال الإستفزازية، بين عشائر البدو والسكان المحليين. وقد تكون بداية لما هو أعظم، في ظل غياب العقل، واشتغال الغريزة لدى الأطراف المتورطة في النزاع. وقد لا تبقى هذه الواحة التي ظلت ساكنة نسبياً، طيلة السنوات الأربع الماضية، على حالها في هذا الشرق المتفجر، إذا لم يتمكن أحد من تطويق الأزمات المتجددة، في أرض ساخنة بالغضب، وآخر ما ينقصها شرارة ملتهبة.

خوف دروز السويداء، يأتي اليوم من “اللجاة”، حيث تحتمي كتائب المعارضة المسلحة، وعصابات قاطعي الطرق، وقوات المتشددين، وتنكفئ عن أطرافها قوات النظام. وما كان يوماً أرض “اللجاة” للدروز، أصبح خاصرتهم الرخوة، ومنبع مخاوفهم.

المدن

 

 

 

 

سقف جنبلاط.. والدروز/ أيمن شروف

يدخل الدروز الآن، بعد كل هذا الوقت من عمر الثورة السورية والأزمة اللاحقة، إلى قلب معركة خاسرة.

في سوريا، خسائرهم إلى الآن، معقولة. مشاركة بعضهم إلى جانب جيش النظام في معاركه ضد السوريين أسفرت عن خسارة لا تُقارن بما خسره العلويون، كأقلية، أكبر من الأقلية الدرزية، مع العلم أن العلويين هم الحكام، ولم يكن الدروز في النظام ما قبل الثورة وما بعدها سوى مستتبعين وموظفي فئة ثانية وعاشرة.

ما يحصل الآن في السويداء، يُعبّر في مكان ما عن عُقم لدى الطائفة، لا يبدأ بانعدام الرؤية السياسية وغياب أي مُقرّر أو زعيم عن القيام بدور القيادة الواعية، ولا ينتهي بحصر إرادة الطائفة بيد مشايخ لا حيلة لهم حين يتعلّق الأمر بمخطط أكبر من قدرتهم على استيعابه، كونهم دائماً ينطلقون من موقع الحفاظ على الطائفة، من دون أفق واسع لكيفية الحماية، وهذا ليس بغريب أساساً.

دخول السويداء على خط المواجهة، لم يكن صدفة. سياقه واضح منذ أكثر من سنة. النظام يحاول توريطهم بشتى الطرق. موتورون كُثر ينغمسون في عملية التوريط هذه من دون أن يعوا ما يُمكن أن يلحق بهم. الوزير السابق وئام وهاب يقول إن “300 ألف مستعدون للدفاع وللقتال”. مثل هذه الشعبوية يُمكن أن تكون سبباً في إلغاء الدروز من سوريا، إن هم استمعوا إلى ناطق باسم نظام تسبب بمقتل أكثر من 50 ألف علويّ، ومُستعد لكي يُضحي بـ 300 ألف درزي، من دون أن يرف له جفن.

يأتي حدث السويداء في توقيت غريب. هل هم يقرأون ما الذي يحصل فعلاً؟ هل يُفكرون كيف انسحب النظام من المناطق التي هاجمتها بعض المعارضة فقتل من قُتل من أبنائها؟ أكثر من ذلك، الحادث الذي يحاول كُثر أن يحاصره من المعارضة السورية ومن جهات لبنانية ـ درزية مع الثورة السورية، يتزامن مع حراك علويّ لا يزال خجولاً لكنه موجود. حراك شعاره “الكرسي إلك والتابوت لولادنا”. ثُم يظهر من يريد أن يأخذ مكان العلوي في رحلة دفع فاتورة كرسي عائلة ستذهب عاجلاً أم آجلاً.

تخرج هذه الشعبوية، تحت شعار “يا غيرة الدين” إلى خارج سوريا. تصل إلى لبنان بشكل محدود إلى الآن. مفقود الأمل في سوريا تقريباً. في لبنان، الأمر بحاجة إلى أكثر من توعية ولأكثر من موقف. توجيه البوصلة لا يكون فقط إلى الإنتماء العربي. هذا الإنتماء العربي يحارب تحت سقفه بشار الأسد منذ أكثر من 3 سنوات وكذلك يفعل حزب الله وإن بنسب متفاوتة. العروبة والمقاومة والممانعة وما إلى ذلك من مرحلة التصدي والصمود التي لم تكن ولن تكون إلّا لبقاء البعض حكاماً فوق الشعب وتحته وإلى جانبه.

سقف الموقف الذي أطلقه النائب وليد جنبلاط يؤسس لكنه غير كافٍ. فالمسؤولية مضاعفة عليه تحديداً وعلى الحزب التقدمي الإشتراكي. فلا مجال الآن كي يُترك المجال للعبث مع محيط مُسالم، تحت أي حجة كانت، وهذا لا يبدأ في راشيا ولا ينتهي في جبل لبنان وفي الشوف تحديداً. مجموعة من الشبان التابعين الموالين للنائب فيصل الداوود زرعت الذعر في منطقة بأسرها، وردّات الفعل بعد ضخ كمّ هائل من الإشاعات جعلت أبناء شبعا يُجمّعون بعضهم أفواجاً أفواجاً كي يعبروا في راشيا.

“الهوية المذهبيّة لا تحمي الأقليّة الدرزيّة المنتشرة بين لبنان وسوريا وفلسطين المحتلة وبعض المناطق الأخرى” يقول جنبلاط في موقفه تجاه ما يحصل مع الدروز في السويداء. لكن هذه الهوية المذهبية أوسع من رقعة اسمها السويداء، بل هي أوسع من واقع سياسي ـ ظرفي. الخروج منها بحاجة إلى قرار جريء، ليته اليوم، قبل أن تحين ساعة مندم.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى