مقالات تناولت الازمة المصرية
هل تكسب القوى المدنية هذه الجولة؟
عبدالله إسكندر
الجديد في المواجهات السياسية والميدانية الحالية في مصر، هو أنها تجري في ظل غياب الدور المباشر للمؤسسة العسكرية، حتى الآن على الأقل. وإن كان الرئيس محمد مرسي أعطى لنفسه الحق في إعلان الطوارئ أو الإقدام على أي إجراء آخر، في حال رأى تهديداً للثورة والوطن.
والأرجح أن مثل هذا الإجراء الذي يزج المؤسسة العسكرية مباشرة في الصراع السياسي سيكون الملجأ الأخير في المواجهة بين جماعة «الإخوان المسلمين»، ومعها السلفيون، وبين القوى المدنية. وعندما لا تعود الشرعية الانتخابية التي حاز عليها الإسلاميون قادرة على ضبط حركة المعارضة المدنية.
الجديد الآخر هو أن القوى المدنية تكتلت للمرة الأولى في مواجهة مشروع مرسي، بشقيه أسلمة النظام والمجتمع من جهة وانتزاع صلاحيات واسعة غير قابلة للطعن من جهة خرى. ما جعل المعارضين يتحدثون عن تحول إلى ديكتاتورية وطغيان، مع الإعلان الدستوري الجديد.
هكذا تكون عناصر المواجهة الحالية مختلفة عن تلك التي حكمت الوضع منذ سقوط نظام الرئيس حسني مبارك. إذ تراجعت المؤسسة العسكرية إلى خلفية اللوحة، وبات الإسلام السياسي في مواجهة القوى المدنية المتحالفة.
عندما اتجه مرسي إلى إعلانه الدستوري الجديد كان يفترض أن الخطوة ستمر بسلاسة، بعدما استعاد الحكم المصري بعضا من هيبته السياسية بفعل الحملة الإسرائيلية على غزة ودوره في التوصل إلى التهدئة الجديدة والإطراء الذي ناله من أميركا والمغرب والارتياح الإسرائيلي إلى هذا الدور، أي أن مرسي استند إلى النفوذ الإقليمي المستجد لمصر من اجل الاندفاع في ترتيب الوضع الداخلي وفق روزنامة «الإخوان». لكنه لم يهتم إلى الحساسية الغربية عموما إزاء المس بالعملية الديموقراطية وتجميع السلطات في يد واحدة وعدم احترام الفصل بينها. فالذين رحبوا بالعملية الانتخابية التي أوصلت مرسي إلى الحكم، فعلوا ذلك استناداً إلى العملية نفسها وليس استنادا إلى شخصية الرئيس المنتخب. وتالياً ليس الدعم لهذه العملية دعماً شخصيا للرئيس إلا في مقدار ما يحافظ على الأسس الديموقراطية. وما مسألة القرض من البنك الدولي لمصر إلا التعبير عن دعم المسار الديموقراطي، بغض النظر عن تفاصيله وشروطه والجدل الذي أثاره داخل مصر. إذ إن المساعدات، خصوصا الأميركية، والقروض الخارجية ترتبط ارتباطاً مباشراً بالتوجهات الداخلية للحكم وقدرته على إرساء استقرار عبر التمسك بعمل المؤسسات. وهذا ما أطاحه الإعلان الدستوري. ما يهدد بتجدد الضغوط على الحكم المصري من اجل العودة عنه، وهذا ما عبرت عنه الردود من أميركا وأوروبا.
شهد ميدان التحرير في القاهرة منظراً لم تشهده البلاد منذ اندلاع الثورة، إذ تقدمت شخصيات المجتمع المدني، بمن فيها مرشحون للرئاسة حازوا مجتمعين على أصوات تفوق بكثير تلك التي نالها مرسي، التظاهرات المطالبة بالتراجع عن الإعلان الدستوري وللتنديد بالتحول نحو مصادرة استقلال المؤسسات، خصوصا القضاء. كما تشهد مقرات الأحزاب المدنية اجتماعات وندوات تدفع كلها في اتجاه معارضة الخطوة الرئاسية.
وهذه المرة الأولى تتكتل فيها كل الشخصيات والقوى المدنية المصرية في مواجهة حكم «الإخوان». ما يؤشر إلى ميزان قوى جديد لمصلحة القوى المدنية بعد فترة التشتت التي أعقبت انهيار النظام السابق وساهمت في انتخاب مرسي رئيساً. وإذا ما حافظت القوى المدنية على وحدتها فستحوز على سلاح فعال في مواجهة حكم «الإخوان».
وإذا أضفنا إلى ذلك تحرك القضاة دفاعاً عن استقلال عملهم وحركة الاستقالات في مؤسسة الرئاسة، تصبح لدى المعارضة المدنية أدوات فعالة من اجل كسب هذه الجولة ضد حكم «الإخوان».
الحياة
مصر لا تستطيع العبور إلى دولة ما بعد الثورة!
خالد الدخيل *
كانت حال الانقسام رمزاً فارقاً للسياسات العربية. بعد الاجتياح العراقي للكويت في صيف 1990 انكشف أن لحال الانقسام الرسمي العربي جذوراً شعبية، وبعد الغزو الأميركي للعراق ظهرت إلى العلن أهم جذور الانقسام العربي، وهو الانقسام الطائفي. ثم جاءت ثورات الربيع العربي في أوائل 2010 لتدشن دخول الشعوب إلى دهاليز العملية السياسية. ولأن المنطقة ترزح تحت هيمنة فكر ديني، بشقيه السني والشيعي، والإسلامي المسيحي، بدأت جذور الانقسام تفعل فعلها في تحديد المواقف والتعبير عنها. صار الانتماء لتيار ديني أو مدني هو الذي يحدد الموقف، ووجهة الرؤية. وبالتالي صار الموقف مسبقاً وجاهزاً. سيبرز سؤال: وماذا تتوقع من الإسلامي سنياً أم شيعياً؟ هل يستقيم منطقياً أن تتوقع من السنّي أن يتخذ من أي حدث أو قضية موقفاً من زاوية نظر شيعية، أو العكس؟ ثم ماذا تنتظر من الليبرالي أو اليساري؟ هل يستوي عقلاً أن تنتظر من الليبرالي أن يعبّر عن موقفه من خلال منظور يساري؟ أو أن يتفق موقف اليساري مع الليبرالي أو الإسلامي؟ لكن السؤال لا يلحظ أن الإشكال ليس في موقع النظر، ولا في الانتماء الفكري أو السياسي للفرد أو الجماعة. الإشكال في مكان آخر. أمام السؤال السابق يأتي سؤال آخر: هل يجب أن يكون الاختلاف مصدراً للانقسام؟ أم مصدراً للتعددية؟ يقول مثل عربي معروف إن «اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية». وحقيقة الأمر أن اختلاف الرأي في العالم العربي لا يفسد قضية الود، بل يهشمها على أقسى صخور الجغرافيا العربية، السياسية منها والدينية.
ما يحدث للثورة المصرية هذه الأيام يعطي المثال السياسي، حتى الآن، لهذه الرؤية. هناك انقسام سياسي حاد بين «فسطاط» الإسلاميين، و «فسطاط» المدنيين، وآخر مواضيع هذا الانقسام قرارات الرئيس مرسي الأخيرة بإعلان دستوري جديد، وتحصين قرارات الرئيس ضد الطعن أو النقض. خصوم الرئيس يتهمونه بأنه بهذه القرارات فرعون جديد يتلفع برداءات الثورة، وتسريب «أخونة» الدولة. إنه من هذه الزاوية، كما يقول معارضوه، يدشّن مشروعاً استبدادياً جديداً، ولأن مصر في حال ثورية، فإن هذا المشروع يضع مصر على حافة مواجهة أهلية. الإخوان، أو المتحالفون معهم من منطلقات دينية أو سياسية، يقولون عكس ذلك تماماً. يؤيدون قرارات الرئيس من دون أدنى تحفظ، بل يرون أنها السبيل الوحيد للخروج من مأزق مرحلة انتقالية تبدو من دون نهاية، وأكثر من عبر عن هذا الموقف هو عصام العريان، نائب رئيس حزب «الحرية والعدالة»، الذراع السياسية للإخوان، الذي اتهم خصوم الرئيس بأنهم «الخائفون من الديموقراطية والمحاسبة». يأتي موقف المستشار المصري طارق البشري، وهو أقرب في توجهاته إلى «الإخوان»، ليعطي وزناً لموقف المعارضة، عندما وصف «الإعلان الدستوري الجديد» بأنه «باطل ويكرس الاستبداد».
ماذا لو قيل إن قرارات الرئيس الأخيرة موقتة تنتهي بنفاذ كتابة الدستور، وانتخاب مجلس الشعب، كما تنص على ذلك المادة الثانية من الإعلان الدستوري الأخير؟ سيأتي الجواب مباشرة هكذا: ما هي الحاجة لمثل هذه القرارات الآن؟ لم يتبقّ على الانتهاء من كتابة الدستور إلا شهران، وفق المادة الرابعة من الإعلان نفسه. ومصر عاشت من دون هذه القرارات «الهمايونية» لأكثر من عام ونصف عام. فلماذا صارت بحاجة إليها للشهرين القادمين؟ ماذا يخبئ «الإخوان»؟ وفي حال لم تنته الهيئة التأسيسية من عملها خلال هذه المدة، فما هي خطوة الرئيس القادمة في شأن هذه الهيئة؟ ثم متى ستنتهي عملية كتابة الدستور؟ هل سيكون هناك حقاً دستور خلال شهرين؟
في الجهة المقابلة، سيقول لك «الإخوان» إنه بغياب مجلس الشعب، ومن دون دستور، ولأن الرئيس مكبل نظراً لأن قراراته غير محصنة، وفي مرحلة انتقالية محتقنة، تحولت السلطة القضائية إلى أداة سياسية للعرقلة، فهي التي حلت مجلس الشعب، وتنظر في موضوع الهيئة التأسيسية لكتابة الدستور، وفي قرارات للرئيس نفسه. ولأن رئيس الدولة مكبل، وليس هناك دستور، ولا هيئة تشريعية، أصبحت الدولة برمتها في حال شلل، وإذا أضفت إلى ذلك حال الاقتصاد المتردي، يصبح من الواضح أن لا أحد يعرف أو يتوقع متى تستطيع هذه الدولة مغادرة مرحلتها الانتقالية الحالية، وهي مرحلة مدمرة! ما هو المخرج في هذه الحال؟
لكل طرف وجهة نظر لها وجاهتها، وعليه من الطبيعي أن تكون هناك أكثر من نقطة في الوسط يمكن الالتقاء حولها. كان الممكن، مثلاً، أن الرئيس تفاهم مع قوى المعارضة قبل إصدار قراراته الأخيرة. وهو يعرف تماماً حساسية المرحلة، وتعقيداتها السياسية والاجتماعية، إلى جانب حداثة الجميع، بمن فيهم الرئيس نفسه، بإدارة العملية السياسية. لماذا فاجأ الجميع بمثل هذه القرارات؟ من الواضح أن محاولته شراء موافقة المعارضة، بإعادة محاكمة المتهمين بقتل المتظاهرين، لم تحقق غرضها، وسيقال إن الرئيس لم يتفاهم مع المعارضة، لأنه يعرف مسبقاً (وضع أكثر من خط تحت مسبقاً) أن المعارضة لن توافق على منحه صلاحيات ولو موقتة، حتى الانتهاء من كتابة الدستور، وانتخاب مجلس الشعب.
هناك صراع سياسي حاد في مصر. وهذا طبيعي ومتوقع بعد الثورة. لكن إضافة إلى ذلك، هناك انعدام هائل للثقة بين القوى السياسية، وخبرة سياسية محدودة في إدارة مرحلة انتقالية بحجم الذي انتهت إليه الثورة، وأكثر ما تفصح عنه الصراعات السياسية الحالية هو انعدام نموذج رجل الدولة لدى كل الأطراف. تهيمن على مواقف الجميع المصالح السياسية الخالصة، وكثيراً المصالح الشخصية، وهذا ما يتضح من الاستغراق في الجدل القانوني والسياسي. وغالباً ما يطغى على هذا الجدل في الفضائيات والصحف طابع التحليلات والتخريجات المنطقية المنفصلة عن الواقع القائم. لهذا الواقع متطلبات وحاجات وإكراهات لا يجوز تجاهلها، لكن يبدو أن هذا ليس مهماً تحت ضغوط اللحظة، بقدر أهمية تبرير المواقف، وليس إيجاد المخارج. يبدو أن البعض معني بإثبات سعة معرفته بميادين السياسة والقانون ومصطلحاتها، وبقدرته على الجدل، وعلى إثبات صحة موقفه، أكثر من عنايته بتشخيص المشكلة وإيجاد الحلول. وفي هذا السياق كثيراً ما تختلط شخصية المثقف بشخصية السياسي، وتتداخل أدوارهما بشكل مثير، وتتضح هيمنة همّ المصلحة السياسية في عدم قدرة الجميع، حتى الآن، على ابتكار نقاط التقاء يمكن التفاهم حولها. تبدو العملية السياسية في مصر هذه الأيام صفرية، إما أن يكسبها «الإخوان»، وتخرج كل القوى المدنية الأخرى، أو العكس، والخاسر يعبر عن خسارته بأنها خسارة لمصر. وهنا تلتبس المصلحة السياسية لفريق ما مع الهوية الوطنية. أخيراً لا نستطيع استبعاد أن المرحلة الحالية جديدة، ومن دون سابقة يمكن الاستفادة منها، أو الاحتكام إليها، والصراع في هذه المرحلة ضخم جداً، لأنه صراع حول مستقبل الدولة: شكلها ومضمونها، وموقع كل فريق فيها، ومدى قدرته على التأثير في هويتها وفي عملها، وعلى الاستفادة من خيراتها.
ما يحدث في مصر مثال له خصوصيته، لكنه مثال على طبيعة الثقافة السياسية العربية، وأن إشكاليتها ليست في وجود الأحزاب والاختلافات، وإنما في المفهوم الصفري لهذه الاختلافات. ما علاقة هذا بالجذور القبلية والدينية لهذه الثقافة؟ هل لاحظت كيف ينظر الإخواني المصري، وغير المصري، لـ «انتصار حماس» في حرب غزة الأخيرة، ودور مصر «الإخوانية» في ذلك؟ وكيف ينظر الفرقاء الآخرون للموضوع نفسه؟ هل يختلف هذا عما يحدث في مصر منذ سقوط حسني مبارك؟
* كاتب وأكاديمي سعودي
الحياة
بورصة الدم بين غزة وأسيوط وشارع محمد محمود
المنطقة العازلة لمزايدات التقاطع السياسي في مصر الآن
القاهرة ـ هاني درويش
أسبوع واحد يتضمن ثلاثة أحداث كبيرة، اختلطت فيه الأولويات السياسية بالمعالجات المتشابكة لواقع مصر الداخلي والخارجي، فيما يشبه تكثيفاً مرعباً وأولياً لمسار التفاعل المستقبلي فيما يخص علاقة الأولويات بقدرة كل القوى الفاعلة أو المعطلة على تكوين مسار خاص للثورة.
ففي مدى زمني قصير تزامنت قضية فلسطين (ممثلة في العدوان الإسرائيلي على غزة) مع فشل نظام الإخوان في مقاومة السقوط المدوي للدولة الفاشلة كما ورثوها من نظام مبارك (ممثلة في حادثة مقتل طفلا في حادثة تصادم قطار بباص مدرسة ابتدائية في أسيوط) معطوفاً على تجدد مذبحة محمد محمود في ذكراها الأولى بسيناريوهات التسلط الشرطي نفسه من قتل بدم بارد. وقد تركّبت الصور الثلاث فيما يشبه المزج العنيف والمسح المتسارع، لتنتج خطابات نخبوية وجماهيرية متضاربة ومتناقضة.
في مدى زمني قصير تصاعدت بورصة الدم، أيهما أولى بالعناية؟ الدم الفلسطيني أم الدم المسال في أسيوط، ثم تالياً انعكاس ذلك على الصمت السياسي من تجدد حمام الدم في محمد محمود، وبدا في المشهد تأرجح الجميع على تضمين أولوية الدم، في أسلوب سلطة الإخوان، عند أول اختلاط بين الشأن الداخلي والخارجي، ماهو جماهيري في أسيوط وماهو ثوري قح في محمد محمود، حيث الإهمال والتسلط الدموي، جزء من إعادة إنتاج سياسات مبارك، وبين موقف مصر الجماهيرية والسلطوية والسياسية من مذبحة أخرى مشرّعة في غزة.
يتقاطع في تداخل الأحداث الثلاثة مواقع ثلاثة أخرى للفاعلين، الأول يتعلق بمعالجة سلطة الإخوان لأول اختبار حقيقي في غزة، وهنا ينتظر التفسير مستويين من القطاعات: قطاع جماهيري واسع ملول وقلق من تجدد احتمالات تهجير متفق عليه للفلسطييين إلى سيناء، كما صورت آلة إعلام مبارك المخابراتية، في سنواتها الأخيرة، لتبرير منطلقها للتدخل في الشأن الفلسطيني، وهي آلة أو منطق تحرك أوتوماتيكياً بمجرد وراثة الإخوان للوديعة السياسية لعصر مبارك في الشأن الفلسطيني، معطوفاً عليها الشكوك في العلاقة الحميمة بين حماس وجماعة الإخوان المسلمين. فإذا كانت تلك الوديعة تتضمن دوراً تنظيمياً للتفاوض بين حماس وإسرائيل ترعاه مصر، فإن الشك المتزامن مع تغيير “قواعد الجنسية” بعد الثورة بما يسمح للمتملكين الفلسطينين من مزدوجي الجنسية استيطان سيناء، يشعل الظنون أكثر من أي وقت مضى في إمكانية أن يكون التفريغ الكامل لدور الدولة في سيناء جزءاً من تحويل المنطقة نفسها إلى منطقة عازلة كبرى يتمدد فيها الفلسطينيون، في اطار تفريغ الضغط على حماس.
أياً كانت منطقية هذه الهواجس فإن غموض معالجة النظام الإخواني لقضية سيناء خلال الأشهر الماضية، تحديداً مع ازدياد الاشتباكات بين قوى مسلحة إسلامية متطرفة والجيش والشرطة، وتصميم الإخوان على استخدام المعالجة الامنية الغامضة، في عزل سيناء في فقاعة من الخرافات، جعل حتى أكثر المعارضين لمرسي اتزاناً ومهادنة يشك في نوايا مرسي وحماس تجاه سيناء. فعندما يوفد الرئيس معتوهاً سلفياً هو عماد عبدالغفور رئيس حزب النور للتفاوض مع القوى الجهادية في سيناء، بعد فشل كل جهود الجيش والأمن في إعادة الهدوء، لهو مؤشر على مدى خروج الأمر في سيناء عن حدود المتعارف عليه.
هكذا كان المشهد صبيحة العدوان الإسرائيلي على غزة، سيناء في فقاعة خرافة غامضة لا يعرف أحد فيها من يتفاوض مع من؟ المخابرات أم السلفيون الأقرب لأجهزة أمن الدولة القديمة الجديدة؟ الجهاديون في سيناء المكفّرون للإخوان والسلفيين والداعين إلى إمارة قاعدية. ماهي علاقتهم بأشقائهم خلف الانفاق؟ وما موقعهم من تهريب السلاح والتعاون مع حماس إذا ما وضعنا في الاعتبار إطلاقهم للصواريخ، من فترة لأخرى، على إسرائيل من قلب سيناء؟
كان هذا وعي المختصين أو الفاعلين السياسيين بالأزمة صبيحة الغزو، ضباب شامل ومخاوف حقيقية على مستقبل سيناء، خلفهم أو أسفلهم شرائح واسعة من الشعب المصري مع أسئلته ومخاوفه الأكثر تبسيطاً، وإن كانت لا تخلو من تركيب مدهش.
المواطن المصري في حالته الخام معاد لإسرائيل بالشكل التوراتي البسيط، لكنه عداء مرحّل إلى يوم القيامة، حين تفضح الشجرة وجود اليهودي في فيئها، لكنه في الوقت نفسه مقتنع تماماً بعدم قدرته على مواجهة إسرائيل، ويخفي تحت هذا السلوك المتضارب ارتياحاً فعلياً لعلاقة السلام الدنيوية مع إسرائيل، مزيحاً قدر الشجرة واليهودي كما يزيح قدره إلى عدالة مؤجلة فردوسية، وكي يستقيم هذا السلام النفسي يزيح المواطن العادي استسلامه إلى ما يعتبره خيانة فلسيطينية ببيع أراضيهم، وكأنه يكلّل استسلامه البراغماتي للسلام بمسخ الفلسطينيين. وخلال السنوات الاخيرة من عصر مبارك، جرى توسيع التهمة لتطال بدو سيناء أنفسهم كخونة، فيما يشبه توسيع المنطقة العازلة لعزلته عن القضية الفلسطينية.
المواطن هذا، المستريح ضميرياً، يخفي شماتة ضمنية فيما يحدث للفلسطينيين على أن لا يطال طرف ثوبه أي من الرذاذ الدموي هناك، وهو لم يتخيل يوماً أن شعار “شهداء بالملايين” الذي ترفعه القوى الإسلامية في تفاعلها الدعائي سيطبق. يعلم هذا ضمنياً لذا لم يندهش كثيراً من تأقزم رد الفعل للإخوان والإسلامي السلطوي عند حدود سيارة الإسعاف ودور الوساطة بالمقياس المباركي. الأزمة فعلاً كانت في القوى السياسية المعارضة للإسلاميين، والتي صدمت في هذا التخاذل الجماهيري بأثر من البراغماتية الإسلامية، تحديداً القوى القومية واليسارية، والتي كانت تتمني كابوساً يضمن فتح المعابر وجهاداً مزلزلا، علّ أتون تلك المواجهة يضع الازدواج الإسلامي السلطوي في منطقة تضارب المصالح مع أميركا مثلاً، أو أن يفضح التخاذل اللاحق الإسلاميين أمام جمهورهم الملاصق والجماهير المراقبة. الحقيقة، أن تفاعل الإخوان مع الحادث في غزة جاء تماماً وفق مواصفات استيعاب التناقض الجماهيري الموصوف أعلاه، واستيعاب التوازن الدولي الذي يضعهم عند حدود مسؤولية وراثة الوديعة المباركية في فلسطين.
لكن هذا المواطن الملكوم اختارت له الأقدار أن يعبّر عن شماتته من الإخوان في حادثة قطار أسيوط، وفيما شكلت الحادثة تكثيفاً لانهيار الدولة، وتعميداً لعلاقة الإخوان بالسلطة الجديدة كمجرد جسد بيروقراطي لتعويضات المواطنين، استولت قطاعات من الجمهور العادي على مفارقة إرسال سيارة دعم طبي إلى غزة في حين لا يجد الأهالي أكياس الدم في أسيوط، واعتبرتها دليلاً آخر على حرمة الدم الفلسيطيني واستباحة دماء المصريين.
القوى السياسية التي من المفترض أن يكون موقفها معارضاً لسياسة الكيل بمكيالين فيما يخص الدم سقطت في تناقضها هي الأخرى، وكأن البكاء على أسيوط اصبح حصرا قضية فلولية إعلامية، واضطرت تحت حمى المقارنة اللحظية بين الدمين أن تتعالى على أسيوط لصالح غزة في استقطاب الضعفاء المضطرة إليه. وكأنها تحاول مشاركة الإسلاميين في النجاح البراغماتي السلطوي على صعيد غزة، فقضية فلسطين كانت حاضرة دوماً على جدول اهتمامات القوميين واليساريين بمنطق دعم الناس لا الحكومات، فإذا بالقوى نفسها في المعركة الغزاوية تتحالف في الدعم مع حماس وإسلاميي مصر بحثاً عن هدنة وإيقاف العدوان.
حماس كما هو واضح ترجمت بصواريخها الواصلة الى تل أبيب والقدس توازناً خاطفاً لها مع إسرائيل، كما ترجمت وضعية لإسلاميي مصر في قلب ما يحتاجه الغرب وأميركا من موقف إصلاحي للإسلاميين. عكست حماس بذلك المعادلة المفضلة لتهدئة الهواجس من مستقبل مصر والمنطقة في ظل حكم الإسلاميين، وسترعى قطر لاحقاً تفاوضاً مباشراً لحماس كممثل شرعي للفلسطينين مع الإسرائيليين بمشاركة مصرية وتركية، فلأول مرة تكون التهدئة طويلة المدى خياراً سياسياً بعيداً عن أوهام تحرير القدس وغيرها.
تخندقت القوى السياسية إذاً، لأول مرة مع السلطة المصرية الإسلامية حتى لو ادعت غير ذلك، فيما الجمهور لا يخفي بهجة المزايدة على الجميع، الإسلاميون كما اليساريون والقوميون، وكان عنوان دم أسيوط هو العلامة الفارقة للمزايدة بمصرية القضايا.
القوى الثورية التي خافت ضمنياً أن يكون الحادث في غزة مناسبة لإفشال ذكرى محمد محمود، ذهبت تلك القوى نفسها بضميرها الحي من شباب تحت السن ومن دون دعوة جامعة إلا من قوى صغيرة غير واثقة من نجاح الاحتفال، تحاول أن تعيد سؤال الثورة إلى مهده، عدم المحاسبة لوزارة الداخلية عن القتل خلال الثورة وبعدها عبر مسارها الإصلاحي الإخواني، ذهبت بوقود صاف ممن يبحثون في الذكرى عن طوق نجاة من استقطاب غزة السلطوي وأسيوط الجماهيري السيئ النية، متأرجحين بين الاحساس بالفشل حال عدم الحشد، وإمكانية تجديد الدم وتحويل البوصلة حال التئام الحشد، ولأن كل الاطراف كانت معطلة أو شبه مستنزفة في تشذيب مواقعها من المزايدة الفلسطينية – الأسيوطية، ترك محمد محمود بجمهوره في العراء والصمت والتجاهل، فلا القوى السياسية قادرة على ترجمة المذبحة في حسم لمعركة الدستور مثلاً، ولا هي قادرة على إدانة الإخوان والتصعيد بموجة ثورية أخرى.
دماء محمد محمود لا تجد أي ظهير سياسي واضح أو تعاطفاً وظيفياً يسمح حتى بإيقاف الدم عبر وساطة، فجزء من القوى الثورية التي ابحرت في غيّها الإصلاحي التفاوضي مع الإخوان، تبريراً وهندسة لمساحات بالأمتار، فقدت بالفعل كل تواصل مع النبض المشتعل في محمد محمود وكأنها تعيد ربكتها ذاتها من الأحداث الأصلية قبل عام، وفيما تستقر أزمة غزة عند حدود المكاسب الصافية لحماس والإخوان وكل الاطراف، تفقد القوى التي شكلت لفترة طويلة منطقة عازلة بين الفعل الثوري والممارسة الاصلاحية أرضاً إضافية، لا في محمد محمود وحده بل في مائدة التفاوض الإصلاحي مع الإخوان. فيما تبرز قوة الإخوان في الوراثة الشاملة لعصر مبارك داخلياً وخارجياً، بالقمع كما بالتفاوض، بالهدنة بين إسرائيل وحماس كما بزيارة رئيس الوزراء الإخواني لجنود الأمن المركزي المصابين. فبورصة الدم تؤكد انهيار كل الأسهم في مصر كما في فلسطين.
المستقبل
من ميدان التحرير.. إلى ميدان التبرير!
طارق الحميد
لا تملك إلا أن تكون مصدوما من صدمة المصدومين بمصر، والخليج العربي، وتحديدا البعض في السعودية، مما فعله الإخوان المسلمون بمصر، حيث منح الرئيس نفسه صلاحيات لم يحظ بها حاكم من بعد فرعون، وكأنهم، أي المصدومين، كانوا ينتظرون من الإخوان حكما ديمقراطيا على غرار أميركا أو أوروبا.
ومع الاحترام للجميع، فهذا ليس وقت مجاملات؛ فمنذ ثورة 25 يناير، وقلة قليلة جدا، وفي هذه الصحيفة تحديدا، كانت تنبه، وتحذر، مما يجري بمصر، ومن الإخوان، ليس لأن هؤلاء الكتاب يضربون الودع، أو يقرأون الفنجان، بل لأنهم قرأوا التاريخ جيدا، وعرفوا تجارب التيارات الإسلامية التي لا تؤمن بالديمقراطية، وإنما ترى فيها طريقا واحدا لا رجعة فيه للاستيلاء على السلطة، وعدم التفريط فيها، والأدوات حاضرة، وبسيطة، وهي التحدث باسم الله، ومن يعارض فهو كافر، وعميل، وصهيوني.
وعليه فإن ما يحدث في مصر كان متوقعا، وتم التحذير منه مطولا.. قلنا: اربطوا الأحزمة! فقيل: أعطوا مرسي فرصة! وقيل للمصريين، وتحديدا القوى السياسية والشباب: الدستور أولا، ولا تكونوا حطب معارك الإخوان مع العسكر، ولا تنشغلوا بقصة الفلول، ولا تمعنوا في الحقد على مبارك، فالانتقام لا يبني دولا. وقيل للمصريين أيضا: اختيار شفيق اختيار للدولة المدنية، واختيار مرسي هو اختيار للدولة الدينية، على غرار إيران، وهو ما يحدث في مصر اليوم. ولم يستمع أحد، بل كانت هناك ماكينة تخوين، وتحريض.
وخليجيا، وسعوديا، شهدنا تكتلا إخوانيا نفذ فجأة لبعض الفضائيات السعودية، والصحف، وانتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وانتشرت بالطبع موجة تضليل وتحريض لتحريك الفوضى بالخليج، حيث اعتلى منسوب غرور اللحظة لدى الإخوانيين، ومن تحالف معهم ولأسباب مختلفة، وكان الهدف واحدا، وهو تعميم النموذج الإخواني في الخليج، وذلك استقواء بما حدث بمصر. وكان التحريض كبيرا بالسعودية، وتم استهداف الكويت، والأردن، علما أن المفارقة هنا أنهم يحرضون على ملك يتنازل، واليوم يبررون لرئيس التَهَم كل السلطات! وبالطبع أصبح التبرير الآن هو الطاغي، بين من يحاول تفصيل الديمقراطية على مقاس الإخوان، وبين من صدموا، ولا يريدون أن يقولوا أخطأنا بوثوقنا، ودفاعنا، عن الإخوان، لنجد أن المحرضين انتقلوا من ميدان التحرير إلى ميدان التبرير.
وأكثر ما يثير الضحك الآن هو تبريرات مريدي الإخوان، والمحسوبين عليهم، فمنهم من يقول إن الطريق للديمقراطية يحتاج إلى قرارات ديكتاتورية، ومن يقول إن ما فعله مرسي مؤقت، ولا بد من منحه فرصة، وهذه طرفة لا تقل عن طرفة التنظير للمائة يوم الأولى!
ولذا فما فعله إخوان مصر هو المتوقع، وهو ما حذر منه العقلاء، فالقصة ليست قصة قراءة بخت، ففي السياسة لا يمكن إغفال التاريخ، والجغرافيا، والثقافة، والدساتير، والتجارب، وقبل هذا وذاك، تاريخ السياسي نفسه، والجماعة، ومن كلف نفسه عناء قراءة كتاب واحد عن الإخوان ما كان سيصدم فيهم أبدا، ولم يكن بحاجة للانتقال اليوم من ميدان التحرير إلى ميدان التبرير!
الشرق الأوسط
من فات قديمه تاه!
مكرم محمد أحمد
ليس من صالح الرئيس مرسي او صالح جماعة الاخوان المسلمين, كما انه ليس من صالح مصر بكل قواها السياسية الإبقاء علي حالة الاستقطاب الحاد التي عززت انشقاق المجتمع, وزادت مساحة الفرقة والخلاف بين قوي الاسلام السياسي وباقي القوي المدنية وأدخلت مصر مرة اخري في متاهة جديدة تستنزف وقتها وجهدها,
كل يدعي انه المفوض بالحفاظ علي مصالح الشعب والأمين علي اهداف ثورة25 يناير والأكثر حرصا علي حقوق شهداء الثورة!, وكل يتهم الآخر بإفساد عملية كتابة الدستور والخروج عن المسار الديمقراطي ومحاولة فرض افكاره وتوجهاته علي مستقبل البلاد, الذي يتحتم أن نرسم خطوطه وسياساته وصورته وهويته شراكة متكافئة, يضعها وفاق وطني صحيح لا يداخله الرغبة في المغالبة والاستحواذ والسيطرة المنفردة!لان مصر لن تستقر حالا ولن تهدأ بالا ولن تحظي بأمن حقيقي, ولن تكون قادرة علي مواجهة مشكلات الفقر والبطالة وسوء الخدمات, ولن تستعيد مكانتها الاقليمية والدولية, ولن تنجح في جذب الاستثمارات الوطنية والعربية والأجنبية, في ظل سيطرة فريق واحد علي مقادير البلاد, يحاول خلق حالة إذعان عام بأساليب وأدوات يصعب قبولها بعد ثورة25 يناير, واخطر ما في الصورة ان يتصور البعض انه يملك الحكمة والحل الصحيح وانه وحده الامين علي مصالح العباد, وان الآخرين مجرد كم محدود وإضافة بغير وزن يمكن الاستغناء عنها بل يحسن الاستغناء عنها, لأنهم والعياذ بالله, ليبراليون علمانيون يكرهون شرع الله يريدون افساد المجتمع, وتلك في الحقيقة تهم ملفقة وغير صحيحة, لان الجميع مواطنون أصلاء لهم نفس الحقوق والواجبات, ومن واجبهم ان يدافعوا عن الرأي الآخر لأن الرأي الآخر هو الضمان الصحيح لسلامة المسيرة الوطنية والشرط الذي لا غني عنه لوجود ديمقراطية صحيحة, تمنع تغول سلطة علي اخري وتحول دون تجميع كل السلطات في يد واحدة تقوي علي البطش! كان الامل ان يستثمر الرئيس مرسي نجاحه في انجاز اتفاق التهدئة الذي حفظ دماء الفلسطينيين واوقف العدوان الاسرائيلي علي قطاع غزة في ترميم جبهة مصر الداخلية, وان يصدر حزمة من القرارات تختلف في توجهاتها عن حزمة القرارات الاخيرةالتي تضمنها الاعلان الدستوري الجديد التي عززت حالة الاستقطاب وزادت من حدته! ؟ واذا كان من حق انصار الحكم الدفاع عن هذه القرارات باعتبارها ضرورات لامناص منها لجأ اليها الرئيس دفاعا عن الشعب والثورة, فان من حق المعارضين التنبيه الي خطورة هذه القرارات لأنها تقوض استقلال القضاء, وتعطي للرئيس سلطات بغير حدود لم تتوافر لأحد من قبل وتحصن قراراته من فرص الطعن عليها امام المحاكم, وتنشئ نيابات جديدة في كافة المحافظات تفتش في صدور الناس بحثا عن اعداء وأصدقاء الثورة, متناسين دروس عام1954 عندما اخذ جميع افراد جماعة الاخوان الي السجون والمعتقلات بجريرة انهم اعداء الثورة, وقديما قالوا من فات قديمه تاه!.
الأهرام
إحياء حلم الخلافة الإسلامية!
السـيد يســين *
بانهيار الاتحاد السوفياتي سقطت الأممية الشيوعية التي قادها وأدارها الزعماء السوفيات منذ أن تولى لينين رئاسة الدولة البلشفية حتى حدث الانهيار العظيم.
وهذه الأممية الشيوعية كان الهدف منها خلق مجال سياسي عابر للدول، تقوم فيه نظم شيوعية تأتمر بتوجهات القادة السوفيات. وربما كانت دول أوروبا الشرقية التي سيطر عليها الاتحاد السوفياتي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة هتلر وسقوط النظام النازي، تمثل نموذجاً لممارسات هذه الأممية الشيوعية لأن هذه الدول كانت تأتمر بأوامر «الكومنترن» الذي كان يعد القيادة الإيديولوجية للبلاد التي خضعت للاتحاد السوفياتي.
وقد أدى سقوط الاتحاد السوفياتي إلى انهيار النظام الدولي الثنائي القطبية الذي كان يتصارع فيه أيديولوجياً وسياسياً الاتحاد السوفياتي باعتباره الزعيم الأوحد للعالم الشيوعي، مع الولايات المتحدة الأميركية التي كانت تعد زعيمة العالم الحر. وتحول النظام ليصبح أحادي القطبية تهيمن عليه الولايات المتحدة بالكامل.
في ظل هذا النظام المهيمن لم يكن من السهل أن تبرز أممية جديدة وخصوصاً أنه في ظل النظام الثنائي القطبية حاول الزعيم الإسلامي السوداني حسن الترابي حين كان مهيمناً على النظام السياسي في بلده أن يؤسس لأممية إسلامية يكون مركزها الخرطوم. وبذل في سبيل تحقيق هذا الهدف جهوداً شتى أبرزها دعوة الزعماء المسلمين من بلاد شتى إلى الخرطوم ليشكل أشبه ما يكون بمجلس إدارة لهذه الأممية الإسلامية البازغة. غير أن مشروع الترابي فشل فشلاً ذريعاً لأنه لم يحسن قراءة تغيرات النظام الدولي الجديد، والذي لا يقبل على الإطلاق تأسيس دول دينية تحكمها بالضرورة اتجاهات سياسية متطرفة إزاء الآخر، أو إنشاء أممية إسلامية تحلم بتوحيد البلاد الإسلامية تحت قيادة واحدة.
وعلى رغم أن النظام الأحادي القطبية الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة ما زال باقياً، إلا أن أهم تغير حدث هو الضعف التدريجي الذي أصاب القوة الأميركية بحكم فشلها بل وهزيمتها الفعلية في كل من العراق وأفغانستان.
هذا على مستوى النظام العالمي، أما على مستوى النظام الإقليمي العربي فإن أخطر التحولات التي حدثت في مجاله هو اندلاع ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية. وهذه الثورات – فيما يرى عديد من المراقبين – فاجأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. غير أن المفاجأة الأكثر وقعاً كانت صعود التيارات الإسلامية إلى سدة الحكم. ففي تونس حصل حزب «النهضة» الإسلامي بقيادة راشد الغنوشي على الغالبية في الانتخابات، وكذلك نجحت جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر متحالفة مع حزب «النور» السلفي في الحصول على الأكثرية في مجلسي الشعب والشورى. وفوجئت الجماعة بانتصارها الكاسح على القوى الليبرالية واليسارية ونجاح مرشحها رئيس حزب الحرية والعدالة الإخواني الدكتور محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية ليصبح رئيساً لجمهورية مصر العربية.
ويمكن القول – بناء على دراسات متعمقة قمت بها – إن الولايات المتحدة الأميركية اتخذت منذ أكثر من عشر سنوات قراراً استراتيجياً مؤداه أنه يمكن لها أن تتعامل مع التيارات الإسلامية عموماً، ومع جماعة «الإخوان المسلمين» خصوصاً حتى لو وصلت إلى الحكم.
والدليل على ذلك أن مؤسسة «راند» الأميركية والتي تعد العقل الاستراتيجي الأميركي الرئيسي نشرت بحوثاً بالغة الأهمية قامت بها الباحثة تشيرلي بينار، وأبرزها تقرير نشر عام 2003 عنوانه «الإسلام المدني الديموقراطي: الشركاء والموارد والاستراتيجيات» قامت فيه برسم خريطة دقيقة للتيارات الإسلامية، ودعت فيه إلى دعم مجموعات من الإسلاميين المعتدلين في العالم العربي.
وهكذا يمكن القول إن صانع القرار الأميركي كان – قبل اندلاع ثورات الربيع العربي- مزوداً بخريطة معرفية كاملة للتيارات الإسلامية، سمحت له بتمويل جماعات شبابية عدة في العالم العربي لتكون دعامة له في خلخلة النظم الاستبدادية العربية إذا دعت الظروف لذلك، ومن بينها على سبيل القطع شباب ينتمون إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وغيرها من الجماعات الإسلامية.
ولم تكتف تشيرلي بينار برسم خريطة التيارات الإسلامية وإنما – في التقرير المشار إليه نفسه – اقترحت استراتيجية متكاملة لإعداد المجتمع العربي لصعود الإسلاميين، والتمهيد السياسي لتعامل صانع القرار الأميركي معهم إذا وصلوا إلى الحكم عن طريق الانقلاب أو من خلال الانتخابات النيابية. ويبقى السؤال: ما الذي حدث بعد أن صعدت جماعة «الإخوان» إلى ذروة السلطة السياسية في مصر، خصوصاً بعد أن تولى القطب الإخواني الدكتور محمد مرسي رئاسة الجمهورية؟
الذي حدث هو أن قيادات «الإخوان المسلمين» وعلى رأسهم المرشد العام للجماعة الدكتور محمد بديع أدلى بتصريح «تاريخي» حين قال – بعد أن حصل حزب الحرية والعدالة على الأكثرية في مجلس الشعب والشورى – «يبدو أن حلم الشيخ حسن البنا مؤسس الجماعة في إحياء الخلافة الإسلامية قد اقترب».
تلت هذا التصريح تصريحات أخرى أكثر وضوحاً أبرزها تصريح القطب الإخواني الداعية الديني المعروف صفوت حجازي بأنه سيتم إحياء الخلافة الإسلامية وستكون عاصمتها القدس، وستصبح مصر مجرد ولاية إسلامية من بين الولايات التي تضمها الخلافة.
وهذه التصريحات لم تكن مفاجئة لي بالذات، لأنه سبق أن دخلت عام 1994 في حوار طويل مع الشيخ الجليل يوسف القرضاوي بصدد دراسة نشرها في التقرير الإسلامي السنوي ووضع لها عنوان «تقرير الأمة في عام» تحدث فيها عن حلمه بعودة نظام الخلافة من جديد.
وطرحت على الشيخ القرضاوي أسئلة حاسمة عدة في ما يتعلق بإحياء نظام الخلافة بيانها كما يلي: هل سيتولى الخليفة منصبه بالتعيين أم بالانتخاب؟ ولو كان بالتعيين من الذي سيعينه، هل «مجلس المجتهدين» الذي اقترحه ولم يبين كيف يمكن اختيار أعضائه؟
واستطردت في أسئلتي قائلاً: «إيماناً بقواعد الديموقراطية هل سيتم انتخاب الخليفة ديموقراطياً، ومن له حق الترشح؟ وهو لا بد أن يكون من رجال الدين مع أنه لا كهانة في الإسلام ولا احتكار في معرفة الشريعة، أم أن أي مواطن عادي يمكن له الترشح»؟
«وهل سيتم تداول السلطة، بمعنى أنه سيتغير الخليفة كل فترة زمنية، أم أنه ما دام قد جلس على كرسي الخلافة فلن ينزل منه أبداً»؟
ورد الشيخ القرضاوي على تساؤلاتي في مقال له نشره في جريدة «الأهرام» في 2/8/1994 بعنوان «تعقيب على مقال الإمبراطورية والخليفة» وهو يقصد مقالي الذي نشرته قبل ذلك بأسبوع وطرحت فيه الأسئلة التي سبقت الإشارة إليها.
قال القرضاوي رداً على تساؤلاتي: «إني لم أفعل ذلك لسببين الأول أني لم أكتب بحثاً عن نظام الخلافة أو النظام السياسي في الإسلام، وإنما كتبت مقدمة عن الأمة المسلمة باعتبارها حقيقة لا وهماً، والثاني أنه ليس من حقي أن احتكر هذا التفصيل لنفسي إنما هو حق الأمة متمثلة في أهل الحل والعقد فيها تختار ما تراه أنسب لظروفها ومرحلة تطورها (انظر تفاصيل الحوار في كتابي «الكونية والأصولية وما بعد الحداثة، الجزء الثاني: أزمة المشروع الإسلامي المعاصر – القاهرة: المكتبة الأكاديمية 1996).
لم يكن الجدل الذي دار بيني وبين الشيخ القرضاوي في عام 1994 سوى مقدمة لمحاولة «الإخوان المسلمين» إحياء نظام الخلافة من جديد على المستوى النظري. أما وقد هيمنوا على الحكم في مصر فقد بدأوا في تنفيذ المخطط من خلال التحالف مع جماعة «حماس» في غزة تمهيداً لاعتبارها إمارة إسلامية ستدخل وفق شروط سياسية متفق عليها مع قيادة جماعة «الإخوان» في مصر في إطار منظومة الخلافة الإسلامية التي يحلمون بإعادة إحيائها لتكون الفردوس المردود بعد أن كانت هي الفردوس المفقود!
* كاتب مصري
الحياة