صفحات العالم

مقالات تناولت الدور التركي في الثورة السورية

هل تُخرِّب الثورةُ السوريةُ تركيا كما خرَّبت الحـروبُ الأفغـانيةُ باكستان؟

    جهاد الزين

-1-

هل باتت تركيا اليوم بالنسبة إلى الوضع السوري الناتج عن الثورة ضد النظام البعثي ما كانَتْهُ باكستان وما استمرت عليه إلى الآن بالنسبة لأفغانستان منذ وقعت تحت الاحتلال السوفياتي؟ وما نتائج ذلك المحتملة على تركيا؟ هنا محاولة للإجابة على السؤال على حلقتين اليوم وبعد غدٍ الخميس.

تركيا بحكم إنجازات الحداثة فيها هي بلدٌ واسعُ النخبِ البورجوازية والطبقة الوسطى الحاملةِ لتقاليد التماسك الداخلي الآتية من مصدرين: الدولة – الأمة التركية وثقافة الدولة الغربية. ولكنها نخبٌ متَرَسْمِلة ومتعولمِة لم تَأْمَن بعد إلى طاقة الشرائح الدنيا الأكبر في المجتمع على التماسك.

اليوم عادت تكْثر مواقف التحذير من ارتفاع درجة خطر التفكك الداخلي. لا تصْدُرُ أصواتُ التحذير هذه عن بعض المعلّقين الصحافيين والسياسيين المعارضين فقط – على الأهمية الأكيدة لهذه الأصوات – بل باتت تشمل الهيئات الإقتصادية من جهة، كما باتت تمس من حيث المضامين مستوياتٍ غير مسبوقة العلنية كمدى كفاءة الجيش التركي لمواجهة التمرد المسلّح الكردي وبالتالي الدعوة إلى إعادة النظر في تركيبته القتالية والتدريبية من جهة أخرى.

ففي كلمةٍ ألقتها رئيسة تجمع الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك (توسياد) السيدة أوميت بوينر تخوّفت من عودة “السلطوية” إلى الحياة السياسية في تركيا قائلة يوم الجمعة المنصرم (14 أيلول) ان الإستقطاب الحاد والكراهية والعدائية يمكن أن تدمِّر كل المنجزات التركية في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. هذا النوع من التحذير يعني أن هذه الهيئة المعتبرة الأقوى في تمثيل كبار رجال الأعمال باتت تستشعر خطر المرحلة على المصالح الاقتصادية العليا وحتى على بنية البلد برمتها.

بين المواضيع التي بات توتّرُها أو تصاعدُ توتُّرِها يفاجئ العديد من المتابعين للشأن التركي (ويفاجئني بصورة شخصية) هو موضوع العلويين الأتراك. ففي الآونة الأخيرة – لاسيما منذ اندلاع الثورة السورية وبدء المواجهات بين الثوار والسلطة – أخذت تظهر فعلا مواقفُ وتحركاتٌ بين العلويين الأتراك وتحديدا في محافظة “هاتاي” (لواء اسكندرون) وصلت إلى حد التظاهر وأحيانا العنف مع بعض اللاجئين السوريين. في المناطق الأخرى في الأناضول  تعيش أقليةٌ علويةٌ تركيةٌ (وكرديةٌ) كبيرةٌ تمتدّ إلى اسطنبول وتتراوح تقديرات عددها من أصل الـ75 مليونا الحاملين للجنسية التركية بين 12 إلى 15 بالماية من وجهة نظر بعض غير العلويين إلى 20-25 بالماية من وجهة نظر بعض المؤسسات العلوية التي باتت تتكلم باسم هؤلاء. وكالعادة كما أكرر دائما يجب البحث عن حقيقة الرقم العلوي داخل تركيا في “الوسط” بين الأرقام المتضاربة  مثلما هي حال نسبة الأقباط في مصر أو الشيعة في باكستان!

غير أن النقطة الجديرة بالطرح هنا هي المتعلقة بالفكرة الشائعة التي غالبا ما يتداولها شفاهةً أو كتابةً بعضُ المتابعين العرب والغربيين للشأن التركي والقائلة ان العلويين العرب في منطقة اسكندرون وأنطاكيا وأرسوز مختلفون دينياً عن العلويين الأتراك – أي ليسوا “طائفة” واحدة.

هذه الفكرة الشائعة أزعم بتواضع في حدود ما ألاحظه وأقرأه أنها غير صحيحة. قد تكون هناك بعض التمايزات في الطقوس الناتجة عن الاختلاف القومي التركي العربي الكردي (والألباني) لكن مضمون التعاليم واحدٌ كما يدل العديد من شهادات علماء اجتماع أتراك وغربيين لديهم مؤلفات باللغة التركية أو مترجمة إلى اللغة الإنكليزية موجودة في المكتبات التركية. وبعض هؤلاء حضر جلسات دينية وَصَفَها ونَقَل بعضَ نصوصِها.

هنا يجب أن نقف عند أمرين:

الأول هو أن تَقَدّمَ الدولةِ التركيةِ الحديثةِ منذ عام 1923 وانتقال ملايين الفلاحين الأناضوليين للعيش في المدن الكبرى لاسيما اسطنبول وإزمير وأنقرة بمن فيهم الفلاحون العلويون قد أديا إلى بدء تكريس ظاهرة جديدة أو كانت جديدة في أوساط العلويين وهي قيامُهم بافتتاح مراكز عبادة علنية في المدن الكبرى يُسمّونها “دِرجة” يقومون فيها بأداء صلواتهم الخاصة أو الجزء المقرر إعلانه من طقوسهم الخاصة أو ما يحب أن يسمّيه ناشطون بينهم وبتصريحات علنية “مفهومنا للإسلام” أو “قراءتنا للإسلام” (Our Interpretation of Islam). بهذا المعنى هذا القدرُ المستجدُّ من العلنية العلوية هو إحدى نتائج تَقدّم الحداثة التركية بمستوياتها الديموقراطية والإجتماعية والإقتصادية. وتبعا لما شاهدته شخصيا في إحدى “دِرْجات” الجزء الآسيوي من اسطنبول برفقة الصديقة التركية فوليا أتاسان استاذة علم الاجتماع والباحثة المتخصصة في علم الاجتماع الديني (والسنية المذهب)… ما شاهدتُه في تلك الجلسة  ليس قليلا أبدا قياسا على ما يمكن أن نعتبره “شديد الخصوصية” الدينية ومع ذلك فهو علنيٌ وليس سريا.

الثاني هو أن التقسيم التاريخي لتشكّل العلويين في تركيا خلال العهد العثماني يأتي من مصدرين شعبي ونخبوي: الشعبي هو جماهير الفلاحين الجبليين المعزولين تاريخياً في الجبال وهم الأكثرية العددية والثاني نخبوي من حيث أصوله السنية المسلّم بها وهو الطريقة الصوفية البكتاشية التي كانت الطريقة المعتمدة لدى الفرق الإنكشارية السنية والتي تحوّلت بعد ضرب الإنكشارية في اسطنبول سنة 1826 وحلِّ فِرَقِهم إلى مذهب باطني علوي منتشر في المدن لاسيما البلقانية.

لقد آلت حصيلة التجربة التركية على هذا الصعيد إلى نتيجتين متلازمتين إذن: من جهة، نقلُ العلويين إلى مزيد من الإندماج الاجتماعي ليس الانتقال إلى علنية الطقوس المذهبية سوى احد تجلّياته الأساسية، ومن جهة ثانية بلورةُ شخصيةٍ مذهبيةٍ موّحدةٍ مناطقيا وعابرة للقوميات داخل تركيا أي ضمن الوعي الوطني التركي. هكذا فإن الهيئات العلوية باتت متشعبة على كل المناطق التركية. من هنا يجب عملُ حسابٍ لتبلور الشخصية المذهبية العلوية ولو أنها كانت دائما في تركيا صاحبة مطلب الاعتراف الديني بها ضمن هيئة إدارة الشؤون الدينية التابعة للدولة وليست صاحبة مطالب سياسية. هذا المستوى السياسي تنبغي مراقبتُه من الآن فصاعدا في ظل الجو العام لصعود التيارات الدينية الأصولية السنية في المنطقة وما إذا كان سيتغيّر سلبا أو ايجابا في التعبير عن نفسه على ضوء الانخراط الحيوي التركي في التحولات العربية.

هذا خطرٌ بعيد الأمد على تجربة التماسك الحداثي التركي او على الأقل هو ليس في الواجهة حالياً رغم تصاعد تحذيرات معلّقين أتراك.

العنصر الذي يبدو أخطرَ اليوم على التماسك وحتى على وحدة الأراضي التركية هو الموضوع الكردي المتفاقم يوميا في مواجهات عسكرية في مناطق عديدة.

 لقد ذهب إحسان داغي المعلّق في صحيفة “زمان” إلى حد اعتبار أن “الآخر الجديد” هو “الكردي” بالنسبة لحزب العدالة والتنمية بعد أن استطاع الانتصار على “الآخر الأول” وهو الوصاية العسكرية على الدولة والمجتمع. وأن الصراع في تركيا سيكون محكوما بهذه المواجهة لفترة طويلة. ولم يكن صعبا منذ تصاعد العمليات الكردية المسلّحة وتبني رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان لخطاب قومي متشدد حيالها أن نلاحظ تحوّلَ حزب العدالة والتنمية المتزايد نحو خطاب “أتاتوركي” كلاسيكي في المسألة الكردية. حتى أن بعض المثقفين الأتراك ذهب إلى حد الحديث عن “تغيير في هوية الحزب”.

-2-

“البَاكِسْتَنَة”: هل تخرِّب الثورةُ السوريةُ تركيا؟

الذي “خرِب” في الواقع بسبب الدور الأساسيِّ الذي تلعبه باكستان حتى اليوم في الوحْل الأفغاني، هو المجتمع الباكستاني نفسه. دخلتْ تركيا معمعة الربيع العربي من الباب السوريِّ دون أن تكون مستعدة. فكان أن لعب رجب طيب أردوغان بحس المستشرف ولكن بإرادة المقامر.

ليست المؤشراتُ العسكرية وحدها هي التي تدفع المراقبَ إلى تلمّسِ تنامي جوٍ خطيرٍ جديدٍ في الوضع التركي. فبالإضافة إلى ذلك باتت تعبيرات القوى المدنية الكردية وبينها كتلة النواب الأكراد في البرلمان أكثر جرأةً على الإدلاء بتصريحات قاطعة في تشديدها على الهوية الكردية بل وفي دفاعها عن حزب العمال الكردي (PKK) وهذه من المحرمات، حتى أن الحدث الذي هزّ تركيا قبل أسابيع (19 آب) هو لقاءٌ في إحدى المناطق في محافظة هاكاري في الجنوب الشرقي نقلتْ صورَه الصحفُ بين مقاتلين من حزب العمال وبين تسعة نواب أكراد من حزب السلام والديموقراطية (BDP) في البرلمان التركي. ومع أن النواب ادّعوا وبينهم سيدات، إحداهن نائبة رئيس الحزب، أن اللقاء الذي تخللته معانقاتٌ كان بمحض الصدفة إلا أن عنصر الترتيب المسبق كان واضحا فيه رغم الجو الدراماتيكي الذي يولّده سقوط ضحايا عديدة وبشكل شبه يومي من الجيش التركي ورغم الزواجر القضائية الصارمة التي تجعل تركيا من أبرز البلدان التي يتعرض فيها الصحافيون والناشطون السياسيوّن للسجن.وأمس الأول بالذات أصدرت محكمة تركية حكما بالسجن ثماني سنواتٍ وتسعةَ أشهرٍ على النائبة الكردية  من (BDP) صباحات تونْسِل بتهمة عضويتها السرية في (PKK).

إلى أي حد يساهم الوضع السوري الناشئ عن الثورة السورية في توليد و مفاقمة المظاهر الخطِرة من التململ الاقتصادي لدى رجال الأعمال الأتراك و بعض المجاهرات العلوية العنفية في أنطاكيا والأهم حاليا عودة الحرب بين الجيش وحزب العمال الكردي إلى مستواها في الثمانينات والتسعينات إنْ لم يكن أكثر… وماذا سيكون تأثير هذه المظاهر على مستقبل “المنجزات التركية” حسب تعبير رئيسة تجمع الصناعيين ورجال الأعمال (توسياد)؟

لا شك أن تركيا باتت اليوم بالنسبة إلى الوضع السوري ما كانته باكستان وما استمرت عليه إلى الآن بالنسبة لأفغانستان منذ وقعت تحت الاحتلال السوفياتي.

لقد انهزم السوفيات في أفغانستان وربح “المجاهدون” الحرب عليهم ولكن باكستان منذ ذلك الحين لم تعد هي نفسها وارتبط عدم استقرارها بدورها الثابت في الحرب الأفغانية التي لم تنتهِ حتى اليوم عبر تعاقب جيلين من التيارات الحاكمة والثائرة فيها على السواء.

صحيح أن باكستان وُلدت من فكرة تجميع المسلمين الهنود في دولة واحدة لكن الدولة لم تكن أصولية في أي يوم . واحتفظت نخبها ذات الشخصية المحافظة بنوع خاص من “التوجه العلماني” في ظل ارتباط قيامها أيضا كدولة بالغرب وبالدور المركزي الذي تلعبه مؤسسة الجيش فيها.

الذي “خرِب” في الواقع بسبب الدور الأساسي الذي تلعبه باكستان منذ أكثر من ثلاثين عاما إلى اليوم في الوحل الأفغاني … الذي “خرِب” هو المجتمع الباكستاني نفسه قبل أي شيء آخر. فعشرات الألوف بل مئات الألوف من العناصر الأصولية الأفغانية وغير الأفغانية الآتية من كل حدبٍ وصوب في المرحلة الأولى بتمويل وتشجيع أميركي سعودي متحالفٍ مع الدعم الإيراني للثورة ضد السوفيات لم يجعل من المدن الباكستانية، وخصوصا بيشاور، مجردَ قواعد لدعم الجهاد الأفغاني فحسب بل حرّك في المجتمع الباكستاني من البنجاب إلى السِند نوازعَه الأكثر ظلامية وعنفاً وطائفية بفعل الإحتقانين السني والشيعي. في هذا الوقت كانت المعادلة الاستراتيجية التي رسمها الجيش الباكستاني ومعه الدولة الباكستانية في منظور مصالحها العليا هي ضرورة بناء علاقة عميقة مع “طالبان” انتقلت من عهد باكستاني الى عهد آخر أكان مدنيا أم عسكريا. ولهذا صار من الثوابت أن المخابرات العسكرية الباكستانية هي صاحبة نفوذ خاص على “طالبان” أيا يكن مستوى تحالفها الوثيق مع واشنطن. وواحدة من المشاغل المعلنة لوكالة المخابرات المركزية الأميركية منذ أكثر من عقد هي هذه العلاقة المريبة.

باختصار: رَبح الثوارُ في أفغانستان ولكن باكستان تورّطت بصورة أدّت إلى تخريب جزء مهم من نخبها ومؤسساتها بما فيها الاقتصادية حتى أنها قاربت أن تصبح “دولة فاشلة” بالمعايير الغربية إذا لم تكن قد أصبحت! فكيف، وهذا ما يثير الهلع في العالم، أنها دولة بإمكانات نووية بات عدد سكانها يتجاوز الماية وخمسين مليون نسمة؟ وأتذكّر أن وزير المال في حكومة نواز شريف أخبرني في تشرين الأول عام 1998 في إسلام آباد أن الإحتياط النقدي للدولة من العملات الصعبة في المصرف المركزي هبط إلى سبعماية مليون دولار وهو رقمٌ ضئيلٌ جداً قياساً على حجم دولة مثل باكستان (دولة صغيرة مثل لبنان لا تقبل قطعا بهذا الرقم كاحتياط نقدي).

بدون شك كانت تركيا دوما حتى في أزمنة الانقلابات العسكرية دولة أنجحَ من باكستان بمعايير التحديث الاقتصادي. صحيح أن هناك عناصرَ تشابهٍ بين المؤسستين العسكريتين في البلدين من حيث تَشكّلُ كليهما بمفهوم “دولة الجيش – جيش الدولة” إلا أن أفق التطور التركي كان أقوى وأكثر قدرةً على التحديثين الاجتماعي والاقتصادي.

الأقدار شاءت في القرن الحادي والعشرين أن تجعل تركيا هي القاعدة الأولى لدعم الثورة السورية، شبيهة فعلا بِـ”انطلاقة” دور جديد لباكستان بعد الاحتلال السوفياتي. كانت إيران أيضا تدعم “المجاهدين” لكن مركز الثقل هو باكستان. اليوم تركيا، لا الأردن ولا لبنان الشمالي على أهمية تسلّلِ المقاتلين والأسلحة منهما إلى سوريا، هي القاعدة الضخمة السياسية العسكرية للحرب ضد النظام السوري. هذا يعني أن عليها – وهي بدأت فعلا – محاولة التكيّف مع تدفّق صنوفٍ مختلفة من وإلى أراضيها من اللاجئين والمقاتلين السوريين والعرب وغير العرب مع ما يعني هذا من كِلَفٍ وتعقيدات عملية واختلاطات قد تكون خطرة على المجتمع التركي في جو أصبحت فيه السياسة الإقليمية التركية أكثر أسلمةً وانخراطاً في “المحور السني” ضد “المحور الشيعي” دون أن تكون تركيا قادرة على استحداث خط داعمٍ للثورة السورية يستطيع أن يتميّز عن نموذج التنافس المذهبي الضيّق الإيراني السعودي؟

ماذا لو طالت الحرب السورية وطال معها الأخدود الكرديُّ الطويلُ على معظم الحدود السورية الشمالية – الشرقية مع تركيا وطالت “الباكستنة” سنواتٍ وأصبحت غازي عينتاب التركية بيشاورَ الجديدة وطريق أورفة – إعزاز “ممر خيبر” الثاني؟

لا عودة إلى الوراء في سوريا والنظام سيتغير بطريقة ما حتمية. لكن ماذا لو كانت المرحلة الانتقالية طويلة جدا بحيث يُرهَق أو يُخرَّب النسيج التركي بينما يربح التغيير السوري؟

لقد دخلتْ تركيا معمعة الربيع العربي من الباب السوري، أي أخطر الأبواب كما ظهر، دون أن تكون جاهزة. فَرضَ عليها الوضعُ العربيُّ الجديد أن تلتحق به دون استعداد كافٍ، فكان أن لعب رجب طيب أردوغان بحسّ المستشرف ولكن بإرادة المقامر. بَهَرَتْهُ وبهرت قيادةَ حزبِهِ ضخامةُ التحولاتِ الداخلية في الدول العربية و مَوْجِها الغربيِّ الأميركي الأوروبي الاستراتيجي، فاندفع فيها كذئبٍ أناضوليٍّ مراهناً على وراثة إيران وسقوطٍ سريع للنظام السوري وغيرَ مقدِّرٍ عداوةَ الدبِّ الروسيِّ على كتف تركيا الشرقي و أهلية الجَمَلِ السعودي لوراثة طهران في سوريا بدلا من أنقرة.

أي كلام آخر هو نوعٌ من المكابرة. خصوصا مكابرات الأستاذ أحمد داود أوغلو. وها هي السعودية مرة أخرى بعيدةٌ عن خط التماس المباشر لأزمة هائلة ولا يدخل إلى أراضيها بالتالي لاجِئون. ها هي المملكة كما في دورها الباكستاني قوةُ دعمٍ وتمويلٍ عن بعد،  وكما كانت في دورها العراقي خلال الحرب مع إيران في الثمانينات. بينما تركيا اقتحمت الثورة السورية وأقحمتْ نفسَها في دور الداعم المباشر الأول جغرافياً وسياسياً وعسكرياً. وهذه مهمة جديدة تماما على تاريخها المعاصر منذ تأسيس الجمهورية. لذلك فالمجازفة هائلة عليها بصورة خاصة لأنه – للتكرار – نجاح التغيير في سوريا قد لا يعني بالضرورة نجاحا لتركيا.

لم يكن ممكنا لأردوغان إلا الانخراط في التغيير السوري. السؤال الذي تخطّاه الزمنُ الآن هو هل كان بإمكان أردوغان اختيار طريق ثالث لدعم التغيير واحتضان المعارضة السورية؟ الجواب نعم.

في النتيجة لا شك أن تركيا تملك عناصر قوة ذاتية أقوى وأمتن من باكستان تجعل مناعاتها أعلى. لكن التجربة جديدة والتحذيرات يطلقها أتراك…

النهار

الأربعاء

قراءة مختلفة: بلى تركيا ربحت

معركــة «الربيــع العربــي»!

مصطفى اللباد

أثار مقال الأسبوع الماضي (هل ربحت تركيا معركة «الربيع العربي»؟) نقاشاً لم يهدأ بعد على الأقل في بعض دوائر تركيا، التي تنشغل منذ اندلاع الربيع العربي بتقييم تداعياته عليها. لم يعد الانشغال التركي بموقعة «الربيع العربي» حكراً على الطبقة السياسية فقط، بل امتد ليصبح شأناً داخلياً تركياً بعد أن أصبح الاشتباك السياسي والإعلامي بين الأحزاب التركية متركزاً بالأساس على السياسة الخارجية. وفي حين يرى حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في «الربيع العربي» فرصة لتثبيت حضور تركيا في المنطقة، وإثباتاً لصوابية التوجهات الأساسية لسياسته الخارجية، يرى خصومه في حزب «الشعب الجمهوري» ذي الطابع العلماني واليساري أن انخراط تركيا المتزايد في «الربيع العربي» بالكيفية التي يجري بها قد أفقد تركيا هويتها وموقعها السياسي المتميز. تلقيت الكثير من الردود على مقال الأسبوع الماضي، أكثرها مؤيد وأقلها معارض لما كتبت. أورد في هذه المساحة اليوم ردين معارضين لما كتبت من زميلين عزيزين في مجال العلوم السياسية والاستراتيجية، يعملان منذ سنوات في مطبخ السياسة الخارجية التركية، ضمن طاقم رئاسة الوزراء. أنشر هنا رديهما كاملين توخياً لتعميم الفائدة من النقاش، وبدون أي تغيير لا في الشكل ولا في المضمون، حرصاً على التعددية في الآراء وعلى الحق في طرح وجهات نظر معاكسة، وأحجم لأسباب مفهومة عن ذكر اسميهما.

الرد الأول

عزيزي فلان المحترم،

اختلف مع ما كتبت وأركز على نقطتين:

أولاً: دعمت تركيا الانتفاضات والثورات الشعبية في خلال السنتين الماضيتين، وليس فريقاً واحداً فقط، إسلامياً أو غيره. ولا يوجد دليل واحد على أن تركيا دعمت جماعات مثل «الإخوان المسلمين» في مصر على سبيل المثال. وفي سوريا استمرت سياسة الدعم نفسها لكل القوى، بغض النظر عن خلفياتها العرقية والطائفية والدينية أو رؤاها السياسية.

ثانياً: تركيا هي أحد الرابحين من «الربيع العربي»، لأن الفاعلين السياسيين الجدد في تونس وليبيا يحتفظون بروابط جيدة مع تركيا، ويريدون العمل بشكل أكثر قرباً معها الآن. فلننظر إلى الحقائق: بدعمها الثورات العربية، ربحت تركيا عقول الشعوب العربية والإسلامية وقلوبهم، وحصلت على ثقة اللاعبين الجدد هناك، وظهرت قيادات سياسية جديدة في تونس وليبيا ومصر، وكل هؤلاء لديهم علاقات جيدة مع تركيا. من «حركة النهضة» في تونس إلى الرئيس محمد مرسي في مصر، فالكوادر السياسية الجديدة لديها رؤية سياسية للشرق الأوسط، والسياسة العالمية تقترب كثيراً من رؤية تركيا. تركيا لديها علاقات جيدة مع دول الخليج، ومن ضمنها السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة والكويت والبحرين، وتتعاون مع هذه الدول بشكل حثيث في مسائل سياسية واقتصادية وأمنية مختلفة، بما في ذلك قضية سوريا.

الرد الثاني

عزيزي فلان المحترم،

قرأت مقالك، ولدي بعض الملاحظات. ولنسمها، إن شئت، قراءة مختلفة:

1- نموذج الدور في مقابل اللاعب الإقليمي: كان نموذج الدور إشكالياً منذ البداية، لأن تركيا لم تدّعٍ هذا الدور أو تطلبه لنفسها حتى. إنه شيء ألحق بنا ولم نطلبه؛ وما زلنا لا نفهم الاهتمام وراء ذلك. تركيا تشارك في عملية يتعلم فيها كل الأطراف بعضهم من بعض، أو يثرون بتبادل خبراتهم؛ وبالتالي، فالعلاقة ليست أحادية الجانب. وعلى الخط نفسه، فالانخراط الفاعل مطلوب، لأن تركيا ليست طرفاً خارجياً (بالمعنى الجيو- سياسي الأوسع)، ولكنها جزء من المنطقة. ولذلك، فإن افتراض أن تركيا مجرد لاعب ضمن لاعبين هو إشارة إلى التفكير من خلال المصطلحات القديمة، التي أعتقد أنها غير قادرة على فهم عملية التحول الجارية الآن.

2- تركيا: لا بد من ملاحظة أن اهتمام المجتمعات العربية بتركيا لم يكن أبداً اهتماما بتركيا القديمة (يرمز إليها بالتدخل العسكري، والأدوار غير الديموقراطية إلخ)، ولكن اهتمام، كما تعلم، بما نطلق عليه تركيا الجديدة. من الحساس ملاحظة ذلك لأن مثل هذا التوصيف يسمح لنا برؤية التأثير التعليمي المتعدد الأبعاد للثورات العربية على تركيا وعبرها تركيا. باختصار: على العكس مما احتوت عليه مقالتك، فالإثنان تركيا الجديدة، والثورات العربية يدعم بعضها بعضاً بشكل عضوي تماماً، وهي أصبحت ضمانة تركيا الجديدة. في مثل هذه العلاقة تصبح تركيا أكثر من مجرد لاعب إقليمي.

3- دعنا نركز على عمليات محددة بدلاً من التركيز على أحداث بعينها وتأثيرها في صورة تركيا. أنا أوافق على أن سياستنا الحاسمة بعد «أسطول الحرية» أو «دافوس» كانت حساسة، ولكن في النهاية لدينا عملية تحول أصبحت فيها الإرادة الشعبية وروح الديموقراطية التعددية جزءا من المشهد السياسي في المنطقة. سيكون هناك مشاكل وأزمات وأخطاء على الطريق، ولكنه الطريق الصحيح، وأعتقد أن العملية ستمضي بقوة أكبر.

4- كانت تركيا منذ البداية داعمة لروح الثورة، وليس لهذا الفريق أو ذاك، وستبقى كذلك. (التعددية، الديموقراطية، إرادة الشعب، الرخاء – التنمية، التغيير الديموقراطي إلخ). أود أن أسألك عن دليل محدد، إذا أردت إقناعي بوجهة نظرك: أين وكيف دعمت تركيا مجموعة واحدة فقط واستبعدت الآخرين؟ اعتقد أن هذا انتقاد غير منصف.

5- اعتقد أن تحليلك يستند إلى اعتبار الدور التركي خارجياً، حتى وإن لم تشر إلى ذلك صراحة. كما فعلت تركيا الجديدة في التطبيق، تصرفت باعتبارها أحد المراجع لروح الثورات العربية. ونعتقد أيضاً أن الثورات العربية أصبحت النقطة المرجعية لتكثيف عملية الدمقرطة الجارية في تركيا. في هذه القراءة، لا تكون الثورات العربية خارجية بالنسبة لتجربتنا الخاصة، ولا تجربتنا الخاصة خارجية للمنطقة. لقد دعمت تركيا التأثير المتبادل ليس في المضمون (لأن الديناميكية السياسية المختلفة ستؤدي إلى نتائج محددة مختلفة)، ولكن في الشكل والروحية (الدمقرطة، المشاركة الأوسع، التعددية، التماسك السياسي للتنوع، وغير ذلك).

في الأسبوع القادم نتابع المساجلة حول موضوع: هل ربحت تركيا معركة «الربيع العربي»؟

[ رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية – القاهرة.

السفير

الأحد

تركيا وتداعيات الأزمة السورية

محمد السعيد ادريس

سؤال “تركيا إلى أين؟” مازال يتوارى خلف أسئلة كثيرة أخرى تبدو أكثر سخونة ذات علاقة مباشرة بالأزمة السورية المتفاقمة التي ينشغل الكثيرون بالتداعيات ذات العلاقة بأحد وجهيها، وهو وجه الصراع الدائر في الداخل السوري بين النظام والأطياف المختلفة للمعارضة، أما الوجه الآخر، ورغم أنه صراع أشد ضراوة وهو الصراع على سوريا بكل أطرافه العربية والإقليمية والدولية، فلا يحظى إلا بالنزر اليسير من الاهتمام، ربما لأن الدماء التي تسيل داخل سوريا، والتي تجاوزت كل ما هو متوقع لم يعد في مقدور أحد تجاهلها، لكن رغم ذلك فإن الدماء التي يتوقع أن تسيل في المواجهات التي سوف تنكشف وتتفجر بين الأطراف التي تتصارع على سوريا، وعلى الأخص منذ اللحظة الأولى لسقوط النظام، قد تتجاوز كثيراً ما يسيل الآن من دماء بين النظام والمعارضة .

مؤشرات أحد تداعيات هذا الصراع على سوريا على مستواه الإقليمي، أخذت تبرز في تركيا التي بدأت خطواتها، إزاء الأزمة السورية، تتعثر نظراً لأن بعض شرارات الحرب في سوريا وصلت إلى الداخل التركي، ونظراً لفشل تركيا في احتواء بعض تداعيات الأزمة السورية، والدور التركي البارز في هذه الأزمة على علاقاتها مع كل من إيران والعراق .

فالأزمة السورية بالنسبة إلى كل من طهران وأنقرة ليست مجرد ملف هامشي، بل أساسي ومهم واستراتيجي في آن، وتركيا التي توقعت سقوط النظام السوري سريعاً في أعقاب سقوط النظام المصري، صدمت بنجاح النظام في البقاء، وصدمت أكثر في عمق الاهتمام الإيراني بالإبقاء على هذا النظام، ومع كل تورط تركي في سوريا كانت تفاجأ بتورط موازٍ في علاقاتها مع إيران، وامتد التورط إلى العراق، ومرة واحدة وجدت تركيا نفسها في تورط مع المثلث الاستراتيجي الذي راهنت عليه في مشروعها نحو الشرق: إيران والعراق وسوريا، لكن التورط الأهم يبدو أنه سيكون مع الداخل التركي، وأن المعارضة التركية لن تفوّت فرصة فشل حكومة حزب العدالة والتنمية في إدارة ملفاتها الإقليمية أولاً، وفشلها المتوالي في ضبط الانفلات الأمني والتهديدات التي تواجه الجيش التركي إزاء هجمات حزب العمال الكردستاني التركي المعارض ثانياً، من أجل إسقاط حكومة رجب طيب أردوغان، وعندها ستكون إجابة سؤال: “تركيا إلى أين؟” قد تحددت أبرز معالمها

فعلى مدى الأشهر القليلة الماضية ظلّت أنقرة وإيران حريصتين على ضبط علاقاتهما بمعزل عن تطورات الأزمة السورية، خصوصاً مع اهتمام طهران بالدور الذي تقوم به تركيا إزاء أزمة ملفها النووي مع مجموعة الدول الغربية، واستضافة إحدى جولات مفاوضات مع “مجموعة دول 5+1” في إسطنبول، لكن بعد التصريحات المتشددة الإيرانية ضد تركيا التي جاءت على لسان رئيس أركان الجيش الإيراني فيروز أبادي التي حمل فيها تركيا مع دول أخرى مسؤولية الدماء التي سفكت في سوريا، لم يعد في مقدور أنقرة أن تتجاهل هذه الاتهامات، خصوصاً أنها توافقت مع تصريحات مشابهة صدرت عن سعيد جليلي الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني في جولته الأخيرة التي زار فيها سوريا ولبنان والعراق، وأكد أن “إيران لن تسمح أبداً بسقوط أحد أضلاع محور الممانعة”، ويقصد سوريا الأسد . وتزامنت هذه الاتهامات مع الاشتباكات العنيفة التي شهدتها منطقة “هكاري” جنوب شرقي تركيا بين المئات من عناصر حزب العمال الكردستاني والجيش التركي الذي أعلن المنطقة محظورة، ومنع على الجميع بمن فيهم الإعلاميون وأعضاء البرلمان دخولها، الأمر الذي يزيد من حدة تصاعد الأزمة بين تركيا وإيران، في ظل اتهامات تركية لسوريا وإيران بدعم حزب العمال الكردستاني .

الرد التركي جاء على لسان رئيس الحكومة أردوغان، وبعنف، ضد من أسماهم “أعداء تركيا” الذين يدعمون “المنظمة الإرهابية” (حزب العمال الكردستاني) . وفي معرض انتقاده لإيران قال “إننا وقفنا مع إيران حين لم يكن أحد معها . وهل من معتقداتنا أن ندافع عن نظام قتل 25 ألف شخص (حتى ذلك الوقت)؟ على القيادة الإيرانية أن تحاسب نفسها أولاً”، كما انتقد أردوغان الرئيس السوري بشار الأسد متسائلاً: “هل يمكن أن نقول عنه إنه مسلم؟”، كما شن هجوماً لا يقل ضراوة على كمال كيلتيشدار زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، واصفاً إياه بأنه “جزء من الحملة المعادية لتركيا . وكما يوجد في سوريا حزب البعث يوجد في تركيا حزب الشعب الجمهوري” . هذه المشابهة شديدة الخطورة تعطي مؤشرات إلى عمق أزمة الحكم داخل تركيا، وعمق الخلافات بين الحكومة والمعارضة، وهي خلافات تزداد عمقاً مع تدافع تداعيات الأزمة السورية على تركيا، وهي تداعيات تزداد اتساعاً وخطورة يوماً بعد يوم .

نستطيع تحديد ثلاثة تداعيات بارزة حتى الآن، أولها وأخطرها استئناف حزب العمال الكردستاني المعارض نشاطه القتالي داخل الأراضي التركية، بعد كل الدعم الذي حظي به من الرئيس السوري بشار الأسد في رد منه على سماح أردوغان بإيواء ودعم عناصر المعارضة السورية المسلّحة، ودعمه لفرض شمال غرب سوريا أرضاً شبه محرّرة خاضعة للمنشقين من الجيش السوري وعناصر المعارضة المسلحة . فقد سحب الأسد قواته من منطقة شمال شرق سوريا ذات الأغلبية الكردية، وفتحها أمام قوات حزب العمال الكردستاني التركي المعارض، ومنذ ذلك الوقت بدأت أصداء عمليات هذا الحزب تصل بعمق إلى الداخل التركي، وعلى الأخص داخل البرلمان، وفي الإعلام التركي، خصوصاً بعد تزايد خسائر القوات التركية في الحرب على الأكراد .

ثاني هذه التداعيات السلبية امتد إلى العلاقة التركية مع العراق، وهي علاقة تتردى وتتأثر بتردي الأزمة بين تركيا وإيران، لكن الأمور تزداد سوءاً بعد تحدي حكومة أردوغان الحكومة العراقية، وإعلانها على لسان رئيسها أنها لن تسلّم طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية العراقي الذي صدر بحقه حكم بالإعدام . فقد أعلن أردوغان أن “تركيا لن تسلّم نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي”، كما أكد أن “تركيا ستواصل استضافته ما لم يرغب هو شخصياً في غير ذلك” . وبدوره رفض الهاشمي الحكم الصادر غيابياً بحقه، وأكد أنه “لن يعود إلى العراق إلا إذا قدمت له ضمانات بالأمن وبمحاكمة عادلة”، مشدداً على أن المهلة لا تعنيه، وذلك رداً على المطالبة بعودته إلى العراق خلال 30 يوماً . كما اتهم الهاشمي رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بالوقوف وراء الحكم، ووصفه بأنه “ظالم ومسيّس ولا شرعية له”، معتبراً أنه وسام يضعه على صدره .

تداعيات حكم الإعدام بحق الهاشمي داخل العراق يمكن أن تفاقم من أزمة العلاقات بين العراق وتركيا، في وقت تتمسك فيه تركيا بإيواء الهاشمي، وهذا ما فهمته صحيفة “ميلليت” التركية بوصفها للحكم بإعدام الهاشمي أنه “يكشف الصورة الخارجية للنزاع القائم بين المالكي والهاشمي على السلطة، ولكن الصورة الحقيقية الخفية هي انزلاق العراق إلى حرب سنيّة شيعية، والدليل على ذلك تصاعد أعمال الإرهاب في العراق بعد صدور قرار المحكمة مباشرة، وهذا يكشف لنا خطورة الموضوع وجديته” .

ما تحدثت عنه الصحيفة من “انزلاق” للعراق في حرب طائفية لا يخفي حقيقة “انزلاق تركيا” إلى طرف غير مباشر في هذه الحرب بتأكيدها التمسك بعدم تسليم الهاشمي في حالة مطالبة بغداد بذلك، كما أن الأمر تجاوز هذه الحدود، وامتد التحدي التركي للعراق لدرجة قيام وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو بزيارة مدينة كركوك في شمالي العراق، من دون علم أو إخطار الحكومة المركزية في بغداد، ما دفع الحكومة العراقية إلى تشكيل لجنة خاصة للتحقيق في ملابسات هذه الزيارة، وبادرت بإبعاد القنصل التركي في الموصل وكركوك .

أما ثالث هذه التداعيات فيتعلق بالأزمة المتصاعدة داخل البرلمان والصحافة التركية، بسبب ما يتردد عن أوضاع اللاجئين السوريين في المناطق الحدودية التركية مع سوريا، ورفض أحزاب المعارضة لوجود اللاجئين، وسط اتهامات من الحكومة لأحزاب المعارضة بتحريض الرأي العام ضد هؤلاء اللاجئين، لخلق اشتباكات طائفية، واتهامات أحزاب المعارضة للحكومة بالإشراف على تلقي معارضين سوريين تدريبات عسكرية في بعض المخيمات، وخاصة مخيم “أبايدن” الذي رفضت الحكومة دخول نواب إليه، كونه يضم عناصر منشقين عن الجيش السوري مع عائلاتهم، الأمر الذي أخذ يفاقم مشكلات وجود النازحين السوريين الذين بلغت أعدادهم 80 ألفاً وانعكاساتها على الداخل التركي . تداعيات تلاحق حكومة أردوغان قد تدفعه أو تجبره على مراجعة دور تركيا في الأزمة السورية وانتهاج سياسة انكماشية في علاقاته الإقليمية، لكنها في الوقت نفسه مؤشرات مهمة للمعارضة التركية لاستغلال هذه التداعيات ضد بقاء حكومة أردوغان، والنيل من شعبيته وشعبية حزبه .

الحليج

السبت

رهان تركي

مصطفى زين

نفى وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو أن تكون حكومة حزب «العدالة والتنمية» الحاكم «إخوانية»، مستشهداً بعلاقاتها مع رؤساء ومسؤولين غير إسلاميين، ومنهم الرئيس بشار الأسد، قبل الخلاف بينهما.

تصريحات داود أوغلو جاءت رداً على انتقادات اليمين واليسار موقف الحكومة من الأزمة السورية، وتحويلها تركيا إلى «قاعدة لتدريب المسلحين الإسلاميين من مختلف الجنسيات ودفعهم إلى الجهاد في سورية، تماماً مثلما كانت باكستان قاعدة للجهاديين بالنسبة إلى افغانستان»(صحيفة «ميلليت»).

لكن وزير الخارجية كان يهدف من رده على هذه الإنتقادات أيضاً، إلى تكذيب أنباء عن خلاف بين أنقرة وواشنطن على شكل النظام في «سورية بعد الأسد»، وتكذيب معارضين لسياسة أردوغان في الحزب الحاكم، فقد سرب بعضهم إلى صحيفة «يني شفق» المقربة من «العدالة والتنمية»، خبراً مفاده أن أكثر من موفد أميركي، خصوصاً رئيس الأركان مارتن ديمبسي، طلب من أنقرة المشاركة في محاربة حركة «طالبان» في أفغانستان، والإستعداد للتصدي لـ»القاعدة» في سورية، وإقامة نظام في دمشق لا يقتصر على الإسلاميين ولا يجتث البعثيين، مقابل دعم أميركي غير محدود لمحاربة حزب «العمال الكردستاني» الذي كثف نشاطه العسكري في الفترة الأخيرة.

هو خلاف بين حلفاء لن يعيق التعاون بينهم لتحقيق هدف واحد: ضم سورية إلى معسكر إسلامي، بالنسبة الى تركيا، أو معتدل، على ما تقول واشنطن.

ولأن داود أوغلو ما زال مصراً على تطبيق نظريته التي ترى إلى تركيا مركز التطور في العالم الإسلامي، لم ير بداً من التذكير بأن

«مجتمعات الأكراد والأتراك والبلقان والقوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط في حاجة الى تجديد نفسها، ويمكن ان تكون تركيا مركز هذا التجديد».

لكن، هناك أيديولوجيتان تعيقان هذا الطموح هما الأيديولوجيا القومية في سورية والمذهبية في إيران. ولا بد من معالجة هذا الواقع لتجاوزه، فكان البدء بسورية الغارقة في دماء أبنائها الآن، وهي، بعد كل هذا الدمار في حاجة إلى عشرات السنين لتقف على قدميها وتستعيد دورها في المنطقة، وتستطيع قول نعم أو لا، خصوصاً أننا لا نرى في الأفق اي مشروع عربي لإنقاذها مما هي فيه.

ويراهن داود أوغلو على أن المنطقة المتجهة إلى الأسلمة السياسية لن تتيح لإيران أن تكون جزءاً من معادلة الشرق الأوسط الجديد الذي تعمل أنقرة على بلورته بالتعاون مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، شرق أوسط «متصالح مع نفسه ومع تاريخه الديني والسياسي الذي تشكل تركيا جزءاً اساسياً منه»، على ما كتب أحد المنظرين الأتراك المحيطين برئيس الوزراء.

الرهان التركي على سقوط سورية، وعلى بقاء إيران منبوذة في محيطها، لا يحسب اي حساب للحروب التي يمكن أن تنجم عن ذلك. اي أن انقرة تكرر أخطاءها، منذ أن انتقلت من سياسة «صفر مشاكل» مع المحيط، إلى سياسة استتباع هذا المحيط لترث العثمانية الجديدة المحافظين الجدد في «الشرق الأوسط الجديد».

الحياة

السبت

أزمــة الميــاه بــين دول حــوض الفــرات

وارد بدر السالم *

معاهدات ورقية، والخـطــــر على العراق داهــــم

أزمة حقيقية ستواجه بلدان منطقتنا: أزمة المياه، أو «الفجوة المائية». وستكون معياراً حقيقياً يقابل مادة النفط، حتى تصبح قطرة الماء تساوي قطرة النفط! فالعلاقات بين الدول المتشاطئة، من زاويتها السياسية في أقل تقدير، موضع إشكالية فعلية. وتُستغل الموارد المختلفة، وهنا المياه، للضغط السياسي كما يحصل عادة مع النفط.

والعراق موطن نهرين دوليين كبيرين (دجلة ـ 1900 كلم، والفرات ـ 2780 كلم) ينبعان من خارج حدوده: دجلة من تركيا ويصب في العراق مباشرة، والفرات يمر عبر الأراضي السورية قادماً من تركيا ايضا. وهما يلتقيان في شط العرب ويسيران معاً، مختلطين، على مدى 200 كلم قبل أن يصبا في الخليج العربي. ويكوِّن العراق المجرى الأسفل للأنهار وجميع روافدها التي تنبع هي الاخرى من تركيا، باستثناء «الزاب الصغير» و«ديالى» اللذين ينبعان من إيران، الى جانب وجود العديد من الأنهار الصغيرة الحدودية .

يدخل دجلة الأراضي العراقية من منطقة «فيش خابور»، أما الفرات فيمر عبر الأراضي السورية حيث كانت المياه لا تستخدم إلا بنسبة ضئيلة لكون غالبية الأراضي السورية تسقى بنظام الري القديم (النواعير)، أو الري السيحي. وفي الماضي، كان العراق يتعرض الى فيضانات كارثية تغرق الكثير من المدن والقرى، وخاصة في شهر نيسان/إبريل من كل عام. وقد شهدت كل الفترات الماضية أزمات مائية بين العراق وجيرانه أدت الى إبرام اتفاقيات وبروتوكولات عديدة، كان يتمّ تنفيذ بعضها، في حين يبقى البعض الآخر قيد الإهمال لأسباب أمنية وسياسية.

تبدأ المشكلة المائية من تركيا وتنتهي بها الى حد بعيد. فالتقرير الذي أعدته «المنظمة الدولية للبحوث» أكد أن هناك نقصاً كبيراً في الحصص المائية ضمن حوض نهر الفرات. فالإيراد المائي سيبلغ 32 ملياراً و140 مليون متر مكعب بحلول عام 2040، مقابل احتياجات العراق التي ستبلغ حينها 23 مليار متر مكعب. أما حاجة كل من سوريا وتركيا فستصل إلى 30 مليار متر مكعب. وعلى هذا الأساس، وبحسب المنظمة، فإن الواردات النهائية للنهر لن تكفي لتغطية الاحتياجات الكلية، ما يؤدي إلى خسارة العراق، المصب الأخير للأنهار، موارده المائية بالكامل. وهذا، مع توقع جفاف نهر دجلة عام 2040، يعني أن العراق مقبل على كارثة تصحر كبيرة، والمتوقع أنه سيتحول الى جزء من صحراء البادية الغربية خلال ثلاثة عقود مقبلة. أي …غداً! خاصة أن حاجة العراق السنوية من المياه تقدر بـ50 مليار متر مكعب، 60 في المئة منها يوفرها دجلة والباقي يأتي من الفرات، فضلاً عن طاقة خزن فيه للسدود والخزانات والنواظم بنحو 149 مليار متر مكعب.

وقد أظهر المسح الميداني، الذي أجراه الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة الموارد المائية العراقية، عن أن 21 في المئة من سكان المدن العراقية لا يحصلون حالياً على مياه صالحة للشرب. وترتفع النسبة في الأرياف لتصل الى 40 في المئة.

تاريخ العلاقة بين دول الفرات

في الماضي، لم يثر استغلال المياه في العراق أي مشكلة بسبب وقوع نهر الفرات من منبعه الى مصبه تحت سيادة دولة واحدة، هي الإمبراطورية العثمانية. ولكن بعد ذلك، قسِّم مجرى النهر بين ثلاث دول، هي تركيا وسوريا والعراق، وتغيرت هويته، اذ أصبح بعد عام 1918 نهراً دولياً. وبالرغم من الاتفاقيات الثلاثية والثنائية التي عقدت بين العراق وسوريا وتركيا منذ عام 1920، لتقسيم المياه في ما بينها، والتي كان آخرها عام 2008، بين رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ورئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان خلال زيارته للعراق، إلا أن الجانب التركي واصل نقضها، وقام ببناء السدود البالغة 22 سداً لحد الآن، مانعاً بهذا تدفق المياه الى العراق وفق النسب المطلوبة.

يقع تنظيم القوانين الدولية لنهري دجلة والفرات ضمن نطاق معاهدة لوزان التي أُقرت العام 1932، والمادة 109 التي تحدثت عن الحقوق والمصالح المشتركة، بحيث يتم، وفي حالة تعثر الاتفاق بين الدول، اللجوء الى التحكيم العام. وافق العراق في العام 1947، على عقد معاهدة صداقة وحسن جوار مع تركيا، ألحق بها ستة بروتوكولات تضمنت تنظيم الانتفاع بمياه نهري دجلة والفرات، وتفادي أضرار الفيضانات، وإقامة مشروعات للمحافظة على المياه، وأنْ توافق تركيا على مبدأ إقامة أية مشروعات تثبُت ضرورة إقامتها. وفي العام 1966، قامت تركيا ببناء سد «كيبان» الذي بلغت سعة الخزن فيه حينها 30,5 مليار متر مكعب، وإنشاء محطة كهربائية قوتها خمسة مليارات كيلوواط . اما سوريا فقد قامت ببناء سد كبير على نهر الفرات يسمح بتخزين المياه بحجم إجمالي قدره 11,9 مليار متر مكعب ومحطة كهربائية بقوة 800 الف كيلوواط. وهكذا بدأت كل من تركيا وسوريا بتنفيذ مشاريع استغلال مياه الفرات من دون مراعاة لحقوق العراق المكتسبة في مياه النهر، التي قدّرها الخبراء حينها بـ 18 مليار متر مكعب.

وبعد تاريخ من العلاقات المائية المتأزمة بين سوريا والعراق، توصل البلدان، في العام 1990، إلى اتفاقية لاقتسام مياه نهر الفرات، بنسبة 58 في المئة للعراق و42 في المئة لسوريا على اعتبار أن مساحة العراق أكبر. وبالرجوع إلى البيانات المتعلقة بتصريف نهر الفرات، ومقارنتها مع حجم المطالب الاستهلاكية للدول الثلاث، ترى تركيا انه من المستحيل تنفيذ ذلك. حيث أن 88.7 في المئة من إجمالي إيرادات نهر الفرات المائية تأتي من تركيا، في حين تساهم سوريا بنحو 11.5 في المئة، بينما العراق لا يساهم بأية كمية. وكانت هذه المبررات عاملا مساعدا وأساسيا لاستمرار الجانب التركي بحرمان العراق من المياه.

يبلغ ارتفاع منسوب المياه في سد «ليسودام» في منطقة «حسن كييف» التركية أكثر من 60 متراً، حيث سيكتمل بناؤه عام 2014 ليصادر أكثر من 50 في المئة من مياه نهر دجلة، الذي سيصبح هو الآخر شحيحاً كالفرات، الذي صادر سد «أتاتورك» نسبة كبيرة من مياهه تصل الى 60 في المئة. وهما جزء من مشروع «الغاب» التركي الذي خطط لتشييد 22 سداً بسعة خزن تتجاوز 100 مليار متر مكعب. وسيحرم شح المياه العراق من ثلث مساحة أراضيه الصالحة للزراعة، فضلاً عن تسببه بنقص الحصص المائية التي تؤثر سلباً في مجالات مياه الشرب وتوليد الطاقة والصناعة، وبدرجة كبيرة في إنعاش منطقة الأهوار. إذ سيستكمل سد «ليسودام» بسد «جزرة»، ما يؤدي إلى تحويل جميع كميات المياه من دجلة الى الأراضي الزراعية التركية قبل عبورها الحدود التركية العراقية. وقد وصفت المياه الشحيحة التي ستصل حينها، بأنها ستكون على درجة ملوحة عالية التركيز.

أما السدود العراقية، وهي سد «دربنديخان» ويقع على نهر «ديالى»، فسعته الخزنية هي 3 مليارات متر مكعب، وسد «دوكان» على نهر «الزاب الصغير»، وسعته الخزنية 6 مليارات متر مكعب، وسد «العظيم» الذي يقع على نهر «العظيم» وقد شيد مؤخراً ويسع 1.5 مليار متر مكعب، وسد «الموصل» ويقع على نهر دجلة شمال مدينة الموصل، وطاقته الخزنية 11 مليار متر مكعب، وسد «حديثة» ويقع على نهر الفرات شمال مدينة حديثة ويسع 8 مليارات متر مكعب، وسد «بخمة» الذي لم ينجز بعد، ويقع على «الزاب الكبير» وطاقته الخزنية 17 مليار متر مكعب. وكل هذه السدود تجمع كمية من المياه لا تفي بالحاجة المحلية استهلاكا وزراعة.

سلة الغذاء

بسبب عوامل التصحر والجفاف وازدياد درجة الملوحة وتدهور التقنية الزراعية، يتعرض العراق الى انكشاف غذائي غير مسبوق. فشح مياه نهر الفرات الشديد أثّر على الزراعة وخصوصا في منطقة حوض الفرات الأوسط التي تشتهر بزراعة الأرز. ويقول مسؤولون متخصصون إن العراق يحتاج الى تدفق للمياه بمعدل لا يقل عن 700 متر مكعب في الثانية لتغطية احتياجاته. ويبلغ مستوى تدفق المياه حالياً في نهر الفرات 230 متراً مكعباً في الثانية. وان الحصة المائية الداخلة الى العراق من جهة سوريا (اقل من 200 م3/ ثانية) تخالف اتفاق عام 1990.

أما السياسة المائية الإيرانية، فإنها اقل تأثيرا من التركية، لكنها تشكل خطرا على الزراعة وخصوصا في المنطقة الجنوبية، حيث أقامت إيران عدة مشاريع أهمها تلك المقامة على نهر «الكارون» الذي يعد الرافد الرئيسي لشط العرب، مما زاد من نسبة الملوحة فيه. ووفق هذا، وعلاوة على تصحر مساحات من الأراضي العراقية، فإن الأهوار الجنوبية الممتدة على ستة آلاف ميل مربع لن يكون بمقدورها إعانة المساحات الزراعية الكبيرة بسبب تعرضها الى الجفاف هي الاخرى. وقد بدأ منذ أعوام تقلص مساحات الزراعة في بعض المحافظات الجنوبية والوسطى. وعلى سبيل المثال، فإن وزارة الموارد المائية اوضحت في نشراتها أن 68,750 هكتاراً من الأراضي قد زرعت بالأرز خلال عام 2008 في المحافظات الوسطى والجنوبية، وهي تمثل نسبة 50 في المئة من الاراضي المخصصة سابقاً لهذه الزراعة. ووفقاً لتقرير صدر العام 2007 من «محطة المشخاب لبحوث الأرز في النجف»، فقد وصل مجموع المساحة المزروعة بالأرز في تلك السنة إلى 125,000 هكتار أنتجت حوالي 400,000 طن من أنواع الأرز المختلفة المفضلة محلياً. عدا ذلك، فإن أسراً كثيرة اضطرت للهجرة من مناطق الأهوار، التي يفترض أنها غنية بالمياه، كما حصل في هور «أبو زرك» جنوب العراق، شرق الناصرية، وهو يعد من أعمق الاهوار في العراق، حيث يتراوح عمقه بين 2 و7 أمتار، ومساحته تبلغ 65 ألف دونم، منها 40 ألف دونم مغمورة بالمياه، وتحيط به 25 قرية تعتمد معظمها على مهنة تربية الجاموس والأبقار وصيد الأسماك. وهو من الأهوار المؤهلة لأن تكون محمية طبيعية للتنوع الإحيائي الفريد عالمياً الذي تتميز به هذه المنطقة، ويكاد يكون سلة غذائية متكاملة لوفرة المياه في أعماقه ولاحتوائه على أنواع عديدة من الأسماك والطيور، ووفرة الغذاء الطبيعي فيه.

وتشكل الأهوار في الجنوب العراقي الحوض الطبيعي لنهري دجلة والفرات وتوابعهما. وهي تكونت منذ آلاف السنين من تغذية هذين النهرين، وأهمها أهوار «الجبايش» في «ذي قار» التي تبلغ مساحتها نحو 600 كلم مربع ، فضلا عن أهوار «الحمّار» و«الحويزة» ومجموعة أخرى من المسطحات المائية المتصلة تقريبا ببعضها البعض، والموزعة على أرض تزيد مساحتها على ثلاثة ملايين دونم جنوبي العراق.

الأزمة من جانبها المحلي

لا ينبغي وضع اللوم على الجانبين التركي والسوري فحسب في التسبب بهذه الأزمة الخطيرة. ومع أن نهري دجلة والفرات هما المصب في العراق وليسا المنبع، مما يؤدي الى عدم التحكم بمقادير المياه الممكنة لتحقيق الرفاه الغذائي والاستهلاكي، ومع أن العراق يقع في منطقة شبه جافة، فإن هناك جملة من العوامل التي أسهمت في تعميق هذه الأزمة من الجانب العراقي نفسه، خلال السنوات الأخيرة. وفي خلاصة آراء المختصين والتصريحات الصحافية الرسمية، يشار بشكل كافٍ الى اهتراء الأساليب الإدارية في معالجة هذه الأزمة، والى البيروقراطية، ودخول الاعتبار السياسي محل التقني. والمثال في الجانب الإيراني فاقع، فوسط صمت مطبق، بدأت إيران بعد عام 2003 بالضغط على الحكومة العراقية عبر منافذ المياه التي يمتلكها، وحوّلت 90 من أنهرها الصغيرة الجارية الى العراق الى داخلها، أو أنشأت سدوداً عليها من دون إشعار الجانب العراقي بذلك. ويذكر هذا المسلك بما فعله الشاه الإيراني عام 1960، حين أنشأ سداً على نهر «الوند» ليقطع المياه عن «خانقين» و«مندلي».

موضوع المياه، الحيوي بكل أبعاده وتفاصيله تلك، لا يحل بالتأكيد بالقوة من جانب العراق، برغم شعوره بالغبن، وبرغم الاضرار الكبيرة اللاحقة به. ولكن السؤال المثار بالمقابل يتعلق بمدى الاهمال الذي يبديه حكامه الحاليون، وعدم انشغالهم بالأمر، وانعدام امتلاكهم لرؤيا حول كيفية معالجته، ولأجهزة اختصاص قادرة على التفاوض الاقليمي والدولي الدؤوب والعنيد، وعلى طرح المشكل قبل فوات الأوان وتغيّر طبيعة العراق: من بلاد ما بين النهرين، حضن الحضارة البشرية والزراعية تاريخياً… الى صحراء.

* كاتب من العراق

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى