مقالات تناولت الدور السوري في لبنان وتكليف تمام سلام لتأليف حكومة جديدة
المُحال نظاما للحكم
أحمد بيضون
مع مباشرة الرئيس المكلّف تمام سلام جهوده لتأليف حكومة جديدة، تعود إلى بساط البحث أصناف الحكومات التي تتوزّع القوى السياسية بين تفضيل هذا منها وتفضيل ذاك أو ذلك. يطرح، بالتالي، السؤال المتعلق بالصنف ذي الأفضلية العامة: أي ذاك الذي يتيح شعوراً بالإقبال على مرحلة تسيير لأمور البلاد يمكن وصفه، على وجه الإجمال، بالسلاسة ويوحي طمأنينة لجمهور المواطنين إلى إمكان معالجة تكون على قدْر مُرْضٍ، نسبياً، من النجاعة والإنصاف للمشكلات العامة…
ليست هذه الأصناف من التشكيل الحكومي كثيرة العدد: في نطاق الممكن اللبناني، هي ثلاثة أو أربعة. ويسع المتأمل أن يستعرض، دون حاجة إلى الإطالة، ما يترتب على اختيار كل منها من نتائج تتصل بفاعلية الحكم وبتمادي الشعور في البلاد أن الحكم قد خرج أو هو في سبيله إلى الخروج من حال الأزمة. وهو الشعور الذي راود اللبنانيين في الأيام الأخيرة مع ما ظهر من إجماع النواب على تكليف سلام. هل يسع هذا الشعور أن يدوم وما هو التشكيل الحكومي الذي يكفل له حظوظاً مقبولة في الدوام؟ هل ما يزال متاحاً، أصلاً، في الطور الراهن من أطوار الحياة السياسية اللبنانية، تشكيل حكومي له هذا المفعول؟
يستحسن البدء من الصيغة التي مثّلتها حكومة نجيب ميقاتي المستقيلة. كانت حكومة أكثرية. تألفت، من حيث الأساس، مما يسمّى تجمع 8 آذار وقد حوّله إلى أكثرية نيابية مددٌ جنبلاطي منح سيّد المختارة، القادر، في أيّ وقت يختاره، على تبديل موقعه، قدرة على ابتزاز الأطراف الأخرى لا تجد تفسيراً لها في الوزن المطلق للقطب الجنبلاطي (وهو وزن الأكثرية من طائفة ضئيلة الحجم والإمكانات) بل في الوزن النسبي الذي يحصّله صاحبه من حُسْن اختيار الموقع. إلى جنبلاط، عزّز الأكثرية الجديدة رئيس الحكومة نفسه وزميل طرابلسي واحد له. وهذه قوّة لم يكن يستر هزالها غير القدرة ذات المصدر الدستوري على إطاحة الحكومة باستقالة رئيسها.
هذا مدخل مقبول إلى تقدير “الطريقة” التي مثّلتها حكومة نجيب ميقاتي في التعبير عن الأزمة المتمادية التي تعصف، من سنوات باتت كثيرة بالنظام الطائفي. فإن تكوين هذه الحكومة جعل موازين الطوائف فيها (وليس موازين القوى السياسية وحدها، فهذا يعتبر مقبولاً) في حالٍ من الخلل الفادح. فإذ بقي التيار الحريري وقوى سنّية أخرى في صف المعارضة، بدا ان الطائفة السنية ممثّلة بما قد لا يبلغ 30 بالمائة من أثقالها السياسية. هذا فيما تمثّلت الطائفة الشيعية بما قد يزيد عن ثمانين بالمائة من أثقالها، وهذا في مرحلة وصل فيها التعارض بين الخيارين السياسيين العامين للطائفتين (أي، على التحديد، بين خياريهما في المجال الإقليمي) إلى أقصى حدّته. على الجبهة المسيحية، كان التقدير، في أول الأمر، أن التيار العوني المهيمن سعيداً على التمثيل المسيحي في الحكومة، ومعه أطراف أخرى ثانوية، تمثّل سويّة نحو 50 بالمائة من المسيحية السياسية… ثم انخفضت هذه النسبة، شيئاً ما، في تقدير ذوي المعرفة، نتيجة لما ظهر من أداء محبط للحكومة كلها ولوزرائها العونيين، على التخصيص. أخيراً، كان يمكن القول أن ما يزيد على 80 بالمائة من القوة الدرزية السياسية ماثلة في صفوف الحكومة أيضاً.
معنى هذا أن حكومة ميقاتي أحدثت حدثاً لا يطيقه منطق النظام اللبناني وثابرت على تمثيل هذا الحدث مدّة عمرها غير القصير. والحدث المشار إليه مزدوج. 1- طبع الحكم بطابع طائفي غالب (هو الشيعي) وطبع المعارضة بطابع طائفي مقابل (وهو السنّي). 2- اختلال داخلي بين المكونات الطائفية للحكومة نفسها نجم، على الأخص، من ثقل التمثيل الشيعي فيها أي بحضور التشيع السياسي، بقضّه وقضيضه تقريباً، في الحكم، فيما بدت الكتلتان الطائفيتان الأخريان (من الثلاث الكبيرة) ناقصتي الحضور إذا قورن تمثيلهما بالتمثيل الشيعي، على التخصيص، وبالدرزي أيضاً.
معنى هذا أن رعاية الميزان العددي لتوزيع الحقائب بين الطوائف أثمرت، عوض الشعور بالإنصاف أو “التوازن”، شعوراً بالتباعد الفادح بين ثقل الطائفة المقرّر في الصيغة وثقلها المتحصّل في الحكومة. وهو ما يأباه بشدّة منطق النظام الطائفي وقد أصبح أشدّ إباء له منذ اتّفاق الطائف. وتكاد لا توجد حاجة ههنا إلى ذكر السلاح الشيعي الذي يمنح أصحابه، أية كانت المزاعم المتعلقة بوظيفته الحصرية، وطأة على الأطراف الأخرى تثقل وتخفّ، شأن كلّ شيء في السياسة، ولكن يتبين، في نهاية المطاف، أنها لا تطاق.
عند التأمّل في هذه الحالة (وفي أخرى سبقتها هي حالة حكومة فؤاد السنيورة بعد استقالة الوزراء الشيعة منها في خريف سنة 2006) يثبت أن الخللين المشار إليهما أعلاه أصبح محتوماً ظهورهما في كلّ حكومة أكثرية في هذه الجمهورية ما دامت خطوط الفصل السياسية الرئيسة تجري بين طوائف أو ، على الأصحّ، بين قوى سياسية أفلحت كل منها في فرض تمثيلها لطائفة من الطوائف ونحت نحو الانحصار في هذه الطائفة. ويحتّم ظهور الخلل الثاني سيادةُ حالٍ من المواجهة السياسية الحادّة بين القوى السياسية الممثلة لهذه الطائفة تقابلها حالة انسجام ووحدة توجّه بين القوى الممثّلة لتلك…
يشير هذا إلى ما حصل (وما يزال ينتظر حصوله) إذا غادرنا صيغة حكومة الأكثرية إلى ما سمّي (ويسمّى اليوم مرّة أخرى) “حكومة الاتّحاد الوطني”. دعنا من كون هذه التسمية لا تدلّ، في المصطلح السياسي العامّ، على ما أصبحت تدلّ عليه في لبنان. الأهمّ أن الطوائف ستكون حاضرة ههنا ممثّلة بقواها السياسية الرئيسة، في الأقلّ، وفاقاً لما استقرّت عليه أعراف التوزيع وما تسفر عنه مفاوضات التأليف. وستنجح هذه الأطراف المتنافرة نجاحاً إجمالياً في مزاولة فنّ المحاصّة في المنافع والخدمات، فهو فنّ تتقنه فيما يتعدّى كل خلاف سياسي. ولكنها ستواجه مسائل سياسية فعلية لا يسعها الفرار من مواجهتها. وسيكون بعض هذه المسائل ثقيل الوطأة حاسماً. وهو إما أن يصحب مسار الحكم، دون انقطاع تقريباً، فيجبهه بتحدّ ثابت، وإما أن ينفجر في وجه الحكومة عند استحقاق قرار ما بعينه. هذا ما حصل لحكومة سعد الحريري فثبت أن كلّ حكومة تُزْعم لها صفة “الوحدة الوطنية” هذه إنما هي حكومة ملغومة تدار أمورها (وأمور البلاد من ورائها) في مناخ أزمة وتكتشف البلاد، عند انفجار اللغم، أنها – أي البلاد – مقيمة في حال أزمة مفتوحة.
يبقى ما يسمّى الحكومة الحيادية ويطلق على واحد من تجلياتها اسم حكومة التكنوقراطيين. هذه حكومة تجعلها شدّة الاستقطاب الآخذ بخناق البلاد ضعيفة حكماً. ولا يمكن أن يتجاوز دورها نطاق الاستثناء أو الاستراحة. فهي ستواجه، حالما تضطرّ إلى اتّخاذ قرار سياسي من النوع الذي أبعد القوى السياسية الرئيسة عن الحكم، غضب هذه أو تلك من القوى المذكورة. وسيتلاشى أو يضعف ما كانت قد لقيته من قبول أملاه استحكام الأزمة السياسية. وسيعجّل في هذا التلاشي أن القوى السياسية الرئيسة تستعجل حكماً العودة إلى جنّة الحكم. وهذا مع العلم أن صفة الحياد لا تلبث أن تستحيل، بفعل الضغوط الطائفية على الوزراء، إلى قناعٍ زائف وينقلب المناخ السياسي في الحكومة وخارجها إلى مناخ تراشق بتهم الانحياز والخروج عن الجادّة…
في مشاورات التأليف التي أجراها الرئيس المكلّف تمام سلام، ذكر حزب الله ضرورة تمثيل “الأوزان” متجاهلاّ كون “الأوزان” هي ما مثّل علّة الحكومة الميقاتية. ونحت أطراف أخرى من تجمع 8 آذار (أبرزها التيّار العوني) نحو المطالبة بحكومة سياسية، أي بالعودة إلى صيغة “الاتّحاد الوطني” في الحكم. وهذا من قبيل تجريب المجرّب. وأبدى الرئيس المكلّف وبعض قوى الرابع عشر من آذار ميلاً إلى الحكومة الحيادية.
الحال أنه لا توجد، في نطاق الإمكان اللبناني، صيغٌ غير ما ذكرنا. معنى هذا أن العهد الذي كان النظام الطائفي فيه قادراً على تحصيل صيغة للحكم موافقة لمعاييره هو نفسه قد ولّى. يبقى، مع ذلك، أن مهمّة تمّام سلام أن يشكّل حكومة تشرف على الانتخابات النيابية. وهذه حكومة تتّسم بالضرورة بقصر العمر وتعزّز مهمّتها حجّة القائلين بالتشكيلة الحيادية. فهل تعني مطالبة أطراف سياسية رئيسة بحكومة سياسية اقتناع هذه الأطراف بأن عمر الحكومة السلامية قد يطول لأن الانتخابات سيطول انتظارها كثيراً؟
المدن
«صيفية» لبنان بين حسابات التعقّل وأخطار التهوّر
راغدة درغام
يسألون في لبنان كلما لاحت في الأفق بوادر تجنب مواجهة سياسية أو أمنية «وكيف ستكون الصيفية؟». والسؤال ليس سطحياً بمعنى الاستمتاع بصيفٍ ذي طقس جميل، وإنما يدق في عصب الحاجة الماسة إلى انتشال الاقتصاد من الانهيار عبر استعادة السياحة بعض ما كانت تدره على اللبنانيين من مدخول أساسي، فالسياحة تتطلب الاستقرار وطمأنة الآتين إلى البلاد بأن المفاجآت المفخخة ليست في انتظارهم. وهذا الأمر بات قراراً سياسياً ليس في يد الدولة اللبنانية وإنما هو في أيادي لاعبين محليين وإقليميين ودوليين لأن لبنان ساحة للمعارك «بالنيابة» وفق موازين القوى السياسية والعسكرية والأمنية. والاقتصاد بات سلاحاً في هذه المعارك، بل إن هناك من يعتقد أن الإفقار هو سياسة متعمّدة وليس إفرازاً هامشياً عابراً.
اليوم، يقف لبنان على مفترق آخر يتلقفه جزء من شعبه بتلهف للعيش بطريقة طبيعية ومتعة وازدهار، ويراه جزء آخر امتداداً لمعركة موازين القوى الإقليمية في سورية. لكنْ، لدى اللبنانيين أجمع سؤال حيوي آخر اعتادوا على طرحه تلقائياً هو «شو بدهم؟» و «هم» تعني للبعض دولاً كبرى على رأسها الولايات المتحدة. وتعني لآخرين الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تعتبر حلفها مع «حزب الله» أقوى أوراقها الإقليمية وتنظر إلى حرب سورية على أنها مصيرية للدور الإقليمي لطهران. فلبنان يكاد وضعه يشبه أوضاع المرأة في المنطقة العربية التي باتت الضحية الدائمة حتى في زمن التغيير والطموح إلى الحرية والعدالة. فهي تُغتصب وتُرتَهن في معارك «الشرف» والكرامة وتُستخدم في بدعة مدهشة سميت فتوى «جهاد النكاح» وباتت سلعة للفتاوى التي جعلت من جسد المرأة أداة مستباحة. إنما كما المرأة التي ترفض الانصياع لاستباحتها، هكذا لبنان الذي يرفض أن يُقتاد إلى الاستباحة المطلقة. وكلاهما يصارع الهشاشة.
خلال الأسبوعين الماضيين، وعقب الاستقالة الضرورية لرئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي الذي ما زال يمارس مهمات رئاسة حكومة تصريف أعمال، نال الرئيس المكلف تأليف الحكومة الجديدة، تمام سلام، شبه إجماع وأتى رئيساً توافقياً أطلق التفاؤل بـ «الصيفية» والتساؤل عن «المظلة الدولية».
الرئيس المكلف أكد تكراراً أن مهمة الحكومة التي يسعى إلى تأليفها هي إجراء الانتخابات النيابية وشدد على «أننا في حاجة إلى حكومة من دون تأخير ليبقى موضوع إنجاز الاستحقاق الانتخابي هو الهاجس الأكبر». وقال إن «ضمانة» إيجابية الدول الإقليمية وما بعد الإقليمية هي «في مدى حسن تصرفنا». وسمى الحكومة المقبلة حكومة «المصلحة الوطنية» وأوضح أنه ليس في وارد الاستقطاب ولا هو ساعٍ وراء سلطة دائمة أو مقعدٍ لا يتخلى عنه.
تكليف سلام أتى بالانفراج في التأزم والتأهب والتشنج التي كادت تشعل البلد وتدفع به إلى حروب أهلية ومذهبية وتستورد إليه الحرب السورية. لعل الذين وافقوا على تكليفه تأليف الحكومة على مضض يعدّون له مطبّات لإفشال مهمته لأنهم يعتبرون تكليف تمام سلام انقلاباً عليهم يهدد عزمهم على منع إجراء الانتخابات النيابية كي تبقى موازين السلطة لمصلحته. وهؤلاء ينتمون إلى «8 آذار» التي تضم حزب الله وشريكه الأساسي تيار العماد ميشال عون، وهم يتهيأون على الأرجح لانقلاب مضاد إذ إن سماحهم برئيس مكلف توافقياً يبدو تكتيكاً اضطروا إليه وليس استراتيجية تعكس تغييراً جذرياً في مواقفهم.
هنا مفصل التداخل بين «الصيفية المحلية» وبين «المظلة الدولية». وواضح أن «القرار الدولي»، إذا جاز التعبير، حريص على منع انزلاق لبنان إلى حروب أهلية أو بالنيابة عن اللاعبين الإقليميين. فقد جرت محاولات عدة لجر لبنان إلى الانفجار بأيدي لاعبين محليين وإقليميين ليكون مسرح تلقّي النزاع السوري وتحويل الأنظار عن المشهد في سورية. لكن الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا، تمسكت بضرورة إبعاد لبنان عن الانفجار، مع أن واشنطن وموسكو مقصرتان جداً لجهة عدم حمايته من الانهيار كبنية تحتية غير قادرة على استيعاب تدفق اللاجئين السوريين إليه وأرجحية بقائهم فيه سنوات طويلة.
ولكن، بما أن القرار الدولي هو توفير مظلة حماية من الانفجار، يرى اللبنانيون أن ذلك أهم استثمار في الاستقرار يليه القرار الإقليمي، وبالذات الخليجي بشق مجلس التعاون وشق إيران.
الولايات المتحدة وروسيا مستمرتان في التحادث ليس فقط حول سورية اليوم وسورية في اليوم التالي، بل إن حديثهما يتطرق إلى إيران في بعدها النووي ودورها داخل سورية وعلاقاتها مع إسرائيل، تهادنية كانت أو في خانة المواجهة. لبنان ساحة مباشرة للمعادلة الإيرانية – الإسرائيلية نظراً إلى علاقة حزب الله التحالفية مع طهران. لذلك، يتخذ «القرار الدولي» مقداراً كبيراً من الأهمية لأنه ذو علاقة مباشرة باحتمال اندلاع الحرب مع إسرائيل على الساحة اللبنانية. والقرار الدولي ليس حتى الآن تصعيدياً وإنما هو احتوائي. وهو بذلك يشكل تلك المظلة الدولية لحماية لبنان من جاريه المباشرين من ناحية إفرازات العلاقة الإيرانية – الإسرائيلية عليه، كما من ناحية تصدير الصراع السوري إليه.
إقليمياً، إن المعركة على لبنان مستمرة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والدول العربية الفاعلة. وما تفيد به الأجواء حالياً هو أن لا أحد، إقليمياً، يريد تفجير لبنان وأن لا أحد يريد استخدامه ساحة حرب.
طهران تبدو منشغلة بمعاركها الداخلية، وبسيرها على الحبال المشدودة مع الدول الكبرى في المحادثات النووية، وبخوضها الحرب السورية بصفتها مصيرية للطموحات الإيرانية الإقليمية. كما أن حزب الله حليف ثمين لطهران ولا تريد التفريط به كورقة فائقة الأهمية لها إقليمياً ودولياً. لذلك، هي تتروى وتنصح بالتروي. فالقيادة الإيرانية تحسن لعبة الشطرنج وفن الانتظار حتى الوقت المناسب، وهي تنظر إلى معركة خاسرة على أنها مجرد معركة في حرب وليست حرباً خاسرة. لذلك، هناك مؤشرات لقرار إيراني لا يقضي بالتصعيد في لبنان محلياً ولا مع إسرائيل عبر البوابة اللبنانية. وتبدو طهران في حاجة إلى فسحة لاستنهاض الخيارات وتجدها ملائمة لها في لبنان حالياً، وهي تبدو أيضاً في غنى عن حرب إسرائيلية ضد حزب الله تتوعد إسرائيل لبنان بها لتدميره وتدمير حزب الله داخله هذه المرة، إذاً التهادنية مع إسرائيل أفضل لإيران الآن، أقله مرحلياً.
لربما شق حديث بين إيران ودول في مجلس التعاون الخليجي حول لبنان طريقه في الفترة الأخيرة، كل لغاية في نفس يعقوب. إنما الأرضية المشتركة تبدو قائمة على واقع أن أحداً لا يريد المزيد من الخلافات ولا استنفاراً خطيراً يهدد باندلاع حروب مذهبية وأهلية. فالتأهب والتشنج المذهبي بين السنّة والشيعة في لبنان – كما في دول أخرى – توعّدا هذا البلد بمصير مرعب تطلقه مجرد شرارة. فكان لا بد من حكمة وتغيير.
دول مجلس التعاون الخليجي صعّدت بحزم قبل أسابيع قليلة عندما توجه الأمين العام لمجلس التعاون إلى قصر بعبدا برفقة سفراء الدول الست الأعضاء في المجلس لإبلاغ رئاسة الجمهورية رسالة واضحة: دول مجلس التعاون لن تمضي بعلاقاتها مع لبنان إذا استمر تلاعب حزب الله بالموقف الرسمي القاضي بالنأي بالنفس في المعركة السورية. وأبلغت الدول الأوروبية أيضاً من يعنيه الأمر أنه ليس في وسعها الاستمرار في توفير الحماية لحزب الله ومقاومة إدراجه في «لائحة الإرهاب» بسبب مزاعم تورطه بأعمال إرهابية في أوروبا. هذه الرسائل الخليجية والأوروبية كانت حازمة واستمع إليها المعنيون بجدية.
استقالة نجيب ميقاتي هدد بها أكثر من مرة ثم عدل عن رأيه وماطل تكراراً اعتقاداً منه أن في وسعه ضم دول مجلس التعاون بذراعه اليُمنى وضم إيران والنظام في دمشق وحزب الله بذراعه اليسرى. لكنه أدرك أخيراً أن ما يشتهيه ليس متاحاً، فأقدم على الاستقالة بعدما وجد لنفسه ما يسمى استراتيجية خروج مشرّفة.
فور ذلك، تحركت دول مجلس التعاون عبر المملكة العربية السعودية، «لتبارك» استقالة ميقاتي وتكليف سلام. وفور الاستقالة والتكليف تحسن الوضع أمنياً، أقله في ذهن المتشوقين لزيارة لبنان، فازدادت الرحلات الجوية من دول الخليج بطائرات مليئة وبدأ اللبنانيون يأملون بـ «صيفية» ينقذ فيها الشق السياحي الناس من الإفلاس ومن الأعصاب المحروقة.
كل هذا يبقى رهن أمرين أساسيين، هما تعهدات السلطات اللبنانية بضبط الوضع الأمني ومنع عودة استيلاء العائلات على قرارات الدولة ومنع اختطاف رعايا الدول الخليجية. فالمسألة مسألة اقتصاد بلد يرتبط عضوياً ومصيرياً بعلاقاته مع دول مجلس التعاون الخليجي، سياحةً الى لبنان، وهجرةً للعمل في تلك الدول.
المسألة الأخرى هي ضرورة تنفيذ دول مجلس التعاون الخليجي تعهداتها بدعم الدولة اللبنانية عبر مؤسساتها الحيوية، وليس عبر تبرعات مواطنيها لأفراد ومنظمات وتنظيمات متطرفة تؤجج الصراع الطائفي في لبنان. هناك عتب كبير وانتقاد لاذع مثلاً لقطع المعونات عن المقاصد الإسلامية. أما إهمال ما تتطلبه مسألة المليون لاجئ سوري إلى لبنان فله عواقب تهدد بانهيار البنية التحتية وكذلك تنذر بصدامات مدمرة لأسباب مذهبية كما لأسباب اقتصادية. فلتتنبه دول مجلس التعاون الخليجي ولتعالج الخلل في علاقاتها مع لبنان. فلا تكفي مطالبة الحكومة بضمان استخدام الأموال في محلها، إذ إن هناك آليات لمثل هذه الضمانات الضرورية، إنما استخدامها للمماطلة والتسويف فخطير ليس فقط على لبنان وإنما على المصالح الخليجية في المنطقة العربية كلها.
إن هذه مرحلة انفراج هشة يجب أن ترافقها الحكمة والعزم على «حسن تصرفنا»، كما قال تمام سلام، لضمان حسن نيات الآخرين. فعسى أن يُوفّق الرئيس المكلف بتأليف حكومة رجال ونساء أصحاب كفاءات لإجراء انتخابات برلمانية. فبهذا فقط يمكن أن يحلم اللبنانيون بـ «صيفية» هم في أشد الحاجة إليها.
فتلك المرأة التي يشبهها لبنان سلبياًَ ليست وحدها سيدة الساحة. هناك المرأة الإيجابية المصرَّة على ألّا تخاف وعلى أن تكون صانعة قرار ورافضة للاستخدام سلعة. ولربما كان عنوان «بيروت ماراثون» لسباق الركض للنساء الذي سيقام الشهر المقبل مفيداً لدب الحماسة والإيجابية، وهو: «هيي… هيي عن جد قوية».
الحياة
نعم… ولكن؟
راشد فايد
“عودة العقلانية” الى “حزب الله”، كما وصفها النائب أحمد فتفت، ليست نورا شقه الله في الصدر، على طريقة الامام الغزالي. واذا كان الأخير حسم شكوكه الايمانية بهذا القول، فان الحزب اثار، بهذه العقلانية، شكوكا صامتة، لدى خصومه ولدى حلفائه معاً. فترشيح نائب بيروت وابن دارة المصيطبة، ليس خطوة دستورية عادية. هو انكفاء عن السطو على السلطة، من جهة ،وفعل تراجع عن احتكارها بالترهيب وهيبة السلاح، واسقاط لدور امينه العام كمرشد سياسي لحكومة حصدت الفشل ولم تنجح الا في استقالة رئيسها، من جهة اخرى.
لكن الحزب هو رأس حربة، تنطلق من طهران الى بيروت، عبر دمشق. واذا كان حاكم قصر المهاجرين منشغلاً بتدبر عومه في دماء السوريين، فإن الملف النووي لا يشغل طهران عن المدى الاستراتيجي، الذي تتوهّم دوامه في لبنان. فهل يعقل ان تكون عقلانية الحزب سليلة عقلانية مستجدة لدى ايران، ولدت من مشهد مباركة اوباما مصالحة تركيا واسرائيل، وما تنطوي عليه من مخطط آت على المنطقة، يعزل الحلم الامبراطوري الفارسي، الذي يرفع علم الاسلام حيناً، وعلم فلسطين احياناً، وراية المذهبية الشيعية اكثر الاحيان، وبيرق الصفوية في كل حين؟ لا بد انه امر طارئ جعل الحزب، من امينه العام الى اصغر مفوّهيه، يلوذ بالصمت، ويقتّر في التصريح. وسواء كان ذلك بتوجيه من مرشد الثورة الايرانية، ام نورا شقه الله في صدورهم، فإنه انتصار لـ “التيار اللبناني” داخل حزب الجمهورية الاسلامية في لبنان.
هل يمكن الاستكانة الى هذه الايجابية المفاجئة؟
التجارب السابقة، منذ العام 2005 الى حكومة “قولنا والعمل”، تذكّر بأن الحزب يصالح في لحظة الضعف، وينقلب عندما يستشعر تحسن موقعه وحلفائه الاقليميين.
لا تصنع الربيع سنونوة واحدة، والتكليف لا يعني قيام حكومة، واستشارات التأليف، والبيان الوزاري هي المحك الحقيقي. فهل شق الايمان بلبنان اولاً صدر الحزب، فانتصر “لبنانيوه” ام أن التاريخ يعيد نفسه اكثر من مرتين؟
مؤشر كبير يناقض ذلك هو وضوح اخلاء ايران الدرب أمام الاحتضان السعودي للبنان بعدما غدر به حلف “الممانعة”، بإسقاط “السين – سين”، والمفترض أن الرياض لا تلدغ من جحر مرتين، وان عودتها السياسية ليست مغامرة غير محسوبة، لا تليق بقوة اقليمية صمدت باستمرار على مرّ المتغيرات في المنطقة.
النهار
من يقرع الطبول؟
ساطع نور الدين
عندما يصبح ترشيح وتكليف تمام سلام ترجمة لمؤامرة خارجية، لا يبدو الامر مجرد هذيان سياسي متجذر من زمن الادارة السورية، بل هو يعادل الوسواس الامني الذي يغلب الطبع، ولن يتأخر في ادراج المشروع الحكومي العتيد في سياق المؤامرة الاكبر، التي تضرب الشقيقة الكبرى سوريا.. ما يبرر التعامل معها على النسق السوري الحالي، ويحسم الجدل حول التورط اللبناني المشؤوم في ذلك الخيار الدموي.
يصعب احالة هذا التقدير الى حس وطني عالٍ، وعصبية داخلية مستجدة، لا سيما وانه يعبر عن حنين دفين الى تلك الادارة السورية المديدة، ويتوسل تجديدها، ويرى ان كل ما عداها باطل ومعاد للمصلحة الوطنية والقومية التي طالما كانت تختزل في دمشق ولا تجادل في نظرياتها وسلوكياتها وادواتها التي لا تمت الى هاتين الهويتين المهددتين بصلة. والاسوأ ان هذا التقدير يعكس قرارا واعيا بالانخراط التام في الحرب السورية، من دون اي نقاش او حساب للخسائر والاضرار على الشقيق الاصغر في معادلة تلك الحرب.
لا دليل على المؤامرة الخفية التي جاءت بتمام سلام الى رئاسة الحكومة، سوى تلك الصورة العلنية التي جمعته مع الرئيس السابق سعد الحريري في الرياض، وكانت خطأ سياسيا، دافعه التعويض عن قطع الطريق على مرشح او مرشحين آخرين اقترحهم تيار المستقبل لوراثة الرئيس نجيب ميقاتي. فاذا بالرحلة التي احرجت السعودية، ودفعتها الى اصدار اكثر من بيان رسمي لتنأى بنفسها عن المؤامرة المزعومة، توحي بان دورها اقتصر على التواصل ثم التفاهم مع النائب وليد جنبلاط الذي تولى اخراج صيغة الحل الانسب والافضل للازمة الحكومية، ونال منذ اللحظة الاولى استحسان جميع الاطراف اللبنانيين من دون استثناء.
اما الاكتشاف المتأخر للمؤامرة من وراء خروج ميقاتي من الحكم لخوض الانتخابات النيابية، واختيار تمام سلام، فانه يتخطى التفاوض الطبيعي بين القوى السياسية اللبنانية حول التأليف، والذي يحتمل الكثير من المساومة من اجل نيل اكبر واهم عدد ممكن من الحقائب الوزارية. ثمة ما يشبه الانتباه المتأخر الى ان الوقت لم يحن بعد للاعتراف بتبدل موازين القوى الداخلية، وهو ما لا يبدو انه كان نتيجة تقدير محلي، بقدر ما كان بناء على تحذير خارجي من مغبة المضي قدما في مسار اعادة التوازن الى اللعبة السياسية اللبنانية، قبل ان تتضح الرؤية في سوريا.
ومع هذا التحذير من التسرع في دعم اختيار تمام سلام، ذي المواقف والتحالفات السياسية التي لا لبس فيها، جاء كما يبدو الشرح المفصل لـ”المؤامرة” التي اطاحت بميقاتي ومنحت البيئة المؤيدة لخليفته المكلّف فرصة نادرة وسابقة لاوانها للارتياح والاطمئنان.. بما يتعارض مع اجواء المواجهة المحتدمة في سوريا نفسها مع الاصل الاكبر لتلك المؤامرة ومع ادواتها المحلية والخارجية التي لا يمكن الفصل بينها، كما لا يمكن التمييز بين اشكال تحركها في “الساحة” اللبنانية او السورية.
انها مؤامرة واحدة، تعبر الحدود بين البلدين بل هي تزيل تلك الحدود. هذا هو الاستنتاج الذي تم التوصل اليه في الايام التي تلت تكليف سلام. وبهذا المعنى لا يكون تأجيل الانتخابات النيابية سوى تفصيل بسيط في مسار بعيد يتوخى اعادة الامور الى نصابها الاول، الذي يرفض الاقرار بان ثمة تحولا جذريا في سوريا، يتعدى الجدل حول تآمر عربي وعالمي على نظامها، ليعيد لبنان الى موقعه السابق كمحافظة سورية اضافية، ينطبق عليها ما ينطبق الان على بقية المحافظات السورية..المحرومة من حق الاجتهاد او الاختلاف مع العاصمة دمشق.
الطبول تقرع، وتعلن النفير العام، لكي لا يصبح لبنان مثل محافظة الرقة التي انخرطت في المؤامرة اياها.
المدن
سقوط “الدور السوري“
عبد الوهاب بدرخان
إذا لم يكن ما حدث الأسبوع الماضي انتصاراً لـ”14 آذار”، فإنه بالتأكيد هزيمة لـ”8 آذار”. والمقياس هو الإدارة التعيسة للحكومة المستقيلة بالمقارنة مع النجاح الفظيع للانقلاب الترهيبي الذي نقل الأكثرية من يد الى يد. يومئذ كانت الهزيمة لـ”14 آذار” بلا أدنى شك. ولعل نجيب ميقاتي فهم الآن، أو هكذا يفترض، ما الذي لُعب معه وبه وعليه، ولماذا بدأ غير مقنع وانتهى غير مقنع. ولا يتعلق الامر بشخصه، بل بما كان يعنيه الظرف السياسي، ولا يزال.
لقائل ان يقول ان “حزب الله” تعقلن وأقلع عن السيناريوات العنترية بملء ارادته، أو نتيجة لمراجعة أجراها، والمعروف انه يراجع دائما وباستمرار، ويتوصل دائما وباستمرار الى ما يرميه امينه العام في وجه اللبنانيين من صرخات واستفزازات، وكذلك من خلاصات لا علاقة لها بالواقع، واحيانا لا علاقة لها بالحقيقة. لا، غير صحيح ان من يكون ممسكا بحكومة، يحكمها ويحكم من خلالها، لا يمانع فجأة وبلا مقدمات ان يرميها، لينزل نفسه من مرتبة “الحزب الحاكم” الى درجة “الحزب المشارك”.
والأهم انه كان على هذا الحزب ان يتقبّل وحلفاءه ما يقال عن “عودة السعودية” الى لبنان، وهو ما لم تقله السعودية نفسها على اي حال. أي إنه انتقل من التلويح بـ”حكومة اللون الواحد” الى تسمية تمام سلام، الذي لم يكن خياره ولا خيار مرجعيته في طهران ودمشق، ومن ثم القبول بل الالحاح على حكومة “وفاقية”، وهي الصفة التي فهم اللبنانيون بالتجربة انها تعني عمليا العكس فتصبح “حكومة نفاقية”.
اما “حكومة المصلحة الوطنية” التي يقترحها الرئيس المكلف فلا بأس، بل لا بد من المراهنة عليه وعليها. ورغم انه شعار نافذ وموفق، إلا ان “المصلحة الوطنية” هذه تعرضت للكثير من المهانات والتلاعبات، حتى اذا ذكرت لا احد يمكن ان يشخص ما هي على وجه الدقة. فبعض يراها، مثلا، متجسدة ببقاء بشار الاسد ونظامه، وآخر برعاية مرشد الجمهورية الاسلامية لـ”سلاح المقاومة”، وثالث بعودة العماد عون الى قصر بعبدا رئيسا، ورابع في احتكار نفط لا يزال في البحر. وهكذا فـ”المصلحة الوطنية” تحتاج الى اعادة تعريف واعادة انتاج.
ولمن لا يريد ان يعرف ويعترف، يجدر التنويه ببعض البديهيات. واولها، ان الثنائي السوري – الايراني لم يجد نفسه قادرا على تكرار اللعبة والمجيء بحكومة بمعايير “ميقاتية”. ثانيها، ان ايران لم تتصور نفسها منفردة في ادارة البلاد بعد سقوط الدور السوري، خصوصا ان هذا يحمّلها مسؤولية “استقرار” لا تقوى عليها، رغم غرامها بالنفوذ والهيمنة. وثالثها، ان “الرعاية السعودية” بموافقة ايرانية اضطرارية لا تعني ان “حزب الله” سينسحب من القصير وسائر اماكن انتشاره داخل سوريا، شاء “اعلان بعبدا” أم أبى.
النهار
سلام وارتخاء القبضة السورية – الإيرانية
وليد شقير
تملأ المشهد السياسي اللبناني ولغة الخطاب الإعلامي، تعابير تنبئ بما يراد للبنان في هذه المرحلة من تاريخه.
ولا تمر فقرة، وأحياناً بضعة أسطر في تصريح أو بيان لزعيم أو قائد سياسي أو مسؤول من الكبار أو من متسلقي المناصب الصغار، في هذه الأيام، من دون أن تتضمن كلمات من نوع «تأجيل الانتخابات»، او «التمديد للبرلمان»، أو «تعليق قانون الانتخاب» أو «وقف» هذه المادة أو إلغائها أو «دفن» هذا القانون أو «إحيائه» أو «تجميد» مفعوله أو «إطالة» تشكيل الحكومة أو «إعاقتها» أو «التباطؤ» في وضع قانون جديد للانتخاب أو «ربح الوقت»… الى ما هنالك من كلمات استُنفدت مرادفاتها في قاموس اللغة العربية. وكل هذه التعابير لا تعبر سوى عن شيء واحد هو محاولة قتل الحياة السياسية اللبنانية وتجميدها.
ولو شاءت أي مؤسسة احصائية تسجيل المرات التي تستخدم فيها هذه الكلمات في نشرات الأخبار أو الصحف، لاحتاجت الى برنامج الكتروني متخصص في ذلك أو لوقت طويل كي يتم استخراج عدد المرات التي تستخدم فيها.
وإذا كان من دلالة لرواج هذه التعابير، بما فيها الإصرار على إجراء الانتخابات في «موعدها»، فهي أنها تؤشر الى انحدار مستوى الحياة السياسية، فالكتل النيابية أهدرت خلال الأيام القليلة الماضية وقتاً في المبارزة اللغوية، ودخلت في نقاش تافه على مسألة تعليق مواد في قانون الانتخاب الحالي بحجج واهية، انزلق اليها الذين لا يريدون تأجيل الانتخابات مثلما افتعلها من يريدون تأجيلها، ليتساوى الجميع من دون استثناء في الانغماس بوحل تعطيل الحياة السياسية من طريق سفسطائية لا نهاية لها.
إلا أن هذا الانزلاق، على رغم سخافة مفردات السجال الداخلي اللبناني، مؤشر الى تطور جوهري تمثّل بتسمية سليل العائلة السياسية العريقة في المشهد السياسي اللبناني تمام سلام لرئاسة حكومة الانتخابات النيابية المفترضة. إنها لحظة لا تقف عند حدود نوستالجيا جمهور لبناني الى عودة البيوتات اللبنانية التقليدية للعب دورها. فهي لم تغب يوماً وإن تراجع بعضها لفترة ثم عاد، بل هو تعبير عن أن «تعليق» الحياة السياسية اللبنانية الخاضعة لتوازنات ومعايير وقوانين محلية وتاريخية، تّم بفعل ضغط الوصاية السورية ثم بالاشتراك مع إيران لمصلحة معادلة داخلية تخدم توجهات إقليمية محددة.
لقد كان تهجير الرئيس الراحل صائب سلام عام 1984 عبر إطلاق قذيفة على سور دارته في قلب بيروت واحداً من مظاهر تعليق هذه المعادلة لمصلحة تلك التي أرادتها دمشق منذ 40 سنة لتطويع الطبقة السياسية اللبنانية. وكانت عودة نجله الى كرسي والده إيذاناً بأن القبضة الحديد التي مارسها الجانب السوري ثم بالتحالف مع ايران، على القرار اللبناني، أخذت تضعف وترتخي بفعل الثورة السورية والربيع العربي، على رغم ما يشوبه.
إلا أن ارتخاء القبضة بعد أن كان تعطيل المعادلة الداخلية اللبنانية يتم تحت غطاء الشعارات الكبرى الرنانة والطنانة والكونية مثل مواجهة الاستعمار والهيمنة الأميركية – الإسرائيلية، فرض انكشافاً للمسرح السياسي، فباتت المفردات التي هيمنت على أحداث الأسابيع والأيام الماضية مثل «التمديد» للبرلمان و «تعليق» مواد في قانون الانتخاب وتجميد كذا وتأجيل ذاك، تقال علناً بهدف «تعطيل» إمكان عودة اللعبة السياسية اللبناينة الى قوانينها ومعاييرها المستقلة والتقليدية. لم تعد الشعارات العظمى تكفي لتغطية مصادرة هذه اللعبة. ولم يعد استخدام القوة والقهر قادراً على تطويعها.
وإذا كان الفريق السياسي الذي استفاد من تعطيل هذه اللعبة لعقود ولا سيما «حزب الله» قد أُسقط في يده ولم يجد سوى الانسجام مع لحظة التحول بإجماع الطائفة السنية على دعم تمام سلام لرئاسة الحكومة، ولم يتمكن هذه المرة من إجبار وليد جنبلاط بالقوة على معاكسة هذا الإجماع كما فعل عام 2011، فإن «تجميد» تلك اللحظة عند حدود تكليف الرجل الهادئ والمعتدل والعقلاني، ومنعه من استعادة القوانين الداخلية للعبة بالحؤول دون تشكيله الحكومة لإجراء الانتخابات، سيكون إهداراً لفرصة التأقلم مع التحول الإقليمي وفي سورية تحديداً وانعكاساته اللبنانية. فقد بات من الصعب إذا لم يكن من المستحيل، مقاومته.
وإذا كان «حزب الله» وحلفاؤه برروا تأييدهم تسمية سلام، بأنه إبعاد للحريري ورموز تيار «المستقبل» عن «رئاسة الحكومة، فإنه سبب إضافي كي يقلعوا عن سياسة تجميد قوانين اللعبة الداخلية اللبنانية. والوجه الآخر لموقف الحريري هذا هو إبداء المرونة والاعتدال والواقعية في التعاطي مع هذه اللعبة. وآن الأوان كي يقوم «حزب الله» بمراجعة دلائل كل ذلك لبدء رحلة التكيّف معها. انها مرحلة جديدة في لبنان، قد تأخذ وقتاً. لكنها بداية نهاية مرحلة «تعليق» قواعد اللعبة الداخلية.
الحياة
ميشال عون: وحيد في النهاية
حازم صاغية
في المنعطفات السياسيّة الحادّة، لا يمكن ميشال عون إلاّ أن يكون وحيداً. وخوفه من صقيع الوحدة هو ما يفسّر، بعد تجارب سابقة مشابهة، “اضطراره” إلى الموافقة على تكليف تمّام سلام تشكيل الحكومة الجديدة.
تعود هذه الوحدة إلى أسباب عدّة لا تُستثنى منها رعونة مزاجه الشخصيّ، وصدوره عن بيئة لا تشبه البيئتين السياسيّة التقليديّة والحزبيّة – الميليشيويّة التي صدر عنهما سائر السياسيّين “الأقطاب”. لكنْ إلى هذا، وقبله، تبدو قضيّة عون مختلفة عن قضايا السياسيّين اللبنانيّين الآخرين، بمن فيهم حلفاؤه. فلا يربط بينه وبين الأخيرين، في نهاية المطاف، إلاّ اعتبارات تكتيكيّة وذرائعيّة من نوع حاجة حزب الله إلى “غطاء مسيحيّ” في أزمنة السلم البارد.
ما هو أبعد من ذلك أنّ قضيّة عون تُلحق، في أحيان كثيرة، الإهانة بحلفائه أنفسهم الذين لا يبقى لهم إلاّ العضّ على جرح التحالف.
فقد يكون حسن نصر الله ونبيه برّي وسعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع كلّهم طائفيّين، والحال أنّهم كلّهم يستمدّون زعاماتهم من طوائفهم ومن مواقعهم فيها. لكنّهم جميعاً يجدون تبريراً لبنانيّاً لقضاياهم الطائفيّة، أو يحاولون ذلك: فشيعيّة نصر الله تتسمّى مقاومة، وسنّيّة الحريري تتسمّى معرفةً للحقيقة (وإن كان الطلب هذا يتعدّى الطائفة السنّيّة)، ودرزيّة جنبلاط تتسمّى، في الظرف الحاليّ، حرصاً على الاستقرار. أمّا مسيحيّة عون فلا تتسمّى إلاّ… مسيحيّة.
وهذه ليست مسألة لفظيّة بحتة، إذ تدلّ، في ما تدلّ، على قطيعة قائمة بين قضيّة عون وقضايا الآخرين جميعاً، فلا الأولى معنيّة بالأخيرات ولا الأخيرات معنيّة بها… إلاّ ضدّيّاً.
ولنأخذ، مثلاً، شعار “استرجاع حقوق المسيحيّين” و”تصحيح تمثيلهم”، وترجمتهما الأبرز موضوع القانون الأرثوذكسيّ. فبحسب مشروع القانون هذا، ينبغي أن يحقّ للمسيحيّين على نطاق وطنيّ ما لا يحقّ للطوائف الأخرى على نطاق المناطق. وحين تُقدّم المناصفة على هذا النحو فإنّها ترقى إلى عنصريّة بحتة حيال غير المسيحيّين بلا استثناء. ذاك أنّها، والحال هذه، تجعل قيمة الصوت المسيحيّ، وفي كلّ لبنان، يعادل قيمة صوتين غير مسيحيّين أو أكثر.
وقد يقال، دفاعاً عن القانون الأرثوذكسيّ، وهذا صحيح، إنّه مرآة الواقع الطائفيّ كما هو. غير أنّ الاحتكام إلى الواقع، على هذا النحو، لا يكتمل بغير اعتماد المثالثة بدلاً من المناصفة. وتالياً، لا يجوز التمسّك بالمناصفة غير الواقعيّة (حيث يكون اتّفاق الطائف مجيداً) والتمسّك، في الوقت نفسه، بالقانون الأرثوذكسيّ الواقعيّ (حيث يكون الطائف لعيناً).
وهذا مَثَل ينمّ عن أنّ العونيّة لا تحمل لسواها، حليفاً كان أم خصماً، سوى مزيج من العدوان والاحتقار. فإذا رضي حليفها مضطرّاً بابتلاع عدوانها واحتقارها، بقي من الصعب عليه أن يجد الحجج المقنعة للدفاع عن التوائها وتناقضاتها الفادحة.
موقع لبنان الآن
لبنان: الإجماع على التكليف يبدّده… التأليف؟
جورج سمعان
يستحسن ألا يستعجل اللبنانيون الاحتفال بإجماع كتلهم النيابية المختلفة على اختيار السيد تمام سلام على رأس الحكومة الجديدة. لهم أن يتنفسوا الصعداء لأن هذا الإجماع حقق لهم على الأقل هدنة ستظل رهناً بما ستحمله التطورات من وراء الحدود الشرقية والشمالية. حقق لهم الرئيس نجيب ميقاتي «الصدمة الإيجابية» بخروجه في الوقت المناسب، الوقت الذي ناسبه واختاره هو في الدرجة الأولى. لكن خروجه لم يخل بتوازن القوى القائم. مارس دور قوى 14 آذار و «تيار المستقبل» في حكومة 8 آذار – على ما عبّر بنفسه – وسيكون على خليفته السيد تمام سلام أن يمارس الدور معكوساً. لأن الدعم الذي محضه إياه الرئيس نبيه بري و «حزب الله» والتيار العوني يشكل عبئاً، ويستدعي في مرحلة التأليف ثمناً عالياً، خصوصاً للجنرال ميشال عون الذي مُني بخسارتين: أولاهما طي صفحة «القانون الأرثوذكسي» للانتخابات المعلقة، وثانيهما عشرة وزراء في الحكومة المستقيلة.
لا شك في أن الإجماع على تمام سلام أعاد بعض الحيوية إلى السياسة، بل استعادها ولو موقتاً من الشارع لتنفيس الاحتقان المذهبي بين السنّة والشيعة. وهو احتقان بدا إثر استقالة ميقاتي كأنه يؤشر إلى استحالة التفاهم بين قيادات الطائفتين الكبريين في البلاد، فكيف يمكن أن يستقيم بين الناس وعامتهم! لكن هذا الإجماع قد لا يتوافر بسهولة على شكل الحكومة العتيدة في ضوء تعدد الميول والإرادات بين من يريدها «حكومة وفاقية وطنية» ومن يريدها حكومة حيادية لتمرير الاستحقاقات وأولها الانتخابات النيابية، أو من يريدها من تكنوقراط تتولى تصريف شؤون المواطنين. ويبقى على الرئيس المكلف الذي استنبط لها صيغة ثالثة هي «حكومة مصلحة وطنية» أن يترجم هذه الصيغة على قاعدة شعارات والده التي ذكّره بها الجنرال عون: «لبنان واحد لا لبنانان» و «لا غالب ولا مغلوب» و «تفهم وتفاهم».
يمكن الذهاب بعيداً في تفسير هذا الإجماع، ورده إلى معطيات وظروف إقليمية ودولية مرتبطة بالأزمة السورية والمفاوضات في الملف النووي الإيراني. لكن ذلك لا يمكن أن يغيّب تلاقي المصلحة المشتركة للكتلتين السنّية والشيعية على وجوب إعادة التوازن إلى اللعبة السياسية الداخلية التي غابت طوال السنتين الماضيتين. مع العلم أن ما حققته حكومة ميقاتي لا يقل عما كانت أي حكومة يرأسها «تيار المستقبل» يمكن أن تحققه. كان لا بد من خطوة تستعيد فيها الكتلتان الخطاب السياسي من «المتشددين» الذين كادوا في أكثر من مناسبة وحادثة أن يجرّوا البلاد إلى صراع مذهبي دموي. من مصلحة تيار الحريري أن يقطع الطريق على تآكل رصيده في الشارع لمصلحة «شيوخ» وقوى متطرفة، من طرابلس إلى صيدا والبقاع. وكان لا بد لـ «حزب الله» أن يترجم حرصه على عدم الانجرار إلى محاولات استفزاز داخلية كان يرى إليها مصيدة لاستنزافه وصرفه عن «معاركه الكبرى»، القائمة في سورية أو المؤجلة مع إسرائيل. كان لا بد أن يحرص على عدم خوض حروب بالجملة هنا وهناك.
قد لا يعني ذلك أن «حزب الله» حسم خياراته الداخلية ورسا على وجهة نظر واحدة. لكنه على الأقل لن يخسر شيئاً إذا أعاد وصل ما انقطع مع شركائه في الوطن، أياً كانت التطورات في سورية. لن يخسر إذا طال أمد الأزمة هناك وعجز خصوم النظام عن إخراجه من دمشق سياسياً أو عسكرياً. ولن يخسر إذا حققوا انتصاراً مفصلياً في العاصمة. بل سيكون من مصلحة جميع اللبنانيين أن يقفوا خلف حكومة وفاق قد يكون عليها التعامل مع مزيد من تدفق اللاجئين السوريين كلما تصاعد العنف، إذا كانت عاجزة عن إقفال الحدود لمنع تدفق السلاح والمقاتلين.
يحلو لبعضهم أن يرى إلى اختيار تمام سلام للحكومة العتيدة عودةً للمملكة العربية السعودية إلى الساحة اللبنانية، بعدما غلب المحور الإيراني – السوري في الانقلاب الذي حصل على سعد الحريري مطلع عام 2011، عشية اندلاع الثورة في سورية. لكن الرياض لم تغب عن لبنان في الواقع. كما لم تغب عن أي من ساحات الحراك العربية. بل ظلت ودول مجلس التعاون الأخرى في صدارة التحرك العربي وقاطرته وفي صلب أزماته، من المغرب إلى العراق. وقد ترجم دورها في أكثر من ساحة، من طرابلس الغرب وتونس والقاهرة إلى صنعاء والمنامة ودمشق وبيروت… وحتى بغداد. كما أن تفعيل الدور السعودي في لبنان لا يؤشر بالضرورة إلى تراجع دور إيران التي تلتقي مع حلفائها اللبنانيين على وجوب التهدئة تحسباً لما قد تحمله الأزمة السورية من مفاجآت. ولا يؤشر تالياً إلى تراجع قوة «حزب الله». علماً أن تمام سلام حرص على الاتصال بقادة الحزب قبل توجهه إلى الرياض!
أبعد من ذلك، يعزو بعض هؤلاء اللبنانيين هذا الإجماع «المفاجئ» على تسمية تمام سلام لرئاسة الحكومة العتيدة إلى معطيات إقليمية ودولية. ولا تفوتهم الإشارة إلى احتمال تحقيق اختراق في المفاوضات بين الدول الخمس الكبرى وألمانيا مع إيران، وإلى بداية تهدئة على خط المواجهة بين السعودية وشقيقاتها من جهة والجمهورية الإسلامية من جهة ثانية. وهو ما انعكس بالضرورة تبريداً في لبنان بين طرفي الصراع. وسواء صح ما ذهب إليه هؤلاء أو لم يصح، فإن حلفاء طهران الذين لم يبدوا حرصاً على بقاء حكومة ميقاتي كما حصل في مناسبات عدة، لم يكن أمامهم سوى ملاقاة الرئيس نبيه بري ووليد جنبلاط في خط وسطي لا يشبه بالتأكيد ما كان يمثله الثلاثي الرئيس ميشال سليمان وميقاتي وزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي… وإلا لكانوا تمسكوا ببقاء «حكومتهم». بل لعل «حزب الله» ضاق ذرعاً بهذا الثلاثي، بدليل أنه لم يسع إلى ثني ميقاتي عن الاستقالة إنما ترك له حرية ما يعتقد بأنه من مصلحته. لذلك، لم يجد ضيراً من الانخراط في هذا الإجماع لعل في ذلك تطويقاً للعودة السعودية إلى الساحة اللبنانية بديلاً من المواجهة.
بهذا المعنى قد لا يكون الإجماع انعكاساً لظروف إقليمية ودولية مستجدة أو متوقعة تبشر بانفراج كان لا بد آن يثمر تبريداً للتوتر المذهبي في كل ساحات الاقليم. وهو ما لا توحي به آجواء المنطقة. الارجح انه وليد اعتبارات وحسابات داخلية قبل أي شيء آخر. ولا يغيب هـــنا الدور الذي لعبه الرئيس بري والسيد جنبلاط اللذان لم يكفا من زمن عن الدعوة إلى «وسطية» تعيد خلط التحالفات والعلاقات. وتعيد إلى اللعبة السياسية حيويتها لوقف الانقسام العمـــودي بين الطوائف، وتوفير الحد الأدنى من التفاهم المناسب للتعامل مع تداعيات الأزمة المتفاقمة في سورية. ولا شك في أن رئيس المجلس النيابي عرف كيف ينتهز الفرصة المناسبة ليصطحب شركاءه في هذه الانعطافة مبتعداً عن خط 8 آذار من دون الخروج عليه. تماماً مثلما عرف زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي أن يخرج من «أسر» المرحلة السابقة وحكومتها، من دون أن يعود إلى التموضع في صفوف 14 آذار.
من المبكر أن يستقيم هذا الاصطفاف تموضعاً نهائياً لكل أطراف الصراع. ومن المبكر وصفه بأنه انقلاب على الماضي القريب، أو تلاقٍ نهائي بين القوى المتصارعة يطوي حوالى عقد من التباعد المتدرج إلى حد المواجهة. من هنا، ستكون مرحلة التأليف والزمن الذي سيستهلكه الرئيس المكلف المؤشرين الحقيقيين إلى التغيير الجذري، الداخلي والإقليمي والدولي. ولا شيء في أفق الأزمة السورية يشي بقرب الحسم سياسياً أو عسكرياً بمقدار ما تنذر التطورات، منذ انعقاد القمة العربية في الدوحة واشتداد معركة دمشق، بأن الآتي أعظم. ولن يكون لبنان بعيداً من هذا التصعيد. كما أن التطورات لا توحي بهدنة بين إيران وخصومها العرب، وإن علق بعضهم آمالاً على أن تنسحب مساعي التقارب بين طهران والقاهرة على باقي الجبهات العربية ولا سيما منها الخليجية، لأن المطلوب قبل ذلك التفاهم بين القاهرة وهذه الجبهات! والخوف أن تطول فترة الاستشارات التي سيجريها تمام سلام حتى يتبين الخط الأبيض من الخيط الأسود في دمشق… وطهران. فهل يقدر اللبنانيون أن يحافظوا طويلاً على الحد الأدنى من إجماعهم الحالي لئلا يسقطوا جميعهم في شباك الحرب السورية… أم هل تفاجئهم «صدمة» ثانية فتقوم حكومة مصغرة من محايدين لتصريف شؤون الناس فيما تنصرف القوى السياسية إلى مواصلة صراعاتها الداخلية وحروبها الميدانية خارج الحدود؟
الحياة
إيران تعترف بالواقع: بداية النهاية لنظام الأسد
عبدالوهاب بدرخان *
قد تكون البداية من لبنان. فالتغيير الحكومي مؤشر أول الى تغيير اقليمي في اتجاه ادارة مرحلة ما بعد نظام الأسد. هذا ما يمكن استنتاجه من عودة الدور السعودي الى لبنان، وهو ثمرة عمل واتصالات مباشرة بين أجهزة، وغير مباشرة بين حكومات. بديهي أن تأييد «حزب الله» تكليف تمّام سلام، وموافقته على رئيس وزراء لم يختره، وإسكاته اعتراضات حليفه ميشال عون، تمّت بإيعاز من إيران. لا يعني ذلك أن طهران باتت تسلّم بأن نظام الأسد سيسقط قريباً جداً، أو أنها ستساعد على إسقاطه، بل يدلّ الى أنها تسعى الى تقليص أضرار سقوطه على مصالحها. لذا فهي تبحث عن مكان لها في الصفقة – التسوية.
مع تلاشي نفوذ النظام السوري في لبنان، كان البديل أن ترث إيران «الوصاية» وتتولاّها وأن توكل ادارة البلد الى «حزب الله». لعل غطرسة القوة كانت لتغريها بالمغامرة، لكن البراغماتية أجبرتها على الاعتراف بالواقع. والأهم أنها استنتجت من تفاهمات الولايات المتحدة وروسيا في شأن سورية أن نقل الصراع الى الدول المجاورة ممنوع وغير وارد، وبالتالي فإنها مدعوة للانضباط خصوصاً في لبنان، وللتخلّي عن مشاريع التأزيم والتخريب هنا وهناك، أولاً لأن هذا لن يساعد حليفها السوري الذي فشل في مساعدة نفسه، وثانياً لأنه يقصيها عما يجري من ترتيبات للمرحلة المقبلة.
يتقاطع الحدث اللبناني مع سيناريو آخر مشابه يعدّ على نار هادئة، بعيداً من الأضواء، بالنسبة الى البحرين. فمن جهة هناك «حوار وطني» منذ التاسع من شباط (فبراير) الماضي، وكانت المعارضة الشيعية علّقت موافقتها النهائية على المشاركة فيه الى ما بعد عودة موفديها من زيارة مفاجئة لموسكو. ومن جهة اخرى هناك قناة خلفية تتفاوض على صيغة حل يُفترض أن يرضي جميع الأطراف، ويُعتبر بعض القرارات الرئيسية التي اتخذت أخيراً من مقدّمات هذا الحل وارهاصاته. وكما في لبنان، كذلك في البحرين، لن تكون تهدئة داخلية إلا اذا اعترفت إيران بحقائق البلدين وتركت ضمان الاستقرار للأطراف أنفسهم. ويذهب بعض المصادر الى حدّ التكهن بأن مناخ التهدئة يمكن أن ينعكس أيضاً على العراق، اذا نجح نوري المالكي في عقلنة ادارته للأزمة. وكان لافتاً أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري دعا أنقرة الى تصحيح علاقتها ببغداد، وكأنه يدفع في المسار نفسه.
ينبغي التحذير هنا من المبالغة في تحميل ما يجري أكثر مما يحتمل. فالأمر لا يمثل اتجاهاً الى ولادة وفاق اقليمي مباغت، بل إنه فقط استجابة لمتطلبات اللحظة الراهنة اذا وجدت الأطراف النافذة أن لديها مصلحة في اتّباع بعض المرونة والواقعية من دون أن تتكلّف أي تنازلات جوهرية. لذلك فمن الخطأ الاعتقاد بأن لبنان تخلّص من «وصاية سورية – إيرانية» تفككت بسقوط ضلعها السوري، ليستعيض عنها بـ «رعاية سعودية – إيرانية» وكأن الدولتين توصلتا الى تفاهم. لا، انه مجرد تعايش بين نفوذين يقي السنّة والشيعة معاً مخاطر تهوّر سلاح «حزب الله» ومغامراته الخارجية، ولا شيء يضمنه سوى حسن ادارة الاطراف الداخلية للعبة. وفي البحرين أيضاً لا شراكة بين النفوذين، بل حتى ولا تعايش، وانما توافق ضمني غير مباشر على أن التهدئة يمكن أن تكون مجدية وقد تفسح في المجال لوضع اصلاحات شجاعة ومتقدمة على السكّة، بعيداً من التوتير والتحديات. ولعل ملاحظة أحد المصادر المطلعة جديرة بالاهتمام اذ قال إن «الإشارات الايجابية المفاجئة» من جانب طهران تذكّره، مع اختلاف الظروف، بالمرحلة التي جاءت بمحمد خاتمي الى الرئاسة!
جاءت بلورة هذا المناخ المستجد في اطار تهيئة الظروف الخارجية المناسبة لـ «الحل السياسي» في سورية. كانت زيارة الرئيس الأميركي لاسرائيل حاسمة في نقطة واحدة على الأقل: نظام الأسد لم يعد قابلاً للانقاذ ولا صالحاً للاعتماد عليه كما في السابق، بل ان استمراره منذ عام حتى الآن جلب مخاطر لم تكن متصوّرة من قبل، وأهمها أن تنظيم «القاعدة» اقترب كثيراً من اسرائيل، ومتى صار على الحدود يسهل عليه زرع خلايا في الداخل وايقاظ خلاياه النائمة…
نتيجة لذلك، وللمعطيات الكـثيرة العربية والأوروبية المتجمعة منـذ عامين، صــار بـاراك اوبـاما أكثر اقتناعاً بضرورة التدخل لإنهـاء الأزمــة الـسـورية، لكن التـدخل من دون ارسال جنود وبالتـفاهم مع روسيا للعمل على مـسارين: أولاً، بالـتأثير في مجرى القتال بتسليح «الجيـش الحرّ» ومحاولة تأمين الجنوب وجعله «منطقة آمنة» بتنشيط الدور الاردني والسعي الى ضبط الفوضى في الشمال بتفعيل الدور التركي والاعتماد على «الحكومة الموقتة» لائتلاف المعارضة للتفاعل مع الادارات المحلية. وبالتوازي، ثانياً، الإعداد لـ «حل سياسي» متوازن لا يقصي أحداً وانضاجه تمهيداً لفرضه على الجميع. وفي هذه المرحلة لا بدّ من العودة الى مجلس الأمن بعد ضمان موافقة روسيا، لأن أي حل سيتطلب «قوات دولية»، وكذلك العودة الى مهمة الاخضر الابراهيمي.
لم تحلّ بعد عقدة رحيل الأسد أو بقائه، لكن الحديث يبدو راهناً كأنه يتجاوزها. فالمشكلة ليست في اشتراط المعارضة رحيله، وهذا حقّها الطبيعي بعد كل هذا القتل الذي ارتكبه، بل هي في عدم توفّر ارادة دولية للحل سواء بسبب الجشع الروسي أو «الممانعتين» الاسرائيلية والإيرانية أو التردد الأميركي والأوروبي. لكن الجميع بلغ الآن اقتناعاً بأن الأزمة طالت أكثر مما ينبغي، وأنها اذا استمرّت ستلد أزمات اخرى. ثم أن واشنطن بدأت تعطي اشارات الى أنها في صدد تركيز خياراتها. كما أن موسكو وواشنطن اللتين وسّعتا اتصالاتهما بعسكريين منشقّين من رتب عالية لا يزالون على اتصال مع ضباط كبار يعملون مع النظام، تمكّنتا من رصد مجموعة من هؤلاء ترغب في التعاون اذا كانت هناك «تسوية» لكنها تريد «ضمانات». والحديث هنا عن مئات من الصفين الأول والثاني الذين أخرجوا عائلاتهم الى لبنان والامارات، أو الى قبرص حيث شكا كثيرون منهم من أنهم تضرروا بالأزمة المالية العاصفة بالجزيرة. والأسد مضطر لـ «التعاون» وتسهيل الحل سواء بقي حتى نهاية رئاسته أو اختار أن يرحل، لأنه في الحالين سيحتاج مثل ضباطه الى «ضمانات».
يمكن فهم مـناخ التـحوّل الحـالي في المـواقـف بأنه النتيـجة الطبـيعية لـسـياسـة «تغـيير الحـسابات» التي أشارت اليها واشنطن، سواء للاسد أو حلفائه، أو حتى لخصومه، خصوصاً أن الرقم الصعب في المعادلة يرتكز أساساً الى ما تنجزه المعارضة على الأرض. وعـشية اللقاءات التي برمجها البيت الابيض، ويلاحظ أنها لا تشمل مصر، أصبح معلوماً أن ثمة تفاهماً أميركياً – سعودياً قد انجز بخصوص التعامل مع الملف السوري سواء في الجانبين العسكري والـسـياسي أو في تهيئة الظروف الاقليمية لنهاية الأزمة وتداعياتها. ولعل ما حرّك الاتصالات للتوصل الى هذا المناخ الجديد أن الأميركيين وحلفاءهم الخليجيين ينظرون بشيء من الريبة الى الطريقة التي يتم بها «التـطبيع» بين مصر وإيران، اذ يتصرف الإيرانـيون وكـأنهم انـجزوا محـوراً ثلاثياً (طهران – القاهـرة – غزة) بديلاً من المحور الآفل (طهران – دمـشق – بيروت/ حزب الله). ثم إن تطوّرات الداخل باتت توجب التحوّط من دور تنظيم «القاعدة» ومن مشكلة «العائدين من الشام» على غرار العائدين سابقاً من افغانستان وسواها. يضاف الى ذلك أن روسيا وُضعت أمام مسؤوليتها لحمل إيران على الانضباط والحدّ من التخريب الذي تتعمده بتدخلها في دول الخليج، اذا كانتا تريدان الحفاظ على حد أدنى من مصالحـهما في سورية ما بعد الأسد.
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة