مقالات تناولت العلاقات الاميركية السعودية
السعودية تمانع أميركا/ مصطفى اللباد
فاجأت السعودية العالم باعتذارها عن عدم قبول المقعد غير الدائم في مجلس الأمن الدولي الذي انتخبت له، بالرغم من كونها دولة مؤسسة للأمم المتحدة، ولم تحظ في تاريخها بعضوية مجلس الأمن الدولي من قبل. وازدادت المفاجأة هولاً عندما صدر بيان الخارجية السعودية الرافض لقبول المقعد، في الوقت الذي كان فيه الموقع الإلكتروني للبعثة الديبلوماسية السعودية بالأمم المتحدة مستمراً في تلقي التهاني والتبريكات بالحصول على العضوية المنتظرة في مجلس الأمن الدولي. وفيما اعتبر السفير السعودي لدى الأمم المتحدة عبدالله المعلمي عقب التصويت أن «انتخاب بلاده في مجلس الأمن الدولي لحظة تحول في تاريخ المملكة»، فقد كان لصانع القرار السعودي رأي مخالف في اللحظات الأخيرة.
تضمن بيان الخارجية السعودية أسباباً متنوعة لرفض المقعد تراوحت بين «غياب التقدم في القضية الفلسطينية، الفشل في إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل، والفشل في فرض عقوبات رادعة على النظام السوري»، ثم زاد البيان سبباً إضافياً يتمثل في أن «المعايير المزدوجة وطريقة وآلية عمل مجلس الأمن ستمنعه من التصرف بفعالية». يقتضي الإنصاف القول إن كل هذه الأسباب صحيحة ومعلومة، إلا أنها لا تفسر شيئاً من الحسابات السعودية مع ذلك، لأن تلك الأسباب كانت قائمة أيضاً قبل عام إبان بدء حملة الديبلوماسية العامة السعودية للحصول على المقعد. وقتها خاضت الرياض حملة للديبلوماسية العامة، ناجحة ومكثفة، على مدار عام كامل بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، خصصت لها الكثير من الجهد والمال للوصول إلى المقعد المرموق الذي انتخبت له في النهاية… قبل أن تعود وترفضه في اللحظات الأخيرة.
مجلس الأمن والنظام الدولي
أوكل ميثاق الأمم المتحدة الذي صيغ على هدي من توازنات النظام الدولي لمجلس الأمن مهمة حفظ السلم والأمن الدوليين، بحيث تكون قراراته ملزمة للدول الأعضاء في الأمم المتحدة. يتكون مجلس الأمن من خمسة عشر عضواً، خمسة دائمون (أميركا وروسيا والصين وانكلترا وفرنسا) وعشرة مؤقتون ينتخبون دورياً لمدة سنتين. ولأن تمرير أي قرار في المجلس يتطلب الحصول على تسعة أصوات حسب المادة الرقم 27 من ميثاق الأمم المتحدة، يعني ذلك حضوراً دائماً للدول الأعضاء غير الدائمين في القرارات الدولية وموقعاً دولياً لا يستهان بتأثيره. لذلك تتسابق دول العالم المختلفة للحصول على عضوية مجلس الأمن الدولي؛ بسبب الفوائد الإيجابية التي تضفيها العضوية على صورة الدول الأعضاء في العالم؛ ونظراً لقوة الدفع الإضافية التي تكتسبها حملات الديبلوماسية العامة للدول الأعضاء بالمجلس. يمثل مجلس الأمن أعلى هيئات النظام الدولي الراهن، الذي يقرر بالتصويت أو بالتجاهل مصائر قضايا كبرى في العالم، وهي حقيقة لا تغيب عن صانع قرار السياسة الخارجية السعودية. أثبت الأخيرة مهارات وقدرات في أزمات مختلفة وفي محطات تاريخية متباينة – سواء اتفقت أم اختلفت معها – وبالتالي لم تغب أهمية العضوية في مجلس الأمن عن الرياض بأية حال.
السعودية وأميركا وتضارب الرؤى
لا يخفى أن السعودية ممتعضة من إدارة أوباما، وبلاده هي القطب الأعظم في النظام الدولي حتى الآن. وإذا وضعنا الأمور في سياقها الكرونولوجي، لوجدنا أن الرفض السعودي لمقعد مجلس الأمن يأتي بعد أسابيع قليلة من رفض وزير الخارجية السعودي إلقاء كلمته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، اعتراضاً على سياسات المنظمة الدولية والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن حيال القضايا العربية. تعلم الرياض، التي تعيش أزمة مع إدارة أوباما منذ فترة ولايته الثانية على الأقل (راجع مقالنا هنا أوباما والأزمة المكتومة مع السعودية في 11/3/2013)، أن المنطقة ستشهد في الفترة المقبلة توزيعاً جديداً لموازين القوى فيها. لم تعد نظرة البلدين لقضايا المنطقة متطابقة أو حتى متوافقة، لأن ركاماً كبيراً من القضايا يكرس ذلك الاختلاف في الرؤى. ويزيد من حدة الأزمة أن الملفات الخلافية بين الطرفين، هي الملفات المفتاحية في ترتيب التوازنات الإقليمية المقبلة. على ذلك تواجهت الرياض مع واشنطن في مصر، فساندت الأولى الانتفاضة الشعبية المصرية الثانية في 30 يونيو/حزيران 2013 والسلطة الجديدة الناشئة على أثرها، فيما كانت الثانية تفضل بقاء جماعة «الإخوان المسلمين» بالسلطة. وأبرزت الرياض في أكثر من مرة امتعاضها من فشل إدارة أوباما في حمل دولة الاحتلال الإسرائيلي على إيقاف المستوطنات بالأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967، لأن ذلك سيخرب مسار التسوية السياسية للقضية الفلسطينية الذي تتبناه الرياض والعواصم العربية. ومع فشل مسار التسوية السياسية بسبب ضعف أوباما، ينفتح الباب واسعاً أمام القوى الراديكالية في المنطقة لإمساك ورقة فلسطين والضغط بها وعبرها معنوياً وأدبياً على الدول العربية. كما أن معاداة الرياض للنظام السوري باعتباره مطل إيران على البحر الأبيض المتوسط، دفعتها إلى الذهاب بعيداً في مواجهته بالمال والسلاح والديبلوماسية. ولكن مع نجاح المبادرة الروسية بنزع السلاح الكيماوي السوري، فقد انتقل عنوان الأزمة السورية إلى مسار آخر لا ترضى عنه الرياض. ومن المعلوم أن المسار الجديد نتج من ورطة أوباما حيال الضربة العسكرية، وتفاهمه الاضطراري مع روسيا على الملف السوري. وزاد في طنبور التصادم نغمة أن التقارب الإيراني – الأميركي الناشئ والمتبلور في الأسابيع الأخيرة مرشح للتصاعد أكثر في الفترة المقبلة، مع ما يعنيه ذلك من إعادة تشكيل لميزان القوى الإقليمي بشكل يتصادم مع نظرة الرياض للمنطقة وتوازناتها.
مثالب المقعد من المنظور السعودي
بالرغم من المميزات السالفة للعضوية في مجلس الأمن، إلا أن هناك التزامات ستترتب على المملكة العربية السعودية في حال قبولها العضوية فيه، ضمن سياق التصادم الحالي في الرؤى مع واشنطن حول ملفات المنطقة. يختلف الموقف السعودي الآن عما كان عليه إبان الحملة الديبلوماسية السعودية للحصول على مقعد مجلس الأمن قبل عام، وقتذاك كانت هناك رؤية مشتركة بين الرياض وواشنطن حيال سوريا، وعلاوة على ذلك لم يكن هناك تقارب إيراني – أميركي في الأفق. تعني هذه الالتزامات أن تراجع الرياض عن مواقفها لمسايرة العضوية في المجلس سيفقدها صورتها في المنطقة، مثلما يؤدي تمسكها بمواقفها إلى تظهير الأزمات المكتومة مع واشنطن إلى العلن، ما يفاقم هذه الأزمات أكثر فأكثر. تفضل الرياض تاريخياً الديبلوماسية الهادئة من وراء الستار لطرح وجهة نظرها على صناع القرار مباشرة بغرض التأثير في رؤيتهم للقضايا المختلفة، وبالتالي لا تحبذ طريقتها الديبلوماسية كثيراً النقاشات العلنية حول القضايا المختلفة. ومع علم الرياض بتضارب رؤاها مع واشنطن وروسيا في ملفات المنطقة الأهم، فلن يكون مفيداً التعبير عن تلك الرؤية في مجلس الأمن طبقاً لحسابات العائد والتكلفة في الرياض، والأخيرة لا تستطيع كدولة مؤقتة العضوية تشكيل عائق تصويتي في المجلس في حال قبولها تلك العضوية. بالمقابل لن يغير الرفض السعودي لمقعد مجلس الأمن من سياسات موسكو وبكين تجاه القضايا التي تتقاطع السعودية معها، خصوصاً الأزمة السورية، ولن تعدل إدارة أوباما من سياساتها الشرق أوسطية الجديدة، وفي القلب منها الانفتاح على إيران، بسبب ذلك الرفض. يعد المثال الأكبر على حسابات العائد والتكلفة لمقعد مجلس الأمن حالة لبنان بين عامي 2010-2011، إذ كان التصويت على أي قرار يمس دولة إقليمية نافذة في بيروت بمثابة أزمة حكومية لبنانية. وبالرغم من الكفاءات العالية والمتميزة للسفير اللبناني في الأمم المتحدة نواف سلام، إلا أن العضوية في مجلس الأمن لم تكن نعمة على لبنان أو استقراره السياسي، وإنما العكس لأسباب تخص النظام السياسي اللبناني وليس شخص السفير. وإذ يختلف النظام السياسي في السعودية عن مثيله في لبنان بحيث لا يمكن موضوعياً عقد المقارنة بينهما، إلا أن الدرس المشترك هنا هو التكلفة العالية للعضوية في مجلس الأمن: بسبب الانقسام السياسي الداخلي في الحالة اللبنانية، وبسبب السير عكس التيار الدولي في الحالة السعودية.
الخلاصة
أظهرت السعودية امتعاضها من النظام الدولي عموماً والولايات المتحدة الأميركية خصوصاً، وبشكل غير مسبوق في تاريخ الأمم المتحدة، عبر رفض مقعد مجلس الأمن الذي وصلت إليه بالانتخاب. وإذ جاء القرار السعودي بمثابة مفاجأة كبيرة، فإن أسباب الرفض تعود في العمق إلى حسابات العائد والتكلفة من المنظار السعودي، وليس فقط الاهتمام بإظهار الامتعاض من «المعايير المزدوجة» لأميركا ومجلس الأمن. رفض العضوية في مجلس الأمن ليس نهاية المطاف في المواجهة بين واشنطن والرياض التي يتوقع أن تتفاقم في المرحلة المقبلة، بسبب التضارب في الرؤى بين العاصمتين على ملفات الشرق الأوسط الكبرى، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا التضارب الرؤيوي يغير الآن بالفعل حسابات ومعادلات وتوازنات في المنطقة. يشبه الشرق الأوسط مسرحا كبيرا للعبة الكراسي الموسيقية التي تتبدل فيها الأحوال والمواقع والتحالفات، والدليل الأسطع على ذلك أن معطيات اللحظة الراهنة تفيد بأن إيران تفاوض أميركا… والسعودية تمانعها!
السفير
المغامرة السعودية.. و«ديبلوماسية البداوة» إزاء سوريا/ خليل حرب
سيمر بعض الوقت قبل ان تتضح حقيقة الهبّة السعودية في وجه الحليف الاميركي. اما نضوجها، فسيتطلب وقتا اطول. هل سيتابع وزير الخارجية سعود الفيصل ورئيس الاستخبارات بندر بن سلطان «هجمتهما» الكلامية في وجه السياسة الاميركية، والى أي مدى سيصلان فعلا؟ وهل يتمتعان بكامل دعم دائرة القرار الضيقة في القصر الملكي؟ والاهم، ما هي الآثار المحتملة لهذه الهجمة على ازمات المنطقة من سوريا الى لبنان والعراق والبحرين وصولا الى افغانستان؟
لا اجوبة قاطعة عن هذه التساؤلات. لكن من المفارقة ان المملكة السعودية تبدو طرفا رئيسيا في ازمات هذه الدول، في الوقت الذي تجهد من اجل تقديم نفسها- امام الاميركيين على الاقل – على انها جزء حيوي من الحل.
لقد اظهر مشهد العراك السياسي الذي خرج الى العلن بين الرياض وواشنطن، ما هو اكثر من مجرد تباين سعودي اميركي. التصريحات المنسوبة الى الفيصل وبندر والمتخذة طابعا ابتزازيا، تشي بما هو اكثر من ذلك، ما يثير مخاوف من احتمال اطالة امد هذه الازمات، واحتمال تفاقمها، خصوصا في سوريا التي يقود المبعوث الدولي الاخضر الابراهيمي جولة اقليمية تمهيدا للمخارج المحتملة في «جنيف 2».
يمثل الفيصل وبندر داخل دوائر القرار السعودي، الجناح المتشدد، المصاب بعقم «الانجاز» سورياً (اللهم الا اذا كان الخراب هدفا اساسيا)، ما يمكن ان يفسر ولا يجزم في الوقت ذاته بحقيقة ما يجري داخل القصر الملكي، وصراع الارادات والخلافة. وتدور تساؤلات حول مدى اقترابهما او ابتعادهما عن شخصيات لا تقل نفوذا تحت مظلة حكم الملك عبد الله، مثل الامراء متعب بن عبد الله ومقرن بن عبد العزيز ومحمد بن نايف بالاضافة الى الامير عبد العزيز بن عبد الله، ابن الملك، الذي كان حتى وقت قريب مسؤولا مباشرا عن الملف السوري، وخالد التويجري الملقب بسبب سعة نفوذه بـ«الملك خالد».
سيحتاج الامر الى وقت قبل ان ينجلي المشهد في الديوان الملكي. لكن الترجمة الاكثر سرعة للهجمة السياسية السعودية الجديدة، قد تكون في الساحة السورية. التهديد المنسوب الى بندر، عراب الخيار العسكري في سوريا، يوحي بان المملكة ستتملص من التنسيق مع واشنطن بشأن شحنات الاسلحة ونوعيتها والجهات المرسلة اليها، بهدف التخلص من حكم الرئيس بشار الاسد. الى أي مدى ستسمح واشنطن بانفلات الخيوط من بين يديها، سيظل الامر في الوقت الراهن احتمالا قابلا للكثير من التأويل.
لكن مصدرا عربيا مطلعا على مواقف بعض المسؤولين السعوديين يقول ان الانتقادات السورية القاسية ضد الحكم السعودي لم تعهدها المملكة من قبل وعلى اصحابها ان يدفعوا الثمن! .
ويقول مصدر سوري مطلع لـ«السفير» ان المشكلة بالنسبة الى السعودية صارت «بدوية»، وخلاصتها عقلية الثأر: فإما نحن او الأسد!
بهذا المعنى، فان الانفراج الكيميائي الذي شهدته العلاقات الاميركية – الروسية بشأن سوريا، لم يكن سوريا خالصا. كانت له جوانبه الاخرى التي ستتجسد بأشكال عدة، لعل من بينها حتى الآن، هذا الحنق السعودي، والذي كان اول مؤشراته امتناع الفيصل عن القاء كلمة السعودية امام الجمعية العامة للامم المتحدة مؤخرا، ثم الاعلان عن الاعتذار عن عدم تولي مقعد العضوية في مجلس الامن الدولي، وصولا الى التلويح السعودي بمراجعة مستوى التعاون السياسي والامني مع واشنطن.
ما يعنيه ذلك بالنسبة الى السوريين، ان السعودية صارت الآن الدولة الاخيرة التي لم تتراجع عن المجاهرة بالخيار العسكري واعتراضها على الحل السياسي. قال وزير الخارجية الاميركي جون كيري غداة لقائه الفيصل في باريس الاثنين الماضي، ان المملكة ساءها ان الحرب الاميركية لم تقع على دمشق!
يجري كل ذلك على خلفية المشهد الايراني. الرغبة الاميركية بالالتقاء مع الايرانيين في نيويورك في ايلول الماضي، كانت تجسيدا للانفراج الاميركي – الروسي، لكنها ليست نتيجته الوحيدة، وبالطبع ليست شكله الاوحد، كما اتضح من مغامرة الغضب الديبلوماسي السعودي بشأن ايران وسوريا.. واستطرادا لبنان. الهبّة السعودية، تعني ان حركة الرئيس الشيخ حسن روحاني، تثير كوابيس سياسية في الرياض.
على أبواب دمشق
فتحت كلمة السر المتمثلة باقتناع الاميركيين بضرورة الاستفادة من الاوراق الايرانية، الابواب امام المبعوث الدولي الاخضر الابراهيمي، في دمشق، للمرة الاولى مند شهور من الفتور السوري الواضح الذي كشف الاسد احد اسبابه في مقابلته التلفزيونية الاخيرة مع «قناة الميادين»، عندما قال ان المبعوث الدولي جاء طالبا عدم ترشحه في الانتخابات الرئاسية بعد انتهاء ولايته الرئاسية الحالية، ما فسرته دمشق خروجا عن حيادية الوسيط.
لكن ماذا سيقول الابراهيمي هذه المرة في دمشق؟
يقول مصدر ديبلوماسي في نيويورك مطلع على جولة المبعوث الدولي الاقليمية التي شملت حتى الآن مصر والعراق والكويت وسلطنة عمان والاردن وتركيا، لـ«السفير» ان الابراهيمي سيجدد أولا رسالته القديمة القائلة بأن هناك «مطالب حقيقية» من جانب الناس وحتى من قبل من جماعات حملت الســلاح، بمــا يعــني ان الحاجــة الى الاصــلاح، حقيقية.
واوضح المصدر ان طرفي السلطة والمعارضة يدركان ان الحل ليس عسكريا، وان المخاطر باتت تهدد بتقسيم سوريا، وبالتالي، فان المتوقع منهما القيام بـ«تضحيات» معينة تؤكد الرغبة في «قبول الطرف الآخر»، مشيرا في الوقت ذاته الى ان مطلب خروج الاسد من السلطة، لم يعد شرطا مسبقا لانعقاد مؤتمر جنيف، وان العمل يرتكز الآن على تسويق ما طرح في «جنيف الاول» بشأن تشكيل «هيئة انتقالية» تعكس من خلال الصلاحيات التي سيقبل بها النظام لها، اقتناعا حقيقيا بقبوله بها.
ويلاحظ المصدر الديبلوماسي في نيويورك ان مطلب قوى المعارضة بخروج الاسد، لم يعد متداولا بحدة كما كان سائدا خلال العامين الماضيين، حيث كان وقتها شرطا مسبقا قبل الذهاب الى أي شكل من اشكال التفاوض، وهو ما لم يعد قائما الآن، ما يعني ان غالبية قوى المعارضة في الخارج، على اختلافها، باتت تعترف ضمنا بأن النقاط الصعبة ستبحث لاحقا في اللقاءات والاجتماعات التي يفترض ان تنبثق عن «جنيف 2».
التبدل في ادبيات خطاب مختلف القوى المعارضة السورية، مرده العديد من الاسباب، وبالتأكيد فان من بينها المشهد الميداني. الرهان على التطورات العسكرية، لم يعد خيارا. هكذا كان الحال اقله الى ما قبل اتضاح حجم المغامرة السعودية الجديدة.
ويقول مصدر ديبلوماسي عربي لـ«السفير» ان «التطورات الميدانية لن تؤثر في مهمة الابراهيمي»، على الرغم من اقراره بأن السعودية، وقوى معارضة، تقول ان «جنيف 2» يجب الا يعقد بينما النظام السوري يحقق مكاسب على الارض. ويرى المصدر ان «المعادلة انقلبت الآن من خلال التفاهم الروسي – الاميركي، والقرار بات بأيدي موسكو وواشنطن، وهما مصممتان على انعقاد المؤتمر».
ينقل مصدر مطلع على اجواء لقاء كيري الفيصل في باريس، ان عتابا متبادلا جرى بينهما، اذ بينما كان السعوديون يستهجنون فكرة الذهاب الى جنيف مجددا قبل تغيير المعادلات على الارض، رد الاميركيون بان السعوديين لم يحسنوا استغلال عامين من العمل العسكري حتى الآن، ولم يقدموا انجازا جديرا بالذكر. وعندما قال السعودي ان الرياض جلبت اعتراف 100 دولة بالمعارضة الخارجية، رد الاميركي قائلا «نحن من انجز ذلك». وعندما سعى الفيصل للتأكيد ان تطورا ما يتحقق في مسألة تشكيل حكومة المعارضة، رد الاميركيون بمرارة واستهزاء «حتى الآن لم تشكلوا هذه الحكومة!!».
وبينما تبدو قوى «المجلس الوطني» المدعوم قطريا والمنبوذ اميركيا، و«الاتئلاف السوري» المدعوم سعوديا، كمن يحلق خارج سرب التفاهمات الدولية، او الاميركية الروسية تحديدا.. ربما بانتظار كلمة السر من الدوحة والرياض، فان التساؤل يصير مشروعا عن المدى الذي سيذهب اليه السعوديون في عرقلة احتمالات الانفراج السوري، خصوصا ان حدة مواقفهم اثارت جوا ملبدا في سماء مهمة الابراهيمي الدقيقة والبعيدة نسبيا عن الاعلام، في هذا الخريف السوري الذي قد يكون حارا.
الوهَّابيون الجدد/ نصري الصايغ
رولان فابيوس من باريس، يطالب بإصلاح مجلس الأمن، وبندر بن سلطان يفرض على الديبلوماسية السعودية الانسحاب من العضوية غير الدائمة في المجلس.
من حق السعودية أن تغضب. من حقها أن تثور أيضاً. الزوج المخدوع يرتكب أكثر من فعل الغضب. يُقدم على الانتقام من غريمه. يخرج عن طوره ويطلِّق هدوءه ويتصرف برعونة وفوضى، وينصِّب نفسه مدافعاً عن الشرف والقيم والمبادئ والأصول.
من حق السعودية أن تغضب، وأن تقرر الانسحاب من المنبر الدولي، والامتناع عن الكلام في الجمعية العامة. من حق السعودية أن ترفض عضوية غير دائمة في مجلس الأمن الدولي، في «محاولة» منها لإعادة «النصاب الأخلاقي» والسياسي، فهذا المجلس فشل في إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، ووقف عاجزاً أمام المذابح في سوريا، وتهاون في الرد على استعمال على الأسلحة الكيميائية في ريف دمشق، إضافة إلى تلكئه في إلزام إيران بالخضوع إلى موجبات القرارات المانعة لانتشار الأسلحة النووية.
من حق السعودية أن تخرج عن سياسة الصمت والتسري المعهودة، وأن ترفع صوتها احتجاجاً… إنما:
أولا: مجلس الأمن، أعلى سلطة دولية، فشل مراراً ونجح قليلا في الحفاظ على الأمن الدولي بغاية حماية السلام العالمي. لقد كان هذا المجلس، في أحيان كثيرة، شبيهاً بمجلس الحرب الدولي، بمشاركة سعودية طبعاً، وبتبرع يدفع الأكلاف العسكرية والحربية. ولطالما شكا الأمناء العامون من العطالة السياسية، بسبب مواقف الدول العظمى، صاحبة القرار في الحرب والسلم.
ثانيا: أبواب مجلس الأمن الدولي مقفلة أمام القضية الفلسطينية. بل يبدو وكأن إسرائيل قد خطفت المجلس وأوكلت أمر حراسته إلى الولايات المتحدة الأميركية وعدد وازن من دول أوروبا.
فالقضية الفلسطينية اغتالتها وألغتها المجموعة الممسكة بقرار الحل والربط في مجلس الأمن، لا شكوى تقبل، لا تقرير عن مجازر (في جنين وغزة مثلاً) يقرأ. لا دولة مراقبة مقبولة. كل ما يمت إلى فلسطين يجب أن يكون مقره ومآله في «إسرائيل». وحدها المعنية بهذا الملف… والسعودية تعرف جيداً ذلك. و«مبادرة السلام العربية» التي تفتقت عنها العبقرية الديبلوماسية السعودية، قُتلت بعدما أقرت في بيروت، على درج فندق الفينسيا. وما زالت جثتها طريحة الأدراج.
ثالثا: فشل مجلس الأمن في التصدي للأزمة السورية المدمرة. النظام محمي دولياً، وحمايته مدعمة بـ«الفيتو» الروسي و«الفيتو» الصيني، لأسباب باتت معروفة، وإن كانت غير دقيقة. ونظام «الفيتو» وضع في الأساس لحماية مصالح وأمن الدول الكبرى ذات الشأن. لقد لجأت واشنطن مراراً إلى رفع إصبعها اعتراضاً. مارست «حقها» الظالم هذا، ضد الشعوب والأنظمة في القارات الخمس، بهدف تطويعها. وكذلك فعلت روسيا. إنها تحمي نظاماً فاشلاً وديكتاتورياً ومدمراً. لأن حمايته تؤمن لها عدداً من المصالح الاستراتيجية وتحميها من جموح إسلاموي عندها وعلى تخومها.
رابعاً: شكت السعودية من ازدواجية المعايير الدولية. وهذا أمر معروف. السياسات الدولية، من زمان، تعتمد القاعدة الذهبية المربحة: «ازدواجية المعايير». لا سياسة من دون ازدواجية المعايير. والأمثلة التي تضرب، تصيب السعودية في الصميم. فهي ضد ربيع البحرين، ومع عسكر مصر، وضد عسكر سوريا، ومع الحرب التدميرية في بلاد الشام. تدفع المليارات لعسكر مصر، بهدف القضاء على خصومها «الإخوان»، المصابين بجنون «الأخونة»، وتفيض تمويلاً وتسليحاً على المعارضة في سوريا، التي غدت، بعدما كانت بريئة من إثم الدم، مجموعات تكفيرية توازي، وأحياناً تتفوق، على تدميرية النظام. لا يحق للسعودية أن تشكو من ازدواجية المعايير، فهي في هذا الصدد أشبه بالوهابية الماكيافيلية.
ما جاء أعلاه، نوع من الدجل المنطقي. المسألة ليست في هذا السياق أبداً. التمسك بالمبادئ، وفق المناسبات، دليل عجز وضعف. الاعتماد على الوقائع هو الذي يملي المواقف ويفرض التغيرات وينتج موازين قوى جديدة أو تستقر موازين قديمة.
استفاقت السعودية على مشهد غير متوقع، يشبه قصة الزوج المخدوع. لقد استعدت السعودية لوراثة النظام في سوريا، اعتمادا على قرار أميركي بضرب سوريا، عقاباً لنظامها على استعماله الكيميائي ضد شعبه في ريف دمشق. تبلغت السعودية ذلك، واستعدت المعارضة المسلحة للزحف على مواقع النظام. كان ذلك حلم ليلة صيف، تحوّل إلى كابوس. لم يسقط النظام بالضربة العسكرية، بل نجا بالانسحاب من الكيميائي، وليس من الميدان. وخرج الأسد أقوى مما كان، تحتفل به وسائل الإعلام، وتقرظه تصريحات أميركية متفرقة.
وكالزوج المخدوع، انتفضت السعودية، وقررت العناد. استعدت السعودية أيضاً، لتكون رأس حربة في مشروع مواجهة ايران النووية، في سوريا والعراق ولبنان. واطمأنت السعودية إلى أن سقوط النظام الحليف لإيران في سوريا سيمهد لتعامل أشد وأقسى وأكثر حسماً مع غريمها «الفارسي المتشيّع». ولكنها استيقظت على استقبال نيويورك لروحاني ومعاملته كأنه رجل المرحلة، إقليميا ودولياً، وبيده بعض من مفاتيح الحل. اتصال أوباما بروحاني وتبادل الكلام الودي معه، أنتج لقاءات إيجابية، دفعت السعودية إلى التطرف وما يشبه «الجنون». كالزوج المخدوع تماماً.
قررت السعودية أن تتخلى عن الديبلوماسية الهادئة لتلعب دور القائد الميداني في سوريا، والقائد الأوحد للمعارضات بعد حذف قطر الصغرى، والقائد المالي في مصر، والقائد العملياتي في العراق والقائد التعطيلي في لبنان. كلها أوراق ميدانية قابلة للصرف ولكن لا يبدو أنها قابلة للربح. تعتقد السعودية أن قوتها على الأرض ونفوذها المنتشر، يفوقان قوتها الديبلوماسية وقوة محفظتها المالية. غير أن هذا رهان محفوف بالخسران، فالمشرق يتجه إلى رسم توازنات جديدة لا غلبة فيها للسعودية.
أما رولان فابيوس، قائد معسكر الحسم العسكري الفاشل في فرنسا، فقد تعاطف مع السعودية إلى جانب أنقرة. واعتبر أن الرد على التلكؤ الدولي وعجز مجلس الأمن، يقضي بأن يتم إصلاح هذا المجلس، إما بتوسيع قاعدة الدول فيه، وتقييد حق «الفيتو» في ما خص المجازر والجرائم ضد الإنسانية. على أن يكون مفتاح قرار تحديد الأعمال المنسوبة إلى الجرائم الكبرى الإنسانية، بيد خمسين دولة على الأقل. ولا يحق لدول «حق النقض» استعمال «الفيتو» إلا لحماية مصالح حيوية لها. هذا عود على بدء، ويعتبر هذيانا، وهو من نوع الهذيان الذي يصاب به «الزوج المخدوع». كانت فرنسا داعية حرب، وذهبت إلى قمة العشرين وهي تلبس ثياب الميدان، فخرج أوباما وبوتين بأرنب الكيميائي، وسقط هولاند سقوطاً مريعاً، قبل الطلقة الأولى. عوَّض عن هذه الخديعة، باقتراح تعديل لا حظ له. فما تقبض عليه روسيا اليوم وما هو من حصة أميركا، تعض عليه الدولتان بالنواجذ، وليستا مستعدتين للتنازل، بل للتبادل بينهما. رقصة التانغو ثنائية، لا أكثر.
ماذا بعد؟
«الوهابيون الجدد» في السعودية، يحاولون وراثة «المحافظين الجدد»، في زمن لم تعد فيه أميركا قادرة على إشعال الحروب أو.. إخمادها.
السفير