مقالات تناولت القمة العربية في الدوحة
أهوال ما بعد الصورة
غسان شربل
كانت الصورة هي الحدث في القمة العربية في الدوحة أمس. صورة غير مسبوقة. قاطعة. وقاسية. ليس بسيطاً أن يتقدم وفد المعارضة السورية، وعلى دوي التصفيق، ليشغل مقعد بلاده في القمة. وليس بسيطاً أن يجلس معاذ الخطيب وراء علم الثورة لا علم الجمهورية السورية التي نعرف منذ عقود. وليس بسيطاً أن أياً من قادة الوفود لم يغادر القاعة. لم يكن من عادة القمم العربية أن توجه هذا النوع من الرسائل إلى النظام الحاكم في دولة عضو. لم تكتف بتكريس المقعد الشاغر. ذهبت أبعد ومنحته لوفد يمثل الثورة السورية.
لا بد من الالتفات إلى أن الصورة تتعلق بما يجري في دولة عربية أساسية. كانت سورية شديدة الحضور في القمم العربية بعدما ساهمت في تأسيس الجامعة. وكان من الصعب على المشاركين تجاهل موقفها حتى في المواضيع التي لا تمسها كدولة. كان لها حق النظر، وربما حق النقض، في كل ما يتعلق بلبنان وفلسطين وملفات أخرى.
كانت الصورة كثيرة الدلالات. إنها رد عربي صارم على عودة الأخضر الإبراهيمي صفر اليدين من زيارته الأخيرة إلى دمشق. وعلى الخسائر البشرية والمادية المذهلة التي تلحقها آلة النظام العسكرية بالمدن والقرى وسكانها. وعلى استمرار الدعم الروسي والإيراني للنظام ما ينذر بتحويل المواجهة الدائرة على أرض سورية إلى مبارزة داخلية وإقليمية ودولية تهدد ما تبقى من سورية وتهدد وحدتها أيضاً.
جاءت الصورة في سياق قناعة متزايدة لدى أطراف عربية وغربية أن النظام السوري ليس في وارد قبول تسوية سياسية إلا إذا أرغم عليها. هكذا اتخذ قرار السعي إلى تعديل ميزان القوى لمصلحة الثورة. وترجم القرار بالعودة إلى التمويل والتسليح من جهة وباستكمال نزع الشرعية عن النظام من جهة أخرى وهو ما بدأته صورة البارحة.
جاءت الصورة أيضاً في وقت تحدث فيه «الجيش الحر» عن نجاحات يحققها في جنوب البلاد أي في الخاصرة الأخطر على عاصمة النظام. كما جاءت في وقت صار تساقط القذائف في قلب دمشق نفسها حدثاً شبه يومي.
الصورة حدث فارق يعني كل أطراف المواجهة في سورية. لا بد من الانتظار لمعرفة كيف ستقرأ دمشق الرسائل المتضمنة في ترؤس الخطيب وفد سورية إلى القمة. ماذا ستستنتج دمشق وهل لديها خيار آخر غير ما تفعله حالياً وهو خيار ينذر بأثمان باهظة للمتمسكين به؟ كيف ستقرأ طهران الصورة التي ترافقت أيضاً مع اتهام أجهزة استخباراتها بإدارة شبكة تجسس على الأرض السعودية؟ هل ترى في الصورة إصراراً على اقتلاع موقعها في سورية وسد طريقها إلى لبنان؟ وهل تستنتج أن وقت التراجع أو التعديل قد تأخر؟ وماذا سيقرأ «حزب الله» في الصورة وهل يستطيع لبنان احتمال مزيد من الانخراط في النزاع السوري من «حزب الله» وآخرين؟ وماذا يقرأ نوري المالكي في الصورة بعدما فضل أن يشاهدها من بغداد؟ وماذا ستقرأ موسكو في الصورة خصوصاً أن الخطيب تحدث عن تطلع المعارضة إلى شغل المقعد السوري في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية؟.
لا بد أيضاً من السؤال عما ستفعله المعارضة السورية بالنجاح الذي حققته أمس. هل تقع في إغراء الرهان على الضربة القاضية أم تسعى إلى تعديل ميزان القوى لفرض تسوية تحفظ ما تبقى من الدولة السورية ومن فرص التعايش بين المكونات؟ هل توظف الثورة هذا النجاح لبلورة توافق واسع يطمئن القلقين في الداخل والخارج من تنامي الانقسامات وتضارب التصورات وتزايد نفوذ المقاتلين الجوالين؟.
المتابع لمجريات الأحداث السورية ينتابه قلق جدي من أن يكون ما بعد الصورة أشد قسوة وهولاً مما شهدناه قبل التقاطها. ثمة من يتحدث عن معركة رهيبة ومدمرة في دمشق تضخ أمواجاً جديدة من اللاجئين ونهراً من الجنازات والمجازر. ثمة من يعتقد أن ما رأيناه، وهو فظيع، ليس سوى عينة مصغرة مما يمكن أن نراه.
أغلب الظن أن ما بعد الصورة سيكون أفظع مما قبلها. دخلت الثورة السورية الفصل الأصعب والأخطر. واضح أن الدول المجاورة تسعى إلى ربط الأحزمة. قد تكون الصورة نذيراً باقتراب موعد الزلزال. ولا شيء يمنع تطاير الحمم السورية إلى ما وراء الحدود الدولية. وبانتظار الأهوال التي تلوح في الأفق يجدر بأفرقاء المواجهة الاحتفاظ برقم هاتف رجل اسمه الأخضر الإبراهيمي فقد يحتاجون إليه لإقرار التغيير وضبط الخسائر والمجازر.
الحياة
الجامعة: التمثيل والإصلاح
عبدالله إسكندر
دأب الوزير هوشيار زيباري على تبرير تحفظ العراق عن تعليق عضوية سورية في الجامعة العربية، وعن منح المعارضة السورية حق تمثيل بلدها في الاجتماعات العربية، بأنه لا يمكن أن توضع المعارضة السياسية في موقع التمثيل الرسمي، وإلا ستدخل الجامعة في متاهة لا مخرج لها. إذ أن كل معارضة عربية ستروح تطالب بمقعد بلدها. وأشار زيباري في هذا الصدد إلى «جبهة الإنقاذ» المصرية المعارضة، متسائلاً عن موقف الجامعة إذا طلبت «الإنقاذ» الاستحواذ على المقعد المصري.
لقد شغل أخيراً «الائتلاف» مقعد الجمهورية العربية السورية في القمة العربية، وهي خطوة لم تكن لتتم على النحو الذي شهدناه لولا انعقاد القمة في الدوحة وتدخل أمير قطر. وهذه مسألة أخرى.
بالتأكيد، لا يعبر زيباري عن حقيقة موقفه، وهو العليم بمعنى النظام السوري وممارساته السابقة والحالية وهو يعي جيداً معنى أن يستخدم نظام كل أنواع الأسلحة ضد شعبه. لقد عانى زيباري مثل كثيرين من العراقيين، خصوصاً الأكراد منهم من ممارسة أقل ضراوة من النظام العراقي السابق الذي منع كل أشكال المعارضة. وسعى، مع غيره، إلى المقاومة بالسلاح عندما هاجمهم النظام، وبالسياسة وصولاً إلى السعي إلى تعبئة أي فراغ يتركه النظام في أي موقع ديبلوماسي. فالحق الذي أعطته المعارضة العراقية لنفسها، في ظل النظام السابق، لن تبخل به، وهي اليوم في الحكم، عن نظيرتها السورية في ظل نظام بطاش وقاتل.
لكن التبريرات التي أوردها زيباري تتصل أكثر بحسابات وحساسيات داخلية عراقية، وليس بالمسألة المبدئية المتعلقة بتمثيل المعارضة السورية في الجامعة. إذ لا يمكن لوزير الخارجية العراقي أن يتخذ علناً موقفاً متعارضاً مع رئيس حكومته نوري المالكي الذي يدافع عن النظام السوري ويدعمه ويسهل وصول المساعدات الإيرانية بكل أشكالها إلى القوات السورية النظامية، ما يشكل موضوعاً خلافياً عراقياً، على المستويين المذهبي والقومي بشكل خاص.
ونتيجة لهذا الموقف للمالكي الذي كان سيسبب أزمات ديبلوماسية في حال تمثيله العراق في قمة الدوحة، ارتؤي أن يرأس نائب الرئيس خضير الخزاعي الوفد العراقي. على رغم أن أحداً لا يشكك في الشرعية الشكلية للمالكي.
بكلام آخر، عندما يتعلق الأمر بنزاع داخلي يتخذ طابعاً أهلياً ومرشحاً لتصعيد، يصبح التمثيل الرسمي عرضة للشك. وهذه هي الإشكالية التي تطرح نفسها على أجندة إصلاح الجامعة. خصوصاً لجهة استمرار الاعتراف بنظم تستولي على السلطة بالقوة أو عبر انقلاب، أو تتمسك بها عنوة ومن دون أي سند شعبي. فما كان ممكناً قبل عقود، عندما كانت مجموعة من الضباط تستولي على الحكم، يجب أن يكون مرفوضاً ومداناً اليوم، وأن يسحب منه الاعتراف. ليس لأن التجارب الانقلابية ومضاعفاتها كلها كانت كارثية وصولاً إلى الجمهوريات الوراثية، وإنما لأن الانقلابات، وما ينتج منها، انتهاك لأول حق من حقوق الإنسان، وهو اختيار نظام الحكم.
فأول إصلاح ممكن في الجامعة العربية يجب أن يكون على قاعدة احترام حقوق الإنسان، السياسية والاقتصادية. وأي انتهاك لهذه الحقوق ينبغي أن تكون عاقبته سحب الاعتراف والمقاطعة.
النموذج السوري فاقع في هذا المعنى. ولن يأخذ إعطاء المقعد السوري للمعارضة، ممثلة بـ «الائتلاف»، كل معناه ما لم يقترن بواجب احترام حقوق الإنسان، هذا الواجب الذي ينبغي أن يتحول شرطاً أساسياً من شروط الإصلاح المقبل للجامعة.
الحياة
قمة حصار إيران
حسان حيدر
صحيح ان البيان الختامي للقمة العربية في الدوحة اقتصر في ذكره ايران على تكرار التنديد باستمرار احتلالها للجزر الإماراتية الثلاث، إلا أن تركيز القمة في معظم مداولاتها وقراراتها على سورية أولاً، وعلى القضية الفلسطينية -وخصوصا القدس- ثانياً، جعل من طهران الهدف الفعلي لهذه القرارات الى جانب حليفها نظام الأسد، لا سيما أنها لم تدع إلى الدوحة كما جرت العادة في قمم سابقة، وان ذلك ترافق مع إعلان السعودية أن التحقيق مع أفراد شبكة للتجسس ضبطتها أخيراً كشف علاقتهم المباشرة بالاستخبارات الإيرانية.
وقد سارعت طهران إلى هجوم مضاد على الجامعة العربية، واعتبرت أن «سلوكها الخطير» بمنح المقعد السوري إلى المعارضة يعني «نهاية دورها في المنطقة».
وفي الواقع، فإن الإيرانيين لم يعترفوا يوماً بالجامعة سوى في الإطار التقليدي للديبلوماسية، من دون أن يشمل ذلك الإقرار بمرجعيتها كمؤسسة سياسية تهدف إلى توحيد مواقف العرب من قضايا منطقتهم، ورفضوا دوما قراراتها المتعلقة بانتهاكات طهران نفسها للسيادات العربية، وعملها المتواصل لإحداث خروق في هذا البلد العربي أو ذاك، وإضعاف المناعة العربية بشكل عام.
وليس خروج عراق المالكي المستمر عن الإجماع العربي، وخصوصاً بالنسبة إلى الملف السوري، سوى أحد الأدلة على التأثير السلبي الذي تمارسه ايران على تبلور هذا الإجماع، ودفعها في اتجاه الإبقاء على الثغرات التي أحدثتها سياسة المحاور، بما يسهل لها النفاذ إلى منظومة العمل العربي المشترك.
وبات مكشوفاً أن الإيرانيين الذين يتحكمون إلى حد بعيد بالقرار في بغداد، يستخدمون الأجواء العراقية بكثافة لنقل السلاح والرجال إلى سورية للدفاع عن نظامها، وهو ما ركز عليه وزير الخارجية الأميركي جون كيري خلال زيارته العراق قبل أيام. كما أن تنظيمهم اللبناني «حزب الله» غارق حتى أذنيه في القتال إلى جانب قوات الأسد بذريعة واهية هي الدفاع عن قرى شيعية في داخل سورية أخرجت إلى العلن فجأة.
والملف الثاني الرئيسي الذي سعت قمة الدوحة إلى استرجاعه من يد طهران كان قضية القدس، التي استخدمها الإيرانيون طويلا للمزايدة على العرب في قضيتهم المركزية، وحولوها إلى شعار يستلونه كلما تقدم العرب خطوة نحو توحيد موقفهم من عملية السلام أو اقتربوا من تحقيق المصالحة الفلسطينية. فبعدما سُحبت ورقة غزة من الحقيبة الإيرانية إثر الحرب الأخيرة في القطاع، جاءت القمة لتؤكد أولوية المسألة الفلسطينية ووضع القدس بالنسبة إلى العالم العربي، ولتعكس إرادته في تكريس دعم سياسي ومادي كبير للفلسطينيين وفي العمل الديبلوماسي الحثيث لاستعادة وحدتهم والدفاع عن حقهم في دولة مستقلة.
ولا بد أن العرب يتوقعون بالتأكيد رداً إيرانياً عملياً على سعيهم إلى إعادة الإمساك بملفات المنطقة، خصوصاً أن لطهران فيها حلفاء وجيوباً وخلايا ناشطة ونائمة، وأن هذا الرد قد يتخذ شكل تصعيد سياسي وأمني في لبنان والبحرين واليمن وسواها من الساحات المخترقة، وانه سيكون عليهم هذه المرة إثبات جديتهم في التصدي للاستباحة الإيرانية لحدودهم وأمنهم وقضاياهم، ورفض ابتزازهم في عقر دارهم.
الحياة
مقعد المعارضة السورية في الجامعة العربية خطوة رمزية
يقول معارضون سوريون ومحللون إن خطوة منح مقعد دمشق في الجامعة العربية الى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، ستبقى رمزية الى حد كبير في غياب دعم جدي لحكومة معارضة تتولى ادارة “المناطق المحررة” في سوريا.
بيروت: يقول الخبير في معهد بروكينغز الدوحة شادي حميد لوكالة فرانس برس “من الطبيعي ان يحمل دخول المعارضة السورية الى جامعة الدول العربية اهمية رمزية وسياسية مهما، علما انه من الصعب قياس كيف يتجلى ذلك على الارض”.
ويعتبر حميد ان هذه الشرعية المكتسبة لن تغير في واقع عدم تمكن المعارضة من اسقاط نظام الرئيس بشار الاسد بعد عامين من نزاع اودى بنحو 70 الف شخص، طالما بقي ميزان القوى على حاله في غياب اي افق لحل سياسي للازمة.
ويعتبر يزيد صايغ الخبير في مركز كارنيغي للشرق الاوسط في بيروت، ان منح المقعد “قد يحمل معنى رمزيا وعاطفيا، لكنه ذات تأثير محدود دبلوماسيا وسياسيا”.
ولن يشكل المقعد العربي ضمانة لحصول المعارضة على مقعد بلادها في الامم المتحدة، في خطوة يعود القرار فيها الى الجمعية العامة للمنظمة الدولية بناء على توصية من احدى لجانها المختصة.
وتبدو هذه الخطوة اكثر صعوبة نظرا الى الانقسام الدولي حول الازمة السورية، لا سيما بين روسيا ابرز الحلفاء الدوليين للنظام السوري، والولايات المتحدة الداعمة للمعارضة.
ويأمل معارض سوري في ان يساعد اعتراف الجامعة العربية في سحب مقعد سوريا في الامم المتحدة من النظام”، بحسب ما قال لفرانس برس، رافضا كشف اسمه.
ويضيف ان “دخول المعارضة الجامعة العربية يعني اقله ان النظام لن يعود اليها”.
لكن المعارضين يعتبرون ان غياب الدعم الدولي لحكومة الائتلاف التي من المقرر تشكيلها لتتولى ادارة “المناطق المحررة” لا سيما في شمال سوريا وشرقها، لن يكون في مقدور نيل المقعد في جامعة الدول العربية سوى معنويات المعارضة.
وكان الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية انتخاب في 19 آذار (مارس)، غسان هيتو رئيسا لهذه الحكومة.
ويرى خبراء ان هذه الحكومة قد تساهم في ان تكون قناة لايصال المساعدات الى هذه المناطق التي باتت خارج سيطرة النظام، وربما حتى الاسلحة للمقاتلين المعارضين.
لكن خطوة انتخاب هيتو لم تحظ باجماع داخل الائتلاف. كما ان تأليف حكومة للمعارضة لا ينال تأييد كل الدول الداعمة لها، لا سيما منها الولايات المتحدة التي تحبذ تشكيل حكومة انتقالية تنتج عن حوار بين النظام ومعارضيه.
كما ان الولايات المتحدة والدول الغربية ما زالت تحجم عن تزويد المعارضين بالسلاح خوفا من وصوله الى ايدي مقاتلين اسلاميين متشددين في سوريا.
وبحسب المعارض السوري “الحكومة في حاجة لان تكون لاعبا شرعيا على الارض (…) للقيام بهذا الامر، هي في حاجة الى تمويل ومساعدات”.
ويعتبر ناشطون معارضون ان المعارضة في الخارج هي غالبا منفصلة عن الواقع على الارض، حيث يكتسب المقاتلون الاسلاميون ادوارا متعاظمة في القتال، وصولا الى توفير بعض الخدمات الاساسية لسكان المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
وشكل منح المعارضة المقعد احد عناوين التظاهرات الاسبوعية التي خرجت بعد صلاة الجمعة في سوريا. وفي تادف بريف حلب، رفع متظاهرون لافتات كتب فيها “لا يعنينا تمثيلنا بكرسي نجلس عليه (…) وانما نريد وقف شلال الدماء في سوريا”.
وقال ناشط معارض في حماة (وسط) قدم نفسه باسم ابو غازي لفرانس برس عبر سكايب، ان السوريين “يحتاجون الى مساعدة حقيقة، وليس فقط انتصارات رمزية واحلاما”.
اضاف “نحن في حاجة الى مساعدة انسانية ودعم عسكري للدفاع عن المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، على الاقل في وجه الغارات الجوية”.
وتابع “المقعد مهم لانه يضفي على المعارضة شرعية، لكن هل يعني نهاية نظام الاسد؟ (…) في حال لم يثبت نفسه في المناطق المحررة، سيفقد شرعيته في شكل كامل”.
قمة الدوحة: عروبة ضد عروبة
حسن شامي
قد يكون مفيداً أن يتوقف متابعو القمة العربية في الدوحة للنظر قليلاً في العنوان، بالأحرى الشعار، الذي عُقدت تحت رايته هذه القمة التي أنهت أعمالها وأصدرت بيانها الختامي قبل بضعة أيام. فالعنوان هذا هو «الأمة العربية: الوضع الراهن وآفاق المستقبل».
ليس بلا دلالة أن يكون هذا العنوان المألوف جداً شديد التطابق الحرفي مع عنوان أي ندوة ينظمها المنتدى القومي العربي أو أي هيئة تضم مناصرين لمشروع الوحدة العربية وفكرتها القومية الموروثة عن حقبة عروبية، ناصرية وبعثية تحديداً. وهي حقبة لا يكف كثيرون عن دفنها أو عن ضرورة دفنها عندما يخيل إليهم أنها لم تلفظ بعد أنفاسها الأخيرة، أو أن ما اعتمل داخلها لا يزال مرشحاً للخروج من الموت السريري المفترض.
على أي حال، لا نعلم إذا كان ما يصلح لندوة يصلح لقمة دول في منطقة تعيش لحظة انعطاف تاريخي استثنائي على غير صعيد. نرجح أن يكون اختيار العنوان هذا ضرباً من المزايدة، خصوصاً أن موضوع القمة المركزي والذي شد أنظار كثيرين على غير عادتهم في التعاطي مع فولكلوريات القمم العربية، هو الموضوع السوري. في خلفية الاختيار نوع من التذاكي الدعوي ومفاده أن أفضل طريقة لإطاحة نظام بشار الأسد وعقيدته الجوفاء عن «قلب العروبة النابض» هي مقارعته على الأرضية ذاتها. إنها لعبة إعلامية دعوية لسحب البساط الأيديولوجي من تحت قدمي نظام يعتمد بصخب بلاغي على القليل من الأفكار والكثير من الفظاظة والتخويف الأمنِيَّيْن. ففي الحال البعثية، خصوصاً بعد استتباب السلطة المديدة و «الأبدية» لنظامي حافظ الأسد وصدام حسين، تستعمل الكلمات المرفوعة كالفزاعات لتعليب الوعي وتجويفه، ويتصاحب ذلك مع تجفيف منهجي للقوة الاجتماعية ونسيجها لمصلحة نخبة أمنية واقتصادية، تلقفت الوصفات النيوليبرالية بنهم وأسنان كاسرة ومستنفرة.
عروبة ضد عروبة. هذا ما يسعى شعار القمة إلى إشهاره كما لو أننا حيال أطروحة أو مشروع في مواجهة نقيضهما. سنسارع إلى القول إن الوصفتين الموضوعتين قيد النزاع خاطئتان وتفتقدان الصدقية. لا يعني هذا، بطبيعة الحال، أن القمة كانت بلا قيمة ولم تأتِ بجديد. فهي استعرضت، خصوصاً عبر كلمة الدولة الراعية للقمة التي ألقاها أمير قطر، خطوطاً عريضة تشي بوجود خلفية لإحياء فكرة معينة عن العروبة وأمتها. اعتبرت فلسطين قضية العرب الأولى وجرى الإعلان عن قمة مصغرة لعقد مصالحة بين القوى الفلسطينية المتنازعة، الأمر الذي رحبت به السلطة الوطنية وحركة حماس، وتخصيص مبلغ بليون دولار لدعم القدس قدمت قطر ربعه، وأعلن عن إنشاء آلية لمخاطبة القوى الدولية من أجل تفعيل مبادرة السلام العربية التي أقرت قبل عشر سنوات، وألقيت المسؤولية عن فشل المفاوضات وتعثر العملية السلمية على الدولة العبرية وسياستها الاستيطانية المتواصلة المصحوبة بسعي حثيث إلى تهويد القدس.
ينبغي أن يكون المرء على مقدار من الجحود كي لا يرى أن هذه العناوين كافية لاستحضار «الأمة العربية» وعقد موعد تاريخي معها في قمة الدوحة. وليس لأحد، حتى من المقيمين على فكرة معينة عن العروبة، أن يسأل عما تعنيه كلمة «الأمة» وما تعنيه صفتها العربية. فما لم يُسأل عنه في ربوع «البعث» لا يسأل عنه لدى خصوم من الطينة السلطانية ذاتها. في هذه المنطقة من العالم يبدو أن معنى «الأمة» مرمي فعلاً في الطريق ويظفر به من يعثر ويستحوذ عليه وإن من دون برنامج مصحوب بمقاربة عقلانية تتعهد مفاعيل التاريخ الاجتماعي والسياسي لكيانات وطنية مهددة أكثر من أي وقت مضى بالتذرر والتفتت.
لا حاجة للقول إن السياق الذي تتموضع فيه العروبتان المزعومتان هو سياق الربيع العربي والموقع المركزي الذي باتت تحتله المسألة السورية المستعصية. الحدث الفعلي في القمة هو منح المعارضة مقعد سورية وإعطاء الكلمة لرئيس الائتلاف السوري أحمد معاذ الخطيب، المستقيل مع وقف التنفيذ، إضافة إلى فتح سفارة للمعارضة السورية في قطر. وقد يكون الخطيب أحد أكثر المعارضين صدقية وإصراراً على استقلالية القرار السوري المعارض ورفض الوصاية. ولا يعني هذا أن مناوراته السياسية والإعلامية صائبة كلها. لكنه، في ظل انقسامات يختلط فيها التنافس الحاد على النفوذ والسطوة مع محاولات حثيثة، إقليمية ودولية، لاستتباع قوى المعارضة واستزلامها، يظل في عداد الأكثر قرباً من روح الحراك السوري ومن الجوهري فيه، وهو التحرر من الخوف ورفض الظلم والاستئثار واسترداد القوة الاجتماعية. وبات معلوماً أن حضور الخطيب القمة تعبير عن تسوية بعد رفضه فكرة تشكيل حكومة انتقالية وطريقة اختيار رئيسها غسان هيتو. ترك الخطيب في تصريحاته ومواقفه ما يكفي للتدليل على محاولات مصادرة الانتفاضة السورية ورفض مخاطبة الحلفاء من موقع دوني أو تابع، ما أكسبه بالتأكيد حيثية شعبية لا يتمتع بمثلها جميع معارضي الخارج. وجاء طلب 70 شخصية معارضة التخلي عن الحكومة الانتقالية ورفض «الجيش الحر» الاعتراف برئيسها ليعززا مكانة الخطيب. ويستفاد من هذا أن الصراع الدموي المعلن في سورية يترافق مع صراع على المعارضة ما دام الأمر يتعلق بمستقبل سورية وموقعها المميز في قلب «الأمة العربية» إذا صدق شعار قمة الدوحة.
والحال أن النظر المتأني في كلمات القادة العرب وفي أعمال المؤتمر، يولّد انطباعاً غريباً بعض الشيء عن هذه القمة وعن الصورة التي سعت إلى صنعها عن الأمة العربية. فنحن نجد فيها الكثير من «الوضع الراهن» والقليل من «آفاق المستقبل». فكلمات عدد من القادة تفصح عن مقاربة مختلفة للمسألة السورية. ومن المفترض أن تكون كلمة الرئيس المصري محمد مرسي أكثر من لافتة للنظر، فهو شدد على رفضه أي تدخل عسكري خارجي. وشدد بمقدار أكبر على محاولات التدخل في الشؤون الداخلية المصرية محذراً كلّ «من تسول له نفسه» مثل هذا التدخل من أنه سيواجه بالحزم والحسم. ولم يفت بعض التغطيات الإعلامية لكلمة مرسي أن تشير إلى أنه لم يسمِّ أي جهة لدى حديثه التحذيري لكنه، عند هذه النقطة بالذات، خاطب الجالسين موجهاً أنظاره إليهم ولا يحتاج اللبيب إلى إشارات أخرى كي يفهم الرسالة.
الحياة
قمة الدوحة: رسالة تنبيه حول أخطار على المنطقة
محمد مشموشي
لعل الرسالة الأهم التي خرجت من القمة العربية، واستهدفت الدول الخمس الكبرى قبل أية جهة أخرى، كانت تلك التي سبق للمبعوث العربي- الدولي الأخضر الابراهيمي أن وجهها قبل أسابيع ودعاها فيها الى «موقف موحد» من الحرب السورية، وإلا ستكون النتيجة كارثة ليس في سورية فقط وانما في المنطقة كلها أيضاً.
وهي رسالة مزدوجة المعنى والمبنى: أولاً، اخراج النظام السوري نهائياً من معادلة التسوية السياسية التي ما زالت هذه الدول تتحدث عنها، بعدما ألغى النظام بنفسه هذه المعادلة سواء مع الابراهيمي أو مع سلفه كوفي أنان، وذلك عبر احلال «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» محل النظام في الجامعة العربية على طريق المطالبة بمثيل له في الأمم المتحدة والمنظمات الأخرى الدولية.
ثانياً، الدخول علناً وبصورة مباشرة على خط محاولة انقاذ الشعب السوري من حرب الابادة الجماعية التي يتعرض لها، عبر الاعلان رسمياً عن بدء تسليح «الجيش السوري الحر» للدفاع عن نفسه وعن المناطق المحررة من سلطة النظام من جهة، ولإقامة توازن قوى مع آلة النظام العسكرية المدعومة من روسيا وايران و «حزب الله» من جهة ثانية.
هل وصلت الرسالة؟ يبدو أن موسكو كانت أول من استلمها، ولكن بصورة عكسية كما حالها منذ بدء الثورة السورية على النظام الحليف لها في دمشق قبل نحو سنتين. فردت روسيا عليها بحملة سياسية ليس فقط على الجامعة ودولها على خلفية موقفها من سورية، انما أساساً على دورها كمنظمة اقليمية وعربية جامعة. وهي التقت في ذلك مع ايران، الحليف الآخر للنظام السوري، التي هاجمت ايضاً الجامعة ولكن بدعوى طهران المعتادة في مثل هذه الحالات، القائلة إن الجامعة انما تنفذ أجندة أميركية وإسرائيلية.
للمناسبة: لم يعد أحد يسمع شيئاً، ومنذ زمن بعيد نسبياً، من «الحليف» الثالث في الصين، لا في شأن ما يجري في سورية ولا حتى ما قد يجري في مجلس الأمن إذا ما أعيد طرح مسألتها على المجلس… بخاصة بالنسبة الى مقعد سورية في المنظمة الدولية وطلب اعطائه لـ «الائتلاف الوطني للثورة وقوى المعارضة»!
لكن ما يبقى في نهاية المطاف هو السؤال عن موقف الدول الكبرى الثلاث الأخرى في المجلس، بخاصة الولايات المتحدة، من الرسالة العربية وما اذا كانت ستأخذها، رغم كل شيء، في حساباتها لما ستكون عليه حال ذاك البلد العربي خلال الفترة المقبلة.
ذلك أن ما فعلته القمة العربية في الدوحة هو أنها رفعت الصوت عالياً في وجه قوى العالم ودوله النافذة، ليس فقط في شأن الأخطار المصيرية التي باتت تهدد سورية أرضاً وشعباً ودولة ووطناً لأهلها بعدما بلغ القتل والتدمير فيها مبلغاً لم يعد جائزاً قبوله أو السكوت عليه، انما أيضاً في شأن الأخطار التي بدأت تتسرب منها، وبقرار متعمد من النظام فيها، الى الدول العربية… المجاورة وغير المجاورة.
وليس ما يشهده لبنان على حدوده الشمالية والشرقية منذ فترة، بعد محاولات تفجيره بأيدي علي المملوك/ ميشال سماحة وغيرهما، وما يرافقها حالياً من تهديدات عسكرية على ألسنة مسؤولي النظام، سوى مؤشر إلى هذه الأخطار. كذلك هي الحال في العراق، بعد انكشاف دور حكومته برئاسة نوري المالكي سواء بالنسبة إلى النازحين من سورية أو على الحدود معها، أو بالنسبة إلى الأجواء المفتوحة أمام الطائرات الإيرانية والروسية التي تنقل الأسلحة الى النظام السوري، أو كذلك في الاردن وتركيا في ظل التهديدات التي يطلقها النظام وإعلامه وأدواته ضدهما… فضلاً عن المتفجرات والقذائف المجهولة المصدر التي تطاول بعض مناطقهما بين فترة وأخرى.
هل تنفصل عن ذلك، سفن الأسلحة التي ترسل الى مناطق الحوثيين و «الحراك الجنوبي» في اليمن، أو شبكة التجسس في السعودية وشبكات التخريب التي تنشط في البحرين وجرى تفكيكها في المدة الأخيرة، أو حتى التهديدات التي يطلقها عملاء النظام من اللبنانيين ضد قوات «اليونيفيل» (بخاصة من فرنسا) العاملة في الجنوب اللبناني؟
الواقع أن الرسالة العملية، من خلال إعطاء «الائتلاف الوطني للثورة وقوى المعارضة» مقعد النظام في الجامعة العربية، وبدء تسليح «جيش سورية الحر» علناً ورسمياً، والتي بعثت بها قمة الدوحة الى الدول الـ5 الكبرى، هي أن حرب نظام الأسد على شعبه لم تعد قضية سياسية بين ديكتاتور يقتل شعبه (مئة ألف ضحية) وهذا الشعب، أو يدمر بلده (أكثر من مليون منزل في حلب وحدها، وفق آخر احصاء)، أو حرباً تقف عند الحدود الجغرافية للأراضي السورية، بل تعدت ذلك لتشكل نواة حروب أهلية وطائفية ومذهبية واقليمية بدأت ملامحها في الظهور في أكثر من بلد في المنطقة.
وهذا، للتذكير فقط، ما كان الأسد تحدث عنه غداة بدء الثورة ضد نظامه، عندما قال ان سقوطه أو تهديده بالسقوط لن يكون أقل من «زلزال مدمر» يضرب المنطقة من أقـصـاها الى أقصاها.
بهذا المعنى، فالرسالة العربية هي رسـالة تنـبيه الـى الـعالـم في شـأن الأخطـار الـتي باتت حرب هذا الـنظـام عـلى شـعبه تشكلها على كل دول الـمنطقة، فـضلاً عن الأخـطار بالنـسـبة الى سورية.
الحياة
مقعد سورية تحدّ للمعارضة بمقدار ما هو امتياز
عبدالوهاب بدرخان *
أقدمت القمة العربية في الدوحة على خطوة متقدمة في المواجهة مع النظام السوري، إذ تعاملت معه باعتبار أنه لم يعد موجوداً وأن مرحلة «ما بعده» قد بدأت لتوّها. لم يعد مقعد سورية خالياً بل أصبح في كنف المعارضة، وهذا تحدٍّ لها بمقدار ما هو إنجاز وامتياز، فقد آن لمسيرتها أن تقلع لرأب الصدع الفادح الذي أصاب سورية بفعل وحشية النظام وعبثيته اللامتناهية، كما آن لها أن تباشر مسؤولية الرهان عليها والآمال التي وُضعت فيها. لا يمكن المعارضة أن تلوم العالم على توانيه ودمه البارد، أو تستنهض الهمم والضمائر، وترفع الصوت ضد المتلاعبين والمتخاذلين، إذا واصلت استهلاك طاقاتها في إبراز أشخاص وإقصائهم، أو في تراكيب موازين قوى غير واقعية بين أطرافها، فضلاً عن توهّم اجتذاب الداعمين إلى ألاعيب نفوذ لن يكون لها أو لوجوهها أي أثر عندما يبدأ المستقبل.
مضى وقت التجارب والتجاذب، وجاء وقت الاعتراف بالحقائق التي انتجتها الثورة وعنف النظام، ولم يعد جائزاً أو مبرراً أن يستمر العمل العشوائي الذي يمنع تراكم الخبرة ويقتل زخمها، خصوصاً أن في صفوف الائتلاف من يحتج على ضعف العمل المؤسسي. لم يعد مسموحاً أن تداوم المعارضة، بمختلف أطيافها، على التأرجح والتخبّط اللذين يفرغان التضحيات الأسطورية من جدواها، أو أن تبقى دون المستوى الذي يريده العالم لها. فها هم العرب، على عجزهم الموصوف، ذهبوا إلى قطيعة نهائية مع نظام منتهٍ وإلى تحدٍّ لـ «المجتمع الدولي» المواظب على تأخير النهاية الفعلية لهذا النظام ويخضعها لحساباتٍ بعض منها مبرر، لكن أهمها أن المعارضة لم تستطع بعد مضي عامين أن تكون مقنعة ولا أن تملأ مكانها.
دول العالم تبحث عن مصالحها، بطبيعة الحال، وهي انتظرت النظام ليصلح كي ينقذ نفسه والبلاد، وبما أنه ضلّ الطريق منذ اليوم الأول ثم الشهر الأول فالعاشر فالرابع والعشرين فإن الأزمة مرّت بتحوّلات عدة وبلغت الآن «الحرب بالوكالة» بين أطراف إقليمية تخوض حروب أطراف دولية، لكنها تدافع أيضاً عن نفسها. لم يكن أطفال درعا يعلمون أن معاقبتهم القاسية ستشعل ثورة وأن هذه ستتحول خلال عامين مشهداً تفتح في خلفيته كل ملفات المنطقة وصراعاتها وبازاراتها العسكرية والأيديولوجية. فروسيا استثمرت في الحدث السوري لتستعيد هيبتها الدولية ولتثأر من الحدث الليبي. وأميركا اختبأت وراء «الفيتو» الروسي لتمرر انكفاءها عن الشرق الأوسط وتوزيع المهمات على الحلفاء. وإيران التي تيقنت من ابتعاد الحرب عن أرضها ما لبثت أن غرقت في حرب النظام السوري على شعبه. فرنسا وبريطانيا أكدتا العزم على تجاوز القيود القانونية لتتمكّنا من إيجاد موطئ قدم في الصراع السوري… ومع هذين التدويل والأقلمة، قد يعتقد النظام أنه لا يزال لاعباً متجاهلاً أن سورية نفسها أصبحت اللعبة، أما المعارضة فلا يبدو من تصرفاتها أنها مدركة خطر هذه اللعبة ونتائجها.
وفي هذا السياق لم يشك أحد في أن الاعتذار الإسرائيلي لتركيا كان له سبب واحد مباشر، هو سورية. أما ضغوط باراك أوباما والإلحاح الأوروبي ورغبة «الناتو» فلم يكن لها سوى تأثير محدود في موقف بنيامين نتانياهو طوال الأعوام الثلاثة الماضية. وليس واضحاً ما إذا كان القصد من تطبيع العلاقات الآن اجتذاب تركيا إلى التفاهم الأميركي – الإسرائيلي، أم تقريب إسرائيل من تقاطع الموقفين الأميركي والتركي إزاء النظام السوري، أم أخيراً إبعاد تركيا عن شؤون العرب.
الأكيد أن أميركا تريد أن يتناغم هذان الحليفان في العمل على موجتها السورية، على افتراض أن لها خطّاً واضحاً ومنسجماً، مع استمرارها في بثّ الشيء ونقيضه. يومٌ مع الضغط عسكرياً على النظام، ويومٌ آخر مع «جلوس» المعارضة «مع الأسد». يومٌ مع روسيا بوتين – لافروف، ويومٌ مع «أصدقاء الشعب السوري». تبدو واشنطن كأنها تلعب لعبة كسب الوقت متجاهلةً ثقل عامين من التقتيل والتدمير، فلا هي ولا روسيا ولا إسرائيل متعجلة لحل تريده سياسياً ولا تزال فاتورته الدموية تكبر، لكنها لا ترى لدى الطرفين استعداداً جدياً له. ثمة رهان متجدّد على وهن الطرفين، رهان خبيث يقارب الإجرام يبرر ذاته فقط بظهور «الجهاديين» والمتطرفين الذين صاروا هاجساً مقلقاً على حدود إسرائيل.
ما زاد هذا القلق أن النظام لم يعد قادراً على تبديده، ولم يعد لاعباً مقبولاً في المنطقة، فممارساته الوحشية فاقت كل تصوّر ومنعته من تحقيق الأهداف التي توخّاها وحالت دون تأهيله لأي دور مستقبلي. لذلك يتهيّب الأميركيون الحل، ويشاركهم الروس والإسرائيليون ضرورة البحث عن «البديل» بل حتى «صنعه» وترويضه للتفاهم معه قبل إطلاق الحل. لكن نظرتهم هذه إلى النظام تطيّر صوابه، تستثير المزيد من شراسته، تجعله يقتل محمد سعيد البوطي لمجرد أنه اعتزم الرحيل، بل تدفعه إلى التلويح بالسلاح الكيماوي، فيما هم يريدونه أن يتعقلن و»يتعاون» في صنع بديله. تلك «فرصة» أخرى سيضيّعها حتماً.
في معرض تحليل زيارة أوباما إسرائيل ساد انطباع بإن المحنة السورية بدأت تقترب من نهايتها. ومردُّ ذلك إلى أن الموقفين الأميركي والإسرائيلي أصبحا متقاربين في الظاهر «ضد النظام» ومع التعجيل بتغييره، لكن حقيقة أن واشنطن نظرت دائماً إلى ما يحصل في سورية بعيون إسرائيلية ما لبثت أن عززت الاستنتاج الواقعي، ومفاده بأن المصالحة مع زعيم ليكود زادت الرئيس الأميركي اقتناعاً بصواب إدارته البليدة والسلبية للأزمة، وبضرورة الانتظار وعدم التحرك لإنهاء أزمة قبل التعرّف إلى مخرجاتها الأكيدة. فما كان ثابتاً ومعتمَداً في سورية، وهو النظام القوي المسيطر، انطوى عملياً ليحلّ محله «المجهول» الغامض، ولعل الأداء المشرذم والمتقلب للمعارضة يكثّف الارتياب أكثر مما يغلّب الثقة بمسارها.
قد يشكّل إنهاء الخلاف التركي – الإسرائيلي عنصراً مساعداً للرئيس الأميركي في التعامل مع الملفين السوري والإيراني، لكن بناءً على تفاهمات مع إسرائيل، وليس مؤكداً أنها تفاهمات تلائم القناعات التركية المستجدّة. ذاك أن عودة واشنطن إلى ديبلوماسية تعتمد على القوى الإقليمية التقليدية قد لا تتمكن من إحياء حال «التحالف» التي كانت سابقاً بين إسرائيل وتركيا عندما لم تكن الأخيرة معنية سياسياً أو «أخلاقياً» بالشأن الفلسطيني كما لم تكن لديها سياسة شرق أوسطية. والأرجح أن تركيا المنغمسة في المستنقع السوري منذ عامين، بتنسيق كامل ودائم مع الولايات المتحدة وحلف «الناتو»، ليست في مزاج يسمح لها بمشاركة الإسرائيليين في تناول الشأن السوري. ولا تجهل واشنطن أن ثمة ضيقاً تركياً من المقاربة الأميركية الباردة للمسألة السورية، كما أنها تلاحظ ازدياد مؤشرات تنسيق إقليمي قوامه السعودية وتركيا وقطر في مواجهة تحالف دمشق وطهران، وسط تصاعد مخاطر الصراع السنّي – الشيعي. لذلك، وطالما أن الصراع السوري تحوّل إلى حرب إقليمية بالوكالة، فإن واشنطن ترى ضرورة لإعادة الارتباط بين حليفيها رغم إدراكها المتغيّرات المفاهيمية لدى تركيا. إذ إن المخططين الأميركيين والأطلسيين باتوا يتحسبون لسيناريوات متعددة الأوجه في سورية، منها الاضطرار للتدخل المباشر في مرحلة ما عبر دول حليفة سواء لمنع نقل السلاح الكيماوي والأسلحة النوعية إلى أيدٍ غير مرغوب فيها، أو ربما لحماية مواقع معينة. ومن أبرز السيناريوات أيضاً احتمال نشوء بؤر مشابهة لمنطقة وزيرستان الباكستانية ومن هنا التسريبات عن تأهيل قواعد في دول مجاورة لاستخدام طائرات من دون طيارين ضد مجموعات متطرفة.
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة
القوة المعنوية لقرار قمة الدوحة
تواجه ثغر استكمالها سياسياً وميدانياً
روزانا بومنصف
ألقت العوامل التي رافقت منح الجامعة العربية مقعد سوريا لدى الجامعة الى الائتلاف السوري المعارض بدلا من النظام، بثقلها وبقوة على الخطوة في حد ذاتها، وكشفت الثغر في امكان استكمالها سريعا كما في قوتها المعنوية، في ظل انقسام المعارضة وعدم توحدها الذي يظل عائقا اساسيا وجوهريا امام تطور الامور لمصلحتها دوليا. وتعتبر مصادر ديبلوماسية في بيروت ان هذه الخطوة التي سارت جنبا الى جنب مع قرار باعطاء الدول العربية الحرية في تسليح المعارضة كانت مخالفة لميثاق الجامعة العربية لكنها تشكل خطوة اولى او بداية لمرحلة جديدة وليس نهايتها . اذ تندرج وفق ما تقول هذه المصادر في خانة تصعيد الضغوط الديبلوماسية والسياسية من اجل دفع النظام الى مراجعة حساباته والمساهمة في نقل السلطة الى حكومة انتقالية باعتبار ان التعاطي معه لا يزال يتمحور على هذه النقطة حتى الآن رغبة في منع حصول فوضى في سوريا اذا انتهت الامور على غير هذا السبيل . وتشبه المصادر الخطوة العربية بمجموعة الخطوات او العقوبات التي اتخذها الاتحاد الاوروبي خطوة بعد اخرى وشهرا بعد شهر حتى استنفاد كل ما يمكن القيام به على هذا الصعيد . وبعدما فشلت كل المساعي الديبلوماسية عبر اتفاق جنيف او اللقاءات الروسية الاميركية اللاحقة، فان الدورة عادت الى ملعب الجامعة العربية لتمارس ضغوطا اكبر كان مؤشرها منح المقعد السوري للمعارضة وافتتاح هذه الاخيرة سفارة سورية في قطر . ولذلك هي لا تستبعد في اطار تصعيد الضغط ان تلحق دول عربية بقطر لهذه الجهة في اطار التضييق على النظام كما على حلفائه الذين استفزهم منح الجامعة المقعد السوري للمعارضة على غرار ما عبرت عنه روسيا وايران حتى قبل ان يبدي النظام اعتراضه واستهجانه لهذه الخطوة ومن اجل دفع هؤلاء الى العمل مع النظام واقناعه بالتحاور حول المرحلة المستقبلية . علما ان هذه الخطوة لم تحظ بحماسة كبيرة لدى الدول الغربية بحيث قلل الاتحاد الاوروبي من أهميتها واعتبرها “شأنا داخلياً” للجامعة العربية في حين ان المسألة لم تحظ بأي تعليق اميركي على رغم الافادة الغربية من خطوة مماثلة لممارسة مزيد من الضغوط خصوصا مع التلويح باحتمال طلب المعارضة السورية مساعدتها من الدول العربية والغرب في المرحلة التالية على شغل المقعد السوري في الامم المتحدة في نيويورك مع ان دون هذه الخطوة عوائق ليس اقلها سعي حارسي المرمى الروسي والصيني الى الحؤول دون حصول هذا الامر.
وعلى رغم رمزية هذه الخطوة واثرها، فان المصادر المعنية تستبعد ان تؤثر في بعدها الديبلوماسي والسياسي على النظام او تدفعه في اتجاه تغيير قراره نظرا الى الاقتناع الذي بات راسخا لدى جميع المهتمين بالوضع السوري من ان التطورات العسكرية الميدانية وحدها قد تؤثر في حمل النظام على تغيير موقفه من المرحلة الانتقالية والمساعدة في ارسائها وليس اي خطوة سياسية او ديبلوماسية اخرى . وذلك في الوقت الذي لا يزال النظام يراهن على ضيق هامش المجتمع الدولي باعتبار ان خطوة الجامعة العربية تعني ان هناك مسارا آخر جديدا من الضغوط من اجل شد الخناق جنبا الى جنب مع خطوات على الارض وتسليح المعارضة باعتبار ان اي تطورات ميدانية دراماتيكية هي التي تساهم مساهمة كبيرة في تعديل هذا المسار او اختصاره او بروز تغيير في الموقف الدولي على غرار ما اعلنته الخارجية الاميركية قبل يومين من ان فرض الولايات المتحدة حظرا جويا في سوريا امر غير مستبعد وان الولايات المتحدة تدرس كل الخيارات . وهو عنصر جديد يدخل على المشهد السياسي باعتبار ان الولايات المتحدة رفضت اي شكل من اشكال التدخل بما فيها احتمال فرض حظر جوي .
ولذلك استكملت هذه الخطوة من حيث توقيتها وظروفها وابعادها محاولة احكام فك الكماشة حول سوريا في ظل غياب اي بديل محتمل حتى الآن باعتبار ان هذه المحاولة تناولت وفق ما حصل اخيرا على الصعيد الاقليمي تحقيق مصالحة بين اسرائيل وتركيا وبين تركيا وحزب العمال الكردستاني وزعيمه عبد الله أوج ألان بحيث تنزع من النظام اوراقا اساسية كان يتحكم بها في شأن دفع الاكراد نحو الحكم الذاتي الكردي وتاليا اللعب على عامل التقسيم او الكيانات المستقلة فضلا عن التلويح الاميركي بالعصا والجزرة الى الحكم في العراق. ذلك ان الامم المتحدة والدول الغربية تواجه ارباكا كبيرا لعجزها عن توفير الحلول للازمة السورية في ظل تصاعد وتيرة الحرب الداخلية وتداعياتها على الدول المجاورة . فمع سقوط المزيد من الضحايا خلال الاشهر الاخيرة، ناهز عددهم، (والبعض يقول تجاوز)، رقم المئة الف قتيل فيما لا تزال الارقام الرسمية المتداولة للامم المتحدة عند حدود 70 الف قتيل نظرا الى انه ليس سهلا تداول رقم المئة الف فيما لا يزال المجتمع الدولي عاجزا عن ايجاد الحلول . ومن جهة اخرى لم يخف مجلس الامن قلقه في شأن انتهاكات متكررة لخط وقف النار بين سوريا واسرائيل عند مرتفعات الجولان ” والذي يشكل عنصرا حاسما بدوره كما لم يخف مخاوفه من انفجار الوضع في بعض دول الجوار من بينها لبنان والاردن والعراق .
لكن المعارضة قاصرة حتى الآن وفق خلافاتها عن الارتقاء الى مستوى التحديات فتلزم المجتمع الدولي الاسراع في حسم المأساة بدلا من استخدامها للضغط فحسب.
النهار
«صدمة» الخطيب وخيبة إيران
زهير قصيباتي
حضرت تركيا في القمة العربية، غابت إيران عن مقعد المراقب. ولا مفاجأة في الأمر، كما لا مفاجأة يمكن أن تدّعيها طهران في منح القمة مقعد سورية إلى «الائتلاف الوطني» المعارض لنظام بشار الأسد. أما وقد سارعت إلى نعي الدور الإقليمي لجامعة الدول العربية، بعد صدور قرارات قمة الدوحة، والتي قد تُختصر في ملفها السوري بالسعي إلى نوع من «التوازن» العسكري بين الجيش النظامي و «الجيش الحر»، فلعلّ في ذلك «النعي» الإيراني ما يذكّر بتحذير العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني من «مواجهات إقليمية» محتملة «قد تؤدي إلى نتائج كارثية».
رُفِع علم الثورة السورية في قاعة القمة، وهو انتصار لها بالمدلول السياسي الذي يكمل إعلان سقوط شرعية نظام ما زالت موسكو وطهران تزوّدانه شريان «صموده»، فيما تندّدان بأي موقف مغاير، عربي أو غربي بوصفه «تدخّلاً في شؤون دولة ذات سيادة». وبمقدار ما بات مملاًّ تقصي الازدواجية لدى حلفاء النظام السوري، إنسانياً وأخلاقياً، بات مثيراً لاشمئزاز المعارضين أن يوحي الغرب دوماً بتحضيره لخطوة ما، تُعجّل في إنهاء المأساة السورية، حتى إذا حان موعدها تراجع خطوتين، تارة بذريعة انقسامات المعارضة، وأخرى بحجة تطويق تغلغل المتشددين في صفوف الثوار.
والحال أن رئيس «الائتلاف الوطني» معاذ الخطيب دُهِش باستعجال الحلف الأطلسي تخييب آماله، بعد ساعات قليلة على تلاوة الأول كلمة سورية أمام القادة العرب في قمة الدوحة، برفض «الناتو» استخدام صواريخ «باتريوت» لحرمان النظام السوري من القدرة على قصف مناطق تسيطر عليها المعارضة. وصدمة الخطيب المتكررة كخيبة الأمل لدى غالبية السوريين بالدعم اللفظي الأميركي- الأوروبي، لن تجد مناصاً من الرهان على قرار القمة الذي أطلق للدول الأعضاء في الجامعة العربية حرية تسليح «الجيش الحر»، من خلال «تقديم كل وسائل الدفاع عن النفس، بما فيها العسكرية». لكن السؤال هو هل تبادر دول عربية مقتنعة بأولوية تغيير «توازن القوة» على الأرض السورية، إلى تزويد المقاتلين المعارضين ما يمكّنهم من تقييد قدرة سلاح الجو لدى النظام على التدمير الشامل، واقتلاع معاقلهم؟… أم أن الدعم سيقتصر على القذائف المضادة للدروع، بما يرسم في نهاياته غير الحاسمة خطوط تماس ثابتة؟
كسبَت المعارضة والثورة الكثير بالاعتراف العربي بشرعية تمثيلهما الشعب السوري، بصرف النظر عن عجز النظام عن إدراك حجم ما تبدّل في المنطقة وفي سورية بعد سنتين من عبثية المكابرة، وجحيم القتل الجنوني. وإن كانت الواقعية تقتضي أولاً انتظار تبدُّل «ميزان القوة»، بحيث يُرغَم النظام على قبول الحل السياسي، فالوقائع اليومية بما فيها رهانه الكامل على الدعم الروسي- الإيراني، لا تشي إلا بحرب طويلة، سِمتها الشراسة في حماية رجحان كفة الجيش النظامي. بهذا المعنى لم يخطئ معاذ الخطيب حين اعتبر مسارعة الحلف الأطلسي الى تجديد شطبه أي احتمال لأي تدخل عسكري، «رسالة» الى النظام ليفعل ما يشاء.
مزيد من العسكرة للصراع هو المرجّح، ومزيد من القتل والضحايا ومحاولات لتمزيق هوية سورية العربية، تنضح بها لغة المدافعين عن «صمود» النظام تحت سقف الحماية الروسية- الإيرانية.
وإذا كان لافتاً أن الرفض المصري للتدخُّل العسكري في سورية، يمشي على سكة أميركية، ولا يخفي تحفُّظاً عن تسليح المعارضين، فعقدة تبديل «توازن القوّة» على الأرض ما زالت تخضع لتجاذب بين واشنطن وكل من باريس ولندن… وقد تفاجئ الجميع نتائج تلك المصالحة التركية- الإسرائيلية التي بدت ثمرة لولادة قيصرية بمبضع أوباما «الناعم».
المواجهة الإقليمية عالمية؟ عرب وأتراك في المعركة مع الإيرانيين والروس، في حين تنهمك إسرائيل بمشروعها لإنشاء «المنطقة العازلة» في الجولان، وراء خط فض الاشتباك.
صحيح أن سورية ليست ليبيا، لكن الصحيح أيضاً أن أنهار الدماء لن تكون بلا ثمن، وأن إيران التي تعتبر سورية إحدى محافظاتها، لم تكن يوماً كما هي اليوم منهكة بدفاعٍ مستميت عن مواقع نفوذها، من العراق إلى سورية ولبنان. هي معركة مصير تصدير ثورتها، تحتدم كلما ازدادت عزلة طهران عربياً، وحاصرت الثورة السورية حليفها، وأوهام الحلول السياسية.
مقعد الثورة السورية في القمة العربية، تستخدمه إيران ورقة لتخيف الأنظمة العربية! ألم يفعلها القذافي بعد إعدام صدام حسين، ليحذّر القادة، مَنْ سيكون التالي؟
الحياة
الأسمنت والقمح في «قمة الدوحة»
جمال خاشقجي *
بالطبع لم تناقش قمة الدوحة قضية ارتفاع أسعار الأسمنت في العالم العربي وشح الكميات المنتجة منه، ولا حاجة العرب المتزايدة من القمح بعدما عجزت أراضيهم الشاسعة، بما في ذلك الغنية بالمياه، عن توفيره، لقد ناقشت قضايا الأمة العربية المصيرية «في هذا الظرف الدقيق والمنعطف الخطير الذي تمر به» كالعادة، وعلى رأسها اليوم القضية السورية، وبالتالي كان من المفيد لو طرح أحدهم سؤالاً: من سيبني سورية من جديد؟ وهل ما تنتجه المصانع العربية من الأسمنت كافٍ؟ وكيف نوفّر أطناناً من القمح لإطعام أفواه جائعة في ظل اضطرابات سياسية خطرة؟ من هنا تأتي أهمية مناقشة قضية الأسمنت والقمح في العالم العربي. قد يبدو من غير اللائق طرح سؤال: «من سيبني سورية الجديدة؟» ولما يجد العرب بعدُ سبيلاً لوقف التدمير والقتل الجاري كل يوم في سورية القديمة، و «من سيطعم المصريين في جمهوريتهم الثانية 250 مليون رغيف يحتاجونها كل يوم؟» بينما يختصم ساستها حول شرعية النائب العام؟ من المفيد أن نقسي قلوبنا، ونتعامل مع المستقبل ببرود، ونشكل لجاناً لتطرح هذه الأسئلة!
في نهاية العام الماضي اجتمع في برلين نحو 45 سورياً يمثلون مختلف التيارات المعارضة، بعضهم كان ممن خدم في الحكومة وانشق عنها، لوضع خطة سمّيت «مشروع اليوم التالي في سورية» برعاية ودعم من معهد أميركي وآخر ألماني. لقد وضعوا أفكاراً رائعة شكلت خريطة طريق لسورية بعد سقوط نظام بشار الأسد في ما يخص تحولها نحو الديموقراطية، وإعادة بناء الدولة ونشر الأمن ووضع الدستور، وأخيراً الإنعاش الاقتصادي وإعادة الإعمار (توجد نسخة مفصلة للدراسة في موقع معهد السلام الأميركي)، ولكنهم لم يناقشوا بالطبع توفير الأسمنت الذي لا ينتج منه في سورية القديمة غير 6 ملايين طن، والله أعلم كم شهراً تحتاج إلى إعادة تشغيل ما خرب من مصانعها. أكبر دولة عربية منتجة للأسمنت هي مصر بـ48 مليون طن، ثم السعودية بـ42 مليون طن، ولكنهما رغم مشاريع التوسّع في افتتاح المصانع، ترتفع أسعار الأسمنت فيهما اطراداً، نتيجة الطلب المتزايد لبناء وحدات سكنية في كلا البلدين، والغالب أن هذا الطلب سيزداد مع انفتاح السعودية على أنظمة التطوير العقاري الشامل، من رهن عقاري وقضاء تنفيذي وتمويل مصرفي، ولا يحول بين حصول طفرة حقيقية في بناء المساكن غير الارتفاع الفاحش لأسعار الأراضي السكنية واحتكارها.
ولكن من سيوفّر الأسمنت للسوريين إذا كان السعوديون يمنعون تصديره، والمصريون يحتاجون إلى كل كيس منه؟ بل من سيموّل إعادة إعمار سورية؟ فهي ليست مثل ليبيا النفطية التي مرت بتجربة مدمرة مماثلة، ولكن لديها من المال ما يغنيها. سورية تفتقر إلى النفط باستثناء 300 ألف برميل تنتج يومياً، بعضها يصدر للخارج، ولكن يحتكر عوائدها الرئيس بشار الأسد وعائلته، كما أن الدمار فيها أكبر مما حصل في ليبيا. هل ستتسابق الشركات السعودية والتركية للاستثمار في سورية، أم أن أموال السوريين الهائلة في الخارج هي التي ستحل المشكلة؟ ولكن قبل ذلك كله لا بد من وقت لإعادة بناء مؤسسات الدولة، وكتابة الدستور، وإجراء انتخابات قبل أن نفكر في توفير الأسمنت للسوريين.
القمح هو الآخر إشكال عربي جماعي، فالسعودية مثلاً ستتوقف عام 2015 عن زراعة القمح، بعد أن استُهلك بعبثية مخزون الأجيال من المياه الجوفية التي لن تتجدد، على رغم أنها لا تحتاج سوى 3 ملايين طن فقط من القمح، ولديها المال الوفير لاستيراده من روسيا أو أستراليا. المشكلة في مصر التي تحتاج 19 مليون طن، أنها لا تنتج سوى نصفها، ولا تتوافر لديها العملة الصعبة -نزل احتياطيها إلى 13.5 بليون دولار كافية لاستيراد حاجات البلاد لثلاثة أشهر فقط-، يضاف إلى ذلك أن مصر لم تبنِ ما يكفي من صوامع الغلال، على خلاف السعودية، وبالتالي تضاف كلفة التخزين إلى سعر طن القمح.
نظرياً، فإن الحل لكل العرب موجود في أراضيهم الخصبة، في العراق وسورية والسودان والجزائر، ولكن السياسة تجعل المملكة تفضل أن تبحث في روسيا عن آفاق زراعة القمح من خلال شركات خاصة تملكها، ولا تذهب للجزائر التي يحكمها عسكر من الصعب التفاوض معهم. بعد الثورة، اكتشفت مصر أن ثمة بلاداً جنوبَها تدعى السودان، فبدأت بدرس زراعة مليون فدان فيها، ولكنها خطة طويلة الأمد، وتحتاج إلى دعم عربي واهتمام داخلي بعد أن يفرغ الساسة من قضية «النائب العام» ومكايداتهم السياسية.
لقد استخدمت «الأسمنت والقمح» للإشارة إلى مدى التداخل بيننا كعرب، فعلى رغم الحدود التي تفرق بيننا، والرسوم الجمركية المتباينة، ووجود دول تدعم صناعة الأسمنت، كالسعودية، وأخرى لا تدعمها، كمصر، ودول لديها الخبرة والمال لزراعة القمح، كالسعودية، ودول لديها الأرض والماء واليد العاملة، كالسودان، فإننا جميعاً نتأثر بالتحولات الاقتصادية في ما حولنا، بخاصة في المنتجات الأساسية، كالحديد والأسمنت والقمح والأسمدة التي لها أسعار عالمية، ما يستدعي أن نعجل بخطط الوحدة الاقتصادية وإزالة القيود، كما وعد القادة في ختام كل قمة، فالتوجه نحو الاقتصاد والحياة والتمتع بها هو أحد مقاصد الشعوب العربية في زمن ما بعد الربيع العربي.
ربما لو ساعدنا مصر في أن تبدأ بالاقتصاد قبل السياسة، لما دخلت في هذه الأزمة السياسية الخانقة التي لا تتوقف إلا لتبدأ في الليلة التالية. تظاهرات عبثية وتبادل اتهامات، الكل يضرب الكل، والكل يسحل الكل، حتى انهارت كل القيم التي ثار من أجلها الإنسان المصري وأهمها «الكرامة»، فعندما تنتهك كرامة خصمك سيفعل الأمر ذاته بكرامتك.
بدأنا نشهد في سورية ولما تنتصر الثورة بعد، تبادل الاتهامات وتصفية الحسابات، بدأ الإعلام يستدعي من مصر أدوات الخصام الذي يفرق، فكثر الحديث أخيراً عن ضرورة منع «أخونة» الثورة السورية. لننتظر حتى تنتصر، ثم افعلوا ما بدا لكم بـ «الإخوان»!
هل ثمة ما يدعو للتفاؤل؟ نعم… حين تصبح قضيتا «الأسمنت والقمح» في أعلى أولويات السياسي العربي.
* كاتب وإعلامي سعودي
الحياة
اللغز القطري
موناليزا فريحة
بقدر ما نجحت قطر حتى الان في فرض رؤيتها على التغيرات التاريخية التي تشهدها المنطقة العربية، ازداد دور هذه الامارة الصغيرة الغنية غموضاً، وازدادت التساؤلات عن أهدافها وتطلعاتها.
كما في ليبيا ومصر، اضطلعت قطر بدور رأس حربة ضد النظام في سوريا. كانت الدولة الاولى تقفل سفارتها في دمشق، قبل أن تكر سبحة الدول الاخرى.سحبت دعمها الديبلوماسي لبشار الاسد بعدما فتحت له الابواب المغلقة أمامه في الغرب. ومذذاك، نزلت بثقلها خلف المعارضة السورية، واضطلعت بدور حاسم في حشد تأييد دولي للثورة، بتحويلها هواء “الجزيرة” عينا على عمليات القمع التي يمارسها النظام ضد شعبه. الا أنها في المقابل، أثارت حساسيات كبيرة حيالها في صفوف المعارضة، بدعمها فصائل على حساب أخرى، وترجيحها كفة قوى على حساب أخرى.
خالفت قطر التحفظات الغربية عن تسليح الثوار، ومدت أكثرهم تشددا بالعتاد والمال. انحازت بوضوح الى “الاخوان المسلمين” فوفرت لهم الحصة الكبرى في “المجلس الوطني السوري” أولا ثم في “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”. دفعت في اتجاه تأليف حكومة موقتة، خلافاً لرأي أحمد معاذ الخطيب. ولم تتوان عن دعم غسان هيتو رئيسا لحكومة موقتة، في مناورة انقلبت فيها على السعودية ومرشحها أسعد مصطفى.
ليست استقالة الخطيب بعد يومين من انتخاب هيتو الا انعكاسا واضحا للضيق الذي بات يسود صفوف المعارضة السورية. وقد أقر معارض سوري من قلب الدوحة بأن الخطوط الحمر التي تحدث عنها الامام السابق لمسجد الامويين ليست الا محاولة بعض الدول، وتحديدا قطر، السيطرة على المعارضة وفرض هيتو رئيسا للحكومة الموقتة. حتى أن ثمة من أدرج اعلان لؤي المقداد عدم اعتراف “الجيش السوري الحر” بهيتو في اطار التنافس الذي يعود الى الواجهة بقوة بين الدوحة والرياض.
منذ بدايات الثورة نشط المحور السعودي – التركي – القطري لاطاحة النظام. تعاملت الرياض مع النزاع السوري كحلقة في اطار صراعها الاوسع مع ايران، ورأت فيه أنقرة خطرا مباشرا على أمنها واستقرارها.أما حماسة الدوحة فبقيت بمثابة لغز، خصوصا أن سوريا لا تشكل جزءا من حساباتها الاستراتيجية المباشرة، ونزاعها المعقد استعصى على دول أكبر من قطر بكثير.
ليست جديدة الطموحات الكبيرة للامارة الصغيرة التي تتطلع حتما الى دور في رسم معالم منطقة قيد التحول. ولعل الابتسامة التي ارتسمت على وجه الشيخ حمد في قمة الدوحة أمس بينما كان يدعو أحمد معاذ الخطيب الى تسلم مقعد سوريا في جامعة الدول العربية، تعكس جانبا من هذا الدور الطموح والملتبس في آن واحد. ولكن عسى الا يغيب عن قطر وغيرها أن للشعب السوري الفضل الاكبر في هذا النجاح، ولو الرمزي، وان له وحده الحق في رسم مستقبل دولته.
النهار
صفعة لبشّار الأسد
علي حماده
“صفعة لبشار الأسد”. بهذه الكلمات عنونت صحيفة “الإنديبندنت” البريطانية خبر منح المعارضة السورية مقعد سوريا في الجامعة العربية، وجلوس الشيخ معاذ الخطيب رئيس “الائتلاف الوطني” مكان بشار الاسد، رئيسا للوفد السوري، الى جانب قادة الدول العربية في القمة العربية الرابعة والعشرين التي عقدت في الدوحة مطلع هذا الاسبوع التي شهدت النقلة النوعية التي تحدثنا عنها هنا في هذه الزاوية، التي بدءا من شهر كانون الثاني المنصرم. فرفع منسوب التسليح ونوعيته للثوار بدأ ينعكس مباشرة على ارض المعركة في كل انحاء سوريا، وقوات النظام في تراجع مستمر في كل مكان وصولا الى العاصمة دمشق حيث القتال يدور على تخوم وسطها، فيما قوات بشار الاسد تقاتل من خلال تفوق قوتها النارية. كل هذا يقربنا من معركة الربيع الكبرى التي تحدثنا عنها مطلع السنة الجارية بناء على معلومات حصلنا عليها من مصدر عربي رفيع تحدثنا اليه على هامش اعمال “المنتدى الاقتصادي العالمي” في دافوس. فقد قال لنا المصدر المشار اليه يومها إن الدول العربية الداعمة للثورة قررت المضي قدما في تسليح الثورة وتجاوز التلكؤ الاميركي والاوروبي آنذاك، باعتبار ان اطالة امد الازمة وعدم حسم المعركة مع بشار والايرانيين من خلفه صار مصدر تهديد مباشر لكل المنطقة، ويمنح طهران هامشا واسعا للتحرك في امكنة اخرى من المشرق العربي، وهذا ما لن تسمح به الدول العربية ايا يكن الثمن، وخصوصا ان الدمار الذي يلحقه النظام بسوريا بلغ مستويات مخيفة تزيد احتمالات “صوملة” سوريا. من هنا الحاجة الى تجاوز كل الاعتبارات الدولية، واهمها موقف روسيا المعتبر معاديا، والاسهام في حسم المعركة مع النظام الذي وقع تحت الوصاية الايرانية الكاملة.
في جميع الاحوال، كان مشهد القمة العربية الاخيرة في الدوحة مؤشرا قويا الى ان النظام في سوريا يعيش ربع الساعة الاخير من عمره بعدما جرى اخراجه من النظام العربي الرسمي، في سابقة لم تحصل منذ انشاء الجامعة العربية، الامر الذي يفتح المجال امام سحب سائر “الشرعيات” المتبقية له في المحافل الدولية.
ثمة تحوّل كبير جار في المنطقة بعدما جاء الرئيس الاميركي باراك اوباما قبل عشرة ايام ليعطي اشارة الانطلاق لتحالف عربي – اقليمي يدعمه الغرب عموما للانتهاء من نظام بشار الاسد. فجرى ضبط إيقاع النزاع الفلسطيني – الاسرائيلي، والخلاف التركي – الاسرائيلي، والعلاقات الاردنية – الخليجية، فضلا عن “المعبر” العراقي على ساعة واحدة. ومن اللافت ان حكومة “حزب الله” – بشار الاسد في لبنان ما لبثت ان سقطت، مما اعاد خلط الاوراق في بلاد الأرز ايضا. قصارى القول إن بشار لم يتلقَّ صفعة فحسب، بل انه يعيش ايامه الاخيرة في دمشق وربما في سوريا كلها. فلنراقب مسرح العاصمة بدقة.
النهار
قمّة المَقْعَد…
الياس الديري
لم يبالغ الذين سمّوا القمة العربيّة الرابعة والعشرين “قمّة المقعد”، ولا أخطأ، كذلك، الذين وجدوا في مسار قمة الدوحة ما يوحي أنها قمة سوريا بلا منافس، أو قمة المأساة السورية، أو قمة محنة الشعب السوري، أو قمة التراجيديا التي يعيشها العالم العربي حديثاً والمجسَّدة بما تعيشه سوريا وشعبها من ظلم وإجرام وأهوال منذ سنتين، وبلا هوادة.
بل، حتى بلا تلك الهدنة التي تُسمّى عادة “استراحة المحارب”.
إنما مهما قيل، وأيّاً تكن الآراء والتحليلات، فإن قمة الدوحة هي باستحقاق وموضوعية قمة سوريا والسوريين، وفي وقتها، وخصوصاً بعد الموافقة شبه الاجماعية على إعطاء المعارضة السورية الممثَّلة برئيس ائتلاف المعارضة أحمد معاذ الخطيب المقعد المخصّص لسوريا. لمندوب سوريا. لممثّل سوريا.
وقد جاءت هذه اللفتة بمثابة تكريس للاعتراف بواقع سوري جديد، وبمتغيّرات سياسيّة ورسميّة تكرّس “البيعة” العربيّة للمعارضة، مع دعوة الشرعية الدولية، والمجتمع الدولي المؤثّر والفعّال، للاعتراف بـ”شرعيّة” تمثيل المعارضة للشعب السوري، وحلولها في السلطة، ولو معنوياً، محل النظام السابق.
هذه الخطوات استحوذت على اهتمام المتابعين من قريب وبعيد، مثلما جعلت مندوبي الصحافة ووسائل الاعلام يأخذون في الاعتبار، وعلى محمل الجدية و”الشرعيّة”، ما حصل خلال جلسة الافتتاح، وما تلاها من تفاهمات واتفاقات، سواء خلال الجلسة المقفلة، أوفي الخلوات والكواليس.
صحيح أن القضية الفلسطينية لم تكن مركونة في زاوية الاهمال، وقد حظيت بقرارات ووعود ومساعدات مالية لا بأس بها، وبعضها خصص للقدس وانقاذها، وبإسم أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، إلا أن كفّة سوريا بقيت هي الراجحة. ولألف اعتبار واعتبار.
في رأس القائمة، أو الجدول، أو اللائحة، كون هذا البلد العربي، الذي يتعرّض لحرب لم تشهد مثل ضراوتها الحروب العالمية المعروفة، لم يحظ حتى الساعة بما كان متوقعاً أن يلاقيه من الدول العربيّة والشعوب العربيّة، التي يكتفي معظمها حتى اللحظة بارسال المزيد من “التحيّات” و”التمنيّات”، مع إبداء الأسف الشديد على الضحايا وحجم الدمار… إنما من بعيد لبعيد.
لا شكّ في أن قمة الدوحة فتحت الباب السوري، باب المأساة المدويّة، على مصراعيه. إلا أن هذه القمة، وما قيل خلالها، وما شهدت، ليست سوى مقدّمة، أو تمهيد لما تحتاج إليه سوريا، ولما يفتقر إليه وينتظره السوريون من مساعدات فعليّة وفعالة، تمكنهم من مغادرة هذا الجحيم هم وسورياهم… لتبدأ الرحلة الجديدة الى سوريا الدولة الحديثة، سوريا الحرية، سوريا الانفتاح على الديموقراطية والحياة.
النهار
الخطيب في مقعد الأسد!
راجح الخوري
تنشط بالتوازي مع المعارك العسكرية في سوريا معركة سياسية بين مسارين، مسار يسعى الى تشكيل “حكومة انتقالية” استناداً الى الاتفاق بين روسيا واميركا على قاعدة “اعلان جنيف”، ومسار “الحكومة الموقتة” التي شكّلت في اسطنبول قاطعة الطريق على “الانتقالية” واختارت غسان هيتو رئيساً لها ما احدث انشقاقاً في صفوف المعارضين.
الفرق كبير بين مسار “الحكومة الانتقالية” التي تريد ان يجلس بشار الاسد الى الطاولة مع المعارضة بحثاً عن حل، وبين مسار”الحكومة الموقتة” التي شكّلت على اساس اسقاط النظام ومحاسبة اركانه على المذابح التي شهدتها سوريا حتى الآن.
القمة العربية التي تستضيفها قطر تنعقد كما هو واضح عند مفترقات دقيقة بالنسبة الى عالم عربي متغيّر، لكنها شكّلت منذ اجتماعات وزراء الخارجية محطة لعض الاصابع بين المسارين المذكورين. فبعد توجيه الدعوة الى “الحكومة المؤقتة” للمشاركة في القمة والجلوس في المقعد السوري إنفاذاً لقرار الجامعة السابق اعتبار المعارضة الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري، فجّر معاذ الخطيب مفاجأة من العيار الثقيل، عندما اعلن استقالة معلّلة من رئاسة الائتلاف لمحت الى تدخلات وضغوط تتعرض لها المعارضة السورية، وهو ما فسّر بأنه اعتراض على ضغوط من قطر و”الاخوان المسلمين”، لكن اتصالات حثيثة استمرت حتى ساعة متقدمة من صباح امس انتهت باقناعه بالمشاركة في القمة حيث جلس في المقعد المخصص لسوريا امام غسان هيتو وألقى خطاباً قال انه باسم الشعب السوري، لكنه لم يتراجع عن استقالته التي قال انها ستبحث في وقت لاحق.
ولفهم السباق بين المسارين المذكورين يجب التوقف عند الموقف الصريح الذي كان جون كيري قد اعلنه من العراق بقوله: “ان استقالة الخطيب لم تكن مفاجئة وانا معجب به واقدر قيادته”، بما يعني انه معجب بالإستقالة او صانعها ويأمل في أن تقطع الطريق على “الحكومة الموقتة” التي تعني مواصلة القتال ضد النظام لاسقاطه، وهو ما يعمّق المخاوف من امكان سيطرة الاسلاميين ومن تأجج حرب مذهبية تنتقل الى دول الجوار مما قد يجرّ اميركا في النهاية الى التورط في نزاعات على مستوى الاقليم الذي تحاول مغادرته من البوابة العراقية. والمفاجأة الثانية جاءت من سوريا، ففي حين وصل هيتو لتفقد المناطق المحررة في حلب اعلن “الجيش السوري الحر” انه يرفض الاعتراف به وبحكومته مشترطاً قيام توافق عليها وهو ما لم يحصل في اسطنبول!
ولم يكن اجتماع “المعارضة العلوية” في القاهرة من خارج السباق بين المسارين المذكورين، ولم تعق استقالة الخطيب مشاركته مع هيتو في قمة الدوحة والجلوس في مقعد الاسد “وراء علم الثورة السورية”، ولكن هذا لا يعني ان انقسام المعارضة السورية انتهى لكنه يعني ان القتال مستمر الى النهاية!
النهار
أكثر من خطيب؟
مازن السيّد
هذه المرة، قارب الخطيب اسمه. كلام العائد إلى قيادة المعارضة السورية من مقعدها في الجامعة العربية، وخلف علمها الثلاثيّ النجوم، تفوّق بفداحة على من أحاط به من الرؤساء والأمراء والملوك، كما غالباً على كلّ ما شهدته الجامعة العربية في تاريخها من خطابات سورية. هذا طبعاً في الشكل والبلاغة والخطابة، بالخروج عن خشبيات لغة الجامعة، والدخول في تفاصيل الأشياء، بالعاطفية التي لا تبلغ الإسفاف، والبراغماتية التي لا تبلغ الخيانة. أمّا المضمون، فحكايةٌ أخرى، لا تجوز في مقاربته المقارنة مع معاصري معاذ الخطيب أو مواطنيه السابقين. المضمون هنا، في جوهر القضية السورية بكلّ ما تمثّل من حدث محوري للمنطقة.
بالدرجة الأولى، توجه الخطيب ضمنياً إلى الذين يحسبون على الثورة السورية حلفاءها؛ إلى الذين بدأت صراعاتهم تنعكس في الواقع الميداني داخل سوريا خطراً يهدّد مآلات الامور في المرحلة المقبلة. وبعدما عبّر عن خيبات الشعب السوري من هذه المؤتمرات، انتقل ليعلن بوضوح أن هذا الشعب “يرفض وصاية أيّة جهة في اتخاذ قراره”. لكن إشارته كانت واضحة إلى الصراعات الداخلية في الدائرة القطرية-السعودية-التركية-الأميركية عندما قال “إن اختلاف وجهات النظر الإقليمية والدولية قد ساهم في تعقيد المسألة، وقد تتقاطع مصالحنا مع بعض الجهات ولكنّ ثورتنا صنيعة نفسها، والشعب السوري وحده هو الذي فجّرها وهو الذي سيقرر طريقها”.
هذه الإشارة إلى واقع كان في صلب استقالته –وعودته- عكست طبيعة العلاقة المركّبة التي تجمع هذا الرجل بتحالفاته الظرفية. معاذ الخطيب لن يوجّه إلى هؤلاء علناً من كرسي منحوه إياه، أيّ انتقاد يتجاوز اللهجة الدبلوماسية المعاتبة ويصل إلى مستوى خطورة الملف الذي يرتبط بالتبعيات الخارجية للمجموعات المسلحة داخل سوريا بغض النظر عن “اعتدالها” أو “تطرفها”. وممّا لا شكّ فيه أن قائد “الجيش الحر” رياض الأسعد كان من الذين دفعوا ثمن “التعقيد” في إشارة الخطيب، مع اقتراب ساعة تقاضي أثمان الإنجازات العسكرية للمعارضة المسلحة.
النقطة الثانية الأهمّ في الخطاب، هي مقاربته لمسألة “الكيميائي”، والتي بدأها بانتقاد التركيز المفرط على هذه القضية وتجاهل “كل ما حصل للشعب السوري (و) لم يلفت الأنظار”. لكن الأبرز، والذي اتخذ فيه موقفاً متقدماً وطنياً وسياسياً، أنه كشف تخطيط قوى غربية لضرب الأسلحة الكيميائية السورية، وهو ما أشارت إليه صحف أميركية مراراً، ورفض تدمير هذه الترسانة السورية إلا في حال تسوية ملف أسلحة الدمار الشامل في المنطقة، والتوافق السوري حول ذلك في مؤتمر وطني.
أما في ملفي “الإرهاب” و”التدخل الخارجي”، واللذين يشكلان مصدري القلق الأساسي في المنطقة، فكان الخطيب صريحاً لكنه لم يكن مطمئناً. رفض “التشدد” ودعا إلى معالجة أسبابه، ولم يقارب الممارسات الميدانية ل”المتشددين”، الذين بارك للأجانب منهم “تضامنهم” مطالباً إياهم في الوقت نفسه بالبقاء في صحبة ذويهم. ولعلّ الخطيب لم يشر إلى ممارسات “النصرة” وغيرها على الأرض في سياق حديثه عن “الإرهاب”، لأنه يضع هذه الإشكالية في سياق النقطة الاولى التي أشار إليها، وهي الصراعات الخارجية على أرض سوريا…
الجزء الأكثر إثارة للريبة في كلام الخطيب: دعوته إلى ضمان منطقة حظر جوي في شمال سوريا عبر ال”ناتو” وبموافقة أميركية طبعاً. الدعوة ليست بجديدة، وتحاكي عودة الحديث في الصحافة الغربية عن “النموذج الليبي”، كما لا يمكن تجاهل وقوف شريحة من السوريين في الداخل وراء هذا المطلب. لكن، ألن يفتح ذلك أبواب جهنم الكبرى على سوريا والمنطقة بأسرها؟ ماذا سيكون الموقف الروسي من خطوة كهذه؟ وما أنواع الموت التي ستجلبها سماء سورية بسيادة “أطلسية”؟
معاذ الخطيب دعا الحكام العرب إلى إطلاق المعتقلين السياسيين لديهم، “ليكون يوم انتصار الثورة السورية في كسر حلقة الظلم هو يوم فرحة لكل شعوبنا”، رابطاً بذلك قضية التحرّر السوري بنضالات التحرر في الوطن العربي من المغرب إلى البحرين. اختار كلماته جيداً عندما قال إن السوريين يملكون “من الإرادة ما يقوّض به أكبر صنم في الأرض”. فهل سيقود الخطيب هذه الإرادة في مواجهة أصنام تتجاوز النظام السوريّ قدرةً؟ أم أنه سيبقى في الخطابة وينأى بنفسه عن الواقع؟
المدن
مفاجآت قمة الدوحة
رأي القدس
جرت العادة ان ينتظر المرء البيان الختامي للقمم العربية لكي يتعرف على قراراتها، لكن قمة الدوحة العربية جاءت استثناء، حيث انتهت رسميا وعمليا بعد جلسة الافتتاح الاولى العلنية اما الباقي فاصبح تفاصيل.
نشرح اكثر ونقول ان تسليم مقعد سورية للائتلاف الوطني السوري المعارض، وجلوس السيد معاذ الخطيب على هذا المقعد والوفد المرافق له هو الانجاز الابرز الذي حققته هذه القمة من وجهة نظر رئيسها والدول الداعمة لقرار سحب الشرعية العربية من النظام السوري.
القمة عقدت، وفي الدوحة على وجه التحديد، وفي مثل هذا التوقيت لتكثيف الضغط السياسي والدبلوماسي على النظام السوري، واعطاء منبر اعلامي وسياسي مهم للشيخ الخطيب لكي يخاطب الرأي العام العربي وليس الزعماء العرب المشاركين فيها، وهذا الهدف تحقق، واستطاع الشيخ الخطيب ان يلتقط هذه اللحظة التاريخية، ويلقي خطابا مؤثرا وقويا اتسم بنبرة عاطفية، واحتوى على رسائل عديدة بعضها الى الولايات المتحدة التي طالبها بتوفير مظلة صواريخ باتريوت لحماية الشمال الغربي السوري، وبعضها الآخر الى الزعماء العرب عندما طالبهم بالافراج عن المعتقلين في سجونهم، واكد لهم ان السوريين هم الذين سيقررون من يحكمهم رافضا الوصاية، والبعض الثالث الى النظام السوري محذرا من المزيد من سفك الدماء.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو عما سيحدث بعد انقشاع غبار هذه القمة، والكلمات التي صدرت من على منبرها، فهل سيتم التجاوب مع نداءات الشيخ الخطيب بالمزيد من السلاح للجيش الحر، ومطالب امير قطر لمجلس الامن الدولي بالاعتراف بالمعارضة السورية ومنحها مقعد سورية في المنظمة الدولية؟ ثم ما هو موقف الدول التي تقف في الخندق الآخر والداعمة للنظام السوري مثل روسيا وايران على وجه الخصوص؟
القضية الفلسطينية احتلت المرتبة الثانية على جدول اعمال القمة، وقد بذل امير قطر رئيس القمة جهودا لتسليط الاضواء عليها في كلمته الافتتاحية مثل تخصيص صندوق بمليار دولار لدعم القدس المحتلة، واستعداده لدفع ربع هذا المبلغ، ومطالبته بعقد قمة مصغرة من اجل تحقيق المصالحة الفلسطينية بين قطبي المعادلة السياسية الفلسطينية اي حركتي فتح وحماس.
لا شك ان انشاء هذا الصندوق خطوة مهمة في ظل عمليات التهويد المستمرة التي تتعرض لها المدينة المقدسة من قبل حكومة الاحتلال الاسرائيلي، لكن المشكلة ان معظم الوعود العربية تتبخر ويتم تناسيها بعد ايام او اسابيع من اطلاقها، والمأمول ان يتجاوب الزعماء العرب مع هذه الدعوة من خلال خطوات عملية جادة.
قمة الدوحة العربية هذه تعتبر واحدة من اهم واخطر القمم العربية، وترتقي الى مستوى القمة التي اسست منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، والقمة العربية السابقة التي عقدت في الرباط واعترفت بها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني عام 1974 وقمة القاهرة آب (اغسطس) عام 1990 التي شرعت الاستعانة بالقوات الامريكية لاخراج القوات العراقية من الكويت.
هذه القمة سجلت سابقة في العمل العربي المشترك عندما سحبت الشرعية من نظام لتمنحها وكرسيها لمعارضيه، وقد تتكرر هذه السابقة في قمم عربية مقبلة اذا استمرت الجامعة كممثلة ومظلة للعمل العربي المشترك.
قمة الرباط اعترفت بالمنظمة وتمثيلها ولكن الاراضي الفلسطينية ما زالت محتلة، فهل يكون قرار قمة الدوحة باعطاء مقعد سورية للائتلاف الوطني السوري اكثر حظا؟
قرار الاعتراف بالمنظمة رفضته امريكا بينما قرار قمة الدوحة تدعمه ولهذا ربما تكون فرصه في النجاح افضل نظريا على الاقل، ولكن كل الاحتمالات واردة، فالشرق الاوسط هو المنطقة الوحيدة في العالم التي لا يمكن التنبؤ بدقة بتطوراتها.
بعد انقشاع غبار القمة وعودة الامور الى طبيعتها سيكتشف الشيخ معاذ الخطيب ان طموحاته في ابعاد الوصاية عن ائتلافه ستكون صعبة التحقيق. وان طلبه بالحماية العسكرية الامريكية قد يكون باهظ الثمن، فأمريكا تريد القضاء على الجماعات الجهادية حماية لاسرائيل.
القدس العربي
حرب على الصورة
راشد عيسى
هي صورة للتاريخ. علم الاستقلال، الثورة السورية، في الجامعة العربية. لقد تداول معظم السوريين صورة المقعد السوري مع العلم وثلاث كلمات “الجمهورية العربية السورية”، تداولوها حتى قبل أن يملأ وفد “الائتلاف السوري” المكان. بالنسبة لهم هو يوم وصورة للتاريخ، أياً كان من سيملأ المكان من المعارضين، وأياً كان الكلام.
ليس فقط لأن العلم في “الجامعة” هو نصف الطريق إلى الشرعية الكاملة في “الأمم المتحدة”، بل لأن العلم لم يصل إلى هنا إلا بكفاح سنتين، ثمنه عشرات آلاف الشهداء، والمعتقلين وملايين المشردين والبيوت المدمرة. كل ذلك كان فداء لعلم تقلص فيه اللون الأحمر، إلى نجمات ثلاث في الوسط، وانسحب الأحمر، الذي كان في العلم الرسمي، ليحل اللون الأخضر. رغم أن أحداً لم يفكر بالألوان، بقدر ما أرادوا شيئاً مختلفاً لأنفسهم، شيئاً غير ذاك الذي فرضه النظام.
رغم أن العلم كان مراراً محلاً لتحويرات تشكيلية سورية، فمرة يظهر علم تزيد فيه مساحة الأحمر، ومرة علم تزيد فيه مساحة الأسود، إلى علم زحفَ فيه الأحمر والأسود على الأبيض لينحسر الأخير، وتنحسر نجومه. ومع ذلك ليست المسألة في الألوان، فالمسألة برمتها هي هنا، في التمثيل؛ إما علمنا أو علمهم. تماما كما في أي معركة على الأرض، حيث تنسى كل التفاصيل؛ كم جندياً قتل، وكم من العذابات حتى وصل المحاربون إلى نصب العلم في هذا المكان، كم من الأمهات اللواتي ثكلن، ومن الزوجات والحبيبات المتروكات. تبقى فقط صورة العلم، من دون أن تتمكن الصورة من التقاط الدموع في عيني المحارب إلى جوار العلم.
ننسى أول مرة رفع فيها علم الاستقلال، وهذا هو اسمه لأنه العلم الذي رفعه الثوار السوريون في استقلالهم العام 1946. لا أدري إن كان لدى الثوار على الأرض وفي ساحات التظاهر الوقت للتفكير في أن العلم الذي رفعوه كان يعني الجلاء، بينما العلم الرسمي كان يمثل عهد الاستبداد، أم أنهم أرادوا على عجل علماً آخر وحسب.
ليس مجرد علم على طاولة في “الجامعة”، فهذا لم يصل إلى هنا إلا لأن آلاف الناس قضوا في سبيل رفعه، فوق جسر، أو بناية، أو فوق رؤوس المتظاهرين.
لو أعدنا النظر لعثرنا على مئات الصور للأعلام المرفوعة في التظاهرات في أوضاع لا تقل جمالاً عن تلك الصورة الشهيرة من معركة جزيرة أيوجيما اليابانية العام 1945، حيث خمسة جنود أميركيين يرفعون العلم الأميركي على إحدى تلال الجزيرة، فباتت صورة للتاريخ، تلك الصورة التي تمثل جنوداً يرفعون العلم، كما لو أنها منحوتة فنية، بل إن الصورة تحولت بالفعل إلى أعمال فنية لاحقاً. والأهم أن العلم في صورة أيوجيما تلك تحول مراراً، بفضل إمكانيات الفوتوشوب وأمثاله، إلى أعلام أخرى، ومن بينها طبعاً علم الثورة السورية.
أما حول العلم في مقعد “الجامعة” فقد جاءت الصورة مدروسة، وأيضاً للتاريخ، فالمكان الذي ظل يشغله زعيم واحد طوال أربعين عاماً ها هو الآن يضم تشكيلة من أناس بعضهم معتقل سابق، من معاذ الخطيب نفسه، إلى جورج صبرا، وصولا إلى سهير أتاسي. هناك الحرص في الصورة على أن يظهر الشيخ الإسلامي المعتدل، إلى جانب سيدة غير محجبة، إلى جانب المسيحي جورج صبرا، وفي عمق الصورة الكرديان عبدالباسط سيدا، ورئيس الحكومة المؤقتة غسان هيتو. من دون أن يبدو الأمر وكأنه محاصصة طائفية، فصبرا هنا لا لأنه مسيحي، بل لأنه رئيس المجلس الوطني، وأتاسي هنا لأنها نائبة لرئيس الائتلاف، وهيتو رئيس الحكومة المؤقتة، بينما سيدا رئيس سابق للمجلس الوطني. اللافت أيضاً أن هؤلاء في معظمهم مستقيلون من مناصبهم، أو بولايات منتهية. نحن سلفاً إذاً أمام قيادات لا أحد يضمن بقاءها لليوم التالي.
هو صراع إذاً مع فكرة “الأبد السوري” قبل كل شيء. حرب الصورة مع الصورة، العلم مع العلم، في انتظار المعركة المقبلة في “الأمم المتحدة”.
المدن
وعد لكل معارض عربي
ساطع نور الدين
هو اكثر من خرق عابر ومؤقت لميثاق الجامعة العربية من قبل قمة الدوحة العربية. لعلها اول خطوة عملية نحو مراجعة هذا النص المكتوب في منتصف اربعينات القرن الماضي، والذي صمد على مر الازمنة والثورات والحروب التي تعاقبت على العرب ولم تتمكن من زعزعة نظامهم الرسمي، الى ان حل فصل الربيع العربي الذي يستعد لطلب اصلاح ذلك النظام وتطويره، والا فان الشارع سيخرج يوما للمطالبة باسقاطه.
كانت قمة الدوحة منعطفا في هذا المسار، او على الاقل مؤشرا مهما على الاستعداد الرسمي للاستجابة لمطالب الجمهور العربي الذي لم يصل حتى الان الى مرحلة مراجعة تجربة العمل العربي المشترك ووضعها على رأس جدول اعماله، لكنه يشعر اكثر من اي وقت بعمق هويته العربية وقوة المؤثرات العابرة للحدود داخل العالم العربي. والذي يدرك انها المرة الاولى التي لا تتحرك تلك الرابطة او حتى العصبية القومية على فكرة الصراع مع عدو خارجي يغزو الامة او يهددها ويستدعي اهلها الى اطلاق النفير العام.
لم يسبق للعرب ان التزموا بتقويم واحد. على الدوام كان هناك خلاف في ما بينهم حول تعاقب الفصول وحول تسميتها. للمرة الاولى يجري التثبت من انهم في فصل ربيعي مختلف، بغض النظر عن الاجتهادات المتعددة حول معالمه ومآلاته، ويتم التنبه الى ان ثمة شوارع عربية اكتسبت وعيا جديدا مشتركا وخرجت ولو باشكال متفاوتة تريد المزيد من الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية.
في الاصل لم تكن تسمية الربيع العربي، بدلا من الربيع التونسي او المصري او اليمني .. عبثا او افتئاتا على السياسة او الثقافة او اللغة.
كان لا بد لقمة عربية ما، تحمل ارث ذلك النظام العربي القديم ، ان تخطو خطوة ما الى الامام، وان تتخطى بروتوكول الترحيب بالحكام الجدد الذين افرزتهم صناديق الاقتراع في تونس او مصر او ليبيا او اليمن: ان تفتح الباب امام المعارضات العربية التي تمثل غالبيات شعبية واضحة، وتعمل على تغيير انظمة موروثة منذ كتابة الميثاق الاول.. الذي يبدو اليوم وكأنه صيغ فقط من اجل النظام السوري الحالي، وهو لن يسقط الا بسقوطه.
اتخذت الخطوة الاولى التي تنبىء بان النظام العربي القديم يعترف بما يدور في الشارع ويتصرف مثل اي مسؤول مع اي تظاهرة تخرج امام مكتبه: دعوة ممثلين عن المتظاهرين لسماع مطالبهم وآرائهم او تسلم عريضة موقعة من جمهورهم ، ووعدهم بالعمل على تنفيذ بنودها، حفاظا على امن ذلك النظام واستقراره وضمانا لتطوره.. كانت قمة الدوحة بداية مسار اصلاحي على هذا المستوى الرسمي، لا يمكن ان يستثني احدا من المشاركين في القمة، لا اولئك الذين صفقوا لدعوة وفد الائتلاف السوري المعارض لشغل مقعد بلاده، ولا الذين تحفظوا عليها خوفا من المعارضة في بلدانهم.
لم تكن مجرد خطوة تكريمية او تشجيعية لذلك الائتلاف السوري المعارض، مع انه يحتاج الى الكثير من التشجيع. بات من الصعب على اي قمة عربية ان تتجاهل ما يدور في الشارع العربي الذي بات يؤدي دوره في المراقبة والمحاسبة وفق معايير مختلفة عن الماضي عندما كانت المعركة مع الكيان الصهيوني الغاصب او مع الغرب الامبريالي تبرر الارهاب الداخلي على اختلاف اشكاله الرسمية او الحزبية، وتغذيه، وتجعله اليوم صورة رئيسية او حتى هوية وحيدة للعرب.
لعل سوريا، بصفتها قلب العروبة النابض، وروح الميثاق الراهن، ستكون المدخل الى اعادة انتاج تلك الرابطة الرسمية التي سميت جامعة عربية، لكنها لم تعد تجمع كما في الماضي متواطئين على شارع متمرد ما كان يسمح له بالخروج الا لنصرة الحاكم في حروبه التي انتهت كلها الى هزائم وخيبات.. ساهمت في حلول فصل الربيع العربي بعد شتاء قومي طويل.
ثمة معارضة تشغل مقعد الموالاة في ارفع محفل رسمي عربي. المشهد كان جذابا ومغريا لكل معارض من المحيط الى الخليج، بقدر ما كان مشجعا لاي معارض سوري.
المدن
كلمة الشيخ معاذ في القمة العربية
غسان المفلح
وجود وفد يمثل الثورة السورية، وناطق باسم الشعب السوري في هذا المحفل الاقليمي الاهم، هو بداية حقيقة لنزع الشرعية القانونية عن العصابة الاسدية، وقد قام الشيخ معاذ بشكر كل من ساهم في هذه الخطوة ودعمها من الدول الشقيقة والصديقة..
شعبنا ماض نحو حريته، حيث دفع حتى الآن قرابة 100 ألف شهيد ثمنا لهذه الحرية، شعب يملك من الإرادة ما قوض أكبر صنم في الأرض. متسائل هل يحتاج حق الدفاع عن النفس سنوات للاعتراف به؟ الشعب السوري يرفض وصاية أية جهة في اتخاذ قراره وثورتنا صنيعة نفسها. تتحدث بعض الدول عن الإرهاب فى سوريا ! فهل إرهاب العصابة الاسدية لمدة سنتين مقبول؟! الشعب السوري لا يحتاج إلى “المافيا الأسدية” ولن ينجر للحرب الأهلية. فجر الثورة وسيصنع مصيرها. العصابة الاسدية ترفض أي حل للأزمة، نحن نريد الحرية وحلا وسياسيا واضحًا. طلبت من كيري حزاما صاروخيا لحماية المدنيين في سوريا ووعدني بدراسه هذا الموضوع!! هذه ابرز النقاط التي جاءت في كلمة الشيخ معاذ، والتي حملت شحنة انسانية عالية النبرة، محاولا ان ينطق باسم الشعوب العربية، عندما طالب بالحكام العرب باطلاق سراح كافة المعتقلين في السجون العربية، وختم طلبه بقوله اتقوا الله في شعوبكم..
هذه الشحنة الانسانية وهذه المطالبة للحكام العرب، اثارت جدلا حول جدواها السياسية في مثل هذا المحفل؟
ما ميز كلمة الشيخ معاذ ايضا هو هذا الاصرار على تذكير العالم حول استقلالية الشعب السوري في صنع مصيره، لكون الشيخ معاذ حاول ان يكون شفافا في كلمته، نجد من المناسب التعامل معها بشفافية ايضا.
هذه الثورة تواجه ليس العصابة الاسدية وحسب بل تواجه نظاما اقليميا ودوليا يعتبر راسخا اسرائيليا وغربيا وروسيا..وكل خطوة تمت لصالح الثورة دفع شعبنا من دماءه وآلامه الكثير، يتهرب الشيخ معاذ من وضع مجلس الامن امام مسؤولياته، لأنه يرفض وضع سورية تحت البند السابع، وفي سياق جملته السياسية يعتبر الشيخ معذا ما طلب به جون كيري بغطاء صاروخي من الباتريوت تنازلا عن محددات هذه الجملة، كان الاجدى بالشيخ معاذ والهيئة السياسية للائتلاف ان تضع برنامجا مكثفا بعدة نقاط من اجل اسقاط العصابة الاسدية وما نحتاجه من المجتمع الدولي ومؤسساته. كان الاجدى ان يذكر العالم بهذه المناسبة بضرورة رفع الشرعية القانونية الدولية في الامم المتحدة عن العصابة الاسدية، واعطاء مقعد سورية للثورة السورية. الملفت للانتباه بخصوص الاسلحة الكيماوية التي لدى العصابة الاسدية، انه طالب بمؤتمر وطني عام سوري يقرر نزع هذه الاسلحة، مع مؤتمر اقليمي او تحرك دولي لنزع كافة الاسلحة الكيماوية والنووية في المنطقة..هذا موقف النظام العربي الرسمي، وموقف العصابة الاسدية تاريخيا، ازعم ان الاجدى القول ان الشعب السوري لايريد سلاحا كيماويا في يد العصابة الاسدية، لم اجد في كلمة الشيخ معاذ اية مطالبة بدعم الجيش السوري الحر بالسلاح، مع انه طالب الولايات المتحدة بدور اكبر من المساعدات الانسانية، لم نفهم ما هو هذا الدور الذي يطالب به، مع أنه كان قادرا على توضيحه بكلام مختصر وعملي..فشلت كل المبادرات التي طرحها الشيخ الانساني منها والسياسي على يد العصابة المجرمة، فاصبح لزاما على الشيخ معاذ البحث عن استراتيجية سياسية أخرى لتحقيق اهداف الثورة من منظوره، لأنني اعتقد ان الشيخ معاذ لم يستشر احد من قيادة الائتلاف بمضمون كلمته..واتمنى ان يكون اعتقادي غير صحيح، واذا كان استشار ووافقوا على هذا المضمون وهذه الكلمة، فنحن امام اشكالية عميقة يجب التوقف عندها، سنتطرق لها لاحقا بعد أن نتأكد، لكنني احببت ان ادلي بهذه الملاحظات الاولية على كلمة الشيخ معاذ لفتح النقاش الجدي والعملي.. لأن الشيخ معاذ ينقلنا من مأزق لآخر..منذ تسلم رئاسة الائتلاف، وآخر مأزق هو موضوع استقالته قبل ذهابه للدوحة، لماذا تمت هذه الاستقالة؟ وهل تراجع عنها؟ واذا تراجع عنها فلماذا لأن كل ماذكره في رسالة استقالته لايوضح شيئا حقيقيا؟ كلها اسئلة تحتاج للشفافية تتناسب مع شفافية كلمته التي القاها والتي تعبر عن روحية الشيخ معاذ في تعاطيه مع الثورة، وهي روحية عالية الشحنة الانسانية، وبقدر ضخامة هذه الشحنة الانسانية نجد ارتجاليا سياسيا لايزال يحكم هذه الروحية..
بقي ملاحظة واحدة تتعلق بقضية مطالبة كيري بالباتريوت، لصد صواريخ السكود، صواريخ السكود على خطورتها في يد العصابة الاسدية، إلا أنها ليست حاسمة ابدا على الارض عسكريا..ولا تحرر مدنا رغم كل ما تسيله من دماء عندما تقع على السكان المدنيين..
نحن لا نريد ملامسة شغاف السوريين بكلامنا في محفل سياسي كهذا، لأن شغاف السوريين متخمة بثورتهم واحساسهم بهذه الثورة العظيمة، شعبنا يريد حلولا عاجلة في اسقاط العصابة الاسدية…
ليعذرني شيخنا الجليل..
ايلاف
الخطاب السياسي والبروتوكول: تأثير الربيع السوري على اللغة
باريس ـ مها حسن
منذ اللحظات الأولى لافتتاح القمة العربية في الدوحة نهار السادس والعشرين من آذار، يلاحظ المشاهد تغيرات في لغة الخطاب، أن يدعو العراق مثلاً إلى تشكيل مجلس أمن عربي، ثم يتحدث أمير قطر عن مفردات الإصلاح والبيروقراطية والشفافية، تجعل أحدنا، يستعيد مشاهد القمم السابقة، حيث ما يشبه التهريج اللغوي، والفذلكة والحشو الإنشائي، الذي يدور حول المسألة، ولا يمس جوهرها. كانت القمم السابقة، بمثابة تحصيل حاصل، وجوب ما يجب، أما اليوم، فهناك مشاهد جادة من المسؤولية والقلق، ولغة جديدة، فرضتها ثورات المنطقة، الثورات التي لأول مرة، منذ سنوات طويلة، أعادت المنطقة إلى واجهة العالم، لتحاول الانقلاب على الخطاب القديم، الثابت، المتكرر، الذي يتحدث ويتحدث من دون أن يقول شيئاً مهماً.
أحدثت الشعوب الثائرة، خللاً في اللغة القديمة، وهزّت البروتوكولات التقليدية، لتأتي مشاركة سوريا عبر الائتلاف الوطني، كسابقة بروتوكولية، لم تحدث من قبل. الثورات الشعبية، هي التي فرضت التغيير على المؤسسات الرسمية السياسية، التي كان يصعب التدخل في تكويناتها اللغوية الإنشائية، وخطاباتها التقليدية.
أجبرت الشعوب الثائرة، الهيئات السياسية، على محاولة اللحاق بالشارع، ثمة حداثة تنشأ في الفعل السياسي المنمّق، اللغوي، المتخشب، فرضتها ثورات الشارع.
قمة تميزت بالاهتمام الشعبي، فهي لأول مرة، تقترب من ألم الشارع ومعاناته، قمة جعلت بعض الخطابات متحررة من اللغة السفسطائية والإنشاء، وإن لم تتخلص جميع الكلمات من تاريخ الإنشاء اللغوي المنفصل عن المعنى.
تذكّر البعض لمسات القذافي المضحكة في القمم القديمة، والكلمات المطولة لما يسميه البعض ساخراً بشرح الكلمات، كما لو أن عهد الفذلكة والحشو و(شرح الكلمات) والتضييع اللغوي، للابتعاد عن الجوهر، في طريقه إلى الأفول.
إن خطاب معاذ الخطيب مثلاً، هو حداثة سياسية بحد ذاته، وحداثة لغوية داخل الخطاب السياسي التقليدي، هو بمثابة سرد عما يشبه أدب السجون، بعد أن كان المستبدون يجلسون في هذه المقاعد، صار اليوم الحكي عن الاستبداد، داخل الأروقة الرسمية للمؤتمرات، حيث ترد مفردات جديدة كالتشرد والاعتقال والقصف والأرامل والأيتام… يعترف الخطيب مثلاً بـ(الخروج عن الأعراف الديبلوماسية) فيقول: اتقوا الله في شعوبكم، حصّنوا بلادكم بالعدل والإنصاف. يحل ضمير الأنا (أنا متأكد) مكان (نحن)، ليقول: أطلب منكم إن وجدتم ذلك مناسباً اعتماد قرار في المؤتمر وضمن ما تسمح به ظروف كل دولة واستجابةً للكثيرين، بإطلاق سراح المعتقلين في كل الوطن العربي ليكون يوم انتصار الثورة السورية في كسر حلقة الظلم هو يوم فرحة لكل شعوبنا”.
هو خطاب حديث، عاطفي وإنساني وبعيد عن البروتوكولات الراسخة، بل هو كسر للتابوات المتعارف عليها في المحافل السياسية العربية، حيث الحضور القوي لصورة الشعب، حضور حقيقي، غير مزيّف أو مفبرك، في خطابات أنيقة.
قد تكون عبارة الخطيب (اتقوا الله في شعوبكم) أول جملة من هذا النوع من المخاطبات في القمم العربية، وقد تفتح الباب، لخطاب أكثر مرونة وتحرراً من الإنشائية والتصنّع اللغوي والخوف من كسر البروتوكول.
إن الربيع الثوري، أحدث قلقاً لدى الأنظمة المستقرّة، وراح بعضها، يستعدّ للتفكير بالإصلاح، خشية هبوب نسائم الربيع الثائر لديه، وتبدّى هذا القلق، في الإحساس بالمسؤولية، واستعمال لغة جديدة، جادة، دقيقة، مسؤولة، لا مجرد خطابات قائمة على إرضاء الكاميرات والمنصّات، والذهاب بعدها إلى قاعات الطعام، وتبادل النكات… ثمة دماء تنزف، ونازحون، ومعتقلون، ورصاص، وموت… هناك مفردات جديدة دخلت الخطاب السياسي الاستعلائي المجمّل، لنسمع أصواتاً جديدة ونبرات مختلفة.
اللغة الأدبية والإبداع
قد تتأخر مظاهر التأثير الثوري على اللغة، لأن الكتابة تحتاج إلى زمن لامتصاص الحدث الراهن، يعرف الكثير من القراء والكتاب، بأن ما يكتبه الروائي مثلاً، يستعيد به أزمنة بعيدة من الذاكرة، ولأن الربيع القائم، لم يتحول بعد الى ذاكرة، فهو قد يحتاج إلى وقت أطول، من ذلك الذي استغرقه الخطاب السياسي، إلا أن اللغة الحالية، في بعض المقالات وحتى التدوين على الانترنت، في صفحات الفيسبوك والمدونات الشخصية، تكشف النقاب عن بناء لغوي حديث، مرن، غير متخشب، يخرج عن اللغة السردية الشاعرية المطولة، والتي، كما في السياسة، تلف وتدور حول المشهد، تصفه من الخارج، بلغة أنيقة، مجمّلة، إنشائية، مملّة، تجعل القارئ يقلّب الصفحات، ويتجاوز السطور، للذهاب إلى الحدَث. لم تعد اللغة الجديدة تحتمل (شرح الكلمات)، ولا الوصف الطويل، بل تتوق إلى المكثّف، الناضج، بما يشبه، زبدة الكلام.
هذا لا يعني أبداً تحوّلها إلى لغة سطحية، تفتقد إلى الجمالي، إلا أن مفهوم الجمال ذاته، صار يتغيّر، وهذه هي الثورات الفنية القادمة، حيث اللغة الدافئة، التي تصل مباشرة إلى شغاف القارئ وتمسّ روحه، ثم تعلو إلى عقله، لغة حقيقية، نكاد نلمسها ونحن نقرأها، لغة حرّة، لا ترمّز بقلق، بل، إن رمّزت، فلسبب جمالي في نفس الكاتب، وليس للابتعاد عن التصريح، خوفاً من الرقيب.
اللغة الجديدة، الخارجة من فرن الحدث اليومي الساخن، لغة عنيفة أحياناً، عِراكية في بعض الأحيان، استفزازية ربما، لكنها لغة فردية داخل المكوّن الجماعي الذي راح يهتز، لغة تشبه المثال السياسي الذي أحدثه خطاب معاذ الخطيب، مستعملاً ضمير الأنا، بدل النحن، أمام تمثيل عربي رفيع المستوى، ليُدخل عبارات جديدة، من الفرن اليومي، إلى القصور والقاعات الباذخة. لغة الربيع، حتى لمن لا يعترف بهذا الربيع، لغة غير يقينية، متجددة، جدلية، ليست لها مرجعيات أو بروتوكولات، لغة تدخل الزمن الحالي، وتحاول أخذ مكانها، وستدخل دون شك في صراعات تالية، كما حدث، ويحدث من وقت لآخر، ذلك السجال بين قصيدة النثر والشعر العمودي.
لن تتوقف آثار الربيع على اللغة السياسية ولغة الخطابات المدبّجة والمزخرفة والمصنوعة خارج المعنى وخارج المعاناة، بل سيمتد تأثيرها على الخطاب البصري والسمعي، لا بد أن تتأثر السينما والموسيقى، فنصبح أمام ربيع فني، تزهر فيه اللغة أنواعاً جديدة من التعبير، وتدخل الأجناس الكتابية، تسميات جديدة، أكثر حرية، وأكثر ملامسة للواقع، وغير مستوردة، لغة لا تستمد حداثتها من تجربة الغرب الأدبية، لغة تسمح للفرد بالإبداع خارج مفهوم الجماعة، لغة تحترم الأنا، ولا تقمعها من أجل (نحن)، ولا تتعارض معها.
نحن، جيل الستينيات والسبعينيات، وربما من قبلنا، ابتداء من الثورات الشعرية العربية، وانتهاء بالحداثة، مروراً بالسوريالية والعدمية واللاانتماء الإبداعي، وكسر الحواجز بين الأجناس، شعرنا غالباً بانفصام بين ما نكتب وما نعيش، انفصام وجودي لغوي فكري عالي التوتر(إن صح التعبير)، مع يوميات مختلفة، بمفردات منفصمة… ثمة من يكتب للثورات الجنسية مثلاً ويقمع نساء العائلة بدواعي الشرف، ومن يتحدث عن حرية الإنسان ويسلب تفاصيل حريته اليومية…يكتب عن العدمية والموت والانتحار، ويحلق لحيته ويضع العطر، وإن كانت امرأة، فهي لا تنسى طلاء الأظافر…. ممارسات كثيرة انخرط فيها جيلنا، المتبنّي لأفكار عظيمة، جاء بها من الآخر واستعارها، فخلقت لديه لا فقط الفصام، بل والدونية أمام الآخر. نحن، هذا الجيل، وما قبله، وما بعده، لن نكون بحاجة لتمثّل تجربة الآخر بعد اليوم، لدينا ثوراتنا اللغوية وستكون لدى أساليبنا التعبيرية، وكرامتنا. هي ثورات الكرامة اللغوية أيضاً، وكرامة الاستقلال الإبداعي، لا لأننا نقسم العالم إلى شرق وغرب، بل إلى معاناة أصلية ومعاناة متصورة.
لقد عانى المبدع الغربي، ذلك الذي عايش الحروب، فانبثقت السوريالية في قلب الصدمة والخراب، لتنجب دالي وبروتون وغيرهما، ونحن ذهبنا لتبنّي ذلك التعبير، من دون أن نعيش التجربة، أو أن نمرّ بألمها. لهذا ستكون نصوصنا القادمة من وحي وقائعنا، على أن ينتصر الإبداع على الرقابة، وتنتصر الثورات على الفساد الثقافي، وهذا طريق طويل، طويل.
المستقبل
هل كان الأسد يتفرج؟
طارق الحميد
يفترض أن بشار الأسد كان يشاهد التلفاز يوم أمس، ويتفرج بأم عينيه على كلمة الشيخ أحمد معاذ الخطيب وهو يجلس على كرسي الوفد السوري في القمة العربية بالعاصمة القطرية الدوحة مرفوعا أمامه علم الاستقلال السوري، لا علم المرحلة الأسدية، مما يقول للأسد: أن اللعبة انتهت!
منح المعارضة مقعد «الجمهورية العربية السورية» بقمة الدوحة، رغم تحفظ، أو رفض، كل من العراق ولبنان والجزائر، يعني أن الأسد يشاهد ما قد يكون الفصل الأخير من فصول نظامه القمعي، حيث إن نظام الطاغية يتعرى، ويتفكك، أمام عينيه، وعلى مدى ثلاثة أعوام. فجلوس الخطيب على مقعد الدولة السورية بالقمة العربية يعد بمثابة رسالة ستهز الأسد المنكر للحقائق. كما أنها رسالة للدوائر الضيقة للطاغية، وكل من يسانده. وكم هو طريف تعليق وسائل الإعلام الأسدية الفوري على منح مقعد سوريا بالقمة العربية للمعارضة حيث اعتبرته عملية «سطو» وأنه «جريمة قانونية وسياسية وأخلاقية»! والحقيقة أن جلوس الخطيب على مقعد سوريا بالجامعة هو الخطوة القوية والمستحقة، من قبل الجامعة العربية، والتي يجب أن يتبعها تسليم المعارضة السفارات السورية في كل الدول العربية.
وبالطبع فإن الأسد ليس المتفرج الوحيد يوم أمس، فمن المؤكد أن حسن نصر الله، ونظام الملالي بطهران، كانا يشاهدان تلك اللحظة التاريخية التي تعنيهما كثيرا، حيث انتهت مرحلة جلوس الأسد في القمم العربية محاضرا عن العروبة، والمقاومة والممانعة، التي اتضح أنها لا تحدث إلا بقتل الأسد للسوريين وبمساعدة إيران وحزب الله، فالبديل اليوم للنظام الأسدي، وعلى مقعد الجامعة العربية، هو معارضة ذاقت مرارة آلة القتل الأسدية، وعانت الأمرين من دعم إيران وحزب الله لطاغية دمشق. وهذا وحده كفيل بأن يقول لحسن نصر الله، وإيران: إن اليوم ليس مثل الأمس، وإن القادم لن يكون كالعقود الأربعة الماضية! ورسالة جلوس الخطيب في مقعد الجمهورية العربية السورية لا تخص الأسد وإيران وحسن نصر الله فقط، بل كل من باع وطنه وعروبته لإيران.
صحيح أن الطريق في سوريا طويل، وخصوصا مرحلة ما بعد الأسد، لكن وبجلوس الخطيب على مقعد سوريا في القمة تكون المنطقة كلها قد دخلت مرحلة جديدة، صعبة نعم، لكنها ستكون أصعب على إيران وعملائها في المنطقة، والذين اعتقدوا، خصوصا بعد سقوط نظام صدام حسين، أن المنطقة قد دانت لهم، وأن بوسعهم اليوم اللعب في منطقتنا ودولنا كيفما شاءوا. وهذا هو الخطأ الجسيم الذي وقع فيه الأسد، طوال السنوات العشر الماضية، وتحديدا بعد سقوط صدام، واغتيال الحريري الذي أفلت من عواقبه الأسد، حيث اعتقد الطاغية أن بمقدوره أن يحكم المنطقة، ويعيد ترتيب أوراقها. لكن ما حدث هو العكس تماما، حيث انقلب السحر على الساحر، ومن يعلم فربما لم يتسن حتى للأسد مشاهدة وقائع القمة العربية بشكل متواصل، وذلك لدواع أمنية تتطلب تنقله بين كل لحظة وأخرى!
الشرق الأوسط
قمّة سوريا
علي نون
منطقي وطبيعي أن يجلس معاذ الخطيب في مقعد رئيس وفد “الجمهورية العربية السورية” في القمّة العربية. الأمر في شكله ومضمونه يستجيب لواقع سقوط سلطة بشار الأسد في الداخل والخارج، وانتهاء معظم وظائفها، وإن كان مسك الختام لم “يؤكل” بعد.
المشهد مرير عند الأسد وحاشيته. وما كان يمكن تصوّره سابقاً تبعاً لانعدام إمكانية تصوّر قيام الثورة السورية نفسها أصلاً! ومع ذلك أمكن أخيراً رؤية الأمرين وقد صار حقيقة لا تعوزها أي دقّة. مثلما أمكن سابقاً رؤية المؤسسة الرسمية الشرعية العربية تتطوّر مع التاريخ وليس بعكسه، وتدأب لدفع العالم الحرّ إلى مجاراتها وليس إلى معاندتها.
وذلك ليس أمراً بسيطاً.
لفترة طويلة كان الانفصام تاماً، أو كبيراً، بين “الرسمي” العربي والشارع العربي، تبعاً لوصول أنظمة الطغيان إلى السلطة بواسطة الانقلاب العسكري، وإيغالها في الإمساك بتلابيب ومفاصل مؤسسات الدولة، وتمرّسها في فنون الاحتفاظ بها وإلغاء كل خصوصية أيّاً كانت طبيعتها: فردية شخصية أو عامّة وظائفية. وكانت “الشرعيّة” بهذا المعنى وليدة تلك التركيبة القسرية التي جعلت العربي وهو في بيته يشعر بحصار مزدوج. واحد سلطوي مباشر من النظام الراكب عليه. وآخر تزويري غير مباشر من خلال الادّعاء بتمثيله والنطق باسمه في المحافل العربية والدولية وفي مقدّمها، بطبيعة الحال، مؤسسة القمّة والمجلس الوزاري العربيين.
أنهى الربيع العربي الجزء الأكبر من تلك الصورة. وواكبت “المؤسسة” الرسمية الجامعة حركة الشارع وحراكه، وتلقّفت نتائجه بطريقة حاسمة وجذرية. وصارت “الشرعيّة” بهذا المعنى نتاجاً طبيعياً لذلك الحراك وخصوصاً بالنسبة إلى سوريا، وهي استثناء، بل الاستثناء الوحيد. بحيث أنّ احتلال المعارضة مقاعد السلطة واكب ويواكب “احتلالها” الميداني للواقع السوري وتحكّمها بمستقبل البلاد في الإجمال تبعاً لتقدّمها الاسطوري، يوماً تلو يوم، واقترابها من كسر ما تبقّى من سلطة الأسد في مواقعها المركزية ومقارها القيادية.
.. لوجود معاذ الخطيب في “مقعده” تتمّة إضافية. واحدة في سياق تعميم شرعية تمثيل المعارضة لسوريا والسوريين (في السفارات وغيرها من محافل ومؤسسات عربية ودولية) وثانية في سياق تكريس الدعم التسليحي لها بطريقة مكشوفة وواضحة وبقرار رسمي مركزي و”شرعي”.
ولا مرّة كانت مؤسسة القمّة العربية قريبة من “شعوبها” إلى هذا القدر.. وهذه ليست بداية، إنّما مواكبة للواقع كما هو، ولطبيعة الأمور كما هي. وذلك أمر كنّا اعتدنا على عكسه ولعقود طويلة.
المستقبل