صفحات الناس

مقالات تناولت انتخابات الرئاسة في سورية

 
الانتخابات السورية: الشائعات المخيفة/ صادق عبد الرحمن
لا تهتم أغلبية السوريين بالانتخابات الرئاسية، إذ ينشغل مئات الآلاف في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، بتأمين الطعام والشراب والسلاح، ورفع أنقاض البيوت ودفن الضحايا. كذلك لا يهتم بهذه الانتخابات مئات الآلاف من الفارين خارج البلاد على خلفية ملاحقتهم من قبل الأجهزة الأمنية، إذ لا يحمل هؤلاء أملاً بالعودة إلى البلاد إلا بعد سقوط النظام السوري، أو بعد قبوله بتسوية سياسية شاملة.
الانتخابات أيضاً، لا تشكل هاجساً كبيراً لدى أنصار النظام، الذين يستعدون للمشاركة فيها وانتخاب الأسد لولاية “دستورية ثالثة”. آملين بأن انتخابه سيحدث تحولاً في مجرى الصراع لصالح النظام السوري. وبين أولئك وهؤلاء توجد شرائحُ من السوريين تسبب لها الانتخابات ذعراً وارتباكاً كبيراً.
ثمة شائعات تسري في داخل سوريا وخارجها، عن العقاب القاسي الذي سيلحق بالذين يتخلفون عن المشاركة في “العرس الديمقراطي”. اللاجئون والمغتربون السوريون كانوا أول ضحايا هذه الشائعات، إذ يقال إنه سيتم تعميم أسماء أولئك الذين لم ينتخبوا على المنافذ الحدودية. الأمر الذي سيعني خسارة إمكانية العودة إلى البلاد، وربما حتى خسارة أملاكهم في نهاية المطاف.
في لبنان على وجه الخصوص، تأخذ شائعات كهذه نطاقاً أوسع بسبب تواجد حزب الله اللبناني، الذي يقاتل إلى جانب القوات النظامية السورية. فاللاجئون يخشون عقاب عناصر حزب الله، فضلاً عن العقاب المستقبلي من قبل السلطات السورية. ويبدو أن أعداداً من هؤلاء اللاجئين قد حسموا خيارهم باتجاه المشاركة تجنباً لأية مشاكل مستقبلية.
أما داخل البلاد، فإن هناك عدداً كبيراً من المعارضين الذين يقيمون في مناطق سيطرة النظام. لهؤلاء حكاية أخرى مع الانتخابات، فهم غير قادرين على ممارسة أي حراك ضد النظام، وعلى وجه الخصوص اولئك المقيمين في مناطق الساحل السوري. ولعل آخر ما يمكنهم التمسك به هو عدم المشاركة في الانتخابات تعبيراً عن رفضهم لسلوك النظام تجاه الثائرين وحاضنتهم الشعبية.
يقول أحد الشباب المناهضين للنظام للـ”المدن”: “أقيم في مدينة اللاذقية في وسطٍ أغلبيته الساحقة موالية للنظام، ولست قادراً على فعل شيء في مواجهة النظام، ولهذا فإنني أعتبر أن عدم المشاركة في الانتخابات دفاعٌ عن كرامتي الشخصية في المقام الأول”. يكمل الشاب، الذي يعرف حدود تأثير المعارضة، في مناطق سيطرة النظام: “أعرف أن عدم مشاركتي لن تؤثر في مجرى الأحداث، لكنني لا أنوي المشاركة احتراماً لنفسي ولدماء الضحايا، وهذا أمر يبدو مرعباً لأنني لا أدري بالضبط حجم الثمن الذي سأدفعه جراء عدم مشاركتي”.
تسري شائعات عن احتمال ثقب الهويات الشخصية، لدى التصويت، أو ترك علامة عليها لتمييز المشاركين عن عداهم. وتسببت هذه الشائعات بموجة من الارتباك بين المعارضين، لأن صحتها ستعني تحول حياتهم إلى جحيم عند المرور على الحواجز وعند مراجعة الدوائر الرسمية. وحتى لو اقتصر الأمر على وضع حبر على أصبع المشاركين فإن مجرد التجول دون حبر على الأصبع، خلال أيام الانتخابات قد يكون خطراً.

تزايدت أعداد الضحايا الذين تعود جثامينهم إلى الساحل السوري مؤخراً، وخاصة بعد اشتداد المعارك في ريف إدلب وريف حماة الشمالي. ولا يمر يوم دون تشييع جثامين عناصر من الجيش والأجهزة الأمنية وقوات “الدفاع الوطني” في مدينتي اللاذقية وطرطوس الساحليتين. وهو ما يسبب رعباً إضافياً في صفوف المعارضين هناك، إذ يخشون أن يصب أقرباء الضحايا جام غضبهم عليهم إذا تبينت حقيقة مواقفهم من الانتخابات الرئاسية.
بصرف النظر عن حقيقة هذه الشائعات، وعما سيقوم به النظام السوري فعلاً لتمييز المشاركين من غيرهم، وعما سيفعله حيال المقاطعين؛ فإن هذه الشائعات وما يرافقها من مخاوف ونقاشات وارتباك، تثبت أن لا شيء يمكن أن يتغير في طبيعة العلاقة بين السوريين والنظام. فالعلاقة قائمة في الأصل على التسلط والقهر والاستهتار بأبسط الحقوق.
على أي حال، فإن المرجح أن تكون الأجهزة الأمنية هي من يقف وراء هذه الشائعات، لدفع أكبر عدد ممكن من السوريين إلى المشاركة. ولا يبدو أن النظام السوري قادر على اتخاذ خطوات تميز المشاركين في الانتخابات من خلال وثائقهم الرسمية الأساسية كالهوية الشخصية. يعود ذلك لأسباب شتى، لعل أبرزها تشتت السوريين في أنحاء العالم، ووجود مئات الآلاف ممن لن يشاركوا، أو لن يكون في مقدورهم المشاركة سواء داخل سوريا أو خارجها. ومع ذلك فلا شيء يبدو مستحيلاً أو مستغرباً في ظل تجاوز السلطات السورية لأبسط الضوابط في تعامل مؤسسات الدولة مع مواطنيها. ألم يسبق للسلطات السورية أن أجبرت الدمشقيين على طلاء واجهات محلاتهم بعلم الدولة السورية؟
المدن

 
لاجئون سوريون في لبنان يتحسرون على حلم الحرية وامل العودة مع التمديد للاسد/ جوزيف عيد
فقد ابو نور (40 عاما)، اللاجئ السوري المقيم في لبنان، الامل بالعودة الى بلاده في المدى المنظور مع التمديد المتوقع للرئيس بشار الاسد، ويسعى الى الهجرة مع عائلته الى كندا في انتظار “معجزة” تنهي الحرب.
في منزله المتواضع في تجمع عشوائي للاجئين السوريين في طرابلس في شمال لبنان، يقول ابو نور الذي غطى وجهه بوشاح وقدم نفسه باسم مستعار خوفا على افراد من عائلته لا يزالون في الوطن، “التظاهرات التي قامت في سوريا (في بداية الحركة الاحتجاجية ضد النظام السوري) كانت معجزة، والحرب لن تنتهي الا بمعجزة. نعول على رب العالمين، هو يحلّها”.
ويضيف الرجل المتحدر من مدينة حماة في وسط سوريا بمرارة “بعد التظاهرة المليونية في حماة، عشنا اربعين يوما كانت من احلى ايام عمرنا. بعدها دخل النظام، وخرب البلد (…) وتعرضنا للاضطهاد والتشرد”.
يشرح انه لم يكن يتوقع يوما ان تقود “الثورة” الى مثل هذا النزاع الدامي الذي حصد حتى الان اكثر من 160 الف قتيل وشرد الملايين، ويقول “كنا نحلم بانتخابات نزيهة تقودنا الى انتخاب الرئيس الذي نريد والذي يمثل بحق الناس الموجودين على الارض”.
ويعيش ابو نور مع زوجته واولاده الخمسة في منزل صغير في الطابق الثالث من مبنى غير مكتمل في منطقة ابو سمرا-حي الشوك في طرابلس، شهد خلال السنتين الاخيرتين ارتفاع عشرات الابنية التي تفتقر الى ادنى المعايير الصحية والسلامة العامة بغرض تاجيرها الى سوريين.
ويروي سكان التجمع انقطاع المياه لايام احيانا من دون سبب، او التيار الكهربائي بسبب تردي الامدادات… على باب المبنى، اولاد يلعبون وسط اكياس نفايات واحذية مرمية وتراب من بقايا الورشة…
وتعتمد العائلات ال2500 التي تقطن التجمع اجمالا في معيشتها على قسائم غذائية من الامم المتحدة. واضطر ابو نور الى بيع سيارته وبعض اغراض بيته بهدف تأمين بعض المال. وهو وغيره كثيرون من سكان التجمع السوريين، لا يعملون، لانهم لا يملكون اوراقا قانونية للاقامة في لبنان، اما لانهم دخلوا خلسة، واما لانهم عاجزون عن دفع مبلغ المئتي دولار المطلوب للاقامة السنوية.
ويقول الشاب الذي كان ناشطا في مدينة حماة “في المجال الاغاثي” قبل ان يتركها منذ حوالى سنتين، “اللعبة الدولية تطيل عمر بشار الاسد”، مضيفا “لا عودة الى سوريا حاليا… هنا الوضع من سيء الى اسوأ. الحل الوحيد في الهجرة الى كندا. ان شاء الله يقبل طلبنا”.
في تجمع آخر للاجئين السوريين قبالة شاطئ طرابلس، ترى غازية الكور (42 عاما) كذلك العودة بمثابة حلم بعيد.
وتقول غازية المطلقة التي تعيش وحدها في لبنان ردا على سؤال عما اذا كانت الانتخابات الرئاسية المرتقبة الثلاثاء ستغير شيئا “لا اتوقع شيئا، لا اتوقع اي تغيير.. احساسي ستصير سوريا التي كانت جنة على الارض (…) عراقا ثانيا”.
وتستدرك الام التي قتل ولداها الفتيان في مدينة حلفايا في محافظة حماة بقذيفة وهما ينتظران امام الفرن لشراء الخبز بينما بقيت ابنتها مع زوجها في سوريا، “كيف نصوّت؟ هل نبيع اولادنا الذين قتلوا؟”.
التجمع المعروف ب”حي التنك” عبارة عن حجارة من الباطون مرصوفة مع اسطح خشبية او معدنية مغطاة بالنايلون، مقطعة من الداخل بستائر والواح خشبية او بلاستيكية. تقيم في المكان حوالى 500 عائلة سورية، الى جانب عائلات لبنانية فقيرة.
داخل خيمة يقتصر اثاثها على فرش وبعض الكراسي البالية ومغسلة “قدمتها لنا الامم المتحدة”، وكرسي حمام مكسور، تقول فاطمة الاربعينية الارملة من رجل “اعدم ميدانيا في حي كرم الزيتون في حمص”، “نعيش بين الجرذان”.
وتضيف بعد ان تروي معاناتها مع تأمين الطعام والحاجات الضرورية لبناتها الثلاث وابنيها الذين تتراوح اعمارهم بين 16 سنة وست سنوات، “الانذال فقط هم الذين سيشاركون في الانتخاب… اي انتخابات مع ذبح الاطفال وكل القتل الحاصل وهذا التشريد؟”.
ولا ترى فاطمة نهاية النفق. “ماذا تريدون ان اقول؟ من الله التدبير”.
واذا كان معظم اللاجئين المقيمين في طرابلس ذات الغالبية السنية المتعاطفة اجمالا مع المعارضة السورية يعتبرون الانتخابات “مسرحية” وامرا واقعا مفروضا على من هم في الداخل، هناك من يجاهر بولائه للاسد.
وتقول صباح (75 عاما) التي وصلت قبل اسبوع من حي الحمدانية في حلب الى المخيم مع زوجة ابنها واحفادها الاربعة، “الله يجعله دائما علينا. سياتينا بشار الاسد بالامن والامان”.
البعض تعب من البؤس، من انتظار المساعدات، من نقص الادوية والعلاجات، من صعوبة تامين التعليم لاولادهم، من معاملة عنصرية وتمييزية من اهل البلد، مثل خالد (48 عاما) الذي يقول بشيء من اليأس “لم لا؟ لنصوت وليأت بشار الاسد. نريد ان ننتهي من هذه الحالة. ايجار هذا المنزل الذي ليس بمنزل هو 200 دولار ولا توجد فرص عمل. نريد ان نعود الى ديارنا”.
ويبدي ابو طارق الذي بدا منذ وطات قدماه ارض لبنان في آب/اغسطس 2011 يهتم بايواء النازحين وحل مشاكلهم، تفهمه للاحباط السائد.
ويقول “الانتخابات مهزلة سياسية في حق الشعب السوري واللاجئين الذين يعانون من اوضاع انسانية صعبة خصوصا في لبنان، (…) المجتمع الدولي خذل الشعب السوري في الداخل والخارج. اصبح لدينا جيل كامل مصاب بالاحباط والياس”.
لكنه يضيف “انا لن اعود طالما النظام قائم. ليس لدي خيار. خرجت من سوريا سعيا وراء الحرية والديموقراطية وهذا نظام لا يعرف الحرية والديموقراطية”.

 

الاستعراض السوري.. في غايته اللبنانية/ أيمن شروف
مشهد اليرزة غاية في الديموقراطية. هذا ما قاله مؤيدو رئيس النظام السوري بشار الأسد من اللبنانيين. فالحدث أمام السفارة السورية وفي داخلها يكفي بالنسبة إليهم لإثبات مدى شعبية “القائد الدكتور”، ودليل واضح على أن “الشعب” السوري مع بقاء رئيسه إلى الأبد، وما المانع في ذلك. بالأمس، أمين عام حزب الله طمأن الجميع بأن المؤامرة سقطت، ومحور الممانعة يتجه إلى نصر إلهي جديد.
هذا رأي ممانع. طبعاً لا يُمكن الاتفاق معه، لكن لا يُمكن إنكاره. إلّا أن المقاربة الواقعية للذي حصل اليوم الأربعاء في اليرزة، لا يُمكن أن تقتصر على مشاهدة الإنتصار الشكلي لمؤيدي الأسد من السوريين واللبنانيين. الأسئلة تبدأ ولا تنتهي. في المشهد، يسقط سوريون ضحية الجوع والتهجير، ويسقط سوريون ضحية “المذهبية”، ويسقط سوريون في لعبة الأحزاب الممانعة اللبنانية. في المشهد، لبنانيون سقطوا منذ زمن.
الخبيث الذي نظم هذا اليوم بعناية من أجل إيصال رسالته، من فانات نقل الأصوات الجاهزة إلى جمع الهويات مروراً بأخبار عن إسقاط جنسيات من لا يُشارك في الإنتخاب، استغل السوريين إلى أبعد حدود. هذا ما لا شك فيه. المستغلَّون، ينقسمون إلى قمسين: الأوّل غير مُدرك بتبعات ما يُمكن أن يحصل، خائف. الثاني، لا يعنيه أي رد فعل فهو مُقتنع بأن طبيب العيون هو ملك هذا الزمان، ولن يزاحمه أحد في موقعه، من الآن إلى يوم “القيامة”. للسوريين من القسمين، أو التفكيرين، أن يتحملوا ما وُرطوا به. هذه هي مأساة ما بعد الإستعراض. غداً، من سيحمل همّ اللاجئ بعد هذا المشهد؟ حتى الذي لم يُشارك، ستلحق به “المصيبة”، في بلاد خصبة بالعنصريين ممن لا يُميّزون بين هذا وذاك. فكيف إن قُدم لهم “منسوب” عنصري على طبق من فضة، أو بكوب من البرتقال؟!
على أن المشهد هذا أيضاً، قد يُكمل ما توصلت إليها المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، والتي تتجه فعلياً إلى إسقاط صفة اللاجئ عن كُل من يذهب يوم 3 حزيران للإقتراع في المركز الحدودي الذي سيُنشأ من أجل هذه الغاية. وهنا، تُسأل وزارة الداخلية اللبنانية عن الخطوات والتدابير التي ستتخذها بعد “عراضة” اليرزة، التي أتت للرد على منعها التجمعات السياسية للنازحين السوريين، موالين ومعارضين.
من سيدفع الثمن؟ كُثر سيفعلون مع الأسف. لا يحسب الممانعون ما هي توابع استغلالهم السياسي للسوريين. هم أصلاً غير آبهين حتى للموالين للأسد في لبنان. في 3 سنوات، مارسوا كل ما يمكن من تضييق عليهم. حاربوا وجودهم. في مناطق حزب الله على سبيل المثال، السوري النازح لا يحمل هوية أو جواز سفر، أوراقه الثبوتية يصادرها الحزب، فيتحوّل إلى عبد، ذليل. يخرج إلى الضوء إن سمح له الحزب بذلك، وإن لم يُسمح له، يختبئ في أماكن إقامته. أماكن قد تكون قبواً في بناية، كاراج يُفتح بابه “الجرّار” 20 سنتيمتراً لدخول الهواء والضوء. هكذا تكون العناية!
الحماسة الممانعة للمشهد الديموقراطي لا تنطوي على “حب” للسوري، لاجئاً كان أم مقيماً. لهذه الحماسة غايتها السياسية، استثماراً لما هو لاحق. إثباتاً لما قيل قبل أيام عن انتصار للممانعة ومحورها الصامد أمام كُل دول العالم المُستكبرة والظالمة. ولهذه الحماسة، لبنانياً، مشاريع رئاسية، أو رسم حدود بعبدا ومن سيأتي إليها، من نادي التصفيق والالتحاق بركب القائد الرمز.
وهذا المشهد، يُعبّر أيضاً عن ضعف بشار الأسد وقوّة داعميه. الأسد، الذي ينتصر على حد زعم حزب الله ومن معه، لا يستطيع تأمين مؤيديه ممن انتخبوه، كي يعودوا إلى سوريا. كما أن حلفاءه من اللبنانيين، يسعون في 3 حزيران إلى إرسال تظاهرات كالتي جرت اليوم الأربعاء لـ”ينصروا” الرئيس القائد، قد تكون بالوجوه نفسها التي كانت في اليرزة، فتجتاز المصنع من دون أن تدخل سوريا. يقترعون خلف حدود بلادهم، ثم يعودوا إلى مكان نزوحهم.
ما جرى في اليرزة من استعراض فاشل، لن يدفع ثمنه من أتى إلى لبنان في انتظار انتهاء أزمة بلاده، فيعود ليحيي الرابح مهما كان، أو من أتى لأنه مع الأسد لكن لن يموت من أجله. فعلياً، من سيدفع الثمن، هو من هرب من البطش والقتل.. ومن لا يؤمن بصناديق ديموقراطية، فوق براميل الموت المُتفجر على رؤوس أطفال حلب وحمص وحماه ودرعا وغيرها.
في اليرزة، يوم “ديموقراطي” لرئيس ديكتاتوري.
المدن

 

موسم الصورة الواحدة في دمشق/ ناصر علي
مطابع وورش كانت تعيش على مواسم الانتخابات البلدية ومجلس الشعب توقفت خلال سنوات الصراع السوري عن العمل. بعضها تم إغلاقه بسبب نشاطه السرّي المؤيد للثورة وطباعته لمنشورات تهاجم السلطة في سورية.
وكثير من هذه المطابع سرقت آلاته بعد مهاجمة المناطق الساخنة في الريف الجنوبي (سبينة، القدم) وبيعت كخردة، فاللصوص لا يعرفون قيمتها الحقيقية، فيما تمكن البعض بعد دفع ملايين الليرات للضباط ومسؤولي الحواجز، من إخراج آلات الطباعة.
الإعلام عن الانتخابات الرئاسية أعاد الأمل لمحترفي هذه الصناعة أو من بقي منهم، وبدأت ورش العمل تنجز عقوداً ضخمة سواء مع المؤسسات الرسمية كالوزارات والمنظمات الشعبية، أو مع المؤسسات والشركات الخاصة الكبرى التي تستفيد من مواقفها المؤيدة للنظام في زيادة مبيعاتها، واستفرادها بعقود اقتصادية مع داعمي النظام وشركائه الإقليميين والدوليين.
رغم الادعاءات المنسوبة إلى “لجنة الانتخابات العليا” بأن عدد ملصقات المرشحين حسان النوري وماهر حجار تبلغ 4700 بينما حملة “سوا” التي تنتخب الرئيس بشار الأسد تبلغ 2500 ملصق فقط، إلا أنّ من يعرف دمشق جيداً يستطيع أن يؤكد أن عدد الملصقات في ساحة الأمويين فقط يتجاوز 500 ملصق، فما بالك بدمشق. إذ قد يصل العدد إلى عشرات آلاف الملصقات عدا عن السيارات والمحلات التجارية التي فرضت عليها صور الحملة.
عدد قليل من الورش يقوم بطباعة ملصقات حملة “سوا” ولكن بأرقام قياسية بعدما تهرّب عدد كبير منها، ومن بقي حظي بحصة الأسد. ولا يتوقف هذا العمل ليلاً ولا نهاراً، ومن ضمنه ما يعرف هنا بـ”تفييم” السيارات بحيث تصبح السيارة مع اللواصق الشفافة لوحة واحدة متنقلة.
يعمل في هذه الورش عدد كبير من العمال، يحاطون بعناصر حماية خشية استهدافهم. وتستعين هذه الورش بورش حدادة ولحام، إذ تصنع قياسات مختلفة وبأحجام متنوعة.
ووفقاً لأحد العاملين في هذ الورش فإنّه حتى تاريخه تم “تفييم” ما يزيد عن أربع آلاف سيارة، وصناعة أكثر من عشرة آلاف ملصق بأحجام مختلفة، كلّها لحملة “سوا”، وبسعر لا يقل عن مئة ألف ليرة للسيارة الواحدة. وتقوم سيارات تابعة للورش ولأصحاب العقود بنقل الملصقات وسط العاصمة.
لا يوجد شارع فرعي أو رئيسي لا يعج باللافتات الانتخابية لحملة “سوا” من الريف الغربي لدمشق أو الضواحي المؤيدة وكذلك العاصمة، باستثناء بعض الملصقات المتنوعة للمرشحين الآخرين وفي مناطق غير مزدحمة بالسكان، وخارج التجمعات الكبيرة، وعلى أطراف الطرقات السريعة الداخلة إلى العاصمة.
تظهر العاصمة دمشق اليوم كملصق كبير لحملة “سوا”..”سوا ..أقوى”، “سوا.. بنعمرها”، “سوا..أحلى” إلى آخر هذه المعزوفة التي تثير سخرية السوريين وحنقهم.
دمشق
العربي الجديد
سوريا وحيدة في فم الوحش/ ضحـى حسـن
الساعة التاسعة صباحاً. العاصمة دمشق. الشوارع شبه خالية. صمت خفي يحوم حول الأبنية السكنية. دقّات قلب القاطنين هناك وحدها تتماشى مع ضربات الهاون وأصوات القصف. الترسانات والحواجز. وجه الأسد في كل مكان، والنعوات كذلك.
“النجمتين عالعلم بتحسّيهن عم يلاحقوكي وين ما رحتي.. أنا شخصياً بحسّن عيون حدا عم يعاتب.. أعلام منكّسة ـ برغم إنو العلَم من زمان ما عاد بيمثلني ـ بس هيك بحسّ.. علم منكّس وعيون عم تلاحقنا وتعاتبنا.. أحمر للدم، وأبيض للكفن، وأسود للحداد، كل الطريق وكل الوقت”، روت إحدى القاطنات في دمشق.
الانتخابات
أعلن رئيس مجلس الشعب السوري، محمد جهاد اللحام، موعد الانتخابات الرئاسية في الثالث من يونيو/حزيران.
العاصمة دمشق
تطوي القطعة تلو الأخرى، وتتمتم: “هاد الأزرق بيلبقلك يا ابني، الله يحميك”. تحمل قلماً وتكتب على ورقة علّقتها بجانب صورة شاب لا يبدو أنه تجاوز 15 عاماً، “صاروا 600 يوم يا هاني، كل يوم بقول رح تطلع بُكرا”.
“الله سوريا وبشار وبسّ، الشعب السوري انتصر، بحكمة قائدنا والجيش”. يقترب الصوت أكثر فأكثر، يعلو شيئاً فشيئاً، تهرع مسرعةً إلى باب المنزل، تغلقه جيداً، القفل الأول، القفل الثاني، القفل الثالث… تذهب إلى الغرفة الأخرى تمد رأسها من خلف الباب، تحدّق بابنتها النائمة، تغلق عليها بالمفتاح، تعود إلى الغرفة الأخرى، تحمل الصورة وتجلس. يبتعد الصوت، الزمامير كذلك. “طلبنا على الموت بنلبيك”..
2011
تظاهرات سلمية في أرجاء البلاد ردّاً على اعتقالات وقتل النظام للمدنيين في سوريا. إلغاء قانون الطوارئ الذي تبعه حملات همجية للنظام منها مجزرة الجامع العمري في درعا. استمرت التظاهرات السلمية، فوقعت مجزرة أطفال الحرية في حماة. تشكّل الجيش الحر، عُلّقت عضوية سوريا في الجامعة العربية. حوصرت حمص. تشكّل المجلس الوطني السوري. حملات السبيكرات، إضراب الكرامة. زيارة بعثة المراقبين الدوليين إلى حمص، اجتياح بابا عمرو بعد قصفها.

” لو سقط النظام بالسنة الأولى، كان حيصير قليل من الفوضى وخاصة ببعض المناطق المحتقنة طائفياً، كان ممكن الحفاظ على مؤسسة الجيش والشرطة لضبط الوضع، وكانت صارت انتخابات سياسية” يقول يامن حسين، صحافي سوري.
بخطوات ثابتة يتقدم المتظاهرون حاملين الأزهار باتجاه رجال وعناصر الجيش والأمن المدججين بأسلحتهم، الأعين تحدق بالأعين، “إيد وحدة إيد وحدة”، يهتف المتظاهرون، يمدون الزهور نحو الجيش الذي مدّ يده باتجاههم أيضاً. يقع الصف الأول من المتظاهرين على الأرض، كذلك الزهور التي غرقت في دمائهم.
“لو سقط النظام بأول سنة ثورة، عملية انتقالية تستند إلى مجلس تأسيسي يُحضّر لانتخابات تشريعية ورئاسية، إضافة إلى هيئة قضائية وطنية لمراجعة الانتهاكات والمحاسبة عليها، مع إطلاق عملية إصلاحية جذرية في تركيبة الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة، تعتمد على عقيدة وطنية وليست أيديولوجية. وتقوم هيئة منتخبة بوضع قواعد إطلاق المسار الدستوري الجديد بعد انتهاء العملية الانتخابية”. سلام كواكبي، باحث في الشؤون السياسية.
2012
بدأت الدول الغربية والعربية تغلق سفاراتها في سوريا. الفيتو الأول استخدمته روسيا والصين ضد قرار مجلس الأمن. انسحاب بعثة الأمم المتحدة من حمص. السعودية تؤكد على فكرة تسليح المعارضة. سقوط بابا عمرو بعد تدميرها بالكامل. بدء معركة حلب، وانفجار خلية الأزمة. تزايد الانشقاقات من ضباط وعسكر وسفراء وشخصيات سياسية. تشكيل المجلس الوطني. مجزرة داريا الكبرى والحولة. تشكّل الائتلاف الوطني السوري. ظهور جبهة النصرة وتنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام. جنيف1.
“لو سقط النظام في السنة الثانية للثورة، كنا اليوم نخوض ثورتنا الثانية ضد فوضى السلاح، لكن بالتأكيد لم نكن خسرنا الدولة ولكان من الممكن البدء بتكوين دولة المؤسسات والتكنوقراط بعد حين، ولكن لا بد لنا من أن نمرّ بفترة فوضى. وكان من السهل العمل على السلم الأهلي والحفاظ على مكونات الشعب السوري. ولكنّا ارتحنا من كابوس داعش السرطان العضال الذي لا يقل خطورة عن النظام”. علي دياب، صحافي.
“لو سقط النظام في السنة الثانية. الشرخ كان سيكون أعمق، وكانت ظاهرة “أمراء الحرب” ستكون واقعاً. مع ذلك، ومع غياب سيطرة كبيرة للجماعات الجهادية، كان بالإمكان استيعاب ظاهرة فوضى السلاح. سياسياً، الأمور صعبة. النظام خسر كل واجهاته “السياسية” وأصبح مكوّناً ميليشياوياً مكشوفاً، وبالتالي يصعب البناء فوق الموجود. مع ذلك، ما زال هناك، على الأقل، قطب معارض متمايز إلى حد كبير”، ياسين سويحة، مدون سوري.
العاصمة
“وجهه أينما التفتَّ، غاضباً، مبتسماً، ضاحكاً، مكشراً عن أنيابه، بلباس مدني، بلباس عسكري”. الشمس حادة اليوم، العرق يأخذ أشكالاً مختلفة على جبينه، يتجول الشاب في أحياء المدينة، عليه الآن قطع تجمع للانتخابات، (يبكّل) زر قميصه الأسود. الأسود لأنه لم يرتدِ لوناً آخر منذ مقتل أخته ووالدته في حمص إثر قصف منزلهم هناك. بدت المسافة لتجاوز هذا التجمع طويلة جداً.
“يرقصون على ألحان عرائسية ولطميات، (كايدهم، بالضحكة الحلوة مجنّنهم، نظرة عينك ترعبهم، قالوا ارحل على بكير نسيو إنو الاسد كبير”. اتّجه نحوهم، حدّق في وجوههم، وقبل أن يكمل طريقه أمسكه أحد المتواجدين، رجلٌ في الـ30 من العمر حليق الرأس، ذو ذقن كثيفة، يرتدي كنزة سوداء وبنطلوناً عسكرياً، “الروسية” على كتفه، وأعطاه صورة لبشار الأسد ليرفعها؛ توقف الوقت واختفى الصوت، تسارعت الصور إلى رأسه، 6 أشهر تحت التعذيب في فرع الجويّة، حمل الصورة، رفعها، وأغمض عينيه.
“لو سقط النظام في السنة الثالثة لكانت الثورة السورية ثورة إقليمية وليست محلية فقط، كان ممكناً أن تسقط رؤوس رجالات دول، لذلك كان من الصعب على أي طرف دولي اتخاذ أي قرار حاسم في ما يخص الوضع السوري”، عماد حورية، ناقد مسرحي وناشر.
2013
تحرر العديد من المدن السورية على يد “الحرّ”. انسحب النظام السوري من دون قتال، وسلّم الرقة لـ تنظيم دول الاسلام في العراق والشام وجبهة النصرة. سقطت القصير بيد النظام وحزب الله. مجزرة الكيماوي في الغوطة بريف دمشق. الرئيس الأميركي طالب برد عسكري على النظام إثر استخدامه السلاح الكيماوي. ثم تراجع عن قرار الضربة العسكرية بعد تعهّد بتسليم النظام لأسلحته الكيماوية. بشار الاسد في مقابلة تلفزيونية يؤكد على أن لا شيء يمنع ترشحه للانتخابات العام القادم. تصفية كتائب ومقاتلين وقادة من الجيش الحر على يد النظام وداعش وجبهة النصرة. الإعلان عن توحد سبع جماعات اسلامية تحت لواء واحد. اختطاف أعضاء مركز انتهاكات حقوق الانسان في سوريا. أميركا وبريطانيا تعلّقان مساعداتهما للمعارضة المسلّحة. حصار مخيم اليرموك. الإعلان عن تنفيذ اتفاق المصالحة في معضمية الشام.
“مسار العدالة الانتقالية سيأخذ وقتا طويلاً، وستكون الغلبة في الحكم للاسلاميين وجزء من السلفيين، وإعادة الإعمار بحاجة لسنوات طويلة وسوف ينتشر مبدأ التسامح والمصالحة عوضًا عن المحاسبة والعدالة، أما الآن فإن مسار العدالة الانتقالية سوف يبدأ، ولكن الاوضاع تزداد سوءاً وتتعقد الأمور أكثر، وهذا ما يسعى إليه النظام بإطالة عمر الصراع المسلّح، وستبقى الجماعات السلفية متمركزة في مناطق سورية وستعمل على عدم استقرار البلد”. صباح حلاق، ناشطة في حقوق المرأة.
“بتخيل رح نفوت بحرب أهلية واسعة بحال سقط النظام عسكرياً، بدون مفاوضات بتصيغ حل سياسي واضح”، نضال الدبس، مخرج.
“لو سقط النظام في السنة الثالثة أظن كان من المرجح أن تستمر الحرب حتى الآن، مع محاولات للسيطرة على الوضع، وإن كانت التدخلات الدولية في الوضع الداخلي ستكون أكثر فجاجة، وسيطرة للقاعدة في بعض المناطق مع تفجيرات مستمرة. من ناحية السلم الأهلي سيكون الوضع صراعات أهلية غير معلنة، ولكنها واضحة في كثير من المدن والمناطق، مع تهميش لفقراء الفلول أو موالي النظام، ومع بقاء النافذين الكبار بأشكال غير معلنة ولكن تنتظر لحظة انقضاض جديدة على مفاصل البلد”. خولة دنيا، كاتبة.
2014
معارك بين داعش والنصرة والحر. دخول اتفاق الهدنة في اليرموك حيز التنفيذ ومن ثم انهياره. جنيف 2 من دون الوصول إلى أية نتائج. مجرزة الغوطة الثانية بحق النازحين. اكتشاف مقابر جماعية بعد تحرير “الحر” لمناطق كانت تخضع لسيطرة داعش. عملية تبادل إفراج الراهبات. سيطرة النظام على حمص القديمة.
دمشق
تخرج من عملها، الساعة تقارب الـ4 بعد الظهر، تمشي بخطوات هادئة، تنظر حولها، أعلام، صور لـ بشار الأسد كتب عليها “نعم للأسد، نعم لسوريا الأمان” وأخرى “شهيد ورا شهيد غير الأسد ما نريد”، تلامس قدماها الرصيف، تتوقف لتقطع الشارع، إشارة المرور (اللون الأحمر)، 6 سيارات مغطاة بأعلام النظام، وبوجه الأسد. راكبو السيارات يُخرجون رؤوسهم من الشباك، يغنون “يا بشار متلك مين، انت يا عالي الجبين، نحن جنودك ملايين”، تضغط على كفها بكفها الأخرى، ترخيهما جانباً، الإشارة خضراء، تدخل المقهى.
موقع لبنان ناو
مسرحية المقترعين السوريين/ حسن عباس
على زجاجي سيارته الأمامي والخلفي علّق شاب صورتين للرئيس السوري بشار الأسد، ومن نافذتها الأمامية أخرج علم حزب الله. كان يسير في أحد شوارع الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت بسيارته التي تحمل لوحة يظهر عليها اسم دمشق. مشهد يقع بين مشهدين متناقضين يلخّصان اقتراع السوريين في لبنان.
المشهد العام عكس التحضيرات الجديّة التي قام بها حلفاء النظام السوري في لبنان. تم تركيب المشهدية التي تسمح بالتقاط الصور لـ”عرس الديموقراطية السورية”. الهدف الأساسي لم يكن تجميع الأصوات لإنجاح المرشح بشار الأسد. الهدف الأساسي كان الصورة. النظام السوري وحلفاؤه قرروا التقاط صورة ووضعوا بعض اللاجئين السوريين في الإطار المرسوم. لذلك لم يكن مستغرباً البتة أن يعمد التلفزيون السوري إلى الانتقال مرّات عدّة إلى لبنان لبث المشهد ـ الصورة.
الأربعاء، استيقظ اللبنانيون على مشهد زحمة سير خانقة سببها توافد الكثير من اللاجئين السوريين إلى سفارة بلادهم في اليرزة، شرق العاصمة بيروت. البعض تحدث عن “عشرات الآلاف” ولكن الأرقام الصادرة عن وزارة الخارجية السورية تؤكد أن 40 ألف لاجئ سوري هم من سجلوا أسمائهم في السفارة للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات السورية. هم إذاً آلاف السوريين مَن سبّب زحمة السير على طريق يسلكها يومياً في الصباح آلاف اللبنانيين الذاهبين إلى أعمالهم أو إلى مدارسهم.
أربعون ألف سوريّ من أصل مليون ونصف المليون لاجئ بحسب التقديرات الرسمية أو من أصل مليون ومئة ألف لاجئ بحسب الأرقام الصادرة عن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين. هذه المشاركة الهزيلة صنعت صورة طبعت الجوّ اللبناني في هذا النهار. بين 2،6% و3،6% من اللاجئين السوريين (هذا على افتراض أن كل الذين سجلوا أسمائهم في السفارة توجهوا إليها) سمحوا للسفير السوري في لبنان علي عبد الكريم علي بالإطلالة عبر شاشة الـ”أل. بي. سي” والتبجّح بدعوته السوريين إلى “عدم التوجه إلى السفارة بأعداد كثيفة”. نجحت المسرحية.
على طريق الحدث التي توصل إلى غاليري سمعان حيث تلتقي مجاميع السوريين المتوجهين إلى سفارة بلادهم، كان يسير موكب مؤلف من حافلات وميني باصات و”بيك آبات” تنقل وفداً انتخابياً سورياً يرفع صور بشار الأسد والأعلام السورية. فور وصوله إلى أول طريق الحازمية التقى بوفود أخرى كان يحمل بعض المشاركين فيها طبولاً تدقّ على إيقاع طبول الحرب الدائرة في سوريا منذ أكثر من ثلاثة سنوات.
آلاف السوريين انتشروا في الشوارع والطرقات المؤدية إلى اليرزة منذ الصباح حاملين عدّة “احتفاليتهم” من أعلام وصور لرئيسهم. مئات منهم كانوا يسيرون على أقدامهم وإلى جانبهم آلاف يستقلون الحافلات والسيارات للمشاركة في انتخابات الخارج. لم يخل المشهد من صدامات خفيفة مع القوى الأمنية اللبنانية المولجة حمايتهم بسبب عدم التزامهم بتعليماتها.
في السابعة صباحاً فتحت السفارة السورية أبوابها للمقترعين. ولكن، “نظراً للاقبال الكثيف على الاقتراع”، بحسب تعبير السفير السوري، تقرر تمديد الاقتراع حتى الساعة العاشرة مساءً وتخصيص يوم غد الخميس لمن لم يستطيعوا الإدلاء بأصواتهم. “هذا ما يفرضه حجم الاقبال”، قال علي. في تصريحاته، ضخّم السفير السوري مما يحصل. مشاركة ضئيلة للاجئين السوريين في الانتخابات سمحت له، في تصريح أدلى به إلى “الوكالة الوطنية للإعلام”، باعتبار أن “السوريين في الداخل والخارج، إحساسهم بالسيادة كبير وهذه الحماسة على الانتخاب تعبير عن رفض كل صيغ المؤامرة التي حيكت ضدهم، وتعبير عن الشعور بالأمان والقوة والسيادة لبلدهم، فسوريا هي الناخبة والمنتخبة”. “هذا ردّ على كل الذين راهنوا على إسقاط سوريا، وتعبير على أن الشعب السوري متمسك بأرضه ووطنه وسيادته”، قال في حديث إلى التلفزيون السوري.
هذه الصورة التي نجح النظام السوري وحلفاؤه اللبنانيون في صناعتها لم تأت من فراغ، فهي نتيجة لمشاهد جزئية متعدّدة غابت عن الإطار الذي التقطته الكاميرات. لا شك في أن الأسد يحظى بشعبية حقيقية في بعض أوساط اللاجئين ولكن هذه الشعبية لا تفسّر لوحدها ما حصل في اليرزة.
في الصباح الباكر، كان حارس إحدى البنايات السكنية في عين الرمّانة يتناقش مع أخيه. أخبره بأنه غير قادر على الذهاب إلى السفارة لأنه لا يستطيع الابتعاد عن البناية لوقت طويل فردّ عليه أخوه: “سوف يطبعون على قسيمة العودة (بطاقة يعطيها الأمن السوري للمواطن الخارج من البلاد) أننا شاركنا في الانتخابات ومن دون ذلك لن نستطيع الدخول إلى سوريا”. هذا جزء من شائعات كثيرة عمل البعض على بثها في أوساط اللاجئين السوريين.
وفي الصباح الباكر كان المشهد صادماً في موقف حيّ السلّم، أحد الأحياء الشعبية في ضواحي بيروت الجنوبية. هناك، رُفع علم سوري كبير إلى جانب مكبّرات صوت تصدح منها أغاني تشيد بالرئيس بشار الأسد. في تلك الزاوية من مساحة الموقف تجمّع حوالى ثلاثمئة سوري، من نساء ورجال وحتى أطفال صغار لا يحق لهم الاقتراع، تمهيداً لنقلهم بحافلات كبيرة إلى اليرزة. كانوا يسجلون أسماءهم لدى منظمي الحدث ثم يستقلون الحافلات. بينهم انتشر الشباب المنظمون وكانوا يرتدون قمصاناً عليها “زوبعة” الحزب السوري القومي الاجتماعي أو علم حزب الله.
تم التقاط الصورة الانتخابية الأولى. الآن يجري التحضير لالتقاط صورة ثانية، في الثالث من حزيران.
المدن

 

حين ينتخب المرء جلّاده/ محمّد العطّار
خلال عشر دقائق، وهي المدة التي استغرقتها لأترّجل من السرفيس الذي أقلني من وسط بيروت، كان عليّ الإصغاء إلى كمّ مهول من الشتائم على لسان مُتّصلين بأحد البرامج في “إذاعة الشرق” بالذات. بدا البرنامج الإذاعي فرصة لمواطنين لبنانيين ليفرّغوا غضباً شديداً، وهم عالقون لساعاتٍ طوال على الطرق بسبب تدفّق سوريين نحو سفارة بلادهم في منطقة اليرزة. المذيع قطع الاتصال مع أحدهم مستدركاً بارتباك “الأولاد بسوريا ما بيستاهلوا اللي عم بيصير”! فمحدّثه كان يصرخ: “السوريين بيستاهلوا اللي عم بيصير فيهم وأكتر”. فيما عبّرَ متصلٌ آخر عن يقينه بأن أهل منطقته على وشك ارتكاب مجازر قريباً بحق السوريين الذين تدفّقوا على لبنان وجلبوا معهم كل الشرور! مجدّداً لم أصل إلى نهاية مشواري بالسرفيس، ترجلتُ للمرة الثانية في يوم واحد تجنّباً لمزيدٍ من جرعات الكراهية ومن نقاشات لا طائل منها.
والحق أن لغضب اللبنانين في يوم “العرس الديم,قراطي” أسباباً وجيهة. تتعدّى بكل تأكيد أن يعلق موظفون وطلاب في اختناق مروري امتد لساعاتٍ طوال، في اليوم ذاته الذي وصلنا فيه بيان وزارة الداخلية والبلديات اللبنانية، عبر هواتفنا المحمولة، لينصّ أن “على النازحين السوريين عدم المشاركة في أي لقاء أو حدث سياسي علني قد يؤثر في الأمن والاستقرار والأمن في لبنان أو في علاقة النازحين السوريين بالمواطنين اللبنانيين”.
لكني كسوري غاضب في لبنان، كعموم اللبنانين والسوريين هذه الأيام، أحاول أن أكظم غيظاً من تصاعد لهجة عنصرية تشمل جميع السوريين في يوم الانتخابات المجيد هذا! ينبع الغيظ من يقيني بأن اللبنانين “الحانقين” يدركون بأن حلفاء النظام السوري يملكون اليد الطولى في لبنانهم اليوم. هؤلاء قادرون بكل تأكيد على التأثير في قرار سوريين لاجئين حول الانتخاب. ليس بالتهديد المباشر بالضرورة، وإنما بالتذكير، المُتاح في كل حين، بأن النظام السوري ما زال حاضراً هنا، له عيونه وآذانه. وبالترغيب حيناً، والذي لا نعرف حدوده فعلاً، كأن يصرّح السياسي البعثي اللبناني عاصم قانصوه بأن أفراداً -هو من ضمنهم- يساعدون اللاجئين على السفر إلى بيروت للإدلاء بأصواتهم في السفارة (رويترز). في مقابل ذلك، وكسوري غاضب في لبنان أيضاً، أجد أنه من المشين ألا ينشغل معارضون سوريون إلا بسردياتٍ تقول إن من ذهب إلى السفارة اليوم، فعل ذلك بضغطٍ من حزب الله أو سواه. أو قدم عبر حافلات مُسيّرة من دمشق. فحتى إن صح جزء من هذا، ففي الاعتماد عليه فقط ما لا يليق بحسن التقدير ومعرفة طبيعة الأمور على الأرض، وهو في مجمله استمرارٌ في نسب كل شيء إلى نظرية مؤامرة مقابلة للنظرية الأم التي عاش عليها النظام طويلاً. هناك إذاً من ذهب إلى السفارة بإرادته، لا شك بهذا.
لكن، بين السوق نحو الانتخابات عنوةً أو الذهاب حبّاً ورغبة، لماذا يبدو انعدام الحيلة ممزوجاً بخوفٍ راسخٍ في الصدور، السبب الأول وراء قرار معظم من ذهب للانتخابات؟ سأذكر هنا نماذج ثلاثة لأشخاص عرفتهم عن قرب.
“ن” شاب في أوائل العشرينات من عربين بريف دمشق، قدم إلى لبنان منذ عام ونيف تقريباً، عمل في رَكن السيارات لرواد أحد المحلات. “م” شاب في مطلع العشرينات أيضاً، من حلب، قدم إلى بيروت هرباً من الخدمة الإلزامية، يزاول حرفته كحلاق رجالي كي يساهم في إعالة أسرته التي ما زالت إلى اليوم تقطن أحد أحياء القسم الغربي من حلب والذي تسيطر عليه قوات النظام. فيما “ع”، في مطلع الثلاثينات، من ريف حلب، يعمل في توصيل الطلبات لأحد المطاعم، وهو متزوّج وله ولدان. لا يدين أحد من هؤلاء بالحبّ لبشار الأسد. خرجوا من سوريا إما لأنهم خسروا بيوتهم أو تعرضت مناطقهم لتنكيلٍ من جيش النظام أو لأنهم لا يريدون الالتحاق بالجيش، وهم كلهم بالطبع خرجوا لتحصيل رزقهم بعدما تقطعت بهم السبل، وهو حال عموم السوريين في لبنان اليوم. لم يلاحق النظام أياً منهم بشكل مباشر. الحق أنهم لم ينخرطوا بشكل فعّال في الثورة عليه، لكنهم انتموا إلى مجتمعات حضنت الثورة وعوقبت لأجل ذلك.
والد “ن” مثلاً كان سائق تاكسي، وقد اعتُقل عند حاجز أمني من دون أي سبب جلي، وما زال مغيّباً منذ ما يقرب السنة، من دون أن يعلم ذووه إن كان على قيد الحياة أم لا! الثلاثة ما زالوا قادرين على عبور الحدود بشكلٍ رسمي، لزيارة أهلهم، حين يتمكّنون من نيل إجازة، وهو أمرٌ نادر. الأهم أنهم ما زالوا يشعرون بأن لبنان يضيق بهم وعليهم، وهم لا يملكون إلا التفكير بأنهم ربما يضطرون للعودة إلى سوريا في وقتٍ قريب. هذا بالضبط ما دفع الثلاثة للذهاب للانتخاب، من دون الحاجة إلى تهديد مباشر من أي جهة. إنها الخشية من إجراءات عقابية عند دخولهم سوريا. ورغم عدم رغبتهم فعلاً في رؤية الأسد الابن يحكم سوريا لسنوات مقبلة، انتهى الأمر بثلاثتهم ينتخبونه بالذات! لأنهم بالضبط يشعرون بأنهم متروكون لمصائر قاسية، ولأنهم يشعرون أن لا سند يحميهم إن صحّت الإشاعات التي تقول بأن من لن ينتخب لن تمدّد وثائق سفره! ولأنهم قبل كل ذلك أدركوا جيداً أن العالم كله فشل في، أو لم ينوي أصلاً، إيجاد أي أطر بديلة لتحكم النظام برقاب السوريين بوصفه الجهة الوحيدة التي ما زالت مخولة إصدار أوراق ثبوتية ووثائق سفر لجميع السوريين، حتى أولئك الذين يزدريهم هو، ويدمّر بيوتهم ومدنهم!
أكاد لا أجد أمراً أشد قسوة وغرابة من أن ينتخب “ن” رئيس النظام الذي اعتقل أباه، وربما قتله! “ن” ما زال يملك عائلة نزحت إلى إحدى ضواحي دمشق القريبة، له أم وأخ وأخت صغيرة، جُلّ ما يريده أن يعيلهم. هذا يقول أشياء كثيرة عن أحوالنا اليوم، وعن عالمٍ متخاذل وقاس فعل كل شيء كي يتأكد أننا سنُدجّن من جديد.

كان عصيباً أن أراقب نظرات “ن” المنكسرة مساء اليوم الذي انتخب فيه! وفيما تخوض المدينة من حوله نقاشات صاخبة، من اتهامات لتخاذل من انتخبوا، لشتائم لأنهم أغلقوا الطرقات، بقي “ن” مشغولاً بركن سيارات مَن يتحدثون عنه…
المدن
البقاع: توتر 3 حزيران/ لوسي بارسخيان
ساعات على انتهاء المسرحية الانتخابية في اليرزة، حتى بدأت الأصوات المعترضة تظهر في غير مكان. النازحون السوريون وتحديداً المعارضين للنظام السوري، التزموا الصمت “احتراماً لقرار وزارة الداخلية قبل نحو أسبوع والذي منع التجمعات السياسية”. مشهد اليرزة دفعهم إلى الخروج عن صمتهم، لكن بطريقة “لائقة وحضارية”. منشورات في البقاع وتظاهرات “سلمية” في طرابلس. “لا لقاتل الأطفال” كتبوها في انتظار تحركات أكبر سيقومون بها يوم 3 حزيران.
هذا الجو المُتشنج، زاد عليه سفير النظام السوري في لبنان علي عبد الكريم، الذي أكد “وجود مراكز انتخابية حدودية في 3 حزيران”. أي أن غالبية من سينتخب سيعبر بلدات البقاع وصولاً إلى المصنع، وهذا ما يشي باحتمال حصول أكثر من إشكال، إذا ما صدر قرار إلغاء عملية الانتخاب، طالما أن من هو مع بشار الأسد، انتخب في سفارته، بحسب ما تقول مصادر في الإئتلاف السوري المعارض لـ”المدن”.
على أي حال، وفيما يشبه الحالة الاعتراضية على مشهد اليرزة، رميت منشورات ليل الخميس الجمعة في بلدة سعدنايل حيث يتواجد واحد من اكبر التجمعات للاجئين السوريين السورية في قضاء زحلة، حملت صوراً للرئيس السوري بشار الاسد كتب عليها:”لا شرعية لمن قتل الاطفال” و”ارحل شو نسيت” واخرى تحمل عبارة “لا للأسد” و”انتخبوا من شرد شعبه”.
الحملة تخطت حدود سعدنايل، الى بلدات اخرى تشارك سعدنايل توجهها السياسي وابرزها مجدل عنجر، تزامنا مع معلومات تحدثت عن التحضير لتظاهرات لم تترجم واقعيا بعد صلوات الجمعة، للتعبير عن حالة الغليان التي تعيشها معظم تجمعات السوريين في منطقة قضاء زحلة، ومعها المجتمعات اللبنانية التي ابدت تعاطفا مع المعارضة السورية منذ بداية ثورتها.
في محاولة لاستطلاع آراء مقيمين في مخيمات برالياس ومجدل عنجر عن موقفهم من الانتخابات الرئاسية في سوريا، لم يفصح اللاجئون عن موقفهم من المشهد الانتخابي امام السفارة السورية، ولكنهم بالمقابل لا يترددون في تأكيد عدم الاستعداد للإدلاء بأصواتهم في الموعد الجديد المعلن لاجراء الانتخابات يوم 3 حزيران، في المواقع الحدودية المحددة، ومن بينها المركز الذي
سينشأ عند حدود المصنع.
لا تُقلق المقيمين في هذه التجمعات التهديدات التي اشيعت عن اقتصاص النظام من المتخلفين، فهم كما يقولون لن يعودوا الى بلادهم “إلا عندما يرحل بشار ونظامه من الحكم”. علماً انه حتى لو رغب البعض بالإدلاء بصوته، فإن اعدادا كبيرة من الذين وصلوا الى تجمعات الخيم في البقاع انتقلوا الى لبنان عبر المعابر غير الرسمية، من دون اوراق ثبوتية، وفي حالة طوارئ حتمت إيواءهم كلاجئين. مرجعيتهم الوحيدة في البلد الذي استضافهم هي قوائم الهيئات الاغاثية التي تتحدث عن مئات تجمعات الخيم في قضاءي البقاع الاوسط والغربي، يتركز معظمها في القرى السنية التي استضافتهم.
هنا، يُطرح السؤال عن قدرة النظام السوري ومن يحالفه من اللبنانيين، على تجييش الناخبين بالاعداد التي تمكن من حشدها خلال انطلاق الانتخابات في السفارة السورية. وكيف ستتصرف المرجعيات الامنية والسياسية اللبنانية تجاه الخطر الامني المتأتي من محاولة تكرار صورة اليرزة في انتخابات 3 حزيران؟ خصوصا ان اي انتقال الى معبر المصنع الحدودي في البقاع يعني المرور حتما بشريط من القرى السنية المعارضة للنظام، ما يرفع من درجات القلق الامني والتوتر، في بلد يدفع فاتورة تداعيات الأزمة السورية على كل المستويات.
المدن
نظام الأسد قبيل الانتخابات الرئاسية 2014 في سوريا
مهزلة انتخابية ونظام لا يعرف أية معايير أخلاقية
تشهد سوريا في بداية شهر حزيران/ يونيو 2014 “انتخابات رئاسية”، يسعى من خلالها الرئيس السوري بشار الأسد إلى إعادة انتخابه لولاية جديدة مدتها سبعة أعوام. وقبيل هذه “الانتخابات”، تسير آلة الدعاية الخاصة بالنظام السوري على قدم وساق، تماماً كسعيها منذ بداية الثورة السورية إلى التأثير على الرأي العام السوري والدولي لصالح السلطات السورية. مارتينا صبرا تسلّط الضوء لموقع قنطرة على هذه “الانتخابات” وعلى مكائن البروباغندا السياسية المرافقة لها.
تظهر على ملصقات أكبر من قامة الإنسان صورة لبشار الأسد وهو يحيّي الناخبين بابتسامة ودّية. ونقرأ بجانب صورته هذه عبارة: “سوا” التي تعني “سويةً”. تهدف حملة الرئيس السوري إلى جعل الناخبين السوريين يوافقون، في ما يطلق عليها اسم “انتخابات” موعدها في الثالث من شهر حزيران/ يونيو 2014، على إعادة انتخاب نظام الأسد لولاية رئاسية جديدة تستمر على الأقل سبعة أعوام أخرى.
تم تصوير العديد من أشرطة الفيديو القصيرة لحملة “سوا” الانتخابية. ومن بين هذه الأشرطة، نشاهد شريط فيه طفلان من تلاميذ المدارس، يقومان بزيارة مقبرة في يوم مشمس، ويضعان الزهور على قبر وهما يبتسمان بسعادة وبهجة، وكأنما أعطاهما “العم بشار” مصاصة حلوة.
تبدو هذه الصور تافهة وبشعة نظرًا إلى الوضع الحقيقي في سوريا: إذ يوجد نحو خمسة ملايين طفل سوري هاربين من وطنهم، وهناك ثلاثة ملايين طفل لا يذهبون إلى المدرسة، وحتى الآن قُتل في الأزمة السورية أكثر من 12 ألف طفل سوري بحسب أرقام منظمة اليونيسيف – معظمهم بأسلحة النظام. وبالإضافة إلى ذلك يتم حاليًا احتجاز عدد غير معروف من الأطفال الصغار جدًا في سجون النظام كما يتم تعذيبهم، من أجل الضغط على أهاليهم أو أقربائهم الذين يشتبه بأنَّهم معادون للنظام.
وفي فيديو آخر من أشرطة الحملة الانتخابية، تظهر حشود من المواطنات والمواطنين السوريين، الذين من الواضح أنَّهم مبتهجون، وهم في طريقهم إلى العمل ومعهم خوذات صفراء اللون نظيفة وناصعة.
نظريات المؤامرة وقلب الحقائق
من المفترض أن تعمل أشرطة الفيديو هذه والملصقات على حفر فكرة في أذهان المواطنين السوريين، مفادها أنَّ أجهزة السلطة في نظام الأسد ليست المسؤولة عن القتل والدمار. بل إنَّ سوريا هي ضحية لمؤامرة حاكها الغرب، وتتم إدارتها من قبل الولايات المتَّحدة الأمريكية وإسرائيل ودول الخليج. إنّ سقوط أكثر من 160 ألف قتيل وتدمير البنية التحتية بكاملها تقريبًا وكذلك تفكيك البلاد واقتلاع نصف المواطنين السوريين من جذورهم – جميعها أمور يتم تصويرها كوسيلة للدفاع المشروع عن النفس في معركة النظام السوري “الشجاع ضدّ الإمبرياليين البشعين”.
حملة الأسد الانتخابية “سوا” مسرحية غير معقولة – “تبدو هذه الصور تافهة وبشعة نظرًا إلى الوضع الحقيقي في سوريا: إذ يوجد نحو خمسة ملايين طفل سوري هاربين من وطنهم، وهناك ثلاثة ملايين طفل لا يذهبون إلى المدرسة، وحتى الآن قُتِل في الأزمة السورية أكثر من 12 ألف طفل سوري”، مثلما تذكر مارتينا صبرا.
ربما يبدو هذا أمرًا غير معقول، بيد أنَّ استراتيجية النظام السوري تكمن في قلب الحقائق إلى نقيضها من خلال الدعاية، وقد كانت هذه الاستراتيجية حتى الآن ناجحة من دون شكّ. فمنذ شهر آذار/ مارس 2011، استنكر النظام السوري كلّ أشكال المعارضة – وحتى الاحتجاجات السلمية، ووصفها بأنَّها إرهاب إسلامي أو حتى مؤامرة غربية، أو كلاهما في الوقت نفسه. وكان الهدف من ذلك تشويه سمعة الثورة في جميع الاتّجاهات، سواء لدى الدول الأجنبية أو لدى الشعب السوري.
من أجل السيطرة على الرأي العام في البلاد، تستخدم أجهزة السلطة السورية وسائل مختلفة. ومن بين هذه الوسائل “الاعترافات” القسرية: اعترافات كاذبة – غالبًا ما يُدلي بها مواطنون سوريون أو أجانب، تم اعتقالهم بشكل غير قانوني، كما يتم إجبارهم على “الإعلان” أمام الكاميرات عن أنَّهم جواسيس وعملاء سِرّيون أو مخرّبون أو إرهابيون.
“عين الأسد الساهرة”
من أشهر الأمثلة الحالية على هذه الاعترافات، قضية طالبة علم النفس مريم حايد البالغة من العمر 23 عامًا، وهي من أهالي العاصمة دمشق. لم تكن لهذه الشابة بحسب معلومات أقاربها وأصدقائها أية نشاطات سياسية. ولكن مع ذلك، تم اعتقالها في شهر كانون الثاني/ يناير 2014 أثناء مداهمة منزل ابن عمها في دمشق وقد تم نقلها إلى مكان غير معروف.
بعد ستة أسابيع ظهرت مريم حايد – في التلفزيون السوري الرسمي. وفي برنامج “العين الساهرة” المعروف، تحدّثت هذه الطالبة عن “جرائمهما” مع شاب من المفترض أنَّه شريكها، وكان من الواضح أنَّها قد تعرّضت إلى الضغط؛ قالت إنَّهما قاما بتوزيع منشورات وملصقات تطالب بالديمقراطية. بالإضافة إلى ذلك أقرّت بأنَّهما قاما بتزوير تقارير مصوّرة لمظاهرات سلمية ضدّ النظام وباعاها لوسائل إعلام معادية لسوريا في الخارج.
معتقلة في طواحين آلة الدعاية و”صناعة الاعترافات” الخاصة بنظام الأسد – تم إجبار الطالبة الدمشقية مريم حايد على الاعتراف في البرنامج التلفزيوني المعروف “العين الساهرة” بقيامها بنشاطات مزعومة معادية للدولة والنظام.
في هذه الأثناء تم اتّهام مريم حايد رسميًا بتشكيل تنظيم إرهابي. ولكن لا يزال من غير الواضح متى تتم محاكمتها. كما أنَّها لا تزال موجودة في السجن. قام عالم الاجتماع السوري حايد حايد المقيم في لبنان، وهو أحد إخوة مريم حايد، بتحليل الاعترافات الوهمية التي يتم بثّها ونشرها في وسائل الإعلام السورية. وفي مقال له تم نشره قبل فترة غير بعيدة وصدر أيضًا باللغة الألمانية، ذكر أنَّ التلفزيون السوري يستخدم منذ عدة أعوام الاعترافات العلنية والمبايعات المزعومة أو حتى المجرمين الحقيقيين كأدوات للدعاية.
ويقول حايد حايد إنَّ “الاعترافات” المزعومة قد تضاعفت كما تم تطويرها كثيرًا منذ بداية الثورة في شهر آذار/ مارس 2011. وفي حوار مع موقع قنطرة ذكر أنَّ “الكثيرين من السوريين لم يعودوا منذ فترة طويلة يصدّقون ما يُطلق عليها اسم اعترافات، وحتى أنَّهم يقولون نكات حول ذلك. ولكن مع ذلك لا يزال يوجد الكثيرون ممن ينخدعون بهذه الأكاذيب والتضليل. كما أنَّ النظام بدأ في صياغة السيناريوهات بطريقة أحدث. ولذلك يمكن الحديث عن صناعة الاعترافات”.
آثار معلوماتية للدعاية الأسدية
يسعى نظام الأسد إلى مراقبة المعلومات الموجود حول سوريا في دول الخارج أيضًا. ومنذ شهر آذار/ مارس 2011، باتت فرص عمل الصحفيين الأجانب المستقلين، والتي كانت حتى ذلك الحين محدودة للغاية، مستحيلة تقريبًا برمّتها في داخل المناطق التي يسيطر عليها النظام. وبالتوازي مع ذلك، ازدادت كثيرًا في دول الخارج الهجمات التي تستهدف ممثِّلي وسائل الإعلام وغيرهم من الأطراف الفاعلين المتعاطفين مع الثورة السورية أو الذين يفضحون فظائع نظام الأسد.
وعلى الأقل إنَّ بعض هذه الهجمات تُسجَّل على حساب “الجيش السوري الإلكتروني” (SEA). ففي شهر أيَّار/ مايو من عام 2011 أبلغ خبراء في تكنولوجيا المعلومات من كندا ولأوَّل مرة عن وجود مجموعة من خبراء الكمبيوتر والهاكر، الذين كانت تقود آثارهم الرقمية مباشرة إلى مركز السلطة في دمشق. “تعدّ سوريا أوَّل دولة عربية لديها جيش إلكتروني رسمي، تتم استضافته على الشبكات الوطنية ويقوم بتنفذ هجمات سيبرانية واضحة تمامًا ضدّ أعداء”، مثلما أورد الباحث حلمي نعمان في دراسة موجزة أعدّها لمركز الأبحاث الكندي “سيتيزن لاب”.
ندَّد ممثِّلو مجموعة أصدقاء سوريا بالانتخابات الرئاسية (التي موعدها في بداية شهر حزيران/ يونيو 2014) ووصفوها بأنَّها “مهزلة”. وكذلك أعلن مؤخرًا وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أنَّ هذه الانتخابات التي يسعى من خلالها الرئيس بشار الأسد إلى إعادة انتخابه في خضم الأزمة السورية وأعمال العنف لولاية رئاسية أخرى تعتبر “إهانة” للشعب السوري.
ويهاجم الجيش السوري الإلكتروني بصورة رئيسية ثلاثة أهداف – أولاً: اتصالات المعارضة السورية على شبكة الإنترنت؛ ثانيًا: مواقع المؤسَّسات ووسائل الإعلام الأجنبية، التي يُنظر إليها على أنَّها معادية للأسد – مثل جامعة النخبة الأميركية هارفارد، وهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، وحسابات تويتر الخاصة بصحيفة فاينانشال تايمز ومدوَّناتها، وكذلك حساب تويتر التابع لوكالة الأنباء الأمريكية الرائدة أسوشيتد برس. وثالثًا يقوم قراصنة المعلومات العاملون لصالح نظام الأسد بإغراق صفحات الفيسبوك التي تحظى بشعبية واسعة ومنتديات القرّاء في الصحف الكبيرة بتعليقات ورسائل مؤيّدة للأسد.
جيش إلكتروني للخدمات العسكرية
لقد مدح بشار الأسد عدة مرات وبشكل علني الجيش السوري الإلكتروني. وكذلك يعتقد الخبراء أنَّ هذا الجيش الإلكتروني يشارك أيضًا في تتبُّع المتمرّدين ومعارضي النظام في داخل سوريا. وبالإضافة إلى ذلك يُسجَّل على حساب الجيش السوري الإلكتروني إرسال العديد من الفيروسات والهجمات الخبيثة على الثوّار السوريين المسالمين: فقد وجد خبراء تكنولوجيا المعلومات في أجهزة النشطاء السوريين في داخل سوريا وفي خارجها برامج تجسّس، تقوم بإرسال الرسائل الإلكترونية وكلمات المرور مباشرة إلى عنوان موجود في سوريا. ومن المفترض كذلك أنَّ عمّال الإغاثة الدوليين في سوريا مستهدفون من الهاكر وقراصنة المعلومات العاملين في خدمة النظام السوري.
إنَّ استخدام النظام في دمشق للكتائب الإلكترونية والاعترافات القسرية وأشرطة الفيديو الدعائية والعنف ضدّ الصحفيين والمراسلين المستقلين – خير دليل على أنَّ أجهزة السلطة السورية لا تعرف أية معايير أخلاقية عندما يتعلق الأمر بتضليل الرأي العام. وفي الوقت الراهن يسعى نظام الأسد إلى تقديم نفسه على أنَّه أهون الشرين أو كبديل علماني.
وفي المقابل فإنَّ بعض الإعلاميين والخبراء والسياسيين الغربيين يرغبون في تصديق ذلك – لا سيما وأنَّ المعارضة السورية تمارس هي الأخرى الدعاية وأنَّه بات يتّضح كذلك باستمرار أنَّ العديد من معارضي الأسد لا يؤمنون كثيرًا بالديمقراطية. ولكن مع ذلك تبقى الحقيقة: أنَّ نظام الأسد هو مَنْ يتحمّل المسؤولية الرئيسية عن نشوء هذه الأزمة، وعن الدمار الشامل والقتل الجماعي في سوريا. في الثالث من شهر حزيران/ يونيو 2014 (موعد “الانتخابات”)، لا يتعلق الأمر في سوريا بالعمل “سوا”، أي سويةً وبشكل جماعي، في إعادة إعمار البلاد، بل يتعلق فقط باحتفاظ آل الأسد بالسلطة في سوريا.
مارتينا صبرا
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2014

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى