صفحات العالم

مقالات تناولت انعكاس أحداث الثورة السورية على لبنان

حكمة الفلتان

حسام عيتاني

في أقل من أربع وعشرين ساعة، شعر اللبنانيون بهول الفراغ. أحسوا بأقسى مظاهر الخواء الوطني والوقوف عراة في وجه عواصف منطقتهم، من دون سند أو عون.

مسلحون يخطفون من شاءوا أين شاءوا. عشرات العمال السوريين تحتجزهم «الأجنحة العسكرية» للعشائر. آلاف آخرون يغامرون بالعودة إلى سورية رغم القتال هناك. دول تطلب من رعاياها مغادرة لبنان «فوراً». الوريدان الحيويان الرابطان لبنان بالخارج (طريق المطار ونقطة المصنع الحدودية) يقطعان. سقوط أكثر وسائل الإعلام في هوة السباق الرخيص إلى الخبر حتى لو كان تحريضاً طائفياً صريحاً على القتل.

جرى كل هذا بعد أسبوعين من عيد الجيش الذي رفع الملصقات الدعائية العملاقة على مفارق الطرق وصور قائده في الساحات وخاض حرباً إعلامية شرسة ضد منتقديه وطالب برفع الحصانة البرلمانية عن أحدهم. وهو ذات الجيش الذي لم يظهر عنصر منه لفتح طريق مقطوعة أو لإنقاذ مخطوف. رئيس الوزراء برر الامتناع عن إصدار القيادة السياسية الأوامر اللازمة للقوات المسلحة بالحرص على عدم سفك الدماء. وجرى كل هذا قبل يوم من جلسة للحوار الوطني كان من المفترض أن تبحث في استراتيجية الدفاع الوطني. وكأن تجاهل أمن المواطنين وتناسي الدفاع عن سلامة المقيمين وحق الجميع في التنقل الآمن، ليس مما يستدعي استراتيجية وطنية، أو كأن ترك المسلحين المجهولين-المعلومين يصولون ويجولون في البلاد، يستبطن حكمة الحفاظ على الوحدة الوطنية.

لا حدود للكوميديا السوداء في لبنان. ولا حدود تفصل بين الداخل وتركيبته والخارج وضروراته. وأصاب من قال إن ما جرى في الخامس عشر من آب (أغسطس) في لبنان، هو «الخطة ب» بعد كشف مؤامرة ميشال سماحة – علي المملوك لتفجير صراع طائفي في شمال لبنان.

كان ذلك اليوم، يوم عودة لبنان إلى حالته الخام. الأولى. حالة العصبيات والطوائف المسلحة والانحطاط الأخلاقي لوسائل الإعلام الشديدة التأثير. حالة عجز النخب والمثقفين عن إسماع صوت، ناهيك عن التأثير العملي، على اصطفافات «الأهل» وتحالفات العشائر والاستفزازات المتبادلة. حالة العنصرية اللبنانية الصادرة عن الفقراء والمهمشين الباحثين في اضطهاد فقراء ومهمشين آخرين عن معنى لوجودهم.

ما من ساذج واحد في لبنان يقبل فكرة براءة النظام السوري أو حلفائه (خصوصاً الأقوى من بينهم) مما جرى أمس الأول في الضاحية الجنوبية لبيروت وفي عدد من مناطق البقاع. وما من قارئ متوسط للصحف، يعجز عن رؤية الترابط بين حملة الخطف المنفلت من كل عقال في لبنان وبين القصف المجنون الذي قامت به طائرات بشار الأسد على بلدة إعزاز بهدف قتل الرهائن اللبنانيين والوصول إلى ذات النتيجة التي كان سماحة-المملوك يأملان بها.

باختصار، لا تعلن أحداث اليومين الماضيين في لبنان اضمحلال دواعي الاجتماع اللبناني وغلبة مكوناته الأهلية على صلبه الوطني فحسب، بل تشي أيضاً باستحالة التغيير الديموقراطي في نظامه السياسي واستحالة الثورة والانقلاب على إمساك الطوائف فيه بنواصي الحياة اليومية، وأيضاً باستحالة التوصل إلى التخفيف من طغيان التأثيرات الخارجية على سياسته وأمنه واجتماعه. وهذا أدهى وأمرّ.

الحياة

عن فوضى الشرعيات واختلاط الأهلي والمدني
حسن شامي
«مع أن صورة المجتمع المدني لا تخلو من التعقيد في أي مجتمع، فإن «لبننة» مفهومه زادته لبساً وزادت حدوده إبهاماً. فإذا شددنا على صفة «المدني» وحملناها على معناها الضيق لم يبق كبير شيء، في السنوات الأخيرة على الخصوص، من المجتمع المدني المنظم في لبنان. والمقصود بـ «المعنى الضيق» مقابلة المدني للسياسي أوّلاً بحيث يتسنى له أن يبرز في مواجهة هذا الأخير مطالب الفئات الاجتماعية – الاقتصادية والمطالب المتعلقة بالحقوق والحريات المدنية والسياسية سواء بسواء. فالفئات الاجتماعية – الاقتصادية فئات أوضاع وليست فئات أصول أو تقاليد، على غرار العائلات والطوائف (وحتى القرى والأحياء) مثلاً.

لقد اقتطفنا هذا المقطع من كتاب للباحث والمؤرخ اللبناني الألمعي أحمد بيضون صدر أخيراً في بيروت عن «دار الساقي» في عنوان جامع مانع هو «لبنان، الإصلاح المردود والخراب المنشود». وكلام بيضون مأخوذ من فصل خصصه للبحث في حدود الصفة المدنية والتباساتها، في بلد تجتاحه الطائفية وتقبض فيه على مقاليد الحكم والسياسة والاجتماع. فهو يلحظ بمقدار من التحفظ، أن الدارسين اللبنانيين الذين عاينوا حال اللبس الدلالي المذكور وجدوا حلاً لهذا الإشكال في المصطلح باعتماد التمييز ما بين مجتمع «مدني» وآخر «أهلي». فهم يطلقون على الجمعيات العائلية اسم «جمعية أهلية» فيما يسمون الجمعيات الأخرى المطالبة بقانون مدني للأحوال الشخصية أو بإصلاح نظام الانتخابات «جمعية مدنية».

نرى نحن أن هذا التمييز، على اختزاليته، لا يخلو من وجاهة. فهو مستوحى على الأرجح من تمييز بين نوعين من الاجتماع شدد عليه قبل قرن تقريباً ماكس فيبر. لكننا لا نريد الآن الخوض في كتاب بيضون الذي يمكن أن نعود إليه في مناسبة أخرى، ولا نريد تناول عمل عالم الاجتماع الألماني.

سنكتفي بملاحظة أن أحمد بيضون الذي يدقق في كتابه في المادة اللغوية، العربية كما في الأوروبية المنتجة لكبرى المفاهيم التي تدور عليها الحداثة السياسية، فاته الالتفات إلى أن الأوروبيين يستخدمون ذات الكلمة وهي civil لتوصيف المجتمع المدني والحرب الأهلية. وهذا ما لا يستقيم في لغتنا فلا نتحدث عن «حرب مدنية» لكننا نتحدث عن حرب وعن سلم أهليين. هذا اللبس أو الالتباس بين المدني والأهلي هو مقصودنا. فلنقل إن الصفة المدنية الحديثة العهد والنشأة في أدبياتنا هي ما تطمح إلى تحصيله فئة مستنيرة وعصرية في مجتمعات مركّبة وتعددية فيما الصفة الأهلية تستغرق معظم وجوه الحياة الاجتماعية والثقافية، في المعنى الأنتروبولوجي للثقافة، وقسماً لا يستهان به من النشاطات الاقتصادية ومن بناء السلطة السياسية. وقد يكون بزوغ الصفة المدنية، على اضطراب دلالتها، هو ما شرع يحيل الصفة الأهلية ويقصرها على نمط معين من العلاقات والسلوكات المحكومة بالذواء أو الارتسام كمعالم شبه فولكلورية تستحضر ماضياً يفترض فيه، في منظار حداثة موعودة ومستعجلة، أن يكون قد مضى. على أن الناظر في أحوال المجتمعات العربية يقع على تنويعات ومقادير مختلفة من الصفة الأهلية واختلاطها بالسياسة وبالصفة المدنية. وليست علاقات القرابة وعصبياتها العائلية والعشائرية هي وحدها حاضنة الصفة الأهلية، إذ يمكن الانتماء المذهبي والديني والجهوي والمهني أن يحاكي مثال القرابة ويحتضن في أوساط كثيرة ضروباً من اللحمة العامية والأهلية.

لقد أخرجت الانتفاضات العربية من أحشاء مجتمعاتها ظواهر كثيرة بقيت مكبوتة ومخنوقة في ظل نظم سلطوية ضاغطة واستئثارية. وسيكون من الصعب في المدى المنظور أن تنتظم هذه الظواهر في مرجعية واحدة ومستقرة. فرفع المكابس الأمنية فتح الباب أمام شرعيات متضاربة قد لا تكون المواطنة وما تستدعيه من نظم حقوقية وفضاء عام وولادة أفراد أحرار في سلم أولوياتها. ينبغي بالطبع التعامل على حدة مع الحالتين المصرية والتونسية لاعتبارات معروفة من دون أن يعفيهما ذلك من صراعات مقبلة على أسس الشرعية وأشكال ممارسة السلطة.

وليس هناك أكثر التباساً، وأكثر توريةً ربمـــا، مـــن مصطلحـــ الدولة المدنية الـــــذي أطلقته الانتفاضات العربية. فهو يتقدم كتعويذة لطمأنة الفئات المرتابة من تحول القوى الفائزة في الانتخابات إلى قوة استملاك للفضاء العام ولمفاصل السلطة الإدارية والرمزية. يجري تعريف الصفة المدنية للدولة بطريقة سلبية، أي أنها ليست عسكرية ولا دينية، بمعنى أنها ليست دولة جنرالات وضباط أمن ولا دولة ملالي ومشايخ معممين. وهذا التعريف ضعيف وفقير إذ يفــــوته أن المجتمعات الأهلية المستندة بهذا المقدار أو ذاك إلى وحدة أصل ومعتقد ونسب وتقليـــد، قــــادرة على توليد «مدنيين» أكثر عسكرة وتديناً أيديولوجياً من العسكر والمشايخ.

نعم، الانتخابات في حد ذاتها، على أهمية وشرعية الابتهاج بحصولها بعد حرمان مزمن، لا تصنع ديموقراطية. فخطر اعتبارها ضرباً من التزكية والتفويض الأعمى يبقى قائماً. ووحده التقليد، المتوارث أو المبتكر، أكان دينياً أو اجتماعياً أهلياً ذا طابع عائلي أو قرابي أو محلي، يصنع جماعة عاطفية أو انفعالية ولا يصنع أمة في المعنى الحديث للكلمة. وتشكل الحالة العراقية المتحررة من قبضة صدام حسين نموذجاً لما يمكن وصفه بالدولة الأهلية إذا جازت التسمية.

يخشى إذاً من تمدد هذا النموذج في سورية وفي لبنان أيضاً. ولا نقول هذا للانتقاص من شرعية الانتفاضة السورية على حكم استملاكي وسلطاني. بل للحض على النظر وأخذ المسافة النقدية. فالنظام الأسدي حقن المجتمع السوري بكميات من العنف قد يكون ثمن الشفاء والتشفي منها باهظاً جداً. والعنف الأهلي الذي شهده لبنان ولا يزال في صورة قطع طرقات وخطف عشائري لسوريين بهدف مبادلتهم بمخطوف من العشيرة في سورية جرى تصوير «اعترافاته» بطريقة استفزازية ومبتذلة، إضافة إلى المخطوفين منذ أكثر من ثلاثة أشهر واستعراض «استضافتهم» القسرية في وسائل الإعلام، كل ذلك ينذر بما هو أسوأ. وليس معلوماً بعد ما حصل للمخطوفين اللبنانيين في أعقاب المجزرة التي سببها القصف الجوي على مواقع في بلدة أعزاز السورية القريبة من الحدود التركية. وكان حرياً بالسياديين وناشطي الرأي العام في لبنان أن يبادروا، من موقع التضامن مع الحراك الـــسوري، إلى المطالبة العلنية بالإفراج عن هؤلاء «المدنيين». فقد يفيد ذلك في تخفيف صفتهم الأهلية ومضاعفات استنفارها، هم وخاطفوهم.

الحياة

الحرب الأهلية السورية كاستمرار للحرب الأهلية اللبنانية

سعد محيو

في حين كان الشعب السوري يخشى بالفعل انتقال لهيب الحرب الاهلية اللبنانية إلى داره، كانت فئاته المُنوّعة تعيش في الوقت نفسه هذه الحرب على مستويات الهويات القاتلة والثقافة.

“البعض يخشى أن تكون ديناميكيات الحرب الأهلية في سوريا قد أصبحت مُتجذِّرة، إلى درجة أنه حتى لو دعمت روسيا أي خطة جديدة حول المرحلة الانتقالية، فلن يكون لذلك تأثير على الأرض”. هكذا أطلّ الكاتب البريطاني أبيجيل فيلدينغ – سميث (فايننشال تايمز – 30/6/2012) على الوضع السوري. إذ يبدو أن السباق بين الحرب الأهلية السورية وبين الحل الدولي – العربي انتهى لصالح الأولى التي أصبح لها اليد العليا الآن، بقرار مشترك من النظام والمعارضة معا. إذ أن الرئيس بشار الأسد أبلغ التلفزيون الإيراني مؤخراً أنه لن يقبل حلاً خارجياً “حتى لو أتى من دول صديقة”. وهذا يعني، في الظروف الراهنة، مواصلة الحرب حتى الرمق الأخير. والمعارضة قالت أنها لن تقبل بأي حل دولي يتضمن شراكة مع الاسد وفريق عمله في أي مرحلة انتقالية. وهذا يعني، في الظروف الراهنة أيضا، مواصلة الثورة المسلحة حتى الثمالة إلى أن تتغيّر موازين القوى العسكرية والسياسية الحالية بالقوة.

هذه الحالة الاستقطابية الحادة بين النظام والمعارضة، تجعل الحرب الأهلية هي “الحل” الوحيد لحسم الأمور أو إيصالها إلى خواتيم ما. أو هذا على الأقل ما تشي به كل تجارب الحروب الأهلية بلا استثناء تقريباً في العالم: فحين يُغلق باب الحوار وتُسد آفاق الحل السياسي، لا يبقى سوى تفجير المجتمع عبر العنف من داخله لاستيلاد واقع جديد.

 إنه “التدمير الخلاّق”. ماذا فعل حافظ؟ لكن، كيف ولماذا وصلت الأمور إلى هذه الهاوية في سوريا؟

السؤال يبدو هاماً من زاوية تاريخية محددة: فسوريا، وعلى عكس توأمها الصغير لبنان، ليس لها ماضٍ من الحروب الأهلية الطائفية. صحيح أنها كانت تشهد أحياناً اضطرابات (كما في القرن التاسع عشر) و”صراعات باردة” بين مكوناتها المذهبية والأثنية، لكن هذه لم تتطور يوماً إلى حرب أهلية مكتملة النمو، ولم تَسُد فيها ثقافة العنف العاري بين هذه المكونات. فلماذا، إذاً، نرى الآن ما نرى من انجراف نحو هذا الأتون الأهلي اللاهب؟

الغوص قليلاً في التاريخ الحديث قد يكون مفيدا:

حين اندلعت الحرب الأهلية الدموية في لبنان العام 1975، حذَّر الكثيرون الرئيس الراحل حافظ الأسد من أنه ما لم يتم العمل على وقف هذه الحرب بشتى الوسائل، سيتمدد لهيبها إن آجلاً أو عاجلاً إلى الوطن السوري. لكن الأسد الأب ببراغماتيته المتطرفة وتحييده التام للمبادىء القومية العربية والقيم الأخلاقية عن العمل السياسي، لم ير في الحرب الأهلية اللبنانية خطراً داهماً بل فرصة مزدوجة: من جهة، إحكام السيطرة على لبنان وبناء امبراطورية إقليمية على رفاته (بالتنسيق مع إسرائيل، كما أثبتت اتفاقية “الخطوط الحمر” الشهيرة معها العام 1976 والتي سمحت لقواته بدخول لبنان)، ومن جهة أخرى بناء استقرار سوريا على لا استقرار لبنان، عبر تخويف الشعب السوري بالصوت والصورة من الكارثة اللبنانية الماثلة لثنيه عن معارضة سياساته.

وهكذا انغمس الرئيس السوري حتى أذنيه في تأجيج الصراع الأهلي اللبناني، تماماً على عكس مافعل الرئيس جمال عبد الناصر إبان حكمه لسوريا، حين قرر وقف الثورة اللبنانية التي اندلعت العام 1958 لصالح جمهوريته العربية المتحدة، لأن هذه الثورة ارتدت آنذاك ثوباً طائفيا. آنذاك رفع ناصر شعاره الشهير “الوحدة الوطنية اللبنانية أهم من الوحدة العربية”.

الأسد فعل العكس، فسلّح تارة المسلمين وتارة المسيحيين، وحارب الحركة الوطنية العلمانية العابرة للطوائف، وحوّل المقاومة الوطنية اللبنانية لإسرائيل إلى مقاومة مذهبية شيعية، ومنح أجهزة مخابراته صلاحية مطلقة كي تعيث فساداً في لبنان على كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبالطبع المبدئية. ولم يُنه الأسد الأب نشاطه التدميري في لبنان، إلا بعد أن سيطر بالكامل على هذا البلد العام 1989 ومجدداً بضوء أخضر إسرائيلي- أميركي.

هذا التوظيف “الاستراتيجي” للحرب الأهلية اللبنانية، حقق للأسد الأب استقراراً مديداً في السلطة ومكّنه في الوقت نفسه من تحويل سوريا برمتها إلى ثكنة أمنية- استخبارية. المقايضة هنا مع المجتمع السوري كانت واضحة: أمنكم مقابل استبدادنا.

بيد أن الرئيس الأب نسي أمراً هاماً في هذه المعمعة الدموية: الحروب الأهلية ليست معارك كر وفر عسكرية، بل هي في الدرجة الأولى ثقافة، وسايكولوجيا انفعالات، وتكريس انتماءات ما دون وطنية وما دون قومية (في العالم الثالث). وهكذا، في حين أن الشعب السوري كان يخشى بالفعل انتقال لهيب الحرب الاهلية اللبنانية إلى داره، كانت فئاته المُنوّعة تعيش في الوقت نفسه هذه الحرب على مستويات الهويات القاتلة (بالأذن من أمين معلوف) والثقافة والسايكولوجيا. النار اللبنانية لم تشتعل حينذاك في سوريا، لكنها بقيت تحت الرماد تنتظر الفرصة المناسبة.

صحيح أن عملية ضرب كل ماهو وطني وقومي ويساري في لبنان، وإقامة التحالفات المذهبية التي تكرّست لاحقاً في الحلف السوري – الإيراني الشهير، لم تنبع من “علوية” الرئيس حافظ الأسد بل من براغماتيته المطلقة، لكن الحصيلة كانت واحدة: ضرب كل ما هو وطني ويساري في سوريا وتمهيد الطريق، بالتالي، أمام انفلات الهويات الطائفية القاتلة، وسقوط البدائل القومية العربية التي وصل على أساسها حزب البعث إلى السلطة العام 1963.

عنب وحصرم

ماذا يعني كل ذلك؟

إنه يعني أن سوريا تدفع نقداً حالياً أثمان سياسات الرئيس الأسد الأب البراغماتية، التي كان واضحاً من البداية لكل من يريد أن يرَ أن لها وجهين كوجهي الأله جانوس: أحدهما مبتسم وهو يدل على النجاحات الآنية للسياسات اللاأخلاقية، والثاني عابس ويعكس الكوارث المطبقة متوسطة وبعيدة المدى لمثل هذه التوجهات.

سوريا تعيش الآن الحرب الأهلية اللبنانية بكل تفاصيلها. إنه الاستحقاق المؤجل الذي خلق في سوريا ثقافة حرب أهلية ساخنة لم تكن تعرفها في تاريخها.

لكن، وكما كل شيء في الفيزياء والطبيعة، ثمة دوماً بدايات لأي شيء.

والبداية كانت مع الرئيس حافظ الأسد الذي أكل الحصرم، الذي يضرس منه الآن ابنه الرئيس بشار.

كاتب سياسي

النهار

تداعيات المسألة السورية

سليمان تقي الدين

هل بدأت الترجمة العملية لمقولة امتداد الحريق السوري والفوضى إلى كل المنطقة إذا اقترب سقوط النظام السوري؟ وبالعكس هل بدأ خصوم النظام في استثمار المأزق وفي هجوم سياسي لترتيب أوضاع الساحتين اللبنانية والسورية معاً؟

هذه الأسئلة لا تفرض نفسها فقط من خلال الكشف عن خلية إرهابية هنا ومحاولة اغتيال هناك، بل كذلك عبر إعادة إحياء محاور النزاع اللبناني وتفعيل حركة الاحتجاج وإزالة المناطق الرمادية من كلا الجانبين، والاشتراطات المتقابلة على الحوار الوطني.

لم يعد كافياً الآن خطاب التهدئة أو التطمين أو «لفلفة» واحتواء بعض حركات التوتر المذهبي. هناك إصرار على ضفتي البلاد العريضتين وتمترس عند مواقف وسياسات سائرة إلى الصدام لا محالة. فما هي الجدوى وما هي المكاسب والإنجازات التي يتوخاها الطرفان من أخذ البلد إلى مواجهة بدلاً من حوار وطني حقيقي يصل إلى تسوية تاريخية تؤمّن مصالح الجميع وتنطوي على قدر كبير من الحقوق المشروعة المطلوبة.

حصل متغيّر إقليمي لا تفيد المكابرة في إنكاره. أصبح «السلاح اللبناني» وحيداً في الجبهة المقابلة لإسرائيل وعليه أن يبقى سلاحاً دفاعياً وطنياً لبنانياً. لم يعد من وجود فعلي لجبهة شرقية ولا لمحور إقليمي دفاعي في المدى المنظور يبرّر أن يرتبط السلاح اللبناني بجبهة أو محور.

فلا فلسطين وغزة على وجه التحديد، ولا سوريا الغارقة في حربها الداخلية شريكتان تحملان جزءاً من تبعات أي مواجهة. صار على لبنان أكثر من أي وقت مضى أن يبحث عن دفاعه الوطني المستقل وأن يعززه بخطاب سياسي وسلوك وحدوي وطني ويدعمه بجهد عربي ودولي حتى لا يقع فريسة استفراد تدميري شامل.

أما الطرف الآخر من المعادلة الداخلية فلا يجوز له أن يراهن فقط على المتغيّر الإقليمي ويظن أنه انتصر على «الطرف الآخر» الشريك في الوطن. والمسألة في كلا الطرفين ليست خطاباً سياسياً وشعارات وجدالا ومناورة، إنها مسألة صياغة الكيان والدولة بجميع مكوّنات الكيان وجميع مفردات ومؤسسات وركائز الدولة. هذه الدولة اللبنانية «الميثاقية» و«التعاهدية» يجب أن ينظر أطرافها في العقد الوطني ـ الاجتماعي بما يزيل الغبن والحرمان والتهميش والامتيازات وعناصر الهيمنة فلا تشكّل «المحاصصة الطائفية» وسيلة للاختلاف أو للتناحر.

في معظم التجربة اللبنانية برغم لا عدالة النظام الطائفي ومضاعفاته فإن المشكلة الأساس هي في الاستخدام غير العاقل وغير المسؤول لهذا النظام من أجل مصالح سياسية اقتصادية ليست هي مصالح الجماعات ولا الضمانات التي تطلبها. ولا يعد «طوباوياً» البحث في السبل التي تفصل حاجة الطوائف إلى الضمانات وحاجات الدولة ومواطنيها إلى تنمية الولاء الواحد وتأمين المساواة بين اللبنانيين وتحريرهم من «الإقطاعية الطائفية».

فالمخاطر المحدقة بلبنان وجودية تطاول كل الجماعات وكل المواطنين، وهي لا تضع أي فريق في مأمن منها. فهذا العنف المنتشر في المنطقة وهذا المستوى من الاحتدام للإرادات المتناقضة، وهذه الثقافة «الدينية السياسية» على اختلاف فروعها ومسمياتها لن توفر أحداً في جماعة أو زعامة أو فئة من الناس. فإذا تجاوزنا مصالح السياسيين التي تأخذهم إلى المغامرة والمقامرة من هذا الشخص أو ذاك ومعظم أفراد الطبقة السياسية عبر تاريخها، فلا بد أن أكثرية اللبنانيين ليسوا مستعدين لا نفسياً ولا مادياً للانخراط في حرب أهلية مفتوحة على مصير مجهول أكثر من سابقاتها وعلى مآسٍ أشد هولاً ممّا جرّبوا ويشاهدون اليوم في محيطهم.

ويبدو واضحاً أن ضعف منسوب المقاومة الشعبية لهذه المخاطر يرتبط بغياب جهة التوجيه وجهة القيادة وجهة التنظيم. فهل تبادر رئاسة الجمهورية مثلاً إلى تنظيم مؤتمر وطني واسع التمثيل لإطلاق حركة مناهضة لكل مظاهر التشرذم الوطني؟ أم أن الرئاسة نفسها تضع جدول أعمال ينطلق من خارطة طريق إلى بناء الدولة بجميع مؤسساتها ومرافقها ولا يقتصر على الانقسام السياسي حول «القضايا الخارجية» ولا حول تقاسم السلطة؟

نعتقد أن الرئاسة هي نقطة الانطلاق ولديها من الوسائل والصلاحيات ما يكفي لمبادرة كهذه بدءاً من توجيه رسالة جامعة إلى ممثلي الأمة.

السفير

تصدير الأزمة السورية

سليمان تقي الدين

قرر النظام في سوريا نقل أزمته إلى لبنان . يعتقد النظام أن تفجير الأوضاع الأمنية اللبنانية يعطي دليلاً على وجود الجماعات المتطرفة ما يبرر للغرب والعرب أن ينقلوا اهتمامهم إلى لبنان وإلى معالجة مشكلة التطرف، وقد يكون للنظام السوري عندها مبررات أو حتى يتم تخفيف الضغط عنه أو مشاركته في العملية السياسية . كشف الأمن اللبناني خلية إرهابية كانت تعد لتفجيرات تطاول الآمنين والمدنيين، كما تطاول شخصيات وتؤدي إلى تأجيج النزاع الطائفي والمذهبي . يظهر بوضوح أن الشمال اللبناني مهدد كي يكون امتداداً للأحداث السورية ولنزاع يقحم المسيحيين هذه المرة في أعمال العنف . ويبدو أن المطلوب هو إشعار المسيحيين بخطر “الجماعات السلفية” ما يؤدي إلى استثمار ذلك على أكثر من صعيد، ومن ذلك دفعهم إلى خيار سياسي مناهض لتغيير الأوضاع القائمة في المنطقة، وتعزيز مخاوفهم من “الإسلام السياسي”، لاسيّما “السلفي” . ولم يكن ذلك أول الغيث في لبنان فقد أصرّ البعض على تظهير هذه الصورة وذهب إلى حد القول بوجود قواعد عسكرية لمثل هذه الجماعات، وشدد على مخاطرها على السلم الأهلي . لكن اللبنانيين بقواهم الأساسية قاوموا حتى الآن الانزلاق إلى العنف الطائفي والمذهبي وسعوا جهدهم إلى احتواء الكثير من التصرفات المشبوهة أحياناً والحركات المنظمة الهادفة إلى تصعيد الانقسام المذهبي . إلاّ أن هذا الحرص على استقرار الساحة اللبنانية لم يكن مضموناً مع تورط بعض القوى في أعمال مختلفة في سوريا أو من خلال مواقف سياسية تظهر أن الحرص على الأمن في لبنان لا يكون بغير دعم مشروع الدولة وتقوية مؤسساتها لا من خلال الخطاب السياسي وحده . ففي مكان ما يشكل الانقسام اللبناني ثغرة واسعة لانفلات الزمام في لحظة من احتدام الأزمة في سوريا أو من دخول جهات خارجية على الداخل اللبناني وتحريكه في هذا الاتجاه أو ذاك . وقد صار معروفاً أن الفرقاء اللبنانيين يتمسكون بخيارات لا توفر أساساً لصياغة الوحدة الوطنية، بل هم ربما لا يدركون أن مثل هذه الخيارات تضع لبنان عاجلاً أم آجلاً في مهب النزاع الإقليمي وتعرضه لأخطار فادحة .

ولم يكن لقاء الحوار بدعوة من رئيس الجمهورية كافياً لتقريب وجهات النظر ولا هو يتناول كل موضوعات الخلاف، ولا يعرض كل الهواجس ولا يوفر ضمانات لجميع الأطراف . فقد كان الأجدر مثلاً إعداد أوراق محددة للحوار وطرح مخارج فعلية شاملة لمصالح اللبنانيين جميعهم، ومنها أيضاً خطة تقوية مؤسسات الدولة ومعالجة الصراع الطائفي التاريخي على السلطة في لبنان . وقد مضى أكثر من عقدين على اتفاق الطائف ومازال هذا الاتفاق محل تفسيرات وتطبيقات مختلفة بعد تعطيل مضمونه الإصلاحي، وإلغاء فكرة التوازن التي قام عليها في موضوع الصلاحيات والسلطات والمؤسسات .

ولطالما تحدث الفرقاء اللبنانيون عن الشكوى والتذمرات من الممارسة السياسية (موالاة ومعارضة)، ما يؤكد رغبة هؤلاء بمراجعة تجربة الطائف أيضاً وتطبيقها باعتبار أن ذلك قد يؤمن التوازن أكثر . لكن الجميع يعرف مخاطر فتح ملف التوازنات الطائفية من دون المشروع الإصلاحي الشامل، من قانون الانتخاب إلى اللامركزية الإدارية، إلى صلاحيات الحكومة ورئيسها إلى صلاحيات رئاسة الجمهورية والقوانين الناظمة للمؤسسات فضلاً عن سلطة القضاء، وتقوية المؤسسات الأمنية ومراجعة السياسات الاقتصادية . غير أن المخاطر المحدقة بلبنان اليوم تدعو إلى ما هو أبعد من الأفكار العامة “الميثاقية” التي صدرت عن اللقاء الأول . فهناك تراجع كبير على الأرض في هيبة الدولة والأمن وفعالية القضاء ومصداقيته، وبات ضرورياً مواجهة المتحاورين بهذه الملفات ومحاولة فصلها عن الانقسام السياسي . ولابُد في هذا المجال من إعادة الاعتبار لآلية تنفيذ اتفاق الطائف عبر إيجاد الهيئة الدستورية التي تضم غير السياسيين أصحاب المصالح، بل تضم الحكماء والعلماء الذين يستطيعون أن يضعوا خططاً جدية لبناء الدولة . على هذا المستوى هناك “الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية”، وهناك المجلس الاقتصادي الاجتماعي ومؤسسات أخرى تحتاج إلى التفعيل فضلاً عن الخوض جدياً في ثنائية التمثيل ونظام المجلسين (النواب والشيوخ) . عندها يستطيع اللبنانيون أن يشعروا باحتمالات إطفاء الأزمة اللبنانية ومعالجة أسبابها .

الخليج

الجمعة

جمهورية مقدادستان!

كان الخامس عشر من اغسطس كابوساً لبنانياً آخر يضاف إلى سلسلة الكوابيس اللامتناهية. أخذ هذا اليوم مكانه إلى جانب تواريخ لا ينساها اللبنانيون، مثل «13 ابريل 1975، و7 مايو 2008»..

بقدرة قادر تضافرت المصادفات. فبعد يوم واحد من اختطاف اللبناني حسان المقداد في سوريا، وتهديد عشيرته بأن «كل سوري في لبنان هو بريء، لكنه هدف»، توالت الأنباء عن استشهاد وإصابة عدد من المخطوفين اللبنانيين في حلب في قصف عنيف على مدينة اعزاز. هنا، «فلت الملق» كما يقال بالعامية اللبنانية. بدأت العشيرة اللبنانية تنفيذ قولها، وخطفت كل من طالته يدها ومن تضامن معها من سوريين في الضاحية الجنوبية، إلى جانب تكسيرها بعض المحالّ التي يملكها أو يعمل فيها سوريون، كما قام أبناء العشيرة بإقفال الطريق الدولي من وإلى مطار رفيق الحريري الدولي. خطْفُ 26 سورياً في يوم واحد، وتهديد أمن آلاف السوريين المتواجدين في لبنان، أعادا إلى الأذهان صوراً من الحرب الأهلية.

هل هي مجرد مصادفات؟ أم أنها الردّ على العبوات الناسفة التي تلقاها الوزير السابق ميشيل سماحة من النظام السوري، والتي اعتُقل بسببها؟ أسئلة كثيرة تُطرح حول خلفيات القضية، وتوقيتها. كل هذا الجحيم يغلي في ظل غياب الدولة وأجهزتها. بلد في مهبّ الرياح، خضع في لحظة شديدة التعقيد إلى سلطة عشيرة مسلحة تضامنت معها عشائر أخرى في كونفدرالية عشائر: عشيرة تتبنى الاختطاف، لها جناح عسكري خاص بها وناطق إعلامي، وتتحدث عن «بنك أهداف» «سوريالية» – لبنانية بامتياز.

عبارة «سوا ربينا»، التي لطالما رددها شباب سوريون أمام لبنانيين، ورفعوها شعاراً يجمع الشعبين في السراء والضراء.. صارت غصة في الحلق. محمود المحرر في إحدى الصحف اللبنانية كتب على صفحته في الفيسبوك: «إذا كان خبر مقتل اللبنانيين المخطوفين في سوريا صحيحاً، وإن لم يكن صحيحاً.. فادعوا لنا يا شباب.. وسامحونا واذكرونا بالخير».

وسط كونفدرالية العشائر هذه التي تحكم لبنان منذ تأسيسه، ليس ثمة مكان للعدالة الإنسانية. إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، دفع السوريون أثماناً عن اللعبة السياسية التي يديرها النظام في بلدهم، وحينها ألقى السيد حسن نصرالله باللائمة على فريق «14 آذار». منذ ذلك اليوم، لا يزال السوريون يدفعون الأثمان الغالية. اعتقالات وحالات خطف وتكسير محال وتهديد أمن تطول كثيراً منها، حتى هؤلاء العمال البسطاء الذين لا ينتمون إلا لحاجتهم في العمل من أجل إطعام أولادهم، أو إعالة أهلهم، أو بناء غرفة صغيرة في إحدى القرى السورية الفقيرة.

26 مخطوفاً تسابقت شاشات التلفزة على استجوابهم «لماذا انت هنا؟ هلى أنت مؤيد للجيش الحر؟»، ليعترف بعضهم «هل يتكلمون بإرادتهم؟»، انهم يعملون «مخبرين» للجيش السوري الحر، وكأن هذا الأخير ترك ميدان معركته في سوريا ويبحث عن معلومات في لبنان!

اللافت في القضية أن عملية الخطف كانت تتم بشكل سريع، قبل أن يتم الإعلان عنها على القنوات التي تتسابق على «سكوب». كأنّ عشيرة المقداد لا تعمل بمفردها، ولا بمساعدة بعض العشائر الأخرى. الأمر أكبر من ذلك، خصوصاً إذا ما تساءلنا عن كيفية اختطاف (بالسرعة الفائقة ذاتها) شخص تركي بُعيد وصوله إلى المطار. وفي تشويق متعمّد، أعلن الناطق باسم آل المقداد عن صيد ثمين سيتم الكشف عن اسمه لاحقاً. إذاً، أهلاً بكم مقدادستان! هذا ما تناقلته تعليقات المواطنين على مواقع التواصل الاجتماعي التي «تسمح» لمستخدميها حتى الآن بطرح آرائهم والتعبير عنها بحرية من دون حواجز أو خطف أو اعتقال.

القبس

حين يختلط الحابل بالنابل
نهلة الشهال

هي محاولة لشرح الأمر لغير اللبنانيين. أما الأخيرون، فـ «يعرفون» عن ظهر قلب، وإن كان هناك شك في طبيعة هذه المعرفة، التي تميل إلى تقبّل الظواهر كافة بحجة وجودها، مبقية إياها في المقابل متجاورة، متتابعة أي- في نهاية المطاف- منفصلة وأحياناً متضادة، كالتضاد المفترض بين حداثة لبنانية ظاهرة للعيان، وخصائص كوزموبوليتية، وتعليم عال منتشر، ولغات أجنبية متقنة، وسفر كثير، وانفتاح على العالم إلخ… وبنى وممارسات قوية الحضور بالمقدار ذاته أو أكثر، فيما هي تعريفاً تنتمي إلى «ما قبل» تلك الحداثة، ومنها الطائفة والقبيلة، والأصح: العلاقات الطائفية، والعلاقات القبلية التي تتدخل في تحديد السياسة والاقتصاد والحياة العامة في البلد.

وهكذا تظهر ضرورة «الوصل» كي يتحقق الفهم، أي رؤية الصلة والتفاعل في آن بين كل العناصر، فيصبح لبنان «الميثاق الوطني»، أي التسوية التأسيسية، هو نفسه وفي آن معاً، حداثوياً وتقليدوياً. بل إن هذه وتلك هما شرط بعضيهما، لتقوم صيغة الميثاق الوطني تلك وتشتغل، ولاستمرار «النظام» اللبناني بمعناه الشامل، وليس المتعلق بالمستوى السياسي فحسب.

وهكذا، لا تبدو تلك الفوضى البالغة التي تجتاح لبنان هذه الأيام وكأنها تزعج أحداً من أهله. فما زالت مقاهي شارع الحمراء وملاهيه مكتظة، وكذلك سائر عناوين السلوى والسهر، تماماً كسابق عهدها طوال هذا الصيف، على رغم شهر رمضان الذي يتوسط الصيف، ومن التدهور المتعاظم في أحوال الجار الكبير، ومن غياب السياح عموماً والخليجيين خصوصاً الذين يُتّكل عليهم لـ «تحريك عجلة الاقتصاد»، وفق الصيغة المعتمدة التي لا تقول أي تحريك ولا أي اقتصاد، لكن غموضها يفي بغرض الإيحاء بالأموال التي تدخل إلى جيوب اللبنانيين في «الموسم» الحاسم.

ولأن للبنان واجهة هي بيروت، بل وبعض أجزاء بيروت، فلا يمس أحداً – بمعنى الصورة الشائعة والمتداولة والمطبوعة في الأذهان عن لبنان، بما فيها أذهان اللبنانيين أنفسهم – أن يكون محصول موسم الزراعة بقي في أرضه نتيجة استحالة التصدير. ولا يخص أحداً أن مدينة البلاد الثانية، طرابلس، تعاني جوعاً حقيقياً، عمَّق ومدَّ تلك النسبة الرهيبة من سكانها الواقعين عند خط الفقر، وفق تقرير الأمم المتحدة: 58 في المئة! وكأن المزارعين اعتادوا الخراب، وتوقعوه وتآلفوا معه، وكذلك المدقِعين في الفقر المزمن. ولعل ذلك التعايش مع الخراب يعزز الإشاعات عن استقرار اقتصاد الحرب الموازي. فثمة أموال، كثيرٌ من الأموال، تصرف في لبنان. تشترك في «رشها» على الناس (بمقادير متنوعة وفق المقامات) كل التيارات والمعسكرات المتقابلة والمتناحرة، ما يخفف وطأة تعطّل الاقتصاد الأصلي (أيهما الأصلي وأيهما الطارئ أو الاستثنائي؟). هذا علاوة على سائر «بزنس» الحرب، والذي قد يتبادر إلى الأذهان أن سجله يقتصر على الإتجار بالسلاح وتهريبه، بينما هو يشمل قطاعات لا تخطر على بال. من لا يذكر كيف ظل عدد كبير من اللبنانيين يتأسفون على انقضاء الحرب الأهلية المديدة، ليس لأسباب تتعلق بالحسابات السياسية لربح هذا الفريق أو ذاك وخسارته، بل لأسباب اقتصادية، قائلين إنهم كانوا يعيشون في شكل أفضل في ظلها، وهي التي طالت كفاية لتحمل معها ذلك المقدار من المآسي والدمار، ولكن، وأيضاً، فرصة نشوء واستقرار علاقاتها، بما هي نمط حياة متكامل.

ظل الوضع على هذا المنوال، إلى أن وقعت حادثة آل المقداد، أي خطف شاب من أبناء تلك العشيرة الممتدة، على يد من يُفترض أنهم من «الجيش الحر» في سورية. وبينما أمكن «حركة أمل» و «حزب الله» ضبط ردود فعل أهالي المخطوفين اللبنانيين الأحد عشر، وقد مضى عليهم ما يقرب من ثلاثة أشهر، فإن العشيرة استعرضت شبانها المقنّعين المدججين بالسلاح، حتى انتشرت الصورة على صدر صفحات الجرائد والمواقع العالمية، لا سيما أنهم قطعوا طريق المطار وتسببوا في اضطراب حركة الملاحة الجوية. بل أصدر «مجلس آل المقداد العسكري» البيان تلو الآخر يتبنى توقيف عشرات من السوريين، وينسب الى بعضهم صفات ومسؤوليات في «الجيش الحر»، ويعلن مطالبه المتلخصة باسترداد حسان المقداد. وقد بدأ يتبلور ما يشبه «الاتحاد القبلي»، يشمل إلى عشيرة المقداد: آل جعفر، وزعيتر، والحاج حسن، وحمية، ودندش، على ما أعلن احد البيانات، يتوزع المهمات ويتعاضد في تنفيذها، على رغم أن أبناء تلك القبائل متنافسون متنابذون في الحياة «العادية»، ولم يُعرف عنهم تآلف مشابه.

مقابل ذلك، وفي تحرك مضاد، استنفر سكان البلدات السنية البقاعية التي تقع على الطريق الدولي باتجاه الحدود السورية، معتدِّين بامتلاك موقعهم ميزة «إستراتيجية» تسمح لأصحابه بالبروز، وهو هنا جذب وسائل الإعلام، في موازاة انجذابها للقبائل تلك، وهي بقاعية أيضاً وشيعية. ها قد بدأت الصورة تتعقد. يضيف الى تعقيدها شبق الإعلام التلفزيوني للتلصص المريض وتصوير وجوه المخطوفين وهم مغلوبون على أمرهم. وشبق الإعلام ليس في نقل الحدث بل في صناعته، عبر منحه مدى لم يكن ليحصل عليه لولا هذه الممارسة. وهكذا يستلطف هؤلاء القوم أنفسهم، فيستعرض الشيخ أحمد الأسير حاله طولاً وعرضاً، ويهرع أحد أفراد عشيرة المقداد لشراء ألبسة وأقنعة موحدة لأبناء عمومته، موفراً لهم مزيداً من الهيبة والصدقية (والفعالية) أمام التلفزيون، أو بفضله.

في السياسة، رفع الحدث الأخير ذاك، والذي لم يكتمل بعد، منسوب التوتر في البلد، الشديد القوة أصلاً بحكم ارتباط لبنان الوثيق والمتعدد بالحدث السوري. وهذا أمر تقريره بديهي. لكنه في الاجتماع، يمثل تحدياً يتعلق بالحاجة الملحّة لإدراك تركيب المجتمع اللبناني (في حالتنا هذه، وهو ما يصح على سواه في المنطقة)، أي معرفة بنيته ووظائف مكوناتها، تخلصاً من تلك الدهشة المتكررة، والبلهاء، حيال الظواهر كلما طرحت نفسها في الواقع المعاش. هذا إن لم نتكلم عن صلة هذه المعرفة باشتراطات إحداث التغيير الذي يشعر الجميع بضرورته الحيوية، من دون تدبر وسائله.

الحياة

لبنان ما بعد الأسد… كما يراه «حزب الله»

محمد مشموشي *

في الأسابيع الماضية، وبالتزامن مع تصاعد الثورة السورية وتزايد نجاحاتها وبدء تفكك النظام في دمشق من الداخل، بدا أن لغة «حزب الله» بالنسبة الى مستقبل سلاحه في لبنان وحتى بالنسبة الى لبنان كله قد تبدلت الى حد كبير. قبل هذه الفترة، كان خطاب الحزب وبخاصة أمينه العام السيد حسن نصرالله يصف سلاحه بأنه دفاعي ضد الاعتداءات الاسرائيلية المحتملة، وبأنه في العموم جزء من «استراتيجية دفاعية» يقول تارة انها قيد البحث بين اللبنانيين في سياق حوار وطني مستمر منذ سنوات، وتارة أخرى أن ما يحكمها في النهاية هو معادلة «الجيش والشعب والمقاومة» التي نصت عليها بيانات وزارية لثلاث حكومات لبنانية على الأقل في أوقات سابقة.

في المدة الأخيرة، طلع الحزب على اللبنانيين بخطاب مختلف بل مناقض تماماً. بدأ يتحدث عما يصفه بـ «مؤتمر تأسيسي» للبنان المستقبل، وكأن لا دستور مكتوباً ولا ميثاق وطنياً موجودان ينظمان شؤون البلد أو يحكمان العلاقة بين أبنائه أو بينه وبين العالم الخارجي، وعن «استراتيجية للتحرير»، قبل أو بالتزامن مع «الاستراتيجية الوطنية للدفاع» المطروحة للنقاش، بدعوى أن لدى لبنان أراضي محتلة (مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وبعض قرية الغجر) وأن تحرير هذه الأراضي واجب على الدولة، وأنه سيكون لكل «انسان» الحق في حمل السلاح واستخدامه للقيام بهذه المهمة اذا لم تقم الدولة بذلك.

لا يمكن فصل هذا الطرح الجديد للحزب عن دوره الاقليمي وعلاقته الايديولوجية والعسكرية والمالية مع ايران من جهة، ولا عن تدهور الحال في سورية وبدء تحلل نظامها السياسي من جهة ثانية. وبهذا، يكون «حزب الله» انما يسعى الى فرض أمر واقع سياسي وعسكري في لبنان يجعل منه ومن سلاحه دولة كاملة الهوية والعدة والتجهيز (غير معلنة، ولكن معترفاً بها بقوة الأمر الواقع) على الأرض اللبنانية وفوق الدولة فيها، فضلاً عن كل ما يتصل بهذه الدولة على المستويين العربي – الاقليمي والدولي.

وبهذا المعنى كذلك، يكون الحزب انما يعمل على أن يبقي لبنان جزءاً مما يطلق عليه اسم «محور المقاومة والممانعة»، والذي كان يضم كلاً من ايران وسورية والعراق و «حزب الله»، بعد سقوط النظام وتغير الوضع في سورية… استناداً الى سلاحه الأقوى من سلاح الدولة من جهة، وعلى الأمر الواقع السياسي والعملي في لبنان بما في ذلك استقطاباته الطائفية والمذهبية من جهة ثانية.

لكن كيف يتصور «حزب الله» تحويل مثل هذا السيناريو الى حقيقة؟ غالب الظن أن الحزب لا يرى نفسه خارج الهيمنة الفعلية على لبنان، ولا أساساً خارج منظومة «المقاومة والممانعة» في المنطقة، أياً كانت طبيعة النظام في سورية، خصوصاً بعد ما يعتبره «انجازات» كبرى تمكن من تحقيقها في الفترة الماضية على الصعيدين المحلي الضيق والاقليمي الواسع. واذا كان سلاحه والتفاف الطائفة الشيعية حوله من ناحية، وخضوع لبنان الدولة للوصاية السورية والنفوذ الايراني من ناحية ثانية، قد وفرا له دوراً مقرراً شبه كامل فيه (مصادرة مجالس نيابية وتبديل أكثريات وأقليات واسقاط حكومات وتعيين أخرى)، فهو لا يتصور أي نوع من التفريط بالسلاح أو بالوضع المقرر الذي نشأ عنه.

من هنا كان تجاوزه لما كان اقترحه هو في السابق تحت عنوان «الاستراتيجية الدفاعية» للتهرب من رفض معظم اللبنانيين لاحتفاظه بالسلاح، واستبداله بما سماه «استراتيجية للتحرير» مع علمه المسبق بعجز لبنان البنيوي، السياسي والاقتصادي والعسكري، عن انتهاج مثل هذا الأسلوب من أجل تحرير بقعة من الأرض لا يملك مستنداً – من سورية أساساً؟! – ولا دليل علمياً على ملكيتها.

والواقع أنه بعد أن دار الزمن دورة كاملة منذ بدء الحوار حول «الاستراتيجية الدفاعية» في 2006، وبدأ الحديث عن الأمرة على السلاح، على افتراض بقائه على حاله، والحاجة الى ان تكون الأمرة بأيدي الدولة وقواتها الشرعية، فانه لم يجد بدا من التراجع عن موقفه السابق واعادة النقاش الى مربعه الأول: لا استراتيجية للدفاع، أو لا استراتيجية للدفاع فقط، وانما استراتيجية للتحرير أولا وقبل كل شيء.

بل أكثر من ذلك، هدد الحزب، ومجدداً تحت شعار «الناس» الذي غالباً ما اختبأ خلفه في تعامله مع كل من قوات «اليونيفيل» والجيش اللبناني في الجنوب، بأن يأخذ قضية التحرير بيده اذا تلكأت الدولة في لبنان عن السير في مشروعه واستراتيجيته لتحرير تلك البقعة من الأرض.

ولا يعني طرح الحزب هذا الا أنه يقرر للبنان، ونيابة عنه، ما يريد له من سياسات داخلية واستراتيجيات اقليمية، وربما يضعها موضع التنفيذ أيضا كما فعل في 2006 بأسر الجنود الاسرائيليين وأدى الى تحميل لبنان أهوال العدوان الاسرائيلي الشامل والمدمر عليه.

هذا على المستوى الاقليمي، وبخاصة منه ما يتعلق بمحور «المقاومة والممانعة» الذي يريد الحزب أن يبقيه حياً، وأن يبقي لبنان عضواً فيه، حتى بعد سقوط ضلعه الآخر في سورية. أما على المستوى المحلي فيكفي النظر الى طرحه الخاص بالدعوة الى «مؤتمر تأسيسي» للدولة والصيغة اللبنانيتين. فالحزب، وان لم يعلن ذلك صراحة، يعتبر أن لبنان بلد قيد التأسيس، أو أقله أنه يريد اعادة تأسيسه، تجاوزاً منه للدستور اللبناني المكتوب ووثيقة الوفاق الوطني، وأولاً وقبل ذلك لـ «اتفاق الطائف» الذي دفع لبنان أكثر من مئة وخمسين ألف قتيل للوصول اليه.

لم يسقط النظام السوري حتى الآن، لكن محور «المقاومة والممانعة» الذي ترأسه ايران ويشكل «حزب الله» أحد أضلاعه، يضع للبنان، الأرض والشعب والدولة، سيناريو مختلفاً لابقائه أسير هذا المحور.

وما سبق من طروحات بدأ «حزب الله» يتحدث عنها علناً ليست سوى بعض ظواهر هذا السيناريو. ووفقاً لهذه الظواهر، فما تتصوره منظومة «المقاومة والممانعة» للبنان في ما بعد تغير الوضع في سورية، هو «لبنان آخر» بكل ما تعنيه هذه الكلمة… «لبنان» الذي تحدث عنه الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد بعد اجتماعه في دمشق مع الرئيس السوري بشار الأسد والأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله، واعتبره عضواً فاعلاً في ما يسمى «جبهة الشعوب المقاومة للاستعمار»!

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

أكلاف استمرار “نظام” حزب الله

حازم صاغيّة

فضلاً عن تحالفهما الوطيد والراسخ، يجمع بين النظام السوريّ و”نظام” حزب الله في لبنان إصرارهما على البقاء رغم كلّ شيء وفي معزل عن كلّ شيء.

وإذا بات واضحاً كم هي كبيرة كلفة بقاء النظام السوريّ على السوريّين، قتلاً للبشر وتهديماً للمدن وتدميراً للاجتماع، فقد انكتشف في غد قريب أكلافاً مهولة يرتّبها بقاء “نظام” حزب الله على اللبنانيّين.

فأحدٌ لا يستطيع اليوم أن يشكّ بالخطر الضخم على الاجتماع اللبنانيّ الناجم عن التحاق “الحزب” وحلفائه بدمشق. فمن الاشتباكات المتقطّعة بين أكروم والهرمل في أقصى الشمال، إلى أوضاع طرابلس القلقة والرجراجة، إلى معادلة المطار مقابل المصنع، مروراً بظاهرة أحمد الأسير في صيدا، يتعفّن لبنان على نحو غير مسبوق. ليس هذا فحسب: إذ فيما كان الكلّ مشغولين بمسألة ميشال سماحة وما تدلّ إليه من نوايا خبيثة ومجرمة في تصدير الأزمة السوريّة إلينا، حصل الخطف الواسع النطاق لسوريّين أبرياء يقيمون في لبنان. ومع الخطف هذا انكشف انكشافاً مريعاً مدى ضعف الدولة التي يُفترض بها أن تحمي اللبنانيّين والمقيمين في لبنان.

لكنْ في مقابل هزال الدولة هذا استعرض المجتمع استعداداته الخصبة للتنازع، وذلك على مستويين: فمن جهة، حضرت إلى الواجهة عنصريّة مقيتة ضدّ السوريّين دلّت، في ما دلّت، على الحدود الخطيرة التي يبلغها احتقان الجماعات اللبنانيّة اليوم، ومن جهة أخرى، تعرّفنا إلى ظاهرة الأجنحة العسكريّة للعشائر البقاعيّة. وهنا لا يغيّر كثيراً في النتائج البائسة ما إذا كانت هذه الأجنحة تلك واجهات لحزب الله أو ما إذا كانت تعبيراً عن نكوص هائل ومسلّح يتململ في قاع المجتمع خلف مظهره المدنيّ والمتمدّن.

ولا تنتهي قائمة المخاوف المشروعة هنا. فنحن نعلم جيّداً أنّ “نظام” حزب الله جعلنا نعيش على حدود نزاع إيرانيّ – إسرائيليّ قد يتفجّر في أيّة لحظة، وقد يتّخذ تفجّره شكل الاستخدام لأسلحة تدميريّة تتطاير فوق رؤوسنا. ومن يدري، ففي حالة كهذه قد يجد الحزب المذكور ضرورة ملحّة للانخراط في هذا النزاع المدمّر وتولّي موقعاً متصدّراً فيه. وهذا معطوف على ما تتناقله العواصم الدوليّة من قلق يتعلّق بترسانة كيماويّة سوريّة، ومن احتمال نقلها إلى لبنان تالياً، من دون أن ننسى الوعيد الإسرائيليّ بسبب قتل عدد من السيّاح الإسرائيليّين في بلغاريا واتّهام الدولة العبريّة إيران وحزب الله بالعمليّة.

يقال هذا الكلام للتنبيه إلى ما قد ينتظرنا جرّاء الإصرار على إبقاء الماضي الميّت حيّاً في حاضرنا ومستقبلنا. فالنظام السوريّ يتهاوى بدليل شواهد لا تُحصى. كذلك فالذرائع التي استُخدمت لإقامة “نظام” حزب الله أوائل الثمانينات انتهت في 2000، سنة الانسحاب الإسرائيليّ من لبنان. هكذا لم يبق من السلاح إلاّ تسميم المجتمع بالأحقاد وتعريضه لأخطار وجوديّة لم يُسأل اللبنانيّون من قبل، ولا يُسألون اليوم، رأيهم فيها.

لبنان الآن

ما الرسائل التي أراد “حزب الله” إيصالها بواسطة آل المقداد؟

شارل جبّور

حاول النظام السوري أن يحقق مع آل المقداد ما عجز عنه مع ميشال سماحة نتيجة إحباط محاولته من قبل فرع المعلومات، إشعال الحرب الأهلية، ولكن لا سماحة ولا المقداد باستطاعتهما تفجير البلاد، وبالتالي ما جرى لا يخرج عن سياق الرسائل التي أراد «حزب الله» إيصالها.لا يمكن وضع ما جرى في الساعات الأخيرة من خطف على الهوية والظهور المسلح المقنع تحت عنوان الجناح العسكري لآل المقداد إلّا في خانة التسيّب والفلتان والفوضى التي تسود لبنان بسبب سلاح “حزب الله”، ولكن الأهم يبقى في التوقيت الذي وقعت فيه هذه الأحداث، أي بعد أقل من أسبوع على اكتشاف المخطط التخريبي المكلّف به سماحة، وعشية التئام هيئة الحوار الوطني، وما بينهما تسارع الأحداث المتصلة بالأزمة السورية وشعور النظام أنه بات في سباق مع عامل الوقت.

ولا يمكن تفسير هذا الظهور المسلح إلّا انه مظلّل من قبل “حزب الله” الذي يتلطّى خلف جناح من بيت المقداد ويضعهم في الواجهة نتيجة مجموعة اعتبارات وعوامل تجعله يبتعد عن المواجهة المباشرة وفي طليعتها خشيته من الفتنة الإسلامية، أو هو نتيجة طبيعية لسلاح الحزب الذي يشجع عمليا كل الطوائف والعائلات والأفراد على اقتناء السلاح فكيف بالحري بعض العائلات الشيعية التي تشكل جزءا عضويا من تركيبة الحزب ومشروعه.

فالمسؤولية الأولى والأخيرة بهذا المعنى تقع على الحزب، خصوصا أن ثمّة في هذا المشهد ما يوحي وكأن القيادة السورية حمّلت “حزب الله” تبعات ما حصل مع سماحة بسبب تمنّعه عن إثارة الفتنة في ظل حاجتها القصوى إلى تفجير الساحة اللبنانية، الأمر الذي دفعه إلى القيام بما قام به تعويضا جزئيا عن “تخاذله” السابق.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ألا يعتبر خطف 11 مواطنا لبنانيا شيعيا زائد خطف المجموعة الإيرانية مؤشراً إلى أن كل شيعي في سوريا بات مهددا بالخطف؟ وماذا يفعل أي شيعي في دمشق طالما أنها تحوّلت إلى مكان غير آمن للشيعة؟

وهناك من يقول لماذا لا يترك “الجيش الحر” الشيعة وشأنهم ويركز جهده على محاربة النظام السوري؟ وفي المقابل ثمّة رأي آخر يقول كيف يمكن تجاهل أن إيران و”حزب الله” يشكلان دعامة الأسد الأساسية ليس فقط عبر مدّه بالسلاح والمال إنما بمساعدته عسكرياً وعملانياً على أرض الواقع؟ ويكفي في هذا الإطار الإشارة إلى موقفين أميركيين: الأول لوزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون التي اعلنت انّ “ايران على غرار “حزب الله” اللبناني، “يمدّان بعمر نظام” بشار الاسد، والثاني لوزير الدفاع ليون بانيتا الذي اتهم الحرس الثوري الإيراني بالعمل على تشكيل ميليشيا في سوريا تقاتل لحساب النظام. وقال: “إننا نشاهد وجودا متعاظما لإيران في سوريا والأمر يقلقنا كثيرا”.

وفي العودة إلى السؤال الوارد في العنوان، فالرسائل التي أراد الحزب إيصالها تكمن في الآتي:

أولا، رسالة أمنية مفادها الرد على إنجاز فرع المعلومات بأن لا أمن في لبنان ولا من يحزنون، وأن المبادرة على هذا المستوى ما زالت في يده، وذلك لإعادة ترسيم حدود عمل هذا الفرع وإعطاء تطمينات إلى القوى الملتحقة بالحزب.

ثانيا، رسالة عسكرية مفادها التحذير والتذكير أنه ما زال بمقدور الحزب قلب الطاولة في لبنان وتكرار مشهد 7 أيار.

ثالثا، رسالة سياسية مفادها أن تطويقه من قبل الثلاثي الوسطي ميشال سليمان ونجيب ميقاتي ووليد جنبلاط سيقود حكماً إلى رد فعل في الشارع، وبالتالي المطلوب من هذا الثلاثي فرملة اندفاعته السياسية

التي في حال استمرارها ستقود حكماً إلى إسقاط الحكومة وعزله سياسيا. فبعد انفجار دمشق الذي أودى بأركان النظام شعر الحزب بتبدّل لافت في مواقف هذا الثلاثي، من مواقف سليمان حيال مذكرة الاحتجاج على الاختراقات السورية والثناء على إنجاز فرع المعلومات والكلام عن استراتيجية دفاع ركيزتها الجيش اللبناني ونسفه لمعادلة الجيش والشعب والمقاومة، إلى حديث ميقاتي عن قيام حكومة تعبّر عن اللحظة السياسية والتوازنات في البلد والثناء أيضا على إنجاز فرع المعلومات، وصولاً إلى جنبلاط الذي حذّر من فوز 8 آذار في الانتخابات وانتقال هجومه من سوريا إلى إيران…

وعليه، شعر الحزب حيال كل ما تقدم أنه لا بدّ من افتعال خربطة أمنية بهدف فكّ الطوق عن عنقه وإعادة الأمور إلى نصابها ودفع القوى السياسية على اختلافها إلى التدقيق في حساباتها.

ويبقى في الخلاصة أن “حزب الله” أعطى إشارة قوية أنه ليس في وارد التنازل عن السلطة ديموقراطياً، وأنه على استعداد لفعل أي شيء احتفاظا بهذه السلطة.

الجمهورية

الفتنة “متلفزة” هذه المرة!

    نبيل بومنصف

قدم 15 آب للاجيال اللبنانية الشابة النموذج الاكثر تحديثا، حتى الان، على مقدمات حرب اهلية تجري الهرولة اليها نقطة نقطة، نموذج يجري “تشريعه”، هكذا بكل الخطورة الفظيعة، تحت عنوان استنساخ الازمة السورية ونقل اهوالها الى لبنان. والمعنى من تقصد الاجيال الشابة هنا، هو انها ادرجت هي الاخرى في مقدم الضحايا المفترضة لاستعادة المهلك اللبناني بعد 37 عاما من تجربة الاجيال التي استهلكت حرب 1975 اعمارها ومستقبلها واجهضتها في المهد.

لا يعود للتنظير السياسي اي معنى او اي مذاق او جدوى في هذا البعد. لا مرأى امام الشباب اللبنانيين سوى عينة في وجدان من سبقهم الى هذه اللوعة والذين استحضروا تواريخ سوداء مثلا السبت الاسود الذي اعتبر شرارة الحرب الطائفية، وايام مماثلة انفجرت فيها الغرائز وتفلتت وفجرت لبنان سحابة 15 عاما. الخطف هو نذير الفتنة ولا وجهة اخرى له سواهما مهما تلونت التبريرات. والاخطر ان تكون النسخة المحدثة، ولو بين لبنانيين وسوريين، مقترنة بواقع مماثل لما جرى قبل 37 عاما هو اندثار الدولة وانقراض آخر معالمها ولو شكليا حيث بدا البحث عنها في ذاك اليوم الاغر كالبحث عن ابرة في بيدر قش.

عام 1975 لم يكن سلطان الاعلام حاضرا ولا صاحب سطوة كما هو الان. في 15 آب الجاري، كدنا لا نصدق هذا السباق الهستيري على “جمهور المشاهدين”. الخطف المتلفز بالصوت والصورة والنقل المباشر تحت مسميات “حربية” جديدة هو الاداة الصاعقة الطالعة علينا، بلا اي وجل وبلا اي قفازات، سباق هستيري محموم على رفع نسب المشاهدين المدعوين الى الذعر والرعب بين الخاطفين ومحطات التلفزيون. هو امر لم يعد مجرد ظاهرة تثير جدلا مهنيا او سياسيا او اعلاميا في اذهان ذاكرة من عاشوا الحرب الاولى ويطلون على مقدمات الحرب الثانية، بل هي الصدمة بعينها حيال شيء يصعب التسليم بمشروعيته ما دام يحفز عفوا او قصدا، بتبريرات او من دونها، على ذلك الامر الاخر المخيف الذي يزحف على لبنان.

في معايير الجيل الاول، وليقل عنه انه رجعي بكل المقاييس، ليس ثمة ما يسوغ اي تشريع قاتل كهذا او لنقل اي “تطبيع” واقعي لهذه الموجات المنقولة مباشرة امام العموم وكأنها ذروة ابداعات التحضيرات والمقدمات للحرب الاهلية. موجات خطف متبادلة بين سوريين ولبنانيين تحول نهاراتنا وامسياتنا “هوليوود جهنمية”. اي فتنة هذه بلا ادنى معايير “اللياقات” وقواعد الحرب على الاقل؟! ومن قال ان الافراط في هذه الابداعات ينطبق على معايير “التحديث”؟

النهار

مبروك عليكم النظام السوري

جهاد الخازن

منذ أشهر وأصدقاء في المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى يتصلون بي ويسألون هل يذهبون الى لبنان لقضاء جزء من إجازة الصيف، وأردّ مشجعاً على الذهاب الى لبنان وحجتي أن القادرين على إثارة المشاكل في الحكومة، ولا سبب للقلق.

لن أدخل في تفاصيل يعرفها القراء، وإنما أقول فقط إن المواطنين العرب الذين قدّموا محبتهم للبنان على أسباب القلق كوفئوا بالترحيل، أو التهجير، بشكل مهين، وامتلأ المطار بهم فيما هناك مَنْ يقطع الطريق الى المطار، أي أنه لا يكرم الزائر باستقباله، ويهينه مودعاً.

كانت سيدة سعودية من أصدقاء أسرتي كلها هاتفتني لتسأل هل تذهب الى لبنان مع أطفالها وأمها. وقلت لها أن تذهب، وأنها في «حمايتي» من دون أن أقدِّر حجم هذا التعهد. وهي اتصلت بي بعد أن أمرت السعودية والكويت وقطر والإمارات والبحرين رعاياها بترك لبنان خشية الخطف، وبدت خائفة، فطريق المطار مغلق وهي لا تعرف كيف تصل اليه، وخطوط سفارة بلدها مشغولة باستمرار.

اتصلت بالرئيس نجيب ميقاتي، وهو صديق قديم، ووجدته في مطار جدة على أهبّة السفر عائداً الى لبنان بعد المشاركة في القمة الإسلامية في مكة. وحكيت له ما حدث، فكان أن اتصل بالسيدة السعودية لطمأنتها، وأرسل اليها في اليوم التالي مساعدين نقلوها وأسرتها الى المطار. وهي اتصلت مساء بزوجتي لتقول لها إنها وصلت الى الرياض.

بالأصالة عن نفسي والنيابة عن السيدة السعودية، أشكر دولة الرئيس علناً بعد أن «تكَّستُ» له شكرنا، وأزيد أن في لبنان رئيس جمهورية وطنياً معتدلاً، وأن رئيس الوزراء مثله، وهناك وزراء من مستوى عالٍ في القدرة وحُسن الأخلاق، ثم لا دولة.

أقول للبنانيين: مبروك عليكم النظام السوري وصداقة ايران. دعم آيات الله أهم من الانتصار للشعب السوري، والنزق السياسي الايراني والعدوانية والأطماع الفارسية أهم من سيدة سعودية وإبنتها، أو أسرة كويتية، أو أصدقاء قطريين (أصدقائي القطريون انتهوا في المالديف ولندن وباريس).

كانت في لبنان أحزاب سياسية، وعشائر حكم، وطوائف معروفة، ووصلنا الى وضع يسيطر فيه حزب واحد، هو «حزب الله»، على الحكومة اللبنانية. وفي حين أن الحزب هذا له شعبية لا تُنكر في صفوف الطائفة الشيعية، ورصيد أوسع كفصيل مقاومة في وجه اسرائيل، إلا أنه اختار أن يتحدى اللبنانيين الآخرين في «7 أيار» المشهور، ويرفع السلاح في بيروت لا ضد اسرائيل في الجنوب.

مع ذلك بقيتُ أعتبر «حزب الله» جزءاً من مكونات لبنان، وله كل الحق أن يكون في الحكم أو المعارضة. ثم جاءت موجة الخطف الأخيرة والعنف، ونزوح العرب عن لبنان، وانتهى مصير البلد في أيدي مسلحين من عشائر معروفة تغامر بمستقبل الوطن دفاعاً عن مصالحها، وأكثرها غير شرعي.

بعض الناس قال لي إنه لا يمكن أن تخرج عشائر كبيرة من مستوى آل المقداد أو زعيتر أو حميِّة عن «حزب الله»، وأن الحزب وراء الفوضى المسلحة الأخيرة بما يعكس دعمه النظام السوري، وتحالفه مع ايران. بعض آخر قال لي «فِلِتْ الملَقْ»، وهي عبارة لبنانية تعني أن «حزب الله» فقد السيطرة على العناصر المسلحة، فهذه تؤيد «حزب الله» لأن قضية المقاومة تُكسبها غطاء شريفاً، تواصل من تحته تجارتها الممنوعة في المخدرات وغيرها. وما حدث أخيراً أن مصالح المسلحين «الاقتصادية» تعرضت للخطر فهبّوا للدفاع عنها عبر مخطوف لهم أو أكثر، وأحياناً بوقاحة متناهية، فخطف عمال سوريين مساكين الى درجة أن يعملوا في «الضاحية» ثم اتهامهم بأنهم من «الجيش السوري الحر» تهمة مستحيلة ووقاحة وظلم.

هل يعود لبنان دولة أو تتقاسمه عصابات مسلحة، لتوفر عذراً لاجتياح اسرائيلي آخر؟ لا أعرف المستقبل، ولكن أعرف أن مستوى الجريمة في لبنان هبط، فلم يحدث من قبل أن هُدِّدَ الزوار العرب، أو الضيوف وهم في بيتنا، ولا أفهم سياسة فرقاء يعتدون على أهلهم من لبنانيين آخرين وعرب، ثم لا يوجد مَنْ يردعهم.

الحياة

من الدولة الشكلية إلى انحلال الدولة

    سركيس نعوم

لا يستطيع “حزب الله” ان ينكر تمثيله وحركة “امل” الغالبية الساحقة من الطائفة الشيعية في لبنان. ولا يستطيع أخصامه إنكار انهما استحقا هذا التمثيل لأسباب عدة منها ان “الحزب” حرر الاراضي التي احتلتها اسرائيل في لبنان منذ عام 1978 والتي تقطنها غالبية شيعية. ومنها أيضاً انه أشعر الشيعة بقوتهم وأعاد لهم ثقة بالنفس كانت تضعضعت جراء الحرمان الذي عاشوه طويلاً. ومنها ثالثاً انه اعطاهم الأمل في التحوّل الرقم الصعب في لبنان بسبب ديموغرافيتهم المتوسعة وتعسكرهم. ومنها رابعاً ان “الحركة” ومن طريق رئيسها نبيه بري فتحت لهم أبواب الدولة بكل اداراتها والمؤسسات. وهي كانت شبه موصدة امامهم في السابق. ومنها خامساً الدور الذي قامت به سوريا آل الاسد في إحتضان “أمل” ورعايتها واحتوائها، والدور الذي قامت به الجمهورية الاسلامية الايرانية في تأسيس “الحزب” واعتباره جزءاً منها، والدور الذي أوكلته الاثنتان الى قطبي الزعامة الشيعية. والدوران ما كانا لينجحا  لولا ايكال المجتمع الدولي – العربي مهمة ضبط لبنان وفلسطينييه ونقله من الحرب الى السلم الى سوريا الاسد، ولولا نجاح ايران الاسلامية في جعل علاقتها مع سوريا عضوية وفي تحويلها حلفاً اقليمياً ودولياً يشكل شيعة لبنان ونظام الأسد رأس الحربة فيه.

انطلاقاً من ذلك لا يستطيع اي لبناني ان يُصدِّق ان لا علاقة لـ”الحزب” بما يجري على الساحة الشيعية من احداث تؤثر على البلاد، وخصوصاً منذ بدء الاحتجاجات “الشعبية المستقلة” على غياب الخدمات الاجتماعية، ومنذ اختطاف “الجيش السوري الحر” 11 مواطناً شيعياً في سوريا، وعدم نجاح تركيا أو عدم رغبتها في اطلاقهم رغم كونهم على حدودها ورغم مونتها على الخاطفين، وأخيراً منذ “انفلات” موجة الخطف بين شيعة لبنان الموالين لنظام الاسد والثوار السوريين عليه. وهم سنّة في غالبيتهم. طبعاً لم يتنكَّر “حزب الله” لقضية المخطوفين ولا يزال يسعى لاطلاقهم. لكنه بذل جهوداً بعد الخطف مباشرة لتهدئة أهاليهم، وحال أكثر من مرة دون قطعهم طريق المطار، او فَتحَهَا بعد قطعِها. إلا ان ما حصل قبل يومين، علماً ان طلائعه ظهرت قبل فترة، يثير الشك والحيرة. فللمرة الأولى تتحرك العشائر الشيعية ربما بغطاء من “الحزب”، أو بغض نظر جراء عدم قدرته او عدم رغبته في استفزازها، وهي عماد جمهوره الشعبي والمقاوم. وللمرة الاولى يكتشف اللبنانيون ان لكل عشيرة “جناحها العسكري”. ويدفعهم ذلك الى التساؤل اذا كان لـ”حزب الله” مصلحة في تفريخ كيانات عسكرية سياسية مستقلة عنه أو شبه مستقلة، أو اذا كان مضطراً لقبول التفريخ لأنه لا يستطيع ان يقوم بنفسه بأعمال توقعه في حرب مذهبية قال دائماً ولا يزال يقول انه يرفضها. طبعاً لا احد يمتلك أجوبة عن تساؤل كهذا أو عن أسئلة أكثر صراحة مثل: هل “الحزب” يقود الحركات الاحتجاجية على “ظلم” الداخل اللبناني والشقيق “المختلف” عنه؟ لكن ما تجدر الاشارة اليه هو انه في غياب المقاومة الفعلية وفي ظل تحوّل لبنان “حارة كل مين ايدو إلو” والمنطقة بركاناً متعدد الفوهات، يعرف “الحزب” انه لا يستطيع ضبط جمهوره غير المنظم ونسبياً جمهوره المنظم (فساد واختراقات واتجار بمواد ممنوعة…)، وانه في حاجة الى دولة تتصدى للانحرافات لأن تصديه هو لها يوقع الطائفة في حرب داخلية ويضعف الحزب. ولهذا السبب كان يطلب من “الدولة” دخول مناطقه ومنها الضاحية. لكنه نسي، ولا نقول تناسى، ان الدولة إما تدخل أو لا تدخل. إذ ليس هناك نصف دخول. وما حصل كان ربع دخول، ففشلت الدولة، وتجرأ المطلوب وقف ممارساتهم. وقد يصلون يوماً، إذا لم يكونوا وصلوا الى التجرؤ على الحزب. لذلك كله على “حزب الله” اتخاذ قرار مهم وجريء لم يعد مفيداً ارجاؤه يجيب عن اسئلة مثل: هل هو مع قيام دولة ام لا؟ وهل يتناقض مشروعه مع قيام دولة؟ كما عليه هو الذي يحاول جاهداً عدم الانجرار الى حرب مذهبية مع تمسكه بمشروعه الذي هو في جانب منه مذهبي، كما مشروعات اخصامه، عليه ان يعرف ان المتطرفين و”المتشددين” من اخصامه يحاولون استدراجه الى حرب كهذه، وان اعداءه في الخارج يقومون بالمحاولة نفسها. وربما بدأ بعض ممثلي الاعتدال عندهم سلوك النهج نفسه. فذلك وحده ينهيه كما أنهى منذ نحو ثلاثة عقود الراحل ياسر عرفات ومنظمته في لبنان وبسببه في المنطقة اي انهاك بحرب داخلية ثم حرب اسرائيلية. لكن على هؤلاء الاخصام ان يدركوا انهم باستدراجهم هذا يدمرون لبنان وينهون الوطن والكيان والدولة. علماً ان الآخرين اي “الحزب” وحلفاءه غير مقصرين في هذا المجال.

النهار

الانزلاق خطوة خطوة ولا ضمانات

    روزانا بومنصف

بدا لبنان مسارعاً ارادياً نحو ما اختصرته وسائل الاعلام الاجنبية باستدراج الازمة السورية اليه وفي خطر حقيقي بدا ملموساً وليس وهمياً. فقد اثارت التطورات الأخيرة التي اثارتها موجة خطف نازحين سوريين الى لبنان بسبب وجود مختطفين لبنانيين في سوريا قلقاً كبيراً بعدما بدا لبنان على شفير الانزلاق الى استعادة ” معادلة المسار والمصير” واستيراد الحرب الجارية في سوريا الى لبنان والتي يتم تسييلها او ترجمتها بالاحرى في عاملين. احدهما ان  ما حصل اظهر رغبة حقيقية لا بل استماتة في اشعال النار في هذا البلد خصوصاً بعد توقيف الوزير والنائب السابق ميشال سماحه. والعامل الآخر ان الانقسامات الداخلية تزداد شرخاً واتساعاً مع طول الازمة السوريـــــة واشتدادها.

بعض المتابعين السياسيين رسموا علامات استفهام كبيرة حول صمت حركة “امل”  و”حزب الله” لجهة السماح بالتحرك الذي حصل ان في عمليات الخطف او في قطع طريق المطار حتى لو لم يكونا وراءه او ربما أيضاً عدم  تمتعهما بالقدرة على وقفه لمعرفتهم بخلفيات أبعد من المعلن عنها في كل ما يجري علماً ان التداعيات السلبية بدأ يحصدها الفريق الشيعي سواء ما يتصل منها  بالداخل لجهة النقزة التي احدثها لدى اللبنانيين وسطوة السلاح او الاختباء في ظله فضلاً عن السلبيات على الوضعين الاقتصادي والسياحي وتحمل هذا الفريق مسؤولية مباشرة في سلبيات اقفال طريق المطار او ما يتصل منها بالوضع الخارجي المرتبط بمواقف الدول الخليجية التي منعت رعاياها من زيارة لبنان وطلبت من رعاياها الموجودين فيه مغادرته على نحو يزيد من عزلة لبنان او يسمح بالقول ان ما يجري يسرع في وضع لبنان الى جانب سوريا في الابتعاد العربي عنه وعزله. فهناك اقتناع حتى الآن ان الحزب يحاول الا يتدخل مباشرة او يورط نفسه في ما قد يجر لبنان الى حرب او فتنة طائفية قد تنعكس عليه ويحصد منها خسائر كبيرة جداً. وأصحاب هذا الاقتناع يستندون الى جملة تطورات أخيرة حصلت وحاول الحزب الا يظهر في الواجهة في ردود الفعل.

وهذا يطمئن الى حد ما هؤلاء المتابعين بأن الأمور لا تبدو انها وصلت الى حد نشوء حرب أهلية في لبنان او صراع سني – شيعي مفتوح علماً ان وتيرة التطورات في لبنان على وقع الازمة السورية تنذر باحتمالات كبيرة لوقوع لبنان في الفخ في حال استمرت الازمة السورية بضعة اشهر أخرى.

الا أن هذا الرهان ليس في محله بالنسبة الى متابعين آخرين يخشون انزلاق البلد خطوة بعد خطوة الى المحظور.

النهار

كيف تُشعل حرباً أهليةً في سبعة أيام..!!

مَنْ منّا لم يعرف، في مطلع حياته، كتباً من نوع: “كيف تتعلّم الإنكليزية في سبعة أيام”. هذا النوع من الكتب متوافر في كل البلدان، ولك أن تضع بدل “الإنكليزية” ما شئت من لغات. ومع ذلك، يصعب القول إننا نستطيع العثور على كتب من نوع: “كيف تشعل حرباً أهلية في سبعة أيام”. ربما في كليات الحرب، ومدارس الأمن والمخابرات، تُدرّس أشياء كهذه، وتبقى سرية.

ثمة، بطبيعة الحال، ما لا يحصى من الكتب عن الحروب الأهلية والصراعات الطائفية، وفيها تفسير لأسباب نشوبها، وتسلسل أحداثها. وكلها في الغالب مكتوبة بأثر رجعي، وقد أصبح بعضها من عيون الأدب، والبعض الآخر من المراجع الكلاسيكية في علم التاريخ.

وتجدر ملاحظة أن الأدب يمتاز بخصائص تمكنه من مقاربة الفنتازي والهامشي والمسكوت عنه بقدر من الشجاعة لا يملكه المؤرخون. ولهذا السبب لا تتجلى الحقيقة التاريخية، بالضرورة، في الأدب بقدر ما يتجلى فيه تعقّد الشرط الإنساني العام، ودور المصادفة، والمآزق الشخصية، والاستيهامات النبيلة والإجرامية على حد سواء، في صناعة الحادثة التاريخية. ولنفكر، على سبيل المثال، في “صخرة طانيوس” لأمين معلوف، وفي الصراع الدرزي ـ المسيحي في الجبل. الصراع نفسه، الذي يُعاد إنتاجه في “دروز بلغراد” لربيع جابر كنوع من الكوميديا السوداء.

هذا كله ممكن طالما كنّا نتكلّم عن القرن التاسع عشر، ولكن كيف يكون الكلام عن مؤامرة كادت تقع الآن وهنا، وكان نجاحها كفيلاً بإشعال حرب أهلية في لبنان، أو على الأقل التدليل على صدق نبوءة القائلين: إن العنف الفائض من الإناء السوري سيفيض على الجيران.

ربما لن يتوقف أحد من المؤرخين أمام اعتراف الوزير اللبناني السابق ميشال سماحة بعد اعتقاله بخمس دقائق، وشكره للمحققين، الذين حالوا (باعتقاله) دون وقوع سلسلة من التفجيرات والاغتيالات في لبنان تنفيذاً لأوامر أحد أركان النظام في دمشق. التفاصيل الصغيرة تضيع مع الزمن. ويضيع معها سؤال: ماذا لو؟

ماذا لو نجحت المؤامرة، وجاء في نبأ عاجل تناقلته الوكالات أن عبوّة ناسفة انفجرت في سيارة أحد الساسة، أو رجال الدين المسيحيين في بيروت. ستتناقل وكالات الأنباء الخبر، ويتصل مجهول بوكالة إخبارية ليدلها على شريط مصوّر في مكان ما في بيروت.

وسنرى على شاشة التلفزيون بعد قليل نسخة جديدة من شريط يتبنى العملية، من فصيلة شريط “أبو عدس”، الذي أعلن مسؤولية جماعة مجهولة عن اغتيال رفيق الحريري. وستظهر في الشريط كل “البضاعة الجهادية” من لغة، ولحية، وملابس وديكور، وربما ما يفيد أن الأخ “المجاهد” فلسطيني أيضاً.

بعد قليل، سيظهر “مفكر” أو “إعلامي” أو “محلل”، أو “خبير” في الجماعات المتطرفة، على شاشة ما، ليقول لنا إن الاغتيال تعبير عن استياء جماعات إسلامية متطرفة من مواقف بعض المسيحيين المؤيدة لنظام الأسد.

بعد أيام قليلة تنفجر عبّوة ناسفة في سيارة، أو مكتب، أحد الساسة من جماعة 14 آذار، أو رجال الدين المسلمين. ومرّة أخرى ينقلنا الخبر العاجل إلى مكان الحادثة، فنرى ما تبقى من المغدور، ثم يخرج علينا “المفكر” و”الإعلامي” و”المحلل” و”الخبير” ليقول لنا إن أصابع إسرائيل وراء العملية لأنها تريد الإيقاع بين الطوائف في لبنان.

سيتهم النشطاء في المعارضة السورية، وأصدقاء ورفاق سمير قصير، وجبران تويني، وسلسلة طويلة من ضحايا العمليات “الغامضة”، في لبنان، النظام السوري. وفي الأثناء تندلع اشتباكات بين باب التبانة وجبل محسن، وتقع أحداث غامضة في مخيم للاجئين الفلسطينيين في شمال لبنان، ثم تظهر “أصوات” في مناطق مسيحية تدعو إلى الدفاع عن النفس، على الأقل في صورة لجان شعبية للأحياء.

سيطالب بعض “العقلاء” بضم ملف التحقيق في الاغتيالات الجديدة إلى ملف التحقيق في قضية رفيق الحريري. وسيذهب البعض إلى حد إلقاء المسؤولية على عاتق البنية الطائفية للدولة اللبنانية. أما حلفاء الأسد في لبنان، ومنهم ميشال سماحة، فسنراهم على شاشة التلفزيون بابتسامات وديعة، وعبرات سريعة، وآهات بديعة مصدرها قلق على لبنان، وتذكير بحقيقة أن استهداف النظام “المقاوم والممانع” في دمشق يستهدف سلاح المقاومة في لبنان، وأن سورية الأسد هي الجهة الوحيدة القادرة على حماية لبنان.

في الأثناء، وقبلها، وبعدها، تنفجر عبوات صغيرة وكبيرة، وتجحظ عيون، وتنتفخ أوداج، ويراق حبر، وتنفتح جراح قديمة وجديدة، وتغتني وكالات أنباء، وطواقم تصوير يشتغل أفرادها بالساعة، وتزداد شعبية “مفكرين” و”إعلاميين” و”خبراء” و”محللين”، ويزداد معها رصيدهم في البنك، ويسقط “شهداء” في كل الطوائف ولكل الطوائف. وتستعد مشيخة قطر بكل مدفعيتها التلفزيونية والمصرفية لوساطة جديدة حقناً لدماء الأشقاء في لبنان.

وفي الأثناء، وقبلها، وبعدها، يذهب شخص استلم العبوات من “المناضل القومي” ميشال سماحة إلى دمشق، للاختفاء بعيداً عن الأنظار، بعد القيام بعمليات ناجحة، وتختفي آثاره هناك لأن وجوده بين الأحياء لم يعد ضرورياً. ومع هذا، وقبله، وفوقه، وبعده، يجلس شخص اسمه علي مملوك في مكتب للمخابرات في دمشق “يتفرج” على التلفزيون ساخراً من تفاهة الحياة، وخفة عقل الأحياء.

ويجلس آخر اسمه ميشال سماحة في بيته “يتفرّج” على التلفزيون مفتوناً بصورته على الشاشة، ورنين صوته في أذنيه. ونحن، أيضاً، “نتفرّج” على المفكر والإعلامي (من فصيلة بن جدو) والخبير والمحلل، لا نسخر من الحياة، بل نشتمها، ولا نستخف بالأحياء بل نرثي لحالنا وحالهم.

كل هذه الأشياء لن تذكرها كتب التاريخ. وقعت أشياء كهذه من قبل، ونجحت. ربما أصبحت في يوم ما موضوعاً جيداً للأدب والفنتازيا والكوميديا السوداء. ومع ذلك، ربما لن يفكر أحد في وضعها تحت العنوان التالي: كيف تُشعل حرباً أهلية في سبعة أيام.

حسن خضر

لبنان والإرث السوري

حسان حيدر

عبثاً يحاول لبنان النأي بنفسه عن التطورات في سورية، وعبثاً يتقاذف اللبنانيون على اختلاف مشاربهم المسؤولية عن محاولات جر البلد إلى الحرب الأهلية الدائرة بضراوة على أرض جارتهم، ذلك أن نظامهم بتركيبته الهشة والمصطنعة التي عملت سورية نفسها على تكريسها، لا يستطيع اتباع سياسة الحياد حتى لو رغب بها أكثر من مكون، كما لا يستطيع التنصل فجأة من عملية التماهي مع نظام دمشق بعدما استسلم لها طوال عقود، وجعل غياب الدولة الجامعة أساساً لإبرام سلمه الأهلي وفق معادلة الفصل بين مقوماتها: الجيش والشعب والمقاومة، بحيث بات التخلي عن أحد عناصر هذه الثلاثية يوازي الانقلاب على وجود الدولة ذاتها.

منذ الدخول السوري الأول إلى لبنان في 1976 كان واضحاً لدمشق أن البقاء فيه يتطلب إجراء تغييرات بنيوية في نظامه وإفراغ مؤسساته من مضمونها مع المحافظة عليها شكلا، لتتماشى مع نظامها وتتكيف مع حاجاتها وتستجيب بسرعة لتوجيهاتها. وترافق ذلك مع دمج تدريجي للسياسة الخارجية لكلا البلدين انتهى إلى ما بات يعرف بـ «توحيد المسارين» الذي ألغى الفوارق بينهما عملياً وحول لبنان مجرد تابع للموقف السوري في المحافل العربية والدولية.

ونجحت السلطة السورية الجديدة ممثلة بالجيش والمخابرات من كل نوع، في الحلول على مراحل مكان المؤسسات والأجهزة اللبنانية، مع استثناءات بسيطة، في رعاية شؤون الجماعات الأهلية وترتيب التوازنات بينها وربطها جميعاً بمرجعية وحيدة يمثلها مسؤول «الأمن والاستطلاع» السوري.

اما الانتخابات النيابية التي كانت رغم كل العيوب المحيطة بها تمثل حداً معقولاً من التمثيل الشعبي والمناطقي، فتحولت في العهد السوري إلى مجرد إجراء شكلي لإعلان «فوز» لوائح مركبة سلفاً تختار دمشق المحظوظين لدخولها، وصار البرلمان اللبناني نسخة عن «مجلس الشعب» السوري ومجرد أداة في يد السلطة السياسية يواكب «سوريتها» بالقوانين بدلاً من أن يكون رقيباً عليها. حتى أن رئاسته باتت أيضاً لمدى الحياة.

وفي العهد السوري كذلك تربت أجيال من السياسيين على الخضوع التام للأوامر القادمة من الشام، بحيث اعتاد هؤلاء التنافس على تقديم الطاعة لدمشق وأخذ رأيها في كل صغيرة وكبيرة، وعلى الامتثال التام لما تراه في مصلحتها بما في ذلك نزوات التجديد والتمديد. أما الذين أبدوا مقاومة ما، فإما قوطعوا وعزلوا، أو دبرت لهم تهم أدخلتهم السجون، أو لم «ينفع» معهم سوى الاغتيال.

وكانت «درة تاج» الإدارة السورية للبنان، وضع دمشق يدها على الأداة الإيرانية الناشئة (حزب الله) في مطلع الثمانينات، وتبنيها عملياً وسياسياً، وشمولها بالحماية وإلحاقها بمنظومتها للتحكم، وتضخيم دورها عبر منحها حصرياً حق تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، ثم مدها مع الحليف الإيراني بالأسلحة والأموال التي جعلتها دولة أهم من الدولة وجيشاً أقوى من الجيش.

نجح نظام دمشق في تطويع السواد الأعظم من قادة لبنان السياسيين والعسكريين والنقابيين ورجالات المجتمع، وفي ضبط تواقيتهم على ساعته، حتى إذا اضطر جيشه مجبراً على الخروج من أراضي لبنان، ترك وراءه ليس فقط جماعات وتنظيمات وأفراداً مرتبطين بأجهزته ويحفظون له الجميل لما أوصلهم إليه، بل أيضاً بلداً ممزقاً سياسياً ومنهكاً اقتصادياً، يحول تعدد الولاءات فيه دون اجتماعه ونهوضه.

واليوم، إذ يقترب نظام دمشق من نهايته، يكتشف اللبنانيون أن التخلص من إرثه في بلدهم سيكون أصعب من إسقاط بشار الأسد نفسه، ذلك أنه إضافة إلى إحدى طوائفه المدججة، مليء بـ «السياسيين» المقتنعين بفاعلية العبوات الناسفة، ويعج بـ «الأجنحة المسلحة» للعشائر والعائلات، وأن خلاصه يتطلب جهوداً كبيرة ووقتاً طويلاً جداً.

الحياة

آفة الخطف والخطف المضاد في سورية

رأي القدس

الاوضاع الانسانية للمواطنين السوريين داخل الاراضي السورية مرعبة بكل المقاييس لاسباب يعرفها الجميع مثل القصف والدمار والقتل وانعدام الامن، ومن المفترض ان يكون السوريون في الخارج، خاصة في دول الجوار، التي لجأوا اليها للنجاة بارواحهم، وارواح اطفالهم افضل حالا، ولكن ما يجري على ارض الواقع مأساوي ايضا في معظم الحالات.

الآفة الكبرى التي بدأت تصيب السوريين، ايا كان موقفهم السياسي، او الخندق الذي يقفون فيه حيال الحرب الاهلية الدموية التي تعيشها بلادهم، هي آفة الخطف، خطف المواطنين، واستخدامهم كورقة ضغط من الطرفين.

بالامس اقدمت عائلة المقداد اللبنانية الشيعية على خطف ما يقرب من الثلاثين شخصا من السوريين التي قالت انهم ينتمون الى الجيش السوري الحر يقيمون في لبنان، مثلما اختطفت مواطنا تركيا، وذلك ردا على خطف احد افراد عائلتها في سورية على ايدي عناصر من الجيش السوري الحر.

قبل ذلك تعرض حجاج لبنانيون شيعة للخطف اثناء عبورهم الاراضي السورية عائدين الى لبنان، ثم تكررت العملية مرة اخرى باقدام مجموعة مسلحة على خطف 48 ايرانيا كانوا عائدين الى بلادهم، وقيل انهم كانوا في زيارة للاماكن الشيعية المقدسة في السيدة زينب، واعترفت الحكومة الايرانية ان بعضهم عسكريون سابقون.

ثقافة الخطف ازدهرت اثناء الحرب الاهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1975 واستمرت ما يقرب من الخمسة عشر عاما، وطالت العشرات بل ربما المئات من اللبنانيين وتورط فيها اكثر من طرف من اطراف الصراع، وعودتها الى سورية ولبنان معا تمثل كابوسا كارثيا بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.

والاخطر من ذلك ان عمليات الخطف هذه تتم لاعتبارات طائفية، مما ينبئ بمستقبل مظلم للصراع في سورية بين النظام والثورة المسلحة، وهو صراع يمكن ان يمتد لمختلف دول الجوار وقد يصل الى ما هو ابعد من ذلك.

واذا كان اللاجئون السوريون في دول مثل تركيا والاردن يتمتعون بالامان النسبي بعد مغادرتهم مدنهم وقراهم هربا من الموت والدمار، فان احوالهم المعيشية سيئة للغاية، حتى ان بعض الاسر السورية في معسكرات اللجوء في الاردن قررت العودة الى بلادها ومواجهة الموت على البقاء في هذه المعسكرات حيث الغبار وانعدام الكهرباء وابسط الخدمات الاساسية.

ان هذا التدهور على صعيد ابسط الحقوق الانسانية يتطلب اهتماما خاصا من المنظمات الدولية، خاصة وان هناك مؤشرات شبه مؤكدة حول امكانية استمرار الازمة السورية لاشهر وربما لسنوات عديدة.

ظاهرة الخطف التي بدأت تطل برأسها هي واحدة من ابشع صور الحرب واكثرها قساوة، حيث يتم استخدام البشر، ومعظمهم ابرياء، ورقة للمساومة او للحصول على الاموال من ذويهم، وسمعنا قصصا مرعبة عن رجال اعمال تعرضوا للخطف داخل دمشق ومدن سورية اخرى وجرى ابتزاز ذويهم ماليا للحصول على مبالغ مالية طائلة مقابل الافراج عنهم.

اننا هنا لسنا في مجال توزيع الاتهامات، وانما للفت الانظار الى المآسي الانسانية لهذا الشعب السوري المنكوب الذي اصبح وقودا لهذه الحرب الدموية التي بدأت مشروعة للمطالبة بابسط حقوقه الانسانية بالكرامة والمساواة ولقمة العيش الهانئة وتطورت الى تدمير سورية، وتشريد قطاع عريض من ابنائها، واغراقها في حمامات من الدماء وتحويلها الى ميدان للفوضى والصراع الطائفي البغيض.

القدس العربي

لماذا تأخرت الحرب الأهلية؟

نصري الصايغ

الحرب الأهلية اللبنانية تأخرت. كانت متوقعة من زمن، وباتت منتظرة، ومستغرب جداً انها لم تبدأ بعد… شغل اللبنانيين الشاغل، البحث عنها خلف أو بعد حدوث أمر جلل. يوضبون أيامهم على خوف منها، كأن تباغتهم على غفلة. ويخططون لأيامهم القادمة كأنها مستقبلهم… ولسان حالهم: «لا مفر منها».

لكنها لم تقع بعد.

علامات قدومها كثيرة ومتعددة ومتنوعة. أسباب اندلاعها مقروءة ومفصلة ومثبتة بتصريحات سياسية وتعليقات صحافية وتحذيرات «مسؤولة» وتوقعات أصحاب الشأن، داخليا وإقليميا ودولياً. لا شيء يشي باستبعادها. جاذبيتها قوية. ستدخل من البوابة السورية، تطبيقا لـ«وحدة المسارين» بين دمشق وبيروت، وتحديداً في الضراء لا في السراء. ومن المؤكد أن الجاهزية اللبنانية لاستنساخ الحرب الأهلية السورية الدائرة، عالية الكفاءة والنبرة: فريق 14 آذار، في حلف دولي اقليمي سوري، لإسقاط النظام، بكل ما أوتي من دعم وتأييد وتسليح وإعلام وتطييف وتوظيف، ولإسقاط حلفاء النظام في لبنان… وفريق 8 آذار، ما زال على صراط «الممانعة» يدافع عن نظام الأسد، كحلقة من منظومة استراتيجية، إذا سقط، اختل التوازن لمصلحة «حلف الاعتدال والتنازل»، خارج لبنان وداخله. ولن يمر هذا التغير الاستراتيجي سلمياً أبداً. فهو بحاجة إلى شكل من أشكال الحروب الأهلية… وهي قيد التشكل.

ومع ذلك، فإن الحرب الأهلية لم تقع بعد.

لا موانع ولا سدود مانعة… الانزلاق سريع الانحدار. لا ضوابط للفلتان، ولا أحد بمقدوره أن يحمي السلم الأهلي الهش.

الطوائف المركزية (وليست طوائف الأطراف الضعيفة) أو بالتحديد، الطائفتان المتمذهبتان، سنة وشيعة، تعيشان على حافة الهاوية. عكار، ريف دمشقي، تتعامل مع سوريا النظام، كحاضنة للثورة، ويتعامل معها النظام كأنها أرض معادية. طرابلس، عاصمة من العواصم المحررة من النفوذ السوري، وحلفائه في لبنان. طرابلس «تحررت» سنياً… صيدا بإمرة الشيخ الأسير، تمرن على الحرب الأهلية الكلامية… العدة التحريضية لها أصداؤها سنياً… بعض السنة ضد صوت الأسير وصورته، ومع قلب الأسير وعقله… والتشنج بلغ أقصاه… عنجر وجوارها، بلغت الرشد السني سياسياً من زمان… وهكذا دواليك.

في المقابل، عدة الحرب الأهلية متوفرة من مناطق السيطرة الشيعية… أحياء «تحررت» من حسابات «حزب الله» الاستراتيجية، وتتجرأ على ما لا يستطيعه «حزب»، لحكمة سياسية… يرفع يده، كما يقال، ويترك الأمور لعواهن الشارع. يخرج آل المقداد، وغدا آخرون، وتزدهر المناطق المحتضنة حزبيا، بالعشائر والقبائل والافخاذ، ويصير لكل عشيرة، ذراع عسكرية وأخرى أمنية واخرى اعلامية واخرى ديبلوماسية… وإنما، تحت خيمة «الحزب» أو تحت عباءة «أمل»، أو ما بينهما من مساحات أفرغت طوعاً.

وبرغم هذا الاصطفاف الساحق، لم تندلع الحرب الأهلية بعد. ثمة علامات لا شك في كونها من علامات الأزمنة الدموية: الدولة اللبنانية بلغت حتفها إلا قليلا. لا دولة في لبنان من زمان أكلتها الطوائف وزعاماتها ورجال دينها وزبانيتها… (تجتاحني رغبة في صفع كل من يدعي ان في لبنان دولة). مزرعة لبنان الكبير، صارت مزارع، بعضها قيد الاقامة الجبرية تحت سلطة زعامات دكتاتورية شمولية، مؤيدة ومثبتة في مواقعها بقوة طائفية ساحقة، وبعضها القليل، لا يزال مشاعاً أو مشتركاً في ما بين هذه الزعامات.

لا دولة تحمي اللبنانيين، يعني، ان السلطة فيها راهنا في حالة اهتراء متزايد. ضعفها مثبت في تغيب قوى الأمن والجيش عن حماية الناس. أي فريق مدعوم، أي عشيرة مدعومة، أي سلفية مدعومة، أقوى من الجيش اللبناني الذي لا يحظى بأي دعم سياسي، اللهم، إلا كلاميا. قوى الأمن، مشكوك في ولائها المذهبي، ما بين سنة وشيعة. (المسيحيون خارج الملعب. ليسوا بديلاً عن أصيل) القضاء مشلول اليد. لا يعيد لصاحب حق حقه. هو قضاء لا يأمر ولا يحكم باسم الشعب اللبناني، لانه مأمور باسم الطوائف المركزية.

أمن وحقوق بالتراضي… والظلم سيد الاحكام. وبرغم هذا الفلتان، فإن الحرب الأهلية لم تقع.

من علامات الفتنة القادمة، انتشار السلاح. لقد تعسكر الشعب اللبناني. لكل فريق عسكره الخاص. الميليشيات مزدهرة. تظهر في عراضات تلفزيونية، ولا يرف للدولة جفن… تنام ملء جفونها على شوارد الطوائف، وتتركهم للخصام المجاني.

لا اتفاق على شيء، ولا حوار البتة. ومع ذلك، فإن الحرب الأهلية لم تقع. العنف يزداد، ولم تقع. أفلتت الأمور في عكار مراراً ولم تقع، طرابلس تغلي، ولم تقع. الأسير يجول ويصول ويطول، ولم تقع. تهريب صفائح من دمشق لتفجير السلم الأهلي، ولم تقع، آل المقداد يعلنون قيام «جمهوريتهم» ولا… «يا محلى الكحل في عينك» ومع ذلك، فالحرب الأهلية لم تقع.

عنصر جديد دخل المشهد، لعله إذا استمر في أدائه، قد يدخل لبنان في الحرب الأهلية. انه الخطف والخطف المضاد. فماذا لو أقدم سنة على خطف شيعة أو أقدم شيعة على خطف سنة أو دروز أو…؟ ماذا لو اندلع الخطف والخطف المضاد؟ (خطف السوريين كاد يشعل طرابلس. هكذا قيل. نجا لبنان حتى الآن).

ماذا لو لم يعد المخطوفون من سوريا؟

ماذا لو استمرت القوى الاقليمية في دفع القوى المحلية لتفجير البلاد؟

ماذا لو اقتنع أحد بفضائل جهنم ونصائح الحلفاء المأزومين؟

ان اللبنانيين يعيشون الحرب الأهلية من دون ان تقع. ولعله من المفيد القول، ان الحرب الأهلية إذا وقعت، فلن تغير في المشهد السياسي الرسمي شيئا. فالحرب الاهلية اللبنانية، اندلعت بأسباب أقل من الأسباب المعلنة أعلاه. فانهارت الدولة، وفرغت السلطة وتأصلت الميليشيات، وذبح الناس على الهوية، وتهجرت عائلات وطوائف، وتدخلت دول وجيوش، وتموّلت أحزاب وتعسكرت، وقامت مشاريع سياسية ومشاريع مضادة، وأسفرت الحرب بعد 15 عاماً على اتفاق بين المتحاربين، أو من تبقى منهم، على إقامة نظام لبناني، هو هذا النظام الذي لم يعد فيه حجر سياسي فوق حجر سياسي.

الحرب الأهلية القادمة، إذا وقعت، فلن يكون لها تأثير أسوأ، الأسوأ هو أمامنا اليوم. وهو الأسوأ غداً. لا يحلمن أحد، بأن لبنان ما بعد الحرب الأهلية القادمة، سيكون أفضل. ولن يقضي سنة على شيعة أو العكس. سيتدمرون معاً، وسيبقون معاً بعد الدمار المشترك.

لا أفق للحرب الأهلية. هي حرب لا تخدم طرفاً داخليا، ولا تنقذ طرفاً خارجياً.

لا ضرورة لحرب أهلية دموية. فهذه الحرب الأهلية السياسية المحتضنة لعنف بمستوى متدن ومنضبط (حتى الآن) قد تكون البديل عن المعارك العسكرية المؤلمة.

إنما… إنما… الخوف كل الخوف، إذا أقدم فريق على خوض معركة «عليَّ وعلى أعدائي».

سؤال: من ينجو من هذه المذبحة؟ أي قضية مقدسة تبقى؟ أي اسرائيل ستشعر بالنشوة ولذة الانتصار؟

سؤال آخر: هل يبقى لبنان؟ أم سترث جثته محنطات الطوائف؟

السفير

في وداع «الممانعة»: مستوجبات لبنانية

بهاء أبو كروم *

تطوي الثورة السورية حقبة طويلة من الاعتبارات التي حكمت المنطقة منذ السبعينات، وفي مرحلة منازعته الأخيرة تنطوي مع النظام القديم سلسلة من المفاهيم والشعارات التي طبعت حياتنا خلال المرحلة السابقة.

لقد افلحت الثورة في سورية في الذهاب بكشف «الممانعة» وأسطورتها إلى مدى أبعد من الذي ذهبت إليه الثورتان اللبنانية في 14 آذار 2005 والإيرانية بعد انتخابات 2009، ولكل من هذه الثورات خصائصها وظروفها، لكن كلها رفعت الشعار ذاته في أولوية الداخل على الخارج والحرية على الاستعباد وكلها كانت ضد التوجه الأمني والقبضة الأمنية التي ذهب ضحيتها الآلاف من المواطنين.

من السذاجة الاعتقاد بأن سقوط أعمدة المنظومة في سورية وموتها سيقطعان هكذا من دون السير بمواكب جنازتها في كل المنطقة، خصوصاً أن انتصار الثورة هناك سيفتح أفقاً جديداً لا بد من أن يلقى ترجامته على الصعد كافة. من هذه الزاوية، لن يكون لبنان بمنأى عن هذه الترجمات على رغم القول إن التركيبة الديموغرافية ثابتة، والتوازن السياسي يشهد انقساماً عمودياً، ونظام الطائفية يحفظ للطوائف امتيازاتها، إلا أن كل ذلك لا ينفي أن لبنان هو من أكثر الدول استشعاراً للتوازات الإقليمية وأسرعها قدرة على الترجمة والتجسيد، أضف إلى أن حصانات طوائف بذاتها تصطدم بحدود التساوي مع الطوائف الأخرى، إذ لا يتيح النظام اللبناني بجوهره بعد الطائف تكريس امتيازات جديدة لطالما شكلت مصدراً للتوتر في لبنان.

الدواعي التي أتاحت تحوّل لبنان إلى الساحة الرئيسة للتعبير عن الممانعة منذ خروج مصر إلى كامب ديفيد وانتصار ثورة الخميني في إيران عام 1979 أرست قواعد داخلية تم استهلاكها وتغيب الحاجة إليها في هذه المرحلة. والواقع أن الثورة اللبنانية على الوصاية عام 2005 زعزعت أسس النظام القديم، إلا أنها عجزت عن امتلاك النفَس الطويل لاستبداله، ويجب ملاحظة أن امتلاك الممانعة أنياباً لها في الداخل اللبناني أطاح القدرة على حسم وجهة الثورة.

لقد خلصت الممانعة، بتجربتها السياسية وبمضمونها الثقافي، إلى نتيجتين جوهريتين: الأولى هي أن كلفة بقائها اصبحت أكثر بكثير من كلفة رحيلها، ما يجعل في استبدالها مصلحة وطنية وقومية مباح التنظير لها حتى على المستوى الثقافي ومباح إعادة قراءة محطاتها التاريخية بناء لما خلصت إليه من مآزق في علاقتها مع الجمهور. والثانية، لقد سقطت الممانعات على اختلافها في امتحان الداخل وأفرغت نظرية الأمن الوطني والقومي من فحواها وذلك مع تحول سلاحها إلى الداخل وعدم قدرتها على التكيف مع الوعي الديموقراطي في المنطقة. وهذا السقوط لم يقتصر على طرف واحد من المضلع بل شمل كل أجنحته من دون استثناء.

نصيب لبنان من ذلك كان كبيراً وعلى رغم الخبرة السياسية التي يتمتع بها اللبنانيون، فإن الفرص التي أهدرت في سياق البحث عن حياد لبناني تجاه إبقائه ساحة رئيسة للصراع لم تتح للدولة القيام بواجبها. وقد تماهى التوازن اللبناني مع كل المتحولات الإقليمية وفقاً للقاعدة التي اعتمدتها إيران وسورية في تحويل مكامن الضعف التي ألمّت بموقف الولايات المتحدة ومحور الاعتدال العربي إلى مشاريع هزيمة لـ «حلفائهم» وانتصار لمحور الممانعة في لبنان. ترجمات ماضية تبرّر ترجمات لاحقة يبني عليها فريق كبير من اللبنانيين بهدف استعادة التوازن في الساحة اللبنانية!

وقد يبدو من نافل القول إن الخيارات المتاحة لمنظومة الممانعة في لبنان، بما تختزنه من قوة، هي سهلة التحقق بالمقارنة مع غيرها من الساحات، إذ سيقف رد فعل حلفاء النظام في سورية بين خيارين، الأول النظر إلى الصراع في سورية على أنه صراع دولي عليها يبرّر أو يتيح في المقابل التصرف في لبنان تبعاً للقاعدة ذاتها، فيتحول الجهد إذ ذاك لجعل لبنان ساحة تعويضية من ضمن استراتيجية سبق أن طبقت من قبل، وهذا الخيار يجر وراءه تجارب على غرار 12 تموز أو 7 أيار وما شابه، والثاني هو الانصراف إلى الأولويات الداخلية التي تستوجب وضع سلاح «الممانعة» في عهدة الدولة اللبنانية. وهذا ما يوفر على لبنان الكثير من العناء، لا سيّما أن تجربة سلاح للدولة المُمانِعة في سورية لا يشجع على التغاضي عن مستقبل سلاح خارج الدولة في لبنان.

من البديهي النظر إلى الحكومة اللبنانية برئاسة ميقاتي على أنها أخذت تستنفد ميزة الحفاظ على الاستقرار بما لم يعد يقي لبنان ارتدادات الأزمة السورية، وهذا بحده الأدنى يفترض إعادة إحياء فكرة الوحدة الوطنية، لكن ذلك يستوجب قناعة حلفاء سورية بضرورة الخروج من حالة الإنكار التي تنتقل عدواها من سورية إلى لبنان والتخلي عن خيارات الإقصاء السياسي التي ظهر أن حساباتها تتعلق بقضايا تتخطى الموضوع الداخلي. من جهة ثانية، يتضح أن ما «حمى» الاستقرار الهش في لبنان الى حد اليوم ليس سياسة النأي بالنفس التي اتبعتها الحكومة، إنما تموضع لبنان على المستوى الاستراتيجي إلى جانب الممانعة، ما يعني أن خسارة هذه الميزة هي المدخل لانفراط الاستقرار الداخلي وتمدد النزاع من سورية إلى لبنان!

ثمة ما يفترض البحث في حقبة «لبنان ما بعد الأسد» وتحضير الأرضية لانخراط الجمهور اللبناني في المتغيرات التي شهدتها المنطقة، وليس من الضروري ان تتكرّر تجربة التمسك بالنظام القديم والاستعصاء على جملة التحولات، إذ يكفي التعلّم من وقائع الماضي القريب لكي نستنتج أنه لا يمكن إدارة الظهر للتوافق السياسي الداخلي حول القضايا الرئيسة، وأهمها ألا يتبع لبنان استراتيجيات تفوق قدراته وتحمّله أعباء بالوكالة عن غيره. فالأنموذج الذي فرضته منظومة الأسد في لبنان فاد بمكان وأضرّ بأمكنة، أما الشعار الذي ينهار مركزياً فمن الصعب أن يستنهض نفسه في الشتات.

* كاتب لبناني

بعد استيرادها من سورية: لبنان في قلب الثورة!

عادل مالك *

منذ اندلاع الثورة في سورية والمخاوف تتزايد يوماً بعد يوم من خطورة تداعــيات هذه الثورة على الساحة اللبنانية.

وهذا ما حدث في شكل أكثر جلاء ووضوحاً من أي وقت مضى، حيث الوطن في عين العواطــف الهوجاء البركانية الطابع التي تجتاح المنطقة. لذا، يصح القول من جديد: إن حالات الحمل تحدث خلف الحدود، لكن الولادات تجرى في لبنان!

لقد حاولت السلطات اللبنانية رفع شعار «النأي بالنفس» ظناً منها أن باستطاعتها تجنيب الوطن ويلات الحروب الأهلية ومضاعفات الصراعات التي تعصف من كل حدب وصوب، لكن التجارب أكدت الآتي: إن شعار «النأي بالنفس» لا يكفي لضمان حالة من السلم الأهلي ولا يجنب لبنان الحرائق المشتعلة فى كل مكان. وبتعبير آخر لا يكفي أن يعلن الوطن «حياده أو عدم انحيازه» لكي يؤمن وضعاً مستقراً.

لماذا؟ لأن كثراً من الأطراف اتضح أنهم يريدون سوءاً بلبنان وبمواطنيه. وزادات الأمور خطورة مع حالة التجاذب الحاد القائمة بين مختلف «الفصائل اللبنانية» حول الكثير من الامور المطروحة والمتداولة.

وأكدت تجارب الأيام الأخيرة بصورة خاصة حالة الفزع المخيف المسيطر على الأجواء العامة في البلاد، حيث يشعر كل مواطن بأنه مهدد في كل لحظة، وما من سلطة تؤمن له الحماية. لذا، لوحظ لجوء كل «فصيل» إلى قطيعه لأخذ «حقوقه» بيديه. وإذا كان مصير اللبنانيين المختطفين في سورية من جانب «فصيل آخر مسلح»، قد أشعل الأزمة، فوجود الكثير من التراكمات هو الذي أدى إلى تزايد حالات التأجيج من كل لون ومن كل طائفة ومن كل مذهب.

على أن حدوث الكثير من حالات الاختطاف، والاختطاف المضاد، فجّر الكثير من كل ما تختزنه الساحة اللبنانية من اختلافات وتبادل الاتهامات من العيار الثقيل، ومن النوع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع في حالات التشرذم الشعبي والوطني.

وحول ما جرى خلال الساعات القليلة الماضية كثير من الكلام الذي يجب البوح به في العلن حيث لم تعد تنفع سياسة غرز الرؤوس في الرمال وتجاهل المواجهات التي توضحها طبيعة المرحلة.

أولاً: إن تخلف السلطات عن القيام بدورها لإشاعة الطمأنينة لدى المواطنين، أرغم الكثير على اللجوء إلى «الأمن الذاتي» وأسلحتهم هي أسلحة المرحلة القائمة: حرق الإطارات المطاطية وقطع الطرقات في هذه المنطقة الجغرافية أو تلك. وإذا كان من حق عائلات المختطفين معرفة مصير أبنائهم فإن ردود الأفعال التي حدثت حتى الآن تعمل على معاقبة الناس الأبرياء الذين لا علاقة مباشرة لهم في كل ما يجري.

إذاً السؤال: لماذا تتم معاقبة المواطنين الأبرياء، وما الجدوى من تعطيل الحياة العامة، لدرجة منع المسافرين من الوصول إلى مطار بيروت، أو مغادرته بعد الهبوط؟ وعندما تتجرأ وتسأل أحد منظمي إحراق الدواليب المطاطية: ماذا تقصدون؟ يأتيك الجواب أن المطلوب هو ممارسة أقصى الضغوط على السلطات اللبنانية غير المبالية بما يجرى.

وفي المقابل كلما انحسرت سلطات الدولة عن ممارسة دورها الطبيعي في حماية الناس، تولى المتظاهرون إحياء فكرة «الأمن الذاتي»، ليصبح فرض القانون في وقت لاحق بعمليات رضائية، وكأن الدولة هي في قفص الاتهام، وأن باقي المواطنين الثائرين بوجه الدولة هم في القفص.

ثانياً: تحولت قضية خطف «مواطنين لبنانيين» من جانب فصيل من فصائل المعارضة في سورية إلى أزمة إقليمية، ودولية، مع قيام بعض أجنحة العائلات «العسكرية» كما أعلن مع الجانب المدني إلى القيام بعمليات اختطاف لجنسيات متعددة أملاً بممارسة الضغوط على هذه الجهة أو تلك. وتبع ذلك صدور الكثير من التهديدات العربية ضد لبنان، ولجوء بعض الدول العربية والخليجية تحديداً إلى الطلب من رعاياها مغادرة لبنان «على الفور» كما ذهب بعض الجهات إلى التهديد بإرغام المواطنين اللبنانيين على مغادرة البلاد كرد انتقامي.

ثالثاً: إن تطورات الساعات الأخيرة أرجأت ولو إلى حين الحديث عن الأزمة الأساسية وهو ما يجري في سورية. لجهة الوضـــع العام لا تزال الأمور على حالها وفق المعادلة الآتية: نظام يقاتل الجميع ولم يتمكن حتى الآن من فرض سيطرته على مجــمل أراضيه، ومعارضة، بل معارضات، تقاتل الجـــميع ولكـــنها لم تتــمكن حتى الآن من حسم الأمور لمصلحتها، وهكذا نرى أن الوضع في سورية يدور حول نفسه في جولات عنف جنوني لا يعرفه إلا من عايش مثل هذه الحالات، كما كان الأمر خلال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية.

رابعاً: حيال فشل جميع سيناريوات الحل التي طرحت وخصوصاً من جانب الغرب الأميركي والأوروبي تعمل هذه الأوساط على استنباط حلول تغطي هذا الفشل وتسعى بشتى الوسائل إلى ممارسة شتى أنواع الضغوط على النظام في سورية. علماً أن الشعب السوري على اختلاف نزعاته وعواطفه هو الأكثر تضرراً من هذه المــــمارسات والعقوبات المفروضة. على أن ما رافق تطورات الأيام الأخيرة هو ارتفاع وتيرة الكلام حول «تقسيم سورية»!

إننا لا نسوق لحدوث مثل هذا التطور، لكن وقائع الأمور تستدعي التعاطي في شكل موضوعي مع مجريات الأحداث فالتقسيم ليس هو الحل الأفضل أو الأمثل، بل قد يكون هو الحل الباقي أو المتاح. ويقول بعض الذين يتداولون هذا الحل. إن الرئيس بشار الأسد إذا لم يتمكن من استعادة حكم سورية بكاملها، وهذا ما يبدو مستحيلاً الآن فلا مانع لدى النظام من الانسحاب نحو «جيب معين» وإعلان الحكم الذاتي. ورداً على الذين يستبعدون قيام مثل هذا الاحتمال، نعيد إلى الأذهان تجارب السنوات الماضية، ولبنان في الطليعة فنقول: هل قام طرف من الأطراف أو اكثر بطرح السؤال على اللبنانيين، ما إذا كانوا يريدون الحرب الأهلية… أو التقسيم؟

إنها مرحلة فرض سلم الأمر الواقع أو حربه.

خامساً: هل كتب على اللبنانيين أن «يتقنوا» صوغ الحروب الأهلية. مرة كل عشر سنوات (أقل أو أكثر)؟ ويعلن أهل الوطن الصــغير أو بعضهم عن حالات التميز والفرادة بين شعوب المنطقة والعالم؟

والآن ومع تصدير سورية آخر أنواع البضاعة إلى السوق اللبنانية، يجب أن تتضاعف مسؤولية اللبنانيين لعدم الوقوع مرة جديدة في المطبات الخطرة. وإذا كان الحوار الصاخب الدائر بين مختلف الفصائل حول جدوى أو عدم جدوى عقد جلسات للحوار الوطني في القصر الجمهوري (في قصر بيت الدين هذه المرة)، فما هي البدائل المطروحة أو المتاحة؟ هل العودة إلى «المتاريس الأمنية» تمثل حلاً، بل هل هو الإقدام على حالات انتحارية جديدة؟ وكم يبدو بعض الشعارات المتداولة ممجوجاً وسخيفاً في التغني بالعيش المشترك وممارسة البعض سياسة «النأي» عن لبنان وعن اللبنانيين ومرة جديدة، على رغم أن ما يجري يندرج تحت عنوان: لبنان الوطن الواحد الموحد وهو لجميع أبنائه إلخ. لكن الأمر مُضيّ في ممارسة «السبعة وذمتها» كما يقول المثل الشعبي اللبناني؟

إن حالة التكاذب المشترك لم تعد تجدي نفعاً على الإطلاق ولقد حان الوقت إلى طرح التساؤل الآتي: هل لبنان في حالته الحاضرة هو وطن موحد فعلاً لا قولاً، ويجب فعل المستحيل لمنع تقسيمه؟ أم إن لبنان في حالته الحاضرة: هو وطن مقسم فعلياً ويجب العمل بكل الوسائل لاستعادة وحدة الوطن؟

إن الإجابة عن هذا التساؤل يجب أن تتصف بالشجاعة المطلقة.

وفي سياق ممارسة «النقد الذاتي» علينا أن نعترف بأن لبنان بواقعه القائم هو وطن «مقسم» ولو في إطار «الفدرلة المقنعة» قي الظاهر.

وحول الخلاف القائم لجهة كتابة تاريخ لبنان الحاضر، والانقسام الحاد القائم حول هذا الأمر، فإذا لم يكن باستطاعة اللبنانيين الاتفاق على تأريخ تاريخهم، فكيف يمكن التفاهم على الحاضر وعلى المستقبل؟

وبعد… فإن حالة الورم الوطني التي يعاني منها لبنان لم تعد تحتمل المزيد من الاحتقان. لذا، فإن المسؤولية تقع على الجميع، وعلى الجميع أن يستشعروا المخاوف والأخطار ليسارعوا إلى استدراك ما يمكن استدراكه وفي الطليعة إسقاط الأحقاد أخطر أنواع أسلحة الدمار الشامل، مع استخدام هذه الكميات الكبيرة من الإطارات المطاطية المشتعلة.

إن حالة الثورة التي صدرت قذائفها وشظاياها من سورية إلى لبنان جعلت الوطن في حالة من الخطر الداهم، والاعتصام بهذا النفق المظلم ليس له أي عذر أو أي سبب تخفيفي سوى المسارعة إلى الإنقاذ قبل فوات الأوان. على رغم أنه قد فات فعلاً.

لبنان محارب ولو رغماً عنه!

الحياة

ارتدادات الزلزال السوري

    سميح صعب

بعد الاخفاق في الحؤول دون نشوب نزاع مديد في سوريا، يفتش الغرب عن السبل التي تمكنه من احتواء مضاعفات حرب طويلة في سوريا. فالتحذيرات تتوالى عن تسلل “القاعدة”. ومواقع “يوتيوب” مليئة بممارسات لفصائل المعارضة السورية فيها كل شيء ما عدا مستقبل واعد بالديموقراطية وزاخر بالاصلاحات والتغيير في سوريا. والقاء واشنطن اللوم على النظام السوري في ايصال الامور الى ما وصلت اليه لا يبرر اطلاقاً ما ترتكبه قوات المعارضة.

وليس النظام السوري وحده المسؤول عما وصلت اليه الامور في سوريا. بل ان الغرب والعرب وتركيا أيضاً مسؤولون عن ادخال سوريا في النفق برهاناتهم الخاطئة التي بنيت على استسهال سقوط النظام واقامة نظام بديل وتوجيه ضربة قاضية الى ايران و”حزب الله”.

وما كان يؤخذ على النظام السوري من العيش في حال انكار للواقع المطالب باصلاحات، يعيش الغرب والعرب وتركيا الان حال انكار لواقع كون سوريا دخلت نتيجة سياساتهم في اتون حرب طويلة الامد وان مضاعفاتها بدأت تلقي بثقلها في ساحات الدول المجاورة كل منها بنسبة معينة. فالصراع الطائفي في العراق يتجدد ومقاتلو “حزب العمال الكردستاني” وجدوا الفرصة مناسبة لمعاودة حربهم على تركيا التي اعتقدت لوهلة ان سقوط سوريا سيجعلها القوة الاقليمية الوحيدة في المنطقة. ولبنان لم يسعفه “النأي بالنفس” عن التورط في الازمة السورية. والاردن يعيد حساباته السياسية والاقتصادية نتيجة تدفق موجات اللاجئين السوريين اليه. واسرائيل تعيش في قلق وتوتر مع عودة جبهة سيناء ومع توقع وصول “القاعدة” الى حدود الجولان.

ومن شأن إطالة أمد الحرب ان يجر ليس اللاعبين الاقليميين اليها فحسب وإنما اللاعبين الدوليين. والتاريخ يدل على ان أول التورط يبدأ عادة بارسال أجهزة اتصال ليصل الى ارسال خبراء ومدربين قبل ارسال قوات لحماية هؤلاء والغرق المباشر في المستنقع السوري.

وآخذاً في الاعتبار واقع استمرار الازمة، بدأ الغرب يتحسب لمضاعفات حرب طويلة مع ما سينجم عن ذلك من ذيول في دول الجوار فيما الساحة السورية مفتوحة على كل الاحتمالات وقد بدأت وسائل الاعلام الغربية تتحدث عن تقسيم سوريا أكثر من حديثها عن سقوط نظام وإقامة بديل منه.

ومن غير المضمون ان لاميركا واوروبا وتركيا والدول العربية القدرة على ضبط الاحداث وجعلها تتخذ هذا المنحى أو ذاك.  والامر الثابت هو ان دمشق دخلت نفقاً لا يهدد وحدة سوريا والسوريين فحسب وانما المنطقة بكاملها معرضة لتلقي ارتدادات الزلزال السوري باشكال مختلفة. لذلك لم تعد المسألة مسألة اسقاط نظام واقامة بديل منه، بقدر ما باتت حرباً مفتوحة  من الصعب التنبؤ بما ستؤول اليه.

النهار

لبنان في عين العاصفة

محمد علوش

من هو ميشال سماحة؟
الأدلة مفبركة، ونقطة على السطر
التهمة ثابتة ومسجلة
العلاقات اللبنانية السورية
أين حزب الله من الخارطة؟

لم يستفق اللبنانيون حتى اللحظة من هول الصدمة التي صفعت وجوههم حين علموا باعتقال الوزير والنائب الأسبق ميشال سماحة على يد شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي يوم الخميس الفائت.

التهمة الموجهة للوزير هي من العيار الثقيل جداً، وزنها لا يقلّ عن الوزن السياسي للموقوف نفسه، وتداعيات حجمها لا تقف عند الحدود السياسية للبنان، وإنما تصل حتى العاصمة السورية دمشق.

التهمة هي “القيام بأعمال إرهابية بواسطة عبوات ناسفة والتخطيط لقتل شخصيات دينية وسياسية”.

على خلفية الحادثة اندفع القضاء اللبناني للمرة الأولى منذ ١٩٧٥ للادعاء على اللواء علي مملوك المعين في 24 يوليو/تموز الماضي رئيساً لمكتب الأمن الوطني السوري برتبة وزير خلفاً لآصف شوكت، والمشرف على جميع الأجهزة الأمنية السورية.

وبلغت الحادثة في أهميتها حدّ دعوة الولايات المتحدة لبنان إلى “ضرورة تأمين الشفافية واحترام القواعد الدولية في حال كان هناك أي عمل قضائي محتمل”، قبل أن تدرجها وزارة الخارجية الفرنسية على جدول أعمال زيارة وزير الخارجية الفرنسية لوران فابيوس إلى لبنان.

من هو ميشال سماحة؟
“رجل سوريا في لبنان” كان اللقب الأبرز لميشال سماحة الذي كانت تزهو به شاشات التلفزة اللبنانية باعتباره خبيراً إستراتجياً، وضليعاً في خفايا وأساليب أجهزة الاستخبارات الدولية والإقليمية.

تعود بداياته السياسية للعام 1964 حين التحق بحزب الكتائب، ثم تدرج ليصبح في عهد رئيس حزب الكتائب أمين الجميل رئيس مجلس إدارة تلفزيون لبنان الرسمي.

خلال الحرب اللبنانية التي اندلعت في العام 1975 كان سماحة من ضمن الوفود الكتائبية التي كانت تزور دمشق.

انشقّ عام 1985 على حزب الكتائب إلى جانب سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية، ومن ثمّ إلى جانب إيلي حبيقة في وجه جعجع. تمكن من كسب ثقة السوريين خلال وجودهم في لبنان إلى جانب العلاقات التي كانت تجمعه مع المخابرات الفرنسية بحكم حمله لجنسية أجنبية، الأمر الذي أكسبه ثقة الأسد في ربط ما انقطع بين الأخير والفرنسيين، فعيّنه مستشاراً له للشؤون الفرنسية، شغل عددا من الوزارات في عهديّ الرئيسين إلياس الهراوي، وإميل لحود.

في يونيو/حزيران 2007 وضعته الولايات المتحدة على قائمة الممنوعين من دخول أراضيها بتهمة “رعاية الإرهاب أو العمل على إعادة ترسيخ السيطرة السورية على لبنان”.

الأدلة مفبركة، ونقطة على السطر
سؤال طرحته ابتداءً قوى 8 آذار التي تسيطر على الحكومة الحالية. وقبل أن يطّلع على أسباب الاعتقال وملابسات التحقيق ومجرياته، خرج المُنظّرون سياسياً داخل هذه القوى برواية تقوم على أن الوزير سماحة “مستهدف”، لأنه ينتمي إلى مشروع سياسي في لبنان، وأن من يقف وراء هذه اللعبة هي الولايات المتحدة التي فشلت في كسر ظهر النظام في سوريا، فلجأت إلى “ألاعيب أكثر خسّة ودناءة”.

ويوجه أصحاب هذا الاتجاه أصابع الاتهام إلى “أدوات أميركا وعملائها في لبنان، لطعن سوريا من خاصرتها عبر تسديد الضربات لحلفاء سوريا العروبة والمقاومة” بعد أن صدر الأمر لأدوات المشروع “الصهيو-أميركي” المتحالف مع العرب من أجل خلط الأوراق والتغطية على فشل مشروعهم في سوريا. بحسب أصحاب الرأي المذكور.

رواية يتخندق في متراسها منطق قوى 8 آذار، من أقصى يمينه إلى أقصى يساره. ويتساءل هؤلاء: ألم تجد سوريا غير ميشال سماحة، بما يمثل من قامة سياسية كبيرة، لتجعله صندوق بريد سريع لمتفجراتها إلى لبنان؟ وهل كان سماحة بهذه السذاجة حتى يسكت في اختبار أمني بسيط بمثل ما حدث؟ أو ليس هذا الملف تكرارا لسيناريو شهود الزور في قضية اغتيال الرئيس الأسبق رفيق الحريري؟

أمّا من هم أقلّ قدرة على إنتاج هذا التحليل الإستراتيجي المعقد، فقد لجؤوا إلى أساليب أكثر خفة في الدفاع عن سماحة، فلم يلتفتوا البتة لمضمون التحقيقات والسيناريو المعدّ، ولم يهتموا بما إذا كانت المعلومات المسربة عن سماحة صحيحة أم لا.

فجلّ همهم انصب على طريقة التوقيف والجهاز الذي أوقف سماحة، فرفعوا حناجرهم صارخين: كيف يجوز لجهاز أمني غير قانوني (شعبة المعلومات) أن يقوم بخطف وزير ونائب سابق من منزله، وبطريقة فيها من العنف ما لا نشهده سوى في الأفلام البوليسية؟ وكيف يسمح لجهاز محسوب على فريق 14 آذار بأن يتصرف بعيداً عن الدولة ومؤسساتها؟

لقد تناسى هؤلاء، أو هم أرادوا ذلك، أنه بعيد التوقيف بيومين استقبل رئيس الجمهورية كلاّ من المدير العام لقوى الأمن الداخلي أشرف ريفي ومدير فرع المعلومات العميد وسام الحسن وأثنى على جهودهما في إحباط ما قال إنه مخطط جهنمي كاد يشعل لبنان ويهدد وحدته السياسية والاجتماعية.

أكثر من ذلك، يذهب رئيس كتلة برلمانية في قوى 8 آذار في تحليلاته إلى أن سماحة قد يكون نقل المتفجرات من سوريا إلى لبنان لوضعها على الحدود الشمالية مع سوريا من أجل الحدّ من تهريب السلاح إلى سوريا عبر الأراضي اللبنانية، وهذا كاف لتبرئته ربما.

التهمة ثابتة ومسجلة
في الوقت الذي ينظر القضاء في القضية -وهو صاحب الكلمة الفصل في إثبات التهمة من عدمها- تفيد تسريبات الأجهزة الأمنية بأن تهمة الوزير موثقة بالصوت والصورة، وهي تعتمد على أربعة أشرطة فيديو لسماحة، تمّ تسجيلها له بطريقة سرية بعد مراقبة لصيقة من شعبة المعلومات، وفي أربعة أمكنة مختلفة، بينها مرأب المبنى الذي يقطن فيه.

وتتضمن مشاهد يتحدث فيها سماحة طالباً نقل المتفجرات لزرعها في عدد من المناطق الشمالية، وأولها منطقة عكار، مشدداً على أن “بشار بدو هيك”، في إشارة إلى الرئيس السوري بشار الأسد.

وما إن بدأت التحقيقات حتى سرت المطالبات بشأن التوسع فيه أو ضمّه للملفات التي تنظر فيها المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري ورفاقه بعد أن كشفت التحقيقات الأولية عن تشابه العبوات الـ24 التي تمّ ضبطها مع تلك التي استخدمت في اغتيال جورج حاوي وسمير قصير، وفي محاولة اغتيال الإعلامية مي شدياق، وهو ما سيترك أثره على التحقيق الدولي برمته إن صحت هذه التسريبات.

ولن يقف الأمر عند حدود الاغتيالات التي ضربت لبنان منذ العام 2005 وحتى يومنا هذا، بل ربما تشمل الاغتيالات السياسية منذ العام 1975، حيث ربط وليد جنبلاط محاولة اغتياله عام 1983 بوجود الوزير ميشال سماحة في مكان الجريمة التي كانت من تدبير إيلي حبيقة.

العلاقات اللبنانية السورية
من شأن المخطط التفجيري، إن صحّت التهم بشأنه، أن يهدم ما تبقى من سور العلاقات السورية اللبنانية، إذ إن الادعاء على اللواء علي مملوك، يطال هيبة النظام السوري نفسه.

ثم إن الموضوع لم يعد مؤامرة تحيكها جهات استخباراتية أو محكمة دولية تريد النيل من محور المقاومة والممانعة تحت ستار البحث عن الحقيقة والاقتصاص من المجرم، وإنما تآمر على دولة لبنانية على رأسها حكومة لا توصف بالمعادية للنظام السوري وهي ترفع شعار “النأي بالنفس”، بل ربما سلّفت سوريا الكثير في إطار ردّ الجميل لها في مواجهة الحملة التي تتعرض لها.

ومن هنا لا يُنظر إلى الوزير سماحة على أنه فرد قد انزلق إلى رذيلة لضعف في طبيعته البشرية، بقدر ما يشير إلى وجود حالات مستنسخة تنتشر على التراب اللبناني لألف سبب وسبب.

وعلى الرغم من تصريحات وزير الخارجية عدنان منصور المحسوب على حركة أمل بأن الحكومة لن تتخذ أي قرار يتعلق بسوريا قبل صدور حكم قضائي واضح ومعلل بقضية الوزير الأسبق ميشال سماحة.

إلا أن العلاقات السورية اللبنانية مهددة بالفتور إن لم تكن بالانقطاع إذا ما أخذنا بالاعتبار تصريحات رئيس الجمهورية بحسب ما نقل عنه زواره بأن “زمن تهديد لبنان بأمنه من أي جهة كان قد ولى، وليعلم الجميع أن اللعب به هو خط أحمر لن يسمح لأحد بأن يتجاوزه تحت أي اعتبار”، أو تصريحات رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي قال “إننا انتهجنا سياسة النأي بالنفس لقناعتنا بعدم التدخل في شؤون الآخرين، لذلك لن نسمح لأحد بالتدخل في شؤوننا أو بتحويل لبنان مجدداً ساحة لتصفية الحسابات وتصدير الأزمات الخارجية إليه”.

لن تقف قوى 14 آذار بعد اليوم في إطار الدعوات لإعادة النظر في العلاقات اللبنانية السورية، بل ستتقدم بخطوات من شأنها ممارسة ضغوطات على الحكومة على أبواب الاستحقاقات النيابية العام القادم، تتمثل بالسعي لإلغاء المجلس الأعلى اللبناني السوري، وطرد السفير السوري من لبنان، والإصرار على استقدام قوات دولية لنشرها على الحدود اللبنانية السورية، بانتظار ما ستؤول إليه الانتفاضة في سوريا.

أين حزب الله من الخارطة؟
هل يريد النظام السوري تصدير أزمته إلى لبنان؟ وهل يناسب ذلك حليفه حزب الله؟ قد لا يكون من السهل الإجابة على السؤال الأول، لكن ما هو مؤكد، على الأقل، بالنسبة لحزب الله أنه يسعى إلى تبريد الصراع المذهبي السني الشيعي، لبنانيا وعربيا، لما لذلك من تأثير كبير على وجوده ومشروعه.

في حين قد يكون من مصلحة غيره تسخين التأزم الطائفي والمذهبي إلى حدود الغليان فالانفجار، انطلاقاً من لبنان مروراً بالعراق، وصولاً إلى كلّ مكان توجد فيه أقلية دينية أو عرقية في الشرق الأوسط برمته، مثل السعودية والبحرين وتركيا وغيرها، هو ما سيسمح بخلط الأوراق، وإعادة ترتيب الأولويات دولياً وإقليماً.

وحينها يصبح إسقاط نظام سياسي ما أو السعي لتحقيق الديمقراطية عند شعوب المنطقة ترفاً فكرياً ومطلباً أفلاطونياً، مقارنة بضرورة استتباب الأمن وتحقيق الاستقرار والحدّ من قوافل الهجرة إلى الشمال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى