مقالات تناولت “داعش” والتطورات الأخيرة في المنطقة
داعش في الموصل وإسرائيل في غزة: وجهان لعملة واحدة/ كمال ديب
اختفاء مسيحيي المشرق هو تطبيق عملي لنبوءة صراع الحضارات السطحية، تمارسه على الأرض اليوم في العراق جماعات إسلامية بمسميات شتى من القاعدة وداعش والنصرة وأخواتها، تدعمها اسرائيل والولايات المتحدة وتركيا وتمولها السعودية ودول الخليج.
والحرب على غزة اليوم هي الوجه الآخر لحرب داعش في العراق، في عملة واحدة بوجهين لكي ينهي التحالف الجهنمي ما بدأه قبل عقود في قتل القضية الفلسطينية في الأردن ولبنان في السعينيات ثم في الضفة في العقدين الماضيين وفي غزة منذ 2008 في سلسة حروب متتالية.
وما الحركات الدينية إلا الذراع القذرة للجيش الاسرائيلي في عمق فلسطين الجغرافي، فينهش في شعوب ومدن سوريا والعراق ويحاول التمدد إلى لبنان.
دور الخليج في إفناء مسيحيي المشرق
هدف الهولوكست ضد المسيحيين في المشرق والذي وصل إلى العراق اليوم، هو القضاء على الشريك المسيحي صاحب الدور الأكبر في نهضة العرب التي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر. فلا يكتمل المشروع السعودي ـ الأميركي لضرب العروبة ومحو فلسطين إلا بإفناء مسيحيي العراق وسورية ولبنان ومصر ليبقى وجه السلفية وحملة السواطير.
وعلى كل العرب أن يدركوا أنّ زوال المسيحيين في المشرق هو خسارة كبيرة للعالم العربي. ذلك أنّ الوجود المسيحي في المشرق هو أساس المسيحية ورمز الاستمرارية ووجه رسالة البشارة. وغياب المسيحيين عن الأراضي المقدسّة، ونعني مجالها الأوسع لبنان وفلسطين وسورية والعراق ومصر، إنما يُفقد الاسلام صورته المنفتحة على العالم ويكشف صورة الغرب الذي يدعم التطرف الاسلامي ويدعم اسرائيل من دون أن يكترث للوجود المسيحي في المشرق.
الوجود المسيحي في المشرق مهدّد بالذبول وحتى بالانقراض، وقد انقرض فعلاً في بعض البلدان العربية بسبب معدلات الولادات المتدنيّة، والهجرة المتفاقمة في أوساط المسيحيين إلى أوروبا والأميركتين وأوستراليا، إلى هجرة الأدمغة، والآن جاء التطهير الديني في العراق وسوريا. وكل هذه العوامل تؤشر إلى احتمال المحو التام للوجود المسيحي في المشرق بحلول عام 2050.
لقد بات المسيحيون يشكّلون أقليات لا شأن لها اليوم، يتآكل نفوذهم ويُدفعون إلى الهامش في شؤون بلادهم وتتضاءل مساهمتهم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتكاد خصوصيتهم كجماعة دينية مهددة، وحقهم في التميّز والاختلاف موضع تساؤل، وتعبيرهم الثقافي والفني إلى العرب والعالم يُنتقد، ونمط عيشهم ولباسهم موضع تحدّ.
محاولات الإبعاد (العنفي والمقنّع، العفوي والمقصود) والقتل والسبي يرتكبها ضد المسيحيين ليس فقط داعش والمنظمات الإرهابية، بل دول عربية وغربية تجعل مسيحيي العراق والمشرق كبش محرقة في لعبة الأمم. ولا يحتاج المرء إلى كثرة تحليل وبحث، فالمعلومات بل أطنان منها تتراكم عن دور الدول العربية وتركيا واسرائيل في خروج المسيحيين من ديارهم وبأعداد متزايدة في السنوات الأخيرة. إضافة إلى إثارة الحروب داخل الدول المتعددة كالعراق وسوريا ولبنان في – رجعة إلى عصور الظلمات والشتاء البارد، حيث لا قدرة للمسيحيين سوى الهجرة خصوصاً أنّ نصيحة الغرب الأوروبي والأميركي للمسيحيين جاهزة: خذوا الفيزا وتعالوا.
يوضاس في القيادات المسيحية اللبنانية
في أوج الهجمة الدينية الداعشية هذه، والتي تُسرّع في انحسار المسيحيين عن المشرق، من المخزي أن ترحّب شخصيات مسيحية لبنانية بالاسلاميين وتصبح بوقاً يطمئن الرأي العام والأقلية المسيحية في المشرق بأن «لا خوف عليكم إذا وصلت الجماعات الإسلامية إلى الحكم». ومع الأسف هذه القيادات المسيحية، روحية وسياسية، تتبع السياسة السعودية وتهلل للربيع الاسلامي ولا ترد الأذى عن مسيحيي المنطقة. فيذهب البطريرك إلى اسرائيل وهناك يلتقي بجماعة لحد ويمدح بفئة عميلة كانت تمارس التعذيب بحق الوطنيين في معتقل الخيام، ثم يصف هذه الفئة بأنها أفضل من الآخرين في لبنان ويقصد المقاومة. ويقوم زعماء مسيحيون بشكل يومي بإصدار التصاريح النارية ضد سوريا ولا يعنيهم في شيء كالعادة اي شيء يحصل في فلسطين.
إنهم هؤلاء الذين أوصلوا مسيحيي لبنان وبالتالي مسيحيي المنطقة إلى بدء الاندثار السياسي والاقتصادي والثقافي. فبسبب ارتهانهم منذ عقود وتحويلهم لبنان من منارة للعلمنة والثقافة، إلى وكر للرجعية والاصطياف الخليجي والفضائيات المتطرفة، انحدرت نسبة المسيحيين بسبب انهيار الدولة اللبنانية منذ السبيعنيات من خمسين في المئة من السكان إلى 25 في المئة اليوم. وثمّة توقع وصول هذه النسبة إلى عشرين في المئة عام 2020، وخصوصاً أن ما يسمّى «الربيع العربي» الذي بدأ قبل ثلاثة أعوام قد عجّل بخروج المسيحيين.
لقد نُكبَ لبنان ومسيحيوه بقيادات وتنظيمات تابعة للسعودية ومن ورائها أميركا وإسرائيل، وهي شخصيات وتنظيمات مسيحية لا علاقة لها بالتنوير والثقافة بل هي رجعية بتفكيرها وقِبلية بأدائها ولا تعكس صفوة البيئة المسيحية المتعلمة والمثقفة والمتنورة في لبنان. بل هي تتحكم بالمسيحيين وتفرض عليهم التبعية للرجعية ظلماً وعدواناً. وتبعيتها لأنظمة الظلام لا يدفع ثمنها غالياً مسيحيو لبنان فحسب بل سائر نصارى المشرق.
ولا يفرح البعض في لبنان أنّ مسيحيي سورية والعراق يفرّون إلى لبنان، فيزيدون الحجم الديمغرافي لمسيحيي لبنان. ذلك أنّ ما يجري في سورية والعراق لن يعفي الساحة اللبنانية، وقد انتشر الدواعش والنصرة وأخواتها في مناطق عدة من لبنان وبغطاء لبناني. وساعتئذ لن ينفع اي زعيم مسيحي أنه يحمل بطاقة توصية من أمير سعودي أمام حملة السواطير الملتحين.
داعش نازية القرن الحادي والعشرين
إذا كانت ثمّة علامة استفهام كبيرة حول مستقبل مسيحيي لبنان، فالوضع يسير نحو الأسوأ بالنسبة لمسيحيي سوريا والعراق في ظل الظروف التي يمر بها البلدان. وما ارتكبته داعش في الموصل ومناطق أخرى هو استمرار لما بدأه الاحتلال الأميركي عام 2003، تفجيرات واغتيالات وعمليات اغتصاب النساء وحرق كنائس. خصوصاً أنّ العراق بات مشرع الأبواب للتنظيمات الإسلامية المتطرّفة الساعية إلى تفريغ العراق من أقدم جماعاته الدينية التي ساهمت في بناء حضارة علمية وفلسفية. فمسيحيو العراق شاركوا المسلمين في الميادين الاجتماعية والفكرية والثقافية والاقتصادية والدينية لقرون عدة ويتعرضون للضغط المتواصل لدفعهم إلى الهجرة.
حال مسيحيي العراق هو الأسوأ بين كل مسيحيي المشرق. وهم بغالبيتهم أحفاد الامبراطوريات القديمة الآشورية والكلدانية، حافظوا على وجودهم المهم منذ القرن الأول الميلادي وحتى الغزو الأميركي عام 2003. وإذ خلال عقد واحد تحت الاحتلال الغربي ينخفض عددهم من 1.2 مليون نسمة إلى أقل من 400 ألف. لقد هرب مئات الألوف من مسيحيي العراق إلى سورية ولبنان والمغتربات البعيدة.
مسيحيو العرب أخلصهم لفلسطين
مسيحيو الشرق هم همزة الوصل بين الشرق والغرب وبين العالم الاسلامي والعالم المسيحي، وهم الجسر الحضاري العميق في علاقات العرب مع أوروبا وأميركا. لقد رفض مسيحيو العرب أن يجعلهم الغرب أذناباً وعملاء، من بابا شنودة إلى مطارنة سوريا والعراق وفلسطين، إلى أبرز الشخصيات المسيحية المناضلة.
أما الأنظمة العربية التي تتخذ الاسلام شريعة لها في العالم العربي إضافة إلى الدول التي تسير في الفلك الأميركي ـ الاسرائيلي كمصر والأردن، فهي تنسق مع اسرائيل وتساهم في إجلاء المسيحيين والقضاء على فلسطين وعلى الأنظمة التعددية في العراق وسوريا.
المطلوب أن يقف كل صاحب ضمير حي إلى جانب قضية فلسطين وقضية الحفاظ على مسيحيي الشرق، لأنه جانب الحق ضد الباطل، وجانب العدل ضد جبروت وأموال النفط وظلام الرجعية، ولا يقف ككثير من المرتهنين من الصحافيين وحملة أقلام كاذبة وإعلاميين إلى جانب القوي وصاحب المال.
علينا التصدّي لمحاولات انهاء الوجود المسيحي في هذا الشرق لما يعنيه من وجه حضاري للعرب وقبولهم للآخر. وهذا الوجود مستمرّ منذ وطأت قدما المسيح أرض الجليل وجنوب لبنان قبل ألفي سنة. ومن هناك انتشرت المسيحية في دمشق ثم في انطاكيا شمالاً، ومن ثم عبر الفرات إلى بلاد ما بين النهرين، كما انتشرت من فلسطين جنوباً إلى وادي النيل.
المسيحيون العرب هم حاجة عربية واسلامية. والمساهمة المسيحية الأساسية في القرن العشرين كانت في نشرهم فلسفة الدولة الحديثة القائمة على المساواة والعدل بصرف النظر عن ديانة المواطن، والنظام البرلماني وفصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وفي إعادتهم اللغة العربية إلى الحياة وضبطها ونشرها آداباً ومعارف. وليس مسيحيو المشرق صليبيين بل الاسلام هو جزء من شخصية المسيحي المشرقي كما جاء على لسان أمين المعلوف: «أنا مسيحي ولغتي الأم هي العربية وهي لغة الاسلام المقدسّة، وهذا الثنائي، مسيحيتي ولغتي العربية، يشكّل فعلاً هويتي».
الواقع الذي فرضته أحداث العراق وسوريا لا يبشّر بالخير. وهو يهدّد ليس فقط المسيحيين بل سائر المتنوّرين والمثقفين المسلمين في المنطقة. وواجب المثقف المسلم قبل المسيحي أن يدقّ ناقوس الخطر حتى لا تتحوّل الكنائس إلى شهادة على الصمت وليس شهادة على الحق.
* أستاذ جامعي ــ كندا
الأحبار
الداعشية لم تصل الى العراق حافية/ هيفاء زنكنة
في طريقي الى تظاهرة مقابل مبنى البرلمان البريطاني، يوم السبت الماضي، لاستنكار جريمة داعش بحق المسيحيين، بمدينة الموصل، التقيت بصديق من اهل الموصل، حضر هو الآخر، مثلي، ليؤكد بان المسيحيين ، حالهم حال بقية السكان ، هم روح العراق، واستهدافهم هو استهداف لكينونة العراق الذي نعرفه ونعمل على بقائه ، فما قيمة بلد ما بدون أهله؟
كان الصديق مشحونا بحرارة العاطفة محتارا في اختيار الكلمات لوصف جريمة داعش النكراء واجبارهم مسيحيي الموصل على مغادرة بيوتهم ومدينتهم، متسائلا عما اذا كان هناك مثيل لهذه الافعال الهمجية وهل بامكان احد ان يقترفها؟. قلت : نعم ، هناك من ارتكب ما يماثلها في العراق ولايزال يواصل ارتكابها. وان كان كل فعل وحشي يفاجئنا كالموت مهما حاولنا تدريب أنفسنا على تقبله.
كيف يمكن تقبل تهجير العوائل بين ليلة وضحاها؟ الاستيلاء على البيوت والممتلكات ليجد المرء نفسه ، على حين غرة ، في خيمة على ارض مهجورة؟ تخريب الاضرحة والكنائس؟ هل هو حقا الاسلامي السني الارهابي المستقوي بالعقيدة السماوية من افتى بهذه الافعال؟ من المسؤول عن قصف وتخريب كل ماهو جميل ببغداد في حملة الصدمة والترويع؟ عشرات التماثيل ، نتاجات فناني العراق الكبار، التي ازيلت من الساحات العامة والجداريات التاريخية والمعاصرة ، من الذي جرفها؟ ماذا عن تهديم المدن ونهب المتاحف وحرق المعارض والمكتبات بمخطوطاتها ونفائس محتوياتها النادرة؟ ماذا عن آثار بابل ، وبقية المواقع الاثرية ، مهد الحضارة الانسانية التي طحنها جنود الغزاة ليملأوا بها أكياس السواتر بدلا من التراب، وليجعلوا استعادتها ، حسب علماء الآثار امرا مستحيلا؟
وقتها ، ايضا، كان البرابرة الأجانب قد ادهشونا. فمن التعذيب المروع ( من ينسى ابو غريب؟) الى المذابح والاغتصاب والعقاب الجماعي. من كان يتوقع سلوكا حضاريا من ابناء الديمقراطية الامريكان والبريطانيين ، أصيب بخيبة أمل. بات يكفر بكل ماهو غربي وهو يعيش مجازر حديثة والاسحاقي والفلوجة . الموت البطيء، على مدى مئات السنين المقبلة، جراء استخدام اليورانيوم المنضب واجساد الاطفال الذائبة بتأثير الجيل الجديد. هل تذكرون اغتصاب الطفلة عبير الجنابي وحرقها وشقيقتها هديل ذات الثماني سنوات مع والديها لاخفاء جريمة المارينز ، رمز الاخلاق والقيم الامريكية؟ هل كان المارينز سنة او شيعة؟ هل تتصورون ما يجري في اذهان أهل الضحايا ، وفي نفوس الجيل الناشىء من عوائلهم، وهم يبحثون عن طرق استرداد الكرامة المهدورة والحقوق المغتصبة ، في ظروف غياب الدولة والمجتمع السوي، وإنهيار التعليم وسيادة شريعة النهب والسلب؟ حينئذ، كان انبثاق المقاومة المسلحة وصعودها وهزيمتها للإحتلال.
وانسحبت القوات القتالية الامريكية . من بقي منهم ارتدى ملابس مدنية جديدة ، نظيفة ، لا يلوثها دم العراقيين مباشرة. البسوا من صاحبهم محتميا بظل دباباتهم بدلات لا تليق بغير من يفتح ابواب مدينته للغزاة . بدلات سوداء لئلا تظهر عليها بقع دم المواطنين اثناء التعذيب والقتل. فالامريكي والبريطاني لا يريد تلويث يديه اثناء التعذيب، ولم يفعل ذلك ولديه ما يكفي من المستخدمين العراقيين الاوفياء؟ هنا ، ايضا ، أدهشنا البرابرة العراقيون حين طوروا أساليب التعذيب المحلية الى مستوى عالمي وتقارير المنظمات الانسانية الحقوقية الدولية تشهد بذلك. فقبل إنسحاب القوات، ابتكر الوزير الاسلامي جبر صولاغ اسلوب استخدام المثقاب الكهربائي للتعذيب . وجاء الاسلامي نوري المالكي رئيسا للوزراء في المنطقة الخضراء ليطلق ايادي اعضاء فرقته القذرة في الاغتيالات ورمي عشرات الجثث في الشوارع ، يوميا. مؤسسا بذلك الإرهاب الحكومي المنتشر في المحافظات من خلال توزيع العقود والصفقات على مرتزقة الساسة والشيوخ المرتزقة. حين واجه العراقيون ذلك بالإحتجاج السلمي في كل محافظات العراق أولا، أملا في تحريك الضمائر وتنبيه السياسيين الى قاعدة رضا الناس بدل قمعها، إستجاب النظام بالنار والإغتيالات ، وتوسيع حلقات شراء الضمائر، وأخيرا بمجازر فض الإعتصامات وقصف المدن بالبراميل المتفجرة بالاضافة الى القصف العشوائي. كلاهما ، بسبب عامل العشوائية واستهداف المدنيين الابرياء، هو جريمة حرب وابادة وخرق لحقوق الانسان. في مدينة الفلوجة وحدها بلغ عدد القتلى من المدنيين ، ضحايا القصف والبراميل المتفجرة ، منذ شهر كانون الثاني/يناير وحتى اليوم ، 620 قتيلا و 1680 جريحا ، حسب مصدر رسمي بمستشفى الفلوجة. فهل من همجية اعلى من هذه؟ وهل بالامكان تصور ما يدور في اذهان اهل الضحايا واقاربهم وفي نفوس الجيل الناشىء من طرق استرداد الكرامة المهدورة والحقوق المغتصبة ، دينيا او الفروع الدينية بفقهها المتشعب المتناقض عن القصاص والعدل والرحمة ، في ظروف غياب الدولة والمجتمع السوي، وإنهيار التعليم وسيادة شريعة النهب والسلب؟
نعم ، هنا ، ايضا ، أدهشنا البرابرة. بدلا من الدفاع عن المواطنين وحمايتهم من أي هجوم كان، بضمنه داعش، هرب قادة الجيش الاشاوس وتركوا الجنود مخذولين، ثم قام اشاوسة العراق الجديد ، من قوات الأمن العراقية والمليشيات الموالية للحكومة، المدربين من قبل امريكا وبريطانيا ، بمهاجمة السجون في خمس مدن ، واعدام 255 معتقلا وحرق عدد منهم وهم احياء . كان بين المعتقلين القتلى ثمانية أطفال ، حسب تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش الذي يوثق بالاسماء والاماكن حجم الجريمة البشعة التي ارتكبت « انتقاما من فظاعات داعش السنية» .
يبرر رئيس الوزراء نوري المالكي وساسة النظام هذه الجرائم بانها رد على هجوم المنظمة الارهابية داعش . الا ان هذا التبرير لايستند الى الحقيقة اطلاقا. فحملات قصف المدن والاغتيالات وقتل المعتقلين وتهديم المساجد وحرق الكنائس وتخريبها ، سبقت ظهور داعش واخواتها . وهي حملات تميزت بمنهجيتها هادفة الى تغيير ديموغرافية المدن ، خاصة المدن ذات الغنى في التنوع السكاني مذهبيا ودينيا، كبغداد والموصل والبصرة . وها نحن نرى رسم خارطة جديدة لهذه المدن رسمها المحتل منذ التسعينيات ونفذها مستخدموه اثناء توليهم السلطة وجاءت داعش ، مهما كان اصلها وفصلها، لتكون القشة القاصمة الاخيرة لوحدة العراق وتنوعه. هل من همجية أعلى؟
نعم ، هناك درجة أعلى من الهمجية وهي التي تستهدف حياة الانسان ووجوده وكرامته.
لقد اثبتت الحكومة الطائفية الفاسدة فشلها ، على مدى ثماني سنوات، في اداء مهماتها في حماية المواطنين وحفظ كرامتهم وتأمين الاساسيات المعيشية بل واثبتت ، بالنيابة عن المحتل، بانها السبب الفعلي في افراغ العراق من مواطنيه والعمل على تقسيمه وزرع بذور الشقاق بين مواطنيه ، منشغلة بالاقتتال المسعور على نهب ثروة العراق. اما المواطن، مهما كانت قوميته او دينه او مذهبه ، فانه عومل كقيمة فائضة من الافضل الاستغناء عن وجوده اذا ما احتج. ان وعي المواطن العراقي بتاريخ الاستعمار وسياسة الهيمنة الامريكية ودعاة التقسيم والفيدراليات ، والعمل على الا يتحول الصراع بين الجلاد والضحية الى صراع بين الضحايا ، والا ننسى من هو المسؤول الاول، هو الذي سينقذ المواطن ويحافظ على كرامته وانسانيته ويستعيد ملكية البلد من السراق.
٭ كاتبة من العراق
القدس العربي
“داعش” وافتضاح تواريخنا السحيقة/ حـازم صـاغيـّة
حين كنّا شبّاناً، كان يسلّينا، وفي الوقت نفسه يستفزّنا، كلام بعض اللبنانيّين عن الفينيقيّة وعن أنّنا فينيقيّون. فهذا الكلام كان يبدو لنا، في أجوائنا العروبيّة واليساريّة حينذاك، ضرباً من البلاهة المشوبة بسوء النوايا.
أمّا السيّئ فيها فوضعُ هذه الفينيقيّة في مواجهة عروبتنا التي نتحدّث لغتها ونتسمّى بأسمائها وننسب أنفسنا إليها أفراداً وجماعات. وأمّا الأبله فيها فأنّنا لا نعرف من تلك الفينيقيّة المتضخّمة إلاّ بضع آثار ميّتة ورسوماً ونقوشاً حفلت بها كتب التاريخ المدرسيّة.
وفي وقت لاحق، حين رحت أزور مصر وأتعرّف إلى مصريّين، أتيح لي أن ألتقي بأشخاص يقولون بالفرعونيّة مثلما يقول أصحابنا اللبنانيّون بالفينيقيّة. وفي مصر، استند ذاك الزعم إلى قاعدة ضخمة وجبّارة تمثّلها الأهرامات التي احتلّت تقليديّاً رأس قائمة المواقع السياحيّة في البلد المذكور.
والحال أنّ هؤلاء المصريّين كانوا، بسبب وبلا سبب، يستشهدون بـ”سبعة آلاف سنة” يُفترض أن يرقى إليها ذاك التاريخ. أمّا البعض الأكثر تواضعاً ودقّة فكان يقصّر المدّة ويكتفي بخمسة آلاف أو أربعة. لكنْ بدل الثقة بالنفس التي كان يُفترض بهذا الرسوخ في التاريخ أن يمنحها لصاحبه، كان يبدو لي العكس تماماً.
فالمصريّ المعتدّ بالفراعنة وبآلاف السنين قد يحدّثك، هو نفسه، بعصبيّة وإلحاح عن مؤامرة قد تقضي على مصر في أيّة لحظة. والمؤامرة، في العادة، مصدرها أميركا (أمريكا) وإسرائيل، لكنّها قد تغدو أحياناً مؤامرة تنفّذها الطائفة البهائيّة أو الطائفة الشيعيّة في مصر!
أمّا العراقيّون فهم أيضاً لا يقتصدون في الكلام عن حضارات “ما بين النهرين”، وكثيرون منهم يستبطنون تنافساً مع مصر حول الأسبقيّة في التاريخ وفي الحضارة. وهنا أيضاً ثمّة كلام كثير عن المسمار وعن الدولاب وعن “أوّل” اختراع في التاريخ. حتّى البعثيّون العراقيّون، في عهد صدّام حسين المديد، صالحوا ذاك النزوع العراقيّ إلى المجد. هكذا طووا نظريّتهم القائلة بأنّ العروبة تحبّ ما قبلها، ليتغزّلوا ببابل وأشور ونينوى.
والآن، ربّما كان من فضائل “داعش” القليلة أنّها تجعلنا أكثر تواضعاً. فنحن، “من المحيط إلى الخليج”، لم ننجح في التكيّف مع قرن واحد من تاريخ العالم الحديث. وها نحن نتصارع صراعاً يوميّاً مع العبارة الإسلاميّة الشهيرة التي ترسمنا “خير أمّة أُخرجت للناس”. فكيف، والحال هذه، ننجح في الغوص قروناً إلى الوراء لمعانقة تلك الإمبراطوريّات الجليلة التي يزعم بعضنا أنّها مرتكزه التأسيسيّ ومصدر “أصالته”؟
لقد فتحت الجليلة “داعش” عيوننا، ويبقى علينا أن نرى.
موقع لبنان ناو
داعش وافتضاح تاريخنا غير السحيق/ ايـلـي خـوري
العروبة هي التي وضعت نفسها في مواجهة كل من وما ليس عربيًّا
قرأت بتلذّذ وابتسام مقالة الصديق حازم صاغية الأخيرة على موقع NOW والذي حمل عنوان “داعش وافتضاح تواريخنا السحيقة” فوافقته المقصد العام، ولم أوافقه بعض الرأي. فأنا، وللصدفة، من أصحاب “البلاهة المشوبة بسوء النوايا” حينذاك، ولعلني مازلت. لذا لي ملاحظة واحدة على ما ورد واعتراضان.
الملاحظة في المقدّمة والتي سأعرضها كما جاءت في مقالة الصديق، إنما بتعديل طفيف لتصبح من وجهة النظر المقابلة: “حين كنا شبّاناً، كان يسلّينا، وفي الوقت نفسه يستفزّنا، كلام الكثير من اللبنانيّين عن العروبة وعن أننا عرب. فهذا الكلام كان يبدو لنا، في أجوائنا اللبنانيّة “اليمينيّة” حينذاك، ضربًا من سوء النوايا المشوب بالبلاهة”.
فالمقدمة إذًا قد تصلح أيضاً لوصف الحالة في المقلب الآخر- السطحي منه والأعمق. لذا لا اعتراض بل مجرّد ملاحظة كمقدمة للاعتراضَين.
أما الاعتراض الأوّل فهو على “السيّئ فيها”. فالحضارات الفينيقيّة والفرعونيّة و”ما بين النهرينيّة” وحتى الكرديّة وحضارة البربر، لم تضع نفسها في مواجهة العروبة بداية، إنما العروبة هي التي وضعت نفسها في مواجهة كل من وما ليس عربيًّا. ولا حاجة للتذكير بأدبيّات وأفعال العروبيّين أيامها. كانت العروبة “داعشيّة” إلى حد كبير أيضاً. فالعروبة وتردّداتها الصوتيّة الفارغة كانت المقياس، وإلاّ فأنت خائن (بدلاً من كافر) وتستحق الشنق (بدلاً من الذبح) وفي الحد الأدنى أنت أبله تستحق الشتم والاستهزاء. الفارق أنّ داعش لم تمتلك بعد حسّ الفكاهة هذا.
ثم إن الجزم بأنّ “عروبتنا” قائمة بمجرّد أننا “نتحدّث لغتها ونتسمّى بمفرداتها” فهو شيء فيه الكثير من اللامنطق. فهل البرازيليون برتغاليون لأنّ لغتهم وأسماءهم برتغالية، وهل معظم شعوب أميركا اللاتينية من الإسبان؟ وماذا عن الأميركيّين والأستراليّين والكنديّين والاسكتلنديّين وغيرهم، فهل جميعهم إنكليز ولم ننتبه؟
جميعهم يتحدثون بهذه اللغات ويُسمَّوْن بأسمائها، ويكتبون الشعر والمسرح والفن بتلك اللغات، فهل نقسم العالم إلى بلاد عرب وإنكليز وإسبان وفرنسيّين؟ وهل نمحو كل تلك الحضارات السحيقة والثقافات فقط لأن ألسنتهم تتكلّم لغات محدّدة؟ فكما شاءت ظروف التاريخ أن ينشر الاستعمار الأوروبي اللغة الإنكليزية والفرنسية والإسبانية وغيرها في بقاع تجاوزت مكانها الأصلي بمساحات، شاءت الظروف إياها أن ينشر الإسلام اللغة العربيّة والتي ما كان للتاريخ أن يمنحها القيمة الحالية إلا بسبب إنجازات الإسلام فيها وليس العروبة بالضرورة.
أما الاعتراض الثاني، فهو على “الأبله فيها” أو عن السبب الذي جعلنا “لا نعرف من تلك الفينيقيّة المتضخّمة إلاّ بضعة آثار ميّتة ورسومًا ونقوشًا حُفرت بها”. وهو أوّلاً أنّ الكثيرين منا وُلدوا وشعاع بصرهم لا يتعدّى طول أنفهم العربي. قيل لهم عروبة فمشوا، فلسطين فبكوا، مؤامرة فصدّقوا. قلنا لهم هناك تاريخ ما قبل الطوائف، تهكّموا. قلنا لهم مشروع ضبابي صعب التحقيق، قالوا خونة. قلنا لهم البيت أوّلاً، قالوا الجوار أوّلاً وإلّا لا بيت.
ألم يقم هؤلاء بقمع تاريخ الفينيقيّين وغيرهم مثلاً، ألم يصارعوا كتب التاريخ السائدة بحجّة الانعزالية أو الاستعمار، تارة بالـ”بسودو” تاريخ وأخرى بالتسخيف والتجاهل. ماذا كانت مشكلتهم مع فيليب حتي مثلاً؟ ألم يمارسوا الضغط الثقافي والعرقي بما يشبه، إلى حدّ كبير، ما مارسته النازية والبولشفية سابقاً، وكما مارسته الخمينيّة وطالبان حديثًا، وداعش أخيرًا؟
لست هنا لأدافع عن التاريخ الفينيقي، فهذا حديث آخر، وما علينا إلاّ مطالعة ما ينتجه الغرب عن الموضوع، وفي الفترة الأخيرة على الأقل علّنا نستنتج شيئاً. علماً أنّ دايونيس، المؤرخ الإغريقي، كان وصفهم في حوالى العام الثالث قبل الميلاد بأنّهم “أوّل مؤسّسي العالم العظماء، مؤسّسي مدن ودول جبارة… وهم أخذوا من الأرض اليسير وإنما أخذوا من البحر الكثير”. أي أنهم لم يَستعمروا، وربما كانت هذه مشكلتهم.
ومن ناحية أخرى، أليست العروبة متضخّمة أيضًا؟ كم كان ليكون حجمها في صفحات كتب التاريخ لولا الإسلام؟ فلو لم ينتشر الدين لما انتشرت اللغة، ولربما كان حجمها كمثل الحضارات الأخرى أكبر أو أصغر بقليل، يذكرها التاريخ استلطافًا أو اعترافًا، ولكن بالتأكيد ما كانت لتكون بحجم حضارة الإغريق أو الروم، أو العرب كما هي اليوم، وغيرهم ممن يحتلون معظم صفحات كتب التاريخ في أيامنا.
ليس سرًّا أنّ لبّ الحديث في المقالتين ليس الفينيقيّة ولا الفرعونيّة ولا “بين النهرينيّة” إنما يتعلّق بنسخاتها المعاصرة أي لبنان ومصر والعراق والآخرين.
فالخلاف بين الطرفين ليس عقائديًا في حدّه الأعمق إنما هو عملي. فلا اللبناني “الفينيقي” يعتبر نفسه حفيد حيرام، ولا المصري “الفرعوني” يعتبر نفسه سليل تحتمس أو غيره، ولا الخلاف على اسم الوطن أكان لبنان، مصر، العراق، تونس أو غير ذلك، إنما على وجهة استعمال هذه الأوطان.
“الفينيقي” أو “الفرعوني” مثلاً يعتبر نفسه لبنانيًا أو مصريًا قبل أي شيء آخر، وبالتالي فهو يقبل بالعروبة كـ”كومنولث” ثقافي أو اقتصادي مثلاً، لكن ليس على جثث مصالح شعبه ووطنه.
أما الحال مع أخوتنا العروبيّين، إذا كانوا “دايت”، فهم أيضًا لبنانيّون ومصريّون وعراقيّون وخلافه. ولكن ضمن وضع موقّت فيه الكثير من سوء النيّة في انتظار الحالة العربية الواحدة. أما إذا كانوا “سكّر زيادة” فهم عرب فقط يوفرّون على أنفسهم عناء اعتبار أنفسهم جزءًا من أوطانهم ليقطعوا “خط عسكري” مع أقرب قائد أمّة لديه عسكر أو فلوس، أما الأوطان فلشو؟
فالخلاف بين الخيارين إذًا هو على دور الأوطان وليس على قِدم الحضارات أو ضخامتها. الأوّل يعتبر وطنه ملاذه الأوّل والأخير وإلاّ الهجرة. والآخر يعتبره محطة قطار لا بدّ أن تصبح خلفه عندما يصل القطار المنشود، وهو-طبعاً- لن يأتي.
لو كانت تلك الحضارات أو حتى نسخها الركيكة الحالية منها كلبنان، ومصر والعراق وغيرها، ما زالت قائمة بحدّها الأدنى، لو لم تنتحر أو تُنحر على مذبح العروبة، لما كان هناك من داعش، ولا حتى ولاية فقيه.
في المحصّلة، أوافق الصديق حازم الرأي على كل الخاتمة باستثناء المزدوجين ” “ حول كلمة الأصالة. لكن لا بد من التذكير بأنّ أحدًا لم يرد استعداء العروبة، ولكن على العروبة أن تبادر لأن تصبح أقلّ “داعشيّة” أوّلاً، أو كما أظنكم تسمّونها مؤخرًا، عروبة منفتحة أو شيئًا من هذا القبيل، وإلاّ فعشتم وعاشت داعش و”الدولة” و”الهلال” وعاشت “العروبة” خالدة “بغداديّة” كما هي اليوم.
موقع لبنان ناو
ماذا أفادتنا تلك الأفكار؟/ حازم صاغية
لنتأمّل شخصاً مفتَرضاً اعتنق العروبة والقوميّة العربيّة في الزمن الناصريّ للخمسينات والستينات، ثمّ بعد هزيمة 1967 التي نالت من هيبة جمال عبد الناصر، انعطف صاحبنا نحو يسارٍ ماركسيّ ما، وأرفق ذاك الانعطاف بالإيمان بحرب الشعب الطويلة الأمد التي تخوضها الثورة الفلسطينيّة، ثمّ بعد الضربة التي ألمّت بالمقاومة الفلسطينيّة على يد إسرائيل في 1982، وصولاً إلى توقيع منظّمة التحرير اتفاق أوسلو مع الإسرائيليّين في 1993، انتقل إلى وعي إسلامويّ راديكاليّ، سنّيّ أو شيعيّ.
شخص كهذا موجود بكثرة في العالم العربيّ عموماً، وفي منطقة المشرق بشكل خاصّ. وهؤلاء الذين يتشكّل منهم أمثال هذا الشخص المفترض كانوا في مطالع صباهم في أواخر الخمسينات، ثمّ باتوا شبّاناً في الستينات وفي السبعينات، وهم اليوم ما بين خمسيناتهم المتأخّرة وسبعيناتهم. وكما هو جليّ، مرّت على هؤلاء أحداث بالغة الضخامة تبدأ بهزيمة 1967 العربيّة ومن بعدها الثورة الإيرانيّة الخمينيّة في 1979، ثمّ كان انهيار المعسكر السوفييتيّ في 1990 – 1991، وحروب صدّام حسين المتتالية، انتهاء بالثورات التي عُرفت بـ “الربيع العربيّ”.
في هذه الغضون، قرأ الشخص الذي نفترضه كتباً كثيرة، قوميّة عربيّة وإسلاميّة وماركسيّة – لينينيّة، مثلما عاش تجارب بالغة الضخامة والأهميّة يُفترض بها أن تخلّف الكثير من الدروس والعبر.
لكنّه حين فكّر بالأحوال التي نعيشها اليوم في العالم العربيّ، وجد أنّ كلّ ذاك التراكم الذي عاشه وآمن به وقرأ عنه لم يسعفه ألبتّة في فهم ما يجري.
فالقوميّة العربيّة سبق أن علّمته أنّنا كلّنا عرب نصبو إلى الوحدة التي تقف في وجهها، وتتآمر عليها، قوى الاستعمار وإسرائيل. والإسلام السياسيّ علّمه أنّنا كلّنا مسلمون لا يفرّق بين واحدنا والآخر إلاّ أطماع الأغراب والغربيّين المعادين لنا، وبمجرّد أن نتمكّن من إلحاق الهزيمة بهذه الأطماع، نبدأ السير نحو إقامة الدولة الإسلاميّة الجامعة والمانعة. واليسار الماركسيّ علّمه أنّ الظواهر التي نعيشها، من طائفيّة وعشائريّة وسواهما، ما هي إلاّ تجلّيات وتمظهرات للصراع الطبقيّ، أكان في كلّ دولة على حدة أم على نطاق أمميّ شامل. ودائماً كانت الثورة الفلسطينيّة وسائر الثورات التي نسجت على منوالها تعلّمه أنّنا مجمعون على هذا النهج الكفاحيّ المقاوم شكلاً وحيداً في حسم تناقضاتنا مع الصهيونيّة والإمبرياليّة والرجعيّة وما إلى ذلك.
وحين دار الزمن دورته، تبيّن لصاحبنا أنّ تلك الأفكار لا تسمن ولا تغني من جوع. فهناك بلدان كسوريّا والعراق تنهار، وهناك تقاتل وعداء لا حدود لهما بين عرب وعرب، وبين مسلمين ومسلمين، وهناك عزوف عن المشاركة في ثورات كالثورة الفلسطينيّة، أو التهاء شامل عن القضيّة الفلسطينيّة، الموصوفة بالمركزيّة، بقضايا أخرى، وطبعاً بات الكلام في اليسار واليمين لزوم ما لا يلزم، سيّما وقد انهارت منظومة الدول التي كانت تسمّي نفسها اشتراكيّة وتقلّصت أوزان أحزاب اليسار وأحجامها. وأخيراً، هناك اليوم تنظيمات كالنصرة وداعش، معطوفة على أخرى كحزب الله وأبي الفضل العبّاس.
صاحبنا والذين هم مثله لا بدّ لهم، بقليل من النباهة، أن ينتبهوا إلى مجانيّة العمر الذي عاشوه، وإلى لا جدوى الأفكار التي اعتنقوها وقامت في معظمها على تناقض واحد بسيط مع الآخر (الاستعماري أو الإمبرياليّ أو الصهيونيّ أو الصليبيّ…)، لكنّها لم تهيّئهم إطلاقاً لقراءة واقعهم كما هو، بوصفه واقعاً يضجّ بالتناقضات الكثيرة والمعقّدة في ما “بيننا” و”بيننا”.
وهكذا، وفيما ينهار الواقع على نحو لا سابق له، تتبدّى الأفكار التي ورثناها شاحبة وتافهة وعاجزة عن تقديم أيّة معرفة مفيدة. فهل يخطىء الذين يقولون اليوم إنّ كنس تلك الأفكار والمباشرة بفهم الواقع كما هو هما الشرط الشارط للانتقال إلى أمام ما؟
أين روسيا حامية “الممانعة”؟/ عدلي صادق
لم يُرَ دور لروسيا، حتى في سياق المحاولات الحذرة والخجولة، لوقف المجازر التي تقترفها إسرائيل في غزة. والمفارقة ترتسم، حين نتذكر أن المقاومة دون سواها هي الجذع السميك، الذي يُفترض أن يتصل به ذلك الفرع العجيب الأجرد الذي لم يورق ويسمونه “ممانعة”. الروس، في سائر الأيام التي لا تتخللها مجازر، يساندون بقوة هذه “الممانعة” المفترضة. معنى ذلك حُكماً، إن لم تكن هناك مساندة روسية للمقاومة؛ ينبغي، على الأقل، أن تكون هناك خطوات روسية تجعل مجازر المحتلين الإسرائيليين الوحشية، مكلفة عليهم سياسياً واقتصادياً (وحتى اجتماعياً بحكم وجود مئات آلاف اليهود ومن منتحلي اليهودية الروس في إسرائيل). فلو ظلت روسيا، في كل يوم، على مدار شهر المذابح، تُصدر بيانات إدانة قوية، مع الإعلان عن خطواتٍ تتعلق بسفر مجرمي الحرب الموسومين، من العسكريين، إلى روسيا، أو بوقف التعاون في أبسط القضايا؛ لكان ذلك إضافة مهمة للضغوط الدولية على الوحش المنفلت!
أين هذا “الكبير” العنيد، الذي كان سبباً رئيساً في استمرار المقتلة اليومية الفظيعة للشعب العربي السوري؟ أين هذا “المستنير” و”العلماني” و”خصم الظلامية الأصولية” من عربدة الظلاميين الأصوليين الصهاينة، ومن ممارستهم قتل الأطفال والنساء بالجملة في كل يوم؟ أين هذا الغيور على “الجيش العربي السوري”، وعلى وحدة سورية، إن كان هذا الجيش حقاً قد أعد للقتال ضد المحتلين؟ فالمحتلون هم الذين يُقتلون في غزة وفي الضفة. وكيف يقنعنا الروس بأنهم ضد الإرهاب، وأصحاب شكاية من الإرهابيين، بينما إرهابيو الأطراف في حدود روسيا لم يقتلوا، في تاريخهم كله، عدداً يساوي ضحايا أبرياء سقطوا في يوم واحد، بيد الإرهاب الصهيوني؟
نعلم أن الترفق بإسرائيل بات من مقتضيات السياسة الروسية، في سعيها إلى إحداث ثغرة في حصار الغرب لروسيا على أي صعيد. ونعلم أن بوتين يحافظ على نقطة الالتقاء الحميمة مع الأميركيين، هي الغرام بإسرائيل. ونعلم أن إسرائيل هي العضو المدلل في رابطة المتكلمين بالروسية “راسوفون”. ونعلم أن في روسيا أكبر الجاليات الإسرائيلية في الخارج (80 ألفاً)، ولهم مراكزهم المؤثرة في الحياة الاجتماعية والثقافية الروسية. ونعلم أن هناك 60 رحلة جوية أسبوعية بين موسكو وتل أبيب. ونعلم أن روسيا وإسرائيل اتفقتا في العام 2004 على عقد قران التصنيع العسكري الروسي مع التقنية الإسرائيلية، وأبرمتا بالشراكة، مثلاً، عقداً مع الهند، لتزويدها برادار متطور، محمول على طائرة من نوع “اليوشن”، وقبضتا معاً ملياراً ومائة مليون دولار من الهنود. ونعلم أن روسيا، منذ العام 2009 بدأت في شراء الطائرات بدون طيار، ودفعت لإسرائيل مقابل هذه السلعة وحدها 553 مليون دولار، ثم أصبح الإنتاج مشتركاً، في العام 2012، وصار السلاح معتمداً في الجيش الروسي، نُقل بعضه للدفاع عن “الممانعة” في سورية، ما يجعلنا نسأل: ما علاقة ذلك كله بهذه “الممانعة”، وما علاقته بالعدالة وبالدور الدولي النظيف الذي تطمح إليه روسيا، وهي تعمّق وتوسع الشراكة وتوسعها مع دولة ظلامية مجرمة وإرهابية؟
نعلم، أيضاً، وليس كل العلم إثماً، أن روسيا هي المزود الأكبر لإسرائيل بالنفط الخام، ويأتي بعدها بلدان يقعان ضمن نفوذها (كازاخستان وأذربيجان). ونعلم أن روسيا أبرمت مع إسرائيل في العام 2008 اتفاقية إلغاء التأشيرة، وهذا لم تفعله مع سورية. ونعلم أن روسيا أبرمت مع إسرائيل، في العام نفسه، اتفاقية لإقامة شبكة اتصالات مشفّرة بين مسؤولي البلدين، لجعلهم أقرب بعضهم إلى بعض، على نحو ما شرح محلل سياسي روسي (ليت الجانب الروسي همس، عبر هذه الشبكة، بنصيحة جزئية للطرف الذي يقتل، طالباً منه استثناء الأطفال الفلسطينيين من حمم القنابل الفتاكة).
نعلم، كذلك، أن الروس أبرموا في العام 2012 اتفاقية تعاون مع إسرائيل في مجال الفضاء، قوامها تطوير برامج الأبحاث المشتركة، والتعاون في مجالات الفيزياء الفلكية وبحوث الكواكب والبحوث الطبية الفضائية. بل إننا نعلم، ونحن نتقصّى امتدادات هذا الكيان الغاصب، لكي نعرف ماذا نفعل، وكيف نعتمد سياسة مجدية؛ أن الروس وقعوا مع إسرائيل، في العام المنصرم، اتفاقية تعاون في المجال النووي، لتوسيع مشروعات التقنية الذرية، وفوق ذلك تطوير المواد المشعة المستخدمة في علاج الأسنان!
طالما أن الأمر وصل إلى التعاون في معالجة الأسنان عبر الذرة، لماذا لم يكن ثمة علاج أو تعديل لأسنان الوحش، عبر شبكة الاتصالات المشفّرة؟! لا نعلم الجواب عن هذا السؤال، ولا الجواب عن سؤال: ما علاقة هذا كله، بحماسة موسكو للدفاع عن نظام الأسد بأكلاف مقتطعة من خبز المواطنين الروس الأصدقاء؟ أو ما علاقة هذا كله برفد العنفوان الإيراني النووي والتسليحي، إن لم يكن شطب ما تبقى في أيدي العرب من قدرة على تحديد مصائرهم، والتحكم في ثرواتهم؟
لم نكن ننتظر من روسيا، أكثر من موقف، يعزز النص السياسي الهزيل، بإجراء بسيط، وهو الإعراب عن الأسف لعدم قدرة روسيا على السماح لمجرمي الحرب بالدخول إلى بلادها، ولن تعجز موسكو عن إعداد قائمة بأسمائهم.
العربي الجديد
من يقف خلف داعش؟ سؤال عقيم/ عزمي بشارة
من مظاهر الخصومة السياسيّة المتحولة إلى تخندق ومعسكرات، أو تلك المتحولة إلى صراع هويات، أو القائمة عليها، أنّ كلّ مكرهة يُجمَع على نبذها، والنفور منها، تُفسَّر بنسبتها إلى الطرف الخصم. والحقيقة أنه يجري تجنب تفسيرها بإلقائها على الطرف الآخر، فيما يبدو رشاقة وخفة يد، وهو، في الحقيقة، بلادة وخفة عقل.
وحتى الثقافة العليا لا تنجو من هذه النزعة. ففي أوروبا منتصف القرن الماضي، مثلًا، ساد إجماع بين الأعداء الفكريين والسياسيين، من اليسار الثوري واليمين المحافظ، على النفور من الظاهرة النازيّة والأيديولوجيّات الفاشيّة.
وتجد في أدبيات الفكر الاشتراكي الشيوعي تنظيراً متشعّباً، يعتبرها ظاهرةً من ظواهر
“من يريد أن يشرح ظاهرة داعش لا بدّ أن يفهم ما جرى في العالم العربي في العقود الأخيرة، فقد نمت في زواياه المظلمة، وساحاته الخلفية، وعلى تخوم الكوارث والمناطق المنكوبة، ووجد من استثمر هذه الحركات واخترقها واستفاد منها”
الرأسماليّة الاحتكارية المتأخرة، في حين أن المحافظين تناولوها كنتاج ارتدادات الثورة الفرنسية والبلشفية، وقاربها الليبراليون كإحدى تشعبات الفكر الاشتراكي تارة، ومن إفرازات الفكر القوميّ المتطرف أطواراً.
واعتبرها بعض المنظّرين اليهود مترتبة على نزعة خلاصية، ولا سامية، بنيوية قائمة في المسيحية. ليس الحديث، هنا، عن تراشق إعلامي على “فيسبوك” و”تويتر”، بل عن مدارس فكريّة شغلت المثقفين، وتغلغلت حتى في مراكز البحوث وأقسام الجامعات. وتبادل اليمين واليسار التهم بالمسوؤلية عن نشوء النازية. وعموماً، لم يتمكنا من رؤية أن الظاهرة تجمع أسوأ ما في كل منهما، إضافة إلى تقاليد أخرى، وظروف خاصة بكل بلد.
وإذا كان هذا حال الفكر ونظريات العلوم الاجتماعيّة، حين تنتمي إلى معسكراتٍ، فما بالك بالتراشق بالترهات والشائعات غير المفحوصة، وسيول الشتائم والهجائيات بين المنتمين إلى معسكراتٍ طائفيّة سياسيّة، سواء أكانت هذه الطائفيّة دينيّة أم أيديولوجيّة؟ وإذا أضيفت إلى هذا كلّه تركيباتٌ من نظريّة المؤامرة أو العقل التآمري، تكون النتيجة تحليلات هي محاليل خيميائية، وتهويمات من النوع الذي يزعم أنه تفسير لظواهر اجتماعية مركبة وخطيرة، مُجمع على نبذها والخوف منها في مجتمعاتنا.
يكاد يسود إجماعٌ على النفور من ظاهرة مثل “داعش”، والتقزز من ممارساتها. ولا طائل من وراء مسعى فهم الظاهرة مما ينشر في فضاء المحاور السياسيّة الطائفيّة القائمة، إذ تجد نفسك تقرأ وتسمع الغرائب. فوراء كلّ حادثةٍ تكمن مؤامرة، وخلف كلَّ واقعةٍ يقبع جهاز مخابرات.
معارضو النظامين، السوري والعراقي، وجزء كبير من ضحاياهما، يتهمون إيران وسوريّة بصناعة الظاهرة وتمويلها وتوجيهها، لأنها تفيدهم في تجييش طوائفهم خلفهم، وفي تخريب الثورات التي بدأت مدنيةً ديمقراطيةً، ولأنها أداة إيضاح ناجعة لحتمية التخيير المهول بين الاستبداد والإرهاب.
وكل هذا صحيح، ولكنه يدخل في باب المستفيد من الظاهرة، القادر على استثمارها إلى حد معين. وهذا لا يعني أن المستفيد هو الفاعل. أمّا مؤيدو هذه الأنظمة وأتباعها فيتهمون السعوديّة وأميركا وقطر، وغيرها، بتمويل “داعش” وتسليحها، في حبكة درامية من نظريات المؤامرة. وتتعدد النسخ المعدلة من هذه النظريات، فمنها “الأصلي” والمنقح، والمغلّظ والملطّف، والمتطرف والمعتدل، ولكن الأساس يبقى واحدًا، اتهام الخصم بأنه مصدر كل شر، بما في ذلك هذا الشر.
لا يحتاج إدراك هذا الواقع إلى فطنةٍ وذكاء، إذ تكفي لمحةٌ من زاوية نظر خارج المعسكرات، لإدراك أن كل طرف يتهم الآخر بالمسوؤلية. ولكن، ما فقد في هذه الأثناء، لا تكفي نظرة لاستحضارة، إنه فهم الظاهرة فعلًا. فقد نُزِعَ منها بعدها التاريخي، وانتُزعت هي من سياقها الاجتماعي. وسدّت طريق الفهم بالشائعات والمؤامرات، وقُطِعت بالتخيّلات والعصبيات؛ والذاكرة انتقائية قصيرةٌ، تتحكم بها مزاجياتُ اللحظة ووسائل الإعلام، ويُعاد إنتاجها وتصميمها، بما يلائم المزاج والهوى وسوء الظن وحسن الظن.
لا السلفيّة الجهادية ولدت اليوم، ولا نسختها الداعشية الدموية التي بزّت، في قسوتها، جميع تياراتها، وليدة السنوات الثلاث الماضية؛ ولا يمكن فهمها من دون فهم الاستبداد وأساليبه في حالاتٍ مثل العراق وسوريّة، والتزاوج بين الفكر الديني السياسي وتصدير أنماط السلفيّة من الجزيرة العربية في عهد الطفرة النفطيّة، وفشل الدّولة الوطنيّة في القضايا الرئيسيّة المتعلقة بالفقر والتنمية والمواطنة وحقوق المواطن، وعجزها عن إدارة العلاقة بين الهويات المختلفة، الوطنيّة والقوميّة والدينيّة والإثنيّة، وفشلها في عملية بناء الأمة.
وتصويرياً، يمكننا، مثلاً، أن نتخيّل إنساناً مر بأهوال سجون حكم البعث العراقي أو السوري، ثمّ عاش في ظل الاحتلال الأميركي الهمجي وحاربه، ثم ذاق مرارة السجن في ظل نظامٍ طائفيٍّ سياسيٍّ بغيض،مثل نظام المالكي، بحيث أتت كل واحدة من هذه التجارب على مساحة خضراء في نفسه، وطمست لوناً من صورة الإنسان فيه؛ وعليه أن يدرس، أيضاً، لقاء التدين السياسي مع أنماط من السلفيّة في إنتاج السلفية الجهادية، وأن يتعامل مع مسألة الانفجار الديمغرافي والبطالة والتعليم، والهجرة من الريف إلى المدينة، وهجرة الشباب من بلدانهم بعد أن ضاقت بهم السبل، والتقاء هذا كلّه مع وسائل الاتصال الحديثة.
لقد عرفت بلدانٌ عربية إقامة الحدود بقطع الرؤوس والأيدي حتى فترة قصيرة، كما عرفت
“المجتمعات التي أنتجت شباناً يبحرون في قوارب الموت المتهالكة، من جنوب المتوسط إلى شماله، هرباً من اليأس، ها هي تنتج شباناً يمتطون سيارات دفع رباعية تنهب الأرض في الصحارى، هرباً من خراب اليقين إلى يقين الخراب”
الرجم… وعرفت بلدان أخرى ذبح الجيران بالسكاكين في الحروب الأهلية (بدون يوتيوب) قبل نشوء داعش بفترة طويلة، وعرف غيرها التعذيب الوحشي في السجون الذي فاق خيال الروائيين… وعرفت البلدان العربية ظاهرة الأفغان العرب، وظاهرة الانشقاقات في التيار الإسلامي الرئيسي، إبان القمع والتعذيب في السجون، والتحوّل إلى تكفير المجتمع واللجوء إلى السلاح، مرورًا بالصراع مع الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، والاستبداد الذي يتخذ منحىً طائفياً في صنع الولاءات.
تعيش داعش في الفراغ الذي خلفه فشل الدولة، لكنها لم تأت من فراغ.
من يريد أن يشرح ظاهرة داعش لا بدّ أن يفهم ما جرى في العالم العربي في العقود الأخيرة، فقد نمت في زواياه المظلمة، وساحاته الخلفية، وعلى تخوم الكوارث والمناطق المنكوبة، ووجد من استثمر هذه الحركات واخترقها واستفاد منها. ولكن تشخيص المتضرر والمستفيد لا يفسّر بيئتها ومنشأها وديناميكيتها الداخلية ومصادر قوتها وضعفها.
إنها نفس المجتمعات التي أنتجت شباناً يبحرون في قوارب الموت المتهالكة، من جنوب المتوسط إلى شماله، هرباً من اليأس، ها هي تنتج شباناً يمتطون سيارات دفع رباعية تنهب الأرض في الصحارى، هرباً من خراب اليقين إلى يقين الخراب.
وبعد قرونٍ من صحوة الدين في بداوة القرن الثامن عشر، على تخوم الدولة العثمانية وما قبل الدولة، نشأ تديّن أعرابٍ من نوع جديد. لقد لفظتهم الدولة، ولم تستوعبهم المواطنة، إنهم يهيمون على وجوههم بين الدول، وقد خلعوا عنهم الانتماء الوطني، يحملون دين بداوةٍ جديد، ويهدمون أي معلم حضاري يصادفهم في طريقهم. إنه دين العدمية الأخلاقية، والتعصب العبثي الذي يحلُّ محلَّ الأخلاق الفردية والجمعية، والانتماء إلى جماعة ومكان، والذي يحل حتى محل الدين الذي جاء ليتمم مكارم الأخلاق ويمدّن الأعراب.
لم تنشأ هذه الحركات في ظل نظام ديمقراطي، ولا في ظل ثورة ديمقراطية، بل نشأت في ظل الاستبداد والاحتلال، وعنف النظام الوحشي ضد الثورات. ولا شك لدي في أنها قوى زائلة، بحكم مخالفتها منطق العصر والتاريخ، وتناقضها مع حاجات الناس ومتطلباتهم، وصدامها مع طبائع البشر في المجتمعات العربية المتمدنة.
العربي الجديد
المالكي و”رؤوس البراكين”/ غسان شربل
تعجبني قصة «أبواب الجحيم». وهي ليست جديدة. حذر صدام حسين أميركا من أن غزوها العراق سيفتح «أبواب الجحيم». وحذر معمر القذافي حلف الناتو من أن تدخله في ليبيا سيفتح «أبواب الجحيم». والحقيقة هي أن «أبواب الجحيم» تفتح مرتين: الأولى حين يلتهم المستبد القرار والأرض ومن عليها، والثانية حين يسقط المستبد وتتكشف بلاده عارية من المؤسسات والبدائل الديموقراطية. كلما طلب من مسؤول عربي أن يغادر موقعه رحمةً ببلاده أو شعبه، أو أن يتخلى عن شهوة الإمساك بالأختام، سارع إلى التحذير من «أبواب الجحيم».
أعجبني البارحة تحذير الرئيس نوري المالكي. قال إن أي محاولة غير دستورية لاختيار رئيس وزراء العراق ستفتح «أبواب الجحيم». كان يمكن هذا التحذير أن يلقى صدى لو قيل قبل الكارثة التي أتاحت لأبي بكر البغدادي أن يعلن «دولة الخلافة» على أجزاء واسعة من العراق وسورية. نسي المالكي أن أبناء الإقليم يقيمون في الجحيم من الموصل إلى عرسال، وأن المطلوب هو إغلاق أبواب الجحيم بعدما فتحت على مصراعيها.
لنذهب إلى واقعتين: الأولى بعد انهيار وحدات من الجيش العراقي واستيلاء «داعش» على ترسانة عسكرية مذهلة قرر المالكي طلب المساعدة من الأميركيين. قال مسؤول عراقي لمحاوره الأميركي أن «داعش» حالة شديدة الخطورة على العراق وجيرانه وكذلك على الغرب. وطلب أن تسارع أميركا إلى اتخاذ قرار يقضي بشن غارات على مواقع التنظيم الإرهابي لتمكين الجيش العراقي من استعادة المناطق التي خسرها. جاء الرد الأميركي قاسياً ولئيماً وبارداً. لا نستطيع تقديم غطاء جوي لجيش لا يمثل كل المكونات وينخره نفوذ ميليشيات طائفية موالية لإيران. وهذا يعني أن من ساهم في الانهيار لا يمكن أن يرعى عملية معالجته. لهذا اكتفت أميركا بإرسال مستشارين وأبقت الطائرات نائمة في مطاراتها.
الواقعة الثانية: في شباط (فبراير) الماضي حمّل مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان، سياسياً عراقياً بارزاً رسالة إلى المالكي على رغم تبخر الود السابق بين الرجلين. تقول الرسالة إن لدى أجهزة الإقليم معلومات مقلقة حول الوضع في الموصل ومحيطها. وإن تنظيم أبو بكر البغدادي يملك «خلايا نائمة» هناك، وإن إرهابيين يقيمون في بعض المناطق معسكرات تدريب. ولأن أمن الموصل يؤثر على أمن الإقليم فإن قوات البيشمركة مستعدة للتعاون مع الجيش العراقي لمعالجة الوضع هناك. وجاء الرد قاسياً ولئيماً وبارداً، وفحواه أن على مسعود أن يهتم بأمن الإقليم وحده.
هبت الرياح على غير ما يشتهي المالكي. استنتج المرجع الشيعي علي السيستاني أن تمسك المالكي بولاية ثالثة يعني دق مسمار أخير في نعش وحدة العراق ويهدد ما حققه الشيعة فيه، فأطلق سلسلة من الرسائل تحض على التغيير وتشكيل حكومة جامعة ومقبولة. وسمع رئيس مجلس الأمن القومي في إيران علي شمخاني خلال زيارته العراق أصواتاً شيعية تحذر من خطورة التمسك بالمالكي. ثم وصلت إيحاءات من المرشد الإيراني علي خامنئي تقول إن بلاده لن تسلك طريقاً مناقضاً لخيار مرجعية النجف. ولأن المالكي لم يظهر المرونة المطلوبة خلال لقاءاته مع شمخاني وقاسم سليماني، قال مسؤول إيراني إن بلاده تبحث عن بديل للمالكي.
رد المالكي على اتساع الرغبة في استبعاده بخطوتين، الاولى حين أمر سلاح الجو بمساعدة قوات البيشمركة في تصديها لـ «داعش»، في رسالة موجهة إلى الأميركيين. والثانية حين أطل أمس وكأنه يدافع عن القرار العراقي المستقل، في ما يشبه التحدي لإرادة طهران. أغلب الظن أنه قد تأخر، فطهران قادرة على تغيير الموازين داخل «ائتلاف دولة القانون» وربما داخل حزب الدعوة.
مُكلِف أن تطالب مسؤولاً عربياً بمغادرة مكتبه والابتعاد عن الأختام. يتضاعف الأمر حين يتعلق بالعراق وقدراته. تذكرت البارحة ما سمعته قبل أعوام من الرئيس علي عبد الله صالح. قال إن حكم اليمن «يشبه الرقص على رؤوس الثعابين». يعرف المالكي أن حكم عراق ما بعد صدام حسين يشبه الرقص على رؤوس البراكين الشيعية والسنية والكردية. لقب رئيس الوزراء السابق ليس ممتعاً، لكن على الحاكم أحياناً أن يتجرع الكأس المرة. الإفراط في العناد والتلويح بـ «أبواب جهنم» قد يغري بفتح الملفات وهي مليئة بالثعابين. معركة إسقاط «داعش» من الموصل إلى عرسال قد تفتح الباب لشطب لاعبين وتأهيل لاعبين.
الحياة
وزارة لتعريف الهزيمة في العراق/ مشرق عباس
لا يبدو أن لشلالات الدم المراق بغزارة على مساحة الوطن، اي اثر في اروقة الساسة العراقيين المسترخين خلف الاسوار العالية، يستمعون الى رطانة بعضهم، وربما يتداولون في قصائد شعر واحاديث عن آخر الزيجات كما اعتادوا، وربما في تفسيرات فلسفية للتاريخ واللغة. فلا اجتماعاتهم تقاطعها اصوات المحاصرين بنيران «داعش»، ولا مآدبهم العامرة تنغّصها لوعة المشردين والمحرومين في خيم النزوح.
طوال الشهور التي اعقبت سقوط الفلوجة، ومن ثم الموصل وتكريت واجزاء واسعة من محيط بغداد وديالى وكركوك وشمال بابل، كان الوسط السياسي غارقاً في الانكار، والقضية يمكن اختصارها في رحيل المالكي، او بـــقائه، وفي ترجمة نتائج الانتخابات الى حصـص وزارية تمكّن الاحزاب من اعادة انتاج البيئة المسمومة التي قادت الى كل هذا الانهيار.
واقع الحال ان الأحزاب السياسية العراقية، اعتادت لعبة تقاسم المغانم، وهي اسيرة هذه اللعبة، وتعرف انها ليست وحيدة في تقطيع كعكة النفوذ والموارد والسياسات والمناصب. فدول المنطقة تتقاسم معها حصصاً مختلفة، والولايات المتحدة ودول غربية تشاركها في حصص أخرى. أما «الخليفة» ودولته المتمددة في قلب العراق، فعينه على مفاوضات بغداد ايضاً، يحاول ان يُسمع الجميع انه ليس جزءاً من لعبة التقاسم، بل هو آتٍ لابتلاع الكعكة بالكامل.
الاطمئنان السياسي العراقي يرى أن «خليفة» داعش الذي يفتح عشرات الجبهات، ويقاتل في كل مكان، لا يشكل تهديداً مصيرياً، وان اصوات طلقاته على حدود كربلاء وبغداد واربيل لا تستدعي تحركاً يتجاوز اللعبة القديمة، وهذا مريب ومحيّر.
وربما بدا من الصعب تصديق ان اجتماعات حساسة لقيادات «التحالف الوطني» الذي يضم القوى الشيعية الرئيسة التي على عاتقها اختيار رئيس الحكومة، تتحدث على هامش الانهيار، فيشغلها توفير ضمانات مناسبة للمالكي للتنحي، وتستهلك الجزء الأكبر من وقتها في تبادل عظات وحكم وقصص من التاريخ!… قبل ان تنتقل الى ما يمكن ان يحصل عليه هذا الحزب اذا أحرز هذه الوزارة وتخلى عن تلك.
من الصعب تصديق ان قيادات سنّية أصبحت نازحة بسبب سيطرة «داعش» على مدنها، لكنها تساوم للحصول على اثمان لبعض المناصب وتصارع بعضها بعنف يصل الى التهديد بالتصفيات من اجل تلك المناصب، وتتهيأ لأسلوب ابتلاع أموال وإمكانات تتوقع الحصول عليها قريباً، منتظرة اعلان «جيش السنة» لتكرس زعامتها.
لا يصدق احد ان اقليم كردستان قرر اتباع الآلية ذاتها في تقاسم مناصب بغداد، وان صراعاً كبيراً يجري للتخلي عن وزارة «لا تدر» مقابل وزارة «تدر». فهل يمكن مثلاً ان نصدق ان القيادات العراقية تناقش حصصها في مئات من مناصب الوكلاء والمديرين والسفراء واعضاء الهيئات والدرجات الخاصة، وأن كلاً منها هيأ قائمة بالأسماء التي تشغل حصته؟ بل انها ناقشت نسبها من الدرجات الوظيفية في حال وُضعت الموازنة، وما حصصها في العقود والاستثمارات، وكيف تضمن حصصاً في المتطوعين الجدد في الجيش والشرطة.
في العراق فقط لا تسمى الهزائم هزائم. فهي انتصارات مؤجلة فقط، والهزيمة العسكرية ميدان جيد للاستثمار فحسب.
لا يجد السياسي العراقي اجابة عن الطريقة التي ستدار بها جهود دولة العراق في محاربة دولة «الخلافة»، عن شكل الحكومة التي تتصدى لهذه المسؤولية، او عن الآليات التي يمكن ان تضمن حدوداً دنيا من التوافق السياسي والمصالحة والحوار الاجتماعي لسد الثغرات التي توفر بيئات حاضنة للارهاب.
ليست لدى السياسي العراقي إجابة، فأي اجابة قد تضعه في موضع المتهم، وربما كان عليه استشارة واشنطن او دول الجوار لمعرفة موقفها من المضي في خطوات جريئة للمصالحة، وتشكيل حكومة قوية خارج منطق التقاسم، والتأسيس لوقف الانهيار. وإن كانت لديها تحفظات استمر في طلب الاستشارة، وانتظار المواقف من الخارج، إذ هو لم يعتد يوماً على اتخاذ القرارات ذاتياً.
الانكار لا يُواجَه الا بمصارحات مؤلمة، والقيادات العراقية غير مستعدة لمثل هذه المصارحات، وغير مهيأة للقبول بأن العملية السياسية التي أُسِّست عام 2003 تتعرض لهزيمة مروعة، وان الدستور يتعرض لهزيمة، والبنى الاجتماعية والاقتصادية والمؤسساتية تواجه انهياراً شاملاً، وأن كل ذلك تتحمل مسؤوليته النُّخَب السياسية التي قادت البلاد من دون أن تتحلى بشجاعة مواجهة الواقع وازماته والشروع بمعالجتها.
حكومة المالكي أجادت انتاج الهزائم، وكرست جهودها في هزيمة السلم الاجتماعي، وتعميق الشروخ الطائفية والقومية، وتهيئة المناخ النموذجي لتنفس البغدادي وزمرته. ومع هذا فالقوى العراقية لا تفكر في تغيير حكومة المالكي، بل في تغيير المالكي وحده، وتصر على تشكيل حكومة «تقاسم» بالسياقات ذاتها التي قادت الى «الهزائم».
طرحت الأمم المتحدة اخيراً، وللمرة الأولى بعد 2003، خيار تشكيل حكومة «تكنوقراط» خارج منطق الطوائف والتحاصص، تتمكن من كسب الشارع العراقي في حرب حقيقية تحت سقف الوطنية ضد «داعش»، كما تنال دعماً اقليمياً ودولياً لتحقيق الاستقرار الداخلي.
لكن مثل هذا الطرح الذي جاء متأخراً عشر سنين عن موعده، وبدا نوعاً من الاستجابة لمسؤولية المنظمة الدولية بعد طول تخلٍّ، لم يجد غير السخرية. فأي تكنوقراط، والبلاد تُبتلع على يد «داعش»؟!. ذاك أن السياسي العراقي لا يتذكر ان الأرض يتم قضمها تباعاً الا عندما يتعلق الأمر باحتمال تعرض منظومة تقاسم الغنائم الى الاختراق. ولسوف تشكل الحكومة العراقية قريباً من دون المالكي، اذا لم يُقدِم على خطوة مفاجئة كإعلان انقلاب، لكنها ستكون حكومة محاطة بالشكوك. فلا احد في العراق مستعد للأمل والثقة بأن الخلاص ممكن، من دون الاعتراف بحصول… «هزيمة».
الحياة
العراق وجحيم المالكي!/ راجح الخوري
عن اي جحيم يمكن ان يبتلع العراق يتحدث نوري المالكي ان لم يتم انتخابه لولاية ثالثة، وهل يظن ان العراق يعيش في النعيم وقد بات نصف البلاد في قبضة “داعش” والارهابيين، بينما الفساد ينخر جسم الدولة التي تتهاوى؟
لست انا من يطرح هذا السؤال، لكن وسائل الاعلام تنقله عن عدد من السياسيين والمراقبين ومنهم مثلاً صادق عبد الرحمن الذي يقول “ان الولاية الثالثة ستدمر العراق”، فقد كان من المثير ان يقف المالكي في البرلمان قبل يومين ليعلن انه ان لم يتم اختياره رئيساً للحكومة مرة ثالثة فإن ابواب الجحيم تفتح على العراق.
حال اليأس هي التي تدفع المالكي الى قول هذا، وخصوصاً بعد الأنباء التي تحدثت عن ان المرشد علي خامنئي بات يماشي المرجع الاعلى علي السيستاني في رفض بقاء المالكي رئيساً للحكومة لكنه يشترط بقاء المنصب للشيعة، وهو ما عاد به وفد “حزب الدعوة” الذي كان قد زار طهران والتقى هاشمي رفسنجاني وعلي شمخاني، ولهذا فان كتلة “دولة القانون” تتجه الى التخلي عن ترشيحه واختيار نائب رئيس الجمهورية خضير الخزاعي بديلاً منه.
من المثير ان يعلن المالكي رفضه “التدخل الخارجي” في شؤون العراق الداخلية، والمعروف انه رجل طهران في العراق، لكن الايرانيين لا يريدون المراهنة على حصان خاسر وفاسد بعد الآن، وخصوصاً بعدما انضمت كل المراجع الشيعية في قم الى السيستاني في مطالبته بالتنحي، لأنه “مكمن الخلل في ادارة الدولة وان ما يحدث من المآسي إنما هو نتيجة قيادة فاسدة لا تهتم إلا بمنافعها الشخصية والحزبية الضيقة ولا تعبأ بمصالح الشعب المظلوم”!
المشكلة ان المستوى السياسي في العراق غارق في خلافاته في حين تواصل “داعش” تمددها وباتت تسيطر على نصف البلاد وتتوسع في الموصل وكركوك وديالى ونجار، وقد نزح نصف مليون عراقي الى الكهوف هرباً من القتل والسبي، بينما هناك مليون نازح آخر تركوا بيوتهم. كل هذا والمالكي يتحدث عن الجحيم في غيابه بينما حضوره السلطوي هو الجحيم!
المالكي كان طالب بضمانات قانونية وادارية وبعدم محاسبته على كل الاحداث وعلى الفساد الذي تورط فيه، وقيل انه اشترط عدم ملاحقته هو واقربائه وأركان حزبه مالياً وعدم فتح ملفات الفساد قضائياً، وعدم إثارة فضيحة أوامر الاعتقال والتعذيب التي اصدرها، وقد تمادى في شروطه لقبول التنحي مطالباً بمنحه موقعاً مهماً في داخل الدولة كتعيينه نائباً لرئيس الجمهورية واعطاء وزارة الداخلية لأحد المقربين منه والاحتفاظ بالأبنية الرسمية مقرات له ولحزبه!
يجمع العراقيون على ان هذه الشروط الثقيلة هي دليل على مدى ثقل تورطه في الفساد!
النهار
“داعش” صنيعة “ربيعهم”/ سميح صعب
مع التمدد السريع لتنظيم “الدولة الاسلامية” من الموصل العراقية الى عرسال اللبنانية وما بينهما سوريا، سؤال واحد على ألسنة الناس: من كان وراء هذا التنظيم الذي يمتلك كل هذه القوة والذي يستطيع بين ليلة وضحاها ان يفتت دولاً ويجتاح مساحات هي أكبر من مساحات الكثير من دول المنطقة؟
من المعروف ان التنظيم لم يظهر فجأة وان جذوره ضاربة في تنظيم “القاعدة” الام بعد الغزو الاميركي للعراق، لكن التنظيم كان عند اندلاع احداث ما سمي “الربيع العربي” في سوريا، محاصراً في اجزاء محدودة ومطارداً في بعض مناطق العراق. ومع تسارع دبيب الفوضى في سوريا انتقل التنظيم الى سوريا قبل ان ينقسم الى “جبهة النصرة” وما اصطلح على تسميته قبلا “الدولة الاسلامية في العراق والشام” (داعش) ومن ثم ليصير بعد اجتياح الموصل ” الدولة الاسلامية”.
وفي حين اعتبرت المعارضة السورية ان “داعش” صنيعة النظام، وقالت دول الخليج العربية إن “داعش” صنيعة ايران، وذلك بهدف تشويه “الثورة” السورية، سادت هذه المقولة السطحية الى ان بدأت المعارك تتسع بين الجيش السوري و”داعش” في الرقة والحسكة ودير الزور وريف حلب. واصحاب المقولة نفسها مربكون اليوم حيال الجهة التي يجب ان يلصقوا بها “داعش” بعدما تبين خطأ ما ذهبوا اليه من استنتاجات عن العلاقة بين هذا التنظيم والنظام السوري.
ولئلا يقع هؤلاء في مزيد من الحيرة ، عليهم البحث في المناخات السياسية والامنية التي أفضت الى “داعش” وغيره من التنظيمات الجهادية التي تخشاها الدول الاقليمية اليوم وتعلن الحرب عليها. وبعودة سريعة الى الوراء يتبين بوضوح ان سنوات “الربيع العربي” هي سنوات ربيع “داعش” وكل الاصوليات الدينية المتطرفة التي نمت في ظل الفوضى وتخريب الدول التي كانت قائمة، علما بانه لا يختلف اثنان على ان هذه الدول كانت دولاً قمعية واستبدادية ولا تعرف الحرية ولا الديموقراطية.
والدول التي تعلن الحرب على “داعش” اليوم هي نفسها الدول التي امعنت في تخريب الدول التي نما فيها التنظيم. هي الدول نفسها التي خربت ليبيا من غير ان تعرف كيف تبني ليبيا أفضل من ليبيا معمر القذافي. وهي الدول نفسها التي خربت اليمن من غير ان تتمكن من ايجاد يمن أفضل من يمن علي عبدالله صالح. وهي الدول نفسها التي خربت سوريا من دون ان تعرف كيف تبني سوريا افضل من تلك التي كانت قائمة. وهي الدول نفسها التي خربت العراق ولم تعرف كيف تبني آخر افضل من ذلك الذي كان قائماِ.
بعد ذلك لا يجوز السؤال “داعش” صنيعة من؟
النهار
الحرب الاميركية الثالثة على العراق/ ساطع نور الدين
إنها الحرب الثالثة التي يطلقها الاميركيون في العراق، بعد حربي العام 1990 والعام 2003. زعمهم انها لن تكون هذه المرة حرباً شاملة، واسعة النطاق،بل عملية محدودة، ليس له أي سند. صحيح انه غير راغبين او غير قادرين على خوض مثل هذه الحرب، لاسباب داخلية حاسمة، سياسيا واقتصاديا، لكن جميع الحروب الكبرى في التاريخ، لا سيما التي شنها الاميركيون بالذات، بدأت بعمليات محدودة، محددة الاهداف، لكنها انتهت الى عمليات قتل جمعي ودمار تام لدول وشعوب كاملة.
الغارات التي ينفذها الطيران الحربي الاميركي الان على مواقع تنظيم داعش هي أشبه بإستعراض عسكري. يدرك الاميركيون قبل سواهم أن لا حرب تحسم من الجو وبواسطة سلاح الجو وحده. فالعدو المتمركز على الارض لا يمكن ان يهزم بغير قوات برية، تقول واشنطن الان انها لا تنوي نشرها مجددا على الارض العراقية، لانها لا تمتلك الحافز او حتى التفويض للتضحية بجنود اميركيين من اجل قضية لا تعني الشعب الاميركي ولا تهمه.
ثمة من يعتقد ان وصفها بالحرب الاميركية الثالثة على العراق يحتمل الكثير من المبالغة. الاقرب الى الصواب انها عملية تصحيح اخطاء الحرب الثانية التي شنها الاميركيون في العام 2003 وخرجوا منها في العام الماضي، بعدما خلفوا وراءهم خراباً عراقياً لم يسبق له مثيل.. واثبتوا ان تلك الحملة العسكرية لم تكن سوى عملية ثأرية من هجمات 11 ايلول 2001 لا أكثر ولا أقل، تخللها اسقاط نظام لم يكن متورطا في تلك الهجمات وتقويض دولة لم تكن متصلة بها وتفكيك مجتمع لم يكن له دور بها لا من قريب ولا من بعيد.
شاء القدر ان يكون العراق هو الضحية بعدما بدا يومها ان غزو افغانستان لم يشف غليل الاميركيين. نزل الوحي في حينه على الرئيس الاميركي جورج بوش وحمله حسب تعبيره رسالة اصلاح وتغيير في العالمين العربي والاسلامي تشق طريق الخلاص من شر الارهاب وتجفف منابعه. وهو، بالمناسبة، ما يردده اليوم بالحرف خليفته باراك اوباما.. من دون ان يعلن حتى الان حالة التعبئة القصوى للقوة العسكرية الاميركية والاطلسية.
الفارق الوحيد هو ان تنظيم القاعدة الذي كان دافع الاميركيين الى الحرب في تلك الفترة إنشق، وإنبثق عنه تنظيم داعش الذي يكاد يبدو معه ان الاصل كان رحوماً، مسالماً، او حتى اصلاحياً..وهو الان موجود في العراق وسوريا علنا، ومنتشر سرا على شكل خلايا نائمة في غالبية الدول العربية بما فيها لبنان، ومصر.
بتردد شديد تبدأ اميركا الحرب الثالثة. هدفها المباشر الدفاع عن الاقليات العراقية الايزيدية والمسيحية والكردية، وطموحها الضمني عدم تحويل القوة العسكرية الاميركية الى فرقة مقاتلة او حاملة طائرات موضوعة في تصرف الشيعة العراقيين، كما كان عليه الحال في العام 2003. ثمة رغبة معلنة في تصويب ذلك الخطأ التاريخي، الذي أشعل العراق وألهب سوريا، من دون تقديم جدول اعمال سياسي واضح، والاكتفاء حتى الان على الاقل بابداء الرغبة في ان تتشكل سلطة عراقية جديدة لا تستثني احداً ولا تضطهد احداً.
لعل ثمة رابطا بين قرار اوباما اجازة العمليات الجوية ضد مواقع داعش وبين اعلان رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ان عدم منحه ولاية ثالثة في منصبه يؤدي الى الجحيم. لكن من السابق لأوانه الجزم في ان تلك الحرب الثالثة التي تستبعد بغداد الان وتركز على الشمال العراقي، كما في الحرب الاولى في مطلع التسعينات، تستهدف الرد فقط على تهديد المالكي، او على خطر رعاته في طهران. هذا الهدف وارد طبعا، لكنه لن يشكل باي حال من الاحوال سببا كافياً لوقف الحرب الثالثة.
على الارض، يقف داعش اليوم، الذي لم يكن حاضراً في الحربين السابقتين، وهو على الارجح يحتفي بالغارات الاميركية التي يمكن ان تكسبه المزيد من القوة والشرعية وربما الشعبية.. لكن المؤكد انها ستساعده في كسب المزيد من الجغرافيا. الا اذا كان مخطط الاميركيين في المرحلة الاولى من الحرب هو طرد الداعشيين نحو بلاد الشام. وهو إشتباه جدي، يصعب دحضه بعدما أكد كبار المسؤولين الاميركيين ان الضربات الجوية لن تمتد الى سوريا.
انها الحرب الثالثة، التي بات الجميع يعرف كيف بدأت، لكن احداً لا يعرف كيف ومتى تنتهي؟
المدن
الحدود الأمريكية لـ “داعش”/ إياد الجعفري
توجد اليوم تأويلات عديدة لدوافع وغايات أول تدخل عسكري أمريكي مباشر في المعمعة الدائرة في نطاق الهلال الخصيب منذ أكثر من ثلاث سنوات. ولا بد أن تأويلات جديدة ستظهر في الأيام القليلة المقبلة. لكن أحد أكثر تلك التأويلات تناسباً مع حجم وتوقيت الخطوة العسكرية الأمريكية الأخيرة، وتصريحات المسؤولين الأمريكيين المُرافقة لها، هو ذلك التأويل الذي يقول ببساطة أن واشنطن تحركت لأن الفوضى كادت تخرج عن النطاق المسموح به أمريكياً.
إذاً، وبإيجاز: تحاول الولايات المتحدة الأمريكية اليوم رسم حدودٍ للفوضى المسموح بها في عمق الهلال الخصيب (العراق وسوريا). وكما أنه لم يكن من المقبول امتداد الفوضى إلى عمق لبنان، كما ظهر جلياً في تحرك السعودية تحديداً لدعم الجيش اللبناني ضد توغل جماعات جهادية داخل لبنان، يبدو أن كردستان العراق هي الأخرى، حدٌّ آخر لا يجوز لتنظيم “الدولة الإسلامية” تجاوزه.
قالها الأمريكيون صراحةً، أن تدخلهم “موضعي”، وأنه لن يتحول إلى تدخلٍ استراتيجي مستمرٍ إلا بوجود حكومة عراقية تمثل كل أطياف اللون العراقي. بمعنى آخر، كان التدخل الأمريكي السريع يستهدف تحديداً حماية إقليم كردستان العراق من تقدم مقاتلي “تنظيم الدولة” السريع، بعدما باتوا على بعد 30 دقيقة بالسيارة من عاصمة الإقليم، أربيل.
وقالها الأمريكيون بصراحةٍ أيضاً، ربما تقترب من الوقاحة، أن ضرباتهم لمواقع مقاتلي التنظيم وتشكيلاته العسكرية ستقتصر على العراق، ولن تمتد إلى الأراضي السورية. وربما، للتغطية على حقيقة الأهمية الاستراتيجية لإقليم كردستان العراق، أمريكياً، تحدث المسؤولون الأمريكيون عن دافع التدخل لإنقاذ الأقليات المسيحية واليزيدية من الإبادة. إذ يبدو أن الدافع الأخير لا يعدو كونه ذريعة “إنسانية” تبرر تدخلهم في العراق، بعد امتناعهم عن ذلك، لمرات عديدة، في سوريا.
إذاً، إقليم كردستان العراق، من المحرمات على “داعش”. بينما يمكن للأخيرة أن تصول وتجول، وتشكيلاتها العسكرية تتنقل في عمق الهلال الخصيب، بين سوريا والعراق، تحت سمع وبصر الأقمار الصناعية الأمريكية، بكل أريحية.
يعني ما سبق تأويلاً جلياً للغاية، فالأمريكيون راضون عن تحركات “داعش”، شريطة أن تبقى الأخيرة مضبوطة بالحدود المسموح بها أمريكياً، والتي ظهر منها حتى الآن، إقليم كردستان العراق. وبجلاء أقل، لبنان، على ضوء التحرك السعودي الأخير عبر سعد الحريري، بغية قطع الطريق على “المتطرفين”، وإعادة حشد سُنّة لبنان وراء “الحريرية”، الممهورة بختم الرضا السعودي، وبطبيعة الحال، الأمريكي أيضاً.
حتى الآن من غير الواضح ما هي الحدود الأخرى المرسومة أمريكياً لـ “دولة الخلافة”، التي تعهد باراك أوباما، خطابياً، بمنع نشوئها، وهو يعلم أنها باتت واقعاً يترسخ يوماً تلو الآخر في العمق السُني داخل الهلال الخصيب، مُحاطةً بدويلات “أقليات” عرقية ومذهبية.
لكن ما اتضح حتى الآن أن الأمريكيين يراقبون بدقّة تحركات “داعش” العسكرية، بدليل تحركهم السريع لإنقاذ عاصمة “كردستان العراق”، أربيل. لكنهم لم يتحركوا سابقاً، وهم يرون “داعش” تضع يدها على مصادر للنفط والغاز، وتعزز بذلك مصادر تمويلها، وتستنزف في الوقت نفسه فصائل معارضة سورية، من المفترض أن واشنطن، نظرياً، ميالة لها ضد نظام الأسد. لم تتحرك واشنطن سابقاً، رغم أنها، كما اتضح، تراقب عن كثب، عبر أقمارها الصناعية تحركات التنظيم.
ورغم أننا من غير المغرمين بـ “نظرية المؤامرة”، إلا أن امتناع الأمريكيين عن التدخل ضد “داعش”، سابقاً، رغم أنهم يراقبونها عن كثب، يؤكد أنهم يريدون لظاهرة “داعش” أن تتضخم. طبعاً، بشرط، أن تبقى ضمن الحدود المرسومة لها أمريكياً.
بطبيعة الحال، قد يحاول البعض تفنيد الخلاصة السابقة بأن التدخل العسكري الأمريكي السريع الحاصل أخيراً، جاء خوفاً على مواطنين أمريكيين موجودين في أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق. وهو ما ألمح إليه باراك أوباما بنفسه. لكن الأخبار المتتالية عن إجلاء كبرى الشركات العالمية العاملة في أربيل لموظفيها، بسرعة، قبل تقدم “داعش”، يدفعنا للتساؤل: لو لم تكن واشنطن تريد التدخل بهذه الطريقة تحديداً، العسكرية، أما كان باستطاعتها إجلاء مواطنيها، كما أجلت شركات مثل إكسون موبيل وشيفرون وغيرها موظفيها؟؟
لا يبدو أن مقولات “المواطنين الأمريكيين”، أو حتى “حماية الأقليات”، إلا ذرائع تريد من خلالها واشنطن أن تُبعد أذهان الناس عن السبب الحقيقي للتحرك الأمريكي السريع، هذه المرة. والذي يبدو أنه منحصر في إرسال رسالة قاسية اللهجة لـ “داعش” تقول لها: “تعديت حدودك المسموحة”. أما داخل تلك الحدود، يبدو أن الأمريكيين لا يشعرون بأي خطر إزاء تحركات “داعش”، لذا، لا مانع من استمرارها، بل وتمددها أيضاً.
المدن
الحاجة إلى «صحوات» في سورية لهزيمة الحركات الإرهابية/ راغدة درغام
هل شكّل «داعش» تحوّلاً جذرياً في تاريخ المنطقة العربية ومستقبلها، أم أنه ظاهرة عابرة مهما بدا اليوم مدهشاً بقوته وخوضه وقفزه إلى ساحات الحروب في العراق وسورية ولبنان؟ بديهي الافتراض أن الإجابة على هذا السؤال تطلق عنان النظريات المختلفة ابتداءً من تشخيص هذه المجموعة وانتهاء بمصيرها. إنما من الضروري لكل «بيئة حاضنة» في أي بقعة عربية أن تدقق في الخيارات المتاحة أمامها وأمام مختلف اللاعبين المعنيين ببروز «داعش» وأمثاله– مؤيدين له أو أعداء، فـ «داعش» ومثيلاته قد يكون حقاً ظاهرة عابرة، إلا أنها مرعبة بعبثها وعنفها الهمجي وأيديولوجيتها التي تبيح ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وبالتالي، إنها مفيدة في تحويل الأنظار عن فظائع الآخرين وهي تخدم –انتقالياً– الذين يستفيدون من بطشها القاطع من أجل زلزلة وضع قائم، فـ «داعش» سورية ليس «داعش» العراق تماماً، و «داعش» الذي وصلت لبنان أكثر سوريةً مما هو عراقي بخلفيته وطموحاته.
يرى البعض أن اختيار «داعش» لمدينة عرسال البقاعية لتدشين قدومه إلى لبنان بهدف الفتنة المذهبية كان «سطحياً». يشير هؤلاء إلى أن عرسال مدينة سنّية جوارها شيعي، وأن أحداث عرسال حوّلت المشهد كله ضد المسلحين سيما بعد اصطدامهم بالجيش وبعد مشاركة لاجئين سوريين في القتال دعماً لـ «داعش» و «جبهة النصرة» ضد أهل عرسال الذين آووهم في منازلهم. وفي رأي هذا البعض، أن مشروع الفتنة السنية– الشيعية ليس له أرض خصبة في لبنان، بل أن حوادث عرسال هذا الأسبوع شكّلت «فضيحة» لمشروع الفتنة، وبالتالي فشل «داعش» ومثيلاته من حيث بدأت في لبنان، لأن التكوين اللبناني بحد ذاته يجعل من كل طائفة غير قادرة على حماية نفسها بنفسها. وبالتالي فإن الكل يحمي الكل، وهذا أهم وأقوى وصفة ضد التقسيم والفتنة الدائمة.
البعض الآخر ينظر إلى المسألة من المنطلق السياسي أكثر من المنطلق المذهبي. رأيه أن هناك ضرورة للتمييز بين «الحرب على الإرهاب» وبين إقحام الجيش اللبناني في حرب ضد «داعش» و «جبهة النصرة» وغيرهما من أطياف المعارضة السورية، وذلك دعماً لبشار الأسد ومن يحارب بجانبه في معارك سورية وعلى رأسهم «حزب الله».
أصحاب هذا الرأي يرفضون مبدأ إقحام الجيش اللبناني في حرب مع «داعش» ومثيلاته، لأن هذا الجيش لا يستطيع أن يحسم عسكرياً بمفرده، أما إذا اضطر الجيش اللبناني للتنسيق مع «حزب الله» كي يقترب من الحسم العسكري، فإن ذلك تأشيرة لانهياره.
«حزب الله» في نظر هؤلاء، اتخذ قرار زج الجيش اللبناني في المواجهة القائمة بين النظام في دمشق وبين معارضيه على مختلف انتماءاتهم ومشاريعهم. انتفض اللبنانيون تلقائياً دعماً لجيشهم ضد الإرهاب، الذي ارتبط بـ «داعش» و «جبهة النصرة» خاصة، ولأن «داعش» يكفّر كل من هم من غير السنّة ويبيح دماءهم، وبالتالي نظراً لأن تكوين لبنان هو أساساً من أقليات، انتفض اللبنانيون ضد «داعش».
إنما برزت بعد الهدوء النسبي التساؤلات الأبعد من الانتفاضة العاطفية والوطنية. سأل الكثيرون: هل هذه حرب ضد الإرهاب الآتي علينا ليرعبنا، أم هذه حرب لمساندة بشار الأسد في معركته ضد المعارضة السورية؟
معظم اللبنانيين لا يريد أن يُستَدرَج إلى الحرب السورية بغض النظر إن سُمِّيت حرباً على الإرهاب أو كانت عملياً ضمن الحرب على المعارضة السورية. كثيرون منهم يلومون «حزب الله» الذي أعلن دخوله طرفاً في الحرب السورية دعماً لنظام بشار الأسد ثم برّره بحجة استباق الحرب على الإرهاب في سورية لمنع وصول الإرهاب إلى لبنان.
هذا موقف يذكِّر بما قاله جورج دبليو بوش عندما شن حربه على الإرهاب في العراق لمحاربة الإرهابيين هناك بعيداً من المدن الأميركية. الرئيس بوش نفّذ ما في ذهنه وحوّل الحرب على الإرهاب بعيداً من الشعب الأميركي في المدن الأميركية باتجاه شعب العراق وكامل البيئة الحاضنة للإرهاب في الدول العربية والإسلامية.
«حزب الله» ليس جورج دبليو بوش، وحروبه الاستباقية في سورية ليست أبداً على نسق الحروب الاستباقية الأميركية في أفغانستان والعراق. وبالتالي كانت ذريعة المشاركة في الحرب في سورية كي لا يأتي الإرهاب إلى لبنان مثقوبة أساساً، وها هو «داعش» وصل عرسال. إنما كيف وصل؟
هناك نظرية تقول إن وصول «داعش» و «جبهة النصرة» عرسال هو الدليل على الانحسار العسكري لـ «حزب الله»، بل على ضعفه البنيوي بعد تشعبه في سورية وتورطه في الحرب هناك. أصحاب هذه النظرية يعتبرون أن وصول «داعش» إلى عرسال أتى رغماً عن محاولات «حزب الله» صدّه في القلمون وغيرها من المناطق السورية.
النظرية المضادة تتحدث عن قرار لـ «حزب الله» بعدم اعتراض سبيل وصول «داعش» و «جبهة النصرة» إلى لبنان تنفيذاً لاستراتيجية توريط لبنان في «الحرب على الإرهاب» الذي نصب نظام بشار الأسد نفسه قائداً لها بالنيابة عن الغرب كي يستعطفه ليسانده بدلاً من الانقلاب عليه ومحاسبته عاجلاً أم آجلاً.
بغض النظر عن صحة هذه النظرية أو تلك، تبقى أسئلة تضجّ أينما كان، وهي: مَا هو تنظيم «داعش»؟ ومن يموّله؟ ومن يدعمه؟ ومن يقوده حقاً؟ ومن ابتدعه أساساً؟ ولصالح مَن يعمل؟ وكيف يمكن الانتصار عليه؟…
هذا الانصباب على «داعش» بحد ذاته ملفت، إذ بات «موضة» الساعة التحدث عن «داعش» بتغييب شبه تام لما يحدث داخل سورية في الحرب الضارية المستمرة هناك، بل بات «داعش» في الانطباع السائد عنوان المعارضة السورية بينما هو واقعياً وعملياً من صنع النظام في دمشق، الذي أخرج عناصره من السجون بعدما استخدمهم في حرب العراق وزجهم في السجون عندما نفدت الاستفادة وحان موعد الصفقات.
«الجيش الحر» زحف ببطء نحو إدانة وصول «داعش» و «جبهة النصرة» إلى لبنان، إما لجرّه إلى الحرب السورية أو انتقاماً من أفعال «حزب الله» على ساحة الحرب السورية، ولكن في نهاية الأمر دان «الجيش الحر» ما حصل وشدد على دعمه وحدة لبنان، إلاّ أن تفرّع وتنوّع المعارضة السورية يبقى في صميم أسباب فشل الانتفاضة السورية السلمية بعدما آوَت أيديولوجيات إرهابية.
اللاجئون السوريون في لبنان بأعدادهم الهائلة التي فاقت ربع سكان لبنان وتعدّت المليون لاجئ، باتوا «القنبلة الموقوتة»، ليس فقط للأسباب الديموغرافية والإنسانية والتوظيفية وإنما أيضاً لأن بين هؤلاء اللاجئين مَن قرر «مكافأة» الشعب اللبناني عندما التحق بصفوف «داعش» و «جبهة النصرة» وقاتل الجيش اللبناني وقتل أبناء البلدة التي أمّنت له الملاذ.
بالتأكيد، نسبة أولئك ضئيلة لكن مفعولها ضخم بالتأكيد، فلقد سحق هؤلاء الثقة بهم كما سبق فعل قبلهم الذين قطعوا الطرقات بأعداده الكبيرة متوجهين للتصويت لصالح بشار الأسد وهو يعتبر نفسه «لاجئاً» أو «نازحاً» في لبنان.
فإذا كان هؤلاء لاجئين فهناك قوانين دولية تقيّد نشاطاتهم كلاجئين في البلد المضيف ونحو البيئة الحاضنة، وإذا كانت المعارضة السورية واعية وجدية وتفهم مسؤولياتها، عليها أن تبدأ بالتفكير العميق بما إذا كان اللاجئون السوريون في لبنان والأردن وغيرهما يشكلون حركة سياسية تتصرّف بعشوائية –أو بتنظيم– بما يؤدي إلى النقمة عليهم بدلاً من التعاطف معهم.
بكلام آخر، إن إلحاق الهزيمة بالحركات الإرهابية التي تقتنص المعارضة السياسية وتجيّرها لأهدافها الأيديولوجية المدمرة، يتطلب بالتأكيد مشاركةَ المعارضة السورية الرسمية والشعبية في النهوض ضد تلك الحركات.
أي أن المطلوب هو نوع من أنواع «صحوات» فلوجة العراق، التي أفلحت في الانتصار على «القاعدة» وأخواته هناك بسبب تعاضد وتضامن القبائل والبيئة الحاضنة ضد أولئك الذين أتوا بالإرهاب إليهم.
نموذج «الصحوات» في لبنان يتطلب أكثر من نهوض المعارضة السورية السلمية واللاجئين السوريين في لبنان ضد إقحام «داعش» و «جبهة النصرة» نفسيهما في الساحة اللبنانية، إما بقرار منهما للانتقام من «حزب الله»، أو باستدراج النظام في دمشق و «حزب الله» لهما للتورط في لبنان وتوريطه معهما.
ثانياً، إن النموذج يتطلب أيضاً من سنّة لبنان التكاتف جدياً في استراتيجية واعية تميّز بين معارضةِ توريطِ «حزب الله» لبنانَ في سورية، برفضه تطبيق مبدأ «النأي بالنفس» عن أحداث سورية، وبين الإيحاء بأي تقبّل لأفعال «داعش» مهما كان ومهما اعتبر بعض السنّة أن إيقاف «حزب الله» عند حده يتطلب «دعشنة» هنا وهناك.
ثالثاً، لن يكون ممكناً تحقيق الانتصار على «داعش» وأمثاله في لبنان ما لم يتوقف «حزب الله» عن سياساته في سورية. لن يكون إقحام الجيش اللبناني في المعركة ضد «داعش» وسيلة الانتصار على «داعش»، ولن يرضى الشعب اللبناني أن يكون طرفاً في حرب النظام في دمشق ضد المعارضة السورية، إما عبر بوابة «داعش» أو «جبهة النصرة» إن كان وصولهما لبنان نتيجة استدراج أو ضعف «حزب الله».
«داعش» سيكون ظاهرة عابرة إذا اجتمعت هذه الشروط لإلحاق الهزيمة به وإذا اتخذت القوى الإقليمية ما تعرفه جيداً من إجراءات ضد مواطنيها المتطوعين في «داعش» ومن يموّلهم ومَن يحتفي بهم سراً باعتبارهم الرد على إيران، إن في العراق أو في سورية أو عبر «حزب الله»، فليس كافياً ما تتخذه دول خليجية من إجراءات ومواقف ضد إرهاب «داعش» وغيره، بل الحاجة ماسّة إلى إجراءات قاسية ضد المواطنين التائهين في «الداعشية» في بعض الدول. والوقت حان لدول خليجية أخرى للكف عن حروبها بالنيابة، إما انتقاماً من نظام أو تنمية لأيديولوجيا.
دولياً للحديث بقية، إذ إنه معقّد ومتشعب مهما تقوقع الجميع تحت عنوان مضلل هو «الحرب على الإرهاب»، فتلك الحرب تستثني إرهاب الدولة وتنصبّ على القوى غير الحكومية، وأولئك الذين يشاركون في «الحرب على الإرهاب» سخّروا العراق له ساحة دمرته، وهم يسخّرون له سورية الآن، وكلاهما دولتان ممزقتان.
والكلام ليس فقط عن الذين يشنون الحرب على الإرهاب، وإنما أيضاً عن الذين يشهرونه وسيلة لغاياتهم المدمرة.
الحياة