مقالات تناولت “داعش”
خيار الإرهاب الخارجي: هل تكرّ «داعش» أم تفرّ؟/ صبحي حديدي
أرجّح، شخصياً، التقدير الذي ساد مؤخراً لدى بعض مراقبي سلوك «داعش»، في أعقاب عمليات الإرهاب الخارجية التي طالت الطائرة الروسية فوق سيناء (إذا صحّت مزاعم تنظيم الدولة، بالطبع، وكذلك تفجير برج البراجنة في بيروت، وصولاً إلى الذروة في عمليات 13 تشرين الثاني (نوفمبر) التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس. وأعني بـ«المراقبين»، هنا، أولئك الباحثين والمحللين الذين لا يكتفون باجترار التنميطات المكرورة حول «داعش»، ولا يقرأون أفعال التنظيم من خلال معطيات السطح وحدها؛ خاصة حين تبلغ الوقائع الإرهابية مستوى غير مسبوق من العنف الوحشي والعشوائي، فيُختم على العقل التحليلي، ولا تطفح سوى التعميمات الأسهل، والأشدّ سطحية بالتالي، ويُحجب على الأبصار فلا ترى سوى المشهد الهمجي الدامي.
وأمّا الرأي الذي أعنيه هنا، وأنضوي في كثير من فرضياته، فهو ذاك الذي يقول إنّ لجوء «داعش» إلى عمليات الإرهاب الخارجية، في هذا التوقيت تحديداً، وضمن فترات متزامنة، هو اضطرار إجباري أو يكاد، أكثر من كونه خياراً حرّاً أو مرتاحاً. وهو، استطراداً، كرّ هجومي كما تقول المؤشرات؛ ولكنه يتمّ ضمن شرط أوّل بالغ الدلالة، يتخبط بين التكتيك العابر والستراتيجية ذات الأمد الطويل: الفرّ، من قلب الكرّ، والدفاع بمصطلح الهجوم. ولا تُفتقر الأسباب الكثيرة، العسكرية واللوجستية والعقائدية/ التعبوية، التي تسند هذا الرأي؛ بل ثمة فقر مدهش، في المقابل، بصدد الأسباب التي تدفع إلى النقيض، خاصة تلك التي لا تخدش إلا المظهر الخارجي لعمليات «داعش» الإرهابية الخارجية الأخيرة.
عسكرياً، ورغم نجاحات طفيفة ومتفرقة أحرزها «تنظيم الدولة» مؤخراً، فإنّ المؤشر الإجمالي لا يبدو أنه يسير في صالح «داعش»، في سوريا كما في العراق؛ لاعتبارات لا تقتصر على أيّ تشديد ملموس في الضربات الجوية للتحالف الدولي، أو حتى دخول روسيا على خطّ هذا الخيار في إنهاك التنظيم؛ بل ترتبط، أيضاً، باضطراره إلى فتح جبهات قتال برّية عريضة ومتباعدة: مع فصائل الجيش الحرّ في ريف حلب تحديداً، والوحدات الإيرانية و«حزب الله» في ريف حلب ومحيط مطار كويرس، والجيش العراقي وقوات البيشمركة في مواقع عديدة. وهذه حال ترتّب على التنظيم أعباء اقتصادية وتمويلية، من حيث تقلص الموارد النفطية بادئ ذي بدء؛ كما أنه، إزاء انحسار الغنائم في ميادين القتال، مضطرّ إلى الإنفاق مباشرة على تأمين الذخائر والإمدادات المختلفة. وأمّا عقائدياً وتعبوياً، فإنّ الانتقال إلى العمليات الخارجية، خاصة إذا اتسع نطاقها الجغرافي، ليس كفيلاً بإحراج «القاعدة» أمام أنصارها، أو حتى تحجيم نفوذها وسطوتها وجاذبيتها، فحسب؛ بل، كذلك، تصعيد حوافز التجنيد لدى صفوف الأتباع الجدد، وصبّ المزيد من الزيت على ما يلتهب في نفوسهم من مشاعر سخط واحتجاج وإحساس بالحيف.
وبهذا المعنى، وفي عنصر جدلي مقابل ليس من الحكمة غضّ النظر عنه؛ قد لا تقتصر غايات «داعش» العميقة، من وراء هذه النقلة إلى عمليات الإرهاب الخارجية، على ما قد يبدو هدفاً مباشراً، جلياً، أو منطقياً منتظَراً: أي الضغط، في عقر الدار وعبر المدنيين تحديداً، على الدول التي تحارب «داعش» هناك، في سوريا وفي العراق؛ بما قد يجبرها على المراجعة، وتخفيف الضربات أو حتى الانسحاب من التحالف. وإذا كانت الولايات المتحدة وبريطانيا في رأس اللائحة، قبل فرنسا؛ فإنّ استهداف باريس نهض على إمكانية تجنيد الانتحاريين وسهولة تحرّكهم في أوروبا الغربية، بين بلجيكا وألمانيا نحو فرنسا. وليست تلميحات رئيس الوزراء البريطاني، دافيد كامرون، إلى إحباط عدد من العمليات الإرهابية على الأرض البريطانية؛ أو نجاح «داعش» في تفجير الطائرة الروسية فوق سيناء، إذا تبيّنت صحة المزاعم حوله؛ والعمليات الانتحارية في ضاحية بيروت الجنوبية، التي قد تكون الأعقد حتى اليوم في المواجهة بين «داعش» و«حزب الله»؛ إلا وقائع ملموسة لمقدّمات إرهاب مماثل قد تشهده أية عاصمة غربية.
بمعزل عن هذا الهدف الواضح، إذاً، فإنّ وِلْ مكانتس، مدير «مشروع معهد بروكنغز حول علاقات الولايات المتحدة بالعالم الإسلامي»، على سبيل المثال، يحذّر بشدّة من أننا لا نعرف الكثير، بعدُ، عن أغراض «داعش» من عمليات الإرهاب الخارجية هذه، ويجب أن ننتظر اتضاح جوانب أخرى لكي نصل إلى يقين ما، متكامل ما أمكن. وبالفعل، بالمقارنة مع هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2011؛ كان الاعتقاد البسيط يوم ذاك قد تركز في مسألة الثأر من الولايات المتحدة واستهدافها في قلب نيويورك. فيما بعد، عند العثور على مذكّرة سرّية، لعلها واحدة من أهمّ وثائق «القاعدة» الداخلية، اتضح أنّ أسامة بن لادن كان يبحث عن هدف أكبر وأهمّ وأدسم: استدراج الجيش الأمريكي إلى الخارج، وإلى مناطق انتشار واسعة، كانت أفغانستان والعراق مسرحاً لها في نهاية المطاف؛ بما يتيح لـ«القاعدة» مسرح عمليات مثالياً، فيستقطب الجهاديين من كلّ حدب وصوب، ويخلق «حملات صليبية» أشبه بكرة ثلج دائمة التدحرج بين الغرب والعالم الإسلامي (الأمر الذي انساق إليه جورج بوش الابن، على نحو شبه حرفي!).
وحتى تتضح تلك الأغراض الخافية، إذا كانت في حسابات «داعش» حقاً، فإنّ بعض الأغراض الأخرى قد تحققت لتوّها بالفعل، أو هي تتحقق كلّ يوم؛ وعلى رأسها، بالطبع، تلك الحال الهستيرية من الرهاب ضدّ الإسلام عموماً، وضدّ العرب خصوصاً، ثمّ اللاجئين السوريين بصفة أخصّ. ولقد تابعنا ذلك المسلسل السوريالي الذي اقترن بحكاية العثور على جواز سفر سوري قرب جثة أحد انتحاريي ستاد فرنسا، في ظاهر باريس: إنه سوري، لاجىء، انتحاري، مشارك في العمليات الإرهابية؛ قالت الرواية الأولى، الشعبية والشعبوية التي انتشرت كالنار في الهشيم. بل هو جواز سفر مزوّر، وما أسهل تزوير هذا الجواز تحديداً، بدليل نجاح الصحافي الهولندي هارالد دورنبوس في استصدار جواز سفر سوري، لكنه يحمل صورة رئيس وزراء هولندا؛ قالت رواية ثانية. كلا، بل وجود جواز السفر السوري قرب جثة الانتحاري هو محاولة تضليل من جانب «داعش»؛ حسب الاستخبارات الألمانية. وأخيراً: مصدر فرنسي، على صلة بالتحقيقات في هجمات باريس، أفاد بأنّ الجواز يعود لجندي سوري موالٍ للنظام، قُتل قبل أشهر في محافظة إدلب؛ حسب وكالة الأنباء الفرنسية…!
غرض آخر لعله تحقق، أو يتحقق منذ سنوات، بثبات وانتظام؛ هو تعزيز ـ وليس تراجع أو انكماش! ـ إمكانية استيلاد المزيد من نماذج عبد الرحمن أبا عود، المغربي الذي يُقال اليوم إنه العقل المدبر وراء هجمات باريس الإرهابية؛ أو أقرانه، أمثال عمر اسماعيل مصطفاوي، وسامي عميمور، والأخوين إبراهيم وصلاح عبد السلام، وبلال حدفي، وحسناء آيت بولحسن… وهذه إمكانية تشتغل عليها «داعش» أولاً، بالطبع، لأنّ التجنيد المباشر جزء لا يتجزأ من الفلسفة التنظيمية للمنظمة الإرهابية؛ ولكن، أيضاً، لأنّ التجنيد غير المباشر تتكفل بإنتاجه مناخات الهستيريا إياها، خاصة حين لا يكون المجنّد بحاجة إلى ما هو أكثر من إجراء تمييز هنا، أو سلوك بغضاء هناك… وما أكثرها، في مجتمعات الغرب هذه الأيام!
ويبقى، غنيّ عن القول، إنّ آخر ما كان يؤرّق هؤلاء الإرهابيين، ذلك الاعتبار الجوهري الذي يخصّ الطراز الآخر من الإرهاب، الذي يمارسه بشار الأسد/ حسن نصر الله/ قاسم سليماني، والميليشيات الطائفية والمذهبية والمتشددة على اختلاف منابتها وعقائدها، ضدّ الشعب السوري. وسواء أكانت «داعش»، في عمليات الإرهاب الخارجية، تكرّ أم تفرّ؛ فإنّ هذا الإرهاب الآخر ما يزال يواصل الكرّ، على قدم وساق!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
الإرهاب في طور جديد/ ميشيل كيلو
هل يمثل ما ترتكبه داعش من جرائم مرعبة ردّها على ما يلوح من هزائم تنزل بها في العراق وسورية، وتحسبها لما ستواجهه من تحديات؟ وهل هو المرحلة المقبلة من نشاطٍ قد تحرم فيه من حالها الراهنة كـ”دولة”، وتجبر على العمل في ظروف مختلفة تماماً عن ظروفها الحالية التي تتيح لها خوض معارك عسكرية، تتطلب قوى كبيرة تقاتل على جبهات محددة ومعروفة، منظمة عسكرياً، جيشاً يخوض معارك كالتي تخوضها جيوش الدول؟
إذا كان هناك من تفسير سياسي لعمليتي بيروت وباريس، فإن التفسير الصحيح لا يعقل أن يتجاهل انتقال قوى داعش العسكرية من العمليات الحربية، أو شبه الحربية التي يشنها مقاتلون كثيرون، إلى عمليات أخرى، مختلفة، يقوم بها أفراد متفرقون، أو تحققها تجمعات أفراد صغيرة، يعيش أعضاؤها خارج أراضي الدولة “السابقة”، في المجتمعات المطلوب مهاجمتها، أو يسربون إليها من خارجها، تشرف عليهم، تخطيطاً وتنفيذاً، قيادات محلية، تنشط في البلدان المستهدفة، أو توجههم من الخارج، وتمدّهم بما يلزمهم لضرب هدف كبير في موقع محدد، أو أهداف عديدة في أماكن متفرقة، في وقت واحد، فلا يشبه ما يقومون به ما سبق للقاعدة أو غيرها من تنظيمات الإرهاب أن مارسته في أي وقت ضد أي بلد أو جهة، بل يعتبر تطوراً نوعياً لعمليات الإرهاب، سواء من حيث كثافة المشاركين فيه، أو في ما يتعلق بنوعية الأهداف التي تتم مهاجمتها، أو طريقة استهدافها التي يجب أن تنصبّ، في جميع العمليات، على إلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر بالمواطنين، لهز ثقتهم بحكوماتهم ونظمهم ومؤسساتهم السياسية والأمنية، وتسعير غرائزهم وردود أفعالهم المذهبية والدينية، وتقويض ما في مواقفهم من تسامح تجاه “الآخر” من مواطنيهم، ذوي الأصول المغايرة لأصلهم، أو الأديان المختلفة عن دينهم، مع ما يفضى إليه ذلك من إثارة شكوكٍ لدى كل جماعة بغيرها، ومن تطرفٍ وعنفٍ، يمكن استغلاله كإطار قيمي، يتحكم بتفكير كل الجميع وسلوكه حيال الجميع، ويسمّم الحياة العامة، ويدفع الأحزاب والحكومات إلى اعتماد نهج يقيد الحريات، ويقوّض النظام الديمقراطي، ويوجِد شروطاً ملائمة لفرز المواطنين، وزيادة قابليتهم للانخراط في الإرهاب.
“يقف العالم على مشارف حقبة مختلفة من التحديات والمخاطر، سيفشل حتماً في التصدي لها، إن أقنع نفسه بالتعاون مع نظم مستبدة وإرهابية”
هناك دلائل حول انتقالنا إلى حقبة جديدة من الإرهاب، تستند إلى تنظيم لم تعد تحمله “دولة”. لذلك، لن يبقى علنياً، مثلما هو حاله، منذ أعلن عن إقامة ما أسمتها داعش “الدولة الإسلامية”، وسيتبنّى السرية في كل ما يتعلق بأعضائه ومهامه، وسيقلع عن إنجاز أعمال وواجباتٍ، كانت تلزمه بتركيز جهوده على مجال داخلي خاضع له، حيث كان عليه ضمان الاستقرار فيه، فضلا عن حدّ من الخدمات ضروري، لكسب ولاء رعاياه، بسبب مهامها “دولة”، كانت داعش مجبرة على إيلاء الخارج أهمية تالية، وربما محدودة في خططها وعملها. أما في حقبته المقبلة، فسينصب اهتمام التنظيم بمعظمه على الخارج. وبما أن مئات الإرهابيين أرسلوا أو تسللوا إلى البلدان العربية والأجنبية، فالمتوقع أن تتصاعد الأعمال الإرهابية تصاعداً غير مسبوق ضد بلدان عديدة، في ذهابٍ إلى زمن أشد كثافة ودموية وعنفاً من زمن القاعدة، فيما يتصل بعدد من سينخرطون فيه، أو الأهداف التي ستتم مهاجمتها، والبلدان التي سيستهدفها الإرهاب.
بهجومي بيروت وباريس اللذيْن أصابا تجمعات أبرياء من المدنيين، تدخل حرب الإرهاب ضد العالم وحرب العالم ضد الإرهاب طوراً جديداً خاص السمات، شروطه مغايرة لما سبق من إرهاب القاعدة. لن تنجح مواجهة هذا الطور المختلف، إلا بقدر ما يطوّر العالم تقنيات وأساليب لمواجهته، تتفق ونوعه وخطورته التي ستترتب على شنه حرباً كونية فريدة في حجمها ومداها ونتائجها، بما أن أتباعه وأعضاءه ينتمون لمختلف الأمم والشعوب، وأن قدرتهم على اختراق مجتمعاتهم ستكون كبيرة إلى درجةٍ، تتطلب تدابير استثنائية لمواجهتهم، منها تعزيز حرية المواطنين، ورفع سويّة التأهيل المهني للقضاء وأجهزة الأمن والشرطة، وابتكار طرق جديدة في إدارة الصراع ضد الإرهاب. أخيراً، أن تفترض مواجهة الوضع بناء تعاون دولي ومراكز قيادة وسيطرة عابرة للدول والحدود، لها طابع ثابت ومستقل، كما يفترض وضع مدونة قانونية دولية، لا تتوفر اليوم للعالم ولمنظماته الشرعية.
يقف العالم على مشارف حقبة مختلفة من التحديات والمخاطر، سيفشل حتماً في التصدي لها، إن أقنع نفسه بالتعاون مع نظم مستبدة وإرهابية، كالنظام الأسدي الذي لعب دوراً معروفاً في إيجاد الأجواء الضرورية لدخول داعش إلى سورية، وتعاون معها نيفاً وعاماً ونصف العام ضد الجيش الحر والمواطنين السوريين الذين طحنهم بعنفه وحلوله الأمنية، ودفع قطاعات واسعة منهم إلى الانفكاك عن رهانها الديمقراطي، والالتحاق بالإرهابيين وتنظيماته. لن تنجح محاربة الإرهاب بالسكوت عن إرهاب النظام الطائفي وإرهاب إيران المذهبي، ولن تنجح الحرب إن صار ضحيتها الناجين السوريين من إرهاب الأسد وحلفائه المحليين والدوليين، ما دام الإرهاب ليس حكراً على فئة أو مذهب بعينه، ولا مفر من اعتبار كل من يستخدم القوة ضد شعبه إرهابياً، كائناً ما كان اسمه، أو كانت صفته.
العربي الجديد
داعش يعود إلى أصله/ عمر قدور
قد ترتسم علامات استفهام كبيرة حول قدرة داعش الإرهابية. فأن يتبنى التنظيم المسؤولية عن تفجير الطائرة الروسية المدنية في مصر، ثم عن تفجيري الضاحية الجنوبية وتفجيرات باريس، فهذه إمكانية لا يجوز الاستهانة بها، ولعل أهم ما فيها القدرة الاستخباراتية العالية التي مكنته من اختراق إجراءات الأمن في الأماكن المستهدفة. أيضاً الأسئلة عن توقيت العمليات مشروعة، بخاصة مع ربطها بعملية فيينا حول سوريا، وهنا ليس غريباً أن تشير أصابع الاتهام إلى نظام الأسد وحلفائه كمستفيدين من عمليات داعش، ويعيد طرح الأسئلة عن الخدمات المتبادلة بين الطرفين.
يصادف أن يصرّح وزير الخارجية الأميركي بأن أيام داعش باتت معدودة، التصريح الذي أخذه الكثيرون على محمل السخرية بالمقارنة مع تصريحات مماثلة عن مصير الأسد. لكن تصريح كيري هذه المرة لا ينطلق من فراغ، فقوات البيشمركة في العراق حرّرت سنجار، و”القوات الديمقراطية” في شمال شرق سوريا مدعومة بالتحالف الدولي بدأت معركتها ضد داعش. الأهم أن مفاوضات فيينا أعطت الأولوية لمحاربة “الإرهاب”، وأن تجتمع قوى استثمر بعضها في الإرهاب على محاربته فذلك يؤذن بفتح صفحة جديدة من التعاطي الدولي والإقليمي مع داعش، أي أن التنظيم مهدد جدياً بعدم الاستفادة من التناقضات الدولية والإقليمية بعد الآن.
لقد انتهت “نزهة” الخلافة في العراق والشام. نهايتها كانت أمراً محتوماً في الأصل. فترة السماح الدولي هي التي انتهت، وصار لزاماً على التنظيم العودة إلى أصله، إلى العمل الجهادي الحركي المعروف من أيام التنظيم الأم “القاعدة”. إن إحدى أهم الرسائل التي توجهها العمليات الإرهابية الحالية تتجلى في أن بقاء دولة الخلافة مصلحة للدول التي سيطالها الإرهاب في عقر دارها، وأن القضاء على هذا التجمع المنظم من مقاتلي داعش سيؤدي إلى انتشارهم في العالم، فضلاً عن الخلايا الموجودة في العديد من الدول. وبدل القتال في سوريا والعراق وقتل أبناء البلدين ستضرب موجات من الإرهاب أنحاء عديدة من العالم.
في الحرب على الإرهاب، ثمة جدل غربي عمره حوالى عقدين: هناك تيار يطالب باتخاذ إجراءات قصوى في الغرب نفسه درءاً له، وهناك تيار آخر يطالب بمحاربته خارج الحدود استباقياً. الجدل نفسه موجود ضمن التنظيمات الجهادية: تيار يطالب بمحاربة “الكفار والصليبيين” في أرضهم، وتيار آخر ينظّر لاستدراج قوات الغرب إلى خارج أراضيه وإيقاع الهزيمة بها. إدارة أوباما تبنت خياراً ثالثاً لم يثبت نجاحه، فهي من جهة أبدت غبطتها بتحول سوريا إلى ساحة لصراع المتطرفين واستقطابهم، ولما اضطرت عمدت إلى إنشاء تحالف “جوي” يجنبها التورط بخسائر بشرية. الخيار الأميركي بدا مرضياً لداعش، بما أنه لا يشكل تهديداً جدياً للتنظيم، لكن الانتقال إلى مرحلة أخرى، وبدء استهداف التنظيم براً بواسطة ما يسميهم الأخير بالصحوات، ينقل المعركة خارج إطارها الجغرافي المحدود.
حداثة عهد داعش النسبية لا تقلل من قدرته على تنفيذ عمليات خارجية كبرى، وهنا ينبغي الانتباه إلى الحراك الداخلي ضمن تنظيم القاعدة، حيث تعرض التنظيم إلى نكسة كبرى بمقتل زعيمه أسامة بن لادن، فضلاً عن تجفيف قدراته المالية والحركية. خطاب القاعدة نفسه لم يعد جذاباً للخلايا والتنظيمات المتطرفة حول العالم، ولا يملك جاذبية إعلان الخلافة من قبل داعش، يزيد عليه بالطبع أن الإعلان مشفوع بمقدرات مالية وعسكرية ضخمة. من الصين شرقاً حتى أوروبا مروراً في أفريقيا، استطاع داعش استقطاب خلايا وتنظيمات كانت تتبع القاعدة، وتمتلك خبرة حركية لا يُستهان بها. هذا لا يعفي التنظيم من علاقات استخباراتية مع العديد من الأجهزة الإقليمية أو الدولية، وفي مقدمها نظام الأسد، إنما يضعها في إطار تبادل المنافع بين تنظيمين يدعي كلّ منهما أنه دولة، وبالتأكيد لا يعني وجود تعاون مستدام بين الطرفين.
العمليات الإرهابية الأخيرة تلبي مصلحة بشار مثلما هي مصلحة أولى لداعش، فأية تسوية دولية حقيقية للملف السوري سيتضرر منها الطرفان. الوضع الأمثل لبشار الأسد ولداعش هو الوضع المستمر منذ حوالى ثلاث سنوات، طالما أنه يحافظ على وجودهما، أو على وجود كل منهما المرتبط بوجود الآخر. من دون تعليق أدنى وهم على عملية فيينا في ما يخص حقوق السوريين، هذه العملية لا تصب في مصلحة بشار إلا إذا تواطأت القوى المنخرطة فيها على تسليمه سوريا على النحو الذي كان قبل الثورة، وهو أمر فوق استطاعة المجتمعين. وإذا كان مخرج داعش من العملية العودة إلى أصله كتنظيم بلا دولة، فنظام بشار لا يمتلك فرصة العودة إلى ما كان عليه، ولن يمتلك طويلاً فرصة مساعدة الإرهاب واستغلاله للبقاء. المسألة هنا لا تتعلق بنوايا غربية طيبة، وإنما تتعلق أساساً بمعلومات تملكها استخبارات هذه الدول، ويُعبّر عنها بتصريحات دبلوماسية تربط بين بشار والإرهاب.
مع الأسف، وقف العالم متفرجاً طوال سنوات على وحش “النظام” وعلى وحش التنظيم، وكانت الفكرة السائدة هي أنه لا ضير من وجودهما طالما بقي أذاهما محصوراً في رقعة جغرافية محدودة. الآن، سيخطئ العالم إذا ظن أن الوحشين سيستسلمان بسهولة لمصير يقرره الآخرون، فلا من عادة التنظيمات الحركية الجهادية إعلان الهزيمة، ولا من عادة أنظمة الاستبداد إعلانها. مع وجود تصريحات موثقة لأصحابها لا يسعنا أن نضيف المزيد، فبشار وداعش أنذرا العالم بمزيد من الإرهاب طوال السنوات، وكلما اقترب العالم من الاقتناع بالقضاء عليهما سيوضع الإنذاران معاً قيد التنفيذ.
المدن
السوريون في الحرب على “داعش”/ فايز سارة
يتسابق العالم في الحرب على «داعش». فقبل عام ونيف تشكل التحالف الدولي للحرب على «داعش» بقيادة الولايات المتحدة، فقامت طائراته بشن غاراتها على مناطق انتشار «داعش» وقواعده، ثم تحركت روسيا، لتنضم إلى محاربة «داعش» في محاولة منها لإعادة تأهيل نظام الأسد الذي لا يقل إرهابا ودموية عن «داعش»، وجعلته مبررًا لتدخلها بدفع قوات برية وبحرية وجوية إلى سوريا، ودفعت طائراته لقصف ست محافظات، استهدفت تجمعات سكانية ومراكز لقوات من تشكيلات المعارضة المسلحة بحجة ضرب «داعش»، وقد أكدت تقارير، أن قصف «داعش» لم يتجاوز خمس عشرة في المائة من عمليات القصف الروسي، ووسعت فرنسا حربها على «داعش» بعد هجمات باريس الدموية، التي تبنى «داعش» المسؤولية عنها.
وسط الحرب الدولية على «داعش» المختلف على كثير من محتوياتها وأهدافها ونتائجها، يبدو السؤال الطبيعي عن مكانة السوريين في الحرب ودورهم فيها في ظل حقائق أساسية أبرزها، أن «داعش» باتت تستوطن نحو نصف مساحة البلاد، وأنها على مدى عامين من انتشارها في سوريا، خلفت عشرات آلاف الضحايا، وأذاقت أضعافهم مرارة التطرف والإرهاب، فقتلت وعذبت وخطفت، واستعبدت وأذلت سوريين في كل مكان حلت فيه، ويكفي القول، إن احتلال «داعش» لدير الزور وحدها في العالم الماضي، تسبب في قتل نحو ألف شخص من عشائر الشعيطات الذين رفضوا مبايعة «داعش» والخضوع لها، وهو أمر حدث في الرقة عندما سيطر «داعش» عليها، وتكررت النتيجة في مدن وقرى كثيرة منها تدمر والقريتين في ريف حمص الشرقي اللتين سيطر عليهما إرهابيو «داعش» قبل أشهر، وشهدت منبج في ريف حلب عمليات قتل واعتقال وتعذيب مؤخرًا بعد ثورة سكانها على «داعش».
لم تكن الجرائم السابقة، وحيدة في ممارسات «داعش» ضد السوريين، بل هي امتدت إلى تدمير ممتلكاتهم ومصادرتها لصالح التنظيم، وذهبت إلى فرض قيم وعادات وسلوكيات متزمتة وخصوصا إزاء النساء، وقد حولهن «داعش» إلى عصر من العبودية الجديدة بإحياء «تجارة الإماء والجواري»، وعمل على تزويج عناصره بالإكراه من نساء المناطق التي سيطر عليها، وجند أطفالا من أبنائها في صفوفه من أجل توطين نفسه، واتخاذهم دروعًا بشرية، تحميه من أية هجمات محلية على مراكزه وعناصره، وباختصار شديد، فقد دمر «داعش» حياة السوريين حيثما حل، وسعى إلى تغيير عاداتهم وتقاليدهم وأعمالهم وتعليمهم بقوة السلاح.
لقد بدا من الطبيعي، أن يقف السوريون في مواجهة «داعش»، وأن يدخلوا الحرب ضده من أوسع الأبواب، وهناك ثلاث من أبرز محطات حرب السوريين على «داعش» في العامين الأخيرين؛ أولاها حرب تشكيلات المعارضة المسلحة ضده في ريفي إدلب وحلب في العام الماضي، والتي تصدرتها في ذلك الوقت جبهة ثوار سوريا، وكان من نتيجتها قتل وجرح وأسر مئات من عناصر «داعش» وطرده من تلك المناطق شرقًا، والثانية حرب عشائر الشعيطات في دير الزور، التي وإن أدت إلى خسارة بشرية كبيرة لحقت بالشعيطات، فإنها أصابت «داعش» بخسائر كبيرة. والمحطة الثالثة، كانت في حرب قوات بركان الفرات، التي تتشارك فيها قوات من الجيش الحر وقوات الحماية الشعبية الكردية في عين العرب، مما ألحق هزيمة كبيرة بـ«داعش» وجعل قاعدته الرئيسية في الرقة هدفًا قريبًا، وكله يضاف إلى معارك القوات الكردية، التي تتواصل مع «داعش» في الحسكة وأريافها.
ولم يكن الصراع المسلح بين السوريين و«داعش»، شكلاً وحيدًا، بل امتد الصراع إلى أشكال مدنية وشعبية أخرى، لم يستطع إرهاب «داعش» أن يمنعها. فكانت حركات الرفض لوجود «داعش» وسياساته وصولاً إلى الاحتجاج على ممارساته والتظاهر ضده، ومطالبته بإخراج مقاتليه وقواعده من المناطق السكنية على نحو ما حدث في منبج وقبلها في الرقة وأماكن أخرى.
حرب السوريين على «داعش»، كانت الأكثر أثرًا في مواجهته، وهي حرب قابلها نظام الأسد بالتواطؤ مع «داعش» في تدخله مرات كثيرة عبر القيام بقصف المقاتلين ضد «داعش»، وتسليمه مناطق هددت قوات المعارضة بالاستيلاء عليها، ولا يخفف من بؤس موقف النظام في الحرب على «داعش» خوضه معارك مسرحية محدودة في وقت كان بمقدوره قصف أهداف معلنة وظاهرة لـ«داعش» في أماكن مختلفة ولا سيما في دير الزور والرقة وتدمر، بدل أن يقصف المدنيين في حلب وإدلب ودرعا وريف دمشق.
الحرب الدولية ضد «داعش» لم تكن أفضل بكثير من حرب النظام. كانت فقط مجرد هجمات جوية، أصابت «داعش» مرات، ومدنيين سوريين في مرات كثيرة، ونادرًا ما قدمت مساعدات للقوى السورية المقاتلة ضد «داعش»، بل تجاوزتها إلى منع تقديم السلاح والذخيرة لوقت طويل لقوات المعارضة تحت حجة الخوف من وصول الأسلحة إلى قوى الإرهاب والتطرف.
الشرق الاوسط اللندنية
الإرهاب بين الأسد وهستيريا “داعش”/ خالد الدخيل
بات أمراً واقعاً لا بد من الاعتراف به. الغرب في حال ارتباك أمام الإرهاب. مذبحة باريس التي تبناها تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) لم تكشف شيئاً جديداً عن مدى وحشية هذا التنظيم الإرهابي وهمجيته. لكنها أطلقت حالاً من الهستيريا في الغرب تمكن تسميتها بـ«هستيريا داعش»، وهي كذلك لأنها تأخذ كل ملامح الهستيريا التي تغذيها مشاهد الدم والقتل العشوائي لأبرياء فرنسيين كانوا يتناولون طعاماً في مطعم، أو يشاهدون مباراة كرة قدم، أو مسرحية، ولا علاقة لهم، لا من قريب أو بعيد، بصراعات تدور رحاها في منطقة نائية اسمها الشرق الأوسط. ولأن هذا استهداف يمثل ذروة الإجرام والاستهتار بأرواح الناس لم ترتفع الأصوات مطالبة بالقضاء على «داعش» وحسب، بل تجاوزتها إلى المطالبة بإخضاع المسلمين الأوروبيين والأميركيين لمعاملة خاصة، وبعدم قبول المهاجرين المسلمين إلى أوروبا وأميركا. الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند اقترح تغيير الدستور الفرنسي لهذا الغرض تحديداً. وهناك الآن حكام 11 ولاية أميركية تعهدوا بالعمل على عدم قبول أي مهاجر مسلم في ولاياتهم. بل إن بعضهم قال إنه لن يقبل مهاجرين من الشرق الأوسط من غير المسيحيين. وإذا أضفنا إلى ذلك الموقفَ العنصري لليمين المتطرف في أوروبا من العرب والمسلمين، وتصاعدَ هذا الموقف في أعقاب موجة المهاجرين وهجمات باريس الأخيرة، فإنه يعكس مؤشراً مقلقاً على تصدع في ثقافة العلمانية، وتراجع لمفهوم المواطنة المدني في الغرب.
هذا حال من التعبير العاطفي المباشر، أو العنصري أمام موجة إرهابية لها سياق تاريخي فيه الكثير من الإرهاب الذي يتداخل، تقاطعاً أحياناً وتنافراً أحياناً أخرى، بصراعات سياسية لها ما يبررها. وقد اختزلت هذه الهستيريا في سؤال ذي دلالة: هل يجب التخلص أولاً من «داعش» أم من الرئيس السوري بشار الأسد؟ أصوات كثيرة في الغرب الآن تطالب بأن تكون الأولوية للتخلص من «داعش». بالنسبة إلى هؤلاء ليس مهماً ما حصل ويحصل للشعب السوري على يد «داعش» ونظام الأسد، الأهم من ذلك ما حصل وما يمكن أن يحصل للأوروبيين على يد هذا التنظيم. الشعب السوري يتعرض للقتل يومياً منذ ما يقرب من خمس سنوات، وقد قتل منه حتى الآن أكثر من 300 ألف، وهجّر أكثر من عشرة ملايين. لكن الهستيريا لم تصب أوروبا وأميركا إلا بعد مقتل 129 فرنسياً في مذبحة باريس. هل في هذا الموقف رائحة عنصرية؟ أم أنه موقف طبيعي للطرف الأقوى في الصراعات الدولية عندما يفقد رشده ورؤيته الاستراتيجية في لجّة هذه الصراعات؟
سؤال آخر: هل من المصلحة أو الحكمة السياسية اختزال أزمة الشرق الأوسط في «داعش» وضرورة التخلص منه كأولوية سابقة على غيرها؟ ينطلق هؤلاء من أن تنظيم «داعش» هو الذي يهدد أمنهم وعيشهم، ويستهدفهم مباشرة وليس الرئيس السوري أو الميليشيات التي تحارب دفاعاً عنه. يعترفون بأن الأسد ديكتاتور دموي، وبأن له مساهمة ودوراً كبيراً في تفشي الإرهاب في المنطقة. لكن دوره ومساهمته في كل ذلك لا يطاولان أوروبا أو أميركا مباشرة. ماذا عن تهديد الإرهاب بكل ألوانه للمنطقة، ولحلفاء الغرب في هذه المنطقة؟ أبرز من يمثل هذا الاتجاه الرئيس الأميركي باراك أوباما، ومعه وزير خارجيته جون كيري. كلاهما يرى أنه لا يمكن أن يكون هناك حل سياسي ونهاية للحرب الأهلية في سورية من دون خروج بشار الأسد من المشهد نهائياً. في هذا إقرار بأن بقاء الأسد عامل رئيس في تفشي الإرهاب، أو كما يردد كيري بأن الأسد بات عامل جذب للإرهابيين، إلا أن سياسة أوباما منذ بداية الثورة السورية ساهمت وتساهم في إطالة أمد بقاء الأسد، وبالتالي في تفاقم ظاهرة الإرهاب. هل من المبالغة القول في هذه الحال إن السياسة الأميركية تساهم، وإن بشكل غير مباشر أو مقصود في تغذية الإرهاب، وتحديداً إرهاب داعش؟ تماشياً مع ذلك تنهمك إدارة أوباما، بعد التدخل العسكري الروسي في سورية، بما يسميه جون كيري سياسة الحل الانتقالي التي يفترض أن تبدأ بعد أسابيع، كما يقول. واللافت في هذه السياسة أنها تنطلق من التعاون مع روسيا فلاديمير بوتين التي ترى أن لا شأن للحل السياسي في سورية بمصير الأسد، وأن هذا يجب أن يترك للشعب السوري يقرر في شأنه ما يراه.
السؤال الذي يتجاهله أوباما وكيري هنا هو: هل سيفضي هذا الحل الانتقالي إلى ترجيح رؤية أوباما برحيل الأسد، أم رؤية بوتين ببقائه في المشهد؟ وكيف؟ واشنطن وموسكو متفقتان على أن الأولوية الآن هي للقضاء على «داعش». الإشكالية ليست في تبني هذه الأولوية بحد ذاتها، وإنما في أنها أولوية يتم تبنيها بشيء من التكاذب المتبادل، ومن دون استراتيجية واضحة، أو هدف نهائي متفق عليه بين الأطراف التي اجتمعت في فيينا. ماذا مثلاً لو تحقق القضاء على «داعش» (وهو أمر مشكوك فيه على كل حال) وتسبب ذلك بتعزيز قوة الأسد؟ هذه نتيجة لا تتسبب بقلق كثير في موسكو. على الناحية الأخرى، المفترض أن هذه النتيجة تقلق واشنطن كثيراً. لكن يبدو أن أوباما إما غير آبه بإمكان هذه النتيجة، أو يرى أن إمكان تحققها ضعيف في كل الأحوال. كيف؟ لا أحد يعرف. هنا يتضح الغموض في سياسة إدارة أوباما تجاه الحال السورية، ومن ثم حال الإرباك التي تتسبب بها بين حلفاء واشنطن.
في هذا السياق يتذكر الجميع صفقة نزع السلاح الكيماوي للنظام السوري عام 2013، التي تمت بوساطة ومبادرة روسية. حصل ذلك في أعقاب استخدام نظام الأسد للسلاح الكيماوي ضد المدنيين في الغوطة الشرقية في صيف ذلك العام. وانتهت الصفقة بأمرين لافتين: تراجع أوباما الشهير عن خطه الأحمر، والسماح للروس بتحقيق مكسب سياسي للأسد، ساهم في إطالة أمد بقائه. تفرض هذه السابقة التشكيك في موقف أوباما المعلن من الحل الانتقالي الذي انتهى إليه اجتماع فيينا. كما تفرض عدم استبعاد تراجعه عن شرط تنحي الأسد وخروجه من المشهد في نهاية الحل الانتقالي. وهذا أمر وارد جداً ولا ينبغي استبعاده، فالعملية السياسية لمقترح الحل الانتقالي هي الآن تحت السيطرة الروسية بفعل وجودها العسكري في سورية. وبوتين ليس معروفاً بميوله الشعبية أو الديموقراطية. وبما أن بشار الأسد في عرف الرئيس الروسي هو رئيس منتخب شعبياً، فما الذي يمنع إعادة انتخابه بالآلية نفسها في نهاية المرحلة الانتقالية؟ وإمكان تراجع أوباما مرة أخرى هو ما توحي به تصريحاته ووزير خارجيته، وهي تصريحات غامضة ومطاطة وتحتمل أكثر من معنى وأكثر من تفسير.
الشاهد هنا أولاً: أن الحل الانتقالي المقترح مؤشر على حجم التراجع السياسي في الغرب عن الرؤية الاستراتيجية التي عرف بها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة التي أفضت إليها. أصبح الخوف والتردد، والرؤية الآنية الضيقة هي التي تسم الفكر السياسي الغربي. وهذا ما يتجسد في سياسة إدارة أوباما تجاه الشرق الأوسط، وتأثيرها الواضح على المواقف الأوروبية. والشاهد ثانياً: أن ما حصل في باريس، وقبله في بيروت، لا يمكن فصله كنتيجة عن هذا التحول في السياسة الغربية من حيث أنه ترك الوضع السياسي في الشرق الأوسط يتعفن سنة بعد أخرى. أهل المنطقة هم المسؤول الأول عن ذلك، صحيح، لكن حجم الغرب وحضوره في الصراعات الدائرة فيها لا يعفيه من المسؤولية أيضاً. والمساحة التي يتم تجاهلها بين المسؤوليتين تغذي الإرهاب ومعه حال الهستيريا في الغرب حالياً. التساهل مع «داعش» جريمة، لكن التذرع بوحشية هذا التنظيم للتساهل مع الأسد يفضي إلى الجريمة ذاتها. لنتذكر أن «داعش» ظهر بعد الغزو الأميركي للعراق، وفي ظل نظام الأسد الذي يمتد عمره قرابة نصف قرن من الزمن. كيف يمكن الفصل بين السبب والنتيجة في هذه الحال؟
* أكاديمي وكاتب سعودي
الحياة
“داعش”: فيديراليّة ضغائن وفتوّات منتهية الصلاحية/ حسن شامي
خلال فترة قياسية لا تتجاوز الأسبوعين، أعلن تنظيم «داعش» مسؤوليته عن ثلاثة اعتداءات وهجمات دامية من العيار الثقيل وفي مناطق متباعدة.
فهو تبنى على الفور، عملية تحطّم الطائرة الروسية فوق سيناء في نهاية الشهر الفائت، فيما انتظر الروس نتائج التحقيق وأعلنوا قبل بضعة أيام فقط، عن أن تحطّمها ومقتل 224 مدنياً على متنها ناجمان عن تفجير إرهابي. وللمزيد من الشماتة وتزويق التشفي، عرض موقع إلكتروني منسوب الى «داعش»، صورة عن القنبلة البدائية الصنع التي زرعت أو دست بين حقائب المسافرين، كما كشف عن نجاح التنظيم في تحقيق اختراق أمني في مطار شرم الشيخ.
وتبنى «داعش» بعد أيام، المسؤولية عن التفجيرين الانتحاريين في الضاحية الجنوبية لبيروت، ما تسبب بقتل 45 مدنياً وصفهم بيان «داعش» بالمرتدّين. وكان لافتاً أنّ قسماً بارزاً من وسائل الإعلام الفرنسية، وبعض الإعلام العربي أيضاً، ارتأى وضع عنوان حربي للعملية يحجب بالكاد الشماتة، فيما يحجب صراحة وجود مدنيين استهدفهم القتل.
مع ذلك وفي اليوم التالي، دشّن «داعش» في قلب العاصمة الفرنسية ومقاهيها ومطاعمها ومسارحها وملاعبها، حفلة صيد بربرية طاولت المدنيين وحدهم وقتلت أكثر من 130 منهم، وهم من 19 جنسية وبينهم عرب ومسلمون، إضافة إلى مئات الجرحى وبينهم عشرات في حال خطرة.
القاسم المشترك بين هذه العمليات، لا يقتصر على طابعها الإجرامي وعلى التلذّذ بالقتل العشوائي. إنه بالضبط استهداف الصفة المدنية للضحايا وتنفيذ حكم الإعدام بها وبأي قوام مدني وأهلي. ومع أن «داعش» يعوّل، لاجتذاب الجهاديين، على السلوك الاستعراضي للفتوة و «إدارة التوحش»، فإنه يحتاج إلى خطاب لتقديم نفسه في صورة المثال الخلاصي، ولتقديم خصومه وأعدائه في صورة السلب الشيطاني الخالص. والأعداء هؤلاء هم تقريباً العالم كله. ففي بيانات تبنّيه الهجمات الأخيرة، اكتفى «داعش» بتعريفات إجمالية مشتقّة من قاموس تنظيم «القاعدة» وتقسيمه العالم إلى فسطاطين. فنعت الروس بأنهم «كفار»، واعتبر الغالبية الشيعية القاطنة في الضاحية الجنوبية لبيروت كتلة «مرتدّين»، ووصف الفرنسيين بأنهم «صليبيون» معتبراً مئات الشبان المدنيين المحتشدين في قاعة مسرح باتاكلان «مشركين». وأكد بيان «داعش»، أن فرنسا على رأس لائحة أهداف الدولة الإسلامية «ما داموا قد تصدروا ركب الحملة الصليبية وتجرأوا على سبّ نبيّنا وتفاخروا بحرب الإسلام في فرنسا، وضرب المسلمين في أرض الخلافة بطائراتهم».
صحيح أن لغة «داعش» وأمثاله فقيرة جداً على غير صعيد، خصوصاً على صعيد السياسة. لا يعني هذا أن الاعتداءات المتتالية التي حصلت في غضون أسبوعين، مقطوعة الصلة بأي خلفية سياسية. قد يكون العكس أقرب إلى الصواب. فالتنظيم الذي استفاد من التباسات السياسات الدولية والإقليمية، بات يشعر بأن قيمته الاستعمالية شارفت على نهايتها. لقد انتهت صلاحيته. ينبغي القول ههنا، إن التدخل العسكري الروسي، بغض النظر عن رأينا ورأي كثر من المتنازعين فيه، نجح على الأقل في خلط الأوراق ولعبة التجاذبات والمناورات الجارية في سورية بعد تحويلها إلى حلبة صراع دولي وإقليمي مفتوح على أشكال التوحش والخراب كافة. فليس من قبيل المصادفة أن يشير بيان «داعش» عن زرع القنبلة داخل الطائرة المدنية الروسية، إلى أن التنظيم كان ينوي ضرب إحدى طائرات التحالف الغربي، لكنه بدّل رأيه وقرر استهداف الطائرة الروسية بسبب التدخل العسكري الروسي في سورية.
وللتذكير، اضطر الرئيس الفرنسي المعارض التدخل الروسي، إلى مطالبة الروس بضرب «داعش» وحده. وبدا مضحكاً تصريح المرشحة الديموقراطية للرئاسة الأميركية هيلاري كلينتون، عندما طالبت الإدارة الأميركية بضرورة إفهام الروس بأنه ليس مسموحاً لهم إدخال الفوضى إلى الأزمة السورية، كما لو أن هذه كانت تجرى بطريقة منظّمة وسط الانهيارات والمذابح والخواء المتعاظم إلى الحد الذي حوّل سورية أكبر مصنع عالمي للإرهاب، وفق ما قال فرنسوا هولاند في خطابه الأخير في أعقاب مقتلة باريس.
زمن السياسة لا يتطابق مع زمن السوسيولوجيا. هذه المقولة التي كانت وما زالت تصحّ على تشكّل تنظيم «القاعدة» ومسيرته الصاخبة، تصح كذلك على «داعش»، وإن في ظروف مستجدة دشّنها الاحتلال الأميركي للعراق وتداعياته. فالماكينة الهائلة التي صنعت «القاعدة» افترضت بسينيكية الأقوياء الكبار المعهودة، أن رعايتها التقنية والإجرائية لطريقة استعمال المنتج ضد الخصم أو العدو، السوفياتي آنذاك في أفغانستان، تجيز لها تقدير مدة الصلاحية ونطاقها. هذا المنطق يفوته أن استجابة آلاف الجهاديين للدعوة القاعدية إلى حد التضحية بالنفس، تستند إلى تعبئة أيديولوجية إسلامية تستنهض طاقات مكبوتة في غير بلد عربي وإسلامي، وتستقي شرعية الجهاد من مصادر مناسبة لحاجات هذه التعبئة الجهادية.
وينبغي أن يكون المرء ساذجاً كي يعتقد أن هؤلاء الجهاديين لن يسعوا إلى قلب المعادلات السياسية القائمة في كياناتهم الوطنية الأصلية، وأنهم سيعودون فرحين إلى بيوتهم بعد انتهاء مهمتهم كما لو أنهم جنود نظاميون يتمتعون بإجازة طويلة.
لنقل إن خصخصة الجهاد التي رعاها دعاة العولمة العابرة للكيانات الوطنية، باتت تصطدم بعولمة من تحت قادمة من القيعان ومن الهوامش. حالة «داعش» في مقتلة باريس تكاد تكون نموذجية على هذا الصعيد. فالمقتلة الرهيبة التي خُطّط لها في سورية ونُظمت في بروكسيل ونُفذت في باريس، وفق ما قال الرئيس الفرنسي، سعت إلى توليد شرخ في المجتمع الفرنسي الذي يشهد دورياً مناظرات ساخنة لا تغيب عنها الحسابات الانتخابية حول المكوّن الإسلامي وهويته الجوهرية، والتلويح بتهديداته وخطره على هوية فرنسية قومية مفترضة. والحق، أن بيئات المسلمين المقيمين في غالبيتهم في الضواحي والأحياء الفقيرة حيث تصل نسبة البطالة في أوساط الشبان إلى الأربعين في المئة، لا تخلو من رضوض تاريخية واجتماعية عميقة يرقى بعضها إلى الحقبة الكولونيالية.
ما يخاطبه فتيان «داعش» وأمثاله، هو هذه الجروح وهذه الرضوض وما تحمله من ضغائن وتجاذبات عنيفة وتقديم وصفة خلاصية للتطهر منها، عبر سلوك قائم على الندّية والتحدّي والفتوة والغلبة. وقد لاحظ قاضي تحقيق فرنسي أن معظم الجهاديين قليلو التديّن. «داعش» فيديرالية فتوات وضغائن.
الحياة
ثلاث خطوات لمعالجة الارهاب الاسلامي/ محمّد علي مقلّد
لم تكن أوروبا ولا أميركا، في أيام الحروب، أفضل حالاً من تنظيمات الاسلام السياسي. أمام أنظار التطرف الديني المعاصر، وفي جعبته التاريخية، عينات من الارهاب الغربي تعود جذورها إلى محاكم التفتيش القروسطية ، فضلا عن عينات شرقية لا تقل هولاً ورعباً، تمتد من اغتيال الخلفاء ودفن الناس أحياء تحت رمال البصرة بأمر من الحجاج بن يوسف الثقفي، حتى الأسلحة الكيماوية التي استخدمها البعثان العراقي والسوري.
غير أن الغرب احتاج إلى حروب أهلية في القارتين وإلى حربين عالميتين ليحترم حق الاختلاف وليتأكد من أن الحروب لا تصنع السلام. حتى تلك الدروس المستفادة لم تكتب بالحبر إلا بعد أن سال دم وتهدمت مدن ودمرت بلدان، وقد استمر ذلك من أول الثورة الفرنسية حتى أربعينات القرن العشرين.
مهما قيل اليوم عن إرهاب غربي سببه الاستعمار، صريحاً أو مقنّعاً، فالإرهاب الراهن هو الذي يقترن بالتطرف الديني، ومصدره العالمان الاسلامي والعربي وتمارسه تنظيمات الاسلام السياسي، على المسرح العالمي في كل القارات. لذلك لا بد من حل دولي عربي اسلامي لهذه الظاهرة الخطيرة على سلام كل الشعوب وعلى تطور البشرية، من ثلاثة بنود:
الأول موقف دولي ينزع الذريعة المتعلقة بإسرائيل، الكيان العنصري الوحيد المتبقي على الكرة الأرضية، الذي تمارس الصهيونية على أرضه أبشع أنواع الارهاب ضد الشعب الفلسطيني، والذي يستظل به قادة الدول والأحزاب في العالمين العربي والاسلامي ويمارسون بحجته إرهابهم على شعوبهم وعلى شعوب العالم.
يتطلب ذلك من المجتمع الدولي وحكوماته ومؤسساته السياسية، ولا سيما مجلس الأمن والأمم المتحدة، اتخاذ قرار حاسم يلزم إسرائيل بحل يطفئ لهيب هذه القضية المشتعلة منذ قرن من الزمن، ويترجمه الغرب، أوروبا وأميركا، خروجاً صريحاً من تردده، ليدعم بحزم جهود التوصل إلى حل، مثلما سبق له أن قدم بحزم دعماً غير محدود لدولة اسرائيل وسياستها العدوانية.
الثاني تحقيق إصلاح في بنية السلطات السياسية ينقل بلدان العالم العربي من مرحلة الحكم الوراثي إلى رحاب الديمقراطية، التي لا تمثل صناديق الاقتراع سوى مرحلتها الأخيرة، بعد تمهيد طويل في نشر ثقافة جديدة حصيلتها المنطقية التأكيد على احترام حق الاختلاف وعلى كل حقوق الانسان المنشورة والمقرة في الشرعة وفي الاعلان العالمي.
الاصلاح السياسي هذا يتطلب من الحكومات العربية والغربية التعامل بشكل مختلف مع حركات الاحتجاج الشعبية، التي انطلقت من تونس وعمت العالم العربي، ومساعدتها وتقديم الدعم لها لتكون ممراً إلزامياً لإنجاز الانتقال من أنظمة بلادنا الطاعنة في الاستبداد إلى أنظمة تعددية ترعى التنوع الديني والثقافي والاتني وتحميه، بعد أن حولته الأنظمة مادة للصراعات، وجعلته مادة للحروب الأهلية وخياراً وحيداً بديلاً من الاستبداد.
لا حذر الحكومات الغربية ولا رعب الحكومات العربية من التغيير يلغي حتمية الانتقال إلى الدولة الحديثة، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص، وقيام الأنظمة الدستورية والمؤسسات واعتماد القوانين الوضعية، خصوصاً أن الكلفة المترتبة على رفض التغيير وعدم الاستجابة إلى ضرورته كانت تتزايد طرداً مع استخدام العنف ضده ومع تردد الغرب في مساندته ودعمه.
البند الثالث إصلاح ديني يضع حدا لفوضى الاستخدام المسيء للنصوص الدينية وتشويه وقائع التاريخ، وينظم نشاط العاملين في الحقل الديني، ويلزمهم بمعايير علمية وبالحصول على شهادات أكاديمية من المدارس الدينية أو العلمانية، ويمنع حالة الفلتان ويحصر المسؤولية بهيئات تكون مسؤولة أمام مؤسسات الدولة وخاضعة لقوانينها، ويفتح باب الاجتهاد لتعميم فهم عصري للدين ونصوصه، ولوقف العمل بما لا يتوافق مع الحضارة الحديثة أو مع المنجزات العلمية( تسترد الدولة مثلا حق تعيين أيام العيد والعطل الرسمية، وتعاقب الذين ينصبون أنفسهم دعاة أو إئمة أو أمراء دينين خارج اعتراف المؤسسة الدينية والأكاديمية)
مثل هذا الاصلاح الديني يفترض التزام الدولة بحماية حق المؤمنين في ممارسة شعائرهم وطقوسهم بكل حرية، على أن تلتزم المؤسسة الدينية، في المقابل، بممارسة نشاطها وإدارة شؤونها المالية بما لا يخالف أحكام القوانين المرعية، وإلحاق المحاكم الشرعية بالقضاء المدني.
تحقيق هذه البنود الثلاثة من شأنه إعادة الاعتبار لروح الربيع العربي، بما هو ثورة على الاستبداد ودعوة إلى الدخول في الحضارة الحديثة من باب الديمقراطية واحترام حقوق الانسان.
المدن
نحن شركاؤهم في الجريمة/ زهير قصيباتي
كان الرئيس الأميركي باراك أوباما منهمكاً، بعد تحرير النظام السوري من ترسانته الكيماوية، باللهاث وراء تسجيل إنجاز الاتفاق النووي مع إيران، بوصفه «ضمانة» لعالم أكثر أمناً، ولأمن إسرائيل… فيما استعرت حملات الإبادة في سورية. كان أوباما منشغلاً بمعالجة الحصبة في أميركا، والنظام السوري يحصد يومياً عشرات من أرواح المدنيين الأبرياء الذين لم يفارقوا منازلهم، ولم يحملوا السلاح في صفوف المعارضين.
كان سيد البيت الأبيض شديد الحرص على التنديد بنظام دمشق، لكنه أكثر حرصاً على النأي بالأميركيين وجنودهم من ساحات القتل بعد «الربيع العربي». شجّع بتردده وضعفه، تمادي طهران وموسكو في الدفاع عن النظام السوري بكل الوسائل القتالية وبـ «التطهير» والتشريد، بذريعة «تنظيف» سورية من «الإرهابيين».
حتى في مواجهة «داعش» وفظائعه، اكتفى البيت الأبيض بالحرب من الفضاء، فتمادى التنظيم، إلى أن انكشف رهان واشنطن على خطوات أوروبية «أكثر جرأة»… لاستئصال التنظيم. وقد يكون جلياً عدم اكتراث أوباما بتوريط الأوروبيين في القتال على الأرض السورية، بعد مجزرة باريس، ليمحو فضيحة تدريب إدارته 50 مقاتلاً من المعارضة السورية على مدى سنة. وبحساب بسيط يتبين أن نظام دمشق المطمئن وحلفاءه إلى العجز الأميركي الفاضح عن وقف المأساة السورية، وإلى الحماسة الروسية إلى تلقين أميركا والغرب عموماً درس الانتقام بعد أوكرانيا… انتقل الى مرحلة قضم مناطق المعارضة.
أما الاتكاء على تبدُّل مقتضيات المصالح الروسية لاحقاً، للرهان على إمكان تخلُّص موسكو من حماية مصير الرئيس بشار الأسد، فيثبت يوماً بعد يوم أنه ما زال مبكراً، فيما طهران لا تتردد في الدفاع علناً عن «حق» الأسد في الترشُّح مجدداً للانتخابات. بحساب بسيط أيضاً، يتضح أن روسيا وإيران تحجّمان المأساة السورية إلى عاملين: إصلاحات سياسية مع معارضة «وطنية»، ومعارضة لا بد أن تقاتل مع النظام لحمايته من «الإرهابيين».
ولكن، ما الذي تبدّل بعد مجزرة باريس، وجرّ «داعش» فرنسا إلى حال الطوارئ؟ ما تبدّل هو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كسب الرهان على أولوية الحرب على «داعش»، بدلاً من حتمية تغيير رأس السلطة في دمشق. كسب تحالفاً مع الرئيس فرنسوا هولاند الذي بات معه في خندق الاقتصاص من «دولة» أبي بكر البغدادي. الأول أدمت هيبته كارثة تفجير الطائرة الروسية فوق سيناء، والثاني اهتز كل الأمن في بلاده بعدما نقلت «داعش» المعركة إلى أرضها.
وقد يكون بين العرب مَنْ يتساءل الآن: هل يستحق تبديل الأسد التضحية بأرواح ألوف أخرى من السوريين، من دون أن يتبادر إلى ذهنه حجم الثمن المتوقّع لتثبيت سلطة متجدّدة لنظامه… ولو قاتل معه بعض المعارضين!؟
أبعد من ذلك، وإن كانت مجزرة باريس أو 11 أيلول (سبتمبر) الفرنسي كشف حجم الكارثة المتجددة مع أجيال البغدادي و «دولة الخلافة» التي تجر الجميع سريعاً إلى صدام مريع بين الحضارات والثقافات، ألم يكن حرياً بالعرب والمسلمين أن ينبشوا جذور التطرُّف والتعصُّب والجنون، على مدى سنوات طويلة بعد 11 ايلول 2001؟
لا يعفيهم جميعاً من هذه المهمة، تصنيف مبسّط لاختراقات في مجتمعات لطالما تردّد أنها لم تشهد استقراراً إلا في مراحل جمهوريات الاستبداد.
وهذه جمهوريات تواطأنا جميعاً في تجديد شبابها، إذ ركبنا ردحاً أمواج الاتجار بشعارات فلسطين، وتباهينا طويلاً بالدفاع عن حقوق الفقراء من دون أن نبني مصنعاً يحمي رغيفهم وكراماتهم… شيّدنا عشرات بل مئات الجامعات على امتداد خريطتنا البائسة، حتى إذا حلّ نجم أسامة بن لادن أرغمنا ألوف الخريجين على تسخير علمهم وكفاءاتهم لتوسيع مدارس «القاعدة»، وزرع معسكرات الخراب.
هي محنة العقل العربي الذي ما زال تائهاً بين أمواج الجهل، واقتناص فرصة للانتقام من الفقر بالانتحار. يحدث كل ذلك، ومعه اتجار منتعش بالدين وفِرَقه.
نحن شركاء في الجريمة في سورية، منذ تواطأ كثيرون في زرع «حدائق البعث» في كل منزل، طمعاً بحماية النظام للتجارة «النظيفة»… وتواطأوا في تدريب الابن على التجسس لكشف «إخلاص» أبيه. لو انتفض السوريون قبل عشرين أو ثلاثين سنة، ألم يكن ذلك أجدى في إنقاذ أرواح عشرات الألوف؟ لو هبّ الليبيون على جمهورية العقيد قبل عقدين أو أكثر، هل كانت المسافة بين طرابلس وبنغازي لتصبح مثلما هي اليوم، أطول بكثير من المسافة بين القطبين؟
نحن شركاء في الجريمة؟ لعلنا أكثر جُبناً من أوباما.
الحياة
“داعش” تدفن “البعث العراقي” و “الثورة السورية”/ عبد الله زغيب
لم يشهد التاريخ الحديث فاعلاً إقليمياً وربما دولياً أكثر تناقضاً وحساسية من تنظيم «الدولة الإسلامية»، الجماعة هذه طبّقت بالفعل ما أقيمت على مبادئه دولة الاحتلال الاسرائيلي، ومن دون الحاجة لاعتراف دولي او عربي، وفي قلب التناقضات والاضطرابات التي اجتاحت العراق وسوريا. دُمجَ جهازٌ عسكري بآخر أمني، لينتج عن هذه العملية مخلوق هجين ومقوّى، على أن يكون ركيزة اساسية لدولة «الخلافة» التي راهن صنّاعها ورعاتها على تمكنها من الصمود لعقود عدة في ظل الفوضى التي ظهر للحظة أنها قد تكون «سرمدية»، أو على الأقل في ظل إدراك مدى فاعلية المقبل من أفعال «الدولة» هذه في سبيل الإبقاء على قدر مطلوب من الاضطراب المذيب للحدود، والعابر لكل الاعتبارات الجيوسياسية.
لم ينسَ كثيرون ما نشرته صحيفة «دير شبيغل» الالمانية في نيسان الماضي، للكاتب كريستوف رويتر، عن العقل المدبر لـ «الدولة الإسلامية» بحسب وثائق الصحيفة «حجي بكر»، والتي ادّعت انها حصلت عليها من بيته بعد مقتله في منطقة تل رفعت السورية على يد عناصر من «الجيش السوري الحر»، وهي مجموعة مخططات للدولة العتيدة، ورسوم لهياكلها العامة، فالعقيد السابق في الاستخبارات الجوية العراقية سمير عبد محمد الخليفاوي «حجي بكر»، انطلق من داخل سجنه الأميركي وعلى مرحلتين في بوكا وابو غريب بالتخطيط لإنشاء تنظيم يقوم بالأساس على نخبة من ضباط الاستخبارات السابقين واعتماداً على شبكة المخبرين النظاميين قبل احتلال البلاد العام 2003، حتى وصل الامر الى تنصيب «البغدادي» أميراً على الدولة بعد مقتل القياديين أبو عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر العام 2010.
اتجاه قيادات التنظيمات العراقية المسلحة والمنبثقة عن تشكيلات نظامية سابقة نحو الفكر السلفي الجهادي، لم يكن نتاج فعل إيماني طارئ، ولا سقطة تكتيكية على الإطلاق. فالحالة الطائفية الشديدة التي فرضتها نخب العراق ما بعد الغزو، أفضت الى يسر شديد آخر في حشد المتطوعين العراقيين والأجانب للقتال في صفوف المجموعات السلفية وصولاً لـ «تنظيم الدولة»، اضافة الى كون التوجّه الايديولوجي هذا، عاملاً جاذباً للتمويل العربي الآتي من منطقة الخليج وكذلك للرعاية الإعلامية التي قد تصل حد الترويج لكل ما يتصل بتنظيم «القاعدة» وادبياته، او على الأقل في شيطنة خصومه عبر استخدام السرديات التي تفضي الى تشريع «التكفيريين» اينما وجدوا. وعلى هذه الشاكلة، لا تقتل صواريخ الأنظمة العراقية والسورية والجماعات الحليفة لهما سوى أطفال ونساء من «أهل السنة والجماعة» اينما وجدوا، بينما لا يستهدف تنظيم «الدولة» ولا «النصرة» سوى تجمّعات عسكرية وأهداف نظامية.
وفي ظل تصاعد قدرة الاستقطاب هذه، كان تنظيم «الدولة» أول من أعلن وفاة «البعث العراقي» وأتمّ مراسم دفنه، خاصة بعد قتله القيادات البعثية التي لم يضمن ولاءها، او تلك التي جاهرت بعدائها لتوجّهاته، في ظل ابتلاع يومي لمكوّناته السابقة، والتي كانت تشكل الرافعة العشائرية والعسكرية والأمنية للدولة العراقية المركزية قبل العام 2003. هكذا، أضحت الادوات الميسرة لتوسيع التنظيم وفي مقدمها قانون «اجتثاث البعث» وكذلك الانهيارات السريعة للجهاز العسكري العراقي القائم، مدخلاً نحو تحوله لحاكم مطلق لبيئة «البعث»، باستخدام ما تبقى من عناصر قوته في زمن الرئيس صدام حسين وفي ظل انقلاب شامل على أدبياته ومفاهيمه. وفي لحظة انفلتت فيها «الأمة» من عقالها، أصبح «العراق العظيم» «دولة خلافة»، وباتت تشكيلات الدولة المركزية أو ما تبقى منها، من كتائب «البعث» وفرق الحرس الجمهوري كقوات «عدنان» و «المدينة المنورة» و «حمورابي» و «نبوخذ نصّر» وكذلك «فدائيو صدام»، اسماء من زمن يختلف حول قبحه او جماله «البعثيون»، كما باقي العراقيين. فقد تمكن تنظيم «الدولة» وفي زمن قياسي من تحويل مشروعه الذي بدا لبرهة من الزمن جذاباً لدى فئة معينة من المجتمع العراقي وكذلك الاسلامي، الى عامل ضاغط على الوعي، والى حالة يتمنى كثيرون لو أنها تتحول الى ذاكرة مكبوتة بين ليلة وضحاها. فـ «الدولة الاسلامية»، في شقها العراقي، باتت «عصبة عسكرية» من دون أفق سياسي او اجتماعي، يدرك الجميع تحولها الى حالة مارقة، مهما طال مرورها في الحاضرة القومية.
في الحالة السورية، لم تكن القصة أكثر سلاسة. فقد جاء تنظيم «الدولة» و «النصرة» وما شاكل من تكوينات «سلفية جهادية»، بمثابة الخبر السيئ لكل من رأى في «الحراك» الجاري (بنسخته المدنية) مقدمة لعملية اصلاح هيكلية في النظام، تفضي الى تغيير جذري في حالة الجمود السياسي المتحكم بدمشق منذ تولي «البعث» السوري مقاليد الحكم هناك. وفي ظل الانهيار السريع في المنظومة «العشائرية» المتحكمة بمنطقة «الجزيرة» السورية، وإعلان عشرات العشائر ولاءها لتنظيم «الدولة»، بات الطريق ممهداً أمام التنظيم، لإقامة مركز تحكم وسيطرة استراتيجي هادئ ومستقر نسبياً مقارنة بباقي مدن الصراع السوري. وهكذا شكلت الرقة «موصل» سورية جديدة، مدّت من خلالها وعبرها الشرايين المالية والتذخيرية والتطوعية اللازمة لعشرات الجبهات البعيدة التي انخرط فيها التنظيم لقتال الجيش السوري وتنظيمات مسلحة معارضة على حد سواء. وفي ظل الرعاية «غير المباشرة» في البعدين الإعلامي والسياسي التي تلقاها التنظيم من المحيط العربي، تحوّل في زمن قياسي الى ثاني قوة عسكرية في سوريا بعد الجيش النظامي. وقد منح طوال طريق تمدّده هذه، دعماً ذكياً من خلال الاتهام الدائم للنظام وأعوانه بالمسؤولية عن قيامه، وكذلك في التركيز على امتناع دمشق عن تحويل مجهودها العسكري الأساسي نحو البادية السورية حيث يتحصّن التنظيم. وهي معركة كانت لتستنفد مقدرات الدولة النظامية السورية، وتفتح المجال امام الجماعات المسلحة في الأرياف المحيطة بالمدن الرئيسية، للسيطرة على رقع كانت لتهدّد النظام في معقله وخلال فترة قصيرة.
وفي لحظة تجاوزت صراع السرديات، من «سردية درعا» الخاصة بالمعارضة، و «سردية العسكرة» الخاصة بالنظام، بات الواقع في الحرب الأهلية السورية أكثر ركوناً الى التصنيفات الواضحة والصريحة. فقد تم ابتلاع «الجيش الحر» وما شاكل من تشكيلات عسكرية «معتدلة» في جسد أكثر مناعة في وجه الاستثمار السياسي بعيد الأمد، حيث تمكن تنظيم «الدولة» من خلق منطقة عازلة بين «الثورة السورية المعسكرة» وبين «النخب» السياسية المعارضة المسوّقة إقليمياً ودولياً، حتى بات وجود هؤلاء على طاولة التفاوض أمراً غير مجدٍ، وارتضى الجميع وفي مقدمهم الدول العربية الراعية للفوضى المسلحة في سوريا، بدور تنظيم «الدولة» والجماعات «الجهادية» الأخرى، كقوة وحيدة يُعتمد عليها في محاربة الدولة السورية وحلفائها. وفي الطريق نحو هذه القناعة، أعادت التنظيمات هذه هيكلة الواقع العسكري السوري، حيث أضحت الجماعات العابرة للحدود وصاحبة المشاريع التاريخية (إقامة الخلافة) غير «الدنيوية»، تسيطر على نحو تسعين في المئة من كامل التراب الخارج عن سيطرة الدولة السورية المركزية.
«الدولة الإسلامية» هذه، باتت اليوم تشكل التمرين العملاني الأول في علم السياسة، لتبيان طبيعة «العنصر غير العاقل»، وهي حالة تمكنت مجموعات عسكرية عقائدية أخرى من الخروج منها مع الوقت أو الابتعاد عنها منذ تأسيسها كـ «حزب الله» اللبناني و «أنصار الله» في اليمن و «حماس» في فلسطين المحتلة. ولكثرة ما تمثل «الدولة الإسلامية» تعبير «الحالة المارقة»، فقد تسببت في مرورها غير السلس على منطقة الشام بوفاة، قد تكون نهائية، لتنظيمات ومكونات ساهمت في تأسيس الواقع العربي ما قبل «الربيع»، كحزب «البعث» في العراق. يحصل هذا في ضوء تحوُّل التنظيم الى عامل ابتزاز غربي وعربي دائم على طاولة التفاوض مع دمشق وحلفائها، وفي ظل «نشوة الاستشهاد» التي يعيشها، وفي ظل إحساسه بصلابة بعده اللوجيستي القائم على ازدواجية الخطاب وازدواجية النشاط السياسي في الدول العربية الخليجية، وفي ظل استمرار الآلة الاعلامية العربية بالتسويق لتفسيرات مذهبية تختصر طبيعة الصراعات في المنطقة، مضافة اليها منابر «الجهاد» المفتوحة حتى في المسجد النبوي والكعبة، بل حتى في مساجد اوروبا التي بُنيت وموّلت من خلال اموال النفط العربي.
السفير
الأخطاء الخمسة التي أعادت الإرهاب/ عبد الرحمن الراشد
في شهر مايو (أيار) عام 2011 مئات الملايين من الناس كانت تتفرج على نهاية تنظيم القاعدة، أو بالأصح نهاية زعيمها الذي قتل في عملية استخباراتية ماهرة. لفت جثته في غطاء، وربطت حبالها بأثقال، ورميت في قاع بحر ما، حتى لا يعرف أحد قبره. ربما أكلت جثته أسماك القرش، وبموته اعتقد تنتهي رمزيته وتدفن معه «القاعدة» التي أرعبت العالم. لم يبق أحد مهم في التنظيم إلا اعتقل أو قتل، مثل أنور العولقي الأميركي من أصل يمني ومن أخطرهم، قُتل بعد أربعة أشهر.
بالفعل تم التخلص من معظم عقول التنظيم ونجومه. قتل أخطرهم ميدانيًا، الزرقاوي، وكذلك مخطط العمليات العسكرية أبو ليث الليبي، والكيميائي أبو خباب، والمسؤول المالي سعيد المصري، وحتى سائق بن لادن وحارسه وابنه، وامتلأ سجن غوانتانامو الخاص بنزلاء «القاعدة».
لم يقتل ويقبض عليهم، بل زال ما كان يعتقد أنه الدافع وراء الإرهاب، وهو الوجود الأميركي، حيث انسحبت الولايات المتحدة من العراق.
في نظري، هنا الخطأ في تشخيص المشكلة، فالإرهاب لم يكن أشخاصًا ولا ذرائع، بل آيديولوجيا. من الدعاة إلى الإعلاميين، والمدرسين، والمحتسبين، المؤمنين بآيديولوجيا التطرّف والمنخرطين فيه هم أهم من بن لادن والزرقاوي. هؤلاء قادرون على إنتاج قيادات ومنظمات بديلة، بعناوين مختلفة، وفي مناطق جديدة. اخترعوا البغدادي بديلاً لابن لادن، و«داعش» محل «القاعدة»، وسوريا ساحة حرب جديدة، وبديلاً عن أشرطة فيديو بن لادن صعدوا على «تويتر» و«فيسبوك» و«واتساب». صاروا أعظم وأخطر.
هكذا الحرب عادت للمربع الأول، إلا أن الإرهابيين يتميزون عن سابقيهم عددًا ونوعية ونفوذًا. أسقطوا طائرة روسية بعلبة كيلوغرام متفجرات، ونفذوا مجزرة متعددة في باريس. وفرعها في نيجيريا، «بوكو حرام»، عبر الحدود إلى مالي ونفذ هناك جريمة أخرى. «داعش» أيضًا قتل رهينة صينيًا، وهدد الولايات المتحدة بعمليات وشيكة. كل هذا الإرهاب الذي روع العالم نفذ في أقل من شهر.
في رأيي، إن هناك جملة أخطاء في فهم الإرهاب الجديد؛ الأول هو الاعتقاد بأن الإرهاب تنظيم ينهار بمقتل قياداته. والخطأ الثاني التصديق بأن الذريعة المعلنة هي الدافع للإرهاب، بالخلط بينها وبين الحركات التحررية في الماضي، مثل القول إن خروج الأميركيين من العراق ينهي سبب الإرهاب ووجوده. تاريخيًا، «القاعدة» ولدت قبل غزو العراق بست سنوات، وتوسعت أكثر بعد خروجهم. والثالث، الاعتقاد بأن الحل في الرحيل من منطقة الفوضى، مثل فيتنام، سحبت أميركا كل قواتها من العراق، ورفضت الدخول في سوريا. الرابع، التورط في اللعبة الطائفية، بدعم الشيعة أو السنة ضد بعضهم بعضًا. والخطأ الخامس والأهم، هو التهاون مع الفكر المتطرّف الذي هو العلة الرئيسية، ومصدر قوة الإرهاب.
بعد انتحار هتلر ثم حرق جثته، لم يكتفِ المنتصرون في الحرب على النازية برفع العلم على برلين، بل منعوا الفكر النازي من التنفس. حرموا تدريسه، والترويج له، ومنعوا كل واحد له علاقة به من أي نشاط مجتمعي. الإسلام المتطرف الذي نراه منتشرًا هو فاشي أيضًا، يشبه النازية التي تقوم على فكرتي التميز والإلغاء. مثلها التطرّف الإسلامي يقوم على الولاء المطلق لها، والكراهية والعدوانية ضد الآخر سواء كانوا مسلمين أو غيرهم. تريدون القضاء على «القاعدة» و«داعش» و«النصرة»، لاحقوا الآيديولوجيا. من دون ذلك أمامنا مائة عام من الفوضى والإرهاب.
الشرق الاوسط اللندنية
غرور «داعش» يعجل بنهايته/ راغدة درغام
لا مناص من تحوّلات نوعية في مواقف الدول الكبرى ومواقف الدول المتنفذة إقليمياً، بعدما أعلن تنظيم «داعش» أن رقعة عملياته الإرهابية توسّعت إلى أبعد من العراق وسورية وغيرها من دول المنطقة العربية. فهو توجه إلى الرعايا والمصالح الروسية من خلال تفجير الطائرة فوق سيناء. وهو أرعب باريس بجرائمه التي تبدو خليطاً من تخطيط وتنفيذ محلي وفي بلجيك وفي سورية. وهو وضع نيويورك وواشنطن على قائمة عملياته الآتية، ربما وهو في طور الإعداد لعمليات في عواصم أوروبية أو آسيوية أو خليجية أو غيرها.
الرئيس الأميركي باراك أوباما بقي متمسكاً برفضه تغيير استراتيجيته في سورية، مؤكداً أنه لن يقبل بإيفاد جنود أميركيين إلى ساحة الحرب على «داعش»، لكنه وفّر المعلومات الاستخبارية لفرنسا لتقوم بغارات فورية مكثفة ضد «داعش» في سورية انتقاماً من الإرهاب الذي طاول العاصمة الفرنسية، وكان يستهدف الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أثناء مشاهدته مباراة كرة القدم.
الرئيس الفرنسي عقد العزم على إبلاغ نظيره الأميركي وكذلك الروسي فلاديمير بوتين بأن الإرهاب الذي ضرب باريس هو إعلان حرب على فرنسا يتطلب التنسيق بين دول حلف شمال الأطلسي وروسيا للرد عليه بفاعلية عسكرية وسياسية في أكثر من مكان بالتعاون مع دول شرق أوسطية. فلقد وسّع تنظيم «داعش» وشركاؤه بيكار مشروعه وأبلغ الجميع أن طموحاته وأيديولوجيته لا تتوقف عند إقامة دولة الخلافة في العراق وبلاد الشام، وإنما مشروعه في الواقع عالمي.
لعل هذه الغطرسة التدميرية هي التي ستولد الاستراتيجيات الجديدة وتؤدي إلى حرب جدّية، عالمية ونوعية على صناعة الإرهاب. ولربما يعجّل انتقال الإرهاب إلى عقر الدار الأوروبي، بهذه الكثافة والتوغل، بمقاربة عسكرية وسياسية ملحة للمسألة السورية بالدرجة الأولى، بكل ما تتطلب من فرز للعلاقات الإقليمية. إنما الخيارات الاستراتيجية لن تقتصر على سورية بتعقيداتها التركية – الكردية، والسعودية – الإيرانية. فمصر اليوم في الواجهة، وكذلك ليبيا واليمن والعراق ولبنان.
لنبدأ بتركيا التي استضافت قمة العشرين هذا الأسبوع وبدا فيها الرئيس رجب طيب أردوغان في ارتياح، لا سيما بعد التعزيز الواضح للعلاقة المهمة بين تركيا والسعودية وقطر في مفاوضات فيينا حول مستقبل سورية، والتي سبقت قمة العشرين في أنطاليا ببضعة أيام.
تركيا قد تحصل، في نهاية المطاف، على موافقة دولية على إقامة مناطق آمنة في شمال سورية لأن إقامة تلك المناطق تساعد في احتواء تدفق هجرة اللاجئين إلى أوروبا. الفارق كبير بين مناطق آمنة ومناطق حظر الطيران، لأن الثانية تتطلب تواجداً وتورطاً عسكرياً للدول التي تقرر فرض حظر الطيران، فيما الثانية تتطلب أقل.
أنقرة قد تحصل أيضاً – بل ستحصل – بموجب الأمر الواقع على إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد لأنه بات، عملياً، موقع إجماع على أنه مولّد الإرهاب ومغناطيسه. وبما أن المواقف الدولية عقدت العزم على أولوية القضاء على الإرهاب، فلن تقبل الولايات المتحدة ولا روسيا ولا فرنسا أن يكون الأسد العصا في عجلة الإجماع الدولي على سحق «داعش» وأمثاله.
لكن تركيا خسرت رهاناً سعت بعزم على ربحه وهو إثارة الولايات المتحدة ضد الأكراد. فواشنطن تمسكت بضرورة مد الدعم المباشر للأكراد باعتبارهم محارباً شريكاً ضد «داعش» لا استغناء عنه، وواشنطن في صدد اتخاذ المزيد من الإجراءات العسكرية الداعمة للأكراد في سورية. وهناك في الأوساط الأميركية مَن يشجع الإدارة على تنشيط علاقات مالية عبر شراء النفط الكردي العراقي مباشرة، وليس من خلال الحكومة العراقية المركزية.
ماذا ستفعل أنقرة إزاء العلاقة الأميركية – الكردية؟ بعضهم في واشنطن يرى أن في إمكان الإدارة الأميركية تقديم ضمانات لتركيا بأن دعم الأكراد لن يصل إلى درجة مباركة قيام دولة كردية ممتدة من سورية إلى العراق إلى إيران إلى تركيا. وبعضهم يرى أن تركيا لن تتمكن من الاستمرار في كونها جزءاً من المشكلة وجزءاً من الحل في إطار نمو التنظيمات الإرهابية في سورية، وبالتالي ستضطر إلى تنازلات.
سيبقى لتركيا نفوذ مع المعارضة السورية، لكن ذلك النفوذ يتفرع حالياً مع ازدياد الدور العلني للسعودية في السعي إلى جمع المعارضة السورية بتنسيق مع تركيا، إنما أيضاً بتنسيق مع روسيا في آن. فالمعارضة السورية التي غابت من اجتماعات فيينا كسبت من تلك المفاوضات برنامجاً زمنياً وموقعاً في عملية سياسية دولية تنطلق من وقف النار. كسبت المعارضة السورية إصراراً سعودياً – تركياً – قطرياً على عدم بقاء الأسد في السلطة، وموافقة روسية ضمنية على التخلي عن الأسد في نهاية المطاف.
العلاقة الروسية – السعودية تتطوّر بصورة متماسكة. موسكو تأمل بإطلاق عملية سياسية لتسوية الأزمة السورية مطلع السنة المقبلة. فترة الـ18 شهراً التي اقترحتها روسيا كرزنامة سياسية للتغيير في سورية قد تتأثر بالرزنامة العسكرية التي فرضتها تطورات هذا الأسبوع والتي تقول مصادر إنها لن تتعدى 4 شهور بسبب الحشد الدولي العسكري المكثف ولأن موسكو تريد استراتيجية خروج من سورية في غضون تلك الفترة.
العلاقة الروسية – الإيرانية، بحسب مصادر أخرى، متوترة لأن هناك في موسكو من يرى أن إيران ورطت روسيا في سورية. والسبب هو أن الركن الأساس للحرس الثوري، قاسم سليماني، أقنع الروس أثناء زيارته إلى موسكو قبل بضعة شهور بأن النظام في دمشق ينهار وهو في حاجة إلى تدخل عسكري روسي لإعادة التوازن وتأمين المصالح، وأن القوى التابعة لإيران مثل «حزب الله» والميليشيات الشيعية قادرة على قلب الموازين على الأرض إذا وفّرت روسيا الغطاء الجوي بغاراتها. وإذ وجدت روسيا نفسها تقصف من الجو فيما الوعود على الأرض تلاشت بسبب القدرات الإيرانية المحدودة، شعرت بالتوريط مرتين. وهي الآن عازمة على استراتيجية خروج من الورطة العسكرية في سورية، ما يترك الجانب الإيراني في ورطة بجنوده المباشرين وغير المباشرين.
إيران تبدو مرتاحة ظاهرياً وهي تروّج لعلاقة تحالفية مع روسيا والدول الغربية للقضاء على «داعش» في سورية وفي العراق، وتجلس إلى طاولة رسم مستقبل سورية في فيينا، وتتأهب لرفع العقوبات عنها بموجب الاتفاق النووي. لكن طهران مستاءة ضمناً لأن لا مقعد لها على طاولة قمة العشرين، فيما للسعودية مقعد مهم، ما يُضعِف الموقف الإيراني. وهي وحدها في عزلة بتمسكها بالأسد على طاولة فيينا في وجه الإجماع على عزله. فحتى ولو كانت إيران تلعب ورقة الأسد للاستهلاك المحلي، فإنها تدرك أنها محيّدة في صنع القرارات في شأن مستقبل الأسد الذي تتمسك به كعقدة، فيما تلك العقدة باتت قابلة للحل بقرار دولي.
تدرك طهران أيضاً أن عملية فيينا لمعالجة الأزمة السورية تضعها تحت المجهر من ناحيتين: أولاً، من خلال عملية تعريف من هم الإرهابيون في سورية، من هم المقاتلون الأجانب، من هي فصائل المعارضة السورية، ومن هي القوات غير السورية التي تقاتل في الحرب الأهلية. فالدعوة إلى مغادرة جميع القوات غير السورية وجميع المقاتلين الأجانب ستطاول إيران ومَن ترعاه، ولن تتمكن طهران من المطالبة ببقاء الميليشيات أو «حزب الله» أو مستشاريها أو كبار قادتها العسكريين في سورية. ثانياً، تعي طهران أنها تنتهك قراري مجلس الأمن الرقم 1737 والرقم 1747 اللذين يحظران عليها أي تواجد عسكري، مباشر أو غير مباشر، بالجنود أو بالذخيرة، خارج حدودها. تعي أن الولايات المتحدة أو بريطانيا لو اختارت اللجوء إلى فضح هذه الانتهاكات لعطّل ذلك الالتزامات برفع العقوبات عنها بموجب الاتفاق النووي. واشنطن ولندن مستمرتان في غض النظر عمداً، وكذلك روسيا والصين وفرنسا وألمانيا، صيانة للاتفاق النووي.
لكن في وسع أي دولة، داخل مجلس الأمن أو خارجه، أن تطرح لدى لجنة العقوبات مسألة انتهاك إيران للقرار الذي تبناه مجلس الأمن بموجب الفصل السابع للميثاق وتقدم الأدلة. فإذا برزت استراتيجية متماسكة للدول المعارضة للتمسك الإيراني بالأسد لتحدي السكوت على انتهاكات إيران لقرار مجلس الأمن، ففي المسألة خطورة. وعلى الأقل، يمكن لواشنطن، إذا شاءت أن تتحدث على حدة مع طهران، لتلوّح لها بأنها قادرة على تعطيل عملية رفع العقوبات، إذا شاءت. ويجب أن تفعل هذا، أقله للتأثير في مواقف إيران التعطيلية.
مجلس الأمن سيتولى مهاماً ذات أهمية وهو يرافق عملية فيينا. فهو مسؤول عن إصدار قرار وقف النار وإنشاء مراقبة دولية له. وهو مسؤول عن صلاحية أو صلاحيات العمل العسكري في سورية إذا لم يكن بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تعطي الدول حق التصرف الفردي دفاعاً عن النفس. وهو أيضاً يرافق، ليبارك أو يصادق، ما يقوم به المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا المكلف في عملية فيينا بإعداد اللجان السياسية والإشراف على صياغة الدستور وإجراء الانتخابات.
الأمم المتحدة لديها مرشح لمنصب رئيس الحكومة الذي ستكون له صلاحيات تنفيذية موسعة، لا سيما خلال المرحلة الانتقالية، فيما ستكون الرئاسة رمزية. مرشحها شخصية ممتازة قادرة على تحمل عبء هذه المرحلة، الأرجح أنها ستكون مقبولة لدى الدول الكبرى والدول الإقليمية ولدى شخصيات مهمة في النظام في دمشق. هناك مرشحان آخران قيد البحث، أحدهما خارج سورية والآخر داخلها، وليس واضحاً مدى القبول بأي منهما. وهناك أيضاً قائمة مفصّلة بأسماء من هو مقبول ومن هو مرفوض قطعاً من أركان النظام. فالعملية السياسية متقدمة.
الغائب الفعلي عن تلك العملية هو مصر التي تقول مصادر إنها حاولت اللعب على التناقضات في وقت لا تتحمل المرحلة اجتهادات، ما أثر على علاقاتها مع حلفائها الإقليميين. كما أن القاهرة منزعجة من ترتيبات إقليمية تعتبرها متعارضة مع مصلحتها المنصبة على محاربة «الإخوان المسلمين».
على رغم ذلك، إلا أن هناك إدراكاً لدى الجميع، بما في ذلك واشنطن، أن من الضروري استعادة مصر كحليف استراتيجي، أقله للحرب على «داعش» داخل مصر أو في ليبيا المجاورة. فمصر مهمة ومن الضروري استعادتها كلاعب استراتيجي أساسي، إنما يتطلب ذلك إدراك تداعيات أخطائها السياسية الإقليمية ولجم بعض إجراءاتها الداخلية باسم محاربة «الإخوان».
ليبيا تشكل خطأً دولياً يجب تداركه ضمن استراتيجية محاربة الإرهاب قبل أن تسقط كلياً رهينة التنظيمات الإرهابية المتنامية. فإذا كانت الاستراتيجية الدولية الآن هي حقاً سحق «داعش» و «القاعدة» وشركائهما، فإن التنبه لليبيا ضرورة ملحّة قبل فوات الأوان.
أما في اليمن، فيتطلب حرمان «القاعدة» وأمثالها من كسب أرض، إيجاد بيئة مؤاتية لإنهاء التحالف العربي العمليات العسكرية هناك. والوقت مناسب للتفكير باليمن من زاوية سحق الإرهاب قبل أن يتحول إلى أرض خصبة لإنمائه مجدداً، وهذا يتطلب مساعدة التحالف على الخروج من اليمن بما يحوّل الموارد والقدرات في اتجاه القضاء على «داعش»، أينما كان.
جديد حدث على الساحة الدولية باستدعاء من تنظيم «داعش» الذي أبدى غروراً عارماً وهو يتوسّع متباهياً بقدراته على الاختراق. «داعش» لم يكن يوماً تنظيماً إرهابياً محلياً بل كان دوماً صناعة عالمية وتنظيماً عالمياً بامتياز دفعت سورية ثمنه غالياً. لعله اليوم أفرط في ثقته بقدراته التدميرية وسيلاقي حتفه، حتى وإن طال الزمن. لكن الخوف، وكل الخوف، أن ترتكب القوى الدولية أخطاء تضاف إلى الخطأ المكلف الذي قام على مبدأ: لنحاربهم هناك كي لا نحاربهم في مدننا. فهذا كان إثماً لا يُغتفر دمّر العراق وسورية، وارتد الآن على الأبرياء.
الحياة
المسؤولية الغربية عن تمدد داعش/ بدر الإبراهيم
ما حصل يوم الثالث عشر من نوفمبر/تشرين أول الجاري في باريس حدثٌ ضخم وصادم، فالهجمات لم تكن مثل الهجوم على مجلة شارلي إيبدو، بل أكثر تنظيماً وإجراماً وإيلاماً. كان كبيراً بلا شك، والواضح أن الدول الغربية وإعلامها سيتوقفون عند هذا الحدث طويلاً، وربما يعملون على أسطرته، كما فعلوا مع هجوم الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة. لكن، من المشروع أن نفكر في احتمال تكرار إجابات “11 سبتمبر” نفسها على الأسئلة التي يطرحها الحدث، أي أن الإعلام الغربي قد ينحو مجدداً، وهذا متوقع، لإلقاء اللائمة على ثقافةٍ بعينها، وتفعيل النقاش المتمركز حول فكرة صراع الحضارات، أو الحديث عن استهداف “العالم الحر”، والدفع باتجاه الرد بمزيد من التدخلات العسكرية في المنطقة العربية، للقضاء على “الإرهاب”. ربما لم تنتبه نخب سياسية وثقافية غربية كثيرة إلى أن إجاباتٍ كهذه في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر قادت إلى ما نشهده اليوم من استمرارية للظاهرة الإجرامية، تحت عناوين الجهاد العالمي.
لا بد من القول، قبل مناقشة الإجابات الغربية، على الأسئلة التي تفرضها هذه الظاهرة، وسُبُل التعامل معها، أن جريمة باريس مدانة من دون تحفظ، وأن القتلة هم منفذو العملية، وليس أي أحد آخر، وأنهم استهدفوا الأبرياء، ولا شيء يبرر فعلتهم. بات هذا القول ضرورياً في هذه الأوقات العصيبة، لأن الخلط بين فهم ظاهرةٍ مثل تنظيم داعش وإخوته، وتبرير أفعالهم، أصبح رائجاً في بعض الكتابات والخطابات ما يجعل توضيح الفارق بين فهم أسباب نشوء الظاهرة وظروفها، والتبرير لها لمكايدة الخصوم، أمراً ضرورياً.
هناك من يُمرّر تبريراً غير مباشر لجرائم تنظيم داعش وإخوته، في المشرق العربي، ضمن عنوان “ردة الفعل” على ممارسات الخصوم، ويُقال هذا تحت مظلة فهم الظاهرة، لكن الفهم لا يعني تحويل أفعال الجهاديين إلى استجابةٍ تلقائيةٍ ميكانيكية لأفعال الآخرين، وكأن الجهاديين مُسيّرون بلا إرادة، ومبرمجون على تقديم ردة فعلٍ لا يد لهم في إيقافها، ولا مسؤولية لهم عنها، حيث تُحمَّل كل المسؤولية للطرف الآخر. هذا تحديداً ما يمكن أن نسميه تبريراً غير مباشر، ولا سيما وأنه يحصر فعل الجهاديين في ردة الفعل السياسية، ويُنَحّي دور الأيديولوجيا المتبنّاة من قِبَلِهم، والتي تُفَسِّر جزءاً من سلوكهم، انطلاقاً من رؤيتهم ذواتهم والآخرين، وقناعاتهم في مسائل مثل استهداف المدنيين المنتمين “لجماعة الخصوم”، وغيرها. الحديث هنا عن الأيديولوجيا الدينية للجهاديين، بما هي عقيدة سياسية تنعكس في الرؤية والممارسات، منطلقة من فكرٍ إلغائي وإبادي، وليس عن الثقافة التي يستخدمها بعضهم تفسيراً للظاهرة، ليطعن في مجموعات بشرية ومجتمعات بكاملها، لانتمائها الديني أو الثقافي، في إطار رؤية جوهرانية عنصرية.
“لا بد من التذكير بالدور الغربي في تغذية الظاهرة الجهادية، منذ بدايتها في أفغانستان، حين دعمت دولٌ غربية تدفق الجهاديين، وسَمَّتهم مقاتلي الحرية، وقليلاً ما تتم الإشارة إلى أثر هذا الدعم، في النقاشات الغربية”
في فهم الظاهرة، لا بد من المرور على عوامل عدة، ساهمت في نشوئها وتمددها، وتنظيمٌ مثل داعش يتضخم في أجواء الهياج الطائفي، والصراعات الأهلية، وتفكّك الدول، والهجمات الاستعمارية. هنا، لا بد من التذكير بالدور الغربي في تغذية الظاهرة الجهادية، منذ بدايتها في أفغانستان، حين دعمت دولٌ غربية تدفق الجهاديين، وسَمَّتهم مقاتلي الحرية، وقليلاً ما تتم الإشارة إلى أثر هذا الدعم، في النقاشات الغربية، إذ إن جهاديي اليوم هم نتاجٌ تراكمي للظاهرة التي نمت وترعرعت في أفغانستان، ولم تتوقف الدول الغربية عن ممارسة الفعل نفسه، فقد ساهمت في دعم نفير الجهاديين إلى سورية، أو غضَّت بعضها الطَّرْف عنه في أحسن الأحوال، وتكوين مركز وقاعدة لهم في العراق والشام، ينطلقون منها لتنفيذ عملياتٍ في كل مكان.
لا تقف المسألة على دعم الظاهرة الجهادية في أفغانستان، أو في سورية، بل تتجاوزه إلى صناعة مناخاتٍ لتمدّد تنظيم مثل داعش، عبر غزو العراق (باسم الحرب على الإرهاب)، وتركيب النظام الطائفي بمكوناته من الأحزاب الشيعية والسنية والكردية، فنظام المحاصصة هذا (ساهم الدعم الإيراني أيضاً في تثبيته)، أوجد بيئة خصبة لنمو المليشيات الطائفية على أنواعها، وتنظيم داعش أحدها. وحالة الهياج الطائفي، وتفكك الدولة، الذي استفاد منه تنظيم داعش، يحمل بصمة أميركية وغربية، لا تخطئها العين، فالاحتلال مسؤول عن تفكيك الدولة العراقية، وتفجير الصراع الأهلي. ولا ننسى أن القوى الاستعمارية الغربية لم توقف تدخلاتها المستمرة، وهجومها الإجرامي، على بلدان عربية عدة، بالطائرات والجيوش، و”القتل الذكي” بمقاتلات “الدرونز”.
من السهل أن تلقي مجموعة من النخب الغربية اللائمة على ثقافة الآخرين، أو دينهم، وليس هناك أبسط من ترديد هذا الكلام، والزيادة عليه، من مجموعات ليبرالية عربية تعاني عقدة النقص والشعور بالذنب تجاه الغرب، وتمارس جلد الذات، لكن الشجاعة تقتضي تغييراً في مسار النقاش، يؤدي إلى مراجعة جادّة للمسؤولية الغربية عن تمدد الظاهرة الجهادية، سواءً عبر المساهمة في صناعتها، وتوظيفها ضد الخصوم من الشيوعيين والأنظمة “المارقة”، أو عبر التدخلات العسكرية التي تُفتت الدول وتُقسِّم المجتمعات، وتُهَيِّئ الأجواء لنمو التنظيمات الجهادية.
يقدم الدور الغربي إحدى الإجابات المهمة على أسئلة نشوء الجهاديين وتمددهم، ومناقشته بجدية، والعمل على تغييره، أحد أهم الوسائل لمواجهة ناجحة ضد الجهاديين، بدلاً من إعادة الإجابات نفسها، وتكرار ما يعزّز استمرار دوامة العنف.
العربي الجديد
“داعش عدونا، وبشار عدوكم”/ دلال البزري
صحيح ان ربع مليون قتيل سوري لم يستدعوا أي “تضامن” عالمي. صحيح أيضاً ان “داعش” قتل، بالمفخخات والسيوف والذبح والرصاص والحرق والصلبْ والرمي من المرتفعات (اقرأ “الهوتة” لأحمد إبراهيم)، ما لم يحصَ من الناس: إيزيديين، شيعة، مسيحيين، أكراد، سنّة، وغيرهم من “المرتدين” و”الزناة” و”الجواسيس” المثليين الخ… ولم يتحرك الضمير الدولي. وفي الآونة الأخيرة، نال التنظيم الإرهابي من أكراد تركيا مرتين بتفجيرين انتحاريين في سروج (28 قتيل) وفي أنقرة (128 قتيل)، ثم من الروس الشهر الماضي بمتفجرة اسقطت 220 منهم، ومن اللبنانيين في حي برج البراجنة اللبناني بمفخخات بشرية أودت بحياة 45 شخصا… من دون تأثير كبير على هذا “الضمير”.
ثم أتت عمليات باريس منذ أيام، وكان الانفجار التضامني العالمي مع فرنسا، الذي تفوق على نفسه. القتلى الفرنسيون بدوا على الصعيد العالمي كأنهم يحملون لقبا مميزا عن غيرهم. لكن المقارنة لم تعُد تتوقف عند هذا الحدّ: أنظر إلى شوارع باريس المعتدى عليها، إلى حاناتها ومبانيها ونصبها، أنظر إلى الباريسيين وهندامهم ونظافتهم وأناقتهم وهفافهم ورزانة حزنهم، وعجَلة مؤسساتهم. ثم قارن مع مشهد سبقه بأربع وعشرين ساعة، في برج البراجنة، والحي المهلهل والشرفات المتلاصقة المتهالكة وشرائط الكهرباء المتشابكة والأزقة الضيقة وأشباه المقاهي فوق أشباه الأرصفة، والفوضى العارمة.
من شقوق المقارنة بين المشهدين شبه المتزامنَين، الباريسي والبيروتي، يمكن أن ان تكوِّن قدراً من الإجابة على سؤال المكيالين اللذين يقيس بهما العالم ضحايا الإرهاب الواحد. فالمشهد الباريسي ينمّ عن مدينة لم تعرف الحرب، ولا هرْجها ومرْجها، ولا قدرتها على زرع القبح والإكتظاظ، ولا عشوائية تخطيطها المديني. المباني الباريسية وكذلك الباريسيين بدوا محدَثين في مجال الموت على يد الإرهاب، فيما بدت برج البراجنة اللبنانية غائصة في كل أنواع الحروب، بشوارعها وناسها، وردود أفعالهم، وتعبيرهم المكرّر عن استعدادهم لمزيد من الموت.
خلف مشهد المدينتين، بشراً وحجراً، جملة أخرى من الخلفيات التي جعلت “ضمير” العالم يميز بين ضحايا وضحايا: فالذين يعيشون في تلك المدن الراقية المسالمة، لم يعرفوا الحروب منذ سبعين سنة؛ تمكنوا خلالها من سقي بذور جمالهم وأناقتهم ومعمارهم، تمكنوا من الحب والثقافة والعراقة والنظام… أشياء نفتقدها نحن الذين لم نهدأ من أصناف الحروب منذ استقلالنا، أي منذ سبعين عاماً، وهو عدد سنوات السلام، وقد تمكّنت اثناءها باريس من مراكمة ما نشتهيه فيها اليوم. “أصناف الحروب”، ميزتنا، لا يعرفها أولئك المتمتعون بمدينتهم. ثم ان تلك الحروب التي قرأوا عنها في كتب تاريخهم المعاصر كانت تحصل على الحدود، بين جيش وآخر؛ وتخضع لقوانين، مثل وجوب حماية حياة المدنيين والجنود الأسرى الخ.
و”ضمير العالم” اعتاد على ذلك؛ اعتاد على ان أهل اوروبا عموما، يعيشون في سلام قديم، وإذا حاربوا، فعبر جيوش على الحدود. كما اعتاد، هذا “الضمير” على رؤيتنا في الرثاثة التي تقتضيها حالتنا، نحن المعرضين لحروب متنوعة، مستديمة. فولدت اللامبالاة في قلب هذا الضمير، والتي كانت تتفاقم مع استمرارهذه الحروب وتعقّدها.
ولكن قبل المقتلة الباريسية ليس مثل بعدها، كما بات دارجاً القول. تغيرت زاوية النظر إلى “داعش”. لم يعًد مسموحاً أن تبقى الحرب الجوية ضده مجرَّد ذريعة. صارت ضرورة. لماذا؟ لأن إرهاب “داعش” صار حقيقة داخلية، وليس عدوا خارجياً، كلاسيكياً، خلف الحدود. هكذا تكتمل الدورة، ونفهم أكثر من هي تلك “الأسرة الدولية”، وما هي المحركات العميقة لضميرها.
“داعش هو عدونا. وبشار الأسد هو عدو شعبه”، قالت مسؤولة فرنسية رفيعة، شارحةً الخطاب التاريخي للرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في قصر فرساي، على أثر المقتلة. فكانت بذلك تفصح لنا، من دون أن تقصد ربما، عن معنى الإنحياز “العالمي” للضحايا الباريسيين، على حساب غيرهم من البشر.
المدن
التدخل الذي سيضطر له العالم/ عبد الرحمن الراشد
جريمة الإرهاب في باريس الأخيرة أكدت شيئًا واحدًا معروفًا؛ ضرورة التدخل في سوريا، ووضع حدّ لهذه الفوضى التي وصلت أخطارها إلى ما وراء منطقة الشرق الأوسط. وفي «فيينا»، بدلاً من حل الأزمة بالتدخل، الفكرة المطروحة تدعو لحل سياسي ودي مثالي. لا بد أن مخترعيه يعيشون في عالم خيالي، حتى يصدقوا بإمكانية تحقيقه في بلد قُتل فيه عمدًا نحو ثلث مليون إنسان! الحل المقترح يدعو للانتقال التدريجي، مع طمأنة الرئيس السوري بشار الأسد بأنه لن يخرج إلا بعد تنفيذ مراحل متعددة قد تمتد لزمن طويل، وقد يرفض الأسد أن يغادر بعدها، وحتى لو خرج قد لا تتوقف المعارك إلى ذلك الحين!
إذن، التدخل حتمي. والتدخل المقبول اليوم ذلك الذي يتم تحت علم الأمم المتحدة، وتشارك فيه عسكريًا وماديًا معظم دول العالم المعنية، ويقيم نظامًا يجمع كل الأطراف ومكونات البلاد، ويهيئ لحكم انتخابي لاحقًا، وتنطلق فورًا على أرض سوريا حرب دولية على الجماعات الإرهابية، إلى أن يتم تنظيفها منهم. قد يستغرق إبعاد الأسد و«داعش»، وكل التنظيمات المسلحة الإرهابية، وغيرها، عامًا أو عامين أو أكثر، مع هذا سيبقى أفضل وأسرع الحلول، مقارنة بمشاريع «جنيف» و«فيينا». من خلال التدخل الدولي، يمكن ترتيب إعادة اللاجئين، وعون المحتاجين، ومنع الاشتباكات «البروكسية» التركية – السعودية – الإيرانية، والحد من التورط الروسي والأميركي.
أما الآن، فالساسة الغربيون يضيعون وقتهم، ويطيلون في «فيينا» عمر الخطر وأسبابه بمعالجات فرعية، مثل الأسد و«داعش» و«جبهة النصرة» و«أحرار الشام»، ويتسببون مع كل يوم يمر في رفع عدد الهاربين من القتل والدمار، الذين تجاوز عددهم أكثر من اثني عشر مليون لاجئ! ومئات الآلاف الهاربين الجدد يضغطون للخروج إلى تركيا فأوروبا، وآلاف اللاجئين المنبوذين يتعرضون للتجنيد الإرهابي.
اجتماعات «فيينا»، مثل «جنيف1»، و«جنيف2»، تطيل الأزمة، وتوسع حجم خطر الحرب الأهلية السورية على العالم، وكل ذلك بسبب جدل بيزنطي حول كيفية معالجة الأزمة السورية، من يخرج أولاً الأسد أم «داعش»؟ في سوريا يوجد نظام هو سبب الحرب، وعدو لمعظم شعبه، وصار من الضعف متهالكًا لا يستطيع حكم سوريا، ولا يقدر على الدفاع عن نفسه، ولم تنجح في الحرب عنه بالنيابة الميليشيات التي جلبتها إيران معها من أفغانستان والعراق ولبنان. ولم يفلح الروس بتدخلهم الأخير لصالحه إلا في زيادة عدد اللاجئين، ربع مليون سوري آخر، هربوا من حلب وحماه.
وفي الوقت الذي تتسارع فيه انهيارات سوريا، يريد الإيرانيون منع التدخل الدولي بتضييع المزيد من الوقت، باقتراح حلول تعقد الأزمة.
ومن أجل السيطرة على الوضع، التي أصبحت مطلبًا دوليًا، يحتاج المجتمع الدولي إلى أن يفهم أهمية أن يتحرك سريعًا، وأن يجمع على العمل في سوريا من خلال إبعاد كل رموز وأسباب الأزمة؛ إخراج الأسد، وفي نفس الوقت محاربة التنظيمات الإرهابية. بمثل هذا الحل ستتطوع معظم دول المنطقة من أجله، مع قوات القبعات الزرقاء، حيث يمكن أن تتولى الأمم المتحدة إدارة الأزمة، وتصريف الأوضاع في كل سوريا حتى يتم للانتقال إلى مرحلة جديدة.
هذا الاستعجال مصدره أن سوريا صارت أكبر خطر على العالم، من تفجيرات المساجد والساحات في الكويت والسعودية وتركيا، إلى الطائرة الروسية فوق مصر، والآن فرنسا، والأسوأ قد يكون في الطريق. ولن يمكن القضاء على الإرهاب قبل إيقاف الفوضى والحرب هناك، وإعادة أكثر من اثني عشر مليون سوري إلى مدنهم وبيوتهم، بدلاً من البحث عن ملاجئ لهم في أوروبا وأميركا، وغيرهما.
لقد فقد المفاوضون تركيزهم نتيجة محاولتهم إعطاء الأطراف المتصارعة، مجالا بطرح حلول تسمح للأزمة بأن تطول إلى سنين أخرى، في وقت ضربت فيه الحرب أرقامًا قياسية عالمية في مآسيها، من حيث عدد القتلى والمشردين والدمار.
وحتى لو أصغى المفاوضون إلى الحلول الإيرانية والأخرى، الداعية إلى معالجة الأزمة على مراحل، فإنهم لن ينجحوا لأن الأحداث على الأرض أسرع منهم وخطرها تجاوز سوريا. مشروع «فيينا» يتطلب صبرًا، وزمنًا، وموافقة الأطراف المختلفة، على وقف إطلاق النار وترتيباته، ومراقبته وبدء عملية سياسية تدريجية. وحتى لو تمت وفق جدول معقول فإنها ليست مضمونة، حيث سيرفض الأسد الخروج أو التنازل عن صلاحياته، وستُفشل التنظيمات الإرهابية كل محاولة في حينها. وبعد أن يثبت فشل مشروع «فيينا» سيجتمع المفاوضون من جديد للبحث عن حل آخر، ولكن بعد أن يكون قد طفح كيل العالم غضبًا من امتداد الإرهاب إلى عواصمهم، وتشرد ملايين آخرين يتزاحمون بحثًا عن ملاجئ لهم في العالم. حينها سيقبل الجميع بالحل الذي لو قبلوا به منذ عامين، وهو التدخل الدولي وتغيير الوضع بالقوة، لكانت سوريا أقل إشكالاً وخطرًا وإيلامًا.
الشرق الاوسط
متى قرار البدء باحتلال مدينة الرقة؟/ جهاد الزين
هذه هي لحظة معالجة الازدواجية الدولية والدولتيّة حيال “داعش”. إنه الموضوع الرئيسي في هذه اللحظة. كانت تلك الازدواجية من أربعة أنماط تختلف باختلاف الأولوية السياسية والعسكرية.
سأل كثيرون في لندن وباريس ونيويورك، فنانون ومثقفون وسياسيون ورجال أعمال، على شاشات التلفزيون بعد مجازر باريس السؤال البسيط التالي: لماذا لا تذهب جيوشنا إلى أرض سوريا لاستئصال “داعش”؟
فعلاً سؤال بسيط ولن أضع كلمة “بسيط” بين مزدوجين. سؤال كان يجب أن يُطرح في الغرب منذ ظهور “داعش” الصاعق واحتلالها لمدينتي الموصل والرقة.
السؤال من الناحية العسكرية ليس صعباً الإجابة عليه حتى بالنسبة لغير مختصّين. وقد سبق لي بعد احتلال “داعش” لمدينة الموصل أن كتبتُ أن باستطاعة الجيش التركي وحده القضاء على داعش برّيا في 24 إلى 48 ساعة (23 تموز 2014).
ويحتاج المراقب إلى الكثير من “السذاجة” أو الكثير من الارتياب ليسأل بعد تشكيل “تحالف دولي” ضد “داعش” يضم أقوى دول العالم الغربي مدعومةً آنذاك من روسيا والصين: لماذا لم تتم عملية عسكرية برّية لاحتلال الرقة والموصل على غرار ما فعله الرئيس جورج دبليو بوش في تشرين الأول عام 2001 بعد أحداث 11 أيلول من ذلك العام أدى بسرعة ولسنوات إلى توجيه ضربة حاسمة لحركة “طالبان” ومنظمة “القاعدة”؟
ربما تكون فرنسا اليوم بعد مجازر باريس أمام هذا الخيار البرّي: احتلال الرقة، رأس الأفعى والدخول البرّي إلى عمق مناطق “داعش”.
معنويات فرنسا ووراءها كل الغرب ومعظم الشرق بما فيه الشرق المسلم والعربي تتطلّب ردا على هذا المستوى وليس أقل.
لقد تأخّر الجميع، وخصوصا في الغرب عن سلوك هذا الطريق لمواجهة حالة وحشية فتاكة وتحتل علنا أراضي شاسعة في العراق وسوريا تزيد مساحتها عن مساحة سوريا.
المسألة الجوهرية جدا في لحظة ما بعد مجازر باريس وقبلها خلال أيام مجازر أنقرة وشرم الشيخ وبيروت، هي هل سيؤدي الهجوم الرهيب على قلب عاصمة دولة كبيرة مثل فرنسا إلى إنهاء ازدواجية السلوك السياسي لبعض الدول حيال موضوع “داعش”؟
هذا هو سؤال رئيسي بل السؤال الرئيسي في هذه اللحظة. كانت تلك الازدواجية من أربعة أنماط تختلف باختلاف الأولوية السياسية والعسكرية:
1- النمط التركي الذي يمكن تسميته بـ”القومي” والذي يعطي ضمنا للمواجهة مع الحركات الكردية المسلحة أهمية أكبر بكثير مما يعطي للمواجهة مع “داعش”، هذا إذا صفحنا عن ماضي تسهيل المخابرات التركية سابقا لدخول الملتحقين بـ”داعش” من خارج سوريا. وهذه لعبة من المفترض أن تكون تغيّرت بعد تفجيري أنقرة وبصورة خاصة بعد مجازر باريس.
2- النمط الغربي وبعض الخليجي وهو النمط “التغييري” الذي يعطي علنا وضمنا للمواجهة مع النظام السوري بشار الأسد أهمية أكبر بكثير من المواجهة مع التنظيمات الإرهابية بل يدعم بعضها باسم الواقعية السياسية مثل دعمه لـ “جبهة النصرة” ومثيلاتها المتشابهة والمتصارعة. لقد ظهر منذ فترة غير قليلة أن “مجتمع” هذه التنظيمات هو مجتمع واحد يتم فيه الانتقال من تنظيم إلى تنظيم بشكل دائم وبالتالي فإن المشكلة هي، بعدما وصلت الأمور إلى هذا الحد العالمي والشامل، في مواجهة المجتمع الإرهابي لا هذا التنظيم أو ذاك.
3- النمط الثالث “البراغماتي” هو النمط الإيراني وحليفه السوري الذي لعب لأسباب متعلّقة بالدفاع عن نفسه وتأنيب المعادين للنظام على استمرار عدائهم للنظام السوري على ورقة تسهيل خروج عناصر إرهابية من السجون أو لاحقا تسهيل استلام “داعش” لبعض المناطق تحت ذريعة أو ضغط إعادة الانتشار العسكري وضروراته. يجب القول هنا أن هذه اللعبة تضيق هوامشها بعد الدخول العسكري الروسي على الحرب السورية لأن روسيا لا مصلحة لها قطعاً في هذه الازدواجية.
4- النمط الرابع من الازدواجية هو النمط الإسرائيلي الذي ظهر في منطقة جنوب دمشق ومحيط الجولان. إنه النمط الذي يمكن تسميته بـ”الطبي” لأنه قائمٌ على نقل الجرحى إلى مستشفيات إسرائيل، لكن الآلهة نفسها لا تعرف أي قعر من العلاقات يمكن أن يختبئ وراء ذلك.
وحدهم أكراد العراق وسوريا واجهوا “داعش” منذ البداية من دون تردّد ولا ازدواجيّة لأنه لم يكن لديهم أي خيار آخر بعدما أصبحت أربيل عاصمة إقليمهم العراقي مهددة جديا كما أن “ذاتية” أشقائهم أكراد سوريا هي أيضا تهدّدت.
لو لم تكن قمة العشرين مقررةً سابقا كان يجب أن تنعقد بعد مجازر باريس. لكن يبقى الأساس في هذه اللحظات هو السؤال البسيط الجوهري:
هل ستقرّر القيادة الفرنسية، بل متى ستقرّر الهجوم البرّي الاستئصالي على مدينة الرقة لوضع حد جدي لظاهرة “داعش”؟
مرةً أخرى لا يحتاج المراقب إلى خبرة عسكرية ليجزم بأن حجم التفاوت الهائل في الامكانيات العسكرية وطاقة الغرب بل فرنسا وحدها يجعلان الجواب على هذا السؤال واضحا وهو أن بإمكان فرنسا وحدها بل تركيا وحدها في ظرف إجماع دولي وإقليمي أن تستأصل “داعش” برّياً لكي تقف مهزلة القصف بالطيران وحده الذي لم يفعل شيئا في تقرير مصير هذا التنظيم.
افتتحت مجازر 11 أيلول 2001 حقبة ما بعد الحداثة الإرهابية. كانت العولمة، إلى الثورات الرائعة التي ولّدتها في تكنولوجيا الاتصالات والمعرفة والتقدم غير المسبوق في التاريخ التي تجعل من مزارع في أقاصي الريف الهندي أو الآسيوي أو الإفريقي يملك إمكانيات اتصال فردية كان يحلم بامتلاكها رئيس الولايات المتحدة الأميركية في أوائل القرن العشرين… إلى هذه الثورات الرائعة كانت العولمة تنتج وحشا بل وحوشا تهدِّد الحياة المدنية في كل العالم.
في نيويورك 2001، في تلك الصدمة الأولى رفض مسلمو أميركا وعربها تلك الوحشية باسم الدفاع عن إسلام آخر تعايشي ومتسامح يعتبرون أنهم ينتمون إليه ضد إرهابيين أجانب. يبدو لمراقب ردود الفعل على الصدمة الثانية، مجازر باريس 2015، أن مسلمي وعرب فرنسا يدافعون اليوم عن وطنيّتهم الفرنسية أولا ضد إرهابيين فرنسيين، فيما نحن عرب ومسلمو البلدان العربية والمسلمة ندافع عن “لاوطنيَّتنا” في لحظة استنكار هذه المجازر باعتبارها مجازر ضدنا أيضاً سابقا ولاحقاً. وهذه من النتائج العميقة للعولمة الأخلاقية.
احتلّوا الرقّة.
النهار
متلازمة الأسد – “داعش”/ وليد شقير
توقع كثر أن يتغير العالم بفعل فظاعة الاعتداءات الإرهابية التي استهدفت باريس الجمعة الماضي، كما تغير بعد «غزوة» نيويورك وواشنطن في 11 أيلول (سبتمبر) 2001. وتعزز هذا الاستنتاج بعد تأكيد الأجهزة الأمنية في موسكو أن إسقاط الطائرة الروسية فوق سيناء جاء بسبب دس قنبلة في مقصورة الركاب.
الجريمتان، معطوفتان على التفجيرات السابقة التي استهدفت برج البراجنة في لبنان وقبلها في تركيا وفي المملكة العربية السعودية وفي سيناء وبلاد الرافدين، وفي ليبيا، ومحاولات التفجير الإجرامي في تونس… إلخ، أنذرتا بعولمة عملية وحقيقية لإرهاب «داعش» بعد الوحشية التي ارتكبها ضد أقليات في العراق وسورية.
قد يكون بعض النخب العربية على حق حين أبدى أسفه لأن العالم لم يتحرك إزاء مواصلة «داعش» قتل الناس كل يوم منذ سنوات (كما في العراق وسورية)، بأعداد من الضحايا تناهز أعداد الذين سقطوا في يوم واحد في فرنسا أو في الطائرة الروسية، إلا أن الدول الغربية والبعيدة تنظر إلى المذبحة الدائرة في منطقتنا على أنها مسؤولية الدول العربية وحكامها ونخبها وقادتها، حيث تختلط عوامل الاستبداد والتخلف والقمع ونهب الثروات الوطنية والتطرف الديني… مع التدخلات الخارجية، مقابل قيم الغرب السياسية: الديموقراطية والتسامح والتنمية المستدامة والتقدم العلمي، التي لا تحتمل هذا النوع من الإخلال بالاستقرار الناجم عن انتقال الوحشية التي تتوسلها قوى في مجتمعاتنا إلى الميدان الدولي.
وفي مقابل اعتقاد البعض أن العالم لم يتغير، وأننا مازلنا نعيش تداعيات 11 أيلول الأميركي في دول الغرب، لكن مع جيل جديد من الإرهاب، وفي ظل احتضان الحروب الأهلية العربية له، لا سيما الحرب السورية، فإن الإجرام المشحون بالجنون المتفشي بفعل المجازر التي ارتكبها، ولا يزال، النظام في سورية (ومعه «داعش»)، انتقل إلى أوروبا اليوم فباتت تتعرض لـ11 أيلول آخر.
ملامح التغيير في العالم تبدأ بتعديل فرنسا قوانينها ودستورها لتوسيع قدرتها على المواجهة الأمنية مثلما فعلت أميركا جورج بوش بإعطاء أجهزة الأمن صلاحيات فوق العادة لأجهزتها ما أدى إلى فوضى في التوقيفات. يضاف إليها طلب باريس غير المسبوق، المعونة الأوروبية العسكرية والأميركية الاستخباراتية، وتشديدها المراقبة على التجمعات الإسلامية، على رغم أن مسلمين قتلوا برصاص «داعش» في باريس ومع أن الرئيس فرنسوا هولاند قال قبل يومين إنه «لا يمكن التسامح مع عمل معاد للسامية أو مناهض للمسلمين». كل ذلك بموازاة تقدم طروحات اليمين المتطرف الرافض استقبال المهاجرين عموماً، وتصاعد الدعوات في أميركا وأوروبا إلى عدم استقبال اللاجئين السوريين (20 ولاية أميركية قررت رفض استقبال أي منهم، فيما قررت ولايات أخرى إجراءات مشددة للتأكد من انتماءاتهم)، ما يزيد من تفاقم أزمة هؤلاء. وبات الأمر محرجاً للزعامات الليبرالية داخل أحزابها وفي تنافسها مع خصومها في الانتخابات المحلية، كما هو حاصل بين المتنافسين على الرئاسة الأميركية، وهو توجه إلى تصاعد في المنظور من الأشهر.
سياسة التسامح لأسباب إنسانية أو اقتصادية، إلى تراجع حيال هؤلاء المهاجرين، وسط الترويج لأنها كانت وراء التراخي الأمني في ملاحقة خلايا الإرهاب والتغاضي عن ملاذاته الآمنة. بل سنشهد عودة إلى الوراء في بعض جوانب الحريات، بتأييد جزء كبير من الرأي العام الفرنسي والعالمي. ويبدو أن أحداثاً عنصرية تحصل هنا وهناك في بعض الدول الأوروبية تطغى عليها أخبار الملاحقة الفرنسية والأوروبية للإرهابيين.
من ملامح التغيير في السياسات الدولية أيضاً، أن باراك أوباما بات يشيد بدور روسيا في محاربة «داعش» والإرهاب، معتبراً أنها «شريك بناء»، فيما وصف فلاديمير بوتين الجيش الفرنسي بـ «الحلفاء»، وتنضم دول أوروبية إلى الحرب الآخذة بالتوسع، في ظل التهيؤ لإصدار قرار عن مجلس الأمن يكرس بداية التعاون الدولي بدل قيام الأحلاف المتناثرة.
بقدر ما تحمل تداعيات جريمتي باريس والطائرة الروسية تغييرات، فإن بعضها أقرب إلى المفارقات. باتت الطائرات الأميركية تقصف قوافل تهريب النفط التي يستفيد منها النظام في سورية و «داعش» على السواء ، بعد أن كانت امتنعت عن ذلك على امتداد أكثر من سنة، وكذلك الطائرات الروسية.
ما لم يتغير في كل الأحوال هو بقاء متلازمة بشار الأسد – «داعش». موسكو تقول ببقاء الأول ليساعد في القضاء على الثاني، وواشنطن والتحالف الدولي، ومنه الدول العربية الرئيسة، يقولان بالتخلص من الأول لأنه جاذب للإرهاب ومساهم في توسعه. وعلى رغم أن التمسك بالأسد يوحي بأن الوعد بالقضاء على «داعش» لن ينفذ إلا بتكريس وجوده، فإن الوجه الآخر لاستمرار التلازم بين الأمرين يعني أن أي قرار جدي بالتخلص من أحدهما سيقود حكماً إلى التخلص من الثاني، وهذا لم يحصل إلى الآن، ما يجعل الحرب على «داعش» محدودة الرقعة.
الحياة
“داعش” صناعتنا وصناعتهم/ مصطفى زين
أعادت اعتداءات «داعش» المجتمع الفرنسي إلى قرون مضت. ارتفعت أصوات اليمين واليسار مطالبة بالثأر من العرب والمسلمين. الإرهاب في فرنسا وحّد الأوروبيين. بوعي أو من دون وعي عاد الجميع إلى القرون الوسطى، حين كانت القارة موحدة ترسل الحملة تلو الحملة إلى «الشرق»، في ما عرف بالحروب الصليبية.
بعض المؤرخين والمثقفين، الأكثر حداثة، دعوا إلى استعادة أمجاد الاستعمار واحتلال العراق وسورية. الجميع نصّب هولاند قائداً للحملة. الرجل لم يقصر. لم يشأ إضاعة الفرصة الثمينة. استثمر الوضع المأسوي لاستعادة هيبته، بعدما أصبحت شعبيته في الحضيض. وبعدما صعد نجم مارين لو بن. تلفَع بالعلم الوطني وأنشد المارسيلياز مع النواب والشيوخ. أرسل حاملة الطائرات إلى شرق المتوسط. ضرب «داعش» في الرقة، معلناً استعداده لمحاربة التنظيم بكل قوة، علماً أن الضربة كانت متاحة أمام طائراته قبل الكارثة بشهور، لكنه لم يفعل خوفاً من تقوية الأسد. أي أنه كان يرى «داعش» حليفاً في الحرب على النظام السوري.
عندما دمر الأوروبيون مدنهم وحواضرهم في الحربين العالميتين كانوا مختلفين على تقاسم المستعمرات في آسيا وأفريقيا، وعلى نهب ثروات الشعوب فدمروا بلدانهم وبلداننا. حمَلنا إعلامهم، وبعض إعلامِنا ومثقفينا وزر الحربين، حتى أصبحنا مسؤولين عن ظاهرة هتلر والنازية والفاشية، وكان علينا قبول دولة يهودية في فلسطين تكفيراً عن ذنبهم في ارتكاب المحرقة. دفعنا ثمن تنافسهم على استعمارنا في الجزائر ومصر والعراق وبلاد الشام. كانوا يشنون الحروب علينا من دون خوف من رد فعل يطاول بلدانهم، تماماً مثلما كانت النظرية العسكرية الإسرائيلية تراهن على شن الحروب خارج أسوار الغيتو، إلى أن انقلبت الآية في عام 2006.
تصالحت أوروبا، بعد الحربين العالميتين. انحسر الاستعمار التقليدي. صار همُه تنصيب موالين للميتروبول يحكمون باسمنا، وكنا وما زلنا جاهزين للاقتتال في حروب أهلية لا تنتهي. وهم جاهزون لتسعير هذه الحروب، بالوقوف مع هذا الطرف أو ذاك، وإضفاء الشرعية على هذا الرئيس ونزعها عن الآخر، حتى لو تساويا في الاستبداد. بوش الابن شن الحرب على العراق لإطاحة صدام حسين. هلل بعضنا لهذه الخطوة، توهم أنها ستخلصنا من ديكتاتور، وتدخلنا العصر الأميركي. لكن واشنطن نصّبت موالين لها لا هم لهم سوى سرقة البلاد بإشرافها. والآن تدير حروبهم على الإرهاب وتشرف على التقسيم بين المذاهب والطوائف والإثنيات. من سجونها في العراق انطلق قادة «القاعدة» و «داعش».
التجربة ذاتها حصلت في ليبيا، حماسة فرنسا لإطاحة القذافي لم تضاهها حماسة. الولايات المتحدة قادت المعركة من الخلف. أطيح الديكتاتور. خرجت القبائل و «داعش» من جوف المجتمع. أصبح للإرهاب قاعدة أخرى على أبواب أوروبا. نفط البلاد أصبح نهباً للتجار والسماسرة. بأمواله يدير الإرهابيون إماراتهم.
المحاولة ذاتها تجري في سورية منذ أكثر من أربع سنوات. وصل الأمر بمديري الحرب العالمية على دمشق وفيها إلى جدار مسدود. جدار مصنوع من دماء السوريين. هنا ظهر «داعش»، بفضل رعاته أكثر قوة وتنظيماً. أدى وظيفته في تخريب معالم الحضارات المتعاقبة، وفي تعميق الفتنة وتعميمها. وعندما ألغى الحدود مع العراق (هذا كان، وما زال، محرماً غربياً) أصبح يشكل خطراً على الرعاة الذين يأتمرون في جنيف وفيينا، في السر والعلن، لتقاسم المصالح (تقاسم البلاد والعباد).
كتب عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران بعد الهجمات الإرهابية في باريس (لو موند) معلقاً على المجزرة الرهيبة يقول: «إذا كان نمو داعش إسلامي المنشأ ويشكل أقلية شيطانية داخله، ويعتقد بأنه يحارب الشيطان المتمثل بالغرب، فلنتذكر أن الولايات المتحدة هي التي أطلقت قواه العمياء».
«داعش» صناعتنا وصناعة الغرب. ظلاميته محلية المنشأ. وليس غريباً أن تكون له حاضنة في بلدان متخلفة. لكن الغريب أن تحتضنه، مع غيره من الإرهابيين، أوروبا الديموقراطية، متخلية عن كل قيمها المستمدة من عصر الأنوار، غارقة في تجارة الحروب.
الحياة
رخاوة أميركية مقلِقة في موضوع “داعش”/ جهاد الزين
أُعْجِبْتُ دائما بمستوى باراك أوباما وأهميته كرئيسٍ تاريخيِّ التغييرِ في الولايات المتحدة الأميركية وعبرها في العالم واحترمتُ على الدوام خيار انسحابه من التورط في حروب ورثها عبر وقف أو التخفيف من إرسال شباب بلاده العسكريين إلى الخارج، ورأيتُ في ذلك ليس مجرد تغيير في الاستراتيجية الأمنية الأميركية في الشرق الأوسط بل أيضاً ما يرقى إلى أن يكون التزاما شخصيا أخلاقيا لديه يحاول الحفاظ عليه بأكبر قدر من المناورة داخل التعقيدات السياسية والأمنية الضاغطة.
باستثناء خطبهِ في الموضوع الإسرائيلي الذي يتضاءل ذكاؤه الشديد حين يتناوله كأنه لا يصدر عن الشخص نفسه الذي لا أشك بأن خطبه المتميّزة ستتحوّل إلى نصوص أساسية في التاريخ الأميركي “النصوصي” الممتد من جورج واشنطن إلى أبراهام لينكولن إلى جون كينيدي… كما كتبتُ بعد عودتي من جولة تغطية ميدانية في عدد من الولايات الأميركية لحملته الانتخابية الرئاسية الأولى عام 2008.
التهمة التي تقول إن أوباما رئيس ضعيف في السياسة الخارجيّة غير صحيحة وتهدف عند البعض إلى تحقيره فقط بسبب الاختلاف في المواقف. ورأيت دائما أنه رئيسٌ قويٌّ جدا ولكنه منتمٍ ٍإلى “فلسفة” سياسية لديها عمق في الرأي العام الأميركي بعد كل التجارب العسكرية الأميركية، ويبدو أن المؤسسة الأمنية والعسكرية الأميركية تدعمها أو هو يعبِّر عن تحوُّلِها، أي المؤسسة، في اتجاهها. وهي فلسفة أن الديبلوماسية قادرة على تحقيق ما لا تستطيعه الحرب أو أن ما يمكن تحقيقه بالسياسة يجب تلافي تحقيقه عبر الحرب. يلتقي الالتزام الأوبامي الأخلاقي (والانتخابي أي البرنامج الانتخابي) مع هذا الاتجاه الذي سلكته الاستراتيجيا الأميركية بعد مرحلة الرئيس جورج دبليو بوش.
رغم كل هذا الإعجاب والاحترام المديديْن أشعر كمواطن ومراقب من الشرق الأوسط والعالم العربي بقلقٍ كبير من موقفه أو من طريقة عرض موقفه بعد مجازر باريس. لا بل لديّ ارتياب بأن هذا الموقف، في توقيت وطريقة إعلانه، يؤدي ليس فقط إلى طمأنة “داعش” بل أيضاً إلى منع إنهاء ازدواجية العديد من الدول حيال “داعش” و”مجتمع” التنظيمات الذي تأتي منه “داعش” وهي ازدواجية تسمح لهذا الوحش الإرهابي لا بأن يصمد فقط بل بأن يزدهر وينقل ويعولم إرهابه إلى مستويات غير مسبوقة أيضاً.
الارتياب الأساسي بعد مجازر باريس، باختصار، هو أن يكون وراء الموقف الأميركي من الإسراع المثير في إعلان الرئيس أوباما رفضه القاطع لإرسال جيشه إلى المنطقة مجدداً لضرب “داعش”، أن يكون ذلك تعبيرا عن استراتيجية أميركية ستؤدي إلى إطالة “الستاتيكو” الحالي في المنطقة أي إلى استمرار “داعش” وروافدها المختلفة المعلنة وغير المعلنة.
هذا الموقف الأميركي سيتيح من الناحية العملية إضعاف التحالف المفترَض أن مجازر باريس بعد موجة التفجيرات التي سبقتها في أنقره ومصر وبغداد وبيروت ستُنضِج لديه قرارَ الاستئصال البري النهائي لمناطق وجود “داعش” وستشجِّع، وهذا مهمٌ جدا، عددا من الدول على إبقاء أولوياتها المختلفة السابقة غير الداعشية مستمرة وهو ما أسميناه ازدواجية التعامل مع الموضوع.
كان بإمكان الرئيس أوباما بدل أن يتسرّع مبكراً جداً في التشديد على عدم إرساله أي قوات برية، ولم يطالبْهُ أحدٌ بذلك أصلاً في تلك اللحظة، كان بإمكانه أن لا يمنح “داعش” شعورا مجانيا بالأمان وأن ينتظر الموقف الفرنسي بحيث يمكن لاحقا أن يُولد تعاملٌ غربي إقليمي حاسم مع الموضوع تكون القوات المهاجمة مدعومةً من واشنطن دون أن تشارك فيها واشنطن سوى بالتنسيق الجوي والمخابراتي والفني بوجود 3500 جندي وضابط أميركي حالياً في العراق.
لا أتحدّث بنظرية المؤامرة حتى لو أن منطقتنا تحتشد بوقائع يصعب معها أحياناً تلافي هذه النظرية. ولكن لا بد من السؤال هل تريد واشنطن منع بلورة موقف جذري من “داعش”؟ وكيف يمكن في هذه الحالة أن لا يعتبر البعض هذا الموقف الأميركي مشجعاً على استمرار السياسة الملتبسة نفسها فيما لا تزال الحدود التركية مع سوريا تمثل مشكلة كبيرة جدا كما كتبت افتتاحية “النيويورك تايمز” أمس الأول ودعت إلى استراتيجية مكافحة طويلة الأمد لـ”داعش” منحازةً بذلك إلى موقف الرئيس أوباما ولكن من زاوية النقاش الداخلي بين الجمهوريين والديموقراطيين وليس في النقاش الخارجي. والأدق هنا القول: منحازة في النقاش الداخلي على قضية خارجية.
هناك من يقول في أميركا دعوا العرب والمسلمين أنفسهم يقاتلون “داعش” فكفانا نحن قتالا عنهم.
هذا نوع من الآراء القديمة ليس وقتها الآن لأسباب عديدة. أولا لأنها مستهلكة، وثانيا لأن الموقف الأميركي يفتّ من عضد الدول العربية والمسلمة التي يمكن أن تقاتل “داعش” في جو دولي ملائم، وثالثا لأن فرنسا وأوروبا وصلتا إلى وضع حرِج لا يحتمل هذا النوع من التحاجج، ورابعا لأن العرب والمسلمين يقاتلون ويتقاتلون هذه الأيام وبعضهم كالأكراد في قلب قتال “داعش”، وخامسا حتى دول “الازدواج” تقاتل “داعش” بصورة من الصور وإن كان ليس بالشكل الكافي بسبب هذه الازدواجية.
باختصار ثمة ميوعة أميركية في الموضوع مثيرة للقلق إن لم يكن للارتياب، والتهمة الأساسية هنا هي أنها تؤدي إلى تشجيع إطالة الصراع من الناحية العملية أيا تكن نوايا الرئيس أوباما الشخصية.
أمن العالم المدني في خطر متجدّد ومحقَّق ولهذا فالميوعة والازدواجية ساهمتا في اتساع ظاهرة”داعش”. وهذه الملاحظة ليست بالضرورة تأييداً لتدخّل أميركي بري وإنما دعوة إلى ضرورة أن لا تساهم الولايات المتحدة في تأخير حماية “داعش” من العقاب عبر هذه الميوعة.
النهار
وظيفة الربط بين “داعش” والأسد/ سميح صعب
تتمسك واشنطن بـ”داعش” رافعة لمواصلة المطالبة برحيل الرئيس السوري بشار الاسد. الرئيس باراك أوباما يكرر لازمة رحيل الاسد حتى لو امتدت العمليات الارهابية التي ينفذها التنظيم المتشدد الى ما هو أبعد من باريس وروسيا ولبنان. لا بل انه يصعد ربطه بين “داعش” وبقاء الاسد في السلطة ويراهن على ان موسكو وطهران ستتوصلان الى النتيجة التي توصلت اليها الولايات المتحدة قبل أربع سنوات ونصف سنة عندما لم يكن “داعش” قد ظهر بشكله الحالي وكان لا يزال يعمل في كنف “الدولة الاسلامية في العراق” التي هي امتداد لتنظيم “القاعدة” الام.
وفي سياق الحملة الاميركية المتصاعدة التي تطالب برحيل الاسد، يغفل أوباما أي إشارة الى ان الفوضى التي ضربت سوريا بعد “الربيع العربي” في آذار 2011 هي البيئة التي وفرت لـ”داعش” و”جبهة النصرة”، وكلاهما خرج من رحم “القاعدة”، وغيرهما من التنظيمات الجهادية، البيئة المناسبة للظهور والنمو واكتساب كل هذا النفوذ.
وهذه التنظيمات الجهادية تقدمت على حساب النظام والمعارضة “المعتدلة” التي رعتها أميركا ودول الخليج العربية وتركيا أول الامر في سوريا لتتحول من بعد زخمها نحو الجهاديين لأنهم اثبتوا كفاية أكبر في تدمير الدولة السورية والسيطرة على مساحات واسعة من سوريا، الى درجة أن الغرب وبعض العرب وتركيا باتوا يراهنون عليهم رأس حربة لاسقاط النظام بدل الرهان على “المعتدلين” الذين منهم من لاذ بالجهاديين ومنهم من فر من البلاد.
وفي سوريا اليوم قوتان، النظام من جهة والجهاديون بتسميات مختلفة أبرزها “داعش” و”النصرة” من جهة اخرى. وتغاضت الولايات المتحدة طوال سنة من غاراتها الجوية على “داعش” عن توجيه ضربات الى التنظيم المتطرف يمكن ان يستفيد منها النظام. وكان المأخذ الاميركي على روسيا هو ان غاراتها الجوية تقوي النظام لأنها تستهدف ضرب الجهاديين في أماكن كانوا يشكلون فيها خطراً على النظام وخصوصاً في اللاذقية وأرياف حمص ودمشق ودير الزور.
ومن الغريب ان تكتشف أميركا الآن أن “داعش” يستفيد من حقول النفط في سوريا. لكنها تغاضت عن ذلك قبل التدخل الروسي الذي أحرج الاستراتيجية الاميركية التي كانت قائمة على ترك “داعش” وغيره من التنظيمات الجهادية تستنزف النظام السوري خدمة للهدف السياسي الاساسي للولايات المتحدة في سوريا ألا وهو اسقاط النظام على رغم المخاطر التي رتبتها هذه الاستراتيجية والتي لا تدفع سوريا والعراق ثمنها فحسب، بل كل الشرق الأوسط وأوروبا وبقية العالم.
أميركا توظف الآن فظاعات “داعش” المتصاعدة في العالم من أجل الهدف نفسه!
النهار
البغدادي يفخّخ محور خامنئي – بوتين/ احمد عياش
بينما كان 11 أيلول الفرنسي يأخذ طريقه الى مجلس الامن الدولي كان تنظيم “داعش” يوسع دائرة حروبه التي حطت امس في مالي بأفريقيا حيث للفرنسيين حضور. لكن هذه الحروب التي تستند الى ان للتنظيم دولة خلافة عاصمتها الرقة السورية، سلطت الاضواء على عملية قطع دابره ابتداء من رأسه أي سوريا مما أثار قلقا في البيئة الحاضنة لرئيس النظام السوري بشار الأسد والتي تضم طهران وموسكو.
في أحدث معلومات من مصادر على صلة بموسكو تفيد أن الرئيس فلاديمير بوتين طرح على الأسد جديا أنه يتعيّن عليه في مرحلة من مراحل العملية السياسية المرتقبة في سوريا أن يتنازل عن كل صلاحياته الى الحكومة الانتقالية، الامر الذي أثار ارتيابا في طهران التي عبّرت عنه وفي أحدث معلومات أيضا في ما أوردته امس الزميلة “الاخبار” نقلا عمن أسمته “السياسي الايراني الرفيع المستوى والمكلّف ملفات المنطقة” قوله “ان الروس يبحثون عن مصالحهم قبل أي شيء آخر”.
بالطبع لا تعني هذه المعلومات أن العلاقة بين روسيا وإيران قد بلغت الافتراق، لكنها تشير بالتأكيد الى ان موجة الارهاب التي تحمل عنوان “داعش” والتي ضربت بعنف مفرط في الفترة الاخيرة أخذت الامور في اتجاه يجعل الذين يؤمنون بنظرية “المؤامرة” أن يحسبوا ان هناك حسابات تتخطى نوايا تنظيم “الدولة الاسلامية” وإن بدا الاخير أنه يريد أمرا آخر. فهذا التنظيم وجّه رسائل سورية كان أولها الى موسكو عبر اسقاط طائرة شرم الشيخ ثم الى طهران عبر التفجير المزدوج في برج البراجنة في الضاحية الجنوبية لبيروت ثم الى الغرب في عمليات القتل الواسعة في باريس.
كل طرف من الاطراف الثلاثة تلقف الرسالة على طريقته. فموسكو التي انغمست في الحرب السورية من دون أن تحسم شيئا حتى الآن تتلمس خلاصا في مسار فيينا بالامساك بالعصا من وسطها في محاولة للتوفيق بين محوريّ الأسد والمعارضة السورية. أما طهران التي اهتزت بفعل ما حصل في برج البراجنة فحاولت استيعابها لبنانيا بـ”ليونة” لفظية عبّر عنها الامين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله وخارجيا برفض الربط بين “داعش” والأسد والتمسك بأولوية “التصدي الحاد والمؤثر للارهاب” كما قال مساعد وزير الخارجية الايراني للشؤون العربية والافريقية حسين أمير عبد اللهيان. وتبقى الرسالة الى الغرب التي دفعت باريس الى مجلس الامن كما دفعت الرئيس الاميركي باراك اوباما الى القول انه لا يرى “موقفا يمكننا فيه إنهاء الحرب الاهلية في سوريا مع بقاء الأسد في السلطة”.
لا أحد يمكنه الجزم بأن مسلسل الرسائل الدموية وفي كل الاتجاهات قد توقف. وأكثر من يتحسب حاليا لها هو من يتورط مباشرة في سوريا وهما الامام خامنئي وبوتين اللذان عليهما تدبر عواقب التمسك بالأسد وبقاء “الخليفة” البغدادي. والاخير فخخ طهران وموسكو بأحزمة ناسفة قد تنفجر في أية لحظة.
النهار
تنظيم الدولة من منظار إيراني وخطر الهروب إلى أمام/ نجاح محمد علي
هنالك الكثير من القصص التي تم تداولها عن تنظيم الدولة.. لعل أبرزها قصة تنظيم يثير الرّعب في نفوس مُناوِئيه ويخلط الأوراق على الذين يحاولون تحليل كيف بدأ؟ وكيف نشأ؟ ومَن هي الجهات التي تقف خلف تأسيسه؟
اللواء المتقاعد حميد تقوي الذي كان يُعد الرجل الثاني في قيادة الظل في الحرس الثوري الإيراني، كتب مذكرة عن تنظيم الدولة بعد إحتلاله مدينة الموصل العراقية، واقترح حينها تأسيس جيش عراقي رديف، ما أصبح يُعرف بالحشد الشعبي، وذكر أن تنظيم الدولة هو رأس عراقي بعثي صدامي، وبدن وهابي.
تقوي أقنع القيادة الإيرانية أن عليها لدرء الأخطار عن الجمهورية الإسلامية، أن تواجه التنظيم في العراق، وربط هذه المواجهة بالتواجد العسكري الإيراني داخل الأراضي السورية، وأكد أن إستعادة الموصل من التنظيم ودحره، كفيل بإيجاد محور مواجهة إيراني سوري عراقي مدعوم من حزب الله، يغير المعادلات الاقليمية، ويمكن إيران من أن تجلس على الطاولة مع الكبار!.
وبالفعل ..ذهب إلى العراق برفقة اللواء قاسم سليماني قائد فيلق القدس، ومعه كان اللواء حسين همداني الذي قتل في وقت سابق من الشهر الماضي في سوريا، وبدأ مع أبو مهدي المهندس وهادي العامري بتشكيل خلايا الحشد الشعبي، بعد إقناع المرجع الشيعي سيد علي السيستاني باصدار بيان «فتوى الدفاع» عن العراق بوجه غزو خارجي تمثل بدخول تنظيم الدولة الموصل وتكريت ومدن عراقية أخرى. وتكشف الدراسة التي وضعها حميد تقوي الذي قتل في كانون الاول/ديسمبر من العام الماضي على تخوم سامراء، أن تنظيم الدولة بخُلاصة مستعجلة ما عاد يضم الدولة الإسلامية في العراق وجبهة النصرة، كما أُعلن من قبل، منذ أن تبرّأ منه أيمن الظواهري، زعيم القاعدة، الذي اكتشف بعد فوات الأوان أنه بلع الطّعم وروّج في مرات سابقة للدولة الإسلامية على أنها ذراع من أذرع القاعدة في العراق، وفهم الظواهري بعد فترة أنها لا تنتمي أصلاً للقاعدة ولم تكن كذلك، حتى عندما كانت تتعاون مع تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين بقيادة أبو مصعب الزرقاوي.
تنظيم الدولة أو ما أصبح يعرّف نفسه بدولة الخلافة الإسلامية، هو حسب ما يعتقد حميد تقوي وبالتالي قاسم سليماني «مخلوق لحزب البعث (أو لبعض أجنحته التي ما زالت ناشطة)، وهذا بغضّ النظر عن الجهات الإستخبارية التي تستفيد من هذه النوعية من التشكيلات وتقوم باختراقها وتوجيهها لتحقيق أهداف معيّنة، ثم تقوم بالتخلص منها لاحقا» وكأنك «يا بوزيد ما غَـزيت». تم الإعلان عن «الدولة الإسلامية في العراق» في تشرين الاول/أكتوبر 2006، وتحوّل في 9 نيسان/أبريل 2013 إلى مشروع يضم العراق والشام، تحت مسمى «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، وأخيراً أصبح مشروع خلافة إسلامية وصار إسمها «الدولة الإسلامية» في 29 حزيران/يونيو 2014، وهذه مفتوحة على الأرض.
ويذهب حميد تقوي إلى أن تنظيم الدولة أو «دولة الخلافة الإسلامية» أو «الدولة الإسلامية في العراق» ليس سوى تشكيلة من إنتاج حزب البعث ورجال المخابرات وضبّاط الحرس الجمهوري وفِـدائِيّي صدّام الذين قاموا بُعيْد الاحتلال الأنغلو – أمريكي للعراق، بمقاومة النظام الجديد الذي قام على أنقاض نظام قاده حزب البعث العراقي منذ عام 1968 وسيطر عليه صدّام بشكل عملي ونهائي منذ عام 1979 إلى حين سقوطه عام 2003.
قد تبدو هذه الرواية ضربا من الخيال أو من التنجيم، وقد يعسُر تصور ارتباط مثل هذه الجماعة بدول كبرى أو حتى إقليمية في المنطقة، لكن حميد تقوي يؤكد في الكتيب المحدود التداول، أن تنظيم الدولة لم تؤسّسه المملكة العربية السعودية، بل يبدو أنه تأسّس لكي ينتقِم من كل الذين ساهموا أو شاركوا في إسقاط نظام صدّام في العراق، وهو يعتبر الشيعة والأكراد وكل الذين حضروا مؤتمر لندن في منتصف كانون الاول/ديسمبر 2002 قبل الضربة الكبرى وقبلوا بنظام المحاصصة الطائفية والعِرقية الذي وضع أسُسه السفير الأمريكي من أصل أفغاني زلماي خليل زادة، كفاراً ومرتدين. وفي السياق، وهذا الكلام ذكره تقوي في حزيران/يونيو 2014 يبدو أن تنظيم الدولة يعتبر المملكة العربية السعودية والكويت ومن بعدهما الإمارات (وطبعاً إيران) هدفها التالي للإنتقام منها، لأنها شاركت هي الأخرى وإن بدرجات متفاوتة في «الجريمة» أي إسقاط نظام صدام.
في المقابل، يُمكن القول أن مَن أسّس التنظيم عبر اختراقه ومعظم التنظيمات التي أطلقت تحت شعار «مقاومة الإحتلال»، عرف من أين تؤكل الكتف، وقام بإيجاد خلطة عجيبة تجمع «شرعيين» من يافعين وفتيان، وبعض رجال دّين «نصف كُم» ممّن يفتقر لأي أهلية علنية، سوى أنه يحمل غضبا على الشيعة والنظام الجديد في العراق، ولعل الكثير من هؤلاء من العراقيين، كان أعد لهذا اليوم ربما بالصّدفة، فهم خرّيجو مدرسة صدّام وتفرّعاتها المخابراتية والحزبية.
تحرك دولي وإقليمي
كان المخطط – حسب ما ذكره حميد تقوي- أن تحصل هذه الجماعة على دعم من السعوديين ومن معظم الذين تربَّوا في مدرسة محمد ابن عبد الوهاب وعموم السلفية، التي أنتجها فكر ابن تيمية، ورفعوا شعار قتال الرافضة والعلويين على خُطى الفتاوى المعروفة في تكفير الآخر، لكنهم يبدو أنهم كانوا يرمون فقط إلى الحصول على «شرعية» جهادية تتيح لهم خلافة تنظيم الزرقاوي (أي القاعدة) وقد حصل لهم ذلك فعلا، وحققوا ما أرادوا وتبنَّوا الدعوة إلى دولة الخلافة الإسلامية، بفكر التِقاطي جُمع من هنا وهناك، ما يبرِّر لهم سعْيهم إقامة «الدولة الإسلامية» على الأرض.
ويمضي تقوي إلى الاعتقاد أن هذا المخطط (المفترض) انطلى فقط على السذج ومراهقي العلوم الدِّينية، أما المتعمِّقون فقد اكتشفوا بيسر أن تنظيم الدولة لا يمتّ بصلة لمدرسة محمد بن عبد الوهاب أو ابن تيمية ولا يمثل أي فرع من فروع السلفية الجهادية، لكنهم آثروا الصمت ما دام التنظيم يُحارب «الرّافضة» والآخرين الذين يصفهم بالكفر، على الرغم من أن «الدولة الإسلامية» تظهِر اعتناقها ذات المدّعيات العقدية وتبشيرها بنفس التعاليم الدّينية التي صاغها محمد بن عبد الوهاب، وتزيد على ذلك أنها تحمل في طيّاتها الوعْد المؤجّل منذ قرن ونيف، أي إقامة دولة الخلافة، وصنع ما أخفق في صنعه مشايخ الوهابية و»الإخوان» و»حركة جهيمان» و»مشايخ الصحوة» و»قاعدة الجهاد في جزيرة العرب» وغيرها من المحاولات الفردية والجماعية التي شهدتها المنطقة طيلة المرحلة السابقة.
في المقابل، يبدو أن الدول الكبرى وأجهزة الاستخبارات الدولية تعرف جيداً كيف نشأ تنظيم الدولة، كما أنها قادرة بلا ريب على رصد نشاطه المُذهل في العالم الإفتراضي حيث يحصل بواسطته على أعداد متزايدة من المتطوِّعين، وقد أسقطت دعايته فيه كلا من الموصل وتكريت وغيرها من مناطق استراتيجية هامة في العراق عن طريق استخدام أسلوب: «اضرب الجبان ضربة يطير من فزعها قلب الشجاع»، وعبر نشر أفلام فيديو مُمنهجة (الكثير منها مفبرك) عن القتل وقطع الرؤوس بوحشية، وتغلغلها في وسائل الإعلام، حتى الغربية منها، عبْر شبكة من النشطاء يُغذون المواقع والعديد من وسائل الإعلام بالصور والمعلومات مباشرة «من الميدان».
أخيرا، يختم حميد تقوي الذي قتل على يد تنظيم الدولة داخل الأراضي العراقية، بالقول «لن يتيسر القضاء على داعش (الذي يطمع في الحصول في مرحلة ما على بعض الدعم من قوى متنفذة دوليا وإقليميا لأسباب مختلفة)، ما لم يتحرّك الجميع على هذا الأساس ولن ينجحوا دون تنسيق دولي وإقليمي شامل، ودون الإقرار بأن معظم الجهات المتورِّطة في دعمه بحجّة الدفاع عن حقوق السُنة في العراق تتحمل قدرا لا بأس به من المسؤولية في ما آلت إليه الأوضاع».
غير أن الدبلوماسي السابق نصرت الله طاجيك وبعد نحو من عام ونصف من تلك الدراسة، ودون أن يخوض في تفاصيل التأسيس، كتب في صحيفة «شرق» القريبة من الحرس الثوري وعموم الأجهزة الأمنية، مؤيداً فكرة التحرك الاقليمي والدولي الجاد مشيرا إلى أن مخطط تنظيم الدولة بعد العمليات الأخيرة في باريس، يرمي إلى فتح جبهات أخرى خارج العراق وسوريا، لتكون محل مساومة تُمكن التنظيم من التفاوض عبر قنوات مختلفة، لتعديل ميزان القوى لصالحه.
عموميات
معظم التصريحات الإيرانية الرسمية عن تنظيم الدولة سواء من الزعماء السياسيين، أو من قادة الحرس الثوري والجيش والتعبئة والمسؤولين الأمنيين، لا تتحدث عن العمق وتكتفي بالعموميات، ويشير الكثير منها إلى أن إيران لا تملك حاضنة عقدية لهذا التنظيم، إلا في منطقة سيستان بلوشستان والحديث عن «جيش العدل» القريب من القاعدة ولا يمت لتنظيم الدولة بصلة، إلا أنه ينفذ عمليات مشابهة تستهدف الحرس الثوري ومراكز دينية شيعية، وقام العام الماضي بذبح جندي إيراني من قوات حرس الحدود بعد خطف خمسة جنود أضطر للافراج عن أربعة تحت ضغط القيادات السنية المعتدلة في الاقليم المضطرب.
وما عدا دراسة حميد تقوي التي أُسس على أساسها الحشد الشعبي أو على الأقل بعض تشكيلاته المقاتلة التي أصبحت نواة أنضمت لها تشكيلات كانت قائمة مثل «عصائب أهل الحق» و»منظمة بدر»، تظل التفسيرات الإيرانية حول تنظيم الدولة عائمة تحذر فقط من «فخ الاستدراج» إلى حرب مفتوحة مع التنظيم من واقع أن التنظيم «إذا شعر بالخطر فبإمكانه أن ينقل الحرب إلى مناطق مختلفة من العالم، وبعض الدول في المنطقة ستكون أول ضحاياه… وعلينا أن نحذر من هروب داعش نحو الأمام!».