مقالات تناولت عيد المرأة العالمي
اتّجار سياسي بالمرأة السورية/ غالية شاهين
بينما يحتفل العالم بيوم خاص للمرأة، تكريماً لتضحياتها ونضالها الطويل، وتكريساً لحقوقها التي بدأت تنالها في دولٍ كثيرة، يتابع العالم العربي قولبتها وتهميشها بطرقٍ تزداد ابتذالاً وسوقية، واستعراضاً في الوقت نفسه. ففي مجتمعاتنا المفصومة عن ذاتها، وعمّا حولها، تزداد يوماً بعد يوم تلك الهوة بين ما يُصدّر إعلامياً حول التعامل مع المرأة وحقيقة ما يُعاش ويُطبّق في الشرائح الاجتماعية المختلفة.
بدأت تلك الهوّة بالظهور بشكل علني مع انتشار وسائل الإعلام المسموعة والمرئية خلال العقود الماضية، وهو ما تبعه خلال سنوات ظهور (وانتشار) الإعلانات التلفزيونية والملصقات واللوحات الإعلانية الورقية في الطرقات والأماكن العامة. ولعل تلك الوسائل كانت الشكل الأكثر علانية للاتجار بالنساء.
لا ينحصر مفهوم الاتجار بالمرأة في عمليات بيع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) السبايا بشكل فاضح العلنية، كما لا ينحصر باستغلالهن واستخدامهن في تجارة الدعارة، أو ما يشابهها، أو بادعاء الحفاظ عليهن، بتزويجهن قاصراتٍ أو بالغاتٍ، من دون إرادتهن، لكن هذا المفهوم يتّسع ليشمل استخدام جسد المرأة في الإعلانات التجارية التافهة، بغرض التأثير في الجمهور المستهدف من الإعلان، وذلك بعد دراسة ما يحرّك هذا الجمهور من أمراض جنسية واجتماعية متراكمة ومستعصية. ويتم ذلك كله ببساطة تحت مبرّرات حداثة الإعلام والإعلان والقوانين “الحديثة” الناظمة لهما.
يمتد مفهوم الاتجار هذا، ليشمل قطاعات مختلفة، فقد لعبت منظمات أو أحزاب أو حكومات عديدة في مجتمعاتنا على الوتر نفسه فترات طويلة، كما فعل الحزب الشيوعي، في مراحل انتشاره الأولى في الثمانينيات، حيث استخدم وجود النساء وشعارات المساواة غير القابلة للتطبيق ضمن مجتمعاتنا، ليشجّع الشباب المكبوت على الالتحاق بصفوفه، وهو ما نجح فعلاً في توسيع شريحة قواعد الحزب التي ضمّت مئاتٍ ممن كان مجرد وجود النساء دافعهم الوحيد.
وفي الإطار نفسه، رفع حزب البعث في سورية شعاراتٍ تتعلق بالحقوق المحفوظة لكل أفراد المجتمع، من دون تمييز على أساس الجنس أو القومية أو الدين، ضمن بروباغندا مدروسة، بغرض تقديمه وتسويقه حزبا علمانيا، يسعى إلى المساواة بأشكالها كافة. لكن تلك الشعارات والمفاهيم النظرية التي صدّرها كانت مفرغة تماماً من مضامينها الحقيقية، وهو ما ظهر خلال سنوات حكمه، حيث أنه لم يطبّق أيّا منها في أي مفصلٍ من مفاصل السلطة والدولة والحياة الاجتماعية، بل كان ما طُبّق هو العكس تماماً.
قدّم نظام الأسد نفسه إعلامياً، على المستويين الداخلي والخارجي، أنه مهتمّ بقضية حقوق المرأة، وخصوصا السياسية منها، من خلال إقرار حق التصويت والترشّح لمناصب مختلفة داخل مؤسسات الدولة، والتمثيل في الهيئات السياسية والحكومية، كمجلس النوّاب ومجالس الإدارة المحلية، لكن ذلك كله لم يتعدَّ الشكل الصوري الأجوف، والأدوار المسرحية الهزيلة التي كان يلعبها كل أعضاء هذه الهيئات، وخصوصا النساء منهم، على مر عقود. ومجرد بحث بسيط تحت تلك القشور الإعلانية المزركشة، يكشف ببساطة مدى التهميش والإذلال والوأد السياسي والاجتماعي الذي تعرّضت، وما تزال تتعرّض له المرأة السورية طوال حكم آل الأسد.
ومع انطلاقة الثورة في 2011، أخذت المرأة السورية تستعيد دورها الفعال والرئيسي في المشاركة في كل فعاليات الثورة السلمية في أشهرها الأولى، ثم بدأت بتحمّل ضغوط ومسؤوليات مضاعفة بعد تحوّل الثورة إلى شكلها المسلح. وقد أثبتت المرأة السورية، خلال هذه التجربة القاسية التي امتدت ست سنوات، أهليتها الكاملة لتحمّل أسوأ الظروف، والانطلاق والتحدّي في كل المجالات، كما أثبتت للعالم، أينما حلّت، نازحة أو لاجئة، بأنها قادرةٌ على الإنتاج والإبداع، وحمل أعباء الحرية بعد زمن طويل من الاضطهاد.
لكن مؤسسات المعارضة السورية عادت لتقع في المطب نفسه، حيث بدأت، بصيغةٍ أو بأخرى، بالاتجار بالمرأة من جديد، وهو ما تمثلّه شعارات وبروباغندا التمثيل النسائي داخلها، أو مشاريع “التوسعة النسائية” لهذه الهيئات. وهو ما تصدّره للغرب أو للدول الداعمة، بينما يحمل، في طياته، التفريغ نفسه من المضامين، والاتجار نفسه بمفهوم حقوق المرأة وبالمرأة نفسها.
لا نزال، نحن العرب أو السوريين، بعيدين جداً عن أن نحتفي بنسائنا يوماً، ولا يزال الطريق أمامنا، نحن النساء العربيات والسوريات، طويلاً ومضنياً قبل أن نحتفل، كما العالم، بالثامن من آذار.
العربي الجديد
“ثورة” 8 آذار سبقت الأمم المتحدة/ سوسن جميل حسن
في الثامن من مارس/آذار يحتفل العالم باليوم العالمي للمرأة، الكائن اللطيف الذي يحمل، في أعماقه، سر الخصوبة والنماء الذي يتعرّض، منذ لحظة تاريخية ما، حدث خلالها تحوّل غير ملحوظ، أدى إلى إزاحتها عن عرش الألوهة، لتصبح كائنًا تابعًا يدفع ثمن خطيئةٍ فبركها الخيال الذكوري، وجعلها تدفع الثمن إلى اليوم.
صحيح أن الباحثين اختلفوا حول نواة فكرة اليوم المرصود للمرأة عالميًا، فمنهم من قال إن النساء العاملات في مدينة نيويورك في قطاع النسيج خرجن للتظاهر بعد محاولاتٍ عديدة سبقتها قمعت بعنف، وكن حاملات الورود والخبز، واتخذن من الكلمتين: “خبز وورود” شعارًا لاحتجاجاتهن، طالبن خلالها بمطالب تجعل مساهمتهن في العمل تجري في ظروف أكثر رحمة وإنسانية لهن ولأطفالهن. حدث هذا في الثامن من مارس/آذار 1908. بعدها اتسعت رقعة المناصرين والمؤيدين لحركة النساء، واعتبر هذا اليوم تخليدًا لتلك الذكرى، ويومًا مرصودًا للمرأة ونصرتها.
تقول الرواية الثانية إن تخصيص هذا اليوم للمرأة والاحتفال به مناسبة عالمية حدث بعد عقد أول مؤتمر للاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي في باريس عام 1945. في الحالتين، يمكن اعتبار أن أي فكرة أو مفهوم تصل إليه البشرية هو نتيجة عمل تراكمي، وتفاعل بين الشعوب والثقافات، ولا بد أن حركة النساء الأميركيات ساهمت في دفع النساء الأوروبيات إلى التحرك في الاتجاه نفسه، حتى جاء إقرار الأمم المتحدة هذا اليوم يومًا عالميًا للمرأة في 1977، وصار مناسبة تشترك معظم شعوب العالم وأنظمته في الاحتفال بها، وهناك دول كثيرة تعتبره عيدًا وطنيا، تمنح شعوبها عطلة فيه.
في سورية، كان حزب البعث سباقًا في احتكار هذا اليوم، بعد أن صنع “ثورته” المجيدة التي
“المجتمع السوري متهتك بدرجة كبيرة، والمرأة دفعت أعظم الفواتير في ظل العلمانية العرجاء” لم تُرق فيها دماء الشعب، ولم تُدمر البنى التحتية أو المدن والقرى، ولم يهجر سكانها، ولم تكن قوارب الموت التي تنقل المغامرين بأحلامهم المقامرين بحياتهم من أجل لحظة أمان ولقمة رمق لأطفالهم، قد صارت نشاطًا يستثمر بأرواح المظلومين، ولم تكن “الرجعية” التي جاء الحزب الانقلابي التقدّمي للقضاء عليها قد نبتت أنيابها بعد، أو سنت سكاكين الذبح الحلال، لتقطع رؤوس من يخالفون شريعتها. ولم يكن العالم كله يظهر نواياه الخبيثة تجاه شعبنا، حيث كان العدو الأوحد الذي رصدت له طاقات الشعب هو العدو الصهيوني الذي اغتصب فلسطين، ودفعنا إلى الهزائم المتلاحقة، وصار قلب سورية لا ينبض إلا بالعروبة ولها، قبلته فلسطين.
كان هذا في الثامن من آذار من عام 1963، لم تنزف سورية دماءها، فالأمر لم يتعدَّ أن استولت مجموعة من الضباط على الحكم بانقلاب عسكري، سُمّي “ثورة”، واستلم السلطة فيها حزب نصّب نفسه قائدًا للدولة والمجتمع، قضى على الحياة السياسية، ثم لتأتي الحركة التصحيحية المجيدة، وتقوّم الاعوجاجات، فترتهن البلاد إلى حقبةٍ كانت الحياة فيها تستنقع حدّ استنقاع الأحلام والعقول.
تنص المادة 45 في الدستور السوري: “تكفل الدولة للمرأة جميع الفرص التي تتيح لها المساهمة الفعالة والكاملة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وتعمل على إزالة القيود التي تمنع تطورها ومشاركتها في بناء المجتمع”. يُفهم من هذه المادة أنها تضمن تحرير المرأة وإزالة كل العوائق التي تمنع من مشاركتها في عملية التنمية، ومنحها الفرص، لتساهم مساهمة فعلية في ميادين الحياة كافة، كمواطنة مثلها مثل الرجل. لكن، إذا رجعنا إلى القوانين، سنرى أن قوانين الأحوال الشخصية والعقوبات والجنسية لا تعتبر المرأة مواطنةً كاملة الأهلية، ولا تتساوى في المواطنة مع الرجل. وكما أن القانون المدني وقانون العمل قد منحا المرأة نظريًا استقلالية كاملةً، ومساواة مع الرجل، إلاّ أن الواقع العملي يظهر مدى انفصال النظرية عن التطبيق، وأهمية المعوقات الاجتماعية والأعراف والتقاليد السائدة في لجم طموح المرأة، والحد من تطورها، ومساهمتها الفعلية في الشأن العام والخاص أيضًا.
لم تسع الحكومات المتعاقبة في ظل حزب البعث إلى النهوض بالوعي العام، ومعالجة المشكلات الاجتماعية المستفحلة، بل أوجدت الظروف المناسبة لترسيخها، فبقيت المرأة أسيرة الثقافة الذكورية التي تمارس عليها بشكل مباشر وشخصي، في البيت والمدرسة والعمل. وبشكل غير مباشر عن طريق سلطة الموروث الثقافي والتقاليد، ولم يحدث الانقلاب الثوري الذي نادى به حزب البعث التقدمي الاشتراكي، علمًا أن هناك مواد قانونية ضمنتها اللوائح منذ عهد الاستقلال، واستمرت إلى ما بعد استلام “البعث” السلطة، منها قانون العقوبات الذي صدر بمرسوم تشريعي عام 1949 الذي يضمن إلحاق العقوبة بمن سبب الأذى للمرأة، سواء كان أبًا أم أخًا أم زوجًا أم غيره، لكن طغيان العرف والطغيان الاجتماعي كانا يدفعان المرأة إلى الصمت، وتحمّل الأذى بكل درجاته. كما أن قانون الاغتصاب بقي، بفحواه وروحه المشبعة بالسلطة الجائرة، يحتقر كرامة المرأة، مثل قانون الزنا.
يمكن الحديث مطولاً عن انفصال الواقع عن النظرية، وعن الشعارات التي رفعها حزب البعث، بالنسبة لقضايا المرأة، لكن الشرح يطول، وتبقى المناسبة المجيدة التي احتلت الصدارة خمسة
“بقيت المرأة أسيرة الثقافة الذكورية التي تمارس عليها بشكل مباشر وشخصي، في البيت والمدرسة والعمل” عقود، هي ثورة الثامن من آذار/مارس الرائدة، رصدت لها المنابر الإعلامية والميادين العامة للاحتفال، وتمجيد ذكراها كل عام، بينما يغرق المجتمع السوري في مستنقعاته، ويدفع المواطنون فواتير الظلم والجور والفساد، وتدفع المرأة الفاتورة الأبهظ، فعلى الرغم من القوانين المتقدمة لم يسعَ النظام إلى دفع المجتمع ليواكبها، وفشلت النخب الثقافية في التأثير بالوعي العام إلى المستوى المطلوب للتغيير. الحزب الاشتراكي المهيمن حوّل الدولة والمجتمع اللذيْن يقودهما إلى الانضواء تحت خيمة سياسة اقتصادية ليبرالية، ضامنة مصالح تحالف السلطة ورجال الأعمال والمال بمباركة رجال الدين، فانزلق المجتمع إلى دوامة الفقر والتدين، وبقيت الحكومة ترفع شعار العلمانية، تحت سلطة نظام استبدادي، اعتقل الفكر وسخّره لصالح أجندته، وبناء كوادر تعزّز سلطانه، ومحاربة القوى العلمانية والحداثية في المجتمع، عبر القمع المركز ضد حركات اليسار، واحتكار السلطة، وإفساح المجال للتيارات الدعوية، تمارس نشاطاتها، وتملأ الفراغ الوجداني والمعرفي الذي يعاني منه معظم الشرائح المجتمعية.
تدشين حقبة تدّعي العلمانية والحداثة في الثامن من آذار/مارس 1963 بانقلاب عسكري، واستئثاره بالسلطة بأي ثمن، عطّل إمكانية تطوير المجتمع المدني، والتداول الديمقراطي للسلطة، وأدخل البلاد في نفق مظلم تحصد سورية نتائجه الآن، بعد فورة ما سُمّي الربيع العربي، يدعمه اقتحام العالم، ممثلاً بقواه العظمى والقوى الإقليمية، بلادنا التي أظهر الواقع كم كان المجتمع هشّاً فيها، وكم الهوّة عظيمة بين النخب والمجتمع، وتحويل الحراك السوري إلى حربٍ كارثيةٍ مستعصيةٍ حتى الآن على الدخول في مفاوضاتٍ تمهد الطريق إلى سلام يمكن إعادة البناء بعده.
المجتمع السوري متهتك بدرجة كبيرة، والمرأة السورية دفعت أعظم الفواتير في ظل العلمانية العرجاء، وفي ظل الثورة المغدورة، وليس وضع المرأة في المناطق التي تقع تحت سيطرة الفصائل المعارضة والمسلحة سوى دليل على تردّي وضعها، ضاعت أحلامها وأظلم واقعها بين آذارين، آذار 1963 وآذار 2011، وهي تتفرج اليوم على واقعها وواقع بلدها وأبنائها على الشاشات، وتتفرّج على عالم يرصد يومًا للمرأة، هي خارج ترفه.
لعربي الجديد
نسوية… ولكن!/ رلى ركبي
تربيت في بيت يعج بالنساء من مختلف الأعمار، عمات، جدات، بنات أعمام، جمع بينهن خيط واحد هو قدرتهن على القول والفعل وتحمل مسؤولية وجودهن المستقل. كن نسويات قبل أن يعين مفهوم النسوية كما نفهمه اليوم. أسست عمتي مفيدة في بداية 1950 جمعية المرأة العربية، بالشراكة مع مجموعة من المدرّسات في مدينة حماة، واستمرت هذه الجمعية حتى يومنا هذا، معاندة قرار حافظ الأسد بإغلاق الجمعيات الأهلية الخاصة ودمجها بالاتحاد النسائي. يومها حصلت عمتي على استثناء، نتيجة عنادها ورفضها الانصياع.
أتذكر مما بقي في ذاكرتي من الطفولة، كيف كانت عمتي تجندنا، نحن أطفال العائلة، لكي نذهب معها إلى ريف حماة القريب، والفريق المتطوع لدورات محو الأمية للنساء (1968)، وما زلت أذكر حقول القمح الخضراء في سهول قرية الشيحة والتي تغري باللهو والانطلاق، وحرماننا من اللعب إلا في أوقات نادرة، وغضبنا من تسلط عمتي التي لا تسمح لنا باللهو كما أقراننا.
كيف أقنعتنا جميعاً بأن نعمل من دون أجر، ما زال صوتها يرن في أذني: «هناك أشياء من واجبك عملها من دون مقابل». وكيف غرست في عقولنا مفهوم العمل التطوعي ودوره في تطور المجتمع.
كانت أهداف الجمعية النسائية، ولا أقول النسوية (إذ إنني أعتقد بأن مفهوم النسوية الحالي لم يكن متبلوراً لديهن)، بالدرجة الأولى رفع مستوى المرأة العربية ثقافياً واجتماعياً وصحياً، والقيام بالأعمال الخيرية المؤدية إلى تخفيف البؤس في كافة أوساط المجتمع، وتنمية الوعي القومي والاجتماعي في كافة الأوساط النسائية، وحماية الطفولة والأمومة. أنشأت الجمعية روضة ومدرسة مختلطة في مدينة حماة، أما تمويلها فكان من اشتراكات النساء المنتسبات بداية، ومن الأقساط المدرسية.
ما دفعني للحديث عن عمتي وجمعية المرأة العربية، هو المد النسوي الحالي وعلاقته بالمجتمع السوري. كيف يمكن تحويل الهم النسوي المتعلق بالمساواة وإعادة صياغة القوانين، بما يضمن حقوق المرأة، إلى همّ مجتمعي لا ينحصر بعدد محدود من النساء؟
الحركة النسوية السورية ليست حديثة العهد، ولها بعض الإنجازات التي لا تتناسب مع طموحها. لكن التغيير المنشود يحتاج إلى سنوات طويلة من العمل المجتمعي الدؤوب، من أسفل الهرم وبعيداً من أجندات المنظمات وطروحاتها الموحدة، وأن يترافق هذا مع البحث عن الحرية والديموقراطية، فلا ديموقراطية من دون مشاركة النساء ولا مشاركة للنساء من دون ديموقراطية: إنها حلقة مغلقة يصعب النفاذ منها في ظل الأنظمة القمعية. أليست رشا الشربجي التي أمضت ما يقارب الثلاثة أعوام سجينة مع أطفالها في البداية ثم محرومة منهم، أليست مثالاً رائعاً عن نضال المرأة وشجاعتها؟ رشا لم تناد بالمساواة وتغيير قانون الأحوال الشخصية، لكن أي تتويج لمشاركة المرأة أرفع من تلك المشاركة؟!
قبل بداية الثورة كنت أرفض الانخراط في المنظمات النسوية، لقناعتي الراسخة بأن الظلم واقع على قطبي المجتمع رجالاً ونساء، وأن القمع لا يميز بين رجل وامرأة، حتى جاء يوم دار نقاش بيني وبين صديقة نسوية، حول حقوق المرأة والتمييز الواقع عليها في قانون الأحوال الشخصية وغيره، وعن الوصاية والقوامة، وعن تجارب النساء ومعاناتهنّ والظلم المجتمعي الواقع عليهن، إضافة إلى الظلم العام. واقتنعت بأنه الوقت الملائم للقيام بتغيير في هذا المجال.
في إحدى الجولات وضمن فاعلية تهدف إلى نشر مفهوم الجندر والمساواة، على صعيد القاعدة الشعبية، انبرت إحدى المشاركات ساخرة من الطرح، معبّرة عن أن همّها ينحصر بأن ينام أطفالها وبطونهم ملآنة وقلوبهم دافئة!
استوقفتني الملاحظة كثيراً، وبدأت أسئلة كثيرة تراودني: ما حقيقة أن حقوق النساء الإنسانية حقوق عابرة للثقافات، وكيف يمكن ربطها بالهموم المحلية؟ هل يمكن الفصل بين النضال النسوي والنضال من أجل الحرية والديموقراطية؟ هل يمكن البناء من قمة الهرم إلى أسفله؟ كيف يمكنني أن أقنع أمرأة تدافع عن حق الرجل بتعدد الزوجات بأن هذا الفعل اعتداء على المرأة وحقها في الكرامة؟ كيف يمكنني أن أشجع امرأة مهتمة في الشأن العام على خوض غمار العمل السياسي وهي تعلم بأن هذا سوف يعرضها لحملات استباحة معنوية، ناهيك عن إمكان تعرضها للاعتقال والاغتصاب وكل أشكال العنف المتخيلة؟! أما في أماكن سيطرة القوى السلفية (داعش) فالأمر أخطر، حيث أصبح التمييز ضد المرأة بمثابة تمييز عنصري حقيقي، ممأسس ومستند إلى تفسيرهم الخاص للدين: منع السفر، إجبارهن على وضع الحجاب، إبعادهن من العمل، من المدارس، من المجتمع. فالمرأة، والحال هذه، مركونة في منطقة اللامواطنة، اللاحقوق، حيث القاعدة هي الخضوع التام للرجل القوي باسم الدين!
هناك الكثير من البلدان الديموقراطية لم تحصل فيها النساء على كامل حقوقهن، وما زال هناك الكثير من الفروق، خصوصاً في ما يتعلق بموضوع الأجر، لكنهن قطعن شوطاً كبيراً نحو المساواة وقوننتها. إلا أن النسوية في بلادنا ما زالت محكومة بنظم مجتمعية ودينية، ناهيك عن النظم القمعية المهيمنة. لذلك لا بد من مراجعة آليات عملها، فهي خيار وجودي مرتبط بالمساواة والعدالة والحرية، ولا يمكن فصل النضال النسوي بالتالي عن النضال من أجل هذه القضايا مجتمعة.
* كاتبة سورية
الحياة