صفحات الرأي

مقالات تناولت كتاب ياسين الحاج صالح: “بالخلاص، يا شباب! ــ 16 عاماً في السجون السورية”


ياسين الحاج صالح يتذكّر الليل الطويل

قضى معظم شبابه وراء القضبان. في كتابه «بالخلاص، يا شباب! ــ 16 عاماً في السجون السورية» (الساقي) يستعيد الكاتب والمعارض المعروف تجربته المريرة والقاسية من دون أن يهمل البحث في العلاقة بين الضحية والجلاد والمكان الذي يجمعهما

محمد الحاج

كان يُفترض أن يصبح ياسين الحاج صالح طبيباً، يداوي مرضاه في عيادته، ويمارس حياته الاجتماعية، والثقافية، وحتى السياسية، مثل كل الناس. لكنّ اعتقال الكاتب السوري عام 1980 عندما كان في العشرين ويدرس الطبّ في جامعة حلب، قلبَ المعادلة. كان الحاج صالح عضواً نشطاً في المكتب السياسي لـ«الحزب الشيوعي السوري». هذا ما كلّفه 16 عاماً قضاها متنقلاً بين سجن «المسلميّة» في حلب، و«عدْرا» في دمشق، قبل أن ينتهي به المطاف في سجن «تدمر» المرعب. يستعيد الكاتب تجربته المريرة هذه في عمله «بالخلاص، يا شباب! ـــ 16 عاماً في السجون السورية» (دار الساقي). الحقيقة أنّه ينشغل كثيراً عن تجربته، ليفكّك العلاقة التاريخية المثلثية بين السجن والسجين والسجّان من خلال «دراسات» سوسيو ـــ تحليلية وتاريخية.

حتى حين يكتب سيرة سجنه، فإنّه لا يبحث في القاموس اللغوي عن عبارات مشحونة بالألم والحزن ترقى بقضيّته إلى ما قد تعوّده القراء من سوداويات في أدب السجون. على العكس، سيصدم صاحب «أساطير الآخرين» هؤلاء، حين يفنّد الكثير من الأساطير المنسوبة إلى عوالم السجن، ويخلع عن نفسه رداء البطولة.

يذهب «حكيم الثورة السورية» ـــ كما يلقَّب ـــ أبعد من ذلك، حين يقول إنّه «يحنّ» إلى السجن الذي قضى فيه كل شبابه تقريباً، وجعله مثقفاً بعدما كان شاباً «مشتّت الذهن من دون حياة عاطفية وجنسية، معوجّ التكوين من جهات متعددة، ولا يتحكّم بشيء من حياته، ومعرّضاً لتدمير ذاته»… بسبب كل هذا وغيره، «كان السجن حلاً». ولأنّ هذا الادّعاء قد يكون شائكاً وحساساً و«ذا حدّين»، فإن الحاج صالح يشرح خلفيات هذا الحنين، ويقدم تفسيرَين له. الأوّل يبرز صفة «قربانية» لتجربة السجين، بينما الثاني أوسع وأعمّ يُقَرّ فيه «أننا نحنّ إلى السجن (…) لأننا نتحرر فيه من عبء الحرية».

اقتراحُ اعتبار السجن تجربة قربانية ـــ وهو الذي يفسّر حنين المؤلف ـــ يعني أنّ الذي قُدّرت له النجاة بعد سنوات التعذيب والإهانة والحرمان، من دون أن ينكسر جسدياً ونفسياً، قد يحنّ إلى تجربته هناك، وإلى المكان الذي شهد تجدّده أو ولادته الثانية: «الأكيد أنّه لو لم تتِح لي الظروف أن أنجو بعد 16 عاماً في السجن، لما تملّكني شعور الحنين هذا. ولو حصل أن تحطّمت كلياً، أو جزئياً ـــ وهو ما وقع لبعضِ مَن كانت شروط سجنهم وأوضاعهم العائلية والمادية والنفسية أقسى بكثير من شروطي ـــ لكنت ربما أُصاب بالقشعريرة في كل مرة تذكرت فيها السجن».

هكذا إذاً، صار ابن الـ 20 عاماً قرباناً لذاك الرجل الأربعيني الذي سيخرج من السجن بعد 16 عاماً: «مات أحدنا كي يعيش الآخر». لكن، كيف استطاع شاب لا يملك تجارب حياتية عميقة (في ذلك الوقت)، وليس ذا بنية جسدية قوية، الانتصار على السجن؟ العوامل كثيرة، لكن أهمها «الاستحباس»، وهو «فكرة أساسية ومتكررة في هذا الكتاب». أبسط تعريف للاستحباس، بحسب الحاج صالح، أن «يستوطن السجين السجنَ، فيمسي بيته ويسترخي فيه، ويكفّ الزمن عن أن يكون محض عدوّ له». مع الاستحباس، استطاع الفوز بحياته ومستقبله رغماً عن السجن… باستثناء «تدمر». في هذا السجن الصحراوي الرهيب، لا يمكن أي حلّ إنقاذ السجين، أو وضعه في مرتبة المطمئن والحالم في الخروج سالماً. في «تدمر»، قد يتمنّى المرء الموت، وتتهدّم كل الأبنية الأخلاقية، ربما، من الصراع على آخر لقمة بقيت في صحن يأكل منه السجناء. «تدمر» الذي يُعَدّ معيار قسوة وتدميرية السجون السورية، يتوقف زمن السجين لدى دخوله، ويتعرّف هناك إلى عالم آخر… عالم يغدو فيه السؤال عن لون فرج الأم أمراً طبيعياً، وكذلك التقاط «الشحاطات» بالفم، والتعذيب اليومي اللاإنساني.

سيُنقل الحاج صالح إلى هناك في آخر عام من فترة سجنه، بعد أن يرفض مساومة النظام سياسياً، ويرفض كتابة تقارير عن زملائه المعارضين لمصلحة المخابرات؛ وهذان الاحتمالان يضعهما السجّان السوري شرطاً «قبل نهائي» للإفراج عن معتقليه السياسيين. إذاً، «تدمر» مرحلة أخيرة و«تأديبية» للشيوعيين أمثال ياسين الحاج صالح؛ لكنّه المكان الرسمي للسجناء السياسيين (الإخوان المسلمين) وسجناء «البعث» العراقي. لا يدخل صاحب «سوريا من الظل ـــ نظرات داخل الصندوق الأسود» عوالم هؤلاء كثيراً، مُرجعاً الأمر إلى انعزالهم وأيديولوجيتهم التي تفرض التفافهم على بعضهم بعيداً عن السجناء الآخرين. العذاب الذي يتلقاه الشيوعيون في السجون السورية لا يمكن مقارنته بالقدر الهائل من العذاب الذي يلازم سجناء «الإخوان» ومن بعدهم بعثيو العراق. باعتباره شيوعياً إذاً، استطاع ياسين الحاج صالح المداومة على القراءة، حتى آخر ساعات قضاها في سجنه «العادي» قبل أن يُرحّل إلى «تدمر»، كذلك استطاع ترويض «وحش» السجن هناك، وقضاء بعض الوقت في التسلية، والرياضة، وحتى في متابعة التلفزيون الذي «سُمح» لهم بمشاهداته في عام 1986. لكن هذا، بالطبع، لا يعني أن الكاتب السوري «سوبر سجين» كما تسأله محاورتُه في إحدى المواد المنشورة في الكتاب. انطلاقاً من وجهة نظر تغلب فيها الفكرية على السيريّة، يحكي الحاج صالح عن معنى الحب، والأنثى، والزيارات، وقراءة الكتب، والانقطاع عن الزمن والحياة في الخارج، وانعدام الخصوصية، لدى السجين السوري. يتوقف طويلاً عند «الآخرين»، من سجّانين، وزملاء مسجونين. يصف السجّانين بأن كان بعضهم «يعبد» النظام المتمثل في شخصية حافظ الأسد، بينما بعضهم الآخر يتعاطف مع الكاتب وزملائه. يكتب عن أثر السجن على حياة المعتقلين بعد خروجهم منه. يروي قصص بعض زملائه الذين واجهوا صعوبات وأزمات اجتماعية حادة، مع حبيباتهم وزوجاتهم وأولادهم، بعدما قضوا سنوات طويلة خلف القضبان أفقدتهم قدراً كبيراً من مرجعياتهم الاجتماعية والأخلاقية… أو فلنقل: الإنسانية بصورة عامة. ليس مبالغة القول إن «بالخلاص، يا شباب! ـــ 16 عاماً في السجون السورية» أحد أهمّ الكتب التي أفرزتها تجربة السجن في الوطن العربي. إنه مرجع، ودليل عن أقبية التعذيب السورية، وعن نزلائها، لم يكتبه صاحبه بـ«الدم» كما يبالغ «أبطال السجن»، بل برويّته وعقلانيته وتواضعه، وبنظرته الثاقبة إلى شتّى المواضيع السياسية والإنسانية.

الأخبار

السجون السورية والمثقف الجديد

الياس خوري

لعل الدرس الأكثر بلاغة الذي تعلمته، ولا ازال اتعلمه، من ياسين الحاج صالح، هو التواضع المصحوب بالغنى الفكري والالتزام المبدئي، الذي يجعل من المثقف ضميرا اخلاقيا وقدوة ومرجعا. اذكر انني التقيته للمرة الأولى في دمشق، وبعد اصراري على الكلام عن تجربة سجنه الطويلة، اكتفى الرجل بأن تحدث عن كاحليه. رأيت السجن محفورا بشكل مادي وواضح على الكاحلين من اثر الربط بالكابلات الكهربائية. وعندما اردت المزيد اكتفى الرجل بابتسامة قصيرة، وغيّر الموضوع.

ثم التقيته مرة ثانية يتيمة في بيروت، قبل ان يصدر قرار منعه من السفر، وتحولت لقاءاتنا بعد ذلك الى تواصل ثقافي/سياسي عبرت عنه تجربة نشر مقالاته في ‘الملحق’ الذي كان يصدر عن جريدة ‘النهار’ في بيروت، قبل ان تضطرني الظروف المنقلبة الى مغادرته.

اكتشفت هذا الرجـــــل من جديد مع انطلاقة الثورة السورية، صار ياسين احد اصواتها المميزة، بل اكاد اقول صوتها الثقافي الأكثر عقلانية ووضوحا. مع هذه الثورة تعــــــرفت الى مثقف يمزج الشجاعة بالحس النقدي، والوضوح بحساسية انسانية مرهــفة. لم يغادر ياسين وطنه، اختار الطريق الصعب، مقدما الاشارة الاولى الى ولادة مثقف سوري جديد، مثقف ما بعد المعارضة التقليدية القديمة. يولد هذا المثقف في العـــمل السري الذي يحوّل النضال الى فعل علني، جاعلا من الكتابة سلاحا في مواجهة السلاح الذي يقتل به النظام الشعب الثائر ويدمر مدنه وقراه.

صارت صفحة ياسين على ‘الفايسبوك’ احــــدى نوافذنا اليومية على سورية التي تولد من جديد، وصار مقاله الأسبوعي في ‘الحياة’ مؤشراً على احتمالات الثورة. معه ومع امثاله من المثقفين والمناضلين صارت الكلمة فعلا، والحرية افقا، والثورة طريقا.

لا شك ان ياسن الحاج صالح يعرف انه يساهم في كتابة تاريخ جديد لبلاده، وان عمله الكتابي والثقافي سوف يشكل احد مراجع تاريخ الثورة السورية، كما انه يعرف ان هذه الثورة هي صرخة الخلاص الحقيقية التي انتظرتها سورية طويلا.

عنون ياسين كتابه عن تجربته في السجن ب ‘بالخلاص يا شباب’، (دار الساقي بيروت)، لكن عبارة الخلاص هذه تأخذنا الى ما بعد السجن، وتكشف لنا كيف استطاع المثقف ان يقرأ تجربته بعين نقدية، وكيف صارت هذه العين هي بداية الرؤية التي تشق طريق الثورة وتتفاعل معها وتكتبها.

قرأت كتاب ياسين الجديد في وصفه استكمالا لكتابي ‘خيانات اللغة والصمت’ لفرج بيرقدار و’القوقعة’ لمصطفى خليفة. يروي الكتابان تجربة السجن والمعاناة في جحيم سجن تدمر الرهيب، بينما يقوم ياسين الحاج صالح في كتابه ‘بالخلاص يا شباب’ بتفكيك التجربة وتحريرها من اطلاقيتها، ليحولها من تجربة استثنائية الى تجربة حياة، فاستبطنها وتجاوزها مقدما قراءة جديدة لتجربة السجن السياسي في سورية والعالم العربي.

لن يوافق ياسين الحاج صالح على اطلاق صفة ادبية على كتابه، لكن اذا لم يكن الأدب رؤية واستشرافا ومعرفة وسلاسة انسانية، فماذا يكون؟

استخدمت كلمة سلاسة ليس كصفة للأسلوب الجميل والبسيط والمباشر الذي كتب به ياسين فقط، بل كصفة للمعنى الانساني العميق الذي ينضح به النص. سلاسة انسانية تأخذنا الى تأمل تجربة السجن، والى تجاوز البطولة الى الحياة نفسها. فالحياة تضيق بالبطولة حين تكتشف فضائل صناعة اليومي، وهذا المزيج من الضعف والقوة، الذي يحوّل السجن الى جزء من تجربة الحياة نفسها، محررا السجين من سجنه والكلمات من قشورها.

يشكّل هذا الكتاب انزياحاً فعلياً في ادب السجون العربي، لا لأنه يروي تجربة بطولية خارقة، بل على العكس من ذلك تماما، لأنه يروي تجربة انسانية عادية، محولا الانساني الى بديل عن الاسطوري، وصناعة الحياة اليومية الى افق للمعاني التي تمتلى ء بها التجربة الفردية والجماعية.

ما رواه ياسين عن تحرره في السجن من سجونه الأخرى، وما أطلق عليه اسم تجربة الاحتباس، وما قدمه من تحليل سوسيولوجي لتجربته وتجارب اقرانه، يقوم بفتح ابواب الحرية على مصراعيها، فالرجل الذي بنى كتابه على ما يمكن وصفه بالاعتراف التأملي، وضع للمرة الأولى تجربة سجن اليساريين السوريين في الثمانينات في اطار تاريخ سورية. (للأسف لم يستطع الكاتب الوصول الى ادراج تجربة السجناء الاسلاميين في كتابه، وهذا يعود الى اسباب ايديولوجية، شرحها الكاتب، جعلت من هذه التجربة بكماء).

ترويض الوحش والثورة على الذات واكتشاف الثقافة والحياة، هذه هي تجربة طالب كلية الطب الذي دخل السجن فتى في العشرين، وخرج منه بعد ستة عشر عاما واربعة عشر يوما رجلا ومثقفا في السادسة والثلاثين.

‘في السجن تبدّى لي ان افضل طريقة للتحرر منه هي جعله اطارا للتحرر من سجون اخرى، نحملها في ارواحنا وعقولنا: سجن الايديولوجية وسجن الحزب وسجن الأنا’.

يقود هذا التحرر الى تفكيك ايديولوجية السجن واساطيرها: ‘وبقدر ما يمحو السجن الفردية، فان واجب الكتابة عن السجن هو، بالعكس، شق بطن هذا الوحش واستخراج الأفراد منها واحدا واحدا’.

في الفصل الذي يحمل عنوان: ‘عن مثقفي السجن بالأحرى لا عن سجن المثقفين’، يشير المؤلف الى حقيقة صارخة تقول ان المثقفين السوريين لم يدخلوا السجون لأنهم استخدموا رصيدهم الثقافي او رأسمالهم الرمزي للاعتراض على سياسات عامة، اما اعتقال بعض المثقفين ‘فقد تم بسبب انخراطهم او قربهم من تنظيمات سياسية معارضة’. تشير هذه الحقيقة الى عطب ثقافي كبير لم يعالجه هذا الكتاب، لأنه ركّز على ظاهرة جديدة وربما فريدة، وهي ان السجن الذي تعرّض له حوالي الف شاب يساري كان الرحم الذي ولد منه جيل جديد من المثقفين السوريين، هو الجيل الذي ينتمي اليه ياسين ورفاقه.

الآن ونحن نقرأ الكتاب على ايقاع الثـــــورة السورية بتضــــحياتها الهائلة نكتشف المسافة الكبرى بين المستوى السياسي للمعارضة السورية الغارقة في الانانيات والتمزق وفقدان المبادرة، وبين النموذج المضيء الذي تصنعه تضحيات شعب ثائر قرر الخلاص من الاستبداد، ومواجهة آلة الوحش المعدني بالصمود والصبر.

هذه المسافة لا يستطيع ان يتجـــــاوزها سوى انخــــراط المثـــقف السوري الجديد في عمل نقدي ينطلق من مشاركته في الثورة.

تحية الى ياسين الحاج صالح.

القدس العربي

ياسين الحاج صالح مثقّف يخترع حرّيته داخل السجن

دلال البزري

عندما شرعتُ في قراءة ما يكتبه ياسين الحاج صالح في الصحافة، كنتُ متيقنة بأن ما يجذبني الى هذه الكتابات هو نوعية الحرية التي يتمتع بها: حرية تفكير وتعبير غير معهودة وسط مثقفينا… كنتُ أتصور بأنه نشأ وعاش في واحدة من بقع الأرض التي ينعم سكانها بحرية بديهية؛ أو أنه جال كثيراً بين البقعة والأخرى، بحيث اكتسب تعدّدا في النظر، ومنافذ بين هوامش هذا التعدّد، أفضت الى حريته الثمينة هذه.

وكم كانت دهشتي عظيمة عندما علمتُ بأنه، أي ياسين، عاش ستة عشر عاماً من شبابه الأول في السجن السوري، وانه ممنوع من السفر إلى الخارج. وبعد الدهشة سؤال: حسنا، كنت أقول لنفسي، ولكن ما الذي يجعل تلك الحرية على هذا القدر من الفرادة؟ ما الذي يجعلها عميقة متألقة تجرف في طريقها، وبتلقائية، نقاطاً سوداء في قلب الوعي، وأحياناً على ضفافه، تعطّل أفخاخا مقنّعة تقف على زاوية فكرة، أو واقعة، أو مفهوم… حرية تفتح المخيلة والعقل على مشاهد أخرى، فهماً آخر.

بقي السؤال معلقاً، حتى قرأتُ كتاب ياسين الحاج صالح الجديد: “بالخلاص يا شباب! 16 عاماً في السجون السورية” (دار الساقي)؛ وهو كتاب يسرد فيه الأعوام التي أمضاها في السجون السورية، وكيفية صناعته لحريته بعقله وإرادته. كيف؟

بنزاهة، هي أيضاً استثنائية، ومن دون انتصارية ولا ضحاوية، يقرّ ياسين منذ البداية بأن سجن المسلمية الذي وقع عليه في ثمانينات القرن الماضي وجزء من تسعيناته، لم يكن على درجة مفرطة من القساوة. ليس مثل سجن تدمر، الذي يعتبره “عاراً على سوريا”، الذي كانت زنزاناته وأقبيته تستقبل خصوصاً سجناء من “الاخوان المسلمين”. لم تكن ظروف سجن المسلمية رهيبة ولا تعذيبه فظيعا ومنتظماً. كان حظه انه سجين يساري، أي أنه أقل خطراً من الاخوان، حسب النظام، وبالتالي أقل تعرّضا للتدمير المنهجي، الجسدي منه والمعنوي. هذه الظروف، المخفّفة نسبياً، أفسحت مجالاً لياسين للتفكير بإيجاد إيقاع، يرسم وتيرة الوقت اللامتناهي الذي ينزله السجن عليه، مثل وحش كاسر، لا وجه له ولا معالم.

تنتظم اذن الحياة داخل السجن بعد تشوّش واضطراب طبيعيين، وتكون أولى “التوجهات” التي يعتمدها ياسين هي التفكير في كيفية تحرره من هذا السجن الذي أوجد فيه. ويكون جوابه لنفسه بأن أفضل السُبل الى ذلك هو “التحرر من سجون أخرى، نحملها في أرواحنا وعقولنا”. وهذه السجون الأخرى هي: “سجن الأيديولوجيا”، أولاً، ثم “سجن الحزب” اليساري الذي اعتقل بسبب نشاطه فيه، وأخيرا “سجن الأنا”. أي أنه منذ بداية إقامته خلف القضبان، كان عقله وإرادته متجهين نحو إفراغ كل ما في جعبته من أفكار أو تصورات، قد تحول دون تكوّن تلك الحرية الجديدة التي لا يعرف ملامحها الدقيقة، ولكنه يحدسها. تخليص العقل، تشذيبه، تنظيفه من “العبوديات” و”القيود” و”المطلقات” التي طغت على الحياة في “سجن الخارج”… تلك هي الخطوة الاولى التي تمسك بيد هذا التحدّي وتقوده نحو الحرية المشتهاة.

الخطوة الثانية، المتلازمة مع الأولى، مادتها الكتاب، القراءة، الكتابة. يحصل على الكتب في السجن وتكون البداية صعبة، نظرا لضعف التركيز، ثم شيئاً فشيئاً تصبح قراءة منتظمة ممتعة، وبظروف لا تقل غرابة وصعوبة عن أي سجن من سجوننا السمحاء. لماذا قراءة الكتاب؟ “تضاعف الحياة” يجيب، “تغيرنا”، “تمنحنا نفساً جديداً”، “تعيد تشكيلنا”، “تحافظ على العافية الجسدية”، تمنح “إدراكاً جديداً… ذاكرة إضافية”. ما يسمح له، وسط انتهاك السجن للـ”خصوصية البرانية”، بأن يبني “خصوصية جوانية” و”استقلالاً ذاتياً لا يُنتهك”. هكذا “يروض الوقت”، يسيطر على مصيره السجني، ويراكم طبقة فوق أخرى من الوعي، أو الحرية؛ فالاثنان سيان… يسميها “تجربة روحية ثقافية (…) نخسر أي حرية أخرى إن لم نجدها”. تجربة هي بمثابة “طفولة ثانية”، إعادة تنشئة ذاتية على يد الكتاب الكبار، وقد انكب عليهم بشغف العالِم، الذي لا يفصل بين إيجاد أسماء للأشياء وبين الحرية.

ولكن هذا الجهاز المناعي الذي يبنيه ياسين حمايةَ لعقله من الجنون لم يكن ليكتمل لولا مجموعة ملحقة من الوقفات الداعمة لتوقه هذا، الضحك على رأسها. الضحك على النفس بالدرجة الأولى، كسلاح آخر في حربه ضد “سجن الأنا”. فمن كان قادراً على رؤية نفسه إلى حدّ السخرية منها، فهو صاحب قوة معرفية كامنة، قادر على مضاعفة زوايا نظره، على كسر الغرور المعرفي، على نقد عقله، على تحريكه باتجاهات مختلفة. حماية الحرية من الأنا، ومن إنعدام بصيرتها، ذلك هو رهان هذا النوع من الضحك. من الطبيعي بعد ذلك أن يكرر ياسين على مدى صفحات كتابه رفضه للنظر إلى كونه واحداً من “ضحايا السجن”، واحد من أبطاله الأسطوريين…

بديهي، أيضاً، ان تكون نظرته لنفسه نقدية، يرى فيها عيوبا يصفها، يسرد فصولا عنها، يندم على بعضها؛ وأن يقولها بشكل طبيعي، من أن حياته قبل السجن كانت مشتتة مبعثرة، وجاء السجن ليعطيه فرصة إعادة تخيلها من جديد. هذا شعور غريب، تفسره الرؤية الخاصة التي يحملها ياسين للسجن السوري، الخالية من أي إدعاء. يقول ويصرّ في إحدى صفحات كتابه: “ان السجن في سوريا الثمانينات وأكثر التسعينات كان مكانا أكرم من أي مكان آخر لأي شخص مستقل الضمير ومعارض للنظام. كان ذلك زمنا بغيضاً، لا يصون المرء بقاءه فيه إلا إذا تخلّى عن كرامتة (…) كان ذلك الزمن هو العصر الذهبي للمخبرين وكتّاب التقارير”، زمن “المسيرات الشعبية العفوية المذلة والاستفتاء وبرقيات الولاء بالدم وصعود الوضعاء وانتشار مسلحي النظام (…) زمن من صور الطاغية ونشر الصور وعبادة الصور…”. الجميع خارج السجن “هم الغرباء عن سوريا الأسد”. هل نفهم بعد ذلك ما يقوله عن “حنينه” إلى أيام السجن…؟

إلا أن الوقفة الأهم، الحاسمة، هي تلك المتعلقة بالمجال الذي يتخيله ياسين لنفسه أثناء مسعاه هذا، أو في خاتمته. من ملاحظته الثاقبة حول السجناء القياديين، الذين يفقدون بريقهم ووجاهتهم لحظة دخولهم السجن: تتبخّر صفاتهم “القيادية” في هذه اللحظة، كأن السجن عراهم، أزال عن هالتهم ريش التلاعب والافتعال. القدرة على تبين الزعامة الحقيقية من تلك المصنوعة او المفبركة، تعود أيضا وأيضا إلى المكان الذي يختاره ياسين لنفسه: الهامش. يفضل الهامش، ويربطه بانعدام طموحاته السياسية، بعدم سعيه “للفوز يوما بموقع سياسي في المعارضة”. الهامشية شرط من شروط الحرية المعرفية والفكرية. ارتباطها بسلطة ما، مهما صغرت، يبطل معناها. هكذا تكتمل الحلقات المترابطة للشرط الذي أوجده ياسين في السجن، وتكون النتيجة ما بلغه الآن من حرية.

ليس كل السجناء السياسيين على هذا القدر من الخصوبة. المؤكد أن ياسين لم يكن له ان يصنع حريته بيديه خلف القضبان، هذه النوعية تحديداً من الحرية، لو لم يكن متمتعاً بطبائع خاصة. نوعية الحرية من نوعية القوة التي خلقتها. قوة مختلفة أيضاً، ليست تلك التي تصرخ وتأمر وتخيف، إنما تلك التي تخلق من مقاوماتها للنوائب خيراً جديداً، قوة جديدة. ذكاء الإرادة ثانياً، تلك السيادة الحميمة على النفس، ذاك التفاهم الروحي معها، على ما عليها عمله انقاذا لها. ذاك المعنى الجديد الذي اخترعه الذكاء لكلمة “تكيف”؛ التكيف بمعنى خلقه الظروف التي تخرجه منتصراً على قدر غاشم، سرق منه شبابه وحرمه التمتع بما يعشقه. ثم أخيرا الحب الكبير الذي يكنّه للمعرفة. لولاه لما أمضى ساعات خلال العقد ونصف من السجن يقرأ، يتأمل، يراجع، يتقصي…. بالقليل الذي يوفره السجن.

إنها “حريته”، من صنع يديه. وليس بوسع أحد سرقتها. تماماً مثل حرية الشعب السوري التي صنعها في سجنه الكبير، فكانت طاقة بركانية تجرف حممها خوفاً كاد يخلّد همجية الديكتاتورية الأسدية.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى