صفحات العالم

مقالات تناولت ما حدث في مصر

«الدولة» غير متاحة

حسام عيتاني

مذهلة تلك الكراهية التي عبرت عنها وسائل الإعلام المصرية ومواقع التواصل الاجتماعي لجماعة «الإخوان المسلمين» يوم فض الاعتصامين في منطقتي رابعة العدوية والنهضة.

اتفقت الأقنية التلفزيونية الرسمية والخاصة على اعتبار المعتصمين مجموعة من القتلة الإرهابيين الذين لا مجال للتعامل معهم بغير القوة. وطغت لغة الشماتة والتشفي بقتلاهم الذين بلغت أعدادهم المئات في غضون ساعات قليلة من الصدامات مع قوات الأمن. ومُنِع «الإخوان» من الرد على الحملة الإعلامية التي استهدفتهم بسبب إقفال محطاتهم بعد عزل الرئيس محمد مرسي في الثالث من تموز (يوليو).

سيقول قائل إن «الإخوان» جنوا على أنفسهم بلجوئهم إلى التحريض على العنف فور عزل مرسي ووصل الأمر ببعضهم إلى تبني الاعتداءات على قوات الأمن في سيناء، وأن الجيش حصل على التفويض الشعبي لمكافحة الإرهاب في تظاهرات مليونية نزلت إلى الشوارع بناء لدعوة من وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي. ليس في هذا الكلام أي تعاطف مع تجربة الإسلاميين في الحكم ولا أي تبرير لفشلهم المدوي في السياسة العامة.

لكن الرد المذكور يضع الأزمة المصرية في إطار التساؤل عن معنى الدولة التي يراد إقامتها بعد «ثورتين» على نظامين، استبدادي غير ديني وديني إقصائي. وفيما تدور الاشتباكات في الشوارع، لا يبدو أن مضمون الدولة التي حلم بها المشاركون في ثورة 25 يناير يقترب من التحقق. بل العكس هو الصواب.

متابعة المؤتمر الصحافي لوزير الداخلية محمد إبراهيم، ببلادة إجاباته وتجنبه معالجة الأسئلة الجدية القليلة التي طرحت، مقابل استغراقه في مونولوغ معد مسبقاً يتلاءم مع سيل التزلف من صحافيين يتقنون، على ما يبدو، إسماع الوزير ما يود سماعه، كلها أمور تقول إن مخزن الدولة التسلطية الناصرية-المباركية ما زال مليئاً.

كانت مضحكة-مبكية تلك البساطة التي سكنت عقول أعضاء «تمرد» وحملتها على الاعتقاد للحظة واحدة أن الجيش المصري سيقلد نظيره البرتغالي صاحب «ثورة القرنفل» وسيسلم السلطة إلى المعارضة المدنية. وفي مقابل من ظن في السيسي رغبة في السير على خطى نقباء الجيش البرتغالي، خاب ظنه ليبدو جلياً منذ إصداره بيانه التحذيري إلى محمد مرسي أنه يرغب في تكرار تجربة جمال عبد الناصر وتجنب أخطاء المشير محمد طنطاوي ومجلسه العسكري. ومحبط أشد الإحباط عدم التقاط الشارع المصري الإشارة الواضحة التي أرسلها «الإخوان» عن استيعابهم صدمة عزل مرسي واستعدادهم للتفاوض أو للمواجهة بذات القدر. لقد أعفى تدخل الجيش القوى المدنية المصرية من عناء المضي في ثورتها الثانية إلى نهايتها وبالتالي تحمل مسؤولية إدارة الدولة والبلاد والإصلاحات الضرورية.

يسهل الحديث عن «العودة إلى ما قبل 25 يناير» واستئناف الدولة التسلطية سلوكها المعهود. لكن نظرة ثانية تعطي انطباعاً أن الدولة، بمفهومها الواسع، وليس التسلطي فقط، تسير على طريق التفكك والاضمحلال جراء الإصرار على نفخ الروح في جسد غادرته الحياة منذ زمن. والقول إن السيسي أو غيره من ضباط الجيش قادر على متابعة مسيرة الثورتين المصادرتين والتمهيد لعصر ازدهار يقوم على إحيائية ناصرية ما، تنفيه طبيعة المؤسسات العسكرية في العالم الثالث، الغارقة في السياسة و «البيزنيس» وما بينهما من سلطة. والمؤسسة المصرية ليست استثناء.

بهذا المعنى، يكون أقرب إلى الحس السليم انتظار ترسيخ الجيش وحلفائه سلطتهم، مستفيدين في الدرجة الأولى من العداء الشعبي الذي جلبه الإسلاميون على أنفسهم، وبواسطة حملات الإعلام الموجه إلى إقناع المواطنين بفضائل الأمن والأمان حتى لو جاءا من ثكنات الجيش، مقابل الفوضى الراهنة. لكن كل ذلك يقول إن «الدولة» بمعناها الحديث مشروع مؤجل إلى موعد ثورة جديدة وبعيدة.

الحياة

مصر وسورية وروسيا والسعودية

وليد شقير

يستدعي خلط الأوراق الذي تشهده دول الربيع العربي رصد تأثير معطياته الجديدة على مواقف الدول الكبرى والقوى الخارجية المتعارضة والمختلفة، من مستجدات الأحداث الجارية، وترقب التغييرات في حسابات هذه الدول صاحبة التأثير، لا سيما في سورية.

فالمواجهة العنيفة في مصر بين الجيش مدعوماً من القوى الليبرالية والقومية والشبابية والأطياف الدينية وبعض القوى الإسلامية، مع «الإخوان المسلمين»، والصراع السياسي الذي تتخلله اغتيالات وإراقة دماء في تونس بين القوى العلمانية واليسارية والليبرالية والإسلام السياسي المعتدل وبين «النهضة»، النسخة التونسية لـ «الإخوان»، هي في صلب خلط الأوراق هذا الذي يشهده الإقليم.

وإذا كان يمكن تسمية ما يجري في المنطقة حين تضاف مجريات الأحداث في كل من مصر وتونس الى ما يجري في العراق واليمن وليبيا ولبنان، بالفوضى التي تعم الإقليم، فإن أبرز ما تكشفه تلك الفوضى هو الضياع في مواقف القوى الكبرى ومنها روسيا…

وفي حين تشترط الولايات المتحدة على المعارضة السورية أن تواجه القوى الإسلامية المتطرفة في سورية»، لا سيما «جبهة النصرة» و «الدولة الإسلامية في العراق وسورية، من أجل تقديم الدعم بالسلاح لها، فإنها سعت قبل فض الشرطة والجيش المصريين اعتصام «الإخوان» الى مصالحة بينهم وبين انتفاضة 30 تموز (يوليو) متجاهلة ممارسات «الإخوان» التي أجهضت قيام نظام تعددي متنوع في مصر، وأخذت موقفاً متعاطفاً معهم عند فض الاعتصام قافزة فوق دورهم في إذكاء العنف، وفوق التظاهرات الشعبية المليونية ضد تفرّد «الإخوان» واستئثارهم.

أما روسيا، فإنها في سورية تتيح للنظام أن يتّبع تكتيكات يتقنها، من نوع تسليم بعض المناطق للإسلاميين المتشددين قبل أشهر، أي «النصرة» و «دولة الإسلام في العراق وسورية»، كما حصل في الرقة، لإطلاق صراع بين هؤلاء وبين «الجيش الحر» وبينهم وبين القوى الكردية في شمال شرقي البلاد. وموسكو تفرّجت على ذلك، على رغم أن حجتها الرئيسة في وقوفها الى جانب النظام هي قلقها من سيطرة الإسلاميين المتشددين والإرهابيين على سورية، في حال سقوطه، وفي مصر تغض موسكو النظر عن قمع النظام لـ «الإخوان» لا لسبب إلا لأن واشنطن أخذت موقفاً اعتراضياً على فض اعتصام هؤلاء.

تتعامل الدول الكبرى مع أوضاع كل بلد عربي في شكل موضعي، وفق ما تقتضيه مصالحها، حتى لو كشف ذلك غياب التجانس أو التماسك في توجهاتها بين ساحة وأخرى.

وليس اختراعاً القول إن القوى الكبرى تفاجأ في كل مرة بالتطورات في هذه الدول وبالوقائع التي تنتجها دينامية تحركات الشعوب وتعدّل وتغيّر من مواقفها وفقاً لتبدل موازين القوى. وهذا يثبت مرة أخرى أن صناعة الأحداث في الربيع العربي تتم نتيجة حراك القوى الاجتماعية المحلية، وأن قوى الخارج تسعى الى التكيّف معها، لأنها طالما يستحيل تدخلها المباشر لإدارة الأمور في هذه الدولة أو تلك، تسعى الى ملاءمة توجهاتها مع المعطيات الجديدة.

في شهر نيسان (أبريل) الماضي حين التقى الرئيس فلاديمير بوتين مع وزير الخارجية الأميركي جون كيري والوزير الروسي سيرغي لافروف في موسكو، اتفق الجانبان على مؤتمر «جنيف – 2» حول الحل السياسي في سورية في الشهر الذي يلي، أي أيار (مايو)، وما زال المؤتمر يتأجل من شهر الى آخر، الى أن أمل لافروف الجمعة الماضي بأن يعقد في تشرين الأول (اكتوبر) المقبل. كانت موسكو تراهن على حصول تقدم عسكري لمصلحة النظام، منه احتلال قواته مع «حزب الله» مدينة القصير. وثبت لاحقاً أن هذا التقدم لا يعني أن النظام سيتمكن من تثبيت انتصاراته، ليصاب بنكسات في مناطق أخرى.

من مفارقات تأثير موازين القوى الميدانية على مواقف الدول، أنه في وقت تشهد العلاقة الأميركية – السعودية تباعداً واختلافاً إزاء التطورات في مصر، وخيار التسليح النوعي للمعارضة السورية، فإن العلاقة الروسية – السعودية التي اتسمت بالتوتر بسبب الفيتوات الروسية في مجلس الأمن إزاء أي قرار متشدد حيال نظام بشار الأسد، شهدت محاولة جدية لإحياء تفاهمات سابقة كانت طرحت عام 2008 بين الجانبين، في المحادثات التي جرت قبل أسابيع بينهما والتي تناولت مستقبل سورية وإمكان التوصل الى تسوية سياسية حول بلاد الشام تنتهي برحيل الأسد. وإذا شكل هذا الانفتاح بين الجانبين اختراقاً محدوداً يؤسس لبداية حوار جدي، فإن ما يجمع الدولتين في هذه الظروف هو مواجهة خصم مشترك هو التطرف الإسلامي الذي تخشى موسكو من تأثيره على جمهورية الشيشان في الاتحاد الروسي، فالأرجح أن تقدمه يتوقف على الوضع الميداني في سورية، بموازاة المعادلة التي ستستقر عليها مصر.

فموسكو تتجه الى التخفيف من آثار خلافاتها مع سائر الدول، ومنها أوروبا، حول الأزمة السورية، على علاقاتها معها.

الحياة

المشرق العربيّ: العنف يغلب السياسة

حازم صاغيّة

مع اندلاع ثورات «الربيع العربيّ»، كان المؤمّل أن تغدو السياسة الثمرة الأكبر التي تنتجها الحرّيّة. لكنّ نظرة سريعة إلى مصر وسوريّة، وإلى العراق الذي عرف «ربيعه» في 2003، وجزئيّاً لبنان الذي يعيش تداعيات «الربيع» السوريّ، تقودنا إلى فرضيّة أخرى. ذاك أنّ العنف والكراهية اللذين ربّتهما العقود الفائتة نالا نصيباً من الحرّيّة يفوق ما نالته السياسة. لقد تحرّر أيضاً العنف والكراهية، ولدينا منهما الكثير المكبوت، بحيث ابتلعا كلّ سياسة.

ففي مصر بدا مفاجئاً مدى إصرار «الإخوان المسلمين» على معاقبة الشعب بالأسلمة، ثمّ بدا مفاجئاً أكثر مدى الكره المكنون والمؤصّل حيال جماعة «الإخوان»، لا عند العسكر فحسب، بل أيضاً عند قطاعات عريضة من المدنيّين، العلمانيّين وأنصاف العلمانيّين. ووسط مذبحة قد تتلوها مذابح، اتّجه «الإخوان» أنفسهم، وقد باتوا الضحايا، إلى الثأر من مكروهيهم الأقباط بالاعتداء عليهم وإحراق كنائسهم!

وفي سوريّة لم تعد جماعات «القاعدة» و «النصرة» تفصيلاً تستطيع الثورة أن تتجاوزه وتطوي صفحته. فهذه التنظيمات القاتلة ابتلعت جزءاً كبيراً من الثورة، وتهدّد راهناً بابتلاع الباقي. وحينما يُختطَف رجل كالأب باولو، يصير جائزاً القول إنّ المشاعر المناهضة للمسيحيّين، وللشيعة والعلويّين، بدأت تغلب كلّ المشاعر الأخرى الدائرة في فلك الثورة، بما فيها بناء سوريّة جديدة لجميع أبنائها.

والحال، وكما يتبدّى في أعمال القتل المتمادي والعديم الرحمة في العراق، وفي جريمة التفجير الأخير في الضاحية الجنوبيّة من بيروت، أن تصدّر النزاع السنّيّ – الشيعيّ في عموم المشرق، وفي بعض الخليج، هو بذاته تعبير عن صعود نوازع القسمة على نازع الوحدة، وعن حلول العنف والكراهية حيث افتُرض حلول السياسة.

إنّ مقتل الثورات يلوح في الأفق العربيّ، تماماً كما تلحّ علينا ضرورة النبش العميق بحثاً عن الوحش الذي يقيم فينا ويمنعنا من أن نكرّر ما شهدته أوروبا الجنوبيّة أواسط السبعينات وأوروبا الوسطى والشرقيّة أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات. وهذا ما لم يعد يفيده حصر النقاش في السياسات الضيّقة وفي مسؤوليّة الأنظمة، وهي قائمة طبعاً، ولا المبالغة في تحميل الغرب المسؤوليّة، وهو مسؤول جزئيّاً، ولا التعفّف عن مواجهة أوضاعنا بنقديّة يمجّها «الصواب السياسيّ» وينسب إليها، بكثير من الاستسهال والتبسيط، عنصريّةً مقيتة، ولا هجاء الاستشراق والمستشرقين الذين سبق أن نبّهوا إلى مصادر العنف في حياتنا.

أمّا الذين أيّدوا الأنظمة وعادوا الثورات منذ بداياتها، فلسبب بسيط لا يستطيعون أن يقولوا لنا اليوم: «ألم نقل لكم». ذاك أنّ تلك الأوضاع القائمة كان لا بدّ أن تسقط من غير أن تنفع العظات الأخلاقيّة في تخليدها ضدّاً على الطبيعة. لكنْ كيف نُسقط الأنظمة في هذا الجزء من العالم، فهذه «أصالتنا» التي تشاركنا إيّاها أنظمتنا المتساقطة.

إنّ الحرب السنّيّة – الشيعيّة، والكراهية المسلمة للمسيحيّين، وعداء «الإخوان» لسواهم وعداء هذا السوى لهم…، عناوين تقول إنّ السياسة مؤجّلة في ربوعنا حتّى إشعار بعيد آخر. المهمّ اليوم الفصل بين المتحاربين والمتكارهين، وأيّ فصل يبقى أفضل من التحامهم «الأخويّ».

الحياة

مصر في «العقبة»: عجز الداخل يفتح باب التدويل

جورج سمعان

لا يبدو أن المصريين متفائلون بمبادرة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب. يتوقع لها كثرٌ أن تلقى مصير كل المبادرات والمساعي الخارجية التي أبقت مصر في «العقبة». كان هدفاً دائماً لـ «الجماعة» في سعيها إلى الإطباق على كل مؤسسات البلاد وقد عبرت عن رفضها دعوته. ولا تزال صورته وبابا الأقباط وممثل «جبهة الإنقاذ» الدكتور محمد البرادعي وممثلي قوى أخرى أمام أعين «الإخوان» في حضور وزير الدفاع الفريق عبدالفتاح السيسي وهو يعلن تنحية الرئيس محمد مرسي وقيام إدارة موقتة للبلاد. ويتوقع أن تلقى هذه المبادرة المصير الذي يواجه تحرك البرادعي الذي تصيبه السهام وتكال له الاتهامات من كل صوب، وأقلها الخيانة والعمالة!

إطالة الأزمة في ظل غياب أي مبادرة، داخلية أو خارجية، لتحريك التفاهم أو المصالحة التي ينادي بها الجميع ليست في مصلحة طرفي الصراع. فالرصيد الذي حازه تحرك الجيش وهيبة الحكومة الموقتة سيتآكلان إذا لم يخطُ الحكم ووزارة الداخلية نحو فض الاعتصامات في ميدان رابعة العدوية والنهضة وغيرهما من الساحات. والالتفاف الذي ناله «الإخوان» وترجموه حشوداً شعبية في الميادين سيتآكل هو الآخر. فالناس لن تجلس في الشارع إلى ما لا نهاية فيما الأفق مسدود أمام أي تسوية. ولا يعتقد بأن المواجهة أو العنف هو الخيار البديل أو الحل المضمون… وإلا لما تأخرت حكومة حازم الببلاوي وقواها الأمنية في اللجوء إليه تنفيذاً لقرارها في هذا الشأن. فالانقسام القائم عميق ومقلق ويهدد بحرب أهلية إذا وقع الصدام المحظور أو لجأ أحد الطرفين إلى القوة.

لا أحد يضمن أن المواجهة ستنتهي بمنتصر ومهزوم. لن يربح طرف الحرب. ستخسر مصر. فالـ «الجماعة» التي بنت مشروعها المحلي والدولي منذ 80 عاماً لا يمكن أن تقبل بخسارة كاملة لهذا المشروع. لأن سقوطه سيترك آثاراً واسعة على مستقبل الأوضاع في المنطقة كلها، من ليبيا إلى تونس فاليمن وسورية، وحتى تركيا التي كانت تقدم نفسها نموذجاً فإذا هي تتقدم خطوات على طريق… المصريين والتونسيين! ويخشى أن يقع خصوم «الإخوان» في ما وقعت فيه «الجماعة» عندما تصرفت على أساس أن التفويض الشعبي الذي ناله الرئيس محمد مرسي يعفيها من التفاهم أو التشاور مع حلفائها أو منافسيها معاً. في حين أن الوضع القائم لا يسمح لأحد بادعاء احتكار صوت جميع المصريين أو غالبيتهم.

هذا التوازن في التمثيل بين طرفي الصراع، أياً كانت أحجامه، ليس وحده ما يدفع إلى الإحجام عن خوض المواجهة. فالصف الإسلامي مقسوم، ومثله الحكومة القائمة التي يتخوف سياسيوها من استخدام القوة التي يدفع إليها بعض القوى العسكرية والأمنية. وبعيداً من انقسامات الداخل، ليس من السهل على القوى الإقليمية والدولية الاكتفاء بموقف المتفرج حيال انزلاق مصر إلى دورة عنف مفتوحة. الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي اللذان عجزا حتى الآن عن إحداث اختراق في جدار الأزمة، ليسا في وارد غسل اليدين. وليس في مصلحة الدول العربية التي تدعم خطة الطريق أن ترى إلى مصر تغرق في الدماء وتشارف على الانهيار الكامل، لأنها لن تكون بمنأى عن نتائج مثل هذا الانهيار أو الفوضى، في حين تواجه تحديات كبيرة خصوصاً في الصراع المعلن بين معظم أهل الخليج والجمهورية الإسلامية. وتواجه احتمال تفتت وانهيار في سورية سيلقيان بظلهما الثقيل على لبنان والعراق والأردن. وفوق هذا وذاك يبدو الإقليم منقسماً هو الآخر: الاتحاد الأفريقي علّق عضوية مصر. ولا يمكن الحديث عن موقف عربي جامع، فالدول العربية والخليجية منقسمة حيال ما يحصل. تونس دانت «انقلاب» العسكر وتتقدم لمواجهة المشكلة نفسها. والنظام السوري لم يجد غير الترحيب بخطوة العسكر! وفيما عبرت أنقرة عن إدانتها واستنكارها، بدت طهران مرتبكة تحذر من حرب أهلية وتدخلات خارجية.

كان متوقعاً أن تمارس الإدارة الأميركية دالتها على قيادات «الجماعة» من أجل إنقاذ «الإخوان» أولاً، وإنقاذ مصر ثانياً، وإعادة ترميم المشروع الإسلامي كله على مستوى الإقليم ثالثاً، والذي كانت تعول عليه أساساً لنظام إقليمي جديد بمقدوره تشكيل سد منيع للحد من نفوذ الجمهورية الإسلامية ومنع تقدم الصينيين والروس! لكن ارتباك واشنطن وحذرها المبالغ فيه أصابا سياستها وقراراتها بالشلل، ليس حيال ما يجري في مصر فحسب بل حيال كثير من قضايا المنطقة، من الأزمة السورية إلى الملف النووي الإيراني… ناهيك عن قضايا دولية أخرى من كوريا الشمالية والمحيط الهادئ إلى آسيا الوسطى وغيرها. وهو ما جعل إدارة الرئيس فلاديمير بوتين تقتنص فرصة هذا الارتباك والتردد في محاولة لاستعادة مكانة لروسيا ضاعت في الفوضى السياسية والأمنية والاقتصادية التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، وهو ما سمح بعودة الحديث عن حرب باردة تنهي قيادة القطب الواحد للعالم.

لا يعني هذا الواقع تزكية لتدخل دولي في ظل وقوف المصريين في العقبة. إن مبادرة داخلية، من جانب شيخ الأزهر أو أي قوة أخرى، تظل أفضل بكثير من أي مبادرة تقودها الإدارة الأميركية أو الاتحاد الأوروبي. ألا يكفي ما أفضى إليه التحركان الأميركي والأوروبي الأخيران من تعميق للانقسام والتشرذم ومن تصعيد للمواقف؟ إضافة إلى أن التدويل تقابله حساسية مفرطة من جانب المصريين جميعاً قد يدفع إلى مزيد من الاستقطاب والتخبط من دون أن يقدم حلولاً ناجعة ودائمة. ألا يكفي مثالاً ما خلفه التدويل في ليبيا وفي اليمن، وما يخلفه اليوم وفي سورية التي لا تتوقف فيها آلة القتل، فيما تتعمق الهوة بين مكونات الشعب السوري، الطائفية والمذهبية والعرقية… على مذبح الصراعات الإقليمية والحرب الباردة التي تطل برأسها بين الولايات المتحدة وروسيا؟

التهيّب من مغامرة اللجوء إلى القوة يجب أن تكون دافعاً إلى البحث عن مخرج يحفظ ماء وجه كل طرف. ولعل البداية تكون بإقرار الطرفين بحقائق لا يمكن القفز فوقها. تبدأ أولاً بوقف الخطاب السياسي التصعيدي من كلا المعسكرين. ثم وقف الأعمال الانتقامية التي تمارسها قوات الأمن أو عناصر من «الجماعة»، تمهيداً للبحث عن قواسم تدفع إلى طاولة حوار تنتهي بمصالحة حقيقية تفيد من أخطاء الماضي القريب والبعيد وأخطاء الحاضر أيضاً. ولا شك في أن إطلاق المعتقلين من «الجماعة» والتيارات الإسلامية الأخرى يجب أن يكون مقدمة لمثل هذا الحوار. على أن يعلن «الإخوان» سلفاً أن العودة إلى الماضي القريب باتت من الماضي. ويعلن خصومهم أن خيار إقصاء القوى الإسلامية وعلى رأسها «الجماعة» يبدو مستحيلاً. واللجوء إليه بالقوة مغامرة محفوفة بأخطار جمة لن تبقي شيئاً في مصر. وهذا وحده كفيل بالعودة إلى اللعبة السياسية المفتوحة أمام الجميع بلا عزل أو استثناء، ومن دون استقواء أكثرية على أقلية.

تجنيب مصر أخطار التدويل تبدأ بالعودة عن أخطاء الماضي وهي كثيرة، ولا يحتاج طرفا الصراع إلى تذكير بها. ظن الرئيس مرسي و «جماعته» أن الازدواجية في إدارة شؤون البلاد انتهت عندما أعفى الرئيس قبل حوالى سنة كبار قادة المجلس العسكري، وعلى رأسهم وزير الدفاع المشير محمد حسين طنطاوي ورئيس الأركان الفريق سامي عنان. لم يدركا أن المؤسسة العسكرية ظلت طوال ستين عاماً، بل أكثر، الشريك الأساس في إدارة البلاد سياسياً واقتصادياً، وأن إطاحة مجلسها الذي أدار البلاد إثر رحيل الرئيس حسني مبارك لم يكن لها أي تأثير في قدرة الجيش على العودة للإمساك بمفاصل الحكم مباشرة أو مداورة على جري عادته منذ «ثورة 1952». ولم يعيرا اهتماماً بشركاء «ثورة 25 يناير» أو بالأحرى بمطلقي شرارتها. ولم يلتفتا إلى مخاوفهم ومخاوف الأقليات من تغيير هوية الدولة، سواء في صياغة الدستور أو في الإجراءات الإدارية، عملاً بسياسة «التمكين» «الإخوانية». ولم يستمعا إلى الدعوات إلى تغيير الحكومة التي فشلت في معالجة شؤون الناس اقتصادياً واجتماعياً… وأخيراً لم يعر مكتب المرشد بالاً لحجم الاعتراض الشعبي في «الثورة الثانية» يوم 30 حزيران (يونيو)…

لكن كل هذه الأخطاء القاتلة التي أفقدت «الجماعة» شرائح واسعة من قواعد شعبية وازنة كانت أعطتها أرجحية منذ اندلاع «ثورة 25 يناير»، لا يمكن أن تغيّب حضورها الباقي والمؤثر. ولا شك في أن المجلس العسكري و «جبهة الإنقاذ» وحركة «تمرد» وخصوماً كثراً لم يقدروا حجم رد فعل «الإخوان»، على رغم كل الإجراءات التي اتخذتها أجهزة الدولة الأمنية والقضائية. من احتجاز الرئيس إلى اعتقال عدد من قادة «الجماعة» وقيادات إسلامية أخرى. ومن إقفال عدد من وسائل الإعلام الخاصة بهم إلى منع سفر قيادات وملاحقة آخرين وإحالة بعضهم على القضاء. وهو ما يجعل الحديث عن إمكان إقصاء القوى الإسلامية وعلى رأسها «الجماعة» يكاد يكون مستحيلاً.

لا يبقى أمام الطرفين لفتح باب المصالحة سوى الاعتراف المتبادل الذي يبدأ بطي صفحة الماضي. أما تمسك «الإخوان» بإعادة مرسي إلى كرسيه فمطلب بعيد من الواقع. وأما خيار إقصاء «الجماعة» فليس خياراً سهلاً. فهل يلتقي الطرفان في حكومة جديدة يتمثل فيها الجميع، وتستعجل تنفيذ «خريطة الطريق»، معتبرة من أخطاء الماضي؟ الطريق للخروج من العقبة وشبح التدويل: أن يتخلى الطرفان عن الاستقواء بشرعية تمثيل أكثرية الشعب المصري أياً كان حجم هذا التمثيل وصحته… والتسليم بما آلت إليه «الثـورة الثانية» كما سـلـموا من قبل جميعاً بما آلت إليه «الـثـورة الأولـى»، وبمـسانـدة العـسكر فـي… 25 ينـايـر وفي30 يونيو!

الحياة

انقسام الخليج حول مصر

عبد الرحمن الراشد

منذ إقصاء الرئيس محمد مرسي في مصر، والخليج منقسم أيضا على نفسه وفي جدل، لا يقل كثيراً عما تشهده الساحة المصرية، خاصة من جانب المحسوبين على الإخوان الذين انتفضوا في أكبر حملة وتظاهرة لهم سياسية وإعلامية. ولأن المنطقة تعيش توترا على كل الصعد فمن الطبيعي ان تصل ارتداداته إلى الخليج المكتظ بالعرب وبالأفكار الواردة من هناك.

في الخليج، عادت الحكومات إلى مربعاتها السابقة كما كانت تقف منذ سنوات. المملكة العربية السعودية والإمارات والكويت والبحرين في جانب، والحكومة القطرية في جانب آخر! ويمكن قراءة المواقف من بيانات الحكومات والإعلام. وهذا يحدث بعد هدنة قصيرة من التوافق الخليجي على كل شيء تقريبا منذ بدايات الربيع العربي قبل عامين ونصف. بالنسبة لدول مثل السعودية والإمارات، وكذلك الكويت، تعي خطورة الفوضى في بلد مثل مصر، وتعتقد أن الوقوف ضد الوضع القائم قد يجرف مصر نحو الفوضى. والإخوان المسلمون في مصر، كما بدا واضحا خلال الأسابيع القليلة الماضية، مستعدون للسير ميلا إضافيا نحو المواجهة والفوضى بدلا من القبول بدعوات الحوار والتصالح. وهذه الدول الخليجية تعتقد أن دفع مصر نحو الفوضى يعني تهديدها بالتحول الى دولة فاشلة أخرى، مثل ليبيا وسوريا. وسيهدد فشل مصر كل منطقة الشرق الأوسط، ولن تستقر المنطقة لعقود طويلة.

بالنسبة لقطر، يصعب علينا فعلا فهم منطقها السياسي لبلد لا يرتبط بها نظاما وايديولوجيا ولا اقتصادا ولا يمثل فيه المصريون عندها إلا أقلية! دعمها إجبار الجيش والقوى المصرية السياسية الأخرى على تبني المطالب الإخوانية عدا عن أنه أمر مستحيل له أيضا مضاعفات خطيرة، وبالتالي دعم الإخوان حاليا يزيدهم تشبثا بمواقفهم ويتسبب في فوضى بالغة الخطورة، فلماذا تفعلها قطر إذا؟! فعلا، فعلا، لا ندري ولا نفهم.

تاريخيا، وعلى مدى نحو عشرين عاما قطر دائماً تبنت مواقف معاكسة لبقية شقيقاتها الخليجية، وجميعها انتهت كسياسة فاشلة. فقد منحت مساحة إعلامية لتنظيم القاعدة في التسعينات والسنوات التالية حتى بعد أن استهدف نشاط التنظيم السعودية والولايات المتحدة وبقية العالم. ساندت حزب الله وإيران رغم أن الحزب شارك في اغتيال قيادات لبنانية واحتل بيروت الغربية السنية. ساندت النظام السوري في لبنان، حتى عندما كان يقوم بقتل قيادات «14 آذار» واغتال رفيق الحريري. وتبنت عملية تأهيل نظام الأسد السوري لإصلاح علاقته بالغرب، خاصة في فرنسا! كما ساندت نظام العقيد معمر القذافي حتى عندما تورط في عمليات اغتيال ودعم مقاتلين ضد السعودية. والفاصل الزمني قصير بين السياستين، بالوقوف مع إيران وحزب الله والأسد والقذافي والوقف ضدهم من قبل قطر، بعد قيام الربيع العربي!

أنا واثق من أن قطر ستغير سياستها تجاه مصر لاحقا، وستضطر للتعامل مع النظام المصري القائم، لأن مصر أكبر من أن تعاديها أو حتى تتجاهلها أي دولة عربية. الوضع الآن أخطر، لان أيام حسني مبارك كان النظام أقل فعالية وأقل شعورا بالخطر مما هو عليه النظام الحالي الذي يشعر بالقلق والغضب معا.

الشرق الأوسط

خواطر شاب «إخواني» غاضب نجا من فض اعتصام رابعة

جمال خاشقجي *

أمامي صورة حبيبة أحمد عبدالعزيز، شابة طموحة كان ثمة مستقبل كبير أمامها، إذ عُرفت كصحافية جادة مبكراً، تجيد العمل بالعربية والإنكليزية، ولكن كل ذلك انتهى صباح الأربعاء الماضي بعدما أردتها رصاصة قتيلة على أحد مداخل ميدان رابعة العدوية.

ثمة صورة مؤثرة انتشرت عبر وسائط الإعلام الاجتماعي، يتردد أنها صورتها الأخيرة، ابحث عنها قبل أن تكمل قراءة المقالة وضعها أمامك. الصورة لوحة معبّرة لمناضلة مؤمنة، تجلس بثبات ومن حولها دمار وتخريب، الغاز المسيل للدموع يحيط بها، مضى كل الرجال وهي ثابتة في مكانها تؤدي ما طلب منها، تحمل في يمناها طبقاً نحاسياً تقرع به برميلاً حديدياً، زادها قنينة ماء، حجاب سابغ يلفها وعلى وجهها قناع يحميها من الغاز، ولكن لم يحمها من الرصاصة التي سرقت حياتها وهي لا تزال زهرة. من الذي أطلق الرصاصة؟ لا يهم، في الغالب إنه شرطي مصري أو قناص يطلق رصاصة بندقيته من أعلى مبنى مجاور وهو يضحك نحو «الشعب المصري الآخر» الذي يكرهه ويراه العدو.

ولكني لن أسترسل في لوم الجيش وأمن الدولة والشرطة، فهم من هم، يؤدون مثل بقية نظرائهم العرب ما يحسنون فعله وما تدربوا عليه لعقود، حماية النظام والدولة. يجب أن تبقى الدولة مهما كلف الأمر. هكذا يضخ الإعلام المصري رسالته بعدما عاد إلى «حالة» 6 حزيران (يونيو) 1967، النظام، الدولة، الزعيم.. ولا حرية أو حتى كرامة لأعداء الحرية، وإن كان مواطناً وابن عم أو زميل دراسة.

ولكني ألوم، بل أدعو لمحاسبة قادة «الإخوان المسلمين» الذين صنعوا وَهْمَ الصمود في اعتصام رابعة والنهضة، كأداة للضغط السياسي، وأداروه باستخفاف بدماء المؤمنين بالقضية. الشهادة واجبة للدفاع عن الحق، ولكن ليس لتسجيل نقاط للتفاوض القادم والمكسب السياسي. وعدوا حبيبة وآلافاً غيرها ممن قضوا عبثاً بنصر كامل في اليوم التالي. النصر ساعة صبر، هكذا وعدوهم ووزعوا عليهم المهمات، أنت تبني الساتر الترابي، أنت تأتي بالخل والماء لعلاج إصابات القنابل المسيلة للدموع، وأنتِ يا حبيبة تحذرين إخوانك بالقرع على هذا البرميل النحاسي.

طفل في العاشرة، كان يعلم أن اقتحاماً سيحصل، وأن ضحايا بالمئات سيسقطون، كان يكفيه أن يمضي ساعة يتابع فيها البرامج الحوارية على الفضائيات المصرية، الرسمية منها و «المستقلة» والتي اجتمعت على كلمة رجل واحد، تحذّر من الإرهاب والإرهابيين، الجميع يعرف بما في ذلك طفل العاشرة أن الإرهابي يُقتل، إذاً ما حصل صبيحة الأربعاء الأسود الماضي لم يكن مفاجأة. لا ينبغي أن يخرج قيادي في «الإخوان» يتهم الجيش والشرطة بالغدر. لقد أخبروك بنيتهم في تحقيق انتصار حاسم، كم مرة قلت «يجب ألا يجرونا إلى الساحة التي يجيدونها وهي العنف»؟ لقد جروك إلى العنف وانتصروا عليك بعدما تخليت عن ورقتك الأقوى، المطالبة والمغالبة والسياسة.

ستعمد الجماعة إلى استعراض قتلاها، آلاف الصور لشبان وشابات بعمر الزهور، شيوخ على محياهم التقوى وسيدات محجبات، من أجل كسب معركة الرأي العام والخروج بمظهر الضحية، ولكنها معركة خاسرة، فدماؤهم لن تحرك أحداً غير شجب لفظي ونشيج مكتوم في ليلة ظلماء لمن فقد حبيباً. لقد انتهت ثورة 25 يناير، وسقطت أهم قيمها الحرية والكرامة وحق الإنسان في الحياة. لم تعد الغالبية تضيق بانتهاك الحريات طالما أنها ليست حرياتها. لم يعد منظر الشهداء يضيرها، طالما أن الشهيد من المعسكر الآخر، ولكن ثمة فائدة أخرى من استعراض صور القتلى، هي المحاسبة، محاسبة الجيش والأمن هروباً من المسؤولية، إنما محاسبة الذات، يجب أن يكون من بين جيل رابعة، شاب شجاع يصرخ: لا نريد تهنئة بالشهادة ولو خطبة عن عرسان يرتقون للجنان، فالمعركة كانت عبثية، وكان يمكن تلافيها.

ليقف أحدهم ويكتب على لوحة ماذا خسرت الجماعة بعدما دانت لها مصر، وفوّضها أهلها خلال عام ونيف؟ خسرت السلطة التي تراها تكليفاً إلهياً بالنهوض بالمجتمع والأمة، خسرت شريحة هائلة من المجتمع المصري، خسرت توجهها الوطني وفقهها المعتدل لصالح فقه ضيق بات إرضاؤه هدفها بعدما أصابها شَرَهُ كسب الأصوات الانتخابية، خسرت شهداء، خسرت حلفاءها في الثورة، خسرت علاقاتها الإقليمية. سيقول قائل، ولكنها مؤامرات تكالبت علينا، ليرد عليه الشاب الغاضب، لا يعفيكم هذا من المسؤولية، أين حكمتكم وحسن تدبيركم؟

أتوقع أن ثمة من عاد إلى بيته مساء الأربعاء الماضي، منهكاً، مثخناً بالجراح، رأى القتل وعاشه، يبكي على إخوة قتلوا بين يديه، يقلّب في مواقع الاتصال الاجتماعي ليطمئن على آخرين، يحاول أن ينام ولكن كوابيس تلاحقه، تطارده صورة حبيبة وهي تطرق بيدها على البرميل لتحذره ولكنه يجري بعيداً عنها، بينما تثبت هي مكانها، يستيقظ على الدم يشوّه وجهها الجميل، العرق يتصبب منه، طرقات على الباب ترعبه، لقد أصبح مطارداً، لا يريد العودة إلى الحياة السرية، لا يريد العنف، ولكنه يعلم أن القيادة فقدت السيطرة أو تكاد، لا أحد يستطيع التحكم في الغضب فما جرى في رابعة كان وحشياً، ولكننا أصحاب مشروع، يخاطب نفسه، نحن لا نريد السلطة، ولا مكاسبها، هكذا تعلمنا وتربينا، يفتح التلفزيون ليجد أحد القادة يبرر إحراق الكنائس بأنه ناتج من حالة الغضب. يصرخ فيه، بل قل إننا نرفض إحراق الكنائس، توقف عن التكسب بأفعال لا تعلم من يرتكبها، مسلم غاضب، أم وحدة سرية خبيثة تابعة للأمن!

يسمع القيادي يتحدث عن عودة نظام مبارك، يتساءل الشاب بغضب وسخرية وقد طار النوم من عينيه «ألم تدرك ذلك يوم رفض الأمن حماية الرئيس في قصر الاتحادية حتى أتى المتظاهرون بونش يقلعون بابه؟».

يرمي نفسه على الكنبة الرثة، ويغمض عينيه مستمتعاً بأذان فجر حزين، يردد، الثورة لم تنتهِ، لا تزال هناك سعة طالما أن آلية الاحتكام للشعب قائمة، ستكون هناك انتخابات قادمة، لن نسمح لها بالتزوير، لا بد من جمع صف الإسلام السياسي مع القوى الثورية التي ضاعت وتشتت، لا بد من جيل جديد يقود ويتصدر المشهد ينتمي إلى اليوم وليس للماضي… ولكن لا بد من المحاسبة أولاً، محاسبة من فشل وخسر معركة الحكم ثم معركة الاعتصام، نعم هذه قاعدة عملية مفيدة لأي حركة تريد أن تنتصر. من يفشل يُبعد من القيادة.

* كاتب وإعلامي سعودي

الحياة

حرية مصر الضائعة بين انقلابين

يوسف بزي

ليس “الإخوان المسلمون” ديموقراطيين، لا فقهاً ولا سلوكاً. لكنهم احتكموا إليها، بعد الثورة المصرية، وسيلة للوصول الى السلطة. يمكن القول إنها كانت تجربة مفتوحة على احتمالات شتى، منها مماثلة النظام الإيراني أو مماثلة التجربة التركية، أو حتى تجديد النظام البطريركي في مصر بنموذجيه الساداتي والمباركي، من غير إغفال ذاك الاحتمال الباكستاني الفوضوي والمضطرب.

كان من الصعب على هذا التنظيم العقائدي، المشبع بثقافة “التقية” و”الباطنية”، والذي يتوهم ذاته كـ”فرقة ناجية”، أن يدخل الحياة السياسية بعد الثورة، مشرّعاً ذاته على هواء العلنية وتضارب الأفكار والتجارب وتداول الرأي، وتحمل مسؤولية إدارة الدولة والمجتمع والمنازعات والمطالب، متخلياً عن وهم احتكار “صحيح الدين” (والعقيدة) ووهم احتكار “صحيح الرأي” (والتدبير). والأسوأ أنه لم يتورع عن وهم احتكاره ملكية “الثورة” ذاتها.

وهو إذ أباح لنفسه إبرام صفقة سرية مع الجيش، وحسن علاقة مع الإدارة الأميركية، أو الحفاظ على عقلانية معاهدة السلام مع إسرائيل، استهجن ذلك على الآخرين ووصمهم بالخيانة والخبث والعمالة.. إلخ.

كانت غريزته الحزبية تدفعه الى أن يكون فئوياً، في اللحظة ذاتها التي حصل بها على تفويض عمومي ديموقراطي بالحكم. فئوية قائمة على عدم ثقة بمن هم خارج “الجماعة” و”العشيرة”، وتترسب فيها نظرية “الهجرة والتكفير”. وقد ترجم “الإخوان المسلمون” كل هذا في الدستور وفي تلافيف صياغته، فجعلوا النظام السياسي في مصر، قائما على توطيد كيان الجيش فوق المحاسبة والمراقبة، على ظن أن ذلك يضمن ولاء المؤسسة العسكرية لهم، ثم توطيد الجامع الأزهر كسلطة وصاية وتشريع، على ظن “التمكّن” من مشيخته وجامعته ومركز الفتوى والاجتهاد والقضاء، ثم تأصيل التمييز تجاه المسيحيين وسائر الأقليات، والتهميش تجاه المرأة وضعاف المجتمع. كان دستوراً يدعي من ناحية “الأسلمة”، ما يقوّض المواطنية. ويكرّس “الأخونة”، ما يقوّض الديموقراطية.

بدت تجربة “الإخوان” في الحكم، خصوصاً بعد إشهار الرئيس محمد مرسي إعلانه الدستوري، أنها تجنح نحو “ديموقراطية الحزب الواحد”. وكان التنظيم الإخواني يدرك أن ضمان تأبيد سلطته وإعادة إنتاجها مرة بعد أخرى “إنتخابياً” لا بد أن يكون عبر تفكيك وإعادة تركيب القضاء برمّته، وصياغة تشريعات كفيلة بـ”أخونة” الإدارة والتعليم والقضاء والاقتصاد والأمن والإعلام.. وهو ما أُطلق عليه “التطهير ثم التمكين”. واكتشف المصريون، أن برنامج “النهضة” الذي أعلنه الاخوان المسلمون وحزبهم “العدالة والحرية”، لا يعدو كونه مشروعاً سياسياً لا يخلو من مخاطر حقيقية على الحريات العامة والخاصة، ويخلّ على نحو فادح بمبدأ المساواة، ويهدد المسار الديموقراطي ويقطعه. وفاقم من سوء العلاقة مع النظام الجديد الذي بدأ بتشييده الإخوان المسلمون، سلسلة من الأخطاء السياسية اليومية ورداءة الأداء الاقتصادي والعجز المتفاقم في توفير الأمن أو في إنتاج تفاهمات سياسية وطنية. كانت نشوة “الإخوان” من سلسلة انتصاراتهم الانتخابية والاستفتائية قد أوصلتهم الى الثمالة، وظنوا أنهم هم مصر، ومصر هم. وعلى هذا الأساس تعاملوا مع كل القوى السياسية وكل مكوّنات المجتمع المصري.

كان ذلك هو خطأهم القاتل. وأغلب الظن، ما كان بمقدورهم إلا أن يقترفوا هذا الخطأ.

صنع “الإخوان المسلمون” ما لا قدرة لخصومهم على صنعه: عزلوا أنفسهم وكتّلوا أعداءهم حولهم، بمن فيهم حلفاؤهم الموضوعيون، أي التيارات الإسلامية الأخرى. ويمكن القول إن نزول واحتشاد عشرات الملايين يوم 30 حزيران (يونيو) هو من فعل “الإخوان” ورئيسهم أكثر مما هو من تدبير حركة “تمرد” أو بتصنيع من “الجيش” و”جبهة الإنقاذ”. استخفاف الإخوان بالخصوم أولاً، وبما يصنع “الرأي العام” ثانياً، وبترفعهم عن “نجاسة السياسة” ثالثاً، أخرجهم من الحكم ومن السياسة في آن واحد.

ليس مصير “الإخوان” السياسي هو محور القلق، وإن كان لا بد من صون حقهم بالوجود السياسي. لكن المقلق هو ما سببته تجربة “الإخوان” السيئة من آثار سلبية على الحياة السياسية المصرية ومستقبلها، وعلى اتجاه الثورة والطموح الديموقراطي. هذه الآثار تتوضح اليوم في النكوص المفزع نحو “شيطنة” الإخوان المسلمين، و”شيطنة” العالم الخارجي (من حماس الى تركيا الى الولايات المتحدة وأوروبا..)، ثم هذا الرواج المتجدد لإيديولوجيا شعبوية باصطفاء قائد عسكري مخلّصاً لمصر وشعبها، هو “القائد المعلم” على صورة جمال عبدالناصر، مع جنوح “نخبة” الثقافة والإعلام والاعمال والفن الى إعلاء الجيش ورجال الأمن وتفويضهم شؤون البلاد والسلطة. كما لو أن الشعب المصري “كفر” بالديموقراطية وبالسياسة وبالدستور، مسلماً قياده مجدداً لـ”قانون الطوارئ” والأحكام العرفية، مستسهلاً الحنين الى استقرار يقايض به حريته. تلك الحرية التي باتت مخيفة وصعبة.

من الواضح، أن الإخوان المسلمين انقلبوا على ثورة 25 يناير بعد نجاحاتهم الانتخابية. ومن الواضح أيضاً أن العسكر لم ينقلب على الإخوان، بل على ثورة 30 يونيو. وبين الانقلابين ما زال الشعب المصري في متاهة شوارع مدنه، ينزف دماً ويخسر حريته مجدداً.

المستقبل

مصر: من دَفَنَ الاستثناء والديمقراطية ؟

سعد محيو

حدث ما كان غير متوقع وفق كل المقاييس:

مصر الاستثناء لم تعد استثناء في أي شيء. الجيش المصري لم يعد ذلك الجيش الوطني و”التاريخي” المُغاير لتركيبة باقي الجيوش العربية. والأخوان المسلمون لم يعودوا ذلك التنظيم الحَذِر الذي يفكر ألف مرة قبل أن يقرر مجابهة الدولة، أياَ كانت هذه الدولة من الملك فاروق إلى عبد الفتاح السيسي.

بعد الاقتحام الدموي لميداني رابعة العدوية والنهضة الذي أودى بحياة الألاف، ولجت مصر فعلياً باب الحرب الأهلية من أوسع أبوابه، وأغلقت حتى أشعار آخر قد يكون مديداً كل المنافذ إلى المرحلة الانتقالية الديمقراطية. الاستقطاب الأهلي سيكون الآن سيد الموقف. والمجابهات الطائفية المسيحية – الإسلامية ستكون في أمر اليوم، كل يوم، بعد أن اتهم الإخوان المسلمون المسيحيين الأقباط بالوقوف وراء الانقلاب العسكري. والدولة العميقة المخابراتية- العسكرية لم تعد عميقة، بل عادت إلى السلطة بأقوى ما تكون العودة.

من المسؤول عن هذه المذبحة الديمقراطية، التي ربما تكون خاتمة فصول الربيع التي انبلجت في مصر وكل المنطقة العام 2011؟

المؤسسة المخابراتية- العسكرية المصرية ليست في حاجة إلى إضبارة اتهام. فهي مُدانة منذ أكثر من نصف قرن ليس فقط بتحويل مصر إلى دولة بوليسية سلطوية، بل في نشر ثقافة الاستبداد في كل المنطقة العربية. وهي، على أي حال، لم تقبل يوماً أن تُخطف منها السلطة والثروة (ثلث الاقتصاد المصري) بعد ثورة 25 يناير إلا مكرهة، بفعل الضغوط الشعبية والأميركية.

المفاجأة، إذا، لم تأت من الجيش، بل من الإخوان المسلمين. فهؤلاء غيّروا، منذ فوزهم بالرئاسة، مئة سنة من سياسة الحذر الشديد والخطوات السياسية الوئيدة المدروسة بعناية في ظل الشعار الشهير “المشاركة لا المغالبة”، وانطلقوا لارتشاف كأس السلطة بشبق غريب. إنهم كانوا كفقير مُعدم هبطت عليه فجأة ثروة ضخمة، ففقد توازنه وانخرط في فوضى قرارات لا سابق لها.

الأسباب التي دفعت الإخوان إلى هذا المنزلق، ربما تشبه نسبياً تلك التي حدثت بهم في أوائل الخمسينيات، ودفعتهم إلى  رفع لواء  النزعة القطبية (من سيد قطب) العنيفة ضد جمال عبد الناصر: شعورهم بأن هذا الأخير سرق منهم بالقوة انقلاب 23 تموز/يوليو ،1958 ولاسبيل لاستعادة المسروق إلا بقتل السارق.

الأمر نفسه تكرر الآن حين نفّذ الجيش انقلابه، لكن بشكل أخطر. لماذا؟ لأن الأخوان كانوا على اقتناع تام بأن “ماما أميركا” (هكذا كانوا يسمونها هم في عهد مرسي كتحبب رمزي) التي أبرموا معها اتفاقات مفصلة منذ العام 2005 بوساطة سعد الدين إبراهيم، تقف بقوة إلى جانبهم وإلى جانب عملية الانتقال إلى الديمقراطية.

فقدان التوازن في السلطة والرهان على أميركا، ربما يفسران رفض الأخوان لكل وأي حوار لايتضمن “عودة الشرعية والشريعة”، واندفاعهم إلى ممارسة العنف ضد المنشآت العسكرية والرسمية والكنائس في طول البلاد وعرضها. كما قد يفسّر أيضاً غياب الأصوات المعتدلة داخل التنظيم طيلة الأزمة التي انفجرت في 30 حزيران/يونيو الماضي.

من المسؤول أيضا؟

هناك متهم ثالث أكبر: إنهم اليساريون والليبراليون، الذي يفترض أنهم يمتلكون وحدهم القدرة على طرح بدائل تنموية ديمقراطية واقتصادية وفكرية وحداثية واضحة وعلمية، فإذا بهم في هذه المرحلة يبيعون جلدهم للصياد المخابراتي من دون أن يرف لهم جفن. وحده محمد البرادعي كان متسقاً مع ليبراليته وديمقراطيته، لكنه بدا بعد استقالته من نيابة الرئاسة كشاة بيضاء وسيط قطيع ليبرالي ويساري بالغ السواد والقتامة.

أجل. مصر الاستثناء سقطت. مصر الآن بعد المذبحة الديمقراطية باتت “دولة عادية”. وحين يكون الأمر على هذا النحو، لايعود غريباً أن تنشب في أول مجتمع ودولة في التاريخ، الحروب الأهلية نفسها التي تتفجَّر في أي “دولة عادية” أخرى.

  المدن

ما انتهكه «النجاح 100 في المئة»

نهلة الشهال

الإغارة على اعتصامي «الإخوان المسلمين» في القاهرة، التي قادها وزير الداخلية المصري اللواء محمد إبراهيم، كانت «ناجحة 100 بالمئة» وفق هذا الأخير: تجاوز عدد القتلى الخمسمئة بحسب صحف مثل «الغارديان» البريطانية و «لوموند» الفرنسية، فيما تجادل «الداخلية» بأن هذه أرقام «مبالغ بها» وأن عددهم لا يتجاوز، للدقة، 235 قتيلاً، كما أن عدد الجرحى لا يتجاوز الألفين بخلاف «مبالغة» «الإخوان» الذين تحدثوا عن عشرة آلاف!

وفيما يسعى هذا النقاش البائس حول «الأرقام» إلى التعمية على المسألة الفعلية، أي معنى الذي يجري وحمولته على مستقبل مصر، فهو يكشف وحشية استثنائية، لم يسبق أن ارتكبتها الدولة المصرية، على الأقل بهذا التركيز في الزمان والمكان، أي في أمكنة محصورة بحجم ساحتي رابعة العدوية والنهضة، وفي غضون ساعات، وعلى مدنيين. فلا صلة بين هذا والمجابهة مثلاً مع «الجماعة الإسلامية» المسلحة، والتي امتدت على مجمل البلاد لسنوات، بين عامي 1992 و1998.

كذلك فالأمر لا يتعلق بالأسلوب، بخلاف تزوير آخر يجري السعي إلى تمريره، مترافقاً مع جدل بليد عما إذا كان العطب هو في «الاستخدام المفرط للقوة»، وهي عبارة منمّقة، مهذبة، لقول الوحشية مجدداً، وهل إطلاق النار يجب أن يتم على الأرجل وليس الرؤوس والصدور، بينما تتكلم «الداخلية» (مجدداً!) عن توسلها إنذار المعتصمين بمكبرات صوت مع بدء تنفيذ قرار فض الاعتصامين، ثم تدرّجها في استخدام العنف، إلى أن «اضطرها» إطلاق «الإخوان» النار إلى مبادلته بمثله وأحسن.

المسألة تتعلق بصواب القرار الأصلي -أي فضّ الاعتصامين- الذي يتجاهل أن «ميدان التحرير» اكتسب صيته من اعتصام دام فيه حتى بعد سقوط مبارك، ولمدة أطول من الخمسين يوماً المستفظعة لهذين الاعتصامين… بينما تفحمت أراضي المكانين المقتحمين، مما لا يشبه الواقعة التي جرت في الصين عام 1989 وصارت واحدة من علامات التاريخ الحديث للعالم، فاستحضرتها «الغارديان» في المناسبة، معتبرة أن هذه هي «تيانانمين» المصرية.

لا يمكن فهم هذه التحويرات إلا في ضوء منظومة متكاملة تُنسج على مستويات أخرى، إعلامية وسياسية، وتقول إن «الإخوان» حالة استثنائية في المشهد السياسي: مسلحون أولاً (حتى بأسلحة ثقيلة!) وينوون ثانياً «حرق مصر»، ولديهم ثالثاً مخططات للهيمنة والأخونة والأسلمة الخ… ما يجعل التعايش معهم مستحيلاً، وهم رابعاً يأتمرون بأوامر جهات أجنبية، يُذكر منها بطلاقة تركيا وقطر، حين لا تُذكر «حماس»، علاوة على دفاع أميركا والغرب ومنظمات حقوق الإنسان العالمية عنهم، وكل ذلك يؤخذ كدلائل على الشبهة اللاحقة بهم.

لقد بُذِل جهد دؤوب ومكثف لنزع الصفات العادية عن تنظيم «الإخوان» ومجمل جمهوره، تلك التي تجعلهم جزءاً من المجتمع، ولعزلهم في وضعية مخيفة، بحيث لا يبقى سوى الاستئصال. وهذه مفردة من المُلِح أن يكون هناك جهد مقابل لجعلها مدانة تماماً في القاموس السياسي، لفاشيتها من جهة، ولفشلها من جهة ثانية كأسلوب في إدارة الخلافات، يؤدي فحسب إلى كارثة فورية في المجتمع الذي تُمارَس فيه. علاوة على ذلك، لا تبني تلك المفردة شيئاً، لا تؤسس لحالة متينة من الاجتماع السياسي، بل لتشويهات من كل صنف، وهي كارثة مستديمة.

يمكن افتراض أن العنف الفظيع في مجمل المنطقة، المصوَّر والمبثوث في صورة فورية وبلا انقطاع على شاشات التلفزة العادية و «يوتيوب» وشبكات التواصل الاجتماعي، بلا أي درجة من الحياء… شجع الجنرالات المصريين على ارتكاب مجزرتي رابعة العدوية والنهضة. فما فعلوه بسيط جداً مقارنة بمشاهد حمص وحلب وسواهما في سورية، لا سيما حين يكون المرتكب هناك هو النظام رسمياً، يرسل طائراته تغير ومدفعيته تقصف، ثم نرى دباباته تدخل مدناً مدمرة تماماً، ويرفع جنوده أيديهم بعلامة النصر: الجنون المطلق… فيما بغداد وسائر أنحاء العراق تغرق في بحر من الدماء بفضل السيارات المفخخة التي يقابلها فشل مدوٍّ لمجموعة حاكمة تمارس سلطاتها بصمَم وتعنت.

لقد تمَّ التأسيس للإلفة مع العنف الدموي المنفلت من أي حدود. فتتصرف السلطات مجدداً، وعلى هذا الصعيد، كأنها برَّانية بالنسبة إلى المجتمع الذي عليها إخضاعه بحجة القضاء على «الفئة الضالة». ويقابلها المجتمع بعنف يطلق باتجاهها من ناحية، وينهش في جسده هو، من ناحية ثانية. ولعل عقوداً من القمع والإذلال وسحق المجتمعات، والتي مارستها سلطات مستبدة، تفسر العنف الأهلي المستبطَن، والمدهش.

تؤدي تلك الآلة بمجملها إلى إرساء استقطاب ثنائي لا مكان فيه للتدرج والتلاوين ومفاهيم من قبيل التوافق الوطني وتغليب المشترك والتسويات، وهي كلها تعريف السياسة وكنهها. والاستقطاب الثنائي القاطع سائد في المنطقة على مستوى أول يتعلق بالانقسام السني-الشيعي، ثم يليه استقطاب ثنائي آخر بين الإسلاميين والعلمانيين. وفيما أظهر الإسلاميون بكل فئاتهم، بمن فيهم الأكثر حداثة، مقداراً مذهلاً من الفوات التاريخي وقلة الكفاءة، لا يضاهيهما سوى شبقهم إلى السلطة، أظهر الآخرون مقداراً مذهلاً من… الصفات ذاتها، وإن جاء التعبير عنها بمفردات ومظاهر مختلفة.

وفي المعسكر «العلماني»، يبدو اليساريون والقوميون الأكثر تخلفاً، في التحليل السياسي-الفكري والمواقف العصابية المتخذة، والاستعداد للتبعية، أي للانضواء تحت جناح الفئات والأفكار التي كانت سائدة (انظر تبرير اليساريين والقوميين في مصر لما يرتكبه العسكر، وتنظيرهم له، ومطالبتهم بالمزيد)، بينما ينجح الليبراليون أحياناً، أو بعضهم، في الحفاظ على شيء من العقلانية والتميّز، بدليل استقالة البرادعي، التي وإن لم توقف حمام الدم، فقد أطلقت نغمة مختلفة وسط حفلة السباب والدعوات إلى الاستئصال والتحريم والمزيد من القتل. ويمكن مصادفة الأمر ذاته في تونس مثلاً.

إلا أن ما يضاهي العنف وتبنّي الاستئصال أولاً، وإشاعة حالة الاستقطاب وتعميقها بلا وجل ثانياً، هو الدوس على أية مقاييس عليا وموضوعية يُفترض أنها تُبقي حيزاً مشتركاً مفتوحاً، هو منفذ الخروج من هذه الحالة حين يحين وقت الخروج، وضمانته. فمن دون ذلك يسود الاستنساب، ليجعل القتل والتنكيل محبَذاً حين يطاول الخصوم، بل تُلفّق له التبريرات. ويشيع كذب غير مسبوق، هو ملح هذا المشهد المنحط!

الحياة

مصر المسرعة نحو الهاوية

حسن شامي

قضي الأمر وغيض الماء. وقع المقدّر والمحظور. انفتحت لجة عميقة خلال فض اعتصامات «الإخوان المسلمين» بالقوة في ميدانَي رابعة العدوية في القاهرة ونهضة مصر في الجيزة. كان خط التصدع أخذ يرتسم قبل بضعة أســابيع، منذ الإعلان المحمول على مفارقة كبرى هي الانقلاب «الشرعي» على الشرعية الانتخابية للرئيس المعزول محمد مرسي. نحا الاستقطاب منحى حاداً يجعل النزاع على الســلطة أكثر من لعبة عض أصابع قد تفضي إليها تسوية ما. كان واضحاً أن الأمور تتجه نحو مواجهة مكشوفة أقرب إلى كسر العظام. لم تكن مناورات الســـلطة الانتـــقالية تكفي لحجب منطق الاستئصال العسكري ولا الاستئثار «الإخواني». هكذا، اجتمعت شروط من شأنها تعميق التصدع والسقوط في لجة المجهول. نتحدث عن لجة قد تبتلع الجميع لأن العملية الأمنية لفض الاعتصام «الإخواني» ليست سوى تسمية لائقة وشديدة التنقيح لما يمكن وصفه بمجزرة حقيقية. هذه اللجة كناية عما يسميه بعضهم، بمقدار من الاختزال والاستسهال، حرباً أهلية.

سيسود، في المدى القريب، لغط هو تعبير عن حرب تدور على الأرقام وتبادل الاتهامات والتبعات. ستواصل الحكومة الانتقالية الموقتة دورها كواجهة مدنية للعسكر فتضخ بيانات تتحدث عن التزام القوى الأمنية أعلى درجات ضبط النفس وعن حيازة المعتصمين أسلحة وذخائر تُعرض صورها على الملأ وعن مبادرة هؤلاء إلى إطلاق النار على رجال الشرطة. هذا بالطبع مع سيل اتهامات بحرق كنائس قبطية واتهامات لقياديين إسلاميين بالتحريض على القتل وتخريب الممتلكات العامة والاعتداء على مؤسسات الدولة وتهديد الأمن الوطني. وكلها ستكون قابلة للرواج قياساً إلى التباس الموقف «الإخواني» حيال الجهاديين في سيناء ومناوشاتهم الدورية مع الجيش. وسيواصل «الإخوان» تأكيدهم سلمية الاعتصام واتهام الجيش بجر البلد إلى حرب أهلية، بل حتى بحرق جثث لإخفاء العدد الحقيقي للضحايا استناداً إلى حرائق اشتعلت هنا وهناك وبثت صورها شاشات التلفزة ما يذكر بحرائق عرفها تاريخ مصر السياسي الحديث وبينها حريق الإسكندرية عشية الاحتلال البريطاني لمصر ومن ثم حريق القاهرة في أربعينات القرن العشرين، وكل اللغط الذي دار حول الجهة الفعلية المسؤولة عن افتعاله. والحال أن المخيلة السياسية المصرية تعج بروايات لا تعوزها الواقعية عن مكائد وألاعيب وصناعة مشبوهة لحوادث واشتباكات قد لا تكون شخصية حبيب العادلي أولاها أو الأخيرة.

وهذا كله لن يغير شيئاً ولن يرأب صدعاً في الشرخ الآخذ في الاتساع بل نرجح أن تساهم حرب الأرقام والمواقف في توسيع الهوة التي شرعت تختزن عنفاً غير مسبوق لا يعلم مفاعيله أحد. يكفي أن نلتفت إلى الارتفاع المدوي في عدد الضحايا كما أعلنته وزارة الصحة المصرية. ففي غضون ساعات ارتفع هذا العدد أربعة أضعاف تقريباً وبلغ موقتاً قرابة ستمئة قتيل وثلاثة آلاف من الجرحى والمصابين. وهذا الارتفاع المضطرد يعزز رواية «الإخوان» المتحدثة عن أكثر من ألفي قتيل ويمنحها بعض الصدقية. سقط بالطبع عشرات القتلى من ضباط وعناصر القوات الأمنية وشيّعهم الآلاف من الأهالي ومن الناقمين على «الإخوان» وعلى «الإسلام السياسي» عموماً. لن نصدق أن إخلاء ساحات الاعتصام وإعلان حال الطوارئ وحظر التجول من المساء حتى الصباح في معظم محافظات البلاد وعودة الهدوء النسبي إلى شوارع المدن الكبرى، هي إمارات على بداية خروج من الأزمة. ولن نصدق أن التنديد الدولي بالقمع، وهو تنديد خجول وملتبس في بعض الأحيان، سيفعل شيئاً غير تدوير زوايا مواقف تبدو ساذجة ومترددة بسبب حجم الرهانات المعقودة على مآل المشهد المصري وتجاذباته العصية على الاحتواء السهل. من الأفضل أن نتوقف عند اعتراف قيادة «الإخوان» والمدافعين عن الشرعية الانتخابية بأن حزبهم تلقى ضربة قاسية وأنهم فقدوا التنسيق المركزي وبات الغضب خارجاً عن السيطرة. قد لا يكون هذا الكلام مجرد تهويل أو تهديد بل يحتمل التدليل على انزلاق قواعد «إخوانية» وإسلامية نحو جذرية عنيفة، كما يستدل من عدد من الحوادث في مدن ومن استهداف الكنائس القبطية والمنشآت الحكومية. ينبغي التوقف أيضاً عند بيان استقالة محمد البرادعي من منصبه كنائب رئيس للشؤون الدولية. فبيان استقالته يليق بمستخرجي العِبَر الأخلاقية من التجارب التاريخية القاسية مما يظهره في وضعية التائب والمتعظ الذي اكتشف أنه كان مخدوعاً أو ورقة للاستعمال. فهو أعلن بعد المجزرة أنه لا يستطيع تحميل ذمته كل هذه الدماء وأنه كانت هناك فرص لتسوية سياسية ينشدها لكنها تبددت.

دعوة «الإخوان» إلى التظاهر بالتزامن مع دعوة مقابلة ومضادة تزيد خطورة الوضع فيما كان مستبعداً توصُّل مجلس الأمن في جلسته الطارئة والمخصصة لبحث المسألة المصرية إلى صيغة حل تتعدى الدعوات الطيبة لرفع حالة الطوارئ والشروع في عملية مصالحة وطنية لتفادي الحرب الأهلية. وقد اكتفى الرئيس الأميركي بالإعلان عن إلغاء المناورات العسكرية المشتركة بين قوات بلده والقوات المصرية المقررة الشهر المقبل مع تشديده على أن بلاده لا تنحاز إلى طرف أو شخصية بعينهما في مصر. في المقابل يأتي طلب الإدارة الأميركية من رعاياها مغادرة مصر مؤشراً إضافياً إلى خطورة الوضع واحتمال انزلاقه نحو فوضى شاملة. وإذا سقط أطراف النزاع في هوة حرب أهلية يلوح شبــحها أكثر فأكثر، فهذه ستأخذ وجهاً أقرب إلى الحالة الإســبانية في الثلاثينات منها إلى صورة الحروب والنزاعات الأهلية المعهودة في المشرق العربي، أو التي شهدتها الجزائر قبل عقدين وما زالت تتخبط بهذا المقدار أو ذاك في مفاعيلها. ففي بلد متجانس مثل مصر، إذا وضعنا جانباً حالة المسيحيين الأقباط، وتوارث تقاليد دولة مركزية وهويات اجتماعية وسكنية، يمكن الاستقطاب الأيديولوجي العريض أن يلعب الدور الذي تلعبه الانقسامات العمودية، الإتنية والطائفية والمذهبية، في بلدان أخرى عربية. وسيكون الموقف من الإسلام السياسي وأهليته للحكم عنوان الاستقطاب العريض. وليس مستبعداً أن نشهد تبدلات في المواقف والاصطفافات بحيث يمكن أن تتوسع قاعدة الإسلام السياسي وتختلط مع الإسلام الثقافي والشعبي. ولن يكون البرادعي آخر المنسحبين من المعسكر المدني للعسكر.

الحياة

ماركس و«الإخوان» والليبراليون

خالد الدخيل *

في 25 كانون الثاني (يناير) 2011 كانت هناك ثورة شعبية في مصر شاركت فيها كل القوى الشعبية والسياسية. حتى الجيش تهيّب المشهد، فنأى بنفسه عن النظام السياسي، ما أرغم رئيسه حسني مبارك على التنحي. في 3 تموز (يوليو) 2013، أي بعد أكثر من عامين ونصف، حصلت ثورة مضادة بقيادة الجيش نفسه، الممثل الأول والأقوى للنظام القديم الذي قامت ضده الثورة الأولى. عادت صورالنظام القديم ورموزه إلى المشهد: عبدالفتاح السيسي يخطب ببزته العسكرية ونظارته الشمسية، وصور عبدالناصر والسادات بدأت في الانتشار، ومعها عادت الأغاني الوطنية لمرحلتهما. وأكثر ما يعبر عن طبيعة حركة الجيش هو الاحتفال بها من خلال العودة إلى الخطاب الإعلامي لما قبل الثورة. المسؤول التلفزيوني السابق في عهد حسني مبارك عبداللطيف المناوي قدم في «المصري اليوم» نموذجاً من نماذج كثيرة على ذلك عندما وصف عزل الجيش الرئيس محمد مرسي بأنه يماثل «النصر» الذي حققته مصر في حرب أكتوبر. مماثلة تستدعي ماضي النظام القديم للتعبير عن موقف في اللحظة الحاضرة.

الثورات ظاهرة سياسية معروفة، وكذلك الثورات المضادة. هدف الأولى هو التغيير. وهدف الثانية وقف هذا التغيير، أو على الأقل ضبط وجهته والسيطرة عليه. كيف حصل ذلك في مصر؟ حصل لعوامل ثلاثة: خوف القوى المدنية من حكم «الإخوان»، وفشل «الإخوان» في إدارة الحكم، والعامل الثالث والأكثر أهمية من خوف القوى المدنية هو قلق المؤسسة العسكرية من حكم «الإخوان».

كان خوف القوى المدنية من حكم «الإخوان» واضحاً منذ الأيام الأولى للثورة. «الإخوان» هم القوة السياسية الأكثر تنظيماً وشعبية. لا ينافس «الإخوان» في القوة المادية والقاعدة الشعبية إلا الجيش، وهذا بحد ذاته معبر عن المآل الذي انتهت إليه العملية السياسية في مصر. خوف القوى المدنية هنا مبرر ولكنه مبالغ فيه، وتحول مع الأحداث إلى حال كراهية غير مسبوقة. وللدقة فإن حال الكراهية ليست جديدة، بل يبدو كما لو أنها أصبحت سمة للثقافة السياسية في مصر، وبالتالي تشمل «جماعة الإخوان» أنفسهم. لم تكن القوى المدنية تخشى فوز «الإخوان» في الانتخابات فحسب، بل كانت تخشى أن ينتهي ذلك إلى سيطرتهم الكاملة على الدولة. ولم يقدم «الإخوان» عندما فازوا ما يطمئن هذه المخاوف. لم يتصرفوا بطريقة سياسية مع مكتسباتهم ومع منافسيهم، ولم يحاولوا كسب أطراف خارج دائرة أتباعهم. على العكس، تصرفوا بطريقة استحواذية أو موحية بأنها تأخذ هذا المنحى، وما زاد الأمر سوءاً أن الثقة كانت معدومة بين الطرفين منذ البداية. لا يبدو أنه كان هناك حوار أو تواصل بينهما، لا قبل الثورة ولا بعدها، فظل الخوف والشك وانعدام الثقة عوامل محركة للعلاقة بين الطرفين. عندما فاز «الإخوان» في الانتخابات البرلمانية والرئاسية معاً وصلت حال الخوف لدى القوى المدنية إلى ذروتها، وهو ما يفسر حال الانتشاء الهستيرية التي أصابت مقدمي البرامج السياسية على الفضائيات المصرية الخاصة ليل أعلن الفريق السيسي عزل الرئيس مرسي.

وكانت المؤسسة العسكرية تراقب سلوك «الإخوان» في الحكم، وسلوك معارضيهم. تاريخ العلاقة بين الجيش و «الإخوان» مليء بالمخاوف وعدم الثقة، وبالسجون والدم أيضاً. و «الإخوان» هم المنافس الوحيد للجيش على الشارع. سلوك هذا الجيش مع الرئيس السابق حسني مبارك في لحظته الصعبة، واختلافه عن سلوك الجيش مع الرئيس مرسي في لحظته الصعبة أيضاً، يختصر موقف هذه المؤسسة من الأحداث ومن الأشخاص وما يرمزون إليه. لم يعزل الجيش مبارك على رغم الإجماع الشعبي على ذلك، وعلى رغم أنه أمضى في الحكم 30 عاماً، وكان متهماً بأنه يرتب لتوريث ابنه الحكم. هنا، يمكن القول إن الجيش التزم بدوره الدستوري وبالإجراءات الدستورية، لكن هذا الجيش أسرع في حال انقسام شعبي إلى تجاوز كل الإجراءات الدستورية، وعزل أول رئيس منتخب لم يمض عليه في الحكم إلا عام واحد، وما دفع الجيش إلى ذلك هو قلقه من أن إطلاق يد «الإخوان» في الحكم يمثل تهديداً للمؤسسة العسكرية ولموقعها في الدولة، ولمكتسبات سياسية ورمزية راكمتها على مدى أكثر من 60 عاماً، جعلت منها طبقة حاكمة يأتي منها رؤساء الجمهورية ومحافظون ووزراء، وتملك ما لا يقل عن 30 في المئة من اقتصاد مصر. الجيش هنا حصد ثمار مخاوف القوى المدنية، واستخدمها كغطاء لتمرير ثورة مضادة ليس فقط ضد «الإخوان»، بل ربما ضد من كانوا يخافون من حكم «الإخوان»، ولا يستبعد أن الطموح السياسي للفريق السيسي كان من العوامل التي شجعت الجيش على الانقلاب.

هل إن تضافر مخاوف الجيش والقوى المدنية يبرر عزل رئيس منتخب؟ في المقابل: هل إن عزل رئيس «إخواني» يغطي فشل «الإخوان» في الحكم؟ لم يعد هناك مجال للشك في أن «الإخوان» فشلوا في إدارة الحكم بعدما وصلوا إليه، وإذا عرفنا أن السيسي قائد الانقلاب ومعاونه وزير الداخلية، هما من الوزراء الذين عينهم الرئيس المعزول مرسي، فيبرز في هذه الحال سؤال: لماذا وكيف حصل ذلك؟ هل خان الوزيران رئيسهما؟ أم إن الرئيس فشل في احتوائهما وكسبِ ولائهما؟ ومع أن حصول الانقلاب واعتقال الرئيس، ثم اتساع نطاق الاعتقالات لقيادات «الإخوان» يرجح الخيار الأول، إلا أن هذا لا يعفي «الإخوان» من مسؤولية ما حصل.

يعرف «الإخوان» الدولة المصرية جيداً، أو هكذا يفترض. عاصروا هذه الدولة وعارضوها في مرحلتيها الملكية والجمهورية، وخاضوا معها معارك سياسية وقانونية طوال ثمانية عقود. على هذا الأساس يعرف «الإخوان» أو يفترض أن يعرفوا من الذي يمكن أن يتفقوا معهم ومن يختلفون معهم، وبالتالي يعرفون علاقتهم مع، وموقعهم من هذه الدولة ومن مكوناتها. وهذه المعرفة تقتضي إدارة رشيدة، وممارسة سياسية حكيمة ومنفتحة، بخاصة في لحظة ثورية حرجة، لكن هذا ما افتقده «الإخوان»، ومع ذلك وحتى لو افترضنا صحة كل ما يقال عن «الإخوان» أثناء فترة حكمهم، فإنه لا يبرر بأي شكل عزل الرئيس خارج الأطر والإجراءات الدستورية. إذا كانت هناك مسوغات دستورية تقتضي عزل الرئيس أو تحجيم صلاحياته، فكان يجب وجوباً أن يتم ذلك بإجراءات دستورية. لا يجوز أن تتهم الرئيس انطلاقاً من الدستور ثم تعزله خارج إطار هذا الدستور. وكلاهما – عزل الرئيس أو تحجيم صلاحياته – دستورياً كان في المتناول. لكن الجيش كان قرر الانقلاب على الثورة، أو ثورة مضادة لا تتسع للإجراءات الدستورية، ولتفادي تلك الإجراءات كان لا بد من تعطيل الدستور.

في هذا السياق كتبت شيري بيرمان في صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية مقالة قارنت فيها بين سلوك الليبراليين المصريين مع سلوك نظرائهم الفرنسيين في ظرف ثوري مشابه، مع الاختلاف طبعاً. تنطلق بيرمان من مقولة لماركس في أحد أشهر نصوص التحليل السياسي له «الـ18 من برومير»، وهو كتاب عن الانقلاب العسكري عام 1852 على ثورة شعبية عام 1848 في فرنسا، ومقارنة ذلك بالانقلاب الذي حصل في 1799، وفي فرنسا أيضاً على ثورة 1789. يقول ماركس في هذا النص إن التاريخ يعيد نفسه بطريقتين: مأسوية أو هزلية تبعث على السخرية. في حال مصر أعاد التاريخ نفسه بالطريقة الأولى المأسوية. من حيث الشكل وتسلسل الأحداث يتشابه ما حصل للثورة المصرية بين 25 يناير 2011، و3 يوليو 2013 مع ما حصل للثورة الفرنسية ما بين أيار (مايو) 1848، وأيار 1852. في 1848 حصلت ثورة شعبية تحالفت فيها مختلف القوى والتيارات في المجتمع لإطاحة النظام القديم. خاف الليبراليون والديموقراطيون من سيطرة الطبقة العاملة وحلفائها اليساريين على الدولة، لذلك تحالفوا مع لويس بونابرت ابن أخي الشهير نابليون بونابرت في تنفيذ انقلاب على الثورة. في مصر حصل الشيء نفسه تقريباً. كانت الثورة الشعبية في 2011 ثم الانقسام بعد ذلك وخوف القوى المدنية من سيطرة «الإخوان»، وتحالفهم بسبب ذلك في تنفيذ الانقلاب على الثورة. تقول بيرمان: «نعرف أنه بعد قرن من 1848 التقى أخيراً الديموقراطيون الاجتماعيون والليبراليون والمحافظون (والاشتراكيون) على المشاركة في نظام ديموقراطي متين يتسع للجميع. هل يستفيد المصريون من التجربة الأوروبية؟ أم يعيدون ارتكاب أخطائها؟

* كاتب وأكاديمي سعودي

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى