مقالات تناولت مسألة اللاجئين السوريين
قصص من مخيّم اللاجئين السوريين في جيلان بينار/ عارف حمزة
لا نهر صغير يبكي على ضفته الغرباء
جنوب تركيا
المسافة من مدينة “قزلتبة” التركيّة إلى جيلان بينار “رأس العين التركية” مريحة، وتستغرق أقل من ساعة لقطع الـ90 كيلومتراً التي تفصل بينهما. بينما الثلاثون كيلومتراً من جيلان بينار إلى المخيم تستغرق أكثر من ساعتين؛ لأن الطريق مكسّرة وصخريّة وغير معبّدة. طوال طوافي في تركيا كانت هذه الطريق الوحيدة غير المعبّدة فيها. وهي الطريق الواصلة إلى السورييّن الناجين من القصف، والهاربين في الشاحنات الكبيرة إلى مخيم اللجوء في تركيّا.
الطريق مفروشة بالحصى الأبيض المكسّر على طبقة رقيقة من الكلس الحجري. لذلك تحوّل لون السيّارة الزرقاء، التي يملكها كفيلنا التركيّ، إلى اللون الأبيض المتّسخ بالبني الخفيف. ولذلك أيضاً بدت السماء محجوبة بطبقة سميكة من الغبار الأبيض. ولنكتشف، في داخل المخيم، احتلال ذلك الغبار الأبيض لشعر الناس وأسنانهم.
نزلنا عند الباب الكبير الوحيد الذي يفتح بطن المخيم على الصحراء، فوجدنا شباناً يحملون أكياساً كبيرة على ظهورهم، ليضعوها فوق سيارة النقل التركيّة، ويغادروا، مع نساءهم وأطفالهم المغبرّين، إلى خارج المخيّم. ثم غادرت سيارة نقل أخرى تحمل بعضاً من الشبّان اللاجئين، مع عائلاتهم إن وجدت، إلى خارج المخيم. وعرفنا بأنّ تجّار البناء في تركيا، وكذلك المزارعين الكبار والمقاولين، هم من الزائرين الدائمين للمخيم؛ من أجل انتقاء الشبّان ذوي البنية الجيّدة، لتشغيلهم في أعمال البناء المجهدة أو قطف الخضروات والفواكه، لقاء أجور تعادل أقل من نصف ما يتقاضاه العامل التركي! ثمّ يعودون إلى المخيم ويأخذون مستحقاتهم التي كانوا يأخذونها فيه؟ سألت الضابط التركي “ميمت” المسؤول عن أمن المخيم. لا. من يخرج لا يحقّ له العودة. أجابني.
وإذا انتهت أعمالهم المجهدة تلك، أو طردهم ربّ العمل التركيّ، إلى أين سيذهبون؟. فأجابني: أرض تركيا واسعة. وأوراق اللجوء معهم، فلا أحد يستطيع طردهم من تركيا، إلا إذا ارتكبوا أفعالاً تعتبر جرائم من وجهة نظر القانون التركي.
هل حدثتموهم عن حقوقهم وواجباتهم على الأراضي التركيّة؟ سألته. فأجاب: لقد حدثناهم عن واجباتهم، وما هو ممنوع هنا.
خطرت في بالي فكرة “الرق” البغيضة، ثم محوتها بسرعة؛ لأنّ الأتراك يحبّون السورييّن، ومعاملتهم تختلف عن كل أماكن اللجوء في دول الجوار، مثلما ظلّ الأصدقاء السوريّون، الذين لم يعيشوا في المخيم يوماً واحداً، يؤكّدون لي هنا.
في داخل “القمب”، المخيم باللغة التركية، كانت هناك جموع وصلت للتو هرباً من الحرب الطاحنة في القرى المحيطة بمدينة رأس العين السوريّة، من قرية “علوك”، بثيابهم الليليّة الفقيرة، بأحذيتهم وأقدامهم المتشقّقة. بتعب الفرار والنجاة. كانوا يعرفون مَن الذي نجا من قريتهم بوصول الدفعات الجديدة، وكل من لن يصل سيقرأ الباقون عليه الفاتحة كشخص ميّت لا محالة. “بيوتنا صارت رماداً”.
قال لي عبد المحسن، الشاب النحيل الأسمر ببنطاله الممزق عند الركبتين، وهو يحمل رضيعاً بدا وكأنّه تمّ انتشاله من الأنقاض قبل دخول المخيم بقليل. “لم نستطع حمل أي شيء سوى أطفالنا. نحن فقراء في الأصل، ولا نملك في هذه الدنيا سوى ذلك المنزل الذي ضاع”.
المخيم مسيّج بشكل ممتاز، فلا يمكن سوى للأفاعي والزواحف فقط أن تتسلّل إلى خيام اللاجئين كما حدث لعشرات المرّات. كما أن الكهرباء متوافرة بشكل جيد. مع خيمة كبيرة فيها آلات غسيل كثيرة ليستخدمها اللاجئون.
لا أدري لحدّ الآن مَن الذي اختار هذه الصحراء القاحلة كي تكون ملجأ للسورييّن الناجين من الحرب؟. الحرارة مرتفعة جداً هنا، تصل لأكثر من 45 درجة عند الظهيرة، وتجعل الثياب المنشورة على حبل الغسيل، الممتدّ بين الخيام وداخلها، تجفّ خلال دقائق معدودة. لا مكيّفات داخل الخيم التي تغلي. وبمجرّد أن تفتح باب الخيمة تلفح وجهك تلك الصحراء بحقيقتها الحارّة. لا يوجد تكييّف سوى في أماكن وجود الأتراك؛ في خيمة التسجيل والنقطة الطبيّة والنقاط الأمنيّة والإدارة، ولذلك يحمل أحدهم طفله إلى إحدى تلك الخيم المكيّفة فقط لتبريده قبل أن تندلع في طفله النيران! ولأنّها صحراء، فليكن الله في عون سكّان المخيم مع وصول الشتاء.
هناك خيمة للعازبين. بينما باقي الخيم هي للعائلات المكدّسة فوق بعضها. والمخيم الذي كان عليه استيعاب /12000/ لاجئ، صار يستوعب ضعف هذا الرقم وأكثر. وهذا ما جعل عائلات كثيرة تعود أدراجها إلى الريف السوري الملاصق للحدود، والذي يسيطر عليه الجيش السوريّ الحرّ.
تعتبر الحكومة التركيّة اللاجئين السورييّن “ضيوفاً” وليسوا لاجئين. هي جملة عاطفيّة مكتوبة في كلّ مكان يُعنى بأمور الضيوف السورييّن. وهناك تأمين صحيّ لكافة السورييّن المسجّلين كضيوف في هذا البلد. رغم أنّ رغبة أحدهم في العودة إلى بلده، من خلال تسليم نفسه إلى مخافر الحدود التركيّة، تحوّله إلى مجرم بأخذ بصماته وتصويره من كل الجوانب، وهو يحمل لوحة تحمل أرقام المجرمين قبل أن يدخلوا السجون! وهذا ما يحصل عند التسجيل في المخيم، ولكن من دون حمل تلك اللوحة.
الكثير من الأتراك لا يحبّون السورييّن. علينا الاعتراف بذلك. فهم لا يؤجّرون بيوتهم للسورييّن. وإذا أجّروها للسوريّ فعليه أن يدفع مبالغ طائلة، مع تأمين ماليّ كبير، وبوجود كفيل تركيّ. فالبيوت التي كان إيجارها مائتا ليرة تركية صارت للسورييّن بستمائة ليرة تركية، الدولار يساوي ليرتين تركيّتين، وعلى المستأجر أن يدفع مقابل استخدام الكهرباء التي تعتبر مرتفعة الثمن في تركيّا، وكذلك الماء. وربّ العمل التركيّ لا يُعطي للعمال السورييّن سوى القليل، مع عدم تسجيلهم في دوائر العمل، وعدم وجود تأمين لهم. كما أنّ غالبية الأتراك، الذين يُعتبر المال هو دينهم الأول، صاروا يؤلّفون قصصاً خياليّة عن السورييّن، وكلّها مسيئة لهم، رغم أنّ كلّ السورييّن لم يقوموا بذلك. وإن قيام أشخاص قليلين ببعض الأفعال يجب أن لا يسحب ذلك السوء على كلّ السورييّن الذين هربوا طلباً للحياة، وليس للتندّر عليهم.
عشرات الآلاف من السورييّن عادوا من المخيّمات التركيّة إلى الداخل السوريّ، وفق اعتراف الحكومة التركيّة نفسها. كما أن المئات منهم تمّ الاحتيال عليهم، أو سرقة أموال منهم، من قبل المهرّبين الأتراك الذين وعدوهم بتسفيرهم إلى الدول الأوروبيّة، لقاء مبالغ تصل إلى عشرة آلاف يورو للشخص الواحد، فيما عدا الذين لقوا حتفهم في بواخر منتهية الصلاحيّة.
تذكرت روايات وقصص الأدب الروسي وأنا في الطريق إلى جيلان بينار. إنها “سيبيريا” التركيّة.
قلتُ في قلبي؛ إذ أقرب نقطة حضريّة لهذا المكان تبعد عنه عشرات الكيلومترات، وقبلها توجد المحميّة الطبيعيّة، التي لا يجوز للناس المجيء إليها. المخيم يقع بعد حديقة الحيوانات الطبيعيّة تلك. آلمتني هذه الجملة كثيراً. الناجون من الحرب الدمويّة هربوا من مدنهم المدمّرة، ليعيشوها في المعتقل الصحراويّ الأبديّ هنا! لا حدائق. لا أسواق. لا يوجد نهر صغير يبكي على ضفته هؤلاء الغرباء. ولكن هناك طعام ومعلبات. وكأنّ الناس هربت من الجوع وليس من الموت.
كل شيء أبيض حولهم مثل ملاءات المستشفيات، وأكفان الموتى. وكنتُ أفكّر عندما حصلت حالة من الشجار أدّت لجرح ثلاثة أشخاص، وعندما حصل حريق في إحدى الخيم مات جرّائه الأطفال الأشقاء الستة متأثّرين بحروقهم، بأنّ النقطة الطبية الموجودة داخل المخيم هي للتلقيح والتطعيم، وللإسعافات الأوليّة البسيطة، بينما في الحالات التي ذكرناها، وما شابهها، فعلى سيارة الإسعاف أن تنقل الجرحى إلى المقبرة مباشرة.
المستقبل
من الموت قصفاً ورصاصاً إلى الغرق في البحر
“تايتانيك” المصير السوري
عمر كوش
تتعدد وجوه الموت السوري وطرقه، ما بين أكثر من مئة وخمسين ألف شهيد قضوا، نتيجة قصف قوات النظام الأسدي لغالبية السوريين بصواريخ وبراميل الطائرت الحربية، وقذائف الدبابات والراجمات والرشاشات، والأسلحة الكيمياوية، وبين من قتلتهم عصابات الشبيحة وميليشيات حزب الله والميليشيات الإيرانية والعراقية وسواها، ومؤخراً باتت “داعش”، وأمثالها، تقتل كل من يرفض دولتها، أو لا ينسجم مع إماراتها الإسلامية المزعومة.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أصبح العديد من السوريين، يفقدون حياتهم، نتيجة حوادث غرق مراكب اللاجئين السوريين في مياه البحر البيض المتوسط، التي باتت تتكرر بصورة لافتة، خلال الأيام والأسابيع الماضية، إذ يكاد لا يمر يوم، أو يومان، حتى يلقى العشرات أو المئات حتفهم غرقًا على متن أحد المراكب، التي تنقلهم من شواطئ مصر، أو ليبيا، أو سواهما، إلى شواطئ إحدى بلدان المتوسط الأوروبية، وذلك بعد أن لجأوا إلى بلدان، أجبروا على تركها، بسبب المضايقات التي يتعرضون لها، وخاصة في مصر، وزاد في تفاهم الأمر إعلان سبعة عشر دولة أوروبية عن استعدادها لإيواء قرابة 10 آلاف لاجئ سوري.
وباتت المأساة الإنسانية السورية، التي سببها تعامل النظام السوري مع غالبية شعبه، معروفة الفصول والوقائع، وليست بحاجة إلى جهد كبير لاكتشاف مختلف جوانبها، فهي تتجسد في الموت اليومي، الذي تسببه الحرب الشاملة والقذرة، التي يشنها النظام على المناطق الثائرة، وعلى الحاضة الاجتماعية للثورة السورية، وتتجسد أيضاً في أضخم حركة هجرة في العالم منذ عقود عديدة، حيث اضطر أكثر من سبعة ملايين سوري إلى النزوح داخل بلادهم. وهذا العدد يشكل ثلث السكان تقريباً، فيما لجأ نحو ثلاثة ملايين سوري إلى خارج بلادهم. وبحسب المفوضية العليا للاجئين، فإن نحو 97 في المئة من هؤلاء استقروا في دول الجوار، حيث دخل لبنان العدد الأكبر من اللاجئين السوريين، أي نحو 760 ألفاً حسب المفوضية، فيما يتحدث مسؤولون لبنانيون عن وجود 1,3 مليون سوري في لبنان، مع حساب غير المسجلين كلاجئين. ولجأ 549 ألف سوري إلى الأردن، وأكثر من 500 ألف إلى تركيا، ونحو 190 ألفاً إلى العراق. وتوزع نحو 50 ألف سوري إلى اللجوء في دول الاتحاد الأوروبي وسواها، منذ بداية الثورة السورية.
لقد بات السوريون عالقين ما بين الموت تحت القصف، أو المجازر، أو بسبب التجويع والحصار، أو غرقاً في تايتانيكات البحر الأبيض المتوسط، وتحت أعين العالم، ووسط صمت المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية، الأمر الذي يكشف هول الكارثة السورية، وما تتضمنه من أهوال وعذابات، بعدما أضحت قطاعات واسعة السوريين، من دون أي مأوى يأويهم، أو مورد يرزقهم. إنهم في غالبيتهم صاروا، إما نازحين في بلدهم أو لاجئين في بلاد أخرى.
والملفت في وجوه الكارثة السورية، هي أن الموت غرقاً في البحر المتوسط لا يخلّف دماء أو جراحاً، ولا مشاهد فيديو تلتقطها عدسات الهواة، وتتناقلها قنوات التلفزة. ويتم من دون اشتعال نيران أو تهدم ودمار بيوت ومحلات، إذ يموت الغرقى بلا كثير من الضجج، وهم محاطون بالمياه من كل حدب وصوب. وتبدو أجسادهم الهزيلة، عاجزة، وصغيرة جداً أمام أهوال بحر واسع وعميق، كان غالبية السوريون ينظرون إليه عن بعد، بهيبة وتوجس، ولا يتصورون وجود يابسة وراءه، ما دامت يابستهم كانت تقيهم على الأقل مخاطر ركوب مركب غير آمن.
وبالرغم من كل ذلك، لن تثني حوادث غرق مئات السوريين في البحر الأبيض المتوسط، غيرهم ممن ينتظر فرصته في السفر، فضلاً عن الابتزاز، الذي يتعرضون له، من طرف تجار الموت وأصحاب المراكب، ولا ننسى علاقات بعض الوسطاء، والمقاولين والمتاجرين بالبشر، بالمافيات الأوروبية والعربية، أولئك الذين يستغلون حاجة اللاجئ السوري إلى ملاذ آمن، يقيه شرّ الضغوطات والمضايقات الأمنية، التي يتعرض لها اللاجئ السوري في بعض دول اللجوء، وخصوصاً في مصر ولبنان وسواهما، وتجعله يدفع ما لديه من مال، كي يتحول من لاجئ إلى مهاجر “غير شرعي”، يركب البحر، مودعاً الاسكندرية وغيرها، ويتجه نحو سواحل إيطاليا، أملاً بالذهاب إلى بلد لجوء جديد، وربما نحو الموت المحتوم.
لا أحد سيرثي مأساة التايتانيك السوري، سوى قلة من أصحاب الضمير الحي، بينما سبّب غرق سفينة التايتانيك التاريخية، قبل مئة وعام، قصصاً وحكايات، وأثار تعاطف الملايين من العالم، واتخذت تدابير واحتياطات وقوانين رادعة، كي لا تتمرر المأساة، فيما تستمر المأساة الإنسانية السورية، وتتفاقم يوماً بعد آخر، أمام لا مبالاة ساسة القوى الفاعلة في العالم، بل وهناك ساسة روس وإيرانيون وحزب اللهيين من يرسل قتلة مأجورين وأسلحة، كي يقتلوا المزيد من السوريين، ويدمروا أماكن سكانهم وعيشهم.
ولن يكون الناجي من الموت أفضل حالاً من رفيقه الذي مات غرقاً، إذ سيُحجز في أمكان تجمع المهاجرين غير الشرعيين، وستشهد أماكن الاحتجاز ذاتها، لعبة الإقصاء نفسها، التي مارسها النظام الأسدي ضدهم عقوداً طويلة. وستظهر سفن موت أخرى في عرض المتوسط وطوله، لكن موتهم لن يحولهم إلى إحدى الأساطير الروائية أو الهجائية، ولن يكونوا ركاب سفينة غريبة جانحة، بل مليئة بالبائسين، تتقاذفها أمواج، وتترصدها حيتان البحر المتوسط، ورصاص القراصنة، وعصابات التهريب.
التايتانيك السوري، هي سفينة أو مركب من نوع خاص، يحتضن بشراً، بوصفهم مشاريع موتى، أو بالأحرى مجموعة بائسين ينشدون حياة أفضل، وهاربين من موت محقق في بلدهم إلى موت آخر، منتظر، ومن اضطهاد الاستبداد إلى اضطهاد جديد، ولن يكون الناجون من الموت الجسدي أفضل حالاً ممن ماتوا قبلهم، فلا أمكان جديدة للعيش الذي يحلمون به، بل سيطردون من جنة البلاد الأوروبية التي سكنت أذهانهم طويلاً، وسيشحنون من جديد، على ظهر سفن الاقصاء والاستبعاد والعنصرية.
إنها تايتانيك الموت السوري. لم تصنعها حقائق التاريخ والممارسات الفعلية، بل صنعتها حاجات الهروب من موت إلى موت، وأمل في حياة أفضل لن يكتب له التحقق، إذ سرعان ما سيكتشف الذين نجوا ووصلوا بر الأمان، أنهم في جحيم أوروبا، وينتهي الأمر بهم وراء جدران مأوى للمهاجرين غير الشرعيين في فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا، حيث ينتظرهم النازيون الجدد في كل زاوية وشارع. وسيدركون حدود “العالم الحر”، ذلك العالم “السعيد”، المليء بالصور والاستيهامات، والمليء أيضاً بأشكال النبذ والإقصاء وسفن الموتى، التي تتمايل كما يفعل الموج والزبد المنكسر على الشطآن، ولن تكون نهاياتها سوى بدايات متجدّدة، فكل مرفأ يصلون إليه لن يكون سوى محطة للسير نحو محطات أخرى، في رحلة لا تنتهي. لذلك على السوري، بوصفه مهاجراً غير شرعي، أن يسلم أمره للبحر ذي الأذرع المتعددة، وإلى الماء ذي السبل المبهمة، وهو يسلّم، بذلك، نفسه إلى عالم اللايقين، الموجود خارج كل شيء. إنه مسجون ضمن السبل الأقل حرية والأقل انفتاحاً، فهو موثوق بشدة إلى الملتقيات المحكمة الإغلاق.
لقد فقدت تايتانيكات الموت السوري نقطة الإرساء النهائية، بعد أن حوّل النظام الأسدي الموت السوري إلى قدر سيزيفي دائم التجدّد، بتوطؤ عالمي مكشوف، يتجاور فيه كل شيء مع كل شيء في خليط عجيب ومريب. وباتت رحلة ركوب البحر تلعب دوراً في صياغة معنى جديد للمأساة السورية، كي تمنح السوري وجهاً آخر، يكون فيها الموت أو التهجير بؤرة المرور بامتياز، ليصبح الإنسان السوري أسير العبور إلى أرض تجهل عنه كل شيء، مثلما لا يعرف هو اليابسة التي تطؤها قداماه، وكأنه بات بلا حقيقة ولا وطن، إلا في تلك الفسحات بين البراري والصحاري، التي لا يمكنه الانتماء إليها.
المستقبل
المهاجـرون غير الشرعيّين يفرّون من موت إلى موت/ أوروبا تُقفل أبوابها وتتشدّد في منح اللجوء السياسي/ رندة حيدر
الى متى تستطيع الدول الغنية في العالم ان تتجاهل مأساة آلاف المهاجرين غير الشرعيين الذين يبتلعهم البحر سنوياً ويلفظهم جثثاً هامدة على شواطئها؟ والى متى يقتصر تحرك دول العالم على التنديد والتأثر والتفجع على الموتى من دون البحث عن حل حقيقي وجذري لأهم مأساة انسانية يشهدها القرن الحادي والعشرون؟
من حادثة غرق سفينة المهاجرين بالقرب من شواطئ لامبيدوزا الإيطالية، إلى غرق العبارة على مقربة من الشواطئ الاوسترالية الاندونيسية، ثمة وجه واحد للمأساة. انها مأساة فقراء دول العالم الثالث المتخلفة الذين يحاولون الهرب من جحيم العنف والحرب والفقر والتهميش في بلادهم بحثا عن الحلم المستحيل بحياة كريمة ولائقة، فاذا بهم يجدون انفسهم ضحايا مجرمي شبكات التهريب، والسفن المعطوبة، والبحر الذي لا يرحم، والدول الأوروبية التي اقفلت حدودها في وجوههم.
ان مشكلة الهجرة غير الشرعية ما هي الا وجه من وجوه الخلل في النظام العالمي الجديد الذي لا يقسم دول العالم دول الشمال الغني والجنوب الفقير، وانما دولا تعاني عدم استقرار سياسي وحروبا اهلية وعنفا دمويا وارهابا اصوليا، ودولا أوروبية متحضرة تتمتع بحماية انظمة امنية صارمة في البر والبحر والفضاء، وتبني الجدران الامنية من حولها، وتزداد تقوقعاً على نفسها، وترفض وجود دخلاء وغرباءعلى ثقافتها وقيم مجتمعها.
من موت إلى آخر
خلال السنوات الاخيرة، سجلت حركة الهجرة غير الشرعية ارتفاعاً بسبب عدم الاستقرار الذي عم عدداً من دول المنطقة. ولوحظ ارتفاع في اعداد المهاجرين من دول الثورات العربية مثل سوريا وتونس وليبيا ومصر وتونس، الى اعداد متزايدة من المهاجرين من الدول الأفريقية ولا سيما منها أريتريا والصومال والسودان.
تفيد احصاءات رسمية للوكالة الدولية للهجرة أنه خلال 20 عاماً مات نحو 25 الف مهاجر غير شرعي لدى محاولتهم دخول أوروبا خلسة، من دون احتساب الذين غرقوا من دون العثور على جثثهم. كما تشير الارقام الى غرق اكثر من 3300 مهاجر منذ عام 2002 بالقرب من لامبيدوزا حيث غرقت سفينة المهاجرين الشهر الماضي وقضى فيها 300 شخص من اصل 500 كانوا على متنها.
لكن الغرق في مياه البحر ليس السبب الوحيد لموت المهاجرين غير الشرعيين، فهناك مهاجرون ماتوا عطشا وجوعا وبردا واختناقا داخل مستوعبات الشاحنات (مما يذكّر برواية غسان كنفاني الشهيرة “رجال تحت الشمس” التي تصور موت شخصيات الرواية اختناقاً داخل صهريج لدى محاولتهم دخول الخليج خلسة)، وهناك من مات لدى سقوطه عن شاحنة او مات دهساً، ناهيك بالذين قرروا الانتحار يأساً.
استناداً الى ارقام الوكالة الدولية للهجرة يفر ثلاثة آلاف أريتري شهرياً من بلادهم هرباً من العنف وذلك بعدما تحولت أريتريا على حد وصف احد الصحافيين الاجانب “معسكر اعتقال كبير”. وخلال الاشهر التسعة الاولى من هذه السنة وصل نحو 7500 مهاجر من سوريا وعدد مشابه من أريتريا الى الشواطئ الايطالية.
عملياً يلاقي قسم من هؤلاء المهاجرين حتفه قبل وصوله الى هدفه، ويقع قسم آخر في قبضة خفر السواحل فيعتقل ويرحل الى بلده، وقلة قليلة تستطيع بلوغ الأراضي الأوروبية سالمة. وهنا يبدأ المشوار الصعب، إذ يجد هؤلاء انفسهم امام خيارت صعبة، فإما ان يتحولوا مقيمين غير شرعيين ويعيشوا في العالم السفلي للمدن الأوروبية الكبرى حيث يزدهر الاجرام، واما ان يتقدموا بطلب للجوء السياسي، ليواجهوا عملية قانونية شاقة غالباً ما تنتهي برفض طلبهم.
أوروبا تقفل أبوابها
وبينما فتحت أوروبا حدودها بعضها على البعض باقامة منطقة شنغن، اقفلت حدودها في وجوه المهاجرين. ومن الاسباب التي حدتها على ذلك الازمة الاقتصادية الحادة التي تعانيها غالبية الدول الأرووبية وتنامي مشاعر العداء للاجانب وانتشار الاسلاموفوبيا بين الجمهور الأوروبي.
وكانت دول الاتحاد الأوروبي قد اقامت منذ عام 2005 نظاماً رقابياً صارماً على حدودها، تنفذه شركتا أوروسور (Eurosur) وفرونتكس (Frontex). وهو مزيج من جهاز استخباري وشرطة وجيش وجهاز ديبلوماسي مشترك بين دول الاتحاد الأوروبي مهمته التعاون في ما بينها على اقفال حدودها دون المهاجرين وتنسيق عمليات الطرد والابعاد والاعتقال. وقد تضاعفت اهمية عمل هاتين الشركتين الى حد كبير خلال السنوات الاخيرة، وبرز ذلك خصوصاً من خلال تضخم الموازنات المخصصة لهما. فخلال خمسة أعوام تضاعفت موازنة “فرونتكس” وارتفعت من ستة ملايين أورو عام 2006 الى 118 مليون أورو عام 2011. أما موازنة “أوروسور”، فقد تصل في 2020 الى 244 مليون أورو. ومن المهمات الاساسية الملقاة على عاتق الشركتين تجهيز الحدود الأوروبية بتقنيات المراقبة الحديثة من كاميرات ومجسات للحرارة والحركة وطائرات من دون طيار، كما بات مطلوباً منها في الفترة الاخيرة المساهمة في انقاذ المهاجرين من الغرق.
ولكن بعد الحرج الذي شعرت به دول الاتحاد الأوروبي مع تكرار مآسي غرق سفن المهاجرين على شواطئها، تداعت هذه الدول الى عقد اجتماع في بروكسيل يومي 24 و25 الشهر الجاري لاعادة النظر في سياسة الهجرة التي تنتهجها وادخال الاصلاحات المطلوبة عليها. لكن المزاج العام في الشارع الأوروبي اليوم معاد تماماً لسياسة اكثر مرونة في التعامل مع موضوع الهجرة، وابرز دليل على ذلك الاعتداءات التي تتعرض لها احياء المهاجرين في المدن الأوروبية الكبرى.
تشدد في اللجوء السياسي
وتسعى دول الاتحاد الأوروبي، في سياق كبحها موجات الهجرة اليها، الى التشدد في قوانين منح اللجوء السياسي. والواقع ان كل دولة تحاول قدر المستطاع التضييق على طالبي اللجوء من أجل اجبارهم على الرحيل سواء بوضعهم في معسكرات لا انسانية وجعلهم يتحملون ظروف حياة قاسية، ام ببساطة بتركهم في الشارع.
عام 2012 بلغ عدد طالبي اللجوء في إيطاليا اكثر من 17715 شخصاً. وتستغرق فترة درس الطلب 10 اشهر يقيم خلالها اللاجئون في محطات السكك او الابنية المهجورة او ببساطة في العراء. وقليل منهم يعثرعلى عمل في مقابل أورو أو اثنين يومياً، وثلث هذه الطلبات مصيرها الرفض.
العام الماضي أيضاً، اوقفت اليونان نحو ثمانية آلاف سوري دخلوا اراضيها خلسة، بينما اثنان فقط تقدما بطلب لجوء سياسي. وفي ظل الازمة الاقتصادية الحادة التي تعانيها اليونان، ثمة رفض قوي من الجمهور اليوناني لوجود هؤلاء المهاجرين. أما فرنسا التي تعاني مشكلة المهاجرين من رومانيا الذين تسببوا بازمة سياسية واجتماعية حادة، فقد شهدت زيادة كبيرة في طلبات اللجوء بلغت نحو 73% خلال السنوات الخمس الأخيرة، ليبلغ عدد طالبي اللجوء السياسي في فرنسا اليوم 61468. غالبية مقدمي الطلبات يحصلون على اقامة موقتة مدة 70 يوماً، لكن عملية درس طلباتهم قد تستغرق 20 شهراً، مع احتمال بنسبة 90 % لرفض هذه الطلبات. واستناداً الى تقرير لوزارة الداخلية الفرنسية، فان نحو 37 الف شخص يدخلون سنوياً سوق العمل غير الشرعي في فرنسا. وتبلغ كلفة ايواء طالبي اللجوء سنوياً في فرنسا نحو 550 مليون أورو.
اما بريطانيا التي كانت تعتبر سابقاً جنة اللجوء السياسي، فقد باتت تحتل اليوم المرتبة الرابعة بعد ألمانيا وفرنسا واسوج. يحصل مقدم طلب اللجوء على 36 جنيهاً استرلينياً اسبوعياً، الى جانب العناية الطبية المجانية واستخدام وسائل النقل العامة مجاناً.
وكثفت إسبانيا جهودها لمنع الهجرة اليها، فبنت سياجاً حدودياً عالياً وزرعت كاميرات على طوله، الى تشديدها الرقابة على سواحلها. وقد أدى ذلك الى الحد من موجة الهجرة غير الشرعية، فهناك اليوم نحو 2580 طلب لجوء قدم أكثرها من سوريا والجزائر ودول أفريقيا الغربية مثل نيجيريا والكاميرون.
واستقبلت أسوج العام الماضي 43900 طلب لجوء، ومن المنتظر أن يقبل ثلث هذا العدد فقط.
وليس الحال في أوستراليا بأفضل منه في الدول الأوروبية، وخصوصاً في ظل قوانين الهجرة الصارمة التي اصدرها اليمين الحاكم.
وتدفع الدولة الاوسترالية مبلغ 19 أورو شهرياً للمهاجرين من اجل سكنهم . وخلال العام الماضي تقدم 17500 مهاجر طلباً للجوء الى أوستراليا غالبيتهم من أفغانستان وروسيا وباكستان، وعلى هؤلاء ان ينتظروا خمس سنوات قبل ان يتخذ قرار في شأنهم.
الأغنياء فقط
ووقت تتشدد حكومات الدول الأوروبية في منع المهاجرين الفقراء من دخول أراضيها، نراها من جهة أخرى تقدم عروضاً مغرية لتوفير الاقامة للأثرياء من المهاجرين في مقابل توظيف أموالهم في اقتصادها الذي يعاني ازمة حادة.
فعلى سبيل المثال، تعرض إسبانيا الاقامة مدة خمس سنوات على اراضيها على كل من يستثمر نحو 500 الف أورو في السوق العقاري. بينما تقدم اليونان الاقامة الموقتة لخمس سنوات لكل من يشتري عقاراً بقيمة 250 ألف أورو. وبدءاً من تشرين الأول 2012، قدمت البرتغال “الفيزا الذهبية” واقامة لمدة سنتين لكل من يشتري عقاراً بقيمة 500 الف أورو. اما المجر التي تشن حملة شعواء على المهاجرين، فعرضت شراء سندات خزينة تابعة للدولة بقيمة 250 الف أورو على الاقل للحصول على اقامة على أراضيها. لكن لاتفيا ضربت الرقم القياسي وقدمت العرض الاكثر اغراء، فكل من يشتري عقاراً بقيمة 71 ألف أورو يحصل على اقامة لمدة خمس سنوات. غالبية الذين يفعلون ذلك لا يسكنون لاتفيا وانما يصير في امكانهم التنقل بحرية بين 26 دولة أوروبية.
هذه الازدواجية في المعايير الأوروبية في التعامل مع موضوع الهجرة تكشف مرة أخرى لامبالاة المجتمعات الأوروبية بمشاكل الحرب والفقر والتخلف التي تحولت قنبلة موقوتة تنفجر من وقت الى آخر في وجه العالم كله.
النهار
اللاجئون السوريون في مصر عندما يرحلون إلى أوروبا
القاهرة – أدهم سيف الدين
على متن قوارب صغيرة متداعية يبحر بشكل شبه يومي عشرات السوريين من الأسكندرية باتجاه الشواطئ الإيطالية، ومنها إلى بلدان أوروبا المجاورة بحثاً عن حياة جديدة وظروف معيشية أفضل.
العائلات والشباب السوريون، الذين لا يعرفون مصيرهم في تلك الرحلة المليئه بالمخاطر، يتعرفون الى سماسرة للهجرة غير الشرعية من طريق المكاتب السياحية في الإسكندرية أو من بعضهم البعض، ويتواصلون مع «المؤتمن»، وهو الرجل الثالث الذي يقيم في الإسكندرية غالباً، ويتعرفون من خلاله الى طبيعة الرحلة وموعدها زماناً ومكاناً وتكلفتها، التي لا تقل عن 3200 دولار للشخص الواحد، وبمجرد استلام «المؤتمن» الأموال، تبدأ المرحلة الثانية من الرحلة.
قال حرس السواحل الإيطالية، في منتصف شهر أيلول، إنه «انقذ مجموعة أولى من 170 سورياً بينما بدأ مركبهم بالغرق على بعد 50 كيلومتراً من سواحل كالابريا بجنوب إيطاليا. كما تم إنقاذ مجموعة ثانية من حوالى 320 مهاجراً على بعد 120 كيلومتراً من سواحل صقلية».
«المؤتمن»، أو «الرجل الوسيط»، أو «الطرف الثالث» هو من يدفع له السوريون كلفة الرحلة، ليحتفط بالمال إلى حين وصولهم إلى المكان المتفق عليه بين الطرفين، حينها يسلم «المؤتمن» المال للسمسار الكبير والذي يسمى بلغتهم «الريس». وبالتزامن مع تجهيز «الريس» للمركب الذي سيقل المهاجرين الى الشواطئ الإيطالية، يحزم محمد، حقيبة السفر متجهاً من القاهرة إلى الإسكندرية مودعاً والديه وإخوته وهو لا يعلم إن كان سيراهم مره أخرى أم لا.
محمد يحزم حقيبة السفر حاملاً 5000 دولار ليلاقيه ابن خالته عامر في الإسكندرية قبل فترة الظهيرة.
ويروي محمد قصة لقائه هو وعامر مع «المؤتمن» فيقول: «إنه رجل سوري يقيم في مصر منذ فترة، كنا اتفقنا على الجلوس في أحد المقاهي بالإسكندرية، لكن تفاجأنا باتصال منه غيّر فيه المقهى ولما سألناه عن الدافع قال لأسباب أمنية وأن هذا جزء من العمل السري».
وأضاف: «جلسنا أنا وعامر مع المؤتمن وبدأنا بتوجيه سيل من الأسئلة للرجل عن مسار الرحلة والمخاطر التي تحيط بها وعدد الأيام التي سنقضيها في البحر».
يصارح «المؤتمن» محدثيه: «رحلتكم قابلة أن تصل بأمان إلى الشواطئ الإيطالية، وفي نفس الوقت هناك الكثير من المهاجرين لم يصلوا إلى مبتغاهم وأبتلعتهم مياه المتوسط».
يتفاجأ السوريون، البالغ عددهم حوالى 50 شخصاً على متن القارب، بعد مغادرتهم الشاطئ بساعتين، بانضمام فوج ثانٍ الى القارب الذي لا يتجاوز طوله الـ 12 متراً، وبعد ساعة أو ساعتين تنضم مجموعة ثالثة.
يستشيط المهاجرون السوريون غضباً لأن الاتفاق كان على نقل 50 شخصاً فقط وليس 300 شخص، يرد عليهم الربان الصغير بقوله: «بإمكانكم الرجوع …، هيا أقفزوا وعوموا إلى أن تصلوا شاطئ الأسكندرية».
في الفترة الأخيرة اعتاد السوريون على لعبة السماسرة وباتوا يعرفون إن العدد يتضاعف كثيراً في القارب، بعد أن وصلتهم أخبار الرحلة بكل تفاصيلها ممن هاجر قبلهم ووصل بأمان إلى أوروبا.
يزيد «المؤتمن» من صراحته مع محمد وعامر، وهما يركزان بصرهما في كل كلمة تنطلق من فمه، ويقول لهما: إن «من يقودك في البحر هم طفلان دون سن الـ 18 من العمر، لأن الأحكام الجزائية بهذه التهمة عند القبض على أشخاص فوق عمر الـ 18 تبدأ بالحبس المؤبد، أما الأطفال فيحتجزون لأيام قليلة ويطلق سراحهم في ما بعد».
صراحة تباغت محمد وتزيده خوفاً، فعدل عن قراره السفر لكن أبن خالته أصر على المغامرة.
علي محيي الدين، متزوج ولديه طفلة وهو طالب جامعي، هو الآخر ينتظر مع اخ زوجته واثنين من رفاقه مكالمة من أحد السماسرة الذي سيوصلهم إلى إيطاليا، ويقول لـ «الحياة»، إن «الهجرة إلى أوروبا بحراً هي مغامرة حقيقية قد لا أصل أبداً وأموت وأكون وجبة للكائنات البحرية، لكن هي ضربة حظ وربما يحالفني القدر، وفي الحالتين سأكون أفضل حالاً مما أنا عليه في مصر».
يقول محيي الدين، الذي التقيناه في مقهى، انه سيترك زوجته وطفلته عند أقربائه في القاهرة: «مضى على إقامتي في مصر حوالى سنة لم أتقدم في أي مجال، وتتزايد أعباء المعيشة في مصر كل يوم ولا فرق بين المعيشة في دمشق أو القاهرة».
يتحدث بعض الجهات الحكومية في مصر عن 300 ألف لاجئ سوري على الأراضي المصرية منذ بداية الأزمة السورية، إلا إن الأعداد بدأت تتناقص جراء فرض التأشيرات على السوريين الداخلين إلى مصر، فضلاً عن اللجوء العكسي من مصر إلى الدول الأوروبية وتركيا أو العودة إلى سورية.
تستغرق الرحلة في البحر حوالى 7 أيام، ويفرض عليهم الانتقال من المركب الصغير بعد حوالى خمس ساعات من إنطلاقهم من الإسكندرية إلى قارب أكبر بطول 18 متراً، حيث تبدأ معاناة الأطفال والسيدات عند الصعود إلى المركب الثاني من دون وصلة تمكنهم من تغيير القارب بسلاسة بسبب علو المركب الكبير.
يتناول الرجال بعد صعودهم الى متن المركب الثاني أطفالهم وزوجاتهم بصعوبة وخوف من سقوطهم في مياه البحر في وقت يفتقرون فيه إلى المسعفين والمنقذين.
وبالقرب من الشواطئ الإيطالية على اللاجئين السوريين العودة إلى مركبهم الأول، الذي كان موصولاً بحبل متين بمؤخرة المركب الكبير، ليتسنى لهم الدخول إلى المياه الإقليمية خلسة. وفي حالات كثيرة يتصل «الطفلان» اللذان يقودان المركب، بواسطة جوال الثريا الفضائي، بمنظمة الصليب الأحمر لاستقبال زبائنهم ونقلهم إلى قوارب أكثر أماناً وتقديم الرعاية اللازمة لهم.
يتزود كل مسافر، إلى دول الاتحاد الأوروبي بحراً، أربع عبوات مياه صالحة للشرب والقليل من الأطعمة المعلبة تكفيه لمدة حوالى أسبوع، وفي كل وجبة طعام يحاولون أدخار أكبر قدر ممكن من حقيبتهم الغذائية.
يعود محمد ليسرد نقلاً عن صديقه، الذي وصل مؤخراً إلى المانيا من مصر بحراً: «كانت الأمواج عالية الارتفاع والمياه تدخل إلى القارب مما أضطرنا نحن الشباب إلى أفراغه بالغالونات البلاستيكية، وكان المركب الصغير يتلاطم مع تيارات الأمواج شمالاً ويميناً، وهو يصعد تارة ويهبط تارة». ويتابع على لسان صديقه: «في هذه اللحظات بدأ بعض الرجال بتلاوة سورة من القرآن وبدأت النساء بالعويل وبكى الأطفال، وكأن لحظات الموت تقترب …».
يضبط خفر السواحل في مصر الكثير من الرحلات غير الشـــرعية المنــطلقة باتجاه الدول الأوروبية، وما زال البعض محتجزاً في اقسام الشرطة في الأسكندرية، وبحسب النشطاء فقد قتل اثنين من السوريين في أيلول، عندما أطلق حرس الحدود المائية المصرية النار على المركب لأسباب لم تعلن بعد.
الحياة
تزوّجته وهو مفقود: باسل الصفدي في سجون الأسد/ مـالـك أبـو خـيـر
دمشق – “أسمع صوته خلف عتمة زنزانته. أشعر بكلّ وجع يخرج من صدره وجسده وكأنّه يصيب قلبي. أبكي عندما يبكي، أضحك حين ينظر من شبّاكه، ويتأمل تفاصيل عشقنا. هو ليس بصوت رصاصة ولا حتى بقذيفة تقتل من يأتي بطريقها. هو صوت مختلف، يقال عنه في كتب العشق، يُسمَع بين روحين اتّفقتا ألا تتخليّا عن بعضهما مهما حدث، حبٌّ في زمن لم يبقَ للعشق مكان”، هكذا تناجي نورا زوجها الذي لم تره.
في يوم الاستعداد للزفاف، اختفى باسل خرطبيل (المعروف كذلك بباسل الصفدي)، ولم تعرف عنه نورا أيّ معلومة. ثمانية أشهر وهي تبحث عنه من دون كلل أو ملل. فهي تعرف نشاطه في الثورة وعمله الدؤوب في ميدانها، كونه مهندساً مختصّاً، واختصاصه يفيد الثورة وكل العاملين بها. ولعلّ رجاءها الدائم له بعدم الذهاب الى أماكن خطرة، لم يأتِ بنتيجة، لكون هذا الاختفاء كان في أحد الفروع الأمنية لنظام بشار الأسد، والتي تعتبر من الأكثر قسوةً وعنفاً مع المعتقلين.
نورا خسرت الكثير من وزنها وتراجعت صحتها خلال هذه المدة، لكونها توقعت أنّ باسل قد اختفى إلى الأبد، كما باقي من اختفى وذاب جسده ضمن هذه الفروع، لكن إحساسها الدائم بأنه حي يرزق هو ما أكد لها أنّه سيخرج الى النور. فهي انت تبكي معه وتحزن وكأنها تشاركه زنزانة تعذيبه ووحدته.
وبالفعل، فقد أرسل لها باسل خبراً بعد ثمانية أشهر بأنه حيّ، وأنه الآن في سجن عدرا المركزي، لكن ليس ليتم عرضه على محاكمة كباقي السجناء، فقد تم عرضه سلفاً على محكمة ميدانية باتت معروفةً لكل السوريين بظلمها وأحكامها الجائرة، وهو كغيره ممن حوكم فيها، حُكم عليه بالسجن خمسة عشر عاماً.
خمسة عشر عاماً من الانتظار … كفيلة بأن تعيد نورا خاتم خطوبتها الى باسل لتبدأ حياتها من جديد، فلم يعد في هذا الزمن من يلتزم بقراره أمام هكذا وضع مؤلم. لكنّ نورا نزعت خاتمها من يدها اليمنى لتضعه في اليسرى وتعقد قرانها على باسل في سجن عدرا المركزي، متحدّيةً بقرارها الخمسة عشر عاماً وكل من حولها، كان عقد قرانهما دموعاً تنتظر أن تتحول الى فرح بخروجه بأي طريقة وبأي ثمن ممكن.
في كل يوم تكتب نورا على صفحتها الشخصية أشعار حب لزوجها، وتنتظر منه إعجاباً أو حتى تعليقاً على ما كتبت وكأنه حر طليق ويتصفح صفحته الشخصية، تبكي هي وتُبكي كل من حولها ومن يقرأ كلماتها، تثبت من خلال ذلك أن عشق الأرواح وصدقها مازالا موجودين حتى اليوم، وأن الثورة لا تموت بوجود أمثال نورا وباسل الصفدي.
طلبت نورا أن يكون مهرها ليرة سورية واحدة. فقد اتفقت قبل زواجها مع باسل أن يكون مهرها نصر الثورة السورية وخلاصها مما يُطبِق على أنفاس السوريين، وحين وصل والدها لزيارة باسل قال له “إن خرجت غداً فهي لك، وإن خرجت بعد عشرين عاماً فهي بانتظارك حتى ذلك اليوم”.
والدة نورا هي الأخرى انتظرت زوجها حتى خروجه من معتقله السياسي، ونورا اليوم تنتظر زوجها كما والدتها، ونشط بحملات في كل وسائل الاعلام من اجل حرية باسل وحقه في أن يكون بين من يحب من جديد.
نورا ليست الوحيدة التي تبكي فراق زوجها، فهناك الكثير ممكن بكى طويلاً ومازال حتى اليوم ينتظر عودة من اختفى في أقبية الأفرع الامنية، ومنهم أيضاً من دفن أحبابه تحت التراب، وعلى الرغم من ذلك مازال حتى اليوم ينتظر.
سوريون في لامبيدوزا .. هروب من الموت إلى الموت/ خالد شمت
لم يعد الموت خيارا بالنسبة للسوريين، ففي بلادهم يُقتلون بالقصف والقنص أو جوعا وبردا، وفي رحلة النزوح واللجوء بحثا عن أمان افتقدوه، يجدون أنفسهم بين خياري المعاملة السيئة والموت غرقا. المثال الواضح على ذلك ليبيا -ثالثة محطات الربيع العربي- حيث بات اللاجئون السوريون هناك يفضلون ركوب الخطر والفرار عبر البحر المتوسط لجزيرة لامبيدوزا الإيطالية على البقاء “في الجحيم”.
في جزيرة لامبيدوزا يمثل السوريون ثاني أكبر مجموعة من بين نحو ثلاثين ألف لاجئ مروا منذ بداية العام الجاري على معسكر اللاجئين هناك، وتقدر منظمات عالمية لحقوق الإنسان ومساعدة اللاجئين تعمل بلامبيدوزا وجود نحو عشرين عائلة سورية برفقة أكثر من خمسين طفلا وقاصرا.
وقد التقت الجزيرة نت بالعشرات منهم ووقفت على وجوه المأساة والمعاناة التي تركت ندوبا على وجوههم، ولا يقول لسان حالهم سوى عبارات “اضطهدنا ببلادنا وظلمنا من ذوي قربى، كنا نظن أن معاناتنا واحدة وهدفنا واحد ولكننا صدمنا”.
هؤلاء الذين جاء معظمهم من ليبيا رووا للجزيرة نت ما وصفوه بفصول من “التعديات والاعتداءات والمظالم والإهانات غير المتصورة” التي طبعت حياتهم بليبيا، مما أرغمهم على المغادرة بقوارب متهالكة إلى جزيرة لامبيدوزا، مغامرين بذلك بحياتهم وحياة عائلاتهم.
أمان مفقود
حسن موسى أحد الذين غادروا ليبيا على متن سفن “الهجرة غير الشرعية” باتجاه الشاطئ الإيطالي المقابل، يبث عبر الجزيرة نت شكواه واتهامات خطيرة “الليبيون لم يكتفوا بإيذاء أسرتي وغيرها من الأسر الفلسطينية والجنسيات العربية الأخرى، فعمدوا لملاحقتنا بعد خروجنا من بلادهم، وأطلقوا الرصاص على سفينتنا، فأغرقوها وعلى متنها أكثر من 400 راكب من بينهم زوجتي وابنتي وزوج ابنتي وحفيدي وثلاثون طبيبا سوريا وفلسطينيا”.
ويتذكر حسن -وهو سوري من أصل فلسطيني هرب من جحيم القتال في مخيم اليرموك بدمشق قبل 11 شهرا لليبيا- تفاصيل المشهد الذي جرى عند ركوبه مع أسرته القارب المتجه إلى لامبيدوزا في 11 من الشهر الماضي من مدينة زوارة الليبيبة “في البداية الليبيون هجموا على القارب ثم تركوه بعد صراخ النساء والأطفال”.
وتابع “ما لبثت البحرية الليبية بعد ساعة واحدة أن أطلقت نيرانها على القارب غير عابئة بتوسلات الركاب .. اتركونا لأجل الله.. وهتافهم عاشت ليبيا حرة..، مما أدى لانقلاب القارب وغرق من فيه” موضحا أنه نجا من الغرق بعدما ألقت إليه حوامات خفر السواحل الإيطالي سترة إنقاذ وسحبته للشاطئ ليعرف بعدها أنه فقد أفراد أسرته الذين كانوا معه.
ويختم موسى -الموجود حاليا بمدينة كاتانيا الإيطالية- سيرة ومسيرة الوجع بقوله إنه ما كان ليفكر بالرحيل من ليبيا والمغامرة بحياة أسرته لو وجد بهذا البلد أمانا افتقده بسوريا، وأوضح أن فترة إقامتهم بليبيا كانت “جحيما تعرضوا خلالها لاعتداءات وإجرام لا يوصفان”.
الموت والغرق
ثمة وجه آخر لتراجيديا البحر والاتهامات بسوء المعاملة في ليبيا يحكيه هذه المرة أيمن للجزيرة نت، ويسرد فيه ما تعرض له هو وأسرته المنحدرة من مدينة حلب أثناء إقامتها لأكثر من عامين بليبيا.
ويقول أيمن -الذي وصل مع أسرته المكونة من 15 فردا معظمهم من النساء والأطفال إلى لامبيدوزا قبل أسبوعين- إن ما دفعهم للرحيل من ليبيا معاملة تزايد سوؤها في الفترة الأخيرة، وأوضح أن كل أسرته دون استثناء تعرضت لإساءات “لا يمكن تخيلها”.
ويضيف أيمن أن خبر غرق سفينة اللاجئين في الثالث من الشهر الماضي لم يثبط عزيمتهم على مغادرة ليبيا، وقال إن الخوف من التعدي عليهم بعد انتشار السلاح بين الليبيين جعل خطر موتهم في ليبيبا يتساوى مع خطر غرقهم أثناء سفرهم بالبحر إلى إيطاليا.
في شارع آخر بلامبيدوزا التقت الجزيرة نت محمدا، وهو لاجئ من دمشق قال إن سبب مجيئه مع زوجته وبناته الثلاث قبل أسبوع إلى الجزيرة الإيطالية هو “الرغبة في الإحساس بإنسانيته التي انتهكت بليبيا”، وأوضح أنهم عاشوا هناك تحت تهديد السلاح.
رائد شعاع ومحمود سوريان من مدينة دير الزور، أشارا إلى أن “التعدي المتكرر” عليهما لفظيا ومطالبتهما بالعودة لبلديهما، دفعهما لدفع 1500 دولار -لكل واحد منهما- ثمنا لركوب قارب متهالك طوله 13 مترا مع 133 شخصا آخر باتجاه لامبيدوزا.
الشتاء… عدو السوريين المقبل
إذا كان العالم قد صفق للاتفاق الذي تم التوصل إليه مؤخراً بشأن تدمير الأسلحة الكيماوية في سوريا باعتباره خطوة نحو السلام، فإنه لا يوجد وقت الآن للاحتفال الزائف. ذلك أن التحديات الأكثر إلحاحاً، بالنسبة لملايين السوريين الذين اجتثوا من بيوتهم، ناتجة عن مخاوف تتعلق باحتياجات أساسية: الغذاء والماء والدواء والمأوى. ومع حلول فصل الشتاء، يزداد تحدي البقاء على قيد الحياة صعوبة.
فقساوة الشتاء ستزيد من معاناة وبؤس الـ2,2 مليون لاجئ سوري في البلدان المجاورة. وخلال الأشهر المقبلة، سيجد أكثر من مليون طفل نازح أنفسهم في درجات حرارة دون الصفر، علماً بأن الكثير منهم ليست لديهم أحذية أو جوارب. كما أن كثيرين منهم يعيشون في بنايات مهجورة أو في خيام مرتجلة مصنوعة من أقمشة غير مصممة لتقي أجسامهم الواهنة من برد الليل القارص. كما أنهم لا يملكون حطباً أو وقوداً يساعدهم على تدفئة أنفسهم، ويفتقرون إلى الملابس والبطانيات التي تمنع زمهرير الشتاء من اختراق أجسامهم.
وخلال الشتاء الماضي، ساعدت الوكالات الإنسانية أكثر من 300 ألف لاجئ على اجتياز فصل البرد، غير أن هذا الشتاء يُتوقع أن يكون واحداً من أقسى الفصول منذ سنوات. كما أن حجم المشكلة بات أسوأ بكثير مقارنة مع العام الماضي نظراً لأن ثمة نحو سبعة أضعاف عدد اللاجئين الذين كانوا موجودين العام الماضي؛ ونصفهم أطفال، وأكثر من 800 ألف منهم في سن الثانية عشرة أو أقل.
وداخل سوريا نفسها، هناك أيضاً أكثر من 4 ملايين شخص نازح -أي ضعف عدد العام الماضي- كما أن 6 ملايين شخص إضافي يحتاجون مساعدات لإنقاذ حياتهم. واحتياجات هؤلاء تصبح أقوى وأكبر عندما تنخفض درجات الحرارة إلى ما تحت الصفر. غير أن إيصال الإمدادات إلى السوريين النازحين داخل سوريا ما زال أيضاً يمثل تحدياً كبيراً آخر، نظراً لأن كثيرين منهم عالقون في مناطق يدور فيها القتال.
وتعتزم الوكالات الإنسانية، مثل وكالتينا توزيع البطانيات والملابس والمواقد وبعض المواد الأساسية قبل أن يشتد البرد، ولكن مع اقتراب فصل الشتاء، علينا أن نعيد التفكير في حجم وطبيعة الرد بأفضل الطرق.
أولاً، وبيت القصيد هنا هو التمويل، فالاحتياجات الإنسانية في سوريا والبلدان المحيطة بها تناهز 4,4 مليار دولار، وفق تقديرات الأمم المتحدة. وحتى الآن، تم جمع نصف هذا المبلغ فقط. ولذلك، فإنه لابد من مزيد من الدعم قبل أن يفتك البرد بالأجسام الصغيرة والضعيفة.
ثانياً، على المجتمع الدولي أن يوفر المساعدة حيثما توجد أكبر حاجة إليها. فالمساعدات الإنسانية -والكثير من اهتمام وسائل الإعلام- تركز على مخيمات اللاجئين؛ والحال أن ثلاثة أرباع اللاجئين يكافحون من أجل البقاء على قيد الحياة في البلدات والقرى، بدون الرعاية الصحية والمياه والأغذية المتوفرة في المخيمات. على أن الاحتياجات كبيرة بشكل خاص بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في المناطق الحضرية، في ضيافة أهال يعانون هم أنفسهم ضيق ذات اليد ويكافحون لتوفير احتياجاتهم الأساسية.
ثالثاً، إن من شأن توفير المزيد من الإمكانيات أن يسمح لمنظمات المساعدة بأن تصبح أكثر ابتكاراً بشأن طرق توصيل الدعم. ففي المناطق الحضرية، حيث تشتغل الأسواق بشكل فعال، يمكن للتحويلات المالية المباشرة والقسائم أن تساعد اللاجئين على شراء الملابس والبطانيات والوقود والطعام، في الوقت نفسه الذي تدعم فيه الاقتصاد المحلي. وتقوم وكالتانا وشركاؤهما بتزويد عشرات الآلاف من العائلات بمساعدة شهرية من خلال بطاقات «الصراف الآلي» في لبنان والأردن؛ غير أن هذه البرامج يمكن أن تكون أكثر فعالية ويمكن توسيع نطاقها أكثر من خلال مزيد من التمويل للتدريب والتوزيع.
رابعاً، مع العبء الثقيل الذي يشكله تدفق اللاجئين على البلدان المجاورة، يجب رصد مزيد من الدعم الدولي لهذه المجتمعات والخدمات العامة فيها. فعدد سكان لبنان، على سبيل المثال، ازداد بالربع تقريباً، وهو ما يشكل ضغطاً كبيراً على البنية التحتية والإمدادات. وإذا استمرت الحرب في سوريا، فإن البطالة في لبنان قد تتضاعف بحلول نهاية العام القادم؛ كما أن عدد اللبنانيين الذين يعيشون في الفقر يمكن أن يرتفع إلى 20 في المئة. وعلاوة على ذلك، فإن الضغط على المجتمعات المضيفة يزداد في الأردن والعراق وتركيا أيضاً. وفي مثل هذا الوضع، يجب أن تذهب المساعدات إلى اللاجئين مثل السكان المحليين أيضاً. ولكن هذه الاحتياجات تتجاوز القدرة المحدودة بكثير؛ ولذلك، فإن المطلوب هو دعم قوي وطويل المدى من الشركاء.
ومما لاشك فيه أن من الممكن إحداث فرق واسع النطاق بالنسبة لظروف حياة ملايين السوريين. ولكن مع انخفاض درجات الحرارة، بدأ الوقت ينفد. والكثير من العائلات تتنقل منذ أشهر وقد اضطرت للتحرك عدة مرات، من الإقامة لدى الأصدقاء والأقارب إلى النوم في مبان عامة ومخيمات أكبر. ومعظمها أنفقت أي مدخرات كانت لديها، وباعت النساء حليهن وممتلكات أخرى؛ ولذلك، فإن هؤلاء غير مستعدين لتحمل أخطار الشتاء وتكاليفه.
بيد أن ثمة فرصة صغيرة لمساعدة السوريين على تحمل موسم البرد القادم. لقد عانوا بما يكفي، وعلينا أن نقوم بكل ما هو ممكن للإبقاء عليهم آمنين ومتدفئين.
———————-