صفحات الثقافة

مقالات تناولت موضوع اللجوء


مستقَرّ أم طريقٌ إلى المستقَرّ

    فيديل سبيتي

زرتُ سوريا مرة واحدة في العام 2004. لم تكن تلك البلاد على لائحة البلدان التي ينبغي لي زيارتها. لم أستشعر أن جديداً يمكن أن أحصّله من زيارة  الشام، وخصوصاً أن بلادنا في ذلك الحين كانت جزءا من الأرض السورية، وعلى هذا الأساس كان نظام البعث يمارس وصايته المطلقة على لبنان.

كانت زيارة وحيدة ويتيمة للوقوف على مشاهد البلاد التي يحكمنا نظامها. أردت أن أشفي غليل فضولي لمعرفة المكان الذي يأتي منه الواقفون على حواجز الجيش السوري، والعمال الذين ينتظرون تحت الجسور فرصة عمل دوني ما. وأردت رؤية طريق بيروت – دمشق التي يذرعها المسؤولون اللبنانيون جيئةً وذهاباً للحصول على رضا القيادات السورية. هذه كانت آنذاك أسباب الزيارة، وبما أني حصلتُ على إجابات وافية في زيارة واحدة، فما عدت كررتها.

بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005، حدستُ كغيري من اللبنانيين أن نظام الوصاية البعثي هو الذي يقف وراء الجريمة، وهذا كان سبباً إضافياً لعدم المرور على الحدود وخصوصا أنني وزملاء آخرين، أعلنّا في “الملحق” وفي غيره من المنابر حدسنا ذاك ورحنا نردد مع سمير قصير بضرورة تفكيك الجهاز الأمني اللبناني – السوري المشترك وخروج الجيش السوري من لبنان، وبأن ربيع العرب سيتفتح حين يزهر في دمشق. بالطبع كانت تلك مجرد مقولة لم نتخيّل أنها ستتحقق في يوم من الأيام.

كانت زيارة أولى وأخيرة لأنه لم يكن عندي أصدقاء سوريون لا في لبنان ولا في سوريا. كنت أعرف بعض الشعراء بأسمائهم ولم ألتق بأيٍّ منهم البتة، وأعرف بعض سجناء الرأي ممن انتقلت أخبارهم بالتواتر والمناقلة. الى حين بدأنا ورشة اللقاءات الشعرية الليلية في حانات شارع الحمراء من “شي أندره” الى “جدل بيزنطي”، فصرت ألتقي عدداً من الشعراء السوريين الذين دعوناهم للحضور، وكان سبقهم آخرون للإستقرار في بيروت.

نقل لقمان ديركي تجربة قراءة الشعر في الحانة الى “بيت القصيد” في دمشق، ودعانا مرات عدة للمثول أمام جمهور سوري يحب الشعر الذي يكتبه الشعراء الشباب في بيروت، لكننا لم نملك شجاعة الذهاب الى دمشق. كانت بلادنا تغلي سياسياً وأمنياً بين فريقين، أحدهما أعلن ولاءه التام للنظام السوري، وآخر ينزف شهيداً تلو الشهيد في عمليات اغتيال متقنة، أخذت زهرة فريق 14 آذار، وفي مقدم هؤلاء سمير قصير وجبران تويني وبيار الجميل.

كانت دمشق تصير أبعد وأبعد بعد كل عملية اغتيال. كأن السيارة المفخخة التي تأخذ الأرواح هنا تأخذ بعضا من روح دمشق أيضاً. حتى الأصدقاء الذين لم نتمكن من تربية صداقتنا معهم وتوطيدها صاروا يبتعدون رويداً رويداً. كان واضحاً أن السياسة تفرّق بيننا، ورحت أقنع نفسي بأنهم يشعرون بالرعب الذي نعيشه هنا ولا يتمنونه لنا. تأكدتُ منذ إعلان بيروت – دمشق/ دمشق – بيروت، أن غلياناً ما يعتمل في نفوسهم، وكان ميشال كيلو وياسين الحاج صالح ومحمد علي الأتاسي يعبّرون عن هذا الغليان في “الملحق” وفي “نوافذ” وفي “الحياة”. لكن تعاظم سيطرة “حزب الله” وحلفائه على السلطة السياسية في لبنان كان يخنق أضغاث أحلام بالتغيير في دمشق. رحنا نشعر أن اشتداد الخناق هنا هو مرآة الخناق الشديد في سوريا. وأن الأصدقاء السوريين الذين لم نعد نراهم، لن نراهم مجدداً في القريب العاجل. حتى حين انطلقت ثورات الربيع العربي متسلسلةً من تونس الى ليبيا الى مصر، لم نتوقع أنها ستصل الى سوريا. كانت فكرتنا عن حديدية النظام البعثي في سوريا ستجعل من العسير على الشعب السوري أن يتحرك داخل الكماشة. لكننا كنا مخطئين.

منذ انطلاق ثورة الشعب السوري عدنا نلتقي بالأصدقاء السوريين، مَن كنا نعرفهم سابقاً، ومن بتنا نعرفهم بعد الثورة. صارت بيروت ممراً أو مستقراً لكثيرين منهم. بعضهم يسافر منها الى وجهة أخرى وبعضهم يستقر فيها، إما في منزل أحد الأصدقاء الذين سبقوه وإما في منزل استأجرته مجموعة منهم. باتت حانات الحمراء ومقاهيها تعجّ بالمثقفين السوريين من شعراء وأدباء ورسّامين وعازفي موسيقى. بتنا الآن نحن اللبنانيين نسهر بين هؤلاء السوريين الذين يستنكف معظمهم عن الكلام في السياسة أو في مجريات الأحداث السورية، كأنهم يشعرون أن بيروت امتداد أمني لدمشق، وهذا شعور فيه كثير من الصحة في ظلّ الخلايا الأمنية “الممانعة” التي تتخذ من شارع الحمراء مقراً لها.

لا يتحدث أصدقاؤنا الجدد في السياسة، ولا يقرأون على مسامعنا الشعر، ويبدون في شبه صدمة دائمة مغلّفة بالحزن والقلق على المصير المقبل. حزنٌ آتٍ من أخبار الأهل هناك، ومن أوضاعهم الإقتصادية المأزومة هنا. فهم لا يتمكنون من إيجاد عمل الا في ما ندر، والمال الذي جلبه كلٌّ منهم معه بعدما استدانه أو بعدما باع شيئاً مما يملكه في دمشق، لن يكفيه مدة طويلة، وخصوصا أن الثورة استطالت والنظام يتمسك بسياسة القمع الدموية كتمسّك غريق بقشة.

يمكث الأصدقاء السوريون الذين أعادتهم الثورة إلينا في مدينتنا من دون أن يكون عندهم رغبة بذلك، فجميعهم يحلم بطائرة تنقله الى دولة أوروبية ما، تؤمّن له عيشاً كريماً. يرتادون حاناتنا ويسهرون إلى طاولاتنا وفي عيونهم دموع مكبوتة، تسري عدواها في المكان على الجميع. فنحن اللبنانيين نعرف معنى الحروب والقتل والموت والدمار، ونعرف مدى الأوجاع التي تتسبب بها، حتى بات حزن السوريين الفاقع مرآة لحزننا الذي ندأب على كبته مذ أنهى اتفاق الطائف حروبنا المديدة والمتناسلة.

النهار

No results found for

    سناء الجاك

“أين أنا؟”. تمتم وهو بالكاد يفتح عينيه ويتأمل ما حوله بصعوبة كأن الضوء يحرقه. لم يعرف الزمان وإن حدس أن المكان هو غرفة مستشفى، فالأجهزة الطبية تكبّله.

“كم مضى عليّ في هذه الغرفة غير واعٍ للدنيا حولي؟ وكيف وصلت الى هنا؟”.

آخر ما يذكره، يرتبط بدوي حوالى 2000 كيلوغرام من المتفجرات. اغتيال الرئيس رفيق الحريري. أخبار سوداء. لم يعرف ان للأخبار لوناً قبل ذلك اليوم. لم يتحمل قتامة الموت. انفجر في داخله شيء ما. شريان أو وريد أو حلم أو أمل. لا يدري. غاب عن الدنيا. وها هو اليوم في هذه الغرفة يحاول الإمساك بتتابع الصور والأصوات.

ما إن تحرر من تكبيل العلاج حتى سعى الى محرك البحث. وقرأ عشوائياً:

الرئيس المصري محمود مرسي (أهو خطأ في الطباعة أم ماذا؟ أين حسني مبارك وعلاء وجمال؟)

كان الرجل في غيبوبته عندما قامت الثورة في مصر وأصبح مبارك وولداه وغالبية رجال نظامه مسجونين. مصر انتخبت مرسي رئيساً يطالب نظام بشار الاسد بالرحيل لأنه يقتل شعبه. ويقول للأميركيين أعطوا الشعب الفلسطيني حقوقه تطبيقاً لما ورد في معاهدة كمب ديفيد.

لكن ماذا يحصل في سوريا؟

قصف قوات النظام مستمر على العديد من المدن. غارات جوية توقع قتلى بينهم أطفال. منظمات تحذّر من انفجار أزمة النازحين السوريين: عددهم يتجاوز 4 ملايين. اما القتلى فتجاوزوا العشرين الفاً.

الإبرهيمي: قلت في سوريا إن الإصلاحات لم تعد تكفي. وهناك حاجة ملحة للتغيير.

لحظة. الارجح ان الابرهيمي عاد مرة جديدة ليعمل على الملف اللبناني. لكن ان يصبح وسيطاً في سوريا؟ يا الله ماذا فاتني في غيبوبتي!

مَن بالاضافة إلى مصر وسوريا؟ لنشغل محرك البحث.

ليبيا: البرلمان والحكومة يتفقان على تطبيق “إجراءات حاسمة” لبسط سلطة الدولة.

أين معمر القذافي وسيف إسلامه؟

بشار الأسد وشى به الى الفرنسيين الذين عثروا عليه في حفرة شبيهة بتلك التي توارى فيها صدام حسين. ويقال إنهم سارعوا الى تصفيته تجنباً للمحاكمات.

تونس من دون زين العابدين بن علي الذي اصبح “مخلوعاً”، وخبر مفاده ان زوجته تطلب الطلاق لتتزوج بمدير مكتبه الذي يصغرها بخمسة أعوام.

اليمن بدورها خرجت على طوع علي عبدالله صالح.

يا الله، لو حصلت هذه الامور قبل الحادث الفظيع لما كان تم اغتيال رفيق الحريري ولما كانت الصدمة والغيبوبة.

لنكمل العمل على محركات البحث وندخل الى لبنان. لا بد ان الأوضاع عال العال. فقياساً بما حصل ويحصل في العالم العربي ويسمّونه “ربيعاً” لا بد ان أحوالنا ورد وياسمين. مهلاً يبدو ان منسوب الدم أغرق الوجدان:

باسل فليحان لم يتأخر في الانضمام الى الحريري. اغتيال سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني ووليد عيدو وبيار الجميل وانطوان غانم وفرنسوا الحاج ووسام عيد. محاولة اغتيال الياس المر ومي شدياق لينضما الى محاولة اغتيال مروان حمادة.

مهلاً. بعض التباشير تدعو الى التفاؤل:

خروج الجيش السوري من لبنان بعد تظاهرة مليونية في 14 آذار 2005.

فريق 14 آذار يحصل على الأكثرية النيابية وإطلاق سمير جعجع بعد اعتقال دام 11 عاماً.

ستوب:

ورقة تعاون بين “حزب الله” وميشال عون.

حرب تموز وتداعياتها وصولاً الى يوم مجيد في 7 أيار 2008.

يبدو ان التطورات تقطع النفس. فقد عاد منسوب التفاؤل الى الارتفاع:

انتخابات نيابية وفوز فريق 14 آذار مرة جديدة بالاكثرية النيابية.

المنسوب ينخفض مرة جديدة:

سعد الحريري يشكل حكومة وفاق وطني ملغومة.

الحريري يزور دمشق ويعلن ان شهود الزور سبب الاتهام السياسي للنظام السوري بالاغتيالات.

“حزب الله” ينقلب على الحكومة الوفاقية بقمصان سود ويشكل حكومة على قياسه ليقضي نهائياً على فريق 14 آذار ويفرض مشروع محور الممانعة الممتد من ايران الى دمشق الى الحزب.

صرنا تحت الأرض.

لحظة. كان في الامكان فرض مشروع كهذا لو لم يزهر ربيع العرب ويصل الى أصل بلائنا فيطاول النظام الأسدي بحيث أصبح يقيناً لدى حلفاء هذا النظام قبل اعدائه أن أيام الأسد في الحكم شارفت نهايتها.

عاد منسوب التفاؤل الى الارتفاع. لنعد الى محركات البحث ونتابع الحاضر.

محاولتان فاشلتان لإغتيال سمير جعجع وبطرس حرب.

ميشال سماحة موقوفاً بتهمة نقل متفجرات في سيارته الى لبنان للقيام بأعمال تقوض السلم الاهلي وتتسبب بفتنة.

اللواء جميل السيد كان مع ميشال سماحة في سيارة الأخير لدى عودته من دمشق. لكنه لم يكن على علم بوجود المتفجرات في السيارة!

الجناح العسكري لآل المقداد دُكّ دكاً وعناصره صاروا في بيت خالتهم وكذلك الناطق الإعلامي بإسم العائلة، وذلك بعد عمليات خطف سوريين وتركي!

الجيش اللبناني يقبض على “عنتر” في الضاحية الجنوبية لبيروت!

الرئيس بشار الأسد يتصل بالعماد عون مهنئاً إياه بنجاته من محاولة الاغتيال. كذلك اتصل الامين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله! مع ملاحظة أن الوهم يسيطر على استهداف الموكب الوهمي للجنرال.

عصابات تخطف مواطنين لقاء فدية.

غلاء، تظاهرات، فوضى حكومية.

عظيم. لنبحث عن الخطوات التي بدأ بتنفيذها فريق 14 آذار ومعه رافضو محور الديكتاتوريات الدينية والايديولوجية، على إعتبار ان كل هذه التطورات تقدم إلى هذا الفريق ورؤيته المفترضة فرصة ذهبية لا تعوّض.

يقرأ: No results found for عن استعدادات هذا الفريق وغيره ممن يعوّل عليهم لنقل لبنان الى مرحلة ما بعد الأسد.

ترك الرجل محرك البحث وصرخ بمن حوله: أعطوني إبرة ما. أو حبة. أعيدوني الى الغيبوبة.

النهار

المهنة لاجئ هل نصدّق؟

    فاروق يوسف

السوريون لاجئون. خبر ليس جديداً. كان هناك دائماً سوريون لاجئون في كل المدن الأسوجية التي سكنتُ فيها. لكنهم لم يكونوا سوريين تماماً. في الأوراق الرسمية، أقصد أوراق اللجوء، كان أولئك السوريون عراقيين، على الأقل الجزء الاعظم منهم. في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته كانت الحيلة جاهزة: إن كنتَ عربياً، فعليك أن تقدّم نفسكَ إلى سلطات الهجرة هنا، باعتبارك عراقياً، ليتم قبولك مباشرة أو بعد أشهر قليلة بحسب مزاج المحقق الذي يلتقيك.

 السوريون اتّبعوا وصفة المهرّبين تلك فوصلوا إلى برّ الأمان، فكانت لديهم في ما بعد مطاعمهم ومخازنهم التجارية وكنائسهم. الواقع شيء والأوراق الرسمية شيء آخر. لذلك لم يكثر عدد السوريين إلا من طريق الزواج بنوعيه، الحقيقي والزائف. هناك شركات وهمية لاستيراد الزوجات والأزواج. حقل اجتماعي ملغوم بالنيات المبهمة. لذلك لم يخل الأمر من الصفقات. كان هناك دائماً زوج زائف، زوجة مرجأة. قال لي أحدهم: إبني في مشكلة. لقد قررت زوجته أن تتزوجه. لم أفهم في بادئ الأمر ما قاله ذلك الرجل، فقد كان عليَّ أن أحلل جملته الملغزة وأضعها في سياقها الواقعي لأفهمها. كانت المرأة التي جلبت ذلك الفتى في سياق صفقة تجارية، قد قررت التمسك به زوجاً. الإنسانية تكذب. فهل اللجوء كذبة؟

 قال لي صديقي الكاتب البوسني: البوسنيون الذين يستحقون اللجوء لم يصلوا. لقد وصلنا نحن بدلاً منهم. في الشوارع وفي الأسواق أرى عشرات الصوماليات وهن يرتدين العباءة الخليجية (الإيرانية) فأعرف أنهن قادمات من الخليج. لا يتكلمن الأسوجية، ذلك لأنهن لم يذهبن يوماً ما إلى المدرسة ولن يذهبن أبداً. لقد تحددت وظيفتهن هنا: مكائن للتفريخ. كل سنة تلد الواحدة منهن طفلاً، تزيد ولادته من دخل العائلة. لنقلْ إن ذلك يحدث كل سنتين، لا فرق. لذلك لا تجد تلك المرأة الولاّدة فسحة من الوقت لتعلم اللغة. أرى أطفال العائلة الصومالية الواحدة فأذهل لكثرتهم. الفرق بالطول بين الواحد وأخيه أو أخته سنتيمتر أو أكثر قليلاً. بالنسة إلى الأب والأم فإن الحكمة الشعبية تتحقق هنا. كل طفل يحمل رزقه معه. هناك دعم من الدولة لكل طفل جديد. تكاثروا إذاً إيها الحكماء. بالنسبة إلى الصومالين وهم متدينون من طراز فاخر، فإن كل الاسوجيين كفرة، لذلك يحق ابتزازهم. خرافة تهب اللصوصية شرفاً منتحلاً. ما من شيء له علاقة بالنزاهة. هل صار اللجوء مهنة؟ سؤال جارح، تضطرنا واقعيته إلى تفكيك سلوك اللاجئين وإعادته إلى أسباب، لن يكون البحث عن مكان آمن من بينها. قال لي شاب فلسطيني التقتيه قبل سنوات: نحن سبعة أخوة، مَن أنهى دراسته الجامعية منا ذهب إلى الخليج للعمل، ومَن لم يفلح في دراسته بسبب انهماكه في العمل المبكر مثلي فلا بد من أن يجد طريقة في الوصول إلى دول اللجوء.

مشرّدون متأملون

مع ذلك فإن هذا البعد اللاهي والمسلّي الذي يبدو ترفيهياً، لا يخفي حقيقة أن اللاجئين هم في حقيقتهم كائنات معذبة، يتحكم شعور عميق بالاقتلاع واللا انتماء بحركتهم وتصرفاتهم التي يعبّر جزء كبير منها عن شعور عميق بالعبث الوجودي. وهو الشعور الذي ينتقل إلى الأجيال اللاحقة كونه إرثاً عائلياً. القول إن هناك من استفاد من قوانين اللجوء هو قول صحيح لكن بين قوسين، ذلك لأنه قد يؤدي إلى أحكام غير صحيحة أو على الاقل ناقصة. قلة من طالبي اللجوء تصل إلى أوروبا. يمكننا مجازاً أن نسمّيها الأقلية السعيدة. هي أقلية قياسا بما يعانيه رأس العالم من دوار اسمه “اللاجئون”. في العام الماضي فقط كان هناك أكثر من أربعة ملايين شخص فرّوا من منازلهم، وهذ ما يُعدّ بحسب تقرير المفوضية العليا للاجئين أكبر عدد من اللاجئين الجدد منذ بداية هذا القرن. في نهاية عام 2011 كان هناك ما مجموعه 42,5 مليون لاجئ عبر أنحاء العالم. أقل من مليون منهم هم الذين استطاعوا أن يقدّموا طلبات للجوء في بلدان أخرى، أما الملايين الباقية فتوزعت بين مجموعتين: مشردون في أوطانهم (26,4) وعابرون إلى بلدان مجاورة (15,42). المدهش في الأمر أن أفغانستان والعراق والصومال لا تزال تتصدر قوائم الدول التي تصدِّر إلى العالم بشراً ضائعين بدلاً من الحرير والتمر والموز. ما يؤكد أن هناك شعوباً بعينها قد كُتب لها أن تقدم دائماً بطريقة أو بأخرى عيّنة لإختبار المصير الإنساني في ميزان العدالة المهدورة. فاللجوء حتى لو ضمن طالبه الحصول على المواطنة في بلد يحترم حقوق الإنسان، لن يكون حلاً إنسانياً، إلا من حيث كونه يمثل محاولة للمحافظة على النوع. هذا ما تفعله البشرية المتطورة مع الطيور والحيوانات والحشرات والنباتات المهددة بالانقراض. حين أرى بعض اللاجئين أفكر بغضب. كان ممكناً أن ترعى هذه السيدة أغنامها في وديان قندهار، مطمئنة وهي تشعر أنها قريبة من الله. كان من الممكن أن يمشي ذلك الشيخ بقدر لافت من الكرامة ذاهباً إلى كنيسة سيدة النجاة في بغداد ليشعل شمعة من أجل العذراء. تلك الصبية يمكنني أن أتخيلها وهي تركض بحرية وسط مزارع مقديشو. عطار في حلب ومزارع في بعلبك ونبي في رواندا. هناك سؤال يومي يذكّرك باللجوء إن نسيته: من أين أنت؟ سؤال فائض يبدو مثل شتيمة. مثل صفعة. مثل يد تمتد إلى عينيك لتفتحهما وأنت نائم. كما لو أن أحدا يلاحقك ليقول لك: هذه الارض ليست لك.

عائد إلى بيروت

هناك وجه آخر للمشكلة يلخّصه وجود 12 مليون شخص في العالم لا يحملون جنسية. إنهم ينتمون إلى شريحة الـ”بدون” التي صنعت منها الكويت ملفاً معقداً. صارت تلك الدولة النفطية تخصص سنة كاملة لقراءة ورقة واحدة منه. بشر بلا هوية. هل بقي لأسمائهم الشخصية معنى؟ بصمات أصابعهم، قزحيات عيونهم، حزن ضحكاتهم، هستيريا رقصهم، جنازاتهم المتفائلة، نظراتهم المنشورة على حبل غسيل، عظامهم وهي تستعرض صورها. هؤلاء بشر مقيّدون بسلاسل وهمية. هناك مربّع، صغُر أم كبُر، عليك أن لا تجتاز خطوطه وإلا فإن الأجراس ستدقّ. نوع من السجن، يشعر المرء معه أنه يدفع ثمن خراب دول وأمم وحضارات وقيم أخلاقية. يوماً ما، قرر هؤلاء أن يفرّوا من غير أن يحملوا أوراقهم التي أتلفت في ما بعد بطريقة أو بأخرى. إنهم نسّاك عصرنا. الرهبان الماشون على طريق عذاب لن ينتهي. ما من دولة تقبل طلباتهم للجوء. العدالة شبح استعماري مقنّع. ما من شيء في القانون إسمه الرحمة. عليك أن تعود مشياً في الطريق ذاتها التي حملتكَ إلى هنا. لا أحد على استعداد أن يفهم أن المدينة التي طردتك لن تقبلك عائداً مثلما ذهبت، خالي الوفاض. في كردستان العراق كان الزعماء الأكراد صرحاء في هذه النقطة: لن نقبل بهبوط طائرة تقلّ طالبي لجوء مرفوضين في مطار أربيل. لقد ذهبوا. تخلّصنا منهم. ما الذي يلزمنا قبولهم عائدين مثلما ذهبوا؟ ينظر طالبو اللجوء الأكراد إلى ذلك الموقف المنفصل عن كل شعور بالمسؤولية باعتباره موقفاً إنسانياً عظيماً يدعم قضيتهم في اللجوء. نحن في القاع. الإنسانية تعبث بأولوياتها: بدلاً من أن يفكر الإنسان في استعادة وطنه الأم، صار عليه أن يفكر في ما يؤهله، بما يدعم حقه الوهمي في الحصول على وطن بديل. التقيتُ ذات مرة امرأة لبنانية أربعينية، تحمل الجنسية الأسوجية كانت قد جلبت من لبنان شاباً عشرينياً زوجاً لها. كانت تلك السيدة تعدّ الايام بأصابع قدميها وصولاً إلى الموعد الذي يحق لزوجها فيه الحصول على الإقامة الدائمة. بعد سنتين غادرت تلك السيدة إلى قريتها في جبال لبنان، وبقي الزوج الشاب سنة بعدها منتظرا بقلق حصوله على الجنسية. ذات يوم رأيته مستبشراً. قال لي: حجزتُ إلى بيروت غداً. فاليوم حصلتُ على الجواز الأحمر. انتهت المهمة. سيكون ذلك الشاب في بيروت شخصاً آخر. هذا ما يتوهمه. ما من حقيقة مثالية على الأرض. صار علينا أن نفكر في الطريقة التي تجعل من كل واحد منا مشروعاً للاجئ محتمل.

النهار

أنا لاجئ

    عقل العويط

في ما مضى، كان اللاجئ – كم أكره هذه الكلمة لما تنطوي عليه من احتقار لكرامة الذات البشرية – يُهرَع على مضض إلى بلد مضيف ليُلجئه، أو إلى جارٍ صديق وشقيق ليأوي إليه. وكان أيضاً يُهرَع قسراً إلى غريب علّه يجد لديه حجراً يسند إليه رأسه. ومع أن البيت اللبناني الضيّق لم يكن يتسع، فقد كان يتسع، ويجب أن يظلّ يتسع، لألف ألف عابر ومحبّ. أما الآن، وتحت جحيم ما يجري، في سوريا والعالم العربي، فمَن يلجئ اللاجئين السوريين العراقيين المصريين السودانيين الفلسطينيين اللبنانيين، في هذا الزمن العربي اللئيم؟

شاهدتُ بالعين المجرّدة لاجئين بالمئات. بعشرات المئات. بالألوف المؤلّفة. ورأيتُ في مناماتي وكوابيسي، أطفالهم ونساءهم وشيوخهم ورجالهم، وهم يجدّون السير مغتربين في أرواحهم وأبدانهم المهيضة. رأيتهم في الأزقة. في المتاهات. في بيوت التنك. في المستنقعات. في الخانات. دخلتُ إلى عيونهم واستمعتُ إليها. كم استمعتُ إلى عيونهم، وطأطأتُ، إلى حدّ أني شعرتُ بما لم أشعر به يوماً من تحقيرٍ للذات وأنا أنظر إلى نفوسي في هؤلاء.

لا أعرف أن أكتب عن اللاجئين، لأن كتابتي لا تعرف أن تدمل عيونهم المغتربة والمجهضة، ولا تستحق أن تحلّ رباط أحذيتهم. لا أعرف أن أكتب عن أناسٍ كهؤلاء، يستحقون من الشرط البشري أن يعتني بأرواحهم، وهي أجسادهم التائهة، مثلما يعتني الظل بتطويع الهجير، أو مثلما يعتني عصفورٌ بشجرة عنبٍ وتين. لا أعرف أن أكتب، ليس لصعوبة الكتابة، بل لأني لستُ أهلاً لها. فهي تتطلب من الكاتب لا جلوساً مترفاً وراء طاولة، بل نزولاً مأسوياً إلى الجحيم، وأنا لم أُعطَ هذه النعمة الوجودية والكتابية.

أجدني مكربجاً كسيحاً مجمَّداً هارباً من عيونهم، في عيونهم، بدون أن أستطيع شيئاً. عيونهم تطارد حياتي فأهرب، لكنْ من دون أن أستطيع أن أهرب، لأن هربي شاخصٌ في مكانه كتمثالٍ منحوتٍ بأوجاع الحجر. فكيف أهرب، وإلى أين؟ قايين، وهو مَن هو في القتل، لم يستطع أن يهرب من عينَي قتيله، فمَن أنا في القتل، بل في قوة الوجود، لأستطيع أن أهرب.

ألجأ إلى اللعب. إلى التواصل الافتراضي. إلى الترف العقلي. إلى تبديد الغيوم. إلى القهقهة. إلى الفراغ. إلى العدم. إلى النسيان. إلى العبث. إلى النوم. إلى الهلوسة المشغولة. إلى الموت الرمزي. لكن، بلا جدوى.

أكتب في الصحافة. وأكتب للأدب. موهماً نفسي (!) بأني “كاتب كبير”، لأتعزّى. وأتوهّم أن القرّاء ينتظرون ما أكتب، ويحبّونه، فأواصل ارتداء الأقنعة متمسكاً بمسؤولية الأمل المكابر المتذاكي. لكني لا أعرف ما الجدوى. ففي أحيان، أشعر أن ذلك كلّه هراء بهراء. وأني– حاشا-  أكذب على نفسي وعلى القرّاء. أقول للقرّاء بلهجة يقينية إننا، ولا بدّ، قادرون على أن ننشئ “جمهورية انشقاقية” تصون فكرة هذا البلد، وجوهر معناه، وتحميه من وحوشه المفترسة. أكذب وأُمعن، مهلوساً أننا سنستعيد، ولا بدّ، “لبنانهم”، ليصير لبنان الحق والعدالة والقانون والحب والخير والجمال والحرية. أكتب بقوةٍ مصدِّقة أن الأمل بات على مقربة، وأن غيلان الطوائف والمذاهب والميليشيات وقطّاع الطرق والمربّعات والإقطاعات المجتمعية والدينية والأمنية سيصيرون جماعات وأفراداً ينتمون إلى دولة المواطَنة المدنية. لكني كاذب. فأنا في الواقع أهرب من إعلان اليأس الذي ينخر عظامي نخراً موصولاً بقعر النخاع الشوكي. أهرب من مسؤولية إشهار هذا اليأس، لأنه، هو وحده، الحقيقة الحقيقية، في أتون هذا الموت القيمي والتاريخي الذي يمحق كل شيء.

أكذب لأني لا أهرب قدْر ما ينبغي لي أن أهرب من هذه الدائرة الجهنمية المغلقة. ولأني لا أزال، أنا نفسي، أُوهم نفسي بأن الكاتب، وخصوصاً الشاعر، هو أستاذ الأمل، ويجب أن يظلّ يخترع هذا الأمل، وإن تكن حاله كحال مَن ينزف حشرجات الأمل الأخير.

لكنْ، لماذا أكذب؟ هل لأني كاذب حقاً؟ لا. فأنا لستُ بكاذبٍ البتة. لكني أكذب لأني، وبكلّ صدقٍ عارٍ من أيّ زيف، إذ أكتب عن الأمل فلأني، وكثيرين، لا نتحمّل الحقائق الكبرى التي تحيق بنا، ولا نريد أن نصدّقها، من مثل حقيقة الأبوكاليبس الوجودي العربي. فأنا أكذب مكابِراً، مع أني أشعر بأني لاجئٌ كهؤلاء اللاجئين. وها أنا أعترف، صارخاً بكل ما أوتيتُ من خرسٍ جحيمي، أن لجوئي لا يوصف. فأنا لاجئٌ وليس عندي مكانٌ يلجئني. فأنا لاجئٌ في البلاد. ولاجئٌ بين العباد. ولاجئٌ في لبنان. ولاجئٌ في العاصمة. ولاجئٌ في القرية. ولاجئٌ بين الثعالب وفي البراري. ولاجئٌ في الهواء. ولاجئٌ في المساء. ولاجئٌ في الليل. ولاجئٌ في الفجر. ولاجئٌ في القبر. ولاجئٌ في جهنّم وفي السماء.

بل أنا لاجئٌ في جسمي. ولاجئٌ في رأسي. ولاجئٌ في أفكاري. ولاجئٌ في عينيَّ. ولاجئٌ في قلبي. ولاجئٌ في أصابع يديَّ. ولاجئٌ في سهاد أرقي. ولاجئٌ في نومي. ولاجئٌ في يقظتي. ولاجئٌ لديَّ. ولاجئٌ لديكِ. وهؤلاء جميعاً يضيقون ذرعاً بي. فإلى أين أذهب؟

في كلّ صباح، ألجأ إلى البنّ، أكويه ركوةً بعد ركوة، ليليّن مزاج خاطري، فلا يلين. وفي كلّ مساء، ألجأ إلى النبيذ لأدهن به خراب العمران الجسدي، لكن خرابي ممعنٌ ومستزيد. بين الوقتين، ألجأ إلى العمل، لكن بلا جدوى. كلّ ما أفعله، يزيدني شعوراً بأني لاجئٌ معطوب في هذه الأرض المعطوبة التي هي حياتي.

في كلّ ليل، أُقنع الليل عبثاً بأني بعضٌ من نسيج حلكته اليائسة، وبأني بعضٌ من دمه الأسود المتخثر. أيضاً بلا جدوى.

فإلى أين ألجأ؟

ها أنا أبحلق في الكتب. في الأوراق المسوّدة. أبحلق في البحر الأبيض المتوسط. أبحلق في الضوء. في القمر. في ضجيج الهلوسة. في الهواء المطعون بالسموم. أبحلق في الموسيقى. في الجدران المأهولة بألوان مهذّبة خادعة. أبحلق في فراغ عينيَّ لعلني أهتدي إلى لجوء، لكني لا أهتدي.

سامِحوني أيها القرّاء. ولا تسامِحوني. فأنا لستُ كاذبَ أملٍ وإنُ كنتُ كاذبَ الأمل. بل سأظلّ، بكلّ صراحة، سأظلّ كاذبَ أمل، إلى أن تتحقق الكذبة فتصير حقيقة.

سامِحوني، لأني ها هنا في هذا المقال، في هذا المقال فحسب، أُعلن أني صادق اليأس واللجوء، لكنْ بلا ملجأ!.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى