صفحات الثقافة

مقالات تناولت موقف زياد الرحباني من الثورة السورية

 زياد “الفنان” أم “السياسي”؟

عمر قدور

 في عام 2008 كانت مقاهي دمشق مكتظة بالشابات والشباب الذين ينتظرون موعدهم مع حفلة زياد الرحباني في قلعة دمشق، بالنسبة إلى الكثيرين منهم كان الأمر أشبه بالحلم أن يلتقوا نجمهم المحبوب للمرة الأولى. بعد ثلاث سنوات كانت المقاهي ذاتها مكتظة بهم وهم يتابعون بشغف أخبار الربيع العربي، ويتهيأون للانضمام إليه، وذلك قبل أن يتشرد قسم منهم في المنافي بعد اعتقال قسم منهم وقتل قسم آخر، وقبل أن يستوطن شبيحة النظام مقاهي العاصمة منعاً لأيّ حراك أو حيوية.

في قلعة دمشق، لم يذهب الشباب ليستمعوا إلى زياد، فهم قد حفظوا أغنياته وألحانه عن ظهر قلب، ولقد فوجئ بهم يردّدون الأغنيات بشكل جماعي مع فرقته، ولم يكن مبتهجاً بذلك. لم يكن المكان ولا الجمهور مؤهّلين لجلسة استماع هادئة، وبشكل خاصّ لم يكن الشباب الذين أصرّوا على حضور الحفلة وقوفاً يملكون تلك السكينة. إحدى المتحمّسات ستُعتقل بعد ثلاث سنوات من أمام الجامع الأموي، وهو على مرمى إشارة موسيقية من القلعة، إثر مشاركتها في أولى مظاهرات الثورة. شابّة أخرى كانت تدافع أمامنا عن حق الجمهور في الغناء، لا تزال بانتظار زوجها المعتقل، حينها عَزَت انتقادنا مشاركتهم في الغناء إلى عدم حضورنا الحفلة أصلاً وعدم إحساسنا بالمشاعر الخاصة التي تنتاب الجمهور.

كثير من الشباب الجدد في المقاهي كانوا يمنحون الإحساس بأنهم طالعون من ألحان زياد. هذا الإحساس لا يأتي مصادفة. هم يتعمدون إيصاله، وكأن تلك الموسيقى بنظرهم مفتاح للتمرد متعدّد الأشكال؛ التمرد غير المؤطر بحدود أو بوعي. زياد بالنسبة إليهم حالة تتجاوز الموسيقى، والكثير منهم غير مثقف موسيقياً بالأصل. كان من الممكن أن تخمّن أن تلك الشابة أو ذلك الشاب يعشقان زياد من دون سابق معرفة بأحدهما. أحياناً ثمة “لوك” معيّن يدل على ذلك، وفي أحيان أخرى ثمة طريقة في التحدث هي غالباً غير مترابطة لأنها تبتغي الفوضى أصلاً. وككلّ ظاهرة كان لا بد من وجود متصنّعين، ووجودهم لا يلغي أصحاب المزاج الأصيل، أولئك الذين بنوا منظومتهم على معزوفات مثل “عايشة وحدا بلاك” و”بوعلي” و”قمح”. قسم لا يُستهان به من الأخيرين انخرط في الثورة، ولعل بعض الفضل في هذا يرجع إلى زياد!.

الكثير من “معتنقي زياد” السوريين لم يشاهدوا، بحكم سنّهم، “حوار العمر” الذي أجرته جيزيل خوري معه قبل عقد ونصف، ولم يستمعوا إليه وهو يدعو إلى الدولة الأمنية، وعندما سألته المذيعة عمّا إذا كان يريدها على نمط النظام السوري أجاب بأنه لا يمانع في ذلك، فضلاً عن رأيه بأن لبنان مكتظ زيادة عن اللزوم، ولا بأس حتى بالتضحية بمليون لبناني من أجل بقاء الأفضل، طبعاً الأفضل من وجهة نظره. أو ربما شاهد هؤلاء الشباب تسجيلاً للحوار، وأخذوا تصريحاته على محمل النزق والنكتة، فلم يتوقّعوا يوماً ألا يكترث صاحبها بمقتلة السوريين على أيدي قوات النظام الذي لم يمانع في استلهام نمطه الأمني من قبل، بل وحتى أن يسخر من الثورة ومنهم.

لقد خاب أمل الكثيرين من الشباب السوريين بزياد الرحباني، ربما لأنهم لم يستمعوا إلى آرائه السياسية من قبل، أو لم يأخذوها على محمل الجد. لكن غفلتهم عن ذلك لا تملأ الفجوة بين زياد الفنان وزياد السياسي. فالشيوعي المتحمّس، والملتحق بتحالف الممانعة، لا يُظهر التزاماً صارماً في الفن على النحو الذي أثبته في السياسة حتى الآن. على العكس من هذا، يمكن تخيّل زياد الفنان وهو يسخر من زياد السياسي، ويمكن اعتبار من خاب أملهم به أقرب وأكثر أمانة لزياد الفنان من زياد نفسه. وليست مصادفة أن يستخدم الطلاب المحتجون عليه في الجامعة الأمريكية منطوقه الفني لإدانته، فهؤلاء لم يشجبوا موقفه إلا انطلاقاً من جزء منه، ولولا هذا الجزء لما خاب أملهم أصلاً.

قد يشفع لزياد أنه لم يكن يوماً على انسجام أو وفاق مع ذاته، وهو مَن عزّز صورة الساخر الذي لا يقيم وزناً حتى لتناقضاته أو لتهافت أطروحاته الفكرية، لولا أن مأساة السوريين الحالية لا تحتمل التهكّم، ولا تحتمل الخفّة إن كانت تعني خفّة اللامبالاة تجاههم، أو بالأحرى التعالي عليهم بوصفهم جهلة لا يعرفون مما يتكون الجزء الأسفل من حورية البحر.

المدن

الطيّب زياد الرحباني

جهاد بزي

كنت ولداً، وكان كاسيت “عاهدير البوسطة” سحراً خالصاً. لم أفهم كلمات الأغنيات، فكنت أصنع منها  قصصاً خيالية نسيتها كلها الآن، مع أنها  في حينه، أفرحتني وقتاً طويلاً. لم أكن سمعت بعد بزياد الرحباني، ولا بمسرحيته، ولا بفيروز التي كانت على الوجه الثاني من الكاسيت نفسه، “إمرأة” تغني “عاهدير البوسطة” وأفضل عليها صوت الرجل في الاغنية عينها على الوجه الأول.

 ليس في ذاكرتي موسيقى سبقت هذا الكاسيت. زياد هو الذي قدّم الموسيقى إلى الطفل ابن الحرب الأهلية والعائلة  التي ربّها وكبار أبنائها عمال، وأكبرهم هو من شاهد مسرحيات الرحباني وأدخل موسيقاه إلى البيت في الضاحية الجنوبية.

 تغيب صورة زياد، ثم تعود في كاسيتات مسرحيات يحتفظ بها صديقي الاعتق في مكتبته الصغيرة المعلقة على الحائط. هل كنّا، في بدايات المراهقة نستمع إليها، ونتشاركها؟ لا أذكر تماماً. لكنني أذكر أنني سرعان ما سأغيب في تديّن شديد يستمر لسنوات، أمتنع فيه عن مصافحة النساء، وعن الاستماع إلى كل أنواع الموسيقى، وسأمضي وقتي في ذهاب واياب إلى جامع الامام الرضا في بئر العبد، مصلياً ومستمعاً إلى خطابات السيد محمد حسين فضل الله، وباكياً في ليالي الخميس ونحن نتلو دعاء كميل، وألطم على صدري وأنتحب في أيام عاشوراء، وأصوم. ولم اخرج من التدين إلا حين بات السؤال الذي يلح علي، أنا المراهق، مصيرياً: كيف يكون صوت فيروز حراماً؟

 ولأنني لم أجد اجابة منطقية، ولم استطع مقاومة الاستماع إليها، رحت أنسل من الدين إلى صوتها، وإلى القراءة. ولأن  الخطيئة تجر الخطيئة، رحت أخسر ايماني واكسب الموسيقى، حتى وجدت نفسي فجأة وقد خسرت كل ديني، وكسبت ما أظنه البقية الباقية من الحياة الدنيا. وهو خيار.

 متى عاد زياد الرحباني؟

 لا أدري. أعرف أنّه فجأة احتل كل الصورة أمام عيني مراهق تائه في بلد غريب الأطوار. كانت سخرية الرحباني الهائلة بمثابة انتقامي الشخصي من لبنان البخيل الذي لا يعطي أبناءه شيئاً. الساخر راح يعلمني بمسرحياته كيف أنظر إلى الطوائف وإلى السياسة، وربما إلى الحرب الأهلية برمتها، والتي صارت بالنسبة إلي شريراً يمينياً وطيّباً يسارياً وفلسطينياً.

  كان زياد الرحباني درساً أوّل في السياسة اللبنانية. فتح الباب أمامي إلى الخروج من الطائفة صوب أن أصير فرداً، بيساريّة ما ضبابية، أطلقتُ عليها توصيفات عديدة، قبل أن أراني صرت خارجها هي أيضاً، وخارج كل انتماء ايديولوجي، وهو أيضاً خيار.

 وزياد جعلني اقتنع، مثله، بأن الديموقراطية والحرية، منتجان تغش بهما أميركا شعوب الأرض، وأن الاتحاد السوفياتي (السابق دائماً) ومن ضمنه ستالين، كان من أفضل ما حظيت به البشرية. ولن أجهد نفسي في البحث عن قراءات تغذي مثل هذه الأفكار، يصير معها كل آت من الغرب، الاميركي بخاصة، شراً مطلقاً، وكل سوفياتي ملون بالحنين الاحمر، حلماً يجب أن يتحقق يوماً. الغريب أن هذه القراءات عن أميركا كانت لأميركيين، بينما كل مترجم آت من الحقبة السوفياتية كان عفناً شكلا ومضموناً، ولا يُقرأ.

 ولأنني سُحرت به، لم أقف عند تناقضاته، وهي التي تشكله. هو يعبّر بحرية تامة عن رغبته بالانتماء إلى بلد لا حرية فيه يحكمه ضابط عادل (ستاليني). بلد من دون ديموقراطية وتسوده العدالة الاجتماعية. لم أقف عند مفارقة أنه قد لا يطيق الحياة في بلد مثل الاتحاد السوفياتي الذي يبشر فيه، أو كوريا الشمالية، أو الصين أو كوبا، أو حتى سوريا تحت حكم البعث، العدو الطبيعي للشيوعي.

 وزياد الذي بشّر بكره أميركا وحب الاتحاد السوفياتي، لم يكن إلا صورة متخيلة لفنان أميركي. الرحباني كان وودي آلن لبنانياً. مشهده الأثير عازفاً البيانو في حفل الجامعة الاميركية في بيروت لم يكن سوفياتياً ولا روسياً. كان أميركياً. الجاز، مشروعه الموسيقي الذي لم يكمله، لم يكن سوفياتياً بدوره. زياد الرحباني كان، على الرغم من شدة كرهه لاميركا، مكملاً لشارع الحمرا – الجامعة الاميركية، حيث يعيش يومياته جزء كبير من جمهوره الذي يتعاقب على حياة بيروت المدينية وعلى ثقافتها ويسارها المختلف عن شيوعية الوتوات، والذي لا يرى في أميركا مطعم وجبات سريعة، وجيشاً يقتحم بلاد العرب، بل يرى فيها ايضاً ما دلّه زياد الرحباني نفسه إليه: الجاز وفن السخرية وحرية التعبير، والحق في الابداع والتفكير خارج الصندوق، وهي كلها مفاهيم منعتها عن شعوبها المقموعة الاشتراكيات العظمى، فكان المنع من اسباب زوالها، وعدم تركها فناً او أدباً مؤثراً في حياة الشعوب.

 وهو الذي لطالما أنكر عن نفسه صفة منظر فكري أو طامح سياسي، ظل يقول إنه هكذا، وإنه لا يقدم أية تنازلات، وعلى الناس أن يقبلوه كما هو أو أن يرفضوه كما هو، من دون حتى أن يناقشوه. تسلّح الرجل بعناد في الثبات على فكر سياسي أيديولوجي وجودي واحد: أميركا هي العدو الأول والأخير. بناء على هذا العداء الابدي يبني  كل مواقفه وقراراته من القوى والبلاد والعباد. يقع في حب اسلاميين ويكره اسلاميين آخرين. يعادي ديكتاتوريات دينية ويعشق أخرى. ميزانه يقيس درجات كره أميركا التي سوّق بشكل أو بآخر لثقافتها.

 هو صادق في عناده وفي راديكاليته. لكنه ليس مدعيّاً ولا انتهازياً. هو رجلٌ طيّب يبدو بريئاً إّذا ما قورن بآخرين في “خندقه” شتّامين شديدي التطرف والعنف والانتماء الطائفي العميق المكبوت لصالح قشرة من يسارية كاذبة. هو، بعكسهم، ليس طائفياً ولا يحقد على الطوائف الأخرى. هو لا ينتمي لا ضمناً ولا علناً إلى طائفة. وهو في الأصل لا يشبههم. زياد الرحباني فريد من نوعه. ميزته أنه كذلك. لكنه، كبلده، لا يجيد الوصول إلى نهايات سعيدة. لم يصل في مشروع إلى منتهاه، لا في الموسيقى ولا في المسرح، ولا حتى في السياسة، وهذا ليس فشلاً، ما دامت الحياة في لبنان تمضي هكذا، برخاوة قاتلة بلا قعر، تغرق المرء في الإحباط تلو الاحباط.

 وهو سيظل موجوداً. لن يختفي حتى لو اعتزل دفعة واحدة، كل ما يفعله، أو لا يفعله. معجبوه الحاليون من الشابات والشبان، لم يتعرفوا عليه بسبب مقالاته الحالية، ولا بسبب حبه لحزب الله وعدائه للقوّات اللبنانية (وكلاهما غير منطقي). هم يعرفون زياد الرحباني القديم، موسيقاه ومسرحياته. أما هو، فليس لديه ما يقوله الآن لهم. زياد الذي قال كل ما لديه في أول سنوات أعماله، وجد فجأة أنه لم يعد لديه ما يقوله. فراح يصمت طويلاً، ثم حين يحكي يبدو كمن يقطّع الكثير من الوقت في البحث مجدداً عن صوته التائه في البلد التائه. وهو سيظل موجوداً لأن لبنان لم ينتج، ولا يبدو أنه سينتج قريباً، حالة أخرى شبيهة. على أنه لن يجد صوته مجدداً.

 الآن، بينما يثير زياد الرحباني كل هذا النقاش والشتائم والشتائم المضادة، أشعر بحيرة هائلة. لقد رافقني زياد الرحباني معظم عمري. في مرحلة ما صرت أقلد كيف يحكي، وغالباً ما أقبض على نفسي متلبساً بتقليده عن غير قصد مني. كان صورة للبطل المثل الأعلى، الذي لا يريد أن يكون كذلك. لطالما وثقت بأنه كما دلني على الموسيقى، وعلى الوجه الحقيقي للبنان، سيظل يدلني إلى الموقف الأخلاقي الصحيح. لكنه بات عاجزاً عن أن يكون مقنعاً.

 قبل سنوات بعيدة، وفي في حوار امتد لساعات على “صوت الشعب” مع الزميلة ضحى شمس، أمضيت نهاري كله أسجل حديثه، مستهلكاً أكثر من عشرة كاسيتات، لا أعرف اين هي الآن. والآن، بينما يطل من كل مكان تقريباً، لا ينتابني حتى الفضول في الاستماع إليه.  كذلك أشعر بالنسبة للموسيقى التي يؤلفها او يعزفها.  ليس أنني أعرف أنه لن يقول جديداً. وليس لأني لا أريد أن أحافظ على صورة أخرى له، ما دامت صورته هي نفسها لم تتغير، وليس لأنه كان مرحلة ضرورية في تشكل هويتي كلبناني تائه لا يتقن إلا فن الخسارة. وليس بالطبع لأنني غاضب من مواقفه التي لم تفاجئني أصلاً. لم يخيّب أملي. فقط شعرت بأنني فقدت الإهتمام. وهذا يترك شعوراً غامضاً بالكآبة يدهم المرء حين لا تعود ذكرى ما تعني له شيئاً.  كما لو  خسر من نفسه ما لا يعوّض. شعور عميق بالخواء  في القلب يشبه الأثر الذي تخلّفه خسارة صديق.

 “عا هدير البوسطة”. كانت أغنية ملآنة بالفرح وبالموسيقى.

المدن

زياد وجيله والـ”أنا الملكية

مازن حيدر

الحروب مصنع للموت، تنشره في الهواء، يخترق مسامات الجسد من دون الحاجة إلى سلاح. حتى الذكريات لا تصمد أمامها، فيتلفها العقل بتلفها سريعاً أو يوضّبها في أبعد ما يكون عن الوعي.

تُقاس المجتمعات بحركة أجيالها. في أواخر الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي شكّل “الجيل الجديد” كتلة وازنة طالبت بحقها في إنتاج النظام الذي حاول بدوره الدفاع عن وجوده، فانفجرت أزمة تجسدت في الغرب ثورات اجتماعية، وفي الشرق حراكاً سياسياً، وتم استيعاب التحركات المناهضة للنظام بطريقة مختلفة في كل بلد. أما في لبنان، فكانت الحرب الأهلية التي قضت على زمن بأكمله، وعلى مثال الأب في المجتمع نتيجة انهيار قيمة الإنسان كفرد. كان يفترض بهذا الجيل أن يطوّر هويته، غير أن جنون الجماعات وعنفها قضى على الاستقلالية ولم يترك مثالاً، لم يكتمل النمو ولم تولد الهوية الخاصة، وظل المجتمع أسير نظمه القديمة.

في تلك المرحلة، برز زياد الرحباني. فنانٌ ينتمي إلى ذلك الجيل، يعبّر بفنه عن قيمه وأفكاره. هو الشاب المنتمي الى عائلة تملك سلطة فنية ومعنوية مهولة تكاد تختزل الوطن، وهو الذي ثارعلى عائلته، انشقّ باكراً، ورسم طريقه على طريقته الصادمة، فكان شخصية استثنائية بالنسبة إلى جيل شاب أراد آنذاك الانقضاض على صيغة الوطن.

هنا، نستعين بعلم النفس لتفسير ما حدث ويحدث بين زياد وجيل اليوم…

ينتج عن العقل البشري نوعان من الـ”أنا”. الأنا الفردية أو العائلية  والأنا الجماعية أو الاجتماعية. الأولى تبدأ تكونها في الطفولة، وعبر علاقة الطفل بعائلته، إذ يكون بالنسبة إليها وبالتالي بالنسبة إلى نفسه، محور الوجود. أما الأنا الثانية، فتتبلور بعد البلوغ الجنسي وتنتج عنها القيم المتعلقة بالآخر “الغريب” وحقوقه والاعتراف به عبر تقبّله. بذلك تتوازن “الأنَتان” داخل النفس البشرية لترتقي الى فكرة الإنسان. انطلاقاً من هذا المنطق، نرى أن زياد الرحباني، وباقي أترابه، حين بلغوا نضوجهم، وحين أرادوا التحرر بالقوة وبالفعل عبر الثورة أولاً على “أناهم” الفردية في سبيل بناء الأنا الاجتماعية، وعندما أرادوا الاستقلال عن سلطات الأهل والنظام السياسي… انقسم البلد بين “الأنتان”، فتمسك البعض بالأنا العائلية رافعين شعار “الله، الوطن، العائلة”، بينما تشبث الباقون بالأنا الجماعية فرفعوا شعارات التغيير والعدالة. اندلعت الحرب، فأثقلت العمر بالخيبات والاحباطات، خصوصاً مع انهيار الاتحاد السوفياتي وفشل مشروع اليسار في العالم، إضافة إلى تدمير المجتمع الذي أصبح رهينة رأس المال والقوى المنتصرة، ما أدى الى هزيمة جيل بأكمله، ويضاف إلى ذلك كله فشل علاقات عاطفية وبالتالي فشل في بناء عائلة وتحمل مسؤولياتها.

وبرز جيل جديد، عُرف بجيل الإنترنت، لم يعاصر قضايا زياد وجيله. هذا الجيل الجديد مصمّم على “قتل الأب” ليصيره ويحتلّ الميدان، وفق الارتقاء بحسب قوانين الطبيعة. هنا أصبحت النهاية واضحة، واقتربت صورة الموت بما تثيره من رعب في داخل كل إنسان، فكيف بالفنان.

لذا، بعد هزيمة الأنا الاجتماعية عند زياد، وغالبية جيله، كانت العودة إلى الأنا الفردية “الملكية” الخيار الوحيد والأنسب. إنها علاقة الطفل بأمه وعائلته، “الأنا” التي تسمح بإعادة إنتاج الصورة المنتصرة من خلال الانسلاخ عن أي آخر، والاكتفاء بالنفس مصدراً للحقيقة والوجود.

مشكلة هذه الشخصيات أنها تعتبر “الآخر” وسيلة، لا غاية في حد ذاته. وهذا يشرح حالة التخلف الاجتماعي في لبنان على مستوى القيم الإنسانية السائدة. فالأنا الفردية تصبح مقدسة، عبر نفي الأنا الاجتماعية، وتتطورعلى حسابها، فتتخلف الأخرى. تصبح الأنا الفردية أساس القيمة ومحور الوجود، والآخر مجرد متلقٍّ للأنا المقدسة ومتعبّد لها. أصحاب هذه الشخصيات يستمدون وجودهم من ذواتهم… وفي حالة زياد الرحباني، الأنا العليا المُضاف إليها إرثاً عائلياً، ما يبعد احتمال مشاركة “الآخر الغريب”، وربما ينفيه. وقد يكون هذا الانسلاخ عن المجتمع هو سبب الجفاف الفني الذي طال أمده عند زياد. إنه صراع نفسي داخلي يُردّ في علم النفس إلى صراع بين الأب والأم كان الطفل ضحيته.

زياد الرحباني خليط من طفل مولود وفي فمه ملعقة من ذهب، كونه وريث اسم كبير (وزياد يُدرك أهمية هذا الارث ولذا حاول سلبه من ابنه أو ابن زوجته لا فرق). وفي الوقت نفسه يملك ذكاء فطرياً، مع وعي جنسي مبكر، دفعه إلى الثورة على أهله و”نظامهم”. ثورة فشل فيها زياد، كبقية الشباب اللبناني والذي تحول، بين ليلة وضحاها، من ساعٍ إلى مستقبل أفضل إلى باحث عن ملجأ آمن من قناص أو انفجار، مع كل ما في هذه الصورة من ذل. رجع كل شاب منهم إلى حضن عائلته يبحث عن أمانه الفردي.

تماهى كثيرون من جيل الحرب مع صورة زياد، كما لو أنها صورتهم، علّهم عبرها يعيدون بعضاً من قيمة وجودهم الفردي. وجد كل فرد في زياد الرحباني ما منعته الحرب من تحقيقه في شكل فردي، من استقلالية وذكاء ومجد اجتماعي.

في عالمنا العربي، تطحن الجماعات الأفراد، تمنع تطورهم عبر ثالوث الدين والجنس والسياسة. وهذا ما يجعل غالبية الأفراد تعمل بعقلها الطفولي الذي يحلل الحياة في ثنائية التقديس والشيطنة، ويردّ الوجود إلى صراع دائم بين الخير والشر. لذا ينقسم الجمهور إزاء مواقف زياد الرحباني الأخيرة، بين مُقدّس له، أو غاضب أو مشيطن. وهذا تعبير عن أزمة جيل لم يستقلّ بذاته حتى الآن، فهو يحتاج دائماً إلى صور خارجية تعوّض “أناه” الضعيفة المحتاجة، إضافة إلى فنان استطاع أن يستفيد من إمكاناته إلى أقصى درجة، وتسخير الإعلام لخدمة هذه الصورة ونفخها أحياناً بشكل اصطناعي، من دون تقديم أي مقابل اجتماعي، كما يحصل في الغرب مثلاً بأعمال اجتماعية مباشرة يقوم بها فنانون.

ويسجل لآل الرحباني قدرتهم على تسخير الإعلام لمصلحتهم. ففي بدايات الأخوين رحباني، كان عاصي ومنصور يكتبان مقالات بأسماء مستعارة، تهاجم أو تدافع عن أسلوبهم الجديد في الموسيقى، كي يجعلوا من ألحانهم قضية رأي عام، وذلك بحسب شهادة منصور الرحباني. كذلك زياد. فبعد فترة من الجفاف الموسيقي والمسرحي، يُدرك كيف يدير اللعبة باتخاذ مواقف (لا تمايز فيها إذ لا فرق اليوم بين تحليل زياد الرحباني السياسي وتحليل وئام وهاب مثلاً)، تثير زوبعة تأييد أو رفض، جاعلة منه قضية رأي عام. وهذا ما يعيد إنتاجه كقيمة أمام الجيل الجديد الذي أصبح زياد الرحباني غريباً عنه، وهذا ما يدفعه إلى فعل المستحيل في سبيل البقاء تحت الأضواء.

أنها “العادة السرية” ذاتها، مع فارق إن المرحلة هذه المرة أكبر من الجميع وأقسى، ولا أحد في مأمن من الطوفان. وما حصل في الجامعة الأميركية لا قيمة له قياساً بما يجري في حمص، بل هو كمن يلقي نكتة سمجة في مأتم مهيب.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى