صفحات العالم

مقالات عن الدور الروسي -4-


روسيا تجمع عملياً أوراق حلّ الأزمة السورية

ربى كبّارة

ما بين توافد اطراف المعارضة السورية الى موسكو ودعوة مسؤولين روس الى اجتماع جديد موسع لـ”مجموعة العمل الدولية” ومبادرتهم الى طرح مشروع على مجلس الامن يمدد مهمة الموفد الدولي – العربي كوفي انان خارج الفصل السابع، تبدو روسيا منهكمة في تجميع اوراق حل الازمة السورية بيدها من دون ممانعة فعلية من الغرب والولايات المتحدة خصوصا.

فللمرة الاولى استقبلت موسكو “المجلس الوطني السوري” باعتباره من أبرز أطراف المعارضة. وأتت صورة المحادثات واضحة، إذ اكد رئيس المجلس عبدالباسط سيدا انه سيكون لروسيا “دور متميز في المرحلة الانتقالية” مع تشديده على ان موسكو لم تغير موقفها المتمسك بالاسد رغم توحّد مختلف اطياف المعارضة في الداخل والخارج على استحالة التوصل الى اي حل بوجوه. في المقابل اعلن عضو المجلس جورج صبرا استمرار التواصل مع موسكو “للوصول الى حالة أفضل”، موضحاً بأنّ التشبث الروسي يتمحور حول نقاط “تستخدم كشماعة” منها وحدة المعارضة ونوعية البدائل.

ويرى مراقبون ان الغرب والعرب، الذين فشلوا خلال نحو عام ونصف عام، ورغم سقوط نحو 17 الف ضحية، في ابتداع حل، لجأوا الى موسكو رغم ان ممارستها حق النقض حالت لمرتين دون اتخاذ مجلس الامن مواقف رادعة. فالولايات المتحدة غارقة في هموم انتخاباتها الرئاسية حتى نهاية العام على الاقل، والاوروبيون لا يريدون تدخلاً عسكرياً مباشراً مهما كانت مسمياته بما يشلّ أي تحرك تركي. أما روسيا فالفرصة سانحة لها لتحجز لنفسها مقعداً مقرراً في النظام العالمي ولتمنع اكتمال الطوق حولها من القوقاز الى اوروبا فالشرق الاوسط.

ومما يساعد روسيا على تجميع الاوراق، الانشقاقات البارزة عن النظام وآخرها انشقاق السفير السوري في بغداد نواف الفارس أمس غداة زيارة أنان. وقد تلى اول انشقاق ديبلوماسي نجاح العقيد مناف طلاس، من قادة الحرس الجمهوري والمقرّب من الاسد في الفرار، وهو الذي رشحه رئيس المنبر الديموقراطي المعارض ميشال كيلو من موسكو لاحتمال قيادة الحكومة الانتقالية. فيما اشارت صحيفة “الفيغارو” الفرنسية الى “امكان تواطؤ روسي وحتى إيراني في تهريبه تحضيراً لقيامه بدور سياسي”. علماً ان نسيبه عبدالرزاق طلاس يقود “كتيبة الفاروق” في “الجيش السوري الحر” الذي تسيطر على مسقط رأسه في الرستن.

ورغم تشبث موسكو الظاهري ببقاء الاسد، لا يستبعد مراقبون ان يعمل المسؤولون الروس في الخفاء وبالتنسيق مع الغرب على ايجاد بديل يحفظ الدولة الحليفة ولا تكون يداه ملطختين بدماء السوريين. ويبدو التنسيق قائماً بين موسكو وموفد الامم المتحدة والجامعة العربية كوفي انان خصوصا بشأن مشاركة ايران في التوصل الى مخرج، وهي مشاركة تراها موسكو “ضرورية” ويراها انان ايجابية. والسؤال هو عن العناصر المستجدة في مهمة انان التي تنتهي بعد نحو اسبوع وقد كان على وشك اعلان فشلها قبل أن يقوم بجولة مفاجئة تمثلت بزيارة دمشق فطهران ثم بغداد حاملاً مقترحات جديدة لانهاء العنف “تدريجاً” قدمها له الأسد ليسوّقها لدى المعارضة.

كما عرضت موسكو استضافة مؤتمر ثان لـ”مجموعة العمل الدولية” تشارك فيه ايران، بعد أن فشلت بسبب اجماع المشاركين على فرض ضمّها الى المؤتمر الاول حيث تجلى توافق دولي على حل سياسي يقوم على حكومة انتقالية تصادر عملياً صلاحيات الاسد، رغم الخلافات في تفسير مضامين الوثيقة النهائية بما يؤكد حصول تغيير في الموقف الروسي وقناعة باستحالة توصل النظام الى انقاذ رأسه مهما بالغ وأفرط في استخدام العنف.

واستبقت موسكو الدول الغربية والولايات المتحدة في مجلس الامن حيث تقدمت بمشروع قرار لتمديد مهمة انان، من خارج الفصل السابع، الذي تطالب به المعارضة و”أصدقاء الشعب السوري”، ملوحة بأن عدم تبنّيه سيؤدي الى “انهاء الحضور الاممي في سوريا”.

فروسيا تمتلك وحدها امكان ممارسة ضغوط على النظام السوري للقبول بالمرحلة الانتقالية، وهي تعي ولا بد، تهالك هذا النظام مع سقوط كل المهل التي وضعها الاسد للحسم العسكري. كل ذلك في ظل تساؤلات عما اذا بات “الجيش السوري الحر” مؤهلاً للحسم بعد ان تركزت المواجهات في الايام الاخيرة في ريف العاصمة وفي بعض احيائها بما يدل على تقدم كبير سيساهم بدون شك في تعزيز الانشقاقات خصوصاً العسكرية منها. ويدرج المراقبون هذه القدرة في اطار العوامل التي دفعت بالغرب الى اعطاء روسيا مهلة لتجمع اوراق حل الازمة خصوصاً وانها تعارض بشدة اسقاط الاسد عبر تدخل عسكري خارجي تحت مظلة الشرعية الدولية بما يشكل سابقة تخشاها، لكنها لن تعارض سقوط الاسد من الداخل، وإن تم ذلك على طريقة سقوط ديكتاتور رومانيا نيكولاي تشاوشيسكو عام 1989.

المستقبل

بوتين والقبض على الماء والنار بيد واحدة!

جورج سمعان

أول ما يلفت في مقاطعة روسيا والصين «مؤتمر أصدقاء الشعب السوري» في العاصمة الفرنسية، هو أن اتفاق جنيف الذي أبرم قبل أسبوع بين الدول الخمس الكبرى وممثلين عن الأمم المتحدة والجامعة العربية وتركيا والعراق، لم يكن اتفاقاً. لو كان كذلك لكان يفترض ألا يعقد مؤتمر باريس. أو على الأقل لكان على المقاطعين أن يحضروا، وفي مقدمهم السيد كوفي أنان الذي لم يجد وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد عذراً لغيابه «المعيب»!

في أي حال لم يكن السوريون ينتظرون مؤتمر «الأصدقاء» ليعرفوا أن ما توصل إليه لقاء جنيف ولد ميتاً. ألا تكفي كثرة التفسيرات المتناقضة التي تولاها موقعو الاتفاق بعد دقائق من ارفضاضه. كأنه لم يكن! ولو كانت روسيا مهتمة بمصلحة الشعب السوري ولا تدعم النظام، كما تكرر، لكان عليها أن تحضر لتشرح للسوريين و «أصـــدقائهم» كيف تحرص على مصلحة هذا الشعب لعلهم يقتنعون… أو يقنعونها. ولو كانت الإدارة الأميركية مهتمة بوقف إهدار الدم السوري لكان عليها مقاطعة جنيف وحتى باريس، فلا تكتفي بما تكرره السيدة هيلاري كلينتون من تصريحات منذ أشهر.

ومثلها «الأصدقاء» الذين حضروا مؤتمر باريس. لم يكفوا عن مناشدة الرئيس فلاديمير بوتين التخلي عن النظام في دمشق ورأسه، أو مناشدته الحفاظ على مسحة أخلاقية في سياسته الخارجية. لقد فات هؤلاء أن يتذكروا ما يفعله الزعيم العائد إلى الكرملين بخصومه. لم يتردد لحظة في زج عشرات الصحافيين ورموز المعارضة المتنامية لإدارته في السجن. لم يرأف بخصومه في الداخل فلماذا يرأف بالمعارضة السورية مهما بلغ حجمها واتساعها، ومهما علا صوتها وكبرت تضحياتها؟ لم تتورع حكومته قبل ثلاث سنوات عن تفكيك جورجيا واقتطاع أبخازيا وأوسيتيا وإخراجهما من سلطة تبليسي، فلماذا يستمع إلى التحذيرات من تفكك سورية وتفتيتها؟

صحيح أن مؤتمر باريس الذي ضم ممثلين لأكثر من مئة دولة يبعث برسالة قوية إلى دمشق وموسكو وبكين. ويؤسس لاحتمال تحرك أممي واسع خارج إطار الأمم المتحدة، إذا فرضت التطورات ذلك مستقبلاً أو تعثرت الصفقات. وهو ما يقلق روسيا التي تشدد على وجوب التحرك في إطار المنظمة الدولية ومواثيقها. لكن الصحيح أيضاً أن الأميركيين والأوروبيين يكتفون بمناشدة روسيا التخلي عن نظام الرئيس بشار الأسد. ويكررون أن وجهتهم هي مجلس الأمن، من دون التلويح بأي «سلاح» يمكنهم من دفع الكرملين إلى التفكير في تبديل موقفه. هكذا، كأنهم يرتاحون إلى الوقوف بباب المجلس في انتظار أن تتلطف موسكو بفتحه! مع العلم أن هذه تدرك في قرارة نفسها، كما يدرك كل الذين يقفون خلف النظام في دمشق استحالة بقاء هذا النظام.

إزاء هذا الوضع قد يهدر وقت طويل قبل أن يتوقف هدر دماء السوريين. قد يستغرق حوار الطرشان الدوليين، أو الحوار الروسي – الأميركي، وقتاً يفاقم تعقديات التسوية، فيما العنف المتصاعد يستدرج «القاعدة» وأخواتها إلى ساحة مفتوحة، كما نبّه وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري. وهذا ما يحوّل الأزمة السورية كتلة من التعقيدات. إنها ساحة مفتوحة لشتى أنواع الاشتباكات والتدخلات… وشتى أنواع الصفقات. باتت جزءاً أساسياً من شبكة العلاقات الدولية المعقدة تعقيداً يتجاوز قدرة الأطراف السوريين على دفع المجتمع الدولي، خصوصاً موسكو وواشنطن إلى تغيير موقفيهما.

سعت موسكو ولا تزال إلى الإمساك الكامل بالورقة السورية، إمساكاً يعزز حوارها أو صراعها مع الولايات المتحدة. لأن امتلاك المفتاح السوري يعني امتلاكاً لشبكة معقدة من العلاقات والمصالح في المنطقة كلها. لذلك، حاول الرئيس بوتين في جولته الأخيرة على المنطقة أن يثبت ما يمكن تسميته «مثلث» مصالح لروسيا، من طهران إلى تــــل أبيب – رام الله فدمشق. وهو يــــدرك أن سقوط سورية في يد تركيا يعني أن حلف «الناتو» بات يطوق بلاده في هـــــلال واسع يمتد حتى دول الخليج، فضــــلاً عن شمال أفريقيا بعد التغييرات التي أفرزها «الربيع العربي» في كل من مصر وليبيا وتونس. مثلما يدرك أن سقوط هذه الورقة في يد إيران يخل بموقع روسيا في هذا الإقليم، ويضعف موقفها حيال أميركا.

ولا جدال في أن موسكو تضع العلاقة مع واشنطن فوق أي اعتبار. وستستخدم بلا تردد الورقة السورية في حوارها أو صراعها معها. تماماً كما فعلت في السنوات الأخيرة في الملف النووي الإيراني. لذلك، لم تخل علاقاتها بطهران من اضطراب وذبذبة. ويعود ذلك بالطبع إلى أن إيران لا يمكنها الانضواء تحت جناح موسكو لتغادر عباءة الخميني وشعار ثورته «لا شرقية ولا غربية».

يدرك الرئيس بوتين أيضاً أن دور طهران في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى لا يقل أهمية عن دور أنقرة في هذه المنطقة الشاسعة. ولا يمكنه بالطبع أن يتغاضى عن تمدد تركيا نحو قلب الجهوريات السوفياتية السابقة فضلاً عن القوقاز والشيشان وغيرهما مما كان له صلة بالإمبراطورية العثمانية. لأن ذلك يضع هذا التمدد في خانة «الناتو». بينما تحاول إيران عبر هذا الانتشار أن تعزز مرحلياً على الأقل موقعها في مواجهة الغرب، حواراً أو صراعاً. وبالتالي سيكون من السهل على موسكو التفاهم معها في هذه المنطقة ما دامت طهران تحتاج إليها سنداً دولياً وازناً في الدوائر الدولية.

لا يعني ذلك أن روسيا لا تقيم اعتباراً للمواقــــف العربية. لقد توقفت أمام غضب دول الخلــــيج من سياستها في سورية. وحاولت وتحاول أن تجد أعذاراً لهذه السياسة. صحيح أنها تعتمد على إيران في تلك المنطــــقة وعلى قدرتها في إزعاج جيرانها وتهديدهم. لكن الصحيح أيضاً أنها تدرك حجم الخسائر التي قد تلحق بها إذا بالغت في دعم سياسات طهران حيال جيرانها. وقد تتضرر علاقاتها مع الدول العربية، فضلاً عن أميركا وأوروبا… وإسرائيل. ولكن ما دام أن روسيا عاجزة عن مجاراة الولايات المتحدة في تمددها العسكري وانتشارها في كل البحور، خصوصاً في الخليج والمحيط الهندي وحتى بحر الصين، ناهيك عن المتوسط. لذلك، لا بأس في أن تعتمد مرحلياً على الجمهورية الإسلامية وسورية في محاولة لمواجهة هذا الانتشار وعرقلته وإزعاجه، إن لم تكن قادرة على بناء توازن استراتيجي مع الدولة العظمى.

ولكن تجدر الملاحظة هنا أن روسيا أثبتت في الصراع على الملف النووي الإيراني أنها تعارض صراحة امتلاك الجمهورية الإسلامية الســـــــلاح النووي. وهذه نقطة خلاف جوهرية سببت في السنوات الأخيرة صراعاً مكشوفاً بين البلديــــــن لم تتــــردد طهران في سوق اتهامات إلى موسكو بأنها تذعن لرغبات الأميركيين. إن امتلاك الجمهورية الإسلامية هذا السلاح سيخل بميزان القوى في المنطقة. ويضر ليس بمواقع الغرب فحسب بل بدور روسيا ومصالحها أيضاً. ولا يغيب عن بال بوتين أيضاً أن بناء علاقات بين طهران وواشنطن مستقبلاً سيكون في النهاية على حساب مصالح بلاده وعلاقاتها بالمنطقة. من هنا، إن التعامل الروسي مع طهران يقوم على وزن كل خطوة بميزان دقيق وحساس.

في المقابل باتت الإدارة الأميركية الحالية تحاذر في تعاملها مع موسكو إغضابها أو إثارتها في قضايا حساسة كالأمن القومي، من الدرع الصاروخية إلى تمدد «الناتو» نحو الجمهوريات الإسلامية. وتهادنها في الأزمة السورية. وتخشى دفعها إلى موقف متصلب في الملف النووي الإيراني. فتخسر دعمها… وتدفع إيران إلى الاستئثار بالورقة السورية. ذلك أن تغيير النظام في دمشق وليس رحيل الأسد وحده، يمكّن في ضوء الخريطة القائمة، الضغط على طهران وشل نفوذها في لبنان وتهديد حضورها في العراق. ويقود أيضاً إلى إضعاف روسيا ويهدد وجودها ومصالحها في المنطقة.

والسؤال المطروح هو هل ينجح سيد الكــــرملين في تثبيت علاقته بهذا المثلث من أجل تحقيق تطلعاته وأحلامه السياسية؟ إن تحقيق هذا الهدف رهن بالقـــــدرات العسكرية والاقتصادية لروسيا والتــــــي لا يبــــــدو أنها تشكل رافعة كافية. فإذا كانت العلاقــــــــات مع كل من إيران وســـــورية مشوبة بأخطار ومحاذير جمة، فإن بناء علاقـــــات مع إسرائيل تستند إلى هذه الكتلة الكبيرة من اليهود الروس المهاجرين لن يطمئن إيران من جهة. ولن يهدئ، من جهة أخرى، من مخاوف تل أبيب حيال طهران، شريكة روسيا مرحلياً في المواجهة مع الولايات المتحدة. كما أنه من ناحية ثالثة لن يساعد بوتين في أداء دور كبير في التسوية مع الفلسطينيين، في وقت ترجح كفة «حماس» على السلطة ومنظمة التحرير رجحان كفة «الإخوان» في مصر… وغير مصر، ورجحان كفتهم تالياً في أي تسوية للقضية الفلسطينية. أما مغازلة الأردن الذي ينأى بنفسه عن التدخل في الأزمة السورية فسيظل قاصراً عن التأثير في العلاقات التي تربط عمان بعواصم الخليج الغاضبة من الموقف الروسي. وفوق هذا وذاك لا يمكن موسكو أن تعادي الإسلام السياسي في العالم العربي، وتحالفه وتهادنه في الجمهورية الإسلامية. بالتالي لا يمكن بوتين حيال هذه المعطيات والوقائع أن يقبض على الماء والنار بيد واحدة! فإلى متى يصمد هذا المثلث الروسي؟

الحياة

موسكو… من كابول إلى دمشق

الياس حرفوش

ليست هذه المرة الأولى التي تقف فيها موسكو في الجانب الخاطئ من التاريخ. في منطقتنا هناك الذكرى المريرة للدعم السوفياتي للحكم الشيوعي في أفغانستان، الذي كان مرفوضاً من أكثرية الأفغان. وفي أوروبا هناك الدور السلبي الذي لعبته موسكو في حروب يوغوسلافيا السابقة، بوقوفها ودعمها السياسي والعسكري للصرب، وللقمع والقتل اللذين مارسوهما بحق المسلمين والكروات في البوسنة وكوسوفو وفي كرواتيا، لمنع شعوب هذه المناطق من تحقيق حلمها بالاستقلال. ولعل من المفيد التذكير بمصير قادة الصرب في تلك الفترة، مثل سلوبودان ميلوسوفيتش الذي مات في السجن، وكاراديتش وملاديتش المعتقلين، واللذين تحاكمهما المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، على رغم فرارهما من العدالة سنين طويلة.

لهذا لا تخرج موسكو عن تقاليدها عندما تقف إلى جانب القمع الذي يمارسه النظام السوري بحق شعبه. ولعل المقارنة تصح بين مقاومة الشعب السوري وتلك التي قام بها شعب أفغانستان و «الشعوب» اليوغوسلافية، أكثر من تلك المقارنة التي أجراها رئيس «المجلس الوطني» عبد الباسط سيدا بين الثورة السورية والثورة البلشفية. ذلك أن هذه أخذت طابعاًَ طبقياً بروليتارياً، وانتهى الحكم الذي انتجته إلى دكتاتورية كاملة، عانت منها شعوب الاتحاد السوفياتي السابق على مدى سبعين عاماً. ولا نعتقد أن هذا هو الطموح الذي تريد الثورة السورية أن تحققه في بلدها.

خرج الاتحاد السوفياتي من أفغانستان بهزيمة كاملة، وُصفت في حينه بأنها أشبه بالهزيمة الأميركية في فيتنام. غير أن ما جعل ذلك الخروج ممكناً كان انتقال الحكم في موسكو إلى يد ميخائيل غورباتشوف، الذي قرر تحرير الحزب الشيوعي من إرث القمع التاريخي، والوقوف إلى جانب شعبه، فأخذ القرار الجريء بوضع حد لعصر الظلام السوفياتي، وبالتالي لإنهاء المغامرة الأفغانية التي أسهمت في إفلاس الاتحاد السوفياتي سياسياً وعسكرياً، وقطعت صلاته بأكثر العالم العربي والإسلامي، حيث لم يبقَ له سوى حلفاؤه من الأحزاب المنضوية تحت لوائه، والتي لا تختلف أيديولوجية القمع التي تعتنقها عن أيديولوجيته.

وانتهى الدعم الروسي للحلفاء الصرب بهزيمتهم العسكرية على يد التحالف الغربي، بعدما فاقت المجازر التي ارتكبوها حدود الاحتمال الدولي، في وقت كان كوفي أنان (إياه) ممثلاً للأمين العام للأمم المتحدة، ومسؤولاً عن قوات حفظ السلام التي كانت «تراقب» المجازر بحق المسلمين في سريبرينيتسا وسواها.

في المغامرتين، الأفغانية والصربية، أخذ الروس جانب المعتدي ضد الشعب: في الحالة الأولى باسم العقيدة الشيوعية التي وضعها الغزو في مواجهة مباشرة مع العقيدة الإسلامية، ما أدى إلى نمو نزعات الانفصال في جمهوريات الاتحاد السوفياتي الإسلامية، وفي الحالة الثانية باسم التعاطف مع أبناء المذهب الواحد (الأرثوذكس)، وهو ما وضعهم مجدداً في الصف المعادي للكاثوليك وللمسلمين في جمهوريات يوغوسلافيا السابقة. وفي كل الحالات كانت موسكو أبعد ما يمكن أن تكون عن احترام رغبات الشعوب والقيم الديموقراطية.

الخوف الآن، في المغامرة التي ترتكبها موسكو في ظل فلاديمير بوتين، بدعمها أداة القمع في دمشق، بالمساندة السياسية التي تسد الطريق أمام مجلس الأمن، وبالمساندة العسكرية التي يستقوي بها النظام ضد شعبه، الخوف أن نكون أمام نشوء ظاهرة مذهبية متطرفة كرد فعل على القمع، شبيهة بظاهرة «الأفغان العرب» التي ولدت كنتيجة للمقاومة الإسلامية للغزو السوفياتي لأفغانستان. ذلك أن عناصر كثيرة تسمح بالمقارنة، من الهوية المذهبية للمقاومة إلى مصادر التمويل والتسلح، إلى طبيعة المواجهة بين نظام يمارس القمع وشعب يسعى إلى الحرية. وإذا نشأت ظاهرة كهذه، فلن يكون خطرها على مستقبل سورية وعلى وحدتها فقط بل على استقرار المنطقة كلها والعلاقات الداخلية بين شعوبها. ظاهرة كهذه سيكون صداها أبعد بكثير من «الأفغان العرب».

الحياة

الموقف الروسي الملتبس

عبدالله السويجي

وقف البعض مشدوهاً أمام زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للكيان الصهيوني، وارتدائه القلنسوة اليهودية وهو يستمع بإعجاب إلى التاريخ اليهودي في فلسطين، كما وقف ربما مستنكراً، أمام تصريحات “بوتين” بشأن الموقف الفلسطيني المحتمل باللجوء إلى الأمم المتحدة . وربما كان مبعث الاندهاش من زيارة الرجل الأول والقوي في روسيا، أن روسيا تقف بحزم إلى جانب النظام السوري في محنته الحالية، معتقداً أن الموقف الروسي هو موقف مكمّل لمساندتها العرب في صراعهم لنيل حقوقهم، ووقوفهم إلى جانب النظام السوري يدور في هذا الفلك، متناسياً أن الأقطاب العالمية، ومنها القطب الروسي، لا تتحرك إلا وفق مصالحها .

وإذا وضعنا هذه الدهشة في سياقها التاريخي سنجد أنها مشروعة نظراً للشواهد التي عكست تأييداً للقضية الفلسطينية، ففي مرحلة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كان الاتحاد السوفييتي، أو هكذا كان يبدو، داعماً رئيساً للمقاومة الفلسطينية، وكانت هناك تنظيمات تعتنق الفكر الماركسي اللينيني مثل الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان (الكلاشينكوف)، البندقية الرشاشة من صنع سوفييتي، هي رمز الثورة الفلسطينية، ورمز كل ثورة في العالم، ومن دون شك، كان (الكرم) السوفييتي أو الروسي كبيراً في إرسال هذه البندقية، بمقابل أو كهدايا، للتنظيمات والمنظمات الثورية، بل إن معظم الأسلحة التي كان يستخدمها المقاتلون الفلسطينيون هي من صنع روسي أو صيني، يعني من صنع المعسكر الاشتراكي، وكان الفلسطينيون وثوار العالم يتقبلون هذه الهدايا أو المشتريات، وهم على دراية تامة بأن الاتحاد السوفييتي آنذاك، قد أقام علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني الذي أقيم على أرض فلسطين، وكان ذلك في مايو من العام ،1948 أي في الشهر ذاته والعام ذاته، الذي تم فيه الإعلان عن إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين . وقبل ذلك، أي في العام ،1947 صوّت الاتحاد السوفييتي إلى جانب قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين، وهذا يعني أنه يعترف بهذا الكيان، لكن الحرب الباردة التي نشبت بين المعسكرين الغربي والشرقي، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، قسمت العالم إلى مناطق نفوذ، وأوراق ضغط، وكانت المقاومة الفلسطينية ورقة ضغط روسية، مثلما هو حزب الله اللبناني حالياً، ورقة ضغط إيرانية، مع اختلاف الأسباب والظروف والأهداف والحيثيات، وتم تطبيق مبدأ (عدو عدوي صديقي)، لكن هذا المبدأ سرعان ما تلاشى بعد انتهاء الحرب الباردة بتفكيك الاتحاد السوفييتي، حيث بدأ الأقطاب يبحثون عن مصالحهم الاقتصادية .

العلاقة السورية الروسية علاقة يشوبها الالتباس، فالنظام السوري كما هو معلن، على عداء مع الكيان الصهيوني، وهو، كما يروّج، نظام الممانعة في المنطقة، أي النظام الوحيد الذي لا يزال يواجه الكيان الصهيوني، ولم يرتبط معه بمعاهدات ولا اتفاقيات حتى الآن . ولا تتردد روسيا، عبر دبلوماسييها في العالم العربي، أن تستخدم هذا السبب (الممانعة) لتقول إن سوريا مستهدفة من الغرب، بل إن وزير الخارجية لافروف وصل به الأمر إلى القول إن نتيجة الصراع في سوريا ستحدد شكل النظام العالمي الجديد، ولم يفسّر هذا كثيراً . ومن جانب آخر، فإن علاقات روسيا والكيان الصهيوني، هي علاقات مزدهرة منذ أن قامت دولة الكيان الصهيوني عام ،1948 صحيح أنه تم قطع العلاقات بين موسكو وتل أبيب في عام 1953 ثم في عام 1956 ثم انقطعت العلاقات في يونيو/حزيران عام 1967 بسبب رفض الكيان الصهيوني وقف إطلاق النار في حرب حزيران/ يونيو/حزيران 1967 مع العرب، واستؤنفت الاتصالات على المستوى القنصلي في عام 1987 . أما عام 1991 فشهد استعادة العلاقات الدبلوماسية، ومنذ ذلك اليوم حتى تاريخه، تتطور العلاقات بشكل كبير، ويزدهر التعاون بين الدولتين في مجالات كثيرة، وقد يندهش البعض حين يعلم أن الصاروخ الفضائي الروسي “ريسورس-01” قام في يونيو/حزيران عام 1998 بإطلاق القمر الصناعي “الإسرائيلي” الصغير “تيخسات-2” . أما في شهر ديسمبر/كانون الأول عام 2000 فقام الصاروخ الروسي بإطلاق القمر الصناعي “الإسرائيلي” “آروس- آ1” . وفي عامي 2003 و2006 تم إطلاق القمرين الصناعيين “الإسرائيلين” الآخرين “آموس 2 “ و”آروس بي 1” بواسطة الصاروخين الروسيين أيضاً . أما المشاريع التجارية والاقتصادية فهي كبيرة، ويدل النمو السنوي للتبادل السلعي بين الجانبين على ازدياد حجم العلاقات الروسية “الإسرائيلية” في مجال التجارة والاقتصاد . وكان حجم التبادل السلعي لم يزد عام 1991 عن 12 مليون دولار، فيما وصل في عام 2006 إلى 9 .1 مليار دولار . أما في المجال السياحي، فقد زار الكيان الصهيوني عام 2007 نحو 200 ألف سائح روسي، وارتفع عددهم في عام 2008 إلى ما يقارب 380 ألف سائح، بعد إلغاء نظام التأشيرة بين البلدين، وبقي أن نعرف أنه يعيش في الكيان الصهيوني أكثر من مليون شخص ينحدرون من الاتحاد السوفييتي .

لقد فشل الدب الروسي في الحفاظ على مصالحه في ليبيا وخسر أكثر من 4 مليارات دولار إضافة إلى موقع استراتيجي مهم، ويحاول أن يعوض هذا الفشل في سوريا والحفاظ على 16 مليار دولار عبارة عن استثمارات في مجال الطاقة والتسليح، وقبل ذلك فشل في صدقيته مع العرب في حروبهم مع الكيان الصهيوني، ويفشل منذ سنوات في إقامة علاقات مهمة مع دول مجلس التعاون الخليجي، وسيتنازل عن النظام السوري الحالي في حالة ضمان مصالحه الاقتصادية والجيوسياسية في بلاد الشام، فالمسألة لديه مسألة مصالح لا أكثر، وهذا طبع القوى العظمى التي تبحث دائماً عن مناطق نفوذ تجاري واقتصادي وسياسي، ويبدو، أنه حتى الآن، نجح في إدارة الصراع، وإقناع العالم بوجهة نظره، والدليل يتجسد في نتائج مؤتمر جنيف، الذي رفضته المعارضة السورية والجامعة العربية وسط دهشة المحللين .

العرب يعيشون معضلة الانحياز، فهم يبحثون دائماً عن قوة ينحازون إليها من دون التفكير في مصالح تلك القوة واستمرارية دعمها، ويتحالفون أحياناً مع القوى التي تعمل على طمس قضيتهم المصيرية، وتتخذ منهم ساحة يمارسون فيها ابتزازهم وحل مشكلاتهم الاقتصادية، في الوقت الذي يجب أن يبحثوا فيه عن القوة في ساحاتهم ومواردهم الطبيعية والبشرية، وأن يقيموا حلفاً في ما بينهم، كي لا يطلبوا بين فترة وأخرى التدخل الأجنبي، بل يستجدون هذا التدخل للتخلص من أمراضهم المزمنة .

الموقف الروسي له نهاية، والدعم الأمريكي له نهاية أيضاً، أما ما ليس له نهاية، فهو الاعتماد على مكامن القوة في العالم العربي، وهذا العنصر في الوقت الراهن مهمل بشكل كبير، وحتى ينتبه العالم العربي إليه، سيبقى يعيش فوضى مدمرة، وليست خلاقة، وما يحدث الآن في العالم العربي، ما هو إلا انعكاس لاستراتيجية الاعتماد على الغير، ومن يعتمد على غيره سيبقى رهن إرادته وسياساته، وزيارة “بوتين” للكيان الصهيوني مؤشر كبير وخطر، ويجب أن يتوقف عندها العرب بشكل عام، والنظام السوري بشكل خاص، والمثل العربي يقول: (أنت لم تمت، ولكن أما رأيت أحداً يموت قبلك؟) .

الخليج

سوريا: هل حلَّ وقت المساومة الكبرى بين الروس والأميركان؟!

نقولا زيدان

لم تنجح قمة جنيف الأخيرة (30 حزيران) الموسعة في الوصول الى موقف موحد للدول الكبرى الخمس لحل الأزمة السورية. فقد كان كوفي عنان وهو منسق أنشطة المؤتمر قد عمد الى استبعاد كل من إيران والسعودية وذلك تجنباً للتوتر والنقاش الحاد وإضفاء جو من الهدوء عليه. فالنظام الأسدي مستمر في سياسة الأرض المحروقة وتدمير المدن وتنفيذ المجازر بحق المدنيين مستخدماً كافة أنواع الأسلحة، والمعارضة الملحة تزاوج بين حرب العصابات والمواجهة الصلبة الشرسة في المواقع التي التحقت بالثورة. والتصريحان الأميركي والروسي حول مستقبل سوريا تحدثا عن “مرحلة ما بعد الأسد” إلا أن تفسير هذه العبارة جاء متناقضاً على لسان لافروف وكلينتون، فتنحية الأسد العاجلة ليست واردة بالنسبة لموسكو الآن وهي تتحدث باستمرار عن الحل السياسي، بينما تعتبر واشنطن تنحية الأسد شرطاً لهذا الحل. وبالرغم من تعليق المراقبين الدوليين عملهم، وهم الذين شاهدوا استخفاف النظام الدموي ببنود عنان بضرورة الكف عن أعمال العنف لا بل كانوا شهود عيان على المجازر البشعة التي ارتكبتها كتائبه وفرق الموت التابعة له، فما زال عنان يعتقد بإمكان الوصول الى حل سياسي للأزمة. وما دام الموفد العربي الدولي ماضيا في تفاؤله هذا فباستطاعته سماع بوتين في خطابه أمام سفرائه التركيز المسهب على الحل السياسي وابلاغ “لافروف”أحد أجنحة المعارضة برئاسة ميشيل كيلو اصرار روسيا عليه. وبالمقابل فإن إيران، ذلك البلد الذي يصر عنان على مشاركته في أية محادثات سلام حول سوريا، فهو دون ضجيج، وبالإناة والصبر، قد أصبح قوة اقليمية لا يجوز الاستهانة بإمكاناتها. لقد أثبتت إيران أنها طرف مؤثر في عملية السلام التي لا يمكن أن تتم وتنجز إلا بمساهمتها، تماماً كما جرى في العراق حيث عقدت اتفاقاً ضمنياً مع الأميركيين كفل لهؤلاء نفوذاً جرى تقاسمه مع طهران. لقد أصبحت قوة اقليمية تنعم بمساندة موسكو المطلقة وتعاطف مكشوف من الصين التي تتصدر قائمة الدول المستوردة للبترول الايراني. يصرح وزير خارجيتها في زيارة خاطفة للخليج وعقب اطلاعه من “عنان”على فحوى محادثات جنيف: ” ما من رئيس خالد على وجه الأرض” وذلك بإشارة للرئيس الأسد، إلا أنه يضيف بتعليق لافت “انه على الشعب السوري أن يختار رئيسه عام 2014 “(موعد انتخابات الرئاسة السورية المقبل)… معنى هذا الكلام ان كثيراً من الدم السوري سيسفك وكثيراً من المدن والقرى ستحرق، وان دماراً شاملاً سيحل بسوريا ما دامت المعركة مفتوحة حتى عام 2014 إن لم يكن أبعد من ذلك بكثير.

ويتساءل الرأي العام العربي حيال استمرار النزف وشيوع الدمار بالوتيرة المخيفة القائمة الآن، على ضوء هذه التصريحات والمواقف عما سيتبقى من سوريا والحالة هذه. لكن بعضهم يجيبون بتعليق فيه الكثير من المرارة والواقعية السوداء انه سيبقى الكثير الكثير من الركام والدمار كمادة دسمة لشركات إعادة البناء والاعمار في مرحلة ما بعد الحرب. عندها ستتسابق رؤوس الأموال العالمية العملاقة في مشاريع رفع الأنقاض وبناء ما تهدم وستكون لروسيا بلا شك حصة كبيرة في هذه المشاريع، ما دامت المفاوضات الأميركية الروسية ستؤدي حتماً الى الحفاظ على المصالح الروسية على ارض سوريا.

لقد دلت مفاوضات جنيف ان سلة المطالب الأميركية ونظيرتها الروسية التي يجري التفاوض عليها كسلة كاملة (a Whole package) تمثل فيها الأزمة السورية مفتاحاً لسائر القضايا العالقة. ذلك أن هذه الازمة تشكل المدخل للتفاهم الأميركي الروسي حول جملة المسائل التي يعتبرها الطرفان في غاية الحيوية بالنسبة لمصالح العملاقين ولعل أهمها على الاطلاق الدرع الصاروخي الذي تم نصبه في تركيا في الطرف الجنوبي الشرقي لحلف الناتو. وتدخل في مخاوف موسكو من التوسع المثير للقلق لحلف الناتو النوازع التي بدت جلية في أوكرانيا بعد سقوط كوتشما (2004) ومنازعات “ساكاشنيلي” (جيورجيا) مع موسكو في القفقاس لدرجة أنه استضاف معسكرات تدريب المقاتلين التشيتشان على أرضه، لا بل تورطَ الأميركيون أنفسهم في مساندة الثوار التشيشان.

إن الروس ينتهزون فرصة الأزمة السورية وتداعياتها الاقليمية الخطيرة فيعبّرون عن تشددهم في شروط حل هذه الأزمة ليفهموا الأميركيين من خلال ذلك أنهم لا يسمحون لا للأميركيين ولا لحلفائهم الأطلسيين بزجهم في حرب باردة جديدة. إن حرباً كهذه والتي ظهرت بوادرها في ليبيا أول الأمر حيث تضررت التوظيفات البترولية الروسية كثيراً من النتائج الاقتصادية للربيع العربي هناك، والتي تظهر بوضوح أكثر في سوريا الآن، تذكّر الروس كثيراً بآخر أيام الاتحاد السوفياتي وكم كانت باهظة الأثمان قضية التسابق نحو التسلح الكوني في ما سمّي آنذاك بحرب النجوم. فقد كان ذلك سبباً رئيساً في انهيار النظام السوفياتي.

إن فلاديمير بوتين الساعي بكل قواه لتحويل روسيا الى دولة صناعية كبرى وحيث أن روسيا تمتلك الامكانات الوفيرة من خامات وطاقة بل طاقة بشرية أيضاً، لا يتوانى عن مواجهة الأميركيين وحلفائهم الساعين لقلب النظام السوري.

انه يسعى في سوريا الى تسوية سياسية تكفل لروسيا مصالحها. لكن مصالح روسيا في المنطقة لا تقتصر على سوريا فحسب بل على جملة مسائل رئيسة لا تستطيع روسيا التهاون فيها والتنازل إلا بالقدر الذي ستكشفه المفاوضات التالية وهي ما زالت تتطلب بعض الوقت لتصبح أمراً واقعاً لا مهرب منه. أما أن يبقى الأسد وأسرته وحاشيته أو لا يبقى فذلك الأمر ستظهره حتماً المفاوضات.

الاتحاد

روسيا لن تتخلى عن الأسد بسهولة

محمد علي بيراند

لم يعد هناك حديث الآن عن الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، وتمثل أسباب توقف هذا الحديث مصدر أهمية قصوى وقلق بالغ لتركيا. وأعتقد أن ثمة سببين وراء الدعم الروسي للأسد؛ أولهما هو حماية القاعدة الروسية في ميناء طرطوس الذي يوفر لموسكو موطئ قدم على البحر الأبيض المتوسط، أما السبب الثاني فيتمثل في استمرار بيع الأسلحة لسوريا، وبالتالي يكون لروسيا نفوذ في منطقة الشرق الأوسط. وفي الآونة الأخيرة، تم إطلاق العديد من التصريحات واحدا تلو الآخر، وكان آخرها ما جاء في مقالة مهمة للغاية قام بنشرها رسلان بوخوف، وهو مدير المركز الروسي لتحليل الاستراتيجيات والتكنولوجيا بالعاصمة الروسية موسكو. وقد أكدت تلك المقالة على أن الأسباب التي أشرت إليها آنفا لم تعد مهمة بعد الآن، وأن الخوف من وصول الإسلام المتطرف لسدة الحكم في سوريا هو السبب الذي يدفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمساندة النظام السوري. وعلاوة على ذلك، ذكر بوخوف بعض الجوانب الحاسمة الأخرى في الوضع بالنسبة لروسيا.

ويتعين على خبرائنا أن يدركوا قبل أي شيء حقيقة أن القاعدة الروسية الموجودة في ميناء طرطوس ليست بالأهمية التي من المفترض أن تكون عليها، لأنها لا تضم سوى 50 شخصا وعدد قليل للغاية من الثكنات، ولا تتمتع القاعدة بأي مميزات استراتيجية غير أنها ترفع العلم الروسي.

وعلى الجانب الآخر، لا تمثل مبيعات السلاح الروسي لدمشق سوى 5 في المائة من إجمالي مبيعات السلاح الروسي في عام 2011، فضلا عن أن روسيا لم تقم ببيع تكنولوجيا متطورة أو أسلحة ذات قوة نيران عالية إلى دمشق منذ فترة طويلة، كما أعلن الجانبان أنهما لن يوقعا أي عقود جديدة.

ومع ذلك، يعد عدم الإطاحة بالنظام السوري مهما بالنسبة لروسيا من عدة زوايا مختلفة، حيث إن الإطاحة بالأسد عن طريق القوى الغربية، مثلما كان عليه الحال مع القذافي في ليبيا، تعني انهيار آخر حليف لروسيا في منطقة الشرق الأوسط، حتى لو كان ذلك مجرد معنى رمزي لا أكثر، كما تعني أن مكانة روسيا كقوة عظمى قد تلاشت تماما، وهو ما لا تريده روسيا وتعمل جاهدة على ألا تترك الأسد للغرب. ويشعر بوتين بانزعاج شديد لأن الغرب يمكنه العمل بكل سهولة في منطقة الشرق الأوسط، كما أن الربيع العربي قد قلب الأوضاع رأسا على عقب، حيث تم الإطاحة بالأنظمة العلمانية وحل مكانها الإسلاميون الذين وصلوا إلى سدة الحكم، وهي التطورات التي لا تصب في مصلحة روسيا. وبالنسبة لروسيا، تعد الأنظمة العلمانية الاستبدادية بمثابة عامل وقائي مهم ضد الإسلاميين، ولا يعد الأسد بنظرها أيضا في هذا السياق ديكتاتورا سيئا، كما يعد الدعم الذي تمنحه تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية للمعارضة السورية بمثابة ضغط إسلامي.

وعلاوة على ذلك، تشعر روسيا بغضب شديد من أن «الغربيين»، ولا سيما الولايات المتحدة، قادرون على الإطاحة بالأنظمة التي لا يريدونها على حساب تشويه قرارات الأمم المتحدة، ويعد ما حدث في ليبيا خير مثال على ذلك.

وخلاصة القول، لن تتخلى روسيا عن الأسد بسهولة. ولو تمكن الأسد من تهدئة المعارضة السورية ووقف إراقة الدماء، فلن تكون هناك مشكلة، ولكن لو استمرت الأوضاع بنفس المعدل اليومي، فسيتعين على موسكو التخلي عن الأسد، سواء آجلا أو عاجلا.

ولو كان هناك سبب خارجي وراء بقاء الأسد في السلطة لفترة طويلة، فهو بالطبع هذا الثلاثي المتمثل في روسيا والصين وإيران، أما السبب المحلي فيكمن في الدعم الذي يتلقاه من المسيحيين وقطاع مهم من الأكراد، والذين يخشون من وصول الإسلاميين للحكم وانتهاء النظام العلماني في الدولة. ويلعب الأكراد دورا مهما للغاية في المعادلة، ففي حين يدعم بعضهم الأسد فإن البعض الآخر يعارضه، وهو الانقسام الذي يصب في مصلحة الأسد.

وقبل بضعة أيام، أشار رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني إلى أن المعادلة ستتغير لو توحد الأكراد وعملوا مع بعضهم البعض بصورة جماعية. ويسعى بارزاني لتشكيل استراتيجية مشتركة، ولا نعرف ما إذا كان سينجح في ذلك أم لا، لأنه ليس من السهل القضاء على خلافات الرأي الموجودة بين الأكراد.

* بالاتفاق مع صحيفة «حرييت ديلي نيوز» التركية

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى