مقالات عن الموقف الايراني من الثورة السورية وتفجير السفارة الايرانية ببيروت
تفجيران وسفارتان ومدينة واحدة/ حازم صاغيّة
كلّما وقع حادث إرهابيّ، كالذي أصاب الضاحية الجنوبيّة لبيروت وسفارة إيران فيها، احتار المرء كيف يعبّر عن أقصى الأسى والتضامن مع الضحايا من غير أن يسقط في الابتذال العاطفيّ، وكيف يجد الكلام الذي يكون خاصّاً وحميماً حيال خصوصيّة الموت وحميميّة التجارب الإنسانيّة.
ذاك أنّ كثرة الإرهاب وكثرة الكلام وكثرة التسييس معاً تجعل المهمّة تلك في غاية الصعوبة. فهذا البلد، لبنان، صار مرشّحاً لأن يصير الإرهاب فيه مثلما صار في العراق، يلامس العاديّ واليوميّ. وهذا ما يعمّم كلّ شيء فيصيبه بالإفقار.
وشيء كهذا مؤلم، سيّما وأنّ النشاط الإرهابيّ المذكور يترادف مع تصدّع يضرب العلاقة بين الطوائف والجماعات، ومع انهيار ما سمّي طويلاً تجربة تعايش بين اللبنانيّين. أمّا «انتقال الحرب السوريّة إلى لبنان» فلم تعد تنقصه البراهين، ما بين طرابلس وعرسال، مروراً بالإرهاب المتنقّل والمتعدّد المصدر.
إنّ عالمنا كلّه، بالذاتيّ منه والعامّ، يتداعى.
لكنْ في ما خصّ هذا الصنف من الإرهاب الذي يضرب السفارات، لا يملك المرء إلاّ أن يتذكّر تاريخاً خاصّاً به. فقبل ثلاثين سنة، وفي مكان لا يبعد أكثر من ربع ساعة بالسيّارة عن موقع السفارة الإيرانيّة في بيروت، فُجّرت السفارة الأميركيّة في العاصمة اللبنانيّة وقضى في التفجير 63 قتيلاً. العمليّة تلك، التي اتُّهم بها القياديّ اللاحق في «حزب الله» الراحل عماد مغنيّة، جاءت بعد أقلّ من عامين على تفجير السفارة العراقيّة في المدينة نفسها، وكان ذلك في بدايات الحرب بين العراق وإيران. لقد جعل العملان هذان من السفارتين صورتين عن الجحيم.
تفجير السفارة الأميركيّة، بعد العراقيّة، أتى يقول إنّ الدولة في لبنان غير مرغوب في قيامها، وإنّ الأطراف الدوليّة التي تأتينا كي تساعد على إنهاض هذه الدولة غير مرغوب فيها أيضاً. يومذاك، كما هو معروف، حضرت أربع قوى دوليّة (الأميركيّون والبريطانيّون والفرنسيّون والإيطاليّون) لإسناد الدولة اللبنانيّة كي تقوم، وكان بعض ما أقدمت عليه تلك القوى بناء مستشفى إيطاليّ في الضاحية الجنوبيّة لبيروت.
تفجير السفارة الأميركيّة لم يوصف عندنا بالإرهاب. كان الرفض مطلوباً، ولا يزال، لأنّ الإرهاب، كما قيل، هو ما تفعله أميركا حصراً، فيما نحن لا نفعل إلاّ المقاومة. ثمّ إنّها… أميركا!
بهذا وبغيره بُذل كلّ ما يمكن بذله لجعل الدولة مشروعاً مستحيلاً. هكذا حُوّل الافتقار إليها مدخلاً لإحداث المزيد من الافتقار، وصار الإرهاب موقّراً يتاخم القداسة. أكثر من هذا، راحت اللادولة، سنة بعد سنة، توسّع الغابة التي أنشأتها، وبالاستناد إليها تقضم سياسة لبنان الخارجيّة وقرار حربه وسلمه قبل أن تتمدّد إلى علاقاته الاجتماعيّة.
والحال أنّه لو ضُرب هذا الإرهاب آنذاك، في 1983، لربّما تمكنّا من منع العمل الإرهابيّ الذي طاول السفارة الإيرانيّة قبل أيّام ثلاثة، والحؤول تالياً دون سقوط الضحايا الأبرياء الذين سقطوا.
فالغابة يستحيل أن يحتكرها أحد بمن في ذلك منشئوها، والتبادل الغابيّ يجيده الجميع، خصوصاً أنّ التبادل الآخر، السياسيّ والمدنيّ، لا يني يتقلّص بتقلّص الدولة.
الحياة
من القلمون إلى عرسال: المراوحة الداخلية الدامية الى ذروتها المطلوب تفاهم على إدارة الازمة حتى تبلغ التسوية لبنان/ سابين عويس
أما وقد وقع لبنان في محظور النموذج العراقي بعدما بدا الانكشاف الامني على أشده في ظل دينامية غير مسبوقة لكل اجهزة الاستخبارات العالمية العاملة بزخم في كل الاتجاهات وفق الاجندات الخاصة بها، وعلى وفرة التحليلات والتوقعات التي واكبت اليوم الدامي في منطقة الجناح أول من أمس بعدما دخل أخيرا مصطلح الانتحاريين إلى مفهوم الاعمال التفجيرية في لبنان، فإن السؤال المطروح اليوم: ماذا بعد تفجير الجناح، وماذا بعد عملية تبادل الرسائل التي كانت السفارة الايرانية في بيروت مسرحا لها؟ وهل فعلا يصح القول أن ما بعد متفجرة الجناح غير ما قبلها، وأن التفجير الاخير يمثل محطة مفصلية في الصراع الاقليمي وتداعياته على المشهد الداخلي؟
ليس بالضرورة، تجيب مصادر سياسية مراقبة، من دون أن تقلل من أهمية التفجير ورمزيته مكاناً وزماناً. فهو في رأيها، ليس الا إجراء تنفيذيا جديدا في إطار التصعيد الامني المواكب، من جهة للتصعيد السياسي القائم على جبهة المفاوضات الاميركية الايرانية، ومن جهة اخرى للتصعيد العسكري على جبهة القلمون السورية.
ولبنان سيكون سباقا في مواكبة كل تطور على جبهتي هذين المحورين، سياسيا وامنيا وعسكريا.
لا تخفي المصادر المشار اليها قلقها الكبير من الحرائق المتنقلة للنار السورية.
ففي حين تشكل التفجيرات المتنقلة بين المناطق الشيعية والسنية تنفيسا واضحا للإحتقان الذي بلغ ذروته أخيرا مع تفجر الحرب الباردة على الجبهة السعودية الايرانية، تبقى قرية عرسال وجرودها المحطة المقبلة للمواجهة، بعدما إكتملت حلقات الاحتقان معطوفة على استعدادات ميدانية تنذر بأن هذه المعركة ستكون أم المعارك، مع كل ما ستحمله من تداعيات خطيرة محليا.
وعلى وقع المواجهة التي تتأزم فصولها يوما بعد يوم، تستمر المراوحة الداخلية تحت ضغط الفراغ المستفحل، وإنما بفارق ليس بقليل. فعملية إدارة الفراغ الحاصلة منذ تمديد الولاية النيابية، وتعطل جهود تأليف حكومة جديدة، خرجت عن مسارها القائم على إدارة بالحد الادنى من الاضرار والخسائر تحت غطاء ورقة تين متعارف عليها بـ”النأي بالنفس”، لتتحول حال من المراوحة الدامية التي تتطلب قواعد جديدة لفك الاشتباك في انتظار بلوغ التسوية الدولية الحدود اللبنانية.
ليس تفجير الجناح في رأي المصادر الا مدماكا جديدا في وجه تأليف الحكومة، فلا هي ستؤلف قريبا ولا “حزب الله” سيخرج من سوريا، ولا طاولة الحوار ستنعقد. ولن يفيد التفجير حتما في تعجيل التسوية الداخلية ترجمة للصفقة الدولية.
لا شك في ان المفاوضات الاميركية – الايرانية تشهد تحولا نوعيا في مقاربة الولايات المتحدة للثمن المطلوب لقاء السلاح النووي. ولن يكون لبنان في منأى عن هذه المقاربة. ففي حين يجري الحديث عن قبول أميركي برزمة المطالب الايرانية الرامية الى رفع العقوبات الاقتصادية ورفع الحظر عن الطيران المدني ورفع الحجز عن الارصدة الايرانية، بدت الديبلوماسية الاميركية في بيروت وفي إطار التسويق للموقف الاميركي، أكثر مرونة حيال شرح ما يجري على صعيد المفاوضات حول النووي، من دون إغفال أهمية التشديد على أن ما يجري – وسيجري مستقبلا- لن يؤثر في التحالفات والصداقات.
لكن اللافت أن تلك المرونة قوبلت بمقاربة أقل تشددا حيال “حزب الله” و”حكومته” في لبنان.
فالإهتمام الاميركي بالنفط ليس خافيا على أحد، والشركات الاميركية المهتمة ماضية في استعداداتها للمشاركة في مناقصات التلزيم.
وفيما كان نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الطاقة آموس هوشتاين يجول على القيادات السياسية حاملا ملف الحدود البحرية، كان مساعد وزير الخزانة دانيال غلايتزر يلقي محاضرة في مؤتمر إتحاد المصارف العربية، حاملا في يد عصا وفي الاخرى جزرة. اما في السياسة، فلا تستبعد المصادر ان ترى السفير الاميركي ديفيد هيل مقبلا على زيارات إنفتاح في اتجاه قيادات في قوى 8 آذار.
النهار
مع أي إيران تتفاوضون؟/ الياس حرفوش
منذ بدأت الجولة الجديدة من المفاوضات حول الملف النووي الإيراني في جنيف، يطالب الوفد الإيراني بضرورة الإفادة من الفرصة التي يقول إنها باتت متوافرة للتفاهم مع الغرب، بعد نجاح حسن روحاني في انتخابات الرئاسة الايرانية. والأميركيون، بلسان وزير الخارجية جون كيري، ومعهم عدد من الديبلوماسيين الأوروبيين يرددون العبارة نفسها: هذه أفضل فرصة منذ عشر سنوات للتقدم نحو تسوية حول المسألة النووية مع ايران.
المفاوض الايراني في جنيف يقول للغربيين: لقد تنازلنا عن سياسة احمدي نجاد وعن التطرف الذي كنتم تتهموننا به في الماضي. والمطلوب منكم الآن ان تسددوا ثمن ذلك من خلال انهاء العقوبات التي فرضتموها علينا، والموافقة على معاملتنا كدولة طبيعية غير مارقة ولا تنتمي إلى «محور الشر»، كما سبق ان صنّفنا جورج بوش.
يريد المفاوض الايراني ان يقول للغربيين: لقد تغيّرنا. ها نحن نرتدي بزات اوروبية ونبتسم امام الكاميرات ونحلق ذقوننا ونتحدث بالانكليزية بطلاقة. كما قمنا بتعيين سيدة لتكون ناطقة بلسان وزارة الخارجية، تماماً كما تفعلون. وبالتالي لم يعد هناك مبرر لمعاملتنا بقسوة وحرماننا من الوصول إلى ودائعنا المجمدة في مصارفكم ولا لفرض الحظر على صادراتنا النفطية، التي تشكل الضمانة في يدنا لمواجهة الوضع الاقتصادي المزري الذي نعاني منه.
هذا ما يطلبه الإيرانيون من الغرب في مقابل سماح المرشد علي خامنئي بانتخاب حسن روحاني «الإصلاحي المعتدل» رئيساً للجمهورية الإسلامية الإيرانية. والمفارقة ان الدول الغربية، أو معظمها على وجه الدقة، انقادت وراء لعبة «الديموقراطية الإيرانية». ولم يستغرب احد من الساعين إلى التفاوض مع الوجه الإيراني «الجديد»، ان انتخاب روحاني جرى في الصيف الماضي بسلاسة ومن دون ان تسيل الدماء في الشوارع، فيما تدخل «الحرس الثوري» قبل اربع سنوات ليقمع المحتجين، وليقوم بتزوير الأصوات ليمنع وصول إصلاحي آخر هو حسين موسوي (الذي لا يزال في الإقامة الجبرية) إلى الرئاسة.
ألا يمكن أن نستنتج من ذلك أن الأذى الذي صارت تُلحقه العقوبات بالاقتصاد الايراني وتهديدها لبقاء النظام، هو الذي دفع القيادة الإيرانية إلى تقديم صورة لائقة ومقبولة وتوحي بالثقة أمام الغرب، من خلال تكليف الوزير محمد جواد ظريف ومساعده عباس عراقجي بإدارة المفاوضات لإنهاء الأزمة النووية؟
لكن … إذا كان مفهوماً أن يكون هذا دافع الإيرانيين من وراء السعي إلى التفاوض وإبرام هذه الصفقة، فما هو دافع إدارة أوباما ومن يسيرون معها للسير في هذه اللعبة؟ ما الذي يدفعهم إلى أن يغمضوا عيونهم عن رؤية الوجه الآخر (الحقيقي) لإيران، وتجاهل الأدوار التي تلعبها في المنطقة، من العراق إلى لبنان مروراً بمنطقة الخليج؟
يريد النظام الإيراني من الحكومات الغربية أن تتعامل معه كنظام طبيعي يحترم أصول العلاقات بين الدول، ويرفض التهديد باستخدام القوة ضد جيرانه أو التدخل في شؤونهم. ويتحدث الوزير ظريف عن رغبة طهران في بناء نظام شامل، مبني على أساس احترام ايران للدول المجاورة ولمبدأ عدم التدخل في شؤونها. لكن هذا الكلام الظريف لا يجد صدى في ايران الأخرى، التي لا يتحدث الوزير باسمها، أي: ايران «الحرس الثوري» وأذرعه في المنطقة، مثل «حزب الله» و»لواء أبو الفضل العباس» وغيرهما من التنظيمات التي تمثل الأداة الحقيقية لتمدد ايران في العالم العربي، ولنشر حالة الصراع المذهبي التي تتفاقم في دول المنطقة.
ايران هذه ليست ممثلة في مفاوضات جنيف. وهي التي خاطبها خامنئي، عشية بدء المفاوضات، في كلمة أمام ميليشيا «الباسيج» التابعة لـ «الحرس الثوري»، وطمأنهم إلى أن الوفد الإيراني سيحترم «الخطوط الحمر» وسيلتزم بالحدود التي رسمها خامنئي.
الحياة
لبنان ساحة قتال بين «حزب الله» و«القاعدة» والجهاديين/ راغدة درغام
الآن وقد وصلت الحرب السورية إلى لبنان عبر التفجير الانتحاري أمام السفارة الإيرانية هذا الأسبوع، بات لبنان مرشّحاً لـ «العرقنة» وازداد احتمال تلقّيه ضربات عسكرية إسرائيلية «وقائية» مع تحوّله إلى ساحة قتال بين «حزب الله» و «القاعدة» وجهاديين من كافة الأنواع والأهداف. أصبح لبنان جاراً فالتاً لا حكومة فيه، يكتظ بالمسلحين والميليشيات، وإسرائيل تخشى مثل هذه الفوضى على حدودها وهي تضع الخطط الطارئة للاحتمالات كافة. الأنظار تتوجه الآن إلى كيفية العملية الانتقامية التي قد يقوم بها «حزب الله» أو «الحرس الثوري» التابع للحكومة الإيرانية ونوعيتها، رداً على العمليتين الانتحاريتين الإرهابيتين ضد السفارة الإيرانية في ضاحية بيروت الجنوبية، والتي أسفرت عن مقتل 25 شخصاً وجرح أكثر من 150 تبنّت مسؤوليتهما «كتائب عبدالله عزام» المرتبطة بتنظيم «القاعدة». هناك إجماع وإدانة دولية للعملية الإرهابية، كما لـ «القاعدة» ومشتقاتها أينما عملت، أكان داخل سورية ولبنان والعراق أو ضد مواقع أميركية وأوروبية وروسية وصينية وأينما كان. فهذا تنظيم إرهابي تدميري يمتطي قضايا المنطقة العربية لتحقيق مآربه الأيديولوجية والمذهبية. كلّف العرب غالياً عالمياً منذ قيامه بإرهاب 11 أيلول (سبتمبر) ضد البرجين الشامخين في «وورلد ترايد سنتر» في نيويورك. إنما مقابل شبه الإجماع الدولي على إدانة أمثال «جبهة النصرة» التي صنّفها مجلس الأمن إرهابية في خضم معركتها ضد النظام في سورية بسبب ارتباطها بـ «القاعدة»، هناك شبه إجماع بين أعضاء مجلس الأمن على غض النظر عن دور «حزب الله» و «الحرس الثوري» في ساحة القتال السورية بقيادة إيرانية عسكرية. بعض الدول الغربية صنّف الجناح العسكري لـ «حزب الله» في خانة الإرهاب، إلا أنه لم يتخذ أي إجراء في مجلس الأمن لا ضد الانخراط العسكري المُعلَن لـ «حزب الله» في سورية ولا ضد التورط الإيراني المخفي والذي يشكل انتهاكاً صارخاً لقرار مجلس الأمن بموجب الفصل السابع يحظر على إيران مد المعونة العسكرية والسلاح خارج حدودها. هذه المفارقة لها خلفيتها و «مبرراتها» لدى القائمين عليها طالما انحصر الأمر في ساحة القتال السورية. أما وقد وصلت الحرب بين «حزب الله» و «الحرس الثوري» من جهة وبين «القاعدة» وأخواتها من جهة أخرى، إلى ساحة لبنان الهشّة والسائبة، فلقد انهار معها ذلك القرار الدولي بتحييد لبنان وإسرائيل عن القتال وبات ضرورياً مطالبة الأسرة الدولية بإجراءات لجم جدية. بات ملحّاً للقوى الإقليمية المعنية إعادة النظر في سياساتها الاستراتيجية والاعتباطية على السواء، فما حدث هذا الأسبوع في بيروت يشكل منعطفاً نوعياً في المعادلة الإقليمية.
الدول الإقليمية المنخرطة في سورية ولبنان هي دول آمنة نسبياً داخل حدودها. فلا حروب أهلية داخلها، ولا هي ساحة حروب بالنيابة عن الآخرين. المآخذ على بعضها أنها تستخدم أمثال سورية ولبنان والعراق ساحة للاستنزاف والمواجهة فيما علاقاتها الثنائية -ظاهرياً- قائمة على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون الآخر. باطنياً، الخلاف جذري، مذهبياً وأيديولوجياً وفي إطار موازين القوى الإقليمية والقيادة الإسلامية. علاقاتها بالولايات المتحدة ملفتة، ليس فقط في عصر الشاه عندما كانت إيران الحليف الأول للولايات المتحدة، وإنما أيضاً في عصر الثورة الإيرانية، فالولايات المتحدة لعبت على أوتار الحرب الإيرانية – العراقية والمعادلة السنية – الشيعية، تارة لمصلحة العراق وتارة لمصلحة إيران، ضمن استراتيجية مدروسة ثم أتى الرئيس السابق جورج دبليو بوش ليقدم العراق إلى إيران في إطار حربه على الإرهاب. الرئيس باراك أوباما سار في خطى بوش وهو الآن يود تتويج العلاقة الأميركية – الإيرانية بتوطيد الدور الإيراني الإقليمي في العراق وسورية ولبنان، الذي يشكل في إطار تلك الاستراتيجية الأميركية نقطة الارتباط الإيراني مع إسرائيل. هذه هي السياسة الاستراتيجية التي وضعتها الـ «إستابلشمنت» الأميركية.
كل ذلك الكلام عن تعاون خليجي – إسرائيلي في وجه التوسع الإيراني ليس منطقياً ولا عملياً، فالعلاقة الإيرانية – الإسرائيلية متينة بقدر ما كانت عليه تاريخياً بين الفرس واليهود. لعل هناك حاجة تكتيكية لدى إسرائيل اليوم للجم اندفاع الرئيس باراك أوباما نحو إيران قليلاً كي لا تأتي هرولته بلا تسديد حساب لإسرائيل. ولعل هذه الحاجة تتلاقى مع حاجة الدول الخليجية المعنية إلى أي ما يساعد في «فرملة» إدارة أوباما المهووسة بإيران، إنما هذه محطة تكتيكية يجب ألا تعمي عن الاستراتيجيات البعيدة المدى لأيٍّ وكلٍّ من اللاعبين الإقليميين والدوليين.
ما تلتقي عليه القيادة الأميركية والروسية والصينية والإيرانية والإسرائيلية اليوم سيتلاقى مع مصلحة الحكومة السورية وحليفها «حزب الله»، وهو القضاء على ما يسمونه التكفيريين والجهاديين والسلفيين. جميعهم بات يعتقد أن عدوّه هو السُنَّة، أميركياً بسبب 11/9/2001، روسياً وصينياً لأن مشكلتهما الإسلامية سنّية، وإسرائيلياً لأن معركتها مع العرب وليس مع الفرس. «القاعدة» وأخواتها أعطت كامل الذخيرة لهذا التجمع بسبب لجوئها إلى الإرهاب استراتيجية ووسيلة، ويمكن اعتبارها الجهة المنفذة عملياً لمصلحة هذا التجمع. والمدهش أن تمويل «القاعدة» ومشتقاتها يأتي عبر قنوات عربية معظمها من أفراد وعائلات توهم نفسها أنها تدافع عن الإسلام والسُنَّة والعرب. وكم هي خاطئة ومؤذية وجاهلة وخاسرة، فمهما «فرّخت» من متطوعين، ومهما قامت بعمليات في الساحة العربية أو الساحة الدولية ضد أقطاب هذا التجمع الغريب، فإنها مهما ألحقت الأذى بالآخر تؤذي بالقدر نفسه مَن تزعم أنها تنتصر له.
«حزب الله» أيضاً يجازف وقد يدفع ثمن عنجهيته على المدى البعيد. هو قد يتباهى اليوم بأنه لاعب إقليمي، عسكري بالدرجة الأولى، في سورية كما في اليمن، كما في لبنان. لا يخفي «حزب الله» أنه يلعب أدواره الإقليمية نيابة عن إيران وليس نيابة عن لبنان، حيث ينتمي جغرافياً، على رغم ولائه أولاً للجمهورية الإسلامية الإيرانية. ولا ينفي أنه في معركة مذهبية باعتباره حزباً شيعياً يرى في طهران الفارسية حليفاً وفي الرياض العربية عدواً.
اليوم، يحق لـ «حزب الله» أن يتباهى بأنه هو الذي قلب المعادلة العسكرية على ساحة الحرب السورية لمصلحة نظام الرئيس بشار الأسد، فلولا معركة «القصير» التي خاضها «حزب الله» لما تحوّل النظام إلى منتصر في وجه المعارضة السورية. اليوم «حزب الله» في جهوزية لترسيخ الموازين العسكرية لمصلحة النظام في دمشق عبر معركة «القلمون» الآتية.
واضح أن «حزب الله» لا يبالي بما يدفعه لبنان إثر تدفق اللاجئين والنازحين السوريين إليه، من بنيته التحتية، لا يبالي بمدى الثمن الذي يدفعه لبنان اقتصادياً بسبب خوض الحزب المعركة علناً ضد الدول الخليجية ومنعها -عملياً- من القدوم إليه لإنقاذ قطاعه السياحي الضروري. «حزب الله» واضح في استراتيجيته الهادفة إلى امتلاك لبنان حكومة وقراراً وانتماء، لأنه وصلة مهمة في استراتيجية إيران الإقليمية الممتدة إلى إسرائيل.
عملياً، لقد استدعى «حزب الله» تنظيم «القاعدة» إلى لبنان بسبب خوضه الحرب السورية. هذا سيف ذو حدّين. ثقة «حزب الله» بنفسه وبانتمائه إلى التجمع المعارض للتكفيريين قد تنقلب عليه وليس فقط على لبنان. فهو متورط في الحرب السورية حيث يتدرّب على معارك نوعية ويحصل على سلاح نوعي يهرّبه إلى الأراضي اللبنانية، ويعوّل عليه لمحاربة «القاعدة»، وربما إسرائيل أيضاً إذا برزت الحاجة واقتضت الحسابات الإيرانية التكتيكية. لكن انتقال حربه مع «القاعدة» إلى لبنان أيضاً يجعله مضطراً لفتح جبهتين في آن، وربما ثالثة، لأن إسرائيل قد تضطر إلى اتخاذ إجراءات تحميها من الطرفين المتطرفين في جوارها.
ثم هناك مسألة «الاستغناء» التي لطالما لاحقت أولئك الذين راهنوا على الولايات المتحدة. اليوم الجمهورية الإسلامية الإيرانية في حاجة ماسة إلى رفع العقوبات عنها، ولذلك تغازل الولايات المتحدة -و «حزب الله» على لسان الأمين العام السيد حسن نصرالله يدافع عن التقارب الأميركي الإيراني، وهو يراهن على التجمع الأميركي الروسي الصيني الإيراني الإسرائيلي لمكافحة «القاعدة» وأمثالها. لكن «الاستغناء» سيطاوله في نهاية المطاف، لا سيما إذا تم التوصل إلى تلك «الصفقة الكبرى»، لذلك هو يغامر ليس فقط بنفسه كـ «لاعب إقليمي» وإنما أيضاً بالطائفة الشيعية اللبنانية، لأن استدعاء «القاعدة» إلى لبنان عدواً ستدفع ثمنه الطائفة الشيعية أولاً، وسيكون لبنان كله ضحية عنجهية حزب يمثل أقلية حتى ولو زعم أنه يمثل الطائفة الشيعية.
لبنان بلد الأقليات، ولا توجد فيه أكثرية، لذلك فلتتفضل الدول الغربية التي تزعم أنها تحاكي مصالح الأقليات العربية والأقلية الإسلامية، وتفعل شيئاً قبل فوات الأوان. أول ما عليها أن توضحه هو عمّا في ذهنها نحو لبنان إزاء استدعاء «حزب الله» لكل من «القاعدة» وإسرائيل إليه عسكرياً، لأسباب مختلفة.
فالسؤال الأهم الذي يتطلب إجابة أميركية بالدرجة الأولى هو: ما هي حدود الانتصار الإيراني في سورية ولبنان والفوز الإيراني بسورية وإيران بعد فوزه بالعراق؟
مفهوم أن الولايات المتحدة تريد البناء على ما تعتقد أنه فرصة تاريخية عنوانها الاعتدال في طهران بصورة الرئيس حسن روحاني، نووياً. إنما ما هي آفاق الدور الإقليمي الإيراني الذي تشرّعه إدارة أوباما، علماً بأن جناحه العسكري المتمثل بـ «حزب الله» و «الحرس الثوري» يمتد اليوم من سورية إلى لبنان في مواجهة عسكرية مع «القاعدة». سياسة الإنهاك المتبادل قد تكون تكتيكاً مفيداً للغايات الأميركية، إنما ماذا بعد؟ وماذا تريد دولة الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تدير حروب الميليشيات؟
هناك إيران الابتسامة وإيران الحنكة التي تتبنى أسلوب «الجرح بالقطن» لتنفيذ الاستراتيجية بالصبر والمثابرة والبناء على ذاكرة ضعيفة لدى الغرب الذي أوهم نفسه بأن إيران لم تكن يوماً معتدية، متناسياً أدوارها في دعم الميليشيات والتدخل في شؤون الدول المجاورة واحتجاز الرهائن الأميركيين لـ444 يوماً وما يتردد عن أدوارها حتى في صنع التطرف السنّي وأدواته.
الدور العربي في صنع التطرف السنّي لا يقل عن الدور الإيراني، بل يضاهيه، من أفغانستان إلى لبنان، وحان وقت إعادة النظر واتخاذ قرارات حاسمة، إما لجهة التفاهم الخليجي مع إيران أو لجهة إيجاد بديل عن دعم «القاعدة» ومشتقاتها كوسيلة لمواجهة إيران وميليشياتها. الاستدراك في لبنان محطة ضرورية للدول الخليجية المعنية التي لا يفيدها أن تكون راعية لهذا الانزلاق.
أما تلك «الأسرة الدولية» -الانعزالي منها والفائق الحماس-، فعليها أن تستيقظ وتكف عن الاختباء وراء الإصبع، لأن وصول الحرب السورية إلى لبنان يهدد بحروب إقليمية لن تتمكن حروب الاستنزاف بالنيابة من احتوائها.
الحياة
هل تنجح إيران حيث فشل النظام السوري؟/ خيرالله خيرالله
من يزور لبنان هذه الايّام، يكتشف أنّ الصيغة اللبنانية أقوى بكثير مما يعتقد. لكنّه يكتشف في الوقت ذاته أنّ المحاولات الهادفة الى تدمير لبنان والصيغة مستمرّة بشكل يومي. الهدف من تدمير الاثنين، عن طريق السلاح غير الشرعي ونشر البؤس، واضح كلّ الوضوح ويصبّ في الانتهاء من اتفاق الطائف الذي في أساسه المناصفة بين المسيحيين والمسلمين بغض النظر عن العدد.
قد يكون التعبير الاوّل عن الرغبة في الانتهاء من اتفاق الطائف يتمثّل في منع الرئيس المكلف تمّام سلام من تشكيل حكومة لبنانية على الرغم من حصوله على تأييد مئة وأربعة وعشرين نائبا من أصل مئة وثمانية وعشرين في الاستشارات النيابية التي أجراها رئيس الجمهورية في نيسان (أبريل) الماضي. جاءت الاستشارات بعد اضطرار الرئيس نجيب ميقاتي، رئيس حكومة “حزب الله”، الى تقديم استقالة حكومته.
بتضحيته بحكومة ميقاتي، أكّد الحزب، وهو ميليشيا مذهبية مشكلة من عناصر لبنانية تعتبر لواء في “الحرس الثوري” الايراني، أنّ هناك ما هو أهم من الحكومة بالنسبة اليه. انّه يريد أيضا الامساك بكل مفاصل الدولة، خصوصا الاجهزة الامنية فيها تمهيدا للانقلاب الكبير الذي بدأه النظام السوري والذي يستكمله النظام الايراني. هل ينجح الايراني حيث فشل السوري الذي اضطر في نهاية المطاف الى الانسحاب عسكريا وأمنيا من لبنان، تاركا لايران ملء الفراغ الذي خلّفه انسحابه؟
كان “حزب الله” على علم تام بأن رئيس الوزراء، وهو سنّي من طرابلس، لا يستطيع تحمّل عدم التمديد لسنّي آخر، من طرابلس أيضا، في موقع المدير العام لقوى الامن الداخلي. فضّل التضحية بحكومته على بقاء اللواء أشرف ريفي في موقع المدير العام لقوى الامن الداخلي التي لديها جهاز أمني في غاية الاهمّية استطاع كشف شبكات تجسس اسرائيلية كما استطاع ان يكون العين الساهرة على لبنان. فضلا عن ذلك، استطاع فرع المعلومات الاضاءة على الاهداف الحقيقية لنشاطات “حزب الله” الذي تتهم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان مجموعة من أفراده بالمشاركة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وجرائم أخرى طاولت اللبنانيين الشرفاء.
تعتمد ايران في لبنان سياسة تقوم على النفس الطويل. تخلّصت من المدير العام لقوى الامن الداخلي بسبب انتمائه الى مؤسسة اسمها الدولة اللبنانية، وراحت تركّز بعد ذلك على منع تشكيل الحكومة مؤكدة أن هناك قواعد سياسية جديدة في لبنان لا علاقة لها بالاصول الدستورية المعتمدة ومبدأ الفصل بين السلطات. صار مطلوبا بكلّ بساطة أن يكون “حزب الله” شريكا في تشكيل الحكومة اللبنانية، أي حكومة لبنانية.
بكلام أوضح، صار مطلوبا أن تحصل أي حكومة لبنانية على ضوء أخضر من طهران كي تبصر النور. اذا لم يحصل ذلك، فانّ سلاح “حزب الله” على استعداد للنزول الى الشارع مجددا بطريقة أو بأخرى كي يبقى الفراغ سيّد الموقف في لبنان…أي كي يبقى البلد بلا حكومة.
في مثل هذا الشهر، قبل أربعة وعشرين عاما، في يوم عيد الاستقلال في الثاني والعشرين من تشرين الثاني- نوفمبر 1989، أغتيل الرئيس رينيه معوّض. كان رينيه معوّض أول رئيس منتحب للجمهورية اللبنانية بعد اتفاق الطائف. لكنّ تمرّد الجنرال ميشال عون على الدولة ومؤسساتها، خدمة للنظام السوري أوّلا وأخيرا، منعه من دخول القصر الرئاسي في بعبدا.
كان الرجل، الذي فُجّر موكبه في منطقة يسيطر عليها الامن السوري سيطرة كاملة، خير رمز لما يمكن أن يكون عليه لبنان المزدهر الساعي الى استعادة عافيته بعد سنوات طويلة من الحروب الداخلية والاقتتال بين الطوائف بمشاركة سورية وفلسطينية في كلّ حين. الاهمّ من ذلك كلّه، أن رينيه معوّض كان يحظى بدعم دولي وعربي. لم يكن أداة سورية. ولذلك كان قتله بمثابة ضربة أولى يسددها النظام في دمشق لاتفاق الطائف الذي أراد تنفيذه على طريقته. كان يريد الطائف طائفا سوريا ولا شيء غير ذلك!
كان النظام السوري يرفض الطائف في العمق. لكنه لم يعلن ذلك صراحة. كان رفيق الحريري يدرك ذلك. كان يمرّر عبارة “اتفاق الطائف” بحذر في البيانات الوزارية لحكوماته. اعتمد في هذا المجال طريقة لبقة تفاديا لاستفزاز النظام السوري الذي لم يدرك ولن يدرك يوما أن الصيغة اللبنانية هي في الاصل أكثر صلابة من الصيغة التي تحكّمت بسوريا منذ قيام النظام الحالي فيها.
تأتي ايران حاليا لتعلن عن طريق بعض الناطقين باسمها وباسم اداتها المسماة “حزب الله” أنّ ثمة موازين جديدة للقوى في لبنان. هذه الموازين مختلفة كلّيا عن تلك التي كانت سائدة لدى التوصّل الى اتفاق الطائف. وهذا يعني في طبيعة الحال أن هناك حاجة الى صيغة جديدة للبنان. عبّر عن هذه الحاجة الى تغييرالنظام، أي الى الغاء الطائف، الامين العام لـ”حزب الله” عندما طرح فكرة “المؤتمر التأسيسي”.
مرّة أخرى. هل تنجح ايران، كنظام يستخدم الغرائز المذهبية لفرض سياساته في المنطقة، حيث فشل النظام السوري؟
ذلك هو السؤال الذي يطرح نفسه في وقت ليس ما يشير الى وجود بارقة أمل في تشكيل حكومة لبنانية وفي وقت يسعى “حزب الله” الى وضع يده على كلّ مؤسسات الدولة اللبنانية، خصوصا المؤسسات الامنية وابعاد كلّ لبناني يؤمن بالمؤسسات والسيادة عن هذه المؤسسات…ونشر البؤس في البلد عن طريق افقار اللبنانيين.
يصعب أن تنجح ايران حيث فشل النظام السوري. سبب ذلك، أن اللبنانيين يقاومون. انّهم يقاومون فرض “حزب الله” حكومات عليهم. ويقاومون عملية مصادرة القرار السياسي والامني للبلد تحت شعارات من نوع “الشعب والجيش والمقاومة” والتورط عسكريا في الحرب التي يشنّها النظام السوري على شعبه من منطلق مذهبي بحت.
ايعرف اللبنانيون انّ ليس في استطاعة أي طائفة الانتصار على طائفة أخرى وأن المزايدات لا تبني بلدا وأن المثالثة السنّية- الشيعية- المسيحية ليست حلا بمقدار ما أنها صيغة لالغاء لبنان ووضعه تحت الوصاية الايرانية.
من لديه أدنى شكّ في أن لبنان سينتصر يستطيع أن يسأل نفسه: هل هناك من تخيّل يوما أن القوات السورية ستخرج يوما من الاراضي اللبنانية بالطريقة التي خرجت بها؟
المستقبل
الاقتصاد السياسي للمفاوضات الإيرانية ـ الأميركية/ مصطفى اللباد
تبدأ بعد غد جولة جديــدة من المفاوضــات النــووية بين إيران والدول الست الكبرى، تتمحــور حــول «اتفاق الإطار» المصاغ من واشنطن وطهران، والذي سيرسم خريطة الطريق للمفاوضات خلال الأشهر الست القادمة. تتفاوض إيران مع أطراف ست هي الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا، إلا أنها تتفاوض في العمق مــع أميركا. لا يــخل هذا الاختزال بأهمية الدول الأخرى في المفاوضات، ولكنه يعكس حقيقة أن الأثمان المطلوبة من كل طرف لإنجاح عملية التفاوض تقع حصراً في واشنطن وطهران.
تدخل أميركا المفاوضات وعينها على التقدم التكنولوجي الذي أحرزته إيران طيلة السنوات الماضية، محاولة إرجاعه إلى الوراء، في حين يجلس المفاوض الإيراني على طاولة التفاوض وهدفه رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية، التي أثقلت كاهل الاقتصاد الإيراني. بمعنى آخر، يقوم جوهر عملية التفاوض الجارية على تنازلات متبادلة، أو مكاسب متقابلة للطرفين الإيراني والأميركي: التقدم التكنولوجي مقابل العقوبات الاقتصادية. وفق ذلك المقتضى، ستلتزم إيران باعتماد الوسائل المطلوبة كافة، لإثبات شفافية وسلمية برنامجها النووي وخطها الأحمر امتلاك دورة الوقود النووي الكاملة، وبالمقابل سترفع أميركا العقوبات الاقتصادية التي فرضتها على إيران من جانب واحد بالتدريج على مراحل. باختصار تدور المقايضة على مبادلة التقدم التقني الإيراني بالعقوبات الاقتصادية: كلما تراجعت إيران خطوة إلى الوراء في برنامجها النووي، تراجعت أميركا بمثلها في عقوباتها الاقتصادية. على هذا النحو تصبح المفاوضات النووية مرتبطة أشد الارتباط بعلم الاقتصاد السياسي، إلى جانب القانون الدولي وقوانين الفيزياء النووية.
العقوبات الاقتصادية: وسيلة أميركا
دخلت إيران جولات التفاوض الأخيرة وقد أرهقتها العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن عليها من جانب واحد، سواء بقرار من البيت الأبيض أم من الكونغرس. حولت العقوبات الاقتصادية الاقتصاد الإيراني إلى اقتصاد يقوم على المقايضة، بعدما حظرت أميركا على الشركات من دول العالم المختلفة التعامل مع البنك المركزي الإيراني، وإلا ألحقت عقوبات بالمتعاملين معه. وساهمت العقوبات الأميركية في تردي العملة الوطنية الإيرانية «التومان»، ومعها معدلات التنمية الاقتصادية وتدهور واضح في مستويات المعيشة لملايين الإيرانيين. كان قلب المعادلة الاقتصادية سبباً رئيساً لانتخاب حسن روحاني في صيف العام الماضي، بوضعه ذلك الهدف في مقدم أولوياته الرئاسية. حتى الآن لم يؤد الضغط الاقتصادي الأميركي إلى استسلام إيراني في الملف النووي، لكنه يحث إيران بالفعل على التقدم في المفاوضات لمنع انهيارات اقتصادية كبرى متوقعة في حال استمرت العقوبات.
تنقسم العقوبات الاقتصادية إلى أنواع مختلفة من العقوبات، التي يمكن إجمالها – بشيء من التبسيط – في: عقوبات تجارية واستثمارية وعقوبات مالية، ولكل نوع منها تأثيره وشروطه التي تختلف عن غيرها.
ينطلق التوصيف الكلاسيكي لأنماط العقوبات الاقتصادية من أنها تعني تقليص المبادلات الاقتصادية، ولذلك تكون العقوبات ناجعة ومؤثرة كلما كان البلد المعني يمتلك اقتصاداً يعتمد في جانب كبير على المبادلات الاقتصادية في ضبط حركة قطاعاته الأساسية، وهي حالة إيران المعتمدة بشدة على تصدير النفط. ويعود ذلك، لأن النفط يشكل سلعة التصدير الأولى في إيران، ويمثل ما بين 80 في المئة إلى 90 في المئة من الصادرات الإيرانية، كما يمول تصدير النفط ما بين 40 في المئة إلى خمسين في المئة من إيرادات الدولة الإيرانية. ولأن إيران تريد توسيع عمليات استخراج النفط من حقولها المكتشفة بالفعل، أو القيام بعمليات استكشاف لحقول جديدة، فهي بحاجة إلى استثمارات ضخمة في قطاع النفط للوصول إلى تلك الأهداف. لذلك فإن الحظر النفطي غير المباشر (عبر حظر التعامل مع البنك المركزي الإيراني)، والمقترن بإيقاف الاستثمارات الخارجية في قطاع الطاقة (النفط والغاز)، يؤذي إيران واقتصادها بشدة.
وتمثل العقوبات المالية ضغطاً إضافياً على إيران، فبجانب تجميد الودائع الحكومية وودائع الشركات والأفراد الإيرانيين، تعد عملية عرقلة نفاذ الاستثمارات إلى إيران ركناً هاماً من أركان العقوبات المالية. ويضغط هذا النوع من العقوبات على احتياطات إيران من العملات الصعبة. ويتميز هذا النوع من العقوبات المالية بأنه لا يحتاج إلى غطاء دولي من مجلس الأمن، إذ هو عبارة عن إجراءات عدائية من أميركا تجاه إيران، ولكنها لا تمثل خرقاً واضحاً لنصوص القانون الدولي.
عشرون مليار دولار يدور التفاوض عليها
يأمل المفاوض الإيراني في الحصول على عشرين مليار دولار خلال فترة الشهور الستة التي ستستغرقها خريطة الطريق، أي بعد التوقيع على «اتفاق الإطار». وبخلاف التفاصيل التقنية الواجب الالتزام بها من طرف إيران مثل الموافقة على عملــيات تفتــيش مفــاجئة، والهبوط بنسبة تخصيب اليورانيوم من عشرين في المئة إلى ثلاثة ونصف في المئة، وتصفية المخزون من اليورانيوم المخصب إلى درجة عشرين في المئة وتحديد عدد أجهزة الطرد المركزي اللازمة لعمليــات تنقــية اليورانيوم، وتعلــيق العــمل في «مفاعــل أراك» وغــيرها من التفاصيل، يجلس المفاوض الإيراني وعينه على أهداف اقتصادية. تضمــنت مســودة «اتفاق الإطار» أن تفرج الولايات المتحدة الأميركية عن ثلاثة مليارات دولار من الأصول الإيرانية المجمدة لديها، كمشهيات افتتاحية. ولأن إيران تتعامل مع الدول التي تصدر النفط إليها عن طريق مقايضة النفط بالذهب بسبب العقوبات المفروضة على البنك المركزي الإيراني، يعد رفع الحظر على تجارة إيران من المعادن النفيسة ضرورياً لبيع الذهب المتراكم لديها بشكل يفوق الاحتياج الفعلي. وإذ وصلت الصادرات التركية من الذهب إلى إيران إلى معدل مليار ونصف مليار دولار شهرياً طيلة السنة الماضية 2012، فهذا يعني قدرة إيران على مراكمة تسعة مليارات دولار سائلة من تركيا مقابل صادراتها النفطية خلال شهور التفاوض الست القادمة. وطبقا لبيانات «بيزنس مونيتور انترناشيونال»، فقد صدرت إيران العام الماضي ما ثمنه 11,2 مليار دولار من المنتجات البتروكيماوية قبل فرض الحظر الأخير عليها. وفي حال تم رفع الحظر عن هذه المنتجات، وباستخدام هذه الأرقام كمؤشر أساسي، يمكن لإيران التصدير بمبلغ يتراوح بين خمــسة وســتة مليارات دولار إضافية خلال فترة الستة شهور القادمة التفاوضية. كما فرضت أميركا، منذ حزيران 2013 قبيل الانتخابات الرئاسية الإيرانية، عقوبات على قطاع السيارات الإيراني، بدعوى ارتباطه بالحرس الثوري الإيراني، الذي سيطر حتى انتخاب الرئيس الإيراني حسن روحاني على البرنامج النووي، وشكل شبكات تجارية في دول متعددة لمراوغة الحظر عبر أطراف ثالثة. قبــل فــرض حــزمة العقــوبات الأخــيرة، وفي فترة سبعة شــهور فقــط من العام 2012 قامــت إيران بتصدير ما ثمنه 1,4 مليار دولار من قطاع سياراتها، وبالتالي يمكن لإيران أن تتحصل على 1,3 مليار دولار من صادراتها من السيارات خلال فترة التفاوض القادمة، أي خلال الشهور الست القادمة. على ذلك، يصبح مجموع ما يمكن أن تتحصل عليه إيران، مبلغاً يقارب عشرين مليار دولار خلال الفترة التي يتطلبها تنفيذ خريطة الطريق، وهي ستة أشهر.
احتياطي إيران النقدي
تملك إيران احتياطات تقدر بحوالي ثمانين مليار دولار، منها عشرة مليارات مجمدة وعـشرين مليار أخرى سائلة يمكن التحكم بها من دون عوائق، أما الخمسون مليار دولار الباقية فيمكن التحكم بها بصعوبة نسبياً بسبب المقايضة، التي اضطرت ايران اليها بسبب العقوبات مع دول مثل الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وتركيا. ومن شأن تخفيف الحظر على القطاعات المذكورة سابقــاً أن تحــصل إيران على عشرين مليار دولار من أموالها بعد رفع الحظر. ويعني ذلك أن يرتفع الاحتياطي النقدي الايراني بمعدل الربع، ليصبح مئة مليار دولار، وبدوره سيعني ذلك رفع نسبة الاحتياطي السائلة من عشرين إلى أربعين مليار دولار. ويزيد الرقم الأخير في حال رفعت العقوبات عن الصادرات الايرانية المقيدة بالمقايضة، وقيمتها خمسين مليار دولار على دفعات. وقتها سترتفع الاحتياطات السائلة من عشرين مليار دولار راهناً إلى سبعين مليار دولار، ولا يخفى بأن كل هذه المبالغ إيرانية ولا تتضمن معونات أميركية، وإنما تخفيفاً للعقوبات فقط.
ميزان الذهب
تمسك أميركا بورقة تخفيف العقوبات الاقتصادية على طاولة المفاوضات لتغري إيران بتقديم المزيد نووياً، ويحكم سلوكها التفاوضي خيط رفيع يفصل بين تقديم مزايا اقتصادية محدودة يمكن التراجع عنها (المشهيات)، ولكنها ضرورية لاستمرار عمــلية التــفاوض من ناحية. ومن ناحية أخرى، الحرص على عدم تقديم تنازلات جوهرية (الأطباق الرئيســية) مبكراً، لأن ذلك سيحرر إيران نسبياً من ضغط العقوبات، ويدفعها إلى التشدد في الجولات الاحقة. وبالمقابل تعرف إيران أن لكل خطوة تتراجع بها إلى الوراء نووياً، ثمنا مطلوبا أميركياً يتمثل في خطوة مقابلة إلى الوراء اقتصادياً. ومن شأن تجاوب إيران بشكل غير متكافئ، أن تملي أميركا شروطها على إيران في النهاية فتستطيع أن تنتزع بالمفاوضات ما عجزت عن اقتناصه بوسائل العقوبات الاقتصادية. يرغب الطرفان الأميركي والإيراني في التوصل إلى تسوية وفرص نجاحها عالية بالفعل، ولكن الطريق نحو تنفيذها سيكون صعباً وعسيراً. باختصار يمسك كل من الطرفين بميزان من ذهب يزن به خطواته والخطوات المقابلة في كل مرحلة، وإلا أفلت منه الزمام التفاوضي في النهاية. ويسري ذلك بالطبع على جولة بعد غد التفاوضية، التي ستدور حول تفاصيل نووية واقتصادية في آنٍ معاً.
السفير
استهداف “أصدقاء أميركا” الجدد/ عبد الوهاب بدرخان
ليس تفجير أو تفجيران ما سيغيّر المواقف ومسار الأحداث، لا بالنسبة الى تورّط ايران و”حزب الله” في سوريا ولا بالنسبة الى المفاوضات النووية. الارهاب لغة عقيمة وغير مجدية سواء كانت اسرائيل أو مجموعة “تكفيرية” وراءه. والمؤسف، على رغم سقوط ضحايا، أن حال الحرب تعفي اللاعبين من تقويم خياراتهم، فكلّها عندهم صواب. هذا ما أكده السفير الايراني أمس، وما دأب الأمين العام لـ”حزب الله” على تأكيده وصولاً الى أنه لا يحتاج الى “تغطية” لبنانية لتدخّل حزبه في سوريا، علماً بأن المطلوب كان ولا يزال انسحاب “حزب الله” من سوريا، وليس العكس. وإحدى أسوأ “اخلاقيات” هذه الحرب أنها تهزأ بالأضرار “الجانبية”… الانسانية.
وعد السيد حسن نصرالله بـ “انتصارٍ” للنظام السوري. وعلى رغم أن الأمر يستحق الخجل أكثر من التفاخر، إلا أن نصرالله يعرف علام يتكلم. فمقاتلو المعارضة – غير “التكفيريين”، بالمناسبة – يفيدون حالياً بأنهم لم يعودوا يرون في مواجهتهم سوى عناصر “حزب الله” أو ايرانيين وعراقيين، في حلب كما في جنوب دمشق. شيءٌ من هذا “الانتصار” في صدد التحقق، لكن ما العمل به في نهاية المطاف، فليس وارداً أن يواصل النظام الحكم والسيطرة والعربدة الاقليمية على أنقاض الدمار الذي ارتكبه. ايران و”حزب الله” يعرفان ذلك لكنهما يستعرضان حالياً ما يستطيعانه في قضية مخزية، على أمل استثماره في وضع نفسيهما على الفلك الاميركي – الاسرائيلي. هل يكون التفجير، بالأمس، استهدافاً لـ”أصدقاء اميركا” الجدد?
لا مبالغة في ذلك، اذ إن نصرالله نفسه يبشّر به. ألم يقل إن نتائج القتال في سوريا ومفاوضات الدول الكبرى مع ايران ستأتي كلها لمصلحة “فريقه” في لبنان؟ أي أنه في طريقه لأن يصبح صديقاً وحليفاً لاميركا، ليس الـ”اميركا” التي نعرفها بل تلك التي ستكون ايران قد غيّرتها وطوّعتها!… “المنطق” هنا أن بقاء النظام السوري شكّل منذ البداية تقاطعاً ايجابياً ومباركاً بين ايران (حزب الله) واسرائيل. أي أن “جبهة الممانعة” تكون غيّرت اميركا واسرائيل وطوّعتهما معاً. صدّقوا أو لا تصدّقوا.
فوق ذلك سيبقى “حزب الله” على حاله حزباً لـ”المقاومة”، ولِمَ لا؟ فهو محتكر السلاح غير الشرعي، وهو شارك في تدمير سوريا وله الدور الأساسي في ركود اقتصاد لبنان وتأخره، وليس لديه أي مال “نظيف” أو حتى مغسول لمساعدة نازحين بينهم من استضاف في سوريا الهاربين من حرب “النصر الإلهي” في 2006. ولعله على حق في ذلك فهو ساهم في تهجير النازحين، أما إغاثتهم فليست من شأنه، حتى أنه لم يضعها يوماً على جدول أعمال الحكومة… حكومته.
النهار
استهداف إيران تصعيد خطير لمستوى الصراع لبنان يقف عاجزاً أمام زحف الاستباحة/ روزانا بومنصف
صحّت تخوفات مسؤولين لبنانيين كثيرين من تصعيد خطير توقعوا ان يطاول لبنان تبعا للاستعدادات التي بدأها النظام السوري مع حلفائه من اجل السيطرة على منطقة القلمون المحاذية للحدود مع لبنان، في ظل ثقة شبه مؤكدة لدى هؤلاء من ان التداعيات لن تقتصر على العدد الكبير من اللاجئين السوريين الذين زاد عددهم في الايام الاخيرة بل يحتمل ان تظهر عبر انفجار أمني يعقب التصعيد السياسي الذي حصل الاسبوع الماضي قد يساهم في اذكاء عوامل الفتنة بين السنة والشيعة او يشعل جبهات اخرى من القتال في الداخل. ففي مكان ما لم يكن الانفجاران في حد ذاتهما مفاجئين بمقدار ما كانت المفاجأة في استهداف السفارة الايرانية بالذات في العاصمة اللبنانية في اول تعبير او ترجمة لاستهداف ايران بعدما كان استهدف “حزب الله” في الأشهر الماضية مما يظهر مدى محورية المعركة التي يخوضها النظام السوري في القلمون وجوارها بدعم مباشر من ايران التي كانت ولا تزال تنفي تورطها المباشر في الحرب السورية فيما تعتمد صراحة على التنظيمات الموالية لها في العراق ولبنان. لكن الامور خرجت عن مستوى قدرة لبنان وارادة مسؤوليه، فبدا يقف قسراً في موقع المتفرج على رغم تعرض امنه ومواطنيه للخطر والموت مكتفيا بلملمة الاشلاء والضحايا وسط عجز مطلق عن التأثير في اي اتجاه.
فليس سهلاً استهداف السفارة الايرانية في بيروت، وهي التي لا تقع في شعاع الضاحية الجنوبية حيث سيطرة “حزب الله” وما يمثله بالنسبة الى ايران وفي مجاله الامني المتشدد فحسب وفي الوقت الذي شجع الامين العام للحزب مناصريه على تحدي المخاطر في ذكرى عاشوراء واطل هو بنفسه على نحو مباشر، بل في بيروت نفسها التي يتم تحويلها مركزاً لـ”المقاومة” من جهة ويجري الصراع عليها من جهة أخرى. فهذا الاستهداف هو تصعيد نوعي لمستوى الصراع من حيث الهدف ومن حيث المكان ويوجه رسالة حول النية في التعاطي مع الرأس الذي هو ايران، وهو تطور خطير قد يحمل معه انعكاسات سلبية اضافية على لبنان كون الفعل بات يستدرج ردود فعل مقابلة وضربة لا يستهان بها لايران على رغم انها تصيب الحزب أيضاً. وفي رأي مصادر سياسية ان استهداف السفارة الايرانية في بيروت يظهرمحطة اضافية من الانتقال الفعلي للصراع الاقليمي الى لبنان وشموله امنيا على نحو صريح في هذا الصراع، انطلاقا مما يراه مراقبون ان توريط “حزب الله” لبنان والبعض يقول توريط ايران “حزب الله” على نحو مباشر في الحرب السورية جعل لبنان ساحة على غرار الساحات القائمة الاخرى في العراق كما في سوريا مع فارق ان لبنان لن يدفع وحده الثمن. بل ان التوجه مباشرة الى السفارة الايرانية انما يشير باصبع الاتهام اليها عن مسؤوليتها في ما يجري اتخاذه من قرارات في سوريا باعتبار ان المبادرة في يدها ولم تعد في يد النظام السوري. وهذا الاستهداف في عزً الاستعدادات الجارية لعقد مؤتمر جنيف – 2 يساهم في تسليط الضوء على ايران كجزء من المشكلة التي تعاني منها سوريا والمأساة التي يتسبب بها استمرار المعارك للسوريين.
وهذه المقاربة للتفجيرين الارهابيين ضد السفارة الايرانية في بيروت هي الاكثر رواجا لدى غالبية الاوساط السياسية الرسمية وغير الرسمية التي لا تفصل ما جرى او لا تعزله عما يتم من استعدادات لمعارك ستجري او لمعارك قائمة في سوريا راهنا انطلاقا من ان لبنان يعاني من تمدد الأزمة السورية الى ربوعه على كل المستويات بحيث يزداد مستوى الخطورة على لبنان وذلك على رغم توجيه ايران اصابع الاتهام الى اسرائيل. فهذا الاتهام الديبلوماسي لا يجد صدى فعلياً له حتى لدى الاوساط الحليفة التي رمت الكرة في خانة الارهابيين التكفيريين في اشارة ضمنية الى تداعيات الوضع السوري. فحتى الآن واجه لبنان تداعيات لجوء عدد هائل من اللاجئين اليه فيما هو يعاني من استهداف لقراه على الحدود القريبة من سوريا كما يجري في عرسال راهنا وواجه موجة تفجيرات طاولت مناطق لبنانية قبل ان تتحول على نحو مفاجئ ضد سفارة ايران. ويخشى في ضوء ذلك ان تكون الابواب فتحت على صراع بات يجاهر باستخدام لبنان ساحة اضافية ومعلنة علما ان كثرا يعتبرون انه كذلك منذ ما يزيد على سنة تقريبا بحيث لم يعد يستطيع ان يكون في منأى عما يجري في سوريا في الوقت الذي استنفدت الدولة اللبنانية قدراتها الامنية في المحافظة على امن الضاحية الجنوبية وطرابلس. فيأتي استهداف السفارة الايرانية التي تخضع لتدابير أمنية خاصة صارمة لتظهير واقع يعرفه اللبنانيون من تجربة الحرب الطويلة ان الواقع الامني لا يحمي وحده ايا تكن الاجراءات من جانب الدولة او من جانب تنظيمات خاصة. ومن هنا الدعوة الى الحوار لحماية لبنان قدر الامكان.
المفارقة اللافتة بالنسبة الى بعض المراقبين ان تتعرض سفارة ايران في لبنان في هذا التوقيت وربطا باحداث سوريا والصراع في المنطقة لأسوأ هجوم في هذه الحقبة الحديثة ضد مقر أجنبي على نحو لا يذكر سوى باحداث مماثلة خلال الحرب في اطار الصراع الاقليمي الذي كان على لبنان ايضا والنفوذ في المنطقة باختلاف بعض اللاعبين والادوار.
النهار
مهلاً “حزب الله”/ موناليزا فريحة
حاول الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله في كلمته في عاشوراء الايحاء بأن الحزب ليس خائفاً من تقارب ايراني – أميركي. وخلافاً للسعودية واسرائيل، حليفتي واشنطن، أعلن نصرالله، عدوها اللدود، دعمه اتفاقاً نووياً محتملاً بين الجمهورية الاسلامية والغرب. وذهب الى حدّ ملاقاة جون كيري في التحذير من أن الخلاف في جنيف قد يؤدي الى حرب.
ليس كلام السيد نصرالله مفاجئاً فهو يشكل امتداداً لمباركة المرشد الاعلى للجمهورية الاسلامية آية الله علي خامنئي محادثات جنيف ووصفه المفاوضين الايرانيين فيها بأنهم “أبناء الثورة”. غير أن ما قاله من أنه إذا ذهبت الأمور في اتجاه الاتفاق، سيكون الحزب “أقوى وأفضل حالاً محلياً وإقليمياً”، فيثير أكثر من علامة استفهام، وإن يكن يدخل في اطار اللعبة السياسية الداخلية في لبنان.
حتى الآن، تنحصر المحادثات بين ايران والغرب في الملف النووي، ولا تشمل الدور الاقليمي لطهران ولا التوتر المذهبي الذي يثيره تدخلها في سوريا والعراق والبحرين ودعمها “حزب الله”. لكنّ محلّلين أميركيين ينقلون عادة وجهة نظر الادارة الاميركية، دأبوا في الايام الاخيرة على تسويق التسوية المحتملة، معتبرين أنها تخدم المصالح الأميركية وتمهد لا لانهاء ثلاثة عقود من حرب باردة أضرت بمصالح واشنطن فحسب، وإنما أيضاً تساهم في تحقيق تعاون بين الجانبين في سوريا والعراق وأفغانستان والنزاع الفلسطيني – الاسرائيلي، الى قضايا أخرى كالطاقة والارهاب. ويذهب ديفيد اغناثيوس وتوماس فريدمان الى حدّ القول إن دمج ايران في هيكلية اقليمية أوسع يمكن أن ينهي الحرب السنية – الشيعية التي تهدد الشرق الاوسط كله.
وبصرف النظر عما اذا كانت مقاربة ايران لتبعات التسوية النووية مطابقة لهذه المقاربة الاميركية، فلن يكون دور “حزب الله”، الحليف الوثيق لايران، الذي تصنفه واشنطن منظمة ارهابية، بعيدا من أيّ ترتيبات في ايّ تسوية. ومن شأن دور أقوى للحزب، أن يقوض بالتأكيد الاهداف المرجوة من التسوية مع ايران. وليس ما يحصل في لبنان على خلفية تدخل الحزب والمكاسب التي يحققها النظام بمؤازرته في سوريا، إلا دليلاً على ذلك.
لم يكن فريدمان في حاجة الى القول أن الاميركيين لا يستخدمون قانونيين للتفاوض مع ايران من أجل مصلحة اسرائيل ودول الخليج لتكون لهذه الدول الكلمة الاخيرة في الاتفاق. وما من أحد يتوهّم أصلاً أن واشنطن تتعامل مع الأزمة الايرانية أو سواها لغير مصالحها الخاصة. تماماً كما لا يتوهم اي لبناني أو سوري أن تحجيم “حزب الله” في سوريا ولبنان هو الشغل الشاغل للمفاوضين الاميركيين في جنيف. بيد أن الحزب أيضاً برفعه السقف يبالغ في رهاناته. ولكن مهلاً، فقارة ليست سوريا واللعبة لم تنته بعد.
النهار
باريس: طهران أقل تمسكاً بالأسد من موسكو/ ارليت خوري
قالت أوساط ديبلوماسية فرنسية لـ «الحياة» أمس إن أفضل ما يمكن أن يسفر عنه الاجتماع التحضيري الأميركي – الروسي مع المبعوث الدولي – العربي الأخضر الإبراهيمي في جنيف يوم الإثنين المقبل هو «تحديد موعد» مؤتمر «جنيف2» والاتفاق على لائحة المدعوين للمشاركة فيه، مشيرة إلى أن الإيرانيين «أقل تمسكاً» بالرئيس السوري من الروس.
وتابعت الأوساط أن «تحديد الموعد يُعدّ بحد ذاته أمراً بالغ الأهمية كونه يعني أنه تم حسم مجمل العقبات التي تعترض انعقاد المؤتمر وفي مقدمها هدفه، إذ أن النظام السوري أكد تكراراً أنه من غير الوارد الذهاب إلى جنيف لمناقشة نقل السلطة»، مؤكدة أن الاجتماع التحضيري الذي يعقد على مستوى المدراء السياسيين «محطة مهمة نظراً إلى ما سيصدر عنه من مؤشرات سلبية أو إيجابية تُرجّح إمكان انعقاد المؤتمر أو عدمه وتساهم في الوقت ذاته في الرد على مجموعة من التساؤلات. ومن أبرز هذه التساؤلات ما الذي يمكن أن يحمل نظام الأسد على المشاركة في مؤتمر يفترض أن يؤدي إلى إنهاء عهده، علماً بأنه لم يفقد بعد كافة مقومات بقائه».
وبعدما تساءلت الأوساط: «هل أن المواعيد المتداولة لانعقاد المؤتمر – مثل منتصف كانون الأول (ديسمبر) المقبل – واقعية نظراً إلى التباعد البالغ في المواقف؟»، قالت إن «الانطباع القائم لدى الأوساط الديبلوماسية الفرنسية مفاده أن الأسد لن يأتي إلى «جنيف2» طوعاً وإنما سيكون ملزماً ومدفوعاً من قبل الروس والإيرانيين ومن عناصر من داخل النظام نفسه بدأت تشعر أنه يأخذ بها إلى الحائط».
وأقرت الأوساط بأن النظام «يعتبر أنه في موقع قوة عسكرياً، فهو يستعيد بعض المواقع، لكنه يواجه صعوبة في الحفاظ عليها، وهو عملياً يحقق نجاحاً في موقع ويتراجع في مواقع أخرى»، مشيرة إلى أن «العناصر التي باتت على وشك الابتعاد عن النظام تتخوف من طبيعة البديل الذي سيخلفه. وفي الوقت ذاته، وخصوصاً بعد ما حصل على صعيد مجزرة الكيماوي في الصيف، ليس لدى هؤلاء الأشخاص الانطباع بأن الضغط على النظام مركّز وأن بوسعه أن يفعل ما يحلو له من دون أن تتحرك الدول المعارضة له بنشاط وقوة، وهم يقولون: ما الذي يحملنا على المجازفة بمغادرة سفينة لم تغرق بعد؟». وتابعت: «لا بد من تضافر نضوج الضغط من داخل النظام مع تطور في الموقفين الإيراني والروسي»، مشيرة إلى أن «إيران تبدو أقل تمسكاً بالأسد من الروس، كما أن الإيرانيين يبدون أكثر براغماتية من الروس على هذا الصعيد، فإذا رأوا حلاً يصون مصالحهم فإنهم يمكن أن يعدّلوا موقفهم».
وبالنسبة إلى الموقف الروسي وعلى رغم تصريحات المسؤولين الروس بأنهم «غير متزوجين» مع الأسد، أكدت الأوساط أنه «يصعب حتى الآن معرفة ما يمكن أن يحملهم على التخلي عنه». وشككت في إمكان أن تتضح الأمور على هذا الصعيد خلال الفترة التي تفصل عن اجتماع الاثنين المقبل على رغم كثافة الاتصالات القائمة بهذا الشأن. وقالت إن «مصير «جنيف 2» وإرسال الأسد لوفد يمثّله للتفاوض على رحيله مرتبطان كلياً بالموقفين الروسي والأميركي وأيضاً بالديناميكية الداخلية، مما يمكن أن يحمل على التشكيك بواقعية المواعيد التي تُعلن هنا وهناك».
وزادت الأوساط الفرنسية ذاتها: «فيما تدفع الولايات المتحدة، وإلى حد ما بريطانيا، باتجاه تسريع الأمور، فإن فرنسا تراهن على الزخم الذي يمكن أن يوجّه الأمور في الاتجاه الصحيح»، لافتة إلى إن «جنيف 2» هو «نهج وليس فقط اجتماعاً وإن مجرد إطلاق نهج ما تترتب عليه أمور عدة. وتراهن فرنسا بالتالي على إمكان أن يساعد هذا النهج أشخاصاً من داخل النظام على الأخذ بواقعية رحيل الأسد وتفحّص الاحتمالات المتاحة أمامهم. كما أن الروس يمكن أن يكتشفوا أن من مصلحتهم إيجاد نظام يحافظ على عدد من مصالحهم بمعزل عن الأسد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى إيران».
وأقرت الأوساط بـ «واقعية أن توافر العناصر الثلاثة الضاغطة يبدو بعيداً اليوم»، قبل أن تتساءل عما إذا كان إطلاق نهج «جنيف 2» يمكن أن يكون حافزاً على تحقيقها. لكنها قالت إن هذا ما لا يعرفه أحد و «هو جوهر الرهان الذي نقدم عليه».
وعما إذا كان هناك تفكير ببدائل في حال تعذّر عقد «جنيف 2» وما إذا كان من هذه البدائل الخيار العسكري، لفتت الأوساط إلى أن هناك من بدأ يقول بضرورة التفكير بخطة بديلة لكن الخطر يكمن في حرف الاهتمام والجهود عن عملية إنجاح ما يجري العمل عليه حالياً. وبالنسبة إلى الخيار العسكري، أشارت الأوساط إلى أن العالم اليوم أبعد ما يكون عن اللجوء إلى القوة مما كان عليه في نهاية آب (أغسطس) ومطلع أيلول (سبتمبر) الماضيين، معتبرة أنه لو تم اللجوء إلى القوة في حينه «لما كنا اليوم نقف في مواجهة نفس المعطيات التي نواجهها… على رغم تخوف فرنسا مثلها مثل الكثيرين وسعيها للحؤول دون سيطرة الإرهابيين على السلطة من خلال الإصرار على تعزيز المعارضة».
الحياة
“الصفقة” إذا حصلت تتضمّن حتماً خروج إيران من الصراع مع إسرائيل/ جهاد الزين
بسبب صعوباته وتعقيداته البالغة وخصوصا أنه يعني، إذا حصل، تغييرا نوعيا في البيئة السياسية لمنطقة الشرق الأوسط فإن “الاتفاق” بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران لن يكون “مكتوباً” سوى في بعض بنوده. فهو من ذلك النوع من الاتفاقات التي إذا حصلت يكون المعلَن فيها أقل من غيرالمعلن. هنا محاولة لفهم “منطق” غير المعلن…
البند المكتوب الاستراتيجي هو طبعا الاتفاق المتعلّق بطبيعة الطاقة النووية التي تملكها إيران. لكن “البنود” الأخرى غير المكتوبة هي التفاهمات الفعلية على المكاسب والتنازلات بين الطرفين وهي، كي نتذكّر دائما حدود “الاتفاق”، مكاسب وتنازلات بين القوة الدولية العظمى الأولى وبين قوة إقليمية سياسية ونفطية نافذة في بعض أقاليم الشرق الأوسط.
لهذا فإن “الاتفاق” الإيراني الأميركي إذا حصل فسيكون عبارة عن “صفقة” غير المكتوب فيها كثيفٌ جدا وفقا لحساب كلٍّ من الطرفين لمصالحه ومستقبلها ولذلك لها على الأرجح السمات التالية:
1 – سمة تدرّجية أي لن تعتمد فقط على وقائع قائمة بل على تغيير وقائع قائمة أيضا في المنطقة الجغراسية التي تتعلّق بها. هذا يجعلها، إذا حصلت، من الاتفاقات التي ستقرّر وتغيّر أدوارا لقوى أصغر.
2 – سمة غير ثنائية بمعنى أنها باتت لا تتعلّق بتوازن طرفين متفاوضين فقط بل أساسا، ويجب أن لا ننسى ذلك مطلقا، تتعلق بثلاثة أطراف أساسية هي إلى طهران وواشنطن، طرف دولي- إقليمي هو روسيا. فروسيا بحكم تطوّرِ معطيات المنطقة بعد موجات “الربيع العربي” وتحديدا بعد الانفجار السوري، هي طرف داخلي في الاتفاق وليس خارجيا لأنه بات هناك تحالف حقيقي بين موسكو وطهران.
3 – سمة استراتيجية. فالاتفاقات الجزئية البراغماتية بين طهران وواشنطن تمّت في العراق وأفغانستان بعد العام 2001 وقد ظهرت مؤخّرا مقالات معلوماتية هامة منها في مجلة “نيويوركر” لديكستر فيلكينز و صحيفة “النيويورك تايمز” للسفير الأميركي السابق ريان كروكر حول طبيعة التفاوض السري وتفاهماته الجزئية وانهياراته السابقة لكن العلاقة الصراعية الحادة بقيت بينهما أيديولوجيا وسياسيا وأمنيا.
في رصد المعاني الجوهرية لـ السمة الاستراتيجية في “صفقة” من هذا النوع يمكن القول أنها لا يمكن أن تحصل، إذا حصلت، بدون أن تعني “انسحابا” إيرانيا تدريجيّا وإنما عميق من الصراع مع إسرائيل. هذا الصراع الذي أقحم النظام الإيراني نفسه فيه منذ لحظة ولادته عام 1979 وتحوّل ليس فقط إلى “إقحام ذاتي” بل إلى اقتحام ناجح للصراع العربي الإسرائيلي ولاسيما عبر الاستثمار الأمني والسياسي الذي مثّله “حزب الله”، إلى حد أن الوافد وهو إيران، ولو عبر تحالفات مع أطراف عربية، حلّ بصورة ما مكان الأصيل وهو العرب في هذا الصراع؟! لقد انطبع الصعود الإيراني في العالم العربي بهذا الدور الإيراني الذي كان النظام السوري قاعدته الجغراسية الكبرى.
إذا كان لـ”الصفقة” أن تحصل فسيجري تأريخُها ( الهمزة على الألف الأولى) مستقبلاً، على الأرجح، من يوم تسليم السلاح الكيميائي السوري. ولهذا تنشأ حاليا مفارقة هي أن الطرف الكبير القلق والمتوجّس من احتمال “الصفقة”، أي إسرائيل، هو أول المستفيدين منها، بينما الطرف الكبير الآخر المتوجّس بل الخائف، وهو السعودية، يتحسّس احتمال خسائره في سوريا. فالتنازل الروسي الإيراني السوري يكون مع تسليم السلاح الكيميائي قُدِّم إلى إسرائيل! و حول هذا الملف يجب أن نصدّق الرئيس بشار الأسد حين قال لمدير “قناة الميادين” غسان بن جدّو قبل فترة أن هذا السلاح الكيميائي كان الوسيلة الوحيدة المتاحة لقدر من التوازن مع السلاح النووي الإسرائيلي.
إذا كانت هذه هي البداية فهل يعقل أن لا تكون “فلسفة” أي صفقة شاملة مع إيران هي من وجهة نظر واشنطن إنهاء الدور الإيراني في الصراع مع إسرائيل؟
الطريف أن أول من أثار هذا الموضوع حول انعكاس الاتفاق بين طهران وواشنطن على الصراع مع إسرائيل كان حسن نصرالله أمين عام “حزب الله”. فعلى طريقته في تأكيد النفي أو في نفي التأكيد قال بما معناه أن هناك من باتوا ينتظرون الاتفاق الإيراني الأميركي لكي يشهدوا نهاية “حزب الله”. وفي تصدّيه لفكرة تسليم إيران لورقة “حزب الله” في أي اتفاق مع واشنطن، قال نصرالله في انفعال يتقنه أن “حزب الله” سيصبح أقوى بعد هذا الاتفاق.
هذا صحيح. ولكن أقوى أين؟
أقوى في السياسة اللبنانية وفي النظام السياسي اللبناني ولكن سيزول دوره الذي بات تقليديا عل الجبهة مع إسرائيل… إذا حصلت “الصفقة”. فإذا كان “حزب الله” الآن يكابر في موضوع نفي معنى انسحاب إيران من الصراع مع إسرائيل في “الصفقة” فإن أخصام “حزب الله” لاسيما اللبنانيين منهم عليهم أن يفهموا أن التخلي الإيراني عن دور “حزب الله” العسكري حيال إسرائيل ليس تخلّيا عن دوره في المعادلة الداخلية اللبنانية. بل إن الثمن التعويضي عن انتهاء دور “المقاومة ضد إسرائيل” ( أيّاً يكن شكل الانتهاء) “يُقبض” في بيروت. فالأميركيون و الإسرائيليون لا يعترضون على دوره في الحياة السياسية اللبنانية الداخلية خصوصا أنه بات قوة شعبية تسيطر على البيئة الشيعية اللبنانية وتقيم بالتحالف مع حركة “أمل” نوعا من “نظام حكم” في مناطق الطائفة تعرف الطائفيّات اللبنانية كيف تقيمه بأشكال مختلفة مثلما كان الأمر خلال الحرب الأهلية في المناطق المسيحية ومثلما هو حاليا في مناطق الدروز ( الحزب الجنبلاطي) وبعض مناطق السُنّة ( الحزب الحريري).
تنخرط القوى الأساسية في الطائفتين الشيعية والسنية انخراطا عسكريا مباشرا و خدماتيا في الحرب الأهلية السورية. ومع أن الانخراط السُنّي اللبناني المعلن سبق الانخراط الشيعي اللبناني، فقد كانت لإعلان “حزب الله” المشاركة في القتال في سوريا دلالة قد تصبح هائلة مستقبلاً: إنها تاريخ تحوّل الدور العملي لـ”الحزب” من الجبهة الجنوبية مع إسرائيل إلى دور جديد على الجبهة الشمالية هو الدور داخل سوريا.
… إنها الكيمياء السياسية التي تعيد إنتاج دلالات الماضي من المستقبل. شيء ما عميق حصل في هذا الانتقال من الجنوب إلى الشمال بدون “الصفقة”… فكيف إذا حصلت؟ ستكون بدايتها عندها في هذا الانتقال!
النهار
نتنياهو وحيداً ضد اتفاق مع إيران/ رندة حيدر
لم ينجح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في اقناع زعماء الدول الكبرى بضرورة عدم تخفيف العقوبات على إيران في مقابل تجميد برنامجها النووي مدة ستة اشهر. فقد حاول اقناع الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند بذلك، لكنه لم يفلح على رغم الحفاوة البالغة التي استقبل بها هولاند في إسرائيل، والمبالغة التي اظهرها نتنياهو في التعبير عن تقديره للموقف الصارم الذي وقفته فرنسا في جولة المحادثات النووية السابقة مع إيران. والواقع ان اغداق نتنياهو الثناء على ضيفه الفرنسي كان موضع تهكم من الاعلام الإسرائيلي الذي اعتبره سلوكاً سياسياً غير حكيم من جانب نتنياهو غايته اغاظة إدارة أوباما، وذهب بعض المعلقين الإسرائيليين الى حد اتهام نتنياهو بتعريض العلاقات التاريخية مع الولايات المتحدة للخطر من أجل تحالف مع فرنسا التي لا يمكن في نظرهم الاعتماد عليها.
وها هو نتنياهو اليوم في موسكو يحاول أيضاً اقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بوجهة نظره ولكن من دون جدوى، وذلك لسبب اساسي هو ان حماسة الروس للاتفاق مع إيران تفوق حماسة الدول الاخرى، كما ان العلاقة بين إسرائيل وروسيا في الاشهر الاخيرة مرت بكثير من التوتر بسبب معارضة إسرائيل تزويد الروس سوريا منظومات صاروخية متطورة ترى إسرائيل انها تشكل خطراً عليها وتقلص هامش المناورة لسلاح الجو الإسرائيلي، وكذلك بسبب اقدام إسرائيل اكثر من مرة العام الماضي على شن هجمات على مخازن صواريخ متطورة روسية الصنع داخل الاراضي السورية.
في هذه الاثناء، يستمر الفتور في العلاقة بين إسرائيل وإدارة أوباما بسبب الحملة التي شنتها أوساط نتنياهو على مواقف هذه الإدارة التي تعتبرها إسرائيل متساهلة مع إيران، والاتهامات الإسرائيلية بان أوباما يرغب في التوصل الى اتفاق سريع مع إيران ويعرض لخطر الانهيار الضغوط الديبلوماسية على إيران، وانه تنكر لكل وعوده لإسرائيل بالوقوف الى جانبها، ومنع إيران بشتى الوسائل من الحصول على قدرة نووية عسكرية.
وفي اطار الحملة التي يشنها نتنياهو على الاتفاق مع إيران، تصاعدت من جديد أصوات مسؤولين عسكريين سابقين مقربين من نتنياهو تحدثت عن امتلاك إسرائيل القدرة على شن هجوم عسكري وحدها على المنشآت النووية الإيرانية، وعن ان إسرائيل غير ملزمة اتفاقاً سيئاً مع إيران.
وبغض النظر عما ستسفر عنه المحادثات الدائرة حالياً مع إيران، واضح اليوم ان إسرائيل لم تعد تملك القدرة على خوض هجوم عسكري على إيران، كما ان قدرتها على تعطيل الحل الديبلوماسي محدودة للغاية، لذا فان أقصى ما يتطلع اليه نتنياهو الآن هو تحسين شروط الاتفاق فقط لا غير.
النهار
لائحة الأهداف طويلة والإمكانات محدودة طهران لن تسكت عن الاعتداء/ خليل فليحان
فرض التفجيران الانتحاريان اللذان ضربا محيط سفارة ايران أول من أمس تحدّياً كبيرا على الاجهزة الامنية اللبنانية وصعوبات جدية في امكان مواجهة مثل تلك العمليات او تعطيلها، نظراً الى اسباب عدة، منها:
اولاً – استمرار سياسة الحدود المفتوحة مع سوريا امام اللاجئين.
ثانياً – افتقار الاجهزة الامنية الى عدد وعديد وذخائر.
ثالثاً – اراحة الجيش السوري الذي يقاتل من اجل النظام، وذلك بعدما احتجت الولايات المتحدة الاميركية وشركاء أوروبيّون وبعض العرب على كثرة التنظيمات المتطرفة التي تحارب قوات النظام ومن يحاول من المعارضة الحد من تغلغلها وخوض معارك لإرضاء الولايات المتحدة وحلفاء لها يرتابون في تنظيم “القاعدة” وما يتفرع منه من اصول.
ولم يخف المسؤولون الامنيون الكبار ان المهمة المطلوبة ليست سهلة لكل تلك الاسباب، لان لوائح الحماية المطلوبة كثيرة، منها ما هو للحزب والاخرى لبعض البعثات الديبلوماسية الاكثر تعرضا.
طلب مجلس الدفاع الاعلى من قادة الاجهزة اهدافا كثيرة، وكانت الاجوبة الاستعداد بقدر ما تسمح به الامكانات من ضبط للحدود، ليس فقط البرية، بل المطار والمرافىء وقضايا لوجيستية وفنية.
وامتنع اكثر من مسؤول في جهاز امني بارز عن تأييد ما دأب على طرحه نائب وزير الخارجية الايراني حسين عبد الامير اللهيان منذ وصوله الى بيروت ليل الاثنين – الثلثاء هو صيغة “أمن لبنان من أمن إيران”، لان ذلك سيفتح الكثير من الملفات الايرانية مع العديد من الدول، وبذلك يتحول لبنان ساحة لتصفية الحسابات. ولفت المسؤول الى ان تلك الصيغة صالحة مع دولة جارة ذات حدود مشتركة، اذا لم يكن بالكامل، فجزئيا على الاقل، كسوريا والاهداف الامنية تكون متقاربة والعدو قد يكون واحدا. ولم يسلم بما قاله اللهيان في قصر بسترس لجهة نظرية ضرورة التلاقي والتعاون مع دول الجوار في المنطقة، فبيروت ليست مجاورة لطهران، لكن ذلك لا يعني ان ليس في وسع العاصمتين التعاون والتنسيق لكشف مرتكب جريمة الجناح التي استنكرتها الدول الكبرى وبعض الدول الصغرى ، المؤيدة للنظام وتلك التي تعاديه.
ويأخذ الخبراء في الاجهزة الامنية في الاعتبار ان ايران دولة قادرة على ان ترد، نظرا الى الامكانيات العسكرية التي تمتلكها ومهارة رجال امنها وتفوق استخباراتها، وللمرة الأولى يستهدف المفجرون هدفا ايرانيا هو مقر السفارة التي تعتبر محصنة امنيا ولا احد يمكن ان يستهدفها غير ان كتائب عز الدين عزام ضربت امن السفارة وأسقطت الملحق الثقافي وامرأة ايرانية ورئيس الحرس وآخرين من الذين صدوا بدمائهم منع اقتحام السفارة بسيارة مفخخة بـ 60 كيلوغراما. الا ان اللهيان اكد امام اكثر من مسؤول ان بلاده لن تغير سياستها من جراء استهداف مقر السفارة، وان الامن كل لا يتجزأ وصونه مسؤولية جميع دول المنطقة باستثناء اسرائيل.
واشار الى ان الصعوبة تكمن في ان الانتحاريين قرّرا بيروت للرد على “حزب الله” لانه يقاتل الفصيل الذي ينتميان اليه، ولا سيما بعد استرجاع بلدة قارة التي لها موقعها المسهّل على الحدود اللبنانية – السورية. كما ان لايران اهدافاً اخرى في مناطق اخرى، ويأمل المسؤولون عدم فتح الباب امام هذه المواجهة التي لا احد يمكن ان يتكهن بما ستسفر عنه في حال استمرارها.
النهار
تفجير السفارة الأميركية كان نقطة تحوّل فأي تغيير مع استهداف السفارة الإيرانية؟/ اميل خوري
محاولة تفجير السفارة الايرانية في بيروت تذكّر بعملية تفجير السفارة الاميركية في بيروت ومقري مشاة البحرية الاميركية والجنود الفرنسيين الذين كانوا في عداد القوة المتعددة الجنسية التي تقرر ارسالها الى لبنان لوقف الاقتتال فيه وتوصلاً الى حلّ الأزمة اللبنانية. وقد اضطرت القوة بعد تلك التفجيرات الى مغادرة لبنان قبل أن تتوصل الى انجاز مهمتها.
وكان سفير الاتحاد السوفياتي آنذاك زار مسؤولاً لبنانياً وأبلغه بوضوح وصراحة أن بلاده لن تسمح للولايات المتحدة الأميركية بان تتولى حلّ أزمة الشرق الأوسط بمعزل عنه، وعندما قال له المسؤول إن الحل يقتصر على الأزمة اللبنانية ولا علاقة له بحلّ أزمة الشرق الأوسط، أجاب السفير السوفياتي أن المعلومات تخالف ذلك فحلّ الأزمة اللبنانية فقط، لا يحتاج الى وجود قوة متعددة الجنسية تساندها المدمّرة “نيوجرسي” المشهورة بمدفعها العملاق، إنّما لحل أزمة الشرق الأوسط انطلاقاً من حلّ الأزمة اللبنانية. لذلك فان الاتحاد السوفياتي سوف يلجأ الى كل الوسائل المتاحة لمنع الولايات المتحدة الأميركية من تحقيق أهدافها في المنطقة من دون مشاركة بلاده…
وشاع يومئذ أن الاتحاد السوفياتي وحلفاؤه في المنطقة لم يكونوا بعيدين عن عمليات التفجير، وقد استعان بعناصر ارهابية لتنفيذها، وكانت الحرب الباردة بين الدولتين العظميين على أشدها.
وانسحاب القوة المتعدّدة الجنسية من لبنان تحت ضغط التفجيرات كانت نقطة تحوّل في السياسة الاميركية في المنطقة، إذ انها كانت بداية عقد صفقة مع الرئيس حافظ الاسد لحلّ الأزمة اللبنانية وجعل هذه الصفقة تحظى بموافقة عربية وعدم ممانعة اسرائيلية. وقد أدت تلك الصفقة الى عقد مؤتمر الطائف.
وعندما أعلن زعماء مسيحيون معارضتهم للاتفاق وامتناعهم عن حضور لقاءات الطائف ما لم يتم ادخال تعديلات على بعض نصوصه، بعدما تبين لهم ان في الاتفاق نصوصاً لا تمس وقد كتبها الرئيس حافظ الاسد بخط يده وتتعلق بمهمة القوات السورية في لبنان ومدة بقائها، عندها تغاضت الولايات المتحدة عن قيام سوريا بضغط عسكري مباشر على الجبهات التي تتقاتل فيها الميليشيات المسيحية ضد الفصائل الفلسطينية وحلفائها اللبنانيين وتولى مسؤولون في السفارة الاميركية في بيروت اقناع عدد من النواب المسيحيين بضرورة حضور لقاءات الطائف اذا كانوا يريدون حلاً للأزمة اللبنانية.
ولم تنفع محاولات مسؤولين سوفيات لثني الرئيس حافظ الأسد عن إرسال جيشه الى لبنان لأنها ستصطدم بحلفائهم فيه مذكرين إياه بالمعاهدة السوفياتية المعقودة معه، لكن الصفقة الاميركية المغرية جعلت الرئيس الاسد يتجاهل تلك المعاهدة ويتولى مهمة اخراج المسلحين الفلسطينيين من لبنان الى تونس وهو ما اشترطته اسرائيل للموافقة على دخول قوات سورية الى لبنان.
والسؤال المطروح هو: هل تكون محاولة تفجير السفارة الايرانية في بيروت نقطة تحوّل في السياسة الاميركية في مواجهة الأزمة السورية وأزمات في دول عربية بعدما التقت مع روسيا على اهداف مشتركة تصون مصالحهما الحيوية في المنطقة وتحميها من الارهاب خصوصاً انه لم يعد بينهما حرب باردة كما في الماضي.
وبالاتفاق الاميركي – السوري على التفاصيل يمكن التوصل الى حل مشكلات المنطقة وتقاسم النفوذ، ومع استمرار هذا الاتفاق لن تكون حروب كبرى بعد اليوم لأنها أصبحت حروب دمار شامل تستخدم فيها الاسلحة المتطورة بحيث لا يخرج منها غالب ومغلوب كما في الماضي، بل قد تقع حروب صغيرة تبقى تحت سيطرة الدول الكبرى.
واذا كانت الولايات المتحدة الاميركية عقدت في الماضي صفقة مع سوريا حافظ الاسد ومن وراء ظهر الاتحاد السوفياتي، فمع من ستعقد صفقة جديدة لحل الأزمة السورية والأزمات في المنطقة بالاتفاق مع روسيا وبالتنسيق مع حلفاء كل من الدولتين؟
ثمة من يقول إن الضغط العسكري للجيش النظامي السوري على مسلحي المعارضة في سوريا وتحقيق تقدم على الأرض قد يكون شبيهاً بالضغط العسكري الذي تعرضت له الميليشيات المسيحية في حرب لبنان لتلبية الدعوة الى مؤتمر الطائف، وهو ما يحصل اليوم على المعارضة السورية كي تلبي الدعوة الى مؤتمر جنيف 2 بدون شروط تعجيزية مسبقة مثل رفض حضور هذا المؤتمر اذا كان للرئيس بشار الاسد دور فيه خصوصاً بعدما اصحبت وجهات النظر بين الولايات المتحدة الاميركية وروسيا متقاربة حول مصير الأسد.
وفي المعلومات ان التقدم في المفاوضات حول الملف النووي الايراني قد يكون ثمنه صفقة تعقد مع ايران فتضع سوريا تحت وصاية ايرانية غير مباشرة تدعم الحكم في مكافحة الارهابيين والاصوليين بعدما اصبحوا العدو المشترك يسمى بالتكفيريين ليس للدولتين العظميين فحسب بل لكل دول الاعتدال.
النهار
الأسد وحزب الله في مفاوضات النووي/ عبد الرحمن الراشد
تساءل أحدهم: لماذا دول الخليج هي القلقة من احتمالات عقد صفقة صلح أميركية إيرانية؟ قلت له إن القلق عام وليس خاصا بدول الخليج، وإن الغموض سبب التوجس. وهذا شعور شائع، فإسرائيل رغم نفوذها داخل الولايات المتحدة قلقة كذلك، وتعبر عن مخاوفها صراحة. وبيننا من لا يتحدث عن شعوره لكنه يتصبب عرقا، مثل النظام السوري وحزب الله.
لا بد أنهما يتساءلان: ما الذي يمكن أن تبيعه إيران حتى تقنع الأميركيين برفع الحظر؟
عن قلق دول الخليج سبق أن كتبت بتفصيل كاف. فالخوف أن تستعجل إدارة الرئيس باراك أوباما الوصول إلى حل يجعل إيران طليقة اليد مقابل تراجعها عن مشروعها النووي العسكري، أو تسمح لإيران بأن تكون نووية بضوابط قليلة تضر بالدول العربية على الضفة الأخرى من مياه الخليج. هذه مخاوفها.
لكن لأسباب مختلفة يقلق النظام السوري وحزب الله بشأن محادثات جنيف، بين القوى الست وإيران. يخشيان أن تبيعهما إيران على طاولة التفاوض الخضراء لقاء الاحتفاظ بمشروعها النووي العسكري. ولأن الحكومة الإيرانية ستحتاج إلى إثبات أنها جادة في التحول وأنها ستكون دولة مسؤولة، فإنه لا يوجد برهان إلا أن تتخلى عن نظام بشار الأسد بما ينهي المأساة هناك. أيضا، لن يستطيع أوباما أن يقنع الكونغرس غدا بأي صفقة مصالحة مع إيران إلا إذا كانت فيها مصلحة لإسرائيل، لهذا سيحتاج من نظام طهران أن يتعهد بنزع سلاح حزب الله أيضا. من دون مثل هذا التنازل شبه مستحيل أن يصادق الكونغرس على مصالحة سياسية مع إيران.
بالنسبة للتخلي عن نظام الأسد فالأرجح أن الإيرانيين هم من سيتبرع بالتخلص منه، لأنهم يعرفون أنه بضاعة منتهية صلاحيتها، حيث يستحيل عليه البقاء، وبالتالي الأفضل أن يساوموا عليه لتحسين شروطهم التفاوضية.
ولا بد أن هذه المخاوف من مفاوضات «5+1» تساور الحليفين لإيران، الأسد وحزب الله، ولا يملكان الكثير لوقفها. وبشكل عام يمكننا أن نفهم حالة الارتباك العامة لأن الوضع القائم في المنطقة (status quo) أصبح عمره ثلاثين عاما، وعليه تأسست أنظمة، وبسقوط الوضع يمكن أن يسقط البناء. فحزب الله، الذي يمثل كيان دولة كاملا في لبنان، مبني على الصراع الإيراني مع إسرائيل، وفي حال انتهاء هذا الصراع فلن تكون هناك حاجة لدولة حزب الله، وسيجرد من سلاحه كشرط أساسي للانتقال إلى الوضع الجديد. أما نظام الأسد فإنه منذ التصاقه بالنظام في طهران، بعد تولي بشار الحكم خلفا لوالده، عام 2000، صار عضويا مرتبطا به، وعندما تورط في اغتيالات القيادات اللبنانية، وتعهد بمهمة ما سمي بالمقاومة العراقية في العقد المنصرم، سالت على يديه دماء كثيرة. واليوم هو نظام مجرم في نظر معظم دول العالم، والجميع يريد التخلص منه، بمن فيهم حلفاؤه الروس.
الإيرانيون يعرفون أن الأسد انتهت صلاحيته وصار بضاعة فاسدة، وهو عبء ستكلف المحافظة على حكمه المزيد من القوات، والتي ستستنزف خزينة إيران في مواجهة الإنفاق السعودي الخليجي الهائل لإسقاط الأسد.
طبعا، هذه قراءة للمعقول والمنطقي في التفاوض، لكن لا ندري كيف تفكر إدارة أوباما وكيف تسطر أولوياتها
الشرق الأوسط
التفجير الانتحاري ودروسه/ د. نقولا زيدان
بوسع اللبنانيين جميعاً أن يعتبروا التفجير المزدوج الذي ضرب صباح الثلاثاء في 19 تشرين الثاني الجاري واحداً من التفجيرات التي اعتادوا عليها منذ خروج القوات السورية في نيسان عام 2005 بفعل انتفاضة الأرز التي سجلت أكبر حشد جماهيري في تاريخ لبنان (14 آذار) والتي هدأت طيلة سنوات، لتعاود سيرتها السابقة المشؤومة مع الأزمة السياسية الخانقة في ظل سيطرة حزب الله على المفاصل الرئيسية للبلاد بدعم مباشر من النظام الأسدي السوري ومن ورائه النظام الإيراني. وبصرف النظر عن عدد الضحايا الأبرياء (23 عدد القتلى) وعشرات الجرحى فإن الاعتداء الذي وقع يجدر باللبنانيين التوقف عنده بكثير من الاهتمام والتركيز العميق على ملابساته والخلوص الى استنتاجات.
من الخطأ بمكان النظر الى هذا الحادث بمعزل عن القتال الدموي الدائر في سوريا بين النظام الأسدي والمعارضة منذ ثلاث سنوات، هذا القتال الذي راح تدريجاً يتحول ليس الى حرب أهلية فحسب بل الى صراع مذهبي هو في الواقع الملموس كبقعة الزيت تتفشى في جميع الاتجاهات داخل دول المنطقة ويثير ثارات وأحقاداً مضت تعود الى مئات السنين الخالية. فالدور الخطير الذي اندفع فيه النظام الإيراني في مساندة النظام الأسدي عبر الدعم السياسي والعسكري واللوجستي والمالي بل بإرسال قوات إيرانية بالبزات العسكرية الرسمية الى سوريا، بالتنسيق الكامل والمباشر مع ميليشيات حزب الله اللبناني ولواء أبو الفضل العباس وصولاً الى مقاتلين قادمين من آسيا الوسطى واليمن، أسبغ على هذه الحرب طابعاً مذهبياً كريهاً وعمق الخلافات بين أبناء الشعب السوري الواحد.
وتشير المعلومات والأرقام الى أن طهران قد أنفقت خلال سنوات الحرب السورية عشرات المليارات من الدولارات سواء بدعم احتياطي الخزينة السورية من القطع النادر الذي أوشك على النفاد أو بدفع أثمان الأسلحة والمعدات الروسية التي لم تتوقف عن التدفق على نظام الأسد. والحق أنه لم ينج بلد عربي في الشرق الأوسط من تورط النظام الإيراني في شؤونه الداخلية، عن طريق التعبئة والتحريض والتمويل ابتداء بلبنان ومروراً بسوريا والعراق وفلسطين واليمن وانتهاء بالكويت والبحرين. لقد كان مثيراً للدهشة والخوف أن تتناقل الأنباء أن حزب الله عَمَد عن طريق دفع الأموال الطائلة لشراء رئيس وقيادات بارزة في سورينام (غويانا سابقاً) في أميركا اللاتينية مقابل إنشاء قاعدة عسكرية لحزب الله في ذلك البلد المصنف عالمياً بين أكثر بلدان العالم فقراً.
ليس هذا فحسب، بل انقلبت الأداة الدموية الجهنمية على محرّكيها إذ راحت عناصر “القاعدة” وقد وجدت في الحرب الأهلية الدائرة في سوريا فرصة سانحة، تتسرب الى العمق السوري عبر الحدود العراقية السورية لتشارك في القتال خدمة لأجندات خاصة بها وتحت أسماء متعددة، وذلك يؤدي عملياً الى إضعاف المعارضة الثورية السورية وطعنها في ظهرها لمصلحة نظام الأسد. ألم نشهد معارك طاحنة بين الجيش السوري الحر من جهة وهذه الفصائل المشبوهة الدموية من جهة أخرى، خصوصاً في المناطق الشمالية والشرقية من سوريا؟
إن النظام الأسدي يتّقن تماماً التلاعب بالصراع المذهبي وتعميقه فهو في آن معاً يستدعي حزب الله والميليشيات المذهبية المماثلة له القادمة من العراق وإيران، وفي آن معاً، وبالتنسيق الكامل مع حكومة المالكي يطلع على الثورة السورية بمنتج جديد هو “داعش” المفبرك كلياً في أروقة المخابرات السورية.
إن ما هو مثير للرهبة والخوف عند اللبنانيين ليس تورط حزب الله بالدفاع عن النظام الأسدي مما لا ينعكس كراهية وأحقاداً في سوريا ولبنان فحسب بل أن ينبري تنظيم القاعدة (مجموعة عبدالله عزام) لتبني الاعتداء على السفارة الإيرانية أيضاً. بل أسوأ من ذلك بكثير إذ دشّن هذا الاعتداء عصراً جديداً في مجال التفجير والاغتيالات إذ تشير المعلومات وتقطع أن هذا العمل كان “انتحارياً” وذلك للمرة الأولى بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000. إن الذاكرة لم تخنا بعد، فقد كانت هناك عمليات استشهادية عدة ضد الاحتلال آنذاك، أما الآن فإن عمليات كهذه تستهدف لبنانيين مثلنا. فإلى أين ترانا ذاهبون؟
أو تعتقد “القاعدة” التي تبنّت العملية الانتحارية الدموية، أنه بأسلوب كهذا بالإمكان “إقناع” حزب الله بسحب مقاتليه من سوريا؟ وهل هذا الموضوع يهمّها أصلاً؟!
إن السبيل الوحيد لإقناع حزب الله بالتوقف عن التورط في الحرب الدائرة في سوريا هو عندما تدرك قيادة الحزب، بعد وصول جنيف2 الى خواتيمه المرتقبة والتي ستمر حتماً عبر بوابة تنحي الأسد وطاقمه وإنشاء حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة، وفي آن معاً بعد التوصل الى تسوية دولية لمشكلة الملف النووي الإيراني، أنه قد آن الأوان ليتحول الى حزب سياسي بعيداً عن منطق الابتزاز والتهديد والوعيد بواسطة السلاح.
إن لبنان ليس بحاجة قط لمشكلة جديدة تضاف على متاعبه ومصاعبه المزمنة، اسمها القاعدة.
المستقبل
“حزب الله”… بعد مرحلة إيران “المشاغبة” وسورية “الممانعة”!/ محمد مشموشي
لا يفعل «حزب الله» في هذه الفترة، بالتهديد بـ «قطع الأيدي والأعناق» والتلويح بـ «الانتقال إلى الهجوم»، إلا محاولة ترجمة ما وصفه أمينه العام السيد حسن نصرالله في آخر خطابين له بـ «الأمر الواقع» في لبنان إلى واقع قائم بالفعل ومسلّم بل ومعترف به من الآخرين، وليس مجرد «أمر واقع» بالقوة يدور جدال حوله كما كان حتى الآن.
أما دوافعه إلى هذا العمل، فتبدأ من إيران طبعاً ورغبتها المستجدة لدخول حظيرة الأسرة الدولية، من دون تجاهل سورية حتماً وما سيكون عليه نظامها مستقبلاً، ولا الانتهاء في لبنان. ولا حاجة للقول إن من شأن ذلك أن يفرض على الحزب واقعاً جذرياً مختلفاً، ليس فقط في المنطقة وما كان يقال عن «جبهة المقاومة والممانعة» فيها، بل أيضاً وخصوصاً في لبنان ومصير الحزب فيه. لهذا، لم يعد مقبولاً منه ولا كافياً لديه بالطبع أن يستمر في سياسة حكم البلد من الخلف (نظرية «الأمرالواقع») كما كانت حاله خلال السنوات الماضية، بل بات بصدد تحويل النظرية إلى حقيقة على الأرض… مسلم بها أولاً، ثم معترف بها بقوة الزمن، وربما شرعية ودستورية لاحقاً، تحت عنوان «المؤتمر التأسيسي» الذي طالما دعا إليه وطالب به سابقاً.
ذلك أن قيادة «حزب الله» تعرف جيداً، وربما أكثر من غيرها، أن إيران ضمن الأسرة الدولية لن تكون تلك الدولة المشاغبة والمشاكسة التي كانتها طيلة الأعوام الـ34 على مساحة المنطقة وحتى العالم، بالتالي فمهمة الحزب نفسه ستتغير من دون شك، إن لم يكن في الأمد القريب ففي زمن لن يطول، وإن لم يكن في المنطقة ودول الجوار (سورية وفلسطين تحديداً) فأقلّه في لبنان.
كذلك، باتت هذه القيادة تدرك أن النظام السوري لن يبقى كما كان، لا في سياساته الداخلية حتماً ولا كذلك في علاقاته مع العالم العربي وخضوعه الكامل لقرار إيران الخارجي، حتى لو لم ينجح مثلاً مؤتمر «جنيف – 2» أو «جنيف – 3» في تغيير بنيته جذرياً، أو حتى لو أن النظام نفسه نجح في توجيه ضربة قاصمة للثورة المسلحة ضده في يوم من الأيام.
كيف تكون حال الحزب بعد ذلك في لبنان؟ وأي دور يمكنه أن يلعبه فيه حتى لا نتحدث عن المنطقة كما كان سابقاً؟ وبعد ذلك، ما هو حال الطائفة الشيعية التي صادرها لسنوات وأخذها إلى سلسلة حروب مع اللبنانيين، فضلاً عن السوريين والفلسطينيين والمصريين والخليجيين، وصولاً إلى الكثير من دول العالم وشعوبها؟
هذه هي الأسئلة الكبيرة والمصيرية عملياً التي تنتصب في وجه «حزب الله» الآن، ويحاول أن يجيب عنها بطريقته المعتادة: تحويل ما يسميه «الأمر الواقع» المفروض بالقوة (المسلحة أساساً وغير المسلحة، والمذهبية أولاً ثم الطائفية عموماً، والداخلية والخارجية أيضاً) إلى أمر واقع بالفعل… وكخطوة على طريق قد لا ينتهي إلا بجعله مادة في دستور ما تحدث عنه علناً رئيس كتلته النيابية محمد رعد باسم «لبنان الجديد».
تأتي في المقدمة هنا مقولتا الحزب، ومعه حلفاؤه من المسيحيين لأسباب خاصة بهم، عن «الجيش والشعب والمقاومة» و «الثلث المعطل» في أية حكومة لبنانية يجرى تشكيلها الآن أو مستقبلاً. يريد الحزب، كما يردد قادته وإعلامه منذ غزوة بيروت في 7 أيار (مايو) 2008، أن يجعل المقولتين عرفاً أشبه بالقاعدة التي لا يجوز تجاهلها أو الخروج عليها. وفي هاتين المقولتين، عملياً، ما يصح وصفه بأنه تشريع لدور الحزب في الحياة السياسية اللبنانية باسم «المقاومة» من جهة أولى، و «فيتو» للمذهب الشيعي (عملياً للحزب أولاً وقبل كل شيء) في وجه الطوائف والمذاهب (حتى لا نقول الأحزاب) الأخرى… ما لا ذكر أو حتى تلميح له في الدستور ولا في «اتفاق الطائف» ولا كذلك في «الميثاق الوطني» الذي كان أساس قيام دولة لبنان في 1943.
وهذا تحديداً ما يعنيه قادته عندما يتحدثون عن «الأمر الواقع» وضرورة التسليم به، إشارة منهم إلى ما أمكن تحقيقه في الدوحة، وبالقوة المسلحة العارية نتيجة اجتياح بيروت وبعض الجبل. بل أكثر، فإنهم تعمدوا أن يقفزوا بعد هذا «الإنجاز» فوق ما ورد في اتفاق الدوحة لجهة التعهد بعدم الاستقالة من الحكومة… فأخذوا عملياً ما يريدون، ثم أخلّوا بما التزموا به. وهم يعتبرون الآن ما أخذوه مشروطاً وتمريراً لمأزق كان يعيشه اللبنانيون يومها (احتلال قلب العاصمة، ولا رئيس جمهورية، ومجلس نواب مقفل بقرار متعمد من الحزب وحليفه حركة «أمل» ورئيسها نبيه بري) وكأنه «حق» لا يجوز لأحد الجدال فيه.
أما عن «لبنان الجديد» هذا، فيقول قادة الحزب والناطقون باسمه إنه «لبنان المقاومة» فقط لا غير، أي لبنان «حزب الله» كما هي حاله في هذه المرحلة من تاريخه، وأنه لا لبنان بعد الآن من دون هذه المقاومة أو هذا الحزب.
لكن أية «مقاومة» بعد قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1701 للجنوب اللبناني، وتحول الحزب إلى ميليشيا تقاتل دفاعاً عن نظام الاستبداد والإبادة الجماعية في سورية وضد شعبها، ولاحقاً تفكك وانتهاء ما يسمى «جبهة المقاومة والممانعة»؟
الواقع أن ما يسعى إليه «حزب الله»، وقد لا يرعوي عن استخدام السلاح مجدداً من أجله، هو حفظ وجوده ودوره في الحياة السيـاسية الـلبنـانية، ولكن أساسـاً وقبل ذلك وبعده انتزاع ما يمكنه من امتيازات سياسية لما يطلق عليه تارة اسـم «أشــرف الناس»، وأخرى «بيئة المقاومة»، وثالثة «شيعة الإمام علي».
وفي المرحلة التي يرى فيها الحزب أن زمناً ولى وآخر قيد التشكل الآن، سواء في إيران أو في سورية أو لجهة العلاقة بين النظامين فيهما والمجتمع الدولي من ناحية والمنطقة من ناحية أخرى، فإنه يحاول إعادة تشكيل لبنان بما يتلاءم مع ضرورات بقائه… أولاً ممثلاً للطائفة الشيعية، وثانياً حامل لواء إنجاز ما يعتبره «حقوقاً» لها فيه.
ولم يكن ما فعله أمينه العام السيد حسن نصرالله ورئيس كتلته النيابية في الأيام الأخيرة، بالتهديد والصراخ بصوت عال وتوزيع الاتهامات، إلا مجرد إشارات دالة على ذلك.
الحياة
طهران: هل «النووي» هو حقاً المشكلة و… «الحل»؟/ نهلة الشهال
هناك «قطيعية» لدى قادة هذا العالم – على فرض أنهم قادته حقاً، وليسوا مجرد مدراء لمعطياته الهوجاء، يتدبرونها وفق الممكن، مع السعي للحفاظ على مصالح بعينها خارج الخطر – لا تقل عن القطيعية لدى عامة الناس. اليوم راح الجميع يكرر أنه «لا اتفاق أفضل من اتفاق سيء»، وهي حرفياً كلمات تفوه بها نتانياهو أثناء الجولة السابقة للمفاوضات حول الملف النووي الإيراني منذ أسبوعين. والغريب في الأمر أن نتانياهو ذاك يعتبر أنه من حقه البديهي أن يتدخل في مسار المفاوضات، بحجة أن إيران تشكل خطراً على إسرائيل، ولكن الأغرب أن العالم كله يوافق على هذا الدور الإسرائيلي ويكرسه ويتصرف، تماماً مثل نتانياهو، على أنه من البديهيات، بينما إسرائيل تخالف القانون الدولي ومقررات الهيئات الدولية بتمادٍ غير مسبوق. الرئيس الفرنسي زار إسرائيل لثلاثة أيام! وبدأ الزيارة بالتعريف عن نفسه: «صديقكم أنا وسأبقى كذلك إلى الأبد» (ها مفهوم «الأبد» يقفز خارج نطاق بشار الأسد وقبله أبيه. ولكنه يبدو شاذاً في فم رئيس بلد الأنوار، والشك والعقلانية الديكارتيين).
وهو بعد إسرائيل سافر إلى إيطاليا بعد مرور سريع في باريس!، ومن هناك نهر خامنئي، وكأنه ولد يؤدَّب، قائلاً له: «على إيران تقديم أجوبة وليس استفزازات». ولكن ماذا لو إيران قررت تقديم استفزازات؟ بتعبير آخر، ماذا لو كان ذلك هو ردها على إفشال الاتفاق المرحلي الذي «كان وشيكاً للغاية» (بحسب ما قال منذ أسبوعين عند انتهاء جولة التفاوض الأولى تلك، وزير الخارجية الأميركي جون كيري). ماذا لو أظهرت أنها غير مستعجلة هي الأخرى لإبرام اتفاق كيفما اتفق. وإنها، كما قال عباس عراقجي رئيس الوفد الإيراني إلى الدورة الحالية من مفاوضات جنيف، ليست أبداً بصدد إيقاف التخصيب، وأن الهوة بين موقفها ومواقف الدول الخمسة +1 ما زالت، أو عادت، كبيرة للغاية؟
ثمة لحظات من الإثارة بل حتى السعادة التي تبدو كثيفة، ولكنها في الواقع عابرة. فرح الديبلوماسيون الفرنسيون كثيراً بأنفسهم منذ أسبوعين حين بدوا أبطال شيء ما. وفرحوا أكثر حين تتالت تصريحات الصقور من الجمهوريين الأميركان بل ومن عتاة المحافظين الجدد، سياسيين وكتّاب معاً، بأن «عاشت فرنسا» (جون ماكين). وعلى غراره غرَّد سواه بأنهم يأكلون اليوم «فرنش فرايز» (استعادة لمفردات ذلك الخلاف أيام قررت واشنطن جورج بوش ضرب العراق عسكرياً وناهضتها باريس، فتداعى القوم لمقاطعة الفرنش فرايزـ البطاطا المقلية ـ وجبنة «كاممْبير» ودلقوا النبيذ الفرنسي في المجارير في حفلات علنية مسعورة). أشخاص معلومون من عيار روبرت ساتلوف وجيفري غولدبرغ والسيناتور ليندسي غراهام (الذي ابتهل إلى الله ليبارك فرنسا)، حتى ليكاد المرء يتذكر تلك الحكمة الشهيرة، والمبتذلة من فرط استخدامها والتنويعات التي تدرجت فيها: «قل لي من هم أصدقاؤك فأقول لك من أنت».
لا بأس. ماذا بعد ذلك؟ يصاب هؤلاء وسواهم بالدهشة حين تعاند إيران. ذلك أنهم بنوا فرضيات ثم صدقوها: يفترضون أنها بحاجة ماسة لرفع العقوبات عنها لأن اقتصادها أنهك ولأنها يمكن أن تستعيد مبالغ مجمدة، بلايين عدة، الخ… متناسين دروس التاريخ، مع أنه قريب للغاية. ذلك أن أنظمة مؤدلجة ولا تميز بين السلطة والدولة، ولا يجري تداول السلطة فيها بطرق ديموقراطية شفافة (حتى لو كانت إيران تلجأ إلى التصويت العام، ولكنه كما هو معروف طابق من بين عدة طوابق للحكم، وهو ممسوك بإجراءات مسبقة متعددة)… أنظمة كهذه لا تقيس سياساتها على ضوء عذابات الناس ولا تخشى تململهم. انظر إلى العراق، حين راح صدام حسين يتحدى الحصار المفروض عليه ببناء أكبر جامع في العالم وأجمل قصر في العالم، وبإنكار ما لا يريد رؤيته. ثم إيران تتدبر أمرها بشكل أقل مأسوية ومشقة بكثير من العراق: أولاً لأن اللحظة تغيرت ولم نعد غداة انهيار الاتحاد السوفياتي و «نهاية التاريخ» (لمصلحة أميركا، على ما زُعِم)، بل هناك قطبية متعددة تعود للبروز وفيها تعاضدات، وإن كانت مصلحية إلا أنها إستراتيجية، وثانياً لأن إيران ليست تلملم جراح حرب عالمية شُنت عليها، كما كان حال العراق عام 1991 وحتى نهاية حكم صدام حسين، الذي لم ينته بالمناسبة إلا بحرب عالمية ثانية شنت عليه، وهي النقطة الثالثة الكبرى في الفوارق، حيث اليوم لا حرب يمكن أن تُشن على إيران ولا من يحزنون، لألف سبب وسبب تتعلق بحالة العالم، وباستغناء الولايات المتحدة بشكل عميق عن هذا الخيار، على رغم التصريحات الخرقاء لسفيرها في تل أبيب الذي راح منذ يومين، وفيما مفاوضات جنيف دائرة، «يطمئن» (هكذا حرفياً والله) إسرائيل بان الخيار العسكري لم يزل على الطاولة. هل ثمة حاجة لنقاش خطل هذه الفرضية؟ أي البرهان على أنه لا حرب على إيران، بدءاً من غياب من يمكنه أن يشنها (وقد تتورط إسرائيل وتورط العالم بغارات على المفاعلات النووية، ولكن حتى ذلك مستبعد على رغم تشنج نتانياهو وصحبه)، وصولاً إلى عدم جدواها، بعد المرور في النتائج المترتبة على انفتاح أفق الفوضى غير البناءة تلك على مصراعيه، حيث سيختلط الحابل بالنابل حرفياً وليس مجازياً، وتدفع إسرائيل الثمن أول من يدفع، ولكن غيرها كذلك، ولا يوجد بالتأكيد من بعد ذلك من يمكنه لمّ الوقف، وبالتأكيد ليست فرنسا من يمكنه ذلك.
الاستعصاء يقع هنا. ويعني ذلك في ما يعنيه أنه لا يفترض على من يبغض إيران ويتمنى تلاشيها أن يأمل بتحقيق أمنياته عبر مصير الملف النووي، راجياً الله بأن يتعقد لعل وعسى. فهذا رهان خاسر. بل لعل واحداً من المخارج لتحجيم إيران (لمن يرغب) يكمن في فك الثنائية القائمة في حالة الاستقطاب الاستراتيجي /المذهبي السائد، بدلاً من تعزيزها كما هو جارٍ: أن يتم الفصل بين الاستراتيجيا بوصفها صراع الدول على النفوذ (وسائر المفردات الكلاسيكية في هذا المجال)، وحرب داحس والغبراء السنية ـ الشيعية. أي أن يخاض الصراع ذاك بذاته، لأن الرداء المذهبي الذي يرتديه يلائم إيران تماماً. ولكن هل من يَعْقَل؟
الحياة
بين تفجيري بيروت والمفاوضات حول النووي الإيراني/ حسن شامي
قد تكون المصادفة، لا الربط السببي، ما أتاح التزامن بين حصول التفجيرين الانتحاريين اللذين استهدفا السفارة الإيرانية في بيروت وانطلاق الجولة الثانية لمفاوضات جنيف حول البرنامج النووي الإيراني. يمكننا أن ننسب إلى المصادفة أيضاً تزامن التفجير مع اندلاع معركة القلمون بين قوات النظام والمعارضة في المنطقة السورية المتاخمة للحدود مع لبنان وتسببها بتدفق أعداد أخرى من النازحين السوريين إلى لبنان. فالربط الميكانيكي بين التفجير وبين مناسبات التفاوض أو التباحث لهو أمر لا يفسر الكثير وإن كان يريح المقاربة الكسولة والمتثائبة حتى وإن كانت محمومة وخطابية. فالمنطقة تعج يومياً بوقائع تتدرج من النزاعات الداخلية الكبيرة والصغيرة وترتقي إلى معالم حراك إقليمي غير معهود ومتقلب ونشاط دولي حثيث على كل الصعد ولا يخلو بدوره من التقلبات ولعبة عض الأصابع.
يمكننا أن نستبعد كذلك أي ارتباط بين استهداف السفارة الإيرانية ومحيطها الحاضن في بيروت وبين زيارة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند إلى إسرائيل ثم رام الله، حيث التقى هولاند بالرئيس محمود عباس وبدّل بعض الشيء لهجته العابقة ببلاغة عاطفية عن الصداقة الثابتة مع الدولة العبرية. والمقصود أن العلاقة بين فرنسا وإسرائيل تستند إلى تحديدات عاطفية وأخلاقية تفوق بكثير ديبلوماسية المصالح واعتبارات السياسة. والحق أن الزيارة هذه لم تكن متوازنة على الإطلاق على رغم كلام هولاند عن ضرورة تجميد الاستيطان ووقفه كلياً لأنه يعيق المفاوضات. فهو امتنع عن وصف هذا الاستيطان باللا شرعي فيما لم يتردد الحليف الاستراتيجي الأكبر، أي الأميركي جون كيري، في نعت الاستيطان وارتفاع بورصته مؤخراً بأنه غير شرعي. لا مبالغة في القول إن هدف الزيارة يتلخص في الإفصاح عن تطابق في وجهات النظر بين الرئيس الفرنسي الاشتراكي وبين القيادة الإسرائيلية اليمينية في ما يخص التشدد حيال الملف النووي الإيراني وما يعنيه في مجال السيادة والاستقلال بالطاقة النووية. وفي هذا المعنى سيكون من الصعب عدم الالتفات إلى وجوه الشبه بين التشدد الفرنسي شبه الحربي حيال النووي الإيراني وبين العدوان الثلاثي على مصر الناصرية والذي قاده أسلاف هولاند بسبب تأميم قناة السويس من دون أن نقلل من موقع المسألة الجزائرية في النزاع الدائر آنذاك. لا مبالغة إذن في القول إن الزيارة تستأنف نهجاً شهد بعض التقطع في عهد الاشتراكي فرنسوا ميتران ويصح وصفه باليسارية الكولونيالية. ومعلوم أيضاً أن الرئيس اليميني السابق نيكولا ساركوزي كان قد قوّض الكثير من الإرث الديغولي الذي حافظ عليه جزئياً جاك شيراك. ثمة بالطبع، في فرنسا، «خبراء» في العلاقات الدولية وهم من النوع الذي تقوده «الخبرة» وحدها إلى التعاطف مع سياسات الدولة العبرية، يجدون أنه من الطبيعي أن تسعى فرنسا إلى ملء الفراغ الذي تتركه السياسة الأميركية الموصوفة بالتبدل والتردد في ما يخص التفاوض مع إيران والمسألة السورية في آن واحد.
لا حاجة للعثور على روابط سببية بين تفجيري بيروت الأخيرين وبين مسارات تفاوضية معقدة على الصعيدين السوري والنووي الإيراني. فالاصطفافات الداخلية والإقليمية بلغت في حالات معينة حدة غير مسبوقة مما يولد مناخات مؤاتية لنشاط الجماعات الجهادية التي تعمل وفق أجندات شمشونية لا مجال للتفاوض فيها، بل حتى لا مجال للسياسة بوصفها فن الممكن وفن إدارة الانقسام والاختلاف. ومن المعلوم جداً أن إيران تدعم النظام السوري، وأن حزب الله يشارك في المعارك في سورية إلى جانب قوات النظام وإن كانت التقديرات حول حجم هذه المشاركة وطبيعتها متفاوتة جداً. ومن المعلوم أيضاً أن التوصل إلى تسوية مقبولة حول الملف النووي الإيراني، وهو أمر تزايدت حظوظه في الأسابيع الأخيرة، لا يثير غضب القيادة الإسرائيلية وحدها وإصرارها على تفكيك البرنامج النووي الإيراني برمته، بل لا يرضي أيضاً أطرافاً أخرى، عربية وغير عربية. فقد سبق أن نجح الفرنسيون في إفشال صيغة مقبولة كانت على وشك تتويج الجولة الأولى من المفاوضات قبل أسبوعين.
وتأتي الشروط التي وضعها الرئيس الفرنسي، وهي لا تخلو من الطابع التعجيزي، لتهدد الجولة الثانية إلا إذا حصل تفاهم قوي بين الروس والأميركيين ومعهما قوى أخرى في الوفد السداسي المفاوض مع إيران، مما ينذر بتعريض الموقف الفرنسي إلى التراجع نحو مرتبة ثانوية في حل النزاعات الكبيرة ذات البعد الدولي. وللتذكير حصل شيء من هذا القبيل في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وإن كانت السياقات والظروف مختلفة جداً وتحولت هزيمة عبد الناصر العسكرية إلى نصر سياسي.
يبقى أن الربط السببي بين تفجيري بيروت، الانتحاريين على ما يبدو، وبين تورط إيران وحزب الله في النزاع السوري، لا يفيد هو الآخر في تفسير تعاظم الحالة الجهادية والسلفية القتالية والتكفيرية وتمددها إلى لبنان. مثل هذا التفسير يصلح كقيمة مضافة لخطاب سجالي لا يعرف له طرف ولا زوايا. فكيف نفسر انتشار الظاهرة الجهادية التكفيرية وتمددها عملياً إلى كل البلدان العربية والإسلامية وإن كانت تعبيراتها العنيفة متفاوتة. وليس مقتل الجنود المصريين العشرة في سيناء قبل بضعة أيام سوى مؤشر إلى ما نقول. يسعنا بالطبع أن نقدم عشرات الشواهد والأمثلة المأخوذة من بلدان مختلفة. قد يكون صحيحاً أن سياسات النخب الحاكمة في غير بلد واعتمادها على المحسوبية والعصبيات الضيقة القرابية والطائفية والفساد قادا إلى تهميش قطاعات واسعة راحت تستنهض في شبكاتها الأهلية ثقافة فتوة موروثة من عوالم الحرفيين والشطار.
وتحتاج هذه الفتوة إلى شرعية تسوغ عنفها الثأري فتتوسل بالصياغات العقائدية المبسطة والتنميط الديني للسلوك تحصيل هذه الشرعية. وكان من الممكن لمثل هذه التعبيرات أن تبقى محدودة الأثر لولا أن شروط توالدها وتعاظمها إلى حد الاستيلاء على مساحات واسعة من الفضاء الأهلي والاجتماعي باتت متوافرة ومرشحة لأن تتغذى من نفسها ومن دورة العنف التي تولدها. في مقدم هذه الشروط تصدع الأبنية الوطنية ومؤس`ساتها وترسخ الشعور بالعجز والمهانة واستسهال التلاعب بالسيادات الوطنية والإذعان اليائس لسياسات دولية تغلّب منطق الغلبة العارية. لذا نرجح أن يكون تفجير بيروت تفجيراً آخر وليس أخيراً.
الحياة
لبنان: تغيير الوطن/ عبدالله إسكندر
لم يعد مقنعاً التباكي على التدهور الامني في لبنان والتنديد بالمؤامرة والتفجيرات. اذ في مقدار ما تعلو الاصوات بادعاء الحرص على الهدوء والاستقرار تزداد كمية المتفجرات المكتشفة الموجهة الى اهداف في لبنان. وقد تمضي سنوات في الجدل في شأن المصدر والمستفيد، بعد عقود من الجدل في المسألة نفسها. وفي الغضون تتقطع الاعصاب المتبقية في لحمة هشة لوطن يرى الجميع انه لم يعد سوى اداة في التغيرات الكبرى في المنطقة.
الازمة في لبنان لم تعد تتعلق بعناد سياسي يقضي على فرص تشكيل حكومة، او بمشكلة فراغ سياسي بعد التجديد للمجلس النيابي او باحتمال الوصول الى نهاية العهد من دون القدرة على انتخاب رئيس جديد.
الأزمة باتت تتعلق بقناعة لدى قسم من اللبنانيين تتزايد مؤشراتها الى ان التوافق مع القسم الآخر لم يعد ضرورياً للتعايش. والأخطر في هذه القناعة انها تصدر عن القسم الأكثر تسليحاً واستعداداً للقتال في الداخل، بعدما قاتل في سورية حيث الصراع بات صراعاً مذهبياً صريحاً وتتقاتل فيه الاطراف بصفته تلك. كما حرص على اعلان هذا التقدم من اجل تأكيد ان امساكه، حتى الآن، عن استخدام القوة في الداخل اللبناني ضد جماعة المذهب الآخر الذي يقاتل بعضه في سورية، هو نوع من اعطاء الفرص للآخرين لينضموا اليه طوعاً وينفذوا أغراضه، قبل ان يضطر لاحقاً الى ارغامهم، عنوة، على ذلك.
هذا النهج لا يحركه الخلاف السياسي المحلي، انه يخاصم ما تبقى من الوطن والدولة، بما فيها مؤسساتها الدستورية. فاذا كان ثمة توافق بين هذا الفريق وبين رئاسة البرلمان لأسباب التوافق المذهبي، فإن خصومته لعمل هذه المؤسسة التشريعية اتضح من خلال تعطيلها في السابق وحالياً. اما خصومته للسلطة التنفيذية، خصوصاً رأسها رئيس الجمهورية، فلا تحتاج الى دليل، بعد الحملات والانتقادات الكثيرة لشخص الرئيس. اما الأجهزة الامنية والقضائية فلا تعمل الا بموافقة هذا القسم، نظراً الى التسلل الى داخلها او التأثير غير المباشر.
المشكلة باتت تطاول الكيان والدولة وليس مجرد صيغ التعايش اللبناني. وكل ما يساهم في استمرار ازمة الحكم الحالية يغذي المشكلة الأم. ويسقط كل ادعاء بالحرص على تجاوز هذه الازمة عبر تنازلات وهمية تتناول الحصص.
المسألة باتت تتعلق بالخيار السياسي، ومعه الخيار الوطني. وفي مقدار الالتصاق بالصراع السوري والمشاركة فيه، في مقدار ما يتعمق الاصطفاف المذهبي وتتلاشى المقومات الدنيا لبقاء الوطن والدولة في لبنان.
لا احد ينفي ان ظاهرة التعصب تخترق المذاهب، ولا احد ينفي ان التشدد المذهبي يدفع في اتجاه تبادل الحقد والانكار وصولاً الى التقاتل. لكن مشروع تغيير وطن يتطلب اقتتالاً يتجاوز بكثير مجرد تبادل مواقف مذهبية متشددة. انه يحتاج الى مجازر تقطع اوصال تعايش تميز به لبنان، نظراً الى التوازن على هذا المستوى، والذي ساد فيه منذ نشأته، وإن كان هذا التوازن يحتاج الى تغير في صيغ استمراريته.
الانخراط في الصراع في سورية واعتباره وجودياً، لم يعد يحتمل وطناً متوازناً في لبنان. لقد بات ملحاً، في اطار ضرورات هذا الصراع، تسريع تنفيذ بنية الوطن والدولة.
وليس افضل من مبرر لتأكيد هذا الالحاح مثل ارهاب «القاعدة»، بوصفه ارهاباً مذهبياً، وضعه النظام السوري منذ بداية الحركة الاحتجاجية السلمية كمبرر للحل الامني المستمر. ارهاب «القاعدة» عابر للحدود ولا يعترف بالاوطان ويعمل على تدمير الدول القائمة، لذلك يضرب عشوائياً في اي موقع تتوافر فيه الظروف، خصوصاً حيث تضعف القدرات وتتزايد مشاعر الاحباط المذهبي. وهذا ما حل بلبنان، على نحو منهجي. لتصبح «القاعدة» في لبنان من ضرورات مشروع تغيير الوطن… وهذا ما حصل ويحصل في العراق وفي سورية.
الحياة
الهجوم الإرهابي على سفارة إيران ببيروت/ وضاح شرارة
الرد الإعلامي ـ “السياسي” وحدّاه الجهنميان
لم تكد المتفجرتان تنفجران، في التاسعة وأربعين دقيقة صباح الثلاثاء في 19 تشرين الثاني، بالرجلين الانتحاريين الهاجمين على سفارة إيران (الجمهورية الاسلامية بإيران)، وتقتلان سبعة قتلى (“شهداء” قيل على تردد، ففيهم ربما الانتحاريان وفيهم مهاجرون من سريلانكا وغيرها ربما ومعظمهم مسيحيون) لم يلبثوا أن بلغوا 11 و14 فـ20 و23 ثم استقروا على 26 ضحية، حتى فتحت أبواب جحيم كلامي لا تقل نيرانه لهباً، وتعمدَ قتل وحرق وأذى من الجحيم الذي لف السفارة العتيدة وجوارها، ودمر وصدع الحجر والمعدن والرؤوس والاجساد. ففي غضون دقائق قليلة ذاع الخبر المقيت والفظيع، وتدافعت محطات التلفزيون الكثيرة، وبجوار مبنى السفارة مقرا تلفزيونين منها (“الميادين” و”العالم”)، وتسابق مراسلوها الى بلوغ ميدان الحادثة وتصويره وهو على حاله الخام الحربية وغير المصنوعة: بؤر نيران مشتعلة وشرهة، وأسلاك واغصان متهدلة ومترهلة، ورماد أسود ومتجهم، وزجاج مفتت ومتناثر، وبشر هامدون ومتفحمون لوناً وسكوناً أخرس، وواجهات أبنية بكماء وفاغرة الافواه والعيون الكثيرة. ويلف هذا، على تفرقه وبعثرته اللذين أنزلهما به العصف المدمر والحارق وصنعه غيابُ البشر وجلاؤهم عنه قسراً وعنوة، خلاء وفراغ موحشان. وتظلل ميدان الحرب، المقفر إلا من آثار الاهواء المحمومة، الصورةُ الطالعة من سراديب “النفس” والارض والمحفوظات العربية: الحي الذي تركه أهله وحضوره ومن سكنوا اليه وحلّوه طللاً متهدماً. فعاثت به الأرياح المتلاطمة، ومحت معالمه وحدوده وساحاته وطرقه وما ينم بمعنى ووجه وقصد، وخلفت الخرابَ العاري وتجريده العمران أو أقل قليله من لائحة قسماته الانسية والمتعارَفة. ويصنع السيمتكس والتي إن تي، وغاز السارين وغاز الخردل (في البشر)، ما يصنعه التسونامي وتداعي اليورانيوم والبلوتونيوم المخصبين و”المحررين” في دوائر الطبيعة المعمورة أو الغمر. ويصنع الاجتماع البربري أو المتبربر، على قول بعض الباحثين في تسلط العسكر المستولي على مجتمعات عزلاء تنهبها الحروب الاهلية، في البشر وحواضرهم المكتظة بالسكن والمصانع ما تصنعه اعاصير الطبيعة والاسلحة الذرية والكيماوية والجرثومية، وترمي بهم في أرض يباب، مقفرة وموحشة شأن تلك التي ضربتها الاعاصير والاسلحة غير التقليدية والحروب الاهلية المتطاولة.
ولم تقتصر آلات التصوير وعدساتها النهمة والفاضحة على المشاهد، وعلى مسحها وذرعها على وجوهها وجهاتها ودقائقها المدماة، فأرفقتها بكلام نفاذ، عليم وخبير ومستكشف وبصير بما وراء حجب الدمار والموت. فاستدعت الشاشات، الى المذيعين والمراسلين والمصورين الميدانيين، فريق الخبراء والمعلقين والمذيلين وأصحاب الحواشي، والمفسرين والشارحين والمؤولين والعرافين. وفي غضون دقائق قليلة، وقبل ان يحصى الضحايا ويعرّفوا وتوصف الجريمة وكيفية إجرائها (وانتحارييها المتعاقبين)، وقبل ساعات من نسبتها الى احد فروع “القاعدة” أو الى العدو الصهيوني (السفير الايراني في لبنان والسيدة أفخم)، أطّرَ “أولياء الدم” الكلام الجائز والصادق والمأذون بحدين: حد يحصره في تناول الحادثة في نفسها، فلا قبل لها ولا بعد، وحد آخر يلزم الكلام بحملها على “الحرب” السورية التي تشنها “الصحراء”، على قول صحافي روائي مكنياً، على عمران الهلال الخصيب واصلاحييه ومقاومته وحضنه “العراقي والسوري واللبناني” وسنده الايراني.
وترتب على الحد الاول نسيان طرابلس ومسجديها، التقوى والسلام، وضحاياها وقتلاها الخمسين، ومئات جرحاها، والمشتبهين في جريمتها المعروفين المشهورين منهم والمتخفين والمستترين و”الابطال” في الاثناء الى اليوم. ونسي “الجوار” السوري القريب وحوادثه القريبة والبعيدة، المقترنة في الاشهر الاخيرة كلها، سياسةً وقتالاً وقتلاً وتهجيراً وتشريداً وتجويعاً ونفياً، بـ”انتصارات” الجيش العربي السوري و”تحريره” البلدات والمدن والقرى والمخيمات والقواعد وعضده الحرسي (“مئات الكتائب” على قول نائب شوروي) والحزب اللهي (- لبنان) والعباسي (- العراق) والاستخباري الروسي. فتناول الهجوم الانتحاري والارهابي على السفارة الايرانية ببيروت من باب الحروب السورية، الاهلية الداخلية والاقليمية الدولية، وحلقاتها السياسية والاهلية والمذهبية والارهابية والمالية والتسليحية، هو على زعم “أصحاب الدم” المفترضين تبرير وقح للجريمة و”تغطية” يُتِمّان أو يكملان ما سبق من “دعم لوجستي ومالي”. والسؤال عن علاقة مفترضة بين حلقات “الحوار” الدامي والقاتل، وهذا يدعو الى وضع المتحاربين والمتقاتلين على بعض المساواة والتضايف (الاضافة الى مضاف اليه لا ينفك من مضاف)، يوصم “أخلاقياً وسياسياً” بسوء القصد والنية، على قول احد من اقاموا بالشاشات طيلة يوم الثلاثاء.
ويقود تناول الحادثة في نفسها وعزلها، وإخراجها من قرابة قد تشدها الى حوادث أخرى مثلها قام بها قتلة انتهى التحقيق الى معرفتهم أو هم يقودون أعمال القتل والحرب جهاراً نهاراً الى اختصار المتهمين والمشبوهين والمظنونين سراً او علانية، على رغم تباين مراتب التهمة والمسؤولية، في قاتل واحد. فتناقل “أولياء الدم” المفترضون، من أعلاهم رتبة ومأذونية ومقاماً وتكليفاً الى القائلة في نفسها “رغم انني امرأة”، اسم المسؤول المباشر والمادي عن القتل وشهرته وصفته ونعته. وقلبوا الاسم والشهرة والصفة والنعت كياناً سياسياً، وجماعات مذهبية ووطنية، ودولاً وأجزاء دول. وإذا كان التحقيق القضائي الجنائي العادي يميز درجات الضلوع في الجريمة، من مرحلة التخطيط الى الاشتراك الفعلي المباشر أو المساعد وبينهما العلم بنية الارتكاب والاسهام في تحصيل بعض وسائلها ثم اخفاء آثار الجريمة، ويعاقب أو يدين بحسب الدرجة، فـ”التحقيق” التلفزيوني الحار او المباشر يستثقل مثل هذه القيود، وينسبها الى “ثقافة” غربية مراوغة، شأن فكرة القانون أو الحق.
فالظواهري، وعصاباته وقتلته ومُداه الاولى والثانية، ونواب كتلة “المستقبل” النيابية واحداً واحداً وواحدة، وبينهما خليط من الملوك والامراء والدعاة والموظفين الامنيين والاثرياء، سواء بسواء ولا فرق بين واحدهم وآخرهم. فمسؤولية الواحد عن الجريمة، منذ الدقيقة الاولى لارتكابها، هي مسؤولية الآحاد الآخرين من غير نقصان ولا زيادة. فلا تتردد المحطات، ولا الصحف من بعدها، وتدعو العابرين والعابرات الى التصريح بآرائهم أو رأيهم في الجريمة ووقائعها الماثلة. فلا يخطئ أحدهم، أو إحداهن، فهم الدعوة الكريمة. فالسؤال هو عمن وراء الجريمة المواربة ويتستر بها تستر العارية الخاطئة بورقة التين الاسطورية، أو تستر الملك الظالم بخوف رعيته وطاطأتها الرؤوس حين يخرج عارياً في موكبه. فيجمع من يسألون ويُسألن على قول ” ما صرخ (به) مواطن يقطن في الطبقة الثانية من أحد المباني المجاورة للسفارة (الايرانية) منادياً (مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية صقر صقر): يا مدعي عام، يا قاضي مبسوط هيك. هيدا كلو من ورا السنيورة ووراك وورا السعودية. يا قاضي هول دمن برقبتك وبرقبة الحريري”، على ما روت صحيفة “أولياء الدم” المحلية. وتقف صبية حامت حول المراسل بعض الوقت فدعاها الى الكلام، وحدقت في آلة التصوير، ومهدت لكلامها بالقول إنها تريد أن توجه رسالة، وتأمل في أن يسمع من تخاطبه رسالتها، وهو بندر بن سلطان الذي تحمله المسؤولية شخصياً عن الحادثة. وهي طريقة في الخطابة والمخاطبة ليس عسيراً تعرف مثالها التعليمي والتربوي الذي تنسج عليه هي و”الأخوات” و”الاخوة”.
والحد الثاني للكلام التلفزيوني المتدفق هو، على خلاف الاول ظاهراً، الحد “الجيوبوليتيكي” أو “الجيوسياسي” والاستراتيجي، على ما يحب المعلقون والمحللون والخبراء الدعاة من ضيوف المحطات المزمنين القول والتذكير عند تناول الحوادث المتفجرة، مجازاً أو حقيقة، حشر عدد كبير من الحوادث القريبة، الثانوية أو البارزة، وجمعها في دلالة واحدة تقوم من هذه الحوادث مقام البؤرة والقطب. وعلى حين يستبعد المحللون الدعاة إدراج الهجوم الارهابي في سلسلة متصلة ومتواردة من حوادث ارهابية أخرى اصاب بعضها الخصوم أو المخالفين، السياسيين والمذهبين، لا يترددون في إدراجه في سلاسلهم وسياقاتهم هم. وتصل سلاسلهم وسياقاتهم بين “الانتصارات” العظيمة والحاسمة والثابتة التي يحرزونها على الجبهة السورية شكلاً، والاقليمية والكونية حقيقة وفعلاً. وتصل، من وجه آخر ملازم الوجه الاول، الانهيارات العظيمة التي تنزلها بالعدو المطاط والاخطبوطي قوى “المقاومة” المظفرة والموعودة. وهذه كذلك ميادين جولات وصولات تبدأ بـ”تحرير” القصير ولا تنتهي بـ”استعادة” السفيرة وقارة ومقتل قادة في “كتائب التوحيد” و”لواء الاسلام” والجيش السوري الحر.
و”الانتصارات” على الجبهة الايرانية، وهي إيرانية أميركية هذه المرة ومن غير تردد ولا لعثمة، لا تحصى بدورها ولا يسبر عمقها “الإلهي”. وأعظمها المفاوضة على المسألة النووية. وهي ثمرة انتصار حسن روحاني، حليف رؤوس “الفتنة” الموارب، على مرشحي محور الباسدران – خامنئي مجتمعين بأصوات انصار المعارضة، وذلك في خاتمة مطاف حصار قاسٍ على مصدر عوائد دولة ايران الاول وشبه الوحيد، أي النفط، وعلى أدواتها المالية والمصرفية. وأدى الحصار الجاد والمشترك، الى الحصار الطوعي الذي تولته الولايات المتحدة ووكالاتها منفردة واستدرجت اليه بعض الحلفاء المترددين، الى تقليص مبيعات النفط الايرانية الى النصف. وبعضها استحال تسديد اثمانه جراء الحجر على التحويلات، وبعض آخر سددت أثمانه بعملات محلية ودولية أو مقايضة بسلع. ونجم عن الحصار المالي والمصرفي اختناق التجارة المحلية، وإفلاس بعض مرافقها وكساد بعض آخر، وتردي سعر صرف العملة وغلاء الاسعار، وانكماش سوق العمل ونضوب الاستثمارات. فكان انتخاب حسن روحاني، ووعده الانتخابي الاول هو “الانفتاح على العالم” وإعادة النظر في سياسة محمود أحمدي نجاد المتهورة، وهو جدد التزوير الحرسي الخامنئي انتخابه الى ولاية ثانية، ثأر الاصلاحيين وأنصارهم من الحلف العسكري والحوزوي والاوليغارشي المحلي.
وليس معنى هذا، على خلاف ما يحسب بعض أنصار الأجنحة المشققة والغالية في السلطة الايرانية، أن فريق روحاني يفاوض “راكعاً” و”ذليلاً”. والحق أن مأتى حرجه ليس ضعف الكفة الايرانية في ميزان القوة العسكرية أولاً وحسب، ولا اضطراب الانتصارات الحرسية في العراق وفلسطين ولبنان وسوريا والبحرين، وإنما السبب في الحرج هو تشقق الحلف الحاكم، وتنازع قواه ومصالحه الاجتماعية، والصفاقة الحالكة التي تستر صراعاته وخلافاته وحالت (على سبيل المثل) دون اضطلاع رجل قوي وحاسم مثل رفسنجاني بما أوكل الى رجل رهين أحلاف معقدة وظرفية القيام به. ولا يزال ربيع 2009 يلقي بظله “الثقيل” على سياسات إيران، ويشكك في مشروعية هذه السياسات وطواقمها المزدوجة على منوال محمد جواد ظريف/ عباس عراقجي، وعلى مثال يتصدره حسن روحاني وجمهوره/ خامنئي وحرسه وباسيجه وبيروقراطيته وأصحاب ريوعه في الدولة والمؤسسات الوقفية…
والوقوف ببعض التطويل على مسألة المفاوضة، ووجهها الداخلي، يريد التنبيه على صنف الجيوسياسية، الذي يزاوله المندوبون الى التحليل الدعوي والبازاري في أجهزة الاعلام والخطابة والتحريض، وفي اجهزة الحرب في نهاية المطاف. فهم يخلصون، على نحو ما صنعوا في مقالاتهم وثرثرتهم في الهجوم الارهابي صبيحة الثلاثاء، الى ان المرونة غير البطولية التي أبداها الوفد الأميركي في لقاء جنيف الثاني، واعترضها التذكير الفرنسي باجتماع آلما آتا في شباط 2013 وبنود بيانه (فتح كل المراكز الايرانية أمام التفتيش، وضع البرنامج النووي كله في عهدة الوكالة الدولية، إلغاء تشغيل محطة آراك بالماء الثقيل، تحويل اليورانيوم المخصب الى وقود…) يخلصون من المرونة هذه الى “عزلة قاتلة” تصيب أو أصابت في مقتل السعودية وتركيا وفرنسا و”اسرائيل” والجماعات الارهابية “الجهادية” (السنية وحدها) والسلطة الفلسطينية برام الله و”المستقبل” و”14 آذار” في لبنان و”كتائب عبدالله عزام” معاً وجميعاً في وقت واحد، وسلم بعض السلامة منها وليد جنبلاط وحاسة شمه الحديد الى بعض الوقت ربما، في انتظار مقالته الاسبوعية الآتية في “الانباء”.
فالسياسات العسكرية و”الاعلامية” “الجيوبوليتيكية”، وهي ركن من أركان الأنظمة الخمينية الحرسية والاسدية والحركات الفرعية التي ولدتها ورعتها و”الشخصيات” المتألقة التي جلتها، تفترض أولاً وآخراً إلغاء دواخل الدول والمجتمعات. فهذه الدواخل تلابسها، من دوانيها الى اقاصيها، تعقيدات مزعجة ومربكة على خلاف النورانية، في لغة القوم ومصطلحهم، التي لا تنفك “الجيوبوليتيكا” من المثول في بهائها. فإذا أوجبت هذه “فهم” المعمعة السورية “سوريا الاسد” المفتاحية والاستراتيجية، واللاعب الكيسينجري، والمستقرة، والمقاومة والمتطاولة العهد فوق ولاية معاوية بن سفيان على قول الهولندي الكاتب، والنافذة الرأي والسطوة في الشاردة والواردة- على رسم القومية “الاجتماعية” العربية- الجماعات التكفيرية، زالت الغشاوة والشبهات عن العيون والافهام. وتبدد الاستبداد والحكم العرفي، والمجازر الخفية والمعروفة، واحتكار “العصابة”، وشراء الجماعات والشرائح بفتات الريوع، وعيش الكفاف، وتحجر أهالي المناطق والمذاهب على عصبياتهم، وانهيار الارياف، والهجرات، والعشوائيات، والعشائر، والاكراد، والمخيمات الفلسطينية، والجوار المتناحر القريب والبعيد، والقنوط والخواء – تبددت هذه كلها وتبدد هؤلاء كلهم وذَرَتها (وذرتهم) رياح صرصر هي من بشائر حمل الازمنة بوليدها الزكي ووشك وضعه لا محالة. وفي القياس على هذا، هجوم انتحاري على سفارة إيران من هنا، أو نظام الاسد من هناك (على قول محلل مأذون)… تفاصيل صغيرة.
المستقبل