صفحات العالم

مقالات عن الموقف الروسي -2-


الجمعة

موسكو – بكين: حلف المصالح التي قد لا تلتقي!

محمد قواص *

أسقط الحدث السوري الأقنعة فظهرت من ورائها الوجوه الحقيقية لحالة الصراع الحقيقية التي أعادتنا إلى ما يُشبه زمن الحرب الباردة التي كان فيها الاتحاد السوفياتي والصين يقودان (في شكل منفصل ومتناكف) المواجهة الشرقية ضد الغرب. الحدث السوري أظهر مقدار التفاهم والتقارب وحتى التحالف بين الصين وروسيا، بحيث جاء موقفهما المدافع عن النظام السوري ضد أي تدخل أجنبي، بمثابة إنذار حقيقي نوعي على مفصل تبدل اللعبة الدولية نهائياً في العالم.

وما يسبق الحدث السوري تطور استراتيجي خطير منذ إعلان الرئيس باراك أوباما عن خطة بلاده الإستراتيجية في جنوب شرقي آسيا (وثيقة «البنتاغون» مطلع العام 2012)، والتي بموجبها سيُنقل الثقل العملياتي الأميركي من المسرح الأوروبي إلى المحيط الهادئ. الخطة تفصح علناً عما بات معروفاً من توجس أميركي من خطر تعاظم قوى الصين في المجالين الاقتصادي والعسكري. والخطة تهدف في شكل علني (وربما وقح) إلى السعي لتقييد حركة العملاق الصيني واتقاء تطوره. الأمر يشكل استفزازاً للصين ويستدعي ردّاً مناسباً يحمي نفوذها التاريخي في ما هو مجالها الحيوي الإستراتيجي.

روسيا، من جهتها، تخرج من تخبطها الداخلي والإقليمي الذي سببه سقوط الاتحاد السوفياتي. تستعيد روسيا عافية اقتصادية اعتمدت في شكل أو في آخر على النفط والغاز، إضافة إلى تطور في النظامين الصناعي والمالي. روسيا لم تصب بالزلزال الاقتصادي الذي ضرب العالم، وبقيت بنيتها الاقتصادية (نسبياً) بمنأى عن الانهيار الكبير. وروسيا التي شهدت سقوط حصونها واحداً بعد الآخر (آخرها نظام معمر القذافي في ليبيا)، وجدت في الحدث السوري مناسبة سانحة للعودة إلى المسرح العالمي كلاعب أساسي في تقرير مصير هذا العالم.

لروسيا مصالح مباشرة تتعلق بحضورها في سورية (وهو ما لا ينطبق على الصين). فعلاقات موسكو مع دمشق تاريخية منذ علاقات الاتحاد السوفياتي مع دمشق. كما أن العلاقات العسكرية الروسية -السورية كانت إحدى دلالات التميز الروسي في المنطقة العربية بعد الانسحاب المهين للنفوذ السوفياتي في مصر (أيام السادات). صحيح أن موسكو ارتبطت بعلاقات تسلح مع دول عربية أخرى، بيد أن الحالة السورية بقيت خاصة، ومتقدمة، إلى درجة إقامة قاعدة بحرية في ميناء طرطوس.

لكن الأمر بالنسبة الى روسيا لا يقتصر على صفقات أسلحة وقاعدة بحرية، بل إن سقوط النظام السوري يفقد موسكو موقعاً محورياً في قلب تحالف استراتيجي تمثله الحالة السورية (ومناخها المحيط)، يرتبط بإيران، مروراً بأفغانستان، انتهاء بالصين وضواحيها الجغرافية. والأمر بالنسبة الى روسيا منازلة كانت مؤجلة لإعادة رسم خريطة النفوذ الدولي، والاتفاق أو عدمه، على سلة شاملة من الملفات لا تبدأ بنفوذ موسكو في مجالها الحيوي المحلي، ولا تنتهي بخطط واشنطن نشر منظومات صاروخية تهدد القدرات الردعية الروسية.

العلامات العلنية للحلف الروسي-الصيني الجديد ظهرت جلية في ما شهده بحر الصين من مناورات لافتة (أُجريت في نيسان/أبريل الماضي)، جاءت في أعقاب مناورات للأسطول السابع الأميركي مع وحدات فيليبينية وكورية جنوبية داخل مياه بحري الصين واليابان. الرد الصيني على وثيقة أوباما جاء على لسان صحيفة الحزب الشيوعي الحاكم بالقول: «لن يكون في مقدور واشنطن أن تمنع بزوغ شمس الصين». وربما أن روسيا فهمت مبكراً أن مصالحها الإستراتيجية ووضع حد لحال القضم الحاصل في مصالحها ونفوذها تستدعي على عجل ابتعاداً عن الخيار الغربي الذي دشنه بوريس يلتسين وأجاد بوتين الرئيس في ولايته الأولى صيانته والدفاع عنه.

أثبتت علاقات موسكو وبكين وعياً مشتركاً لثوابت عدة. أهم تلك الثوابت رفض التفرد الأميركي الذي ساد العالم خلال العقدين المنصرمين. وإحدى أداوت هذا «التمرد»، معارضة قوننة مفهوم «التدخل الإنساني» الذي طبّقه حلف «الناتو» في حرب كوسوفو العام 1999، وتتفق روسيا والصين على رفض مشروع الدرع الصاروخية ومسوغتها الأميركية، الزاعمة بأنها موجهة ضد الصواريخ الإيرانية والكورية الشمالية. وتعتبر كلتا الدولتين أن واشنطن تتقصد من نصب الدرع في شرق أوروبا، المس بأمنهما القومي، وجرّهما مرغمتين إلى حلبة سباق التسلح.

ويشي السياق الصيني-الروسي الحالي بأن البلدين ذاهبان إلى المواجهة إلى أقصى حدود ممكنة. وفي العبارة الأخيرة (الحدود الممكنة) عملية بحث دائم يقوّمها الصينيون والروس من أجل تحري مساحة المناورة المتاحة في حراكهما. ومع ذلك، فإن تناقضات تضع علاقة الصين وروسيا في إطار نسبي عرضي موقت. فالصين قوّة صاعدة متزايدة في المجالات الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية، فيما قوّة روسيا تراوح مكانها على رغم جهود بوتين، وستبقى روسيا متراجعة عن التقدم الصيني. هذا الأمر قد يثير حساسية الكثير من الفئات الروسية وبالتالي يعرقل العلاقة مع الصين.

ومن جهة أخرى، فالصين تشهد كثافة سكانية عالية إذا ما قورنت بتلك في روسيا، وهناك من يرى من القوميين الروس أنّ هذه المسألة تشكّل خطراً و تهديداً لروسيا من حيث إنّ الانفجار السكاني الصيني لا بدّ من أنّ يدفع الصين إلى التمدّد الجغرافي فتكون روسيا هي الضحية. كما أن الطموحات الروسية أوروبية على الأغلب، بينما تعتبر الصين أنّ آسيا منطقة نفوذهم الاستراتيجي ونطاقهم الحيوي، الأمر الذي سيحد من تحرّك روسيا كقوة في آسيا ولن يكون لها موقع مميّز فيها، ما سيثير حفيظة الروس على الأغلب ويلقون باللوم على الصينيين. كما أن الاعتراض الصيني على دعم روسيا العسكري للهند وتزويدها أحدث التقنيات العسكرية وأنظمة الدفاع، بخاصّة أنّ الصين ترى أنّ بعض القوى الراغبة في عرقلة مسيرتها يريد أن يدعم الهند لتصبح قوة آسيوية موازية للصين وبالتالي يقف في وجهها ويحدّ من قدراتها، ولا شكّ في أنّ المسعى الروسي في هذا الاتجاه سيصطدم بالانزعاج الكبير للصينيين.

لم تعد الحرب الباردة أمراً ممكناً في القرن الحادي والعشرين. فمصالح روسيا والصين مرتبطة في شكل حيوي بالسوق الاقتصادي العالمي ومراكزه المالية الكبرى. بما يعني أن القطيعة على الطراز القديم تؤذي موسكو والصين، وربما بقياسات كبرى. ثم ان محور فلسفة التطور في البلدين يتأسس على الاقتصاد، وكم يكره الاقتصاد الصدام والحرب، ولو كانت باردة.

* صحافي وكاتب سياسي

الحياة

الثلاثاء

روسيا تُربِك أميركا في سوريا… وليس العكس

    جهاد الزين

يميل المراقب الى الاستنتاج بأن عملية اسقاط الطائرة التركية كانت مدروسة مسبقا من حيث “اصطياد” الخطأ التركي الذي كان يحصل مثله سابقا بسبب طبيعة “إصبع” لواء اسكندرون داخل الخارطة السورية جغرافيا و لكن التوقيت جاء بعد “فرار” الميغ السورية.

أظهرت عملية إسقاط الطائرة التركية يوم الجمعة المنصرم فوق او على مقربة من المياه الاقليمية السورية عددا من المعطيات التي لا زال العديد من المعلقين العرب والغربيين يجدون صعوبة في “قبولها” كـ “وقائع استراتيجية”.

الاول بين هذه المعطيات أن الروس يتعاملون مع “المساحة السورية” كمساحة سياسية استراتيجية بالنسبة لكل اطلالتهم في السياسة الخارجية ولاسيما في البحر الأبيض المتوسط. ومع ان أحد وزراء الثلاثي الاوروبي الذي زار بيروت اواخر الاسبوع المنصرم، وهم السويدي والبلغاري والبولوني، قد “امتعض” او اعتبر ذلك مبالغة كما ظهر من تعابير وجهه وحركة شفتيه  حين كنتُ أقول له في لقاء مغلق نظمته مؤسسة كارنيغي ضم عددا من الباحثين والمعلقين السياسيين  ان متحدثا باسم وزارة الخارجية الروسية قد صرّح يومها ان مصير الوضع في سوريا سيرسم طبيعة النظام العالمي الجديد…مع ذلك جاء خبر اسقاط الطائرة التركية ليُظهر ان تدويل الصراع على سوريا عالي المستوى والخطورة. فالأتراك أنفسهم بطلبهم عقدَ اجتماع للحلف الأطلسي لبحث الموضوع يؤكدون بذلك البعد الاميركي الروسي العسكري المباشر للعملية.

لقد حصلت الحادثة في منطقة الساحل وليس في الداخل السوري. هذا يعني أن الروس يقولون أنه حيث توجد محطة لسفننا الحربية لا يمكن ان نقبل بأي تلاعب او استخفاف ويجب التعامل معها كمنطقة عسكرية فائقة الاهمية بالنسبة لحضورنا على شواطئ البحر الابيض المتوسط. لذلك يميل المراقب الى الاستنتاج بأن هذه العملية كانت مدروسة مسبقا من حيث “اصطياد” الخطأ التركي الذي كان يحصل مثله سابقا بسبب طبيعة “إصبع” لواء اسكندرون داخل الخارطة السورية جغرافيا ولكون شاطئه خطَ طيرانٍ حربيٍ يومي للقوات التركية مع فرقها الموجودة في قبرص منذ العام 1974. والظن المحتمل بالتالي هو أن الروس والسوريين كانوا “ينامون” على هذا النوع من “الاختراقات التركية” المحدودة وربما التقنية للمياه الاقليمية السورية حتى جاء الرد في التوقيت “المناسب” بعد عملية “فرار” طائرة الميغ السورية الى الاردن. ولا نعرف هل كانت “الميغ” مزودة بأجهزة تحديث قتالية قد تنكشف للأميركيين في حين نعرف أن الجيش التركي منذ تسعينات القرن الماضي قد أبرم اتفاقاتٍ مع اسرائيل على تحديث طائرات الـ”إف 4″ و “الإف 5” (وغيرهما في سلسلة “الإف”) ببرامج جديدة اشتهرت الصناعة العسكرية الإسرائيلية بإنجازها. ومن بين الدول المهمة التي تولّت اسرائيلُ تحديثَ برامج اسطولها العسكري دولةٌ بحجم البرازيل وأظن لا يزال التعاون قائما.

ومع اني مع الرأي القائل بأن الخيارات التركية محدودة في هذه المسألة بالذات إلا ان هذا الملف على الأرجح سيؤدي الى فتح ملفات أخرى بحجج مناسبة علينا من اليوم فصاعداً ان نتوقعها … فالصراع “المباشر” الآن هو بين دول عظمى لن يعوزها أن تستخدم أفكاراً بارعة في اللحظة المناسبة وبالامكانات العالية التي تملكها. وفي ما يتعلّق بتركيا يجب لفت النظر الى أن الجيش التركي حتى في الايام التي كان يحكم الحياة السياسية المدنية التركية كان يتميّز بدقة خياراته العسكرية في الازمات المتعلقة بالدول: مع اليونان قديما ومع بلغاريا وايران وسوريا في مرحلة الثمانينات والتسعينات. والاتراك الحاليون يعرفون أن احد اسباب ولادة “البوتينية” (فلاديمير بوتين) كمدرسة مواجهة سياسية مع الاميركيين هو العامل التركي حتى في الشأن الداخلي الروسي ولا سيما خلال أزمة الشيشان التي شهدت صعود الظاهرة البوتينية في السياسة الروسية في آخر أيام الرئيس بوريس يلتسين. فالاسلام الروسي تاريخيا هو الاسلام “التركي” أو من أصول تركية سواء في معظم آسيا الوسطى السوفياتية السابقة او الاقاليم المسلمة  داخل “الروسيا” التي هي الاتحاد الروسي الحالي.

الدم السوري يسيل منذ اكثر من عام بعد قمع النظام العنيف في أشهُر البدايات للتظاهرات السلمية ولكن لاحقا بعد القرار الغربي التركي الخليجي بعسكرة المعارضة. كانت تلك العسكرة، أياً تكن مبرراتها الاخلاقية كما الديماغوجية، انعطافة “لعبة أمم” لثورة كانت تملك كل القوة المشروعة لتكون ثورة، واذا بالعسكرة تحوّلها الى مبرر ودينامية يوميّتين لتدمير سوريا بين عنف النظام وعنف فلتان الجماعات الإتنية والمذهبية. لكن ليس الروس وحدهم مرتبكين في حمام – الدم هذا. بالعكس يبدو أن الارتباك أيضا في جبهة أخصامهم ولا سيما الاتراك الذين لا يليق بحجمهم ان يكونوا مجرد وكلاء في حروب بين كبار يقفون  وراءهم. فتركيا ايضا دولة اقليمية كبيرة بكل المعاني التحديثية والسياسية والعسكرية بدأت تصغِّرها “التحولات”… وآمل لا.

النهار

الأحد

سوريا من وجهة نظر روسية

ديمتري ترينين

يتوقّف نجاح خطة كوفي عنان للسلام في سوريا على الحصول على الدعم من موسكو. لكن في الوقت الذي تزيد فيه الولايات المتحدة، وأوروبا، وتركيا وغيرها الضغوط على دمشق، ترفض روسيا أن تناقش علنا مسألة إطاحة الرئيس بشار الأسد. وفي خضم التقارير التي تتحدّث عن قيام وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بنقل الأسلحة إلى المعارضة، يواصل الروس تزويد قوات الأسد بالعتاد بصورة مطّردة.

هذا الوضع لا يبشّر بالخير بالنسبة إلى سوريا: فدمشق والمعارضة لا تزالان تريان الحل في الإلغاء الكامل للطرف الآخر، ولم يبذل حتى الآن أصدقاؤهما في الخارج مجهوداً فعلياً لدفع الأطراف المتنازعة نحو تسوية ما. لكن ما لَم يحصل تحوّل كبير في الديناميكيات الداخلية للنزاع، من غير المرجّح أن تغيّر روسيا موقفها.

النظام العالمي

لا تربط موسكو النزاع السوري بالجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط بشكل أساسي، ولا بتحالفات حقبة الحرب الباردة، ولا بمبيعات الأسلحة. ولا تربطه حتى بمصالحها الخاصة مثل قاعدة طرطوس. واقع الحال هو أن السياسة الروسية تعتبر أن الوضع في سوريا يرتبط بشكل أساسي بالنظام العالمي؛ وبمَن يقرّر ما إذا كان يجب استخدام القوّة العسكرية؛ ومَن سيستخدم هذه القوة، ومَن يقرّر ما القواعد والشروط وأساليب الإشراف التي ستُستخدَم هذه القوّة على أساسها.

المصالح والمبادئ

بالطبع، مبادئ روسيا المعلَنة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمصالحها. فموسكو تخشى أن يؤدّي السماح للولايات المتحدة باستخدام القوة ساعة تشاء، ومن دون أي قيود خارجية، إلى تدخلات أجنبية على مقربة من الحدود الروسية، أو حتى داخل تلك الحدود، ولاسيما في شمال القوقاز. ولا يكتفي الروس برفض التدخّل العسكري الخارجي من دون تفويض من مجلس الأمن الدولي وحسب، بل يرفضون أيضاً مفهوم تغيير النظام تحت ضغوط خارجية. وهذا الدعم لعدم التدخّل ليس مفاجئاً نظراً إلى أن كل الأنظمة- ما عدا الديموقراطيات الراسخة- يمكن أن تُعتبَر نظرياً بأنها تفتقر إلى الشرعية. لكن اللافت هو أن موسكو التزمت هذا المبدأ في علاقاتها الخارجية، فهي لم تشن انقلاباً واحداً في الدول التي استقلّت عن الاتحاد السوفيتي السابق. وحتى بعد هزيمة الجيش الجورجي في العام 2008، قاومت روسيا إغراء تغيير النظام في تبليسي. وما عدا استثناءات قليلة جداً (مثل نظام طالبان في أفغانستان)، أبدت استعداداً للتعامل مع السلطة القائمة في كل مكان، من كوريا الشمالية مروراً بإيران وصولاً إلى غزة. واقع الحال أن في عهد فلاديمير بوتين، أصبح مبدأ احترام سيادة الدول وسلامة أراضيها عقيدة ثابتة في السياسة الخارجية الروسية.

كذلك، ترتبط سياسة موسكو بتقييمها للنتيجة المحتملة في سوريا. فمنذ بداية ثورات الربيع العربي، تخوّف صانعو السياسات الروس، ومنهم وزير الخارجية سيرغي لافروف، من ربيع إسلامي، واعتبروا أن الليبراليين الموالين للغرب يمهّدون الطريق أمام المتشدّدين الدينيين أو حلفاء القاعدة. وبعد ثمانية عشر شهرا، ثبتت صحّة هذه التوقّعات: ففي الفوضى التي تعم ليبيا اليوم، تقارير عن وجود للقاعدة في البلاد، وهناك انتشار للأسلحة، وتأثير مزعزع للاستقرار في مالي المجاورة؛ ومصر، انتصاراتٌ انتخابية لجماعة الإخوان المسلمين التي تصنفها موسكو في خانة التنظيمات الإرهابية.

الخوف من الفوضى

ولاشك في أن هذه المخاوف الروسية تتخذ طابعاً أقوى في الموضوع السوري، لأن من شأن إطاحة الأسد عن طريق العنف أن تؤدّي أولاً إلى الفوضى، مع حصول المجموعات المتشدّدة والتنظيمات الشبيهة بتنظيم القاعدة على موطئ قدم على بعد بضعة مئات الأميال من شمال القوقاز المضطرب. ومع أن المسائل المطروحة في شمال القوقاز محلية الطابع، يستمدّ الجهاديون هناك الإلهام والدعم من الشرق الأوسط. وعلى مشارف الألعاب الأولمبية التي ستُنظَّم في سوتشي بعد أقل من عامَين، تسعى روسيا إلى الحؤول دون وقوع، ما قد يتسبّب بزعزعة الاستقرار على حدوها الجنوبية.

لكل هذه الأسباب مجتمعة، فضّلت موسكو نظاماً وحشيّاً على الفوضى في سورية. طوال العام 2011، اعتمدت روسيا في مناوراتها على قدرة الأسد على سحق المعارضة، على غرار ما فعلت السعودية في البحرين. لكن النزاع طال، مع قيام ائتلاف غربي-عربي واسع بسحب اعترافه بنظام الأسد، وشروع دول عدّة في تسليح المعارضة، وتتخوّف روسيا أكثر فأكثر من حرب أهلية طويلة الأمد ومن اشتداد العنف. لكن حتى الآن، لم يحدث ما يُجبِر موسكو على إعادة النظر في حساباتها: فالجيش السوري لم ينقلب على آل الأسد باسم الإنقاذ الوطني؛ والتجّار في حلب ودمشق (الذين يُمسكون مصير النظام بأيديهم) لم يسحبوا دعمهم السلبي عن النظام. لن تُضطر روسيا إلى إجراء تغيير أساسي في حساباتها، إلا إذا تبدّلت هذه الديناميكيات وأدّت إلى تحويل دفّة الأمور بصورة حاسمة ضد الأسد.

بعيداً من هذه التغييرات الدراماتيكية، قد تبدي روسيا استعداداً للتعاون مع الولايات المتحدة وبلدان أخرى إذا أصبح الهدف إطلاق «مرحلة انتقالية» بدلاً من «تغيير النظام»، أي ما يُعرَف بـ«النموذج اليمني». لاشك في أن سوريا ليست اليمن، وإزاحة شخص واحد أو حتى الأسرة الحاكمة قد لا توقف النزاع الأهلي. لكن جوهر النموذج اليمني ليس في تفاصيله، فالفكرة الأساسية تكمن في استبدال العنف بالعملية السياسية. يقتضي إطلاق مرحلة انتقالية، بدلاً من تغيير النظام، من روسيا والولايات المتحدة تكييف مبادئهما من أجل حماية مصالحهما الأوسع – وقد يكون هذا الأمل الوحيد لنجاح التعاون الدولي في الموضوع السوري.

وسيا وأميركا وسوريا بوابات العالم

نصري الصايغ

أعراض «الرجل المريض» لم تعد خافية. أوروبا دخلت باكراً إلى نادي المقعدين. أوروبا الموحدة تعاني من كثرة «الحكماء» وندرة العلاج. الضعف في الأطراف، اليونان، اسبانيا، البرتغال، قبرص… ايطاليا، سبّب لها دوراناً ودواراً. آخر الدواء الكيّ، وهي لن تلجأ له. الكيُّ، إعلان إفلاس الاتحاد، قبل وقته بقليل.

عندما يجتمع القادة الكبار في العالم، في المكسيك مثلاً، نفتقد حضور قادة أوروبا، يظهرون في الصورة فقط. على مائدة التفاوض وفي أروقة النقاش، وبين الأوراق والاقتراحات المتبادلة، تتردد أسماء أوباما، بوتين وهوجينتاو. وقادة أوروبا، قادة في بلدانهم. خارجها، هم إما ملحقون، أو باحثون عن دور، أخذه منهم الآخرون. لقد باتت أوروبا أوروبية فقط. مساحة اهتماماتها ليست بقياس طموحاتها، بل بقياس أزماتها. بعضهم، من قادة متسرعين، يتقدمون المسرح الدولي، يقدمون على مغامرات، ذات طابع إنساني خبيث، ثم، لضيق ذات اليد وقص ذراع النفوذ، يتراجعون، ليتقدم الأميركي ويتمدد كأخطبوط، أو ليستعيد الروسي دوره السوفياتي، بلا ماركسية، أو ليتسلل الصيني المبتسم، بدهاء السلعة والمحفظة الدولية الأعظم.

أوروبا المريضة، انسحبت من الشرق الأوسط. ما تقدر عليه، استضافة مؤتمرات، تبقى أصواتاً بلا صدى، وحبراً على ورق. الأزمة السورية، لها في أوروبا أصدقاء حميمون. فرنسا في الطليعة، لكن الذي يحاول رسم خريطة طريق لحل الأزمة، لا يرسمها إلا بالحبر الصيني، والقلم الأميركي، والخط الروسي…

كان متوقعاً في قمة المكسيك، أن يحارب فرنسوا هولاند من أجل البيئة، وحلفاؤه الخضر بانتظاره. كان منتظراً أن يدافع عن مشروعه الداعي إلى فرض ضرائب على حركة التحويلات المصرفية. وهي جزء من مشروعه السياسي، ويعتبره حيوياً لمعافاة بعض جوانب الأزمة الاقتصادية… قال هولاند كلامه، ولم يسمعه أحد… لقد اكتفى بأن أعلمه الأميركيون رفضهم وموافقة الصينيين على ذلك، كي يلتزم الصمت.

القمم العالمية، فقدت فعاليتها. تحوَّلت إلى مناسبات لا يتوقع منها أحد مصيراً آخر غير المصائر اليومية، بإتقان آليات السوق، وسقوف الديون، وتلوث البيئة، وزيادة الفقر، وخط المجاعات، وتسلسل الحروب… قمم مرتبة مسبقاً، بلا قدرة على إقناع أحد…

وليس بوسع أوروبا أن تلعب دوراً، حتى بقيادة ميركل، التي أصبحت وحيدة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ سياسياً، بعد سقوط لاعب السيرك الفرنسي نيكولا ساركوزي… كل هم أوروبا اليوم، بقيادة محركها المركزي الألماني، أن تقنع اليونان، بالبقاء في سفينة «اليورو» المثقوبة. أن تساعد اسبانيا، في سد ثقوبها المصرفية التي تغرق البلاد في بطالة غير مسبوقة. كل هم أوروبا اليوم، الحفاظ على السفينة المثقوبة، فلا تسقط منه اليونان، ولا تغرق وحدها قبرص، ولا تقع منها اسبانيا، ولا تزحط عنها البرتغال، ناهيك عن دول لم تفارقها كوابيس الأزمة.

أسباب كثيرة أدخلت أوروبا في الشيخوخة. أبرزها، أن شريكاً دولياً كان غائباً، فحضر، بإرثه وتاريخه وجغرافيته وثرواته واقتصاداته، واستعاد مقعده بعدما خسره في زمن غورباتشوف. الملاءة المالية الروسية، باتت محط أنظار أوروبيين، يرون في روسيا معيناً مالياً لإخراجهم من الأزمة. قبرص فعلتها. تستدين من روسيا، التي كانت عرضة لنهب الدائنين وسماسرة المال، في زمن بوريس يلتسين. مع بوتين، عرفت أوروبا حجمها… العالم اليوم، لم يعد بقطبية واحدة: أميركا تتقدم وأوروبا تتبعها. باستثناء العدوان على العراق، ولفترة قصيرة… روسيا أعادت التوازن إلى العالم. الثقل الروسي لم يملأ أوروبا الملحقة بأميركا، ولا رغبت به الصين، التي تلعب لعبة الامتلاء الاقتصادي والمالي، وفرض وقائع سياسية من خلال الحضور، وليس من خلال الانشغال أو الاشتغال.

عالم بثلاثة أقطاب هو اليوم. أميركا روسيا والصين، مكانة أوروبا محفوظة، في الملحق الأميركي. كذلك تركيا، التي كانت لاعباً إقليمياً، كسفته روسيا، وأقصته إيران.

داخل هذا العالم الثلاثي الأقطاب، قطبان من خارجهما، الأول: إيران. وهي قطب من جنس آخر. من خارج حيوية النظام الدولي وتفاهماته ومسالكه… انها وحيدة ولكن عنيدة. قالت وأملت ونفذت وما تراجعت. كانت معزولة، فباتت منتشرة. كانت متخلفة فباتت ثورية بلا سلاح، وكانت جنرالاً في الخليج بإمرة أميركية، فباتت جنرالا والإمرة لها. أما الأزمة السورية، فباتت مفتاح خريطة النظام العالمي الجديد… قالها الروس صراحة: النظام الدولي الجديد رهن بكيفية حل الأزمة السورية. ولا حل من دون إيران. هي ليست ملحقاً، بل هي المصدر. انها النص وليست الهامش.

أما بعد… فليس أمام اللاعبين المحليين والإقليميين، إلا قراءة المتغيرات الدولية، للخروج من الثوابت القديمة، التي أوصلت الشرق الأوسط إلى نقطة الانفجار… ما قبل الثورات العربية، ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ إلى نظام القطب الواحد… هذا انتهى. فليستعجل اللاعبون، قبل انطلاق إشارة البدء بتسديد الأهداف.

السفير

روسيا وسوريا: اختبار مبدأ بوتين

جميل مطر

لم تكن الكتابة عن سوريا وعلاقاتها الدولية في أي وقت مسألة عادية أو بسيطة. سوريا، بلدا أو شعبا، تدفع الكاتب، إن كان معلقا صحافيا أو باحثا أكاديميا، إلى بذل جهد مضاعف ليلتزم الموضوعية. ذكر لي أستاذ غربي متخصص في شؤون الشرق الأوسط أنه في كل مرة كتب عن سوريا قضى وقتا طويلا ومرات عدة بعد الانتهاء من الكتابة يقرأ ما كتب ليقنع نفسه بأنه لم يتخلَّ عن موضوعيته.

اعتقدت، وما زلت أعتقد، أن سوريا حالة خاصة في العلاقات الدولية والإقليمية، وأن مجموع تأثيرها في ما حولها أكبر كثيرا من مجموع قواها الصلبة، وربما أكبر أيضا من مجموع قواها الناعمة والصلبة معا. وقد اجتهد الكثيرون من الأجانب والعرب في محاولات متعددة لفهم هذه الحالة الخاصة، وتعددت اجتهاداتهم، وإن كان أكثرها يصب في خانة الموقع الاستراتيجي لسوريا بمعناه الواسع، أي ضرورة الأخذ في الاعتبار الطبيعة الاستثنائية لبعض العناصر الديموغرافية والجغرافية والتاريخية والدينية والثقافية وغيرها.

[[[

كانت هذه المقدمة الطويلة نسبيا لازمة للتعليق على النتيجة التي توصل إليها مؤخرا محللون سياسيون، وهي أن من يريد الوصول إلى دمشق لغرض يتعلق بالأزمة الراهنة يتعين عليه المرور بموسكو. ولا شك في أن تصريحات المسؤولين في موسكو وتصرفاتهم أمام الكاميرا تدعم هذه النتيجة، وإن سعت إلى تضخيمها.

درج محللون في بداية الأزمة على الاستهانة بموقف روسيا من تطورات الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد. وصف أحدهم الخلاف الناشب بين أميركا وروسيا حول المسألة السورية بأنه كالجدل على مشط بين رجلين كلاهما أصلع، كلاهما لا يعرف ماذا يفعل.

يعتقد محلل آخر أن الطرفين الروسي والأميركي يتدخلان في سوريا حرصا منهما على أن تظل الأزمة محكومة داخل حدود سوريا فلا تنزلق نحو لبنان أو العراق أو تركيا، ولتبقى إسرائيل ملتزمة وعودها بعدم إلقاء الزيت على النار.. يقول هذا المحلل السياسي عن روسيا، إنها مهما ناورت واعترضت وتفاوضت فإنها تلعب دور المتشدد في قضية لا تملك جميع مفاتيحها أو حتى أغلبها. يقول عن الولايات المتحدة إنها مهما أبدت من اهتمام وعبأت مجلس الأمن والأمانة العامة للأمم المتحدة وضغطت على الجامعة العربية أو سايرت بعض الدول فيها، فإنها تبقى حريصة على ألا تتجاوز دائرة اللغو والايحاء بالحركة.

[[[

قد يكون هناك صحة في بعض ما كتبه المحللون وما سطّره الديبلوماسيون في تقاريرهم عن المرحلة السابقة، لكن أجد نفسي الآن أقرب إلى الاقتناع بأن وراء التصعيد الكلامي والعنف الدموي والحشود الدولية قضايا حقيقية تستحق التوقف عندها بالدراسة والتدقيق. ودوافعي هي:

أولا، كتب فلاديمير بوتين في صحيفة «الشعب» الصينية عشية زيارته الأخيرة لبكين مقالا بتوقيعه جاء فيه أنه « بدون مراعاة مصالح روسيا والصين ومشاركتهما المكثفة لن تسوى قضية في العالم ولا شيء سيتغير». هذا المقال حمل أكثر من إشارة، لأنه يصدر لمناسبة زيارة الصين، فضل فلاديمير بوتين القيام بها على الاستجابة لدعوة من أوباما للمشاركة في قمة الثمانية في كامب ديفيد. نذكر أن هذا الغياب من جانب الرئيس بوتين أثار تكهنات عدة، عادت فظهرت من جديد لمناسبة تصرفات غير عادية لبوتين وباراك أوباما أمام كاميرات التصوير في قمة العشرين التي انعقدت الأسبوع الماضي في منتجع لوس كابوس في المكسيك. بدت تصرفات الرئيسين كما لو كانت تؤكد أن خلافات الرأي تجاوزت حدود التمترس والتصلب من جهة وحدود اللغو والتهييج اللفظي من جهة أخرى إلى سباق أو صدام حول مصالح حقيقية. تشير تقارير إلى حاجة بوتين إلى زيادة كبيرة في علاقات روسيا التجارية مع أميركا بخاصة، وتربط هذا بمقال نشرته السيدة كلينتون قبل أيام قليلة عن تفهمها لهذه الحاجة الروسية.

ثانيا، تأكدت أطراف عربية وأخرى في الغرب من أن المصلحة الروسية تتعلق هذه المرة بمسألة بالغة الأهمية، وهي حاجة روسيا في ظل ولاية جديدة لبوتين، إلى إستعادة مكانة لائقة كدولة عظمى في النظام الدولي.. سمعت مسؤولين عربا يتبادلون الاعتراف بأنهم ربما أخطأوا في تقدير حقيقة الموقف الروسي من الأزمة السورية. أذكر كيف أن بعضهم تعامل مع روسيا بخفة مدهشة، تحت تصور أن روسيا تساوم للحصول على صفقة سلاح أو دور عادي في تسوية مشكلة. دار في أذهان هؤلاء أن الاختلاف بين موقف روسيا من ناحية ومواقف الدول العربية وأميركا من ناحية أخرى، أن الأول يعكس نيات انتهازية لتحقيق مصلحة ما بينما المواقف الأخرى تعكس مبادئ أخلاقية.

ثالثا: الأزمة الراهنة في سوريا ليست المرة الأولى التي تتحول فيها سوريا من لاعب إقليمي أساسي إلى ساحة يلعب فيها لاعبون أكثرهم غير مدعوين للعب. حدث شيء شبيه خلال الحرب الباردة العربية في عقد الستينيات من القرن الماضي ودفعت سوريا والأمة العربية، ومصر بخاصة، ثمنا فادحا لمشاركتها في هذه الحـرب الــباردة التي انتهت حربا عربية إسرائيلية ساخنة. كانت الحرب الباردة العربية درسا للقيادة السياسية السورية، جعلها تتمسك بدور اللاعب الأساسي وإن بدرجات متفاوتة من النجاح والفشل، وهو الدور الذي حرصت على ممارسته منذ العام 1976 حتى 2005، حين أجبرت على سحب قواتها من لبنان.

رابعا: يشعر السياسيون الروس بأنهم استُدرجوا « كالمخدرين» إلى الحل الذي صاغته الدول الغربية ونفذته في ليبيا. بوتين لن يسمح لبلده بأن تقع في الفخ مرة أخرى خصوصا بعد أن تأكد من أن المجموعة التي خططت للحل في ليبيا، وهو الحل الذي انتهي بفوضى، هي نفسها التي تخطط لحل في سوريا.

خامسا: يتحدث بعض الديبلوماسيين الروس عن التزام روسيا بموقف توافقت عليه مجموعة الدول الناهضة المعرفة باسم «بريكس». يقضي هذا الموقف بضرورة إثبات حق المجموعة في المشاركة في قيادة النظام الدولي واستعادة نوع من التوازن إلى العلاقات الدولية.

سادسا: يعترف سياسيون روس بأن موسكو تريد أن تطمئن على استمرار امتيازاتها وتسهيلاتها البحرية في منطقة ميناء طرطوس، وتسعى للحصول من المعارضة السورية، عند توحدها، على وعود تضمن لروسيا استمرار «خصوصية « علاقات سوريا بروسيا. لذلك أتصور أن موسكو لن تشجع أي حل لا يحقق لها فرصة أن يشترك في نظام ما بعد الأسد فريق أو ائتلاف مقتنع بأهمية العلاقة الخاصة مع روسيا.

[[[

أتفهم، لكن مع التحفظ الشديد، العناصر غير الملموسة وراء الموقف الروسي في الأزمة السورية. أتفهم حاجة فلاديمير بوتين لإثارة النعرات القومية لدى الشعب الروسي وفي الوقت نفسه ابهار الروس بعودة الدول الكبرى للوقوف على أبواب موسكو متوسلة حلا لأزمة دولية.

أتفهم أيضا اقتناع المسؤولين في الكرملين على ضوء تجارب الربيع العربي ببطلان الشعار الذي ترفعه الدول الغربية والجمعيات الحقوقية والقائل بأن سقوط الطاغية يعني بالضرورة وتلقائيا نهاية أزمة. بمعنى آخر تؤمن موسكو بأهمية العثور على النظام البديل لنظام الاستبداد والاطمئنان إليه قبل الانخراط في تدخل عسكري وسياسي واسع.

السفير

الخميس

انان يقامر مع بوتين على مستقبل سوريا

جيم هوغلاند

يتوجب على كوفي انان عقد صفقة مع الشيطان لإنهاء الأعمال الوحشية المرتكبة من قبل الجيش السوري. و لكن في نظر أنان فإن هذا الشيطان ليس بشار الأسد و إنما فلاديمير بوتين.

هذا ما يسعى أنان الذي قابلته منذ أربعة عقود في أفريقيا لإنجازه عبر الخوض في هذه الاستراتيجيه المحكومة بالفشل و المرتكزة حول الرئيس الروسي.

الامين السابق للأمم المتحدة لا يمكن اعتباره واحداً من المواطنين المخلصين الذين يؤمنون بوعود الأسد الفارغة, بل هو يعمل على إطالة مهمة الامم المتحده بهدف توفير الحبل الأمثل للأسد ليشنق نفسه به. انان ينتظر الوقت الذي سيكون فيه حتى بوتين خجلاً من نفسه لعدم قدرته على إيقاف الجرائم ضد الإنسانية التي يقودها محميه في دمشق, تلك المجازر التي عن طريقها أصبح الأسد رجله هناك. و تلك الصور المتلفزة لسفير روسيا في الامم المتحدة يكرر فيها رفع يده بالفيتو الروسي ضد أي قرار ضاغط على الأسد يؤسس لرابطة تاريخية لم تكن لتوجد لولا هذه الظروف.

هناك اوقات لا بد للمهانة ان تتضح فيها…لا بد أن تتعامل فيها مع الشيطان و لكن يجب التيقن من ان شيطانك هذا قادر على تقديم ما تريد, و هذا ما اعتقد ان صديقي انان سيخسر رهانه بسببه. حتى ولو كان بوتين قادرا- و هو لشرط غير جازم أبداً بحيث أشك جداً بحدوثه- على إجبار الأسد على التخلي عن القوة لينقذ نظامه فإن هذا سيتسبب بفرار عشيرته “العلويه” من حوله.

إنه البديل اليمني على الطاولة بعد توظيف استراتيجية الولايات المتحدة في دفع علي عبدالله صالح للتخلي عن الرئاسة في شباط.

إن أعقد التسويات التي سمعت بها سوف تعمل على موافقة كل من الولايات المتحدة و روسيا على تكليف مجموعة من كبار الضباط السوريين المعقولين لاستلام زمام الامور. هؤلاء الضباط سيعدون بدستور جديد و انتخابات لإحلال السلام مع معارضين كانو يجرمون بحقهم على مدار ثمانية عشر شهراً. و لكن قبضة بوتين القوية في طريقها إلى التآكل داخل منزله الروسي حيث الوضع الاقتصادي يتعثر يوماً بعد يوم و لم يبد هو أية إشارة فيما إذا كان يعلم ماذا سيفعل حيال ذلك. و مع كل خيبات الامل و الخسارات التي تتعرض لها سياسة اوباما الخارجية, فهو أمر ضروري إلى جانب غياب أية مبادرات روسية حثيثة خلال عقد من الزمن فيما يخص السياسة الدوليه فلا احد يصغي بجدية إلى بوتين في الشؤون الدوليه, ولا حتى الديكتاتوريون الملطخة ايديهم بالدماء و الذين يستخدمون أسلحة الدولة الروسية للبقاء في السلطة, ولا حتى آية الله في إيران التي تواصل طموحاتها النووية.

فلا بد ان ما أوصل انان إلى التمسك ببدائل بوتين هو إما إحساسه بالفشل و الإحباط أو المفارقات التاريخية. و إن كان الإحباط, فهو ينبثق من حقيقتين وحشيتين واضحتين الآن:

    الأسد الآن هو في مهمة حملة الأعمال الوحشية الدموية و وضعه الداخلي ضعيف جداً بحيث لا يسمح لأي أحد آخر بالمضي قدماً في تلك المهمة بينما رحيله إلى روسيا هو شيء أساسي لإيقاف القتل.

    الولايات المتحدة الأميركية, أوروبا و تركيا و الجامعة العربيه لن تتدخل عسكرياً لإيقاف تلك القبضة الدموية للأسد عبر تطبيق مسؤوليات مجلس الامن في حماية المواطنين و التي اتخذت مع نتائج وخيمة في ليبيا. ( تركيا هي اللاعب الأساسي في تحديد فيما إذا كان التدخل الإنساني سوف ينجح مع الجارة سوريا, ولكن الحكومة المدنية في أنقرة لا تثق بولاء جيشها بشكل كامل لتحمله المزيد من المسؤوليات).

انعدام المسؤوليه تجاه الدمار الذي لحق بحمص و إدلب و آثارهما سيشكل ضربة جديدة لسمعة انان الذي كان له الدور الفعال في جعل الأمم المتحدة تتبنى تلك المبادئ عام 2007 في أن الدول لا يمكنها ضمان حصانتها عندما تبدأ بإيذاء مواطنيها.

“لن يستمر كوفي في تقديم الغطاء للآخرين” هذا ما اخبرني به أحد الدبلوماسيين الأوروبيين “فاستقالته ستري العالم بأكمله و بوضوح ما تفعله روسيا , و ما لا تفعله أميركا مما يثبت تورطهما هما الإثنتان في قتل الشعوب. ولكنه يعلم في نفس الوقت بأن استقالته تلك هي عبارة عن مسدس بطلقة واحده”. و بالنسبه للمفارقة التي تحملها بدائل بوتين, فإن الروس لديهم الخبرة الكافية فيما يخص الثورات المضادة و التي يقمعها الأسد الآن بوحشية, فقد كان بوتين هو من كشف النقاب عن الثورة الروسية الثانية عام 1990 و التي بدت حينها كرسول استقرار و حرية للشعوب المضطهدة في العالم. و لكن عوضاً عن ذلك فقد أصبحت تلك الثورة المضادة قوة سياسية مهيمنة في وقتنا الحالي و الذي تفجرت فيه الأحداث في أوكرانيا, روسيا البيضاء, اليمن, مصر و سوريا. في حين ما زالت السياسات الانتقالية مستمرة في كل من تونس و ليبيا حيث انبثقت نظم استبدادية  جديدة في تلك المناطق لإخماد و إنهاء ثورات الحرية التي وعدت بها سابقاً.

كما في الفيزياء, ففي السياسة أيضاُ لكل فعل رد فعل. المعارضة السورية الشجاعة تخط القانون الدولي بالدماء من اجل ان تتوضح الرؤية للجميع و الإنجاز الأبرز لأنان يمكن تبيانه عبر متى؟ و كيف؟ سيقرر إنهائه.

كاتب و محلل في السياسة الخارجية

ترجمة كلنا شركاء

 واشنطن بوست

الثلاثاء

رهان أنان على بوتين مقامرة بمستقبل سوريا

جيم هوغلاند

لم يعد أمام كوفي أنان سوى أن يعقد صفقة مع الشيطان من أجل وضع حد لتلك الفظائع البشعة التي يرتكبها الجيش السوري، إلا أن هذا الشيطان في نظر أنان هو فلاديمير بوتين، وليس بشار الأسد. وهذا هو ما يسعى أنان، الذي التقيت به لأول مرة في أفريقيا قبل 4 عقود، إلى تحقيقه من خلال انتهاج استراتيجية مستميتة تتركز حول الرئيس الروسي المستدام.

والأمين العام السابق للأمم المتحدة ليس غرا ساذجا حتى يصدق تلك الوعود الفارغة، التي يقدمها الأسد، بل هو يحاول إطالة أمد بعثة إرساء السلام الفاشلة التي كلفته بها الأمم المتحدة من أجل منح الأسد الحبل الذي يشنق به نفسه، بمعنى أن أنان ينتظر اللحظة التي لا يكون فيها بمقدور أحد، حتى بوتين نفسه، أن يطيق عار تقديم العون والمشاركة في تلك الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب بأوامر من ربيبهم في دمشق (ذلك أن المذابح السورية هي ما جعل من الأسد رجل بوتين في دمشق، وما تعرضه شاشات التلفزيون من مشاهد تصور سفير روسيا لدى الأمم المتحدة وهو يصوت أكثر من مرة لإعاقة فرض ضغوط على الأسد تشكل رابطا في التاريخ ما كان سيوجد في أي ظرف آخر).

وهناك مرات تضطر فيها إلى التعامل مع الشياطين، على الرغم مما في ذلك من تنازل ومذلة، ولكن لا بد أن تكون واثقا من أن شيطانك سوف يلتزم بكلمته، وهذا في رأيي ما سيقود الرهان الذي قام به صديقي أنان إلى الفشل، فحتى إذا التزم بوتين بكلمته (وهو أمر مستبعد إلى حد كبير)، فأنا أشك في أن يجبر الأسد على التخلي عن السلطة إنقاذا للنظام الذي تسيطر عليه طائفته العلوية.

وهذا هو «البديل اليمني»، وهو المصطلح الذي سمي على غرار الاستراتيجية التي استعملتها الولايات المتحدة للمساعدة في خلع علي عبد الله صالح من السلطة في شهر فبراير (شباط) الماضي. وقد كان أعقد الحلول التي سمعتها هو أن تتفق الولايات المتحدة وروسيا على قائمة من الجنرالات السوريين المقبولين كي يتولوا السلطة، وأن يتعهد هؤلاء الجنرالات بوضع دستور جديد وإجراء انتخابات من أجل التوصل إلى سلام مع خصومهم الذين دأبوا على قتلهم بطريقة ممنهجة طيلة 18 شهرا.

إلا أن قبضة بوتين الممسكة بالسلطة داخل روسيا بدأت تضعف، في ظل تعرض بلاده لهزة اقتصادية، وعدم وجود أي بوادر توحي بأنه يعرف ما ينبغي فعله حيال ذلك. وعلى الرغم من كل النتائج المخيبة للأمل ونقاط الضعف التي يمتلئ بها سجل السياسة الخارجية للرئيس أوباما، فهو يبدو قويا ومسيطرا في ظل غياب أي مبادرات روسية جادة على الساحة السياسية العالمية منذ 10 سنوات، ولم يعد هناك من ينصت جديا إلى بوتين فيما يتعلق بالشؤون الدولية، حتى الطغاة الذين تلطخت أيديهم بالدماء، والذين يستعينون بالأسلحة التي تزودهم بها بلاده من أجل البقاء في السلطة، أو آيات الله الإيرانيين الذين يسيرون وراء طموحاتهم النووية.

إن شعور أنان باليأس، أو بالمفارقة التاريخية، هو الذي قاده إلى بديل بوتين. وقد يكون مبعث هذا الشعور باليأس حقيقتين قاسيتين أصبحتا واضحتين الآن، وهما:

– يتحمل الأسد شخصيا المسؤولية عن حملة الأعمال الوحشية الدموية. يبدو موقفه الداخلي في غاية الوهن على نحو لا يسمح لأي شخص آخر بتولي المسؤولية. يعتبر رحيله إلى موسكو مهما لإنهاء القتال.

– لن تتدخل الولايات المتحدة وأوروبا وتركيا وجامعة الدول العربية عسكريا لردع وحشية الأسد بتفعيل مبدأ مسؤولية الحماية من جانب المجتمع الدولي، الذي طبق بفاعلية كبيرة في ليبيا (تعتبر ليبيا هي العامل الرئيسي في تحديد ما إذا كان التدخل الإنساني يمكن أن ينجح في دولة سوريا المجاورة أم لا. غير أن الحكومة المدنية في أنقرة لا تثق في ولاء جيشها بالدرجة الكافية لتفويض مسؤوليات جديدة إليه).

إن طمر مبدأ مسؤولية الحماية في حطام حمص وإدلب سيكون بمثابة ضربة موجعة لسمعة أنان. لقد قام أنان بدور فاعل لدفع الأمم المتحدة لتبني المبدأ في عام 2007 إلى حد أنه لا يمكن للدول إساءة معاملة مواطنيها مع التمتع بالحصانة.

خاطبني دبلوماسي أوروبي هنا قائلا: «لن يستمر كوفي للأبد في منح الحماية للآخرين». وأضاف: «قد تسمح استقالته للعالم بأن يدرك جليا ما تفعله روسيا (وما لا تفعله الولايات المتحدة) وهذا يجعلهما شريكين في إبادة أمة. لكنه يعي أيضا أن الاستقالة هي بندقية بها رصاصة واحدة فقط».

أما عن المفارقة التي ربما تشكل أساسا لبديل بوتين، فهي أن بوتين يعتبر خبيرا في الثورة المضادة، التي يشنها الأسد بوحشية. كان بوتين هو من قضى على الثورة الروسية في عام 1990، التي بدت وكأنها تفتح صفحة حقبة جديدة من الحريات واسعة النطاق للمضطهدين في العالم.

لكن أصبحت الثورة المضادة هي القوة السياسية المهيمنة في عصرنا، مثلما أظهرت الأحداث في أوكرانيا وبيلاروسيا واليمن ومصر وسوريا. بينما يبقى التحول السياسي غير مكتمل في تونس وليبيا، فقد ظهرت مجددا أنظمة استبدادية في مناطق أخرى لقمع الحريات التي قد وعدت بها الثورات.

لكل فعل رد فعل، في السياسة أيضا كما في الفيزياء. تشير المعارضة الشجاعة في سوريا إلى أن القانون العام يعد جزءا أساسيا من تكوين كل من لهم أعين يبصرون بها. ربما يتحدد أهم إنجاز لمهمة أنان بالوقت والكيفية التي يقرر إنهاءها بها.

* خدمة «واشنطن بوست»

الشرق الأوسط

السبت

روسيا الممانعة

محمد ابرهيم

ليس صعباً الوصول في اطار “مجموعة العمل لسوريا” الى صيغة توافق لفظي على تطوير خطة انان لحل الازمة السورية. ومثلما امكن احباط مهمة المراقبين الدوليين، في الخطة الاصلية، يمكن احباط فكرة حكومة الوحدة الوطنية التي تتولى الاشراف على المرحلة الانتقالية، في الخطة المطوّرة.

 غياب التوافق الدولي، الفعلي لا اللفظي، على تصور مشترك للحل في سوريا اساسه ما بات يوصف بالتوازن الدولي الجديد، الذي ينسب الى فاعلية مستجدة للدور الروسي على الصعيد العالمي. والتي تنسب بدورها الى الرئيس الروسي، القديم-الجديد، فلاديمير بوتين.

بعض التحليلات يذهب الى ان المرحلة الممتدة من سقوط الاتحاد السوفياتي، الى ما بعد غزو العراق، انتهت الى غير رجعة، واننا بتنا امام مرحلة جديدة فيها، على الاقل، بعض ملامح الحرب الباردة السابقة.

والحقيقة ان التصميم الروسي على احباط كل صيغ الحل الغربية لسوريا، يسمح بمثل هذه الاستنتاجات، وخصوصا مع وصول التغطية الروسية للنظام السوري الى حد تغطية اسقاطه الطائرة التركية. فبينما كان المنتظر تصاعد التدخل العسكري التركي في سوريا، اذا بنا امام “رغبة” سورية بمواجهة عسكرية مع انقرة. لكن هناك فرق كبير بين توازن دولي مستجد بسبب عوامل داخلية روسية، وتوازن مستجد بسبب عوامل داخلية غربية، اميركية خصوصا. فالذي يجعل المشهد الدولي يذكر بأساليب الحرب الباردة اساسه تبدد في الحيوية الاميركية في ما يتعلق بالدور الخارجي، وخصوصا جانبه العسكري.

لسنا امام اختبار للرد الروسي على نزعة تدخلية اميركية كالتي شهدناها في العقد السابق على نهاية الحرب الباردة والعقدين اللاحقين لها، وخصوصا في ظل رئاسات رونالد ريغان وجورج بوش، الاب والابن. نحن امام استثمار روسي للإنهاك الذي اصاب النزعة التدخلية الاميركية بوجهها العسكري بعد افغانستان والعراق. ولا شيء في الاوضاع الروسية الداخلية يشير الى قدرة على المواجهة، بالاساليب نفسها، اذا ما تجددت النزعة العسكرية الاميركية في مستقبل غير بعيد.

من المؤكد ان روسيا، ايا تكن طبيعة المرحلة التي تمر بها الولايات المتحدة، انكفائية ام تدخلية، لن تعود الى سياسة منح شرعية المؤسسات الدولية للسياسة الاميركية الخارجية، لكن هناك مسافة كبيرة بين ذلك وبين التصدي العملي لقرارات التدخل المنفرد الاميركي، او مع الحلفاء، او دعم اميركي لسياسة تدخلية للحلفاء.

لذلك كان المسؤولون الروس حريصين دائما في تصريحاتهم على التمييز بين التصدي للغرب في الامم المتحدة والتصدي له في “الميدان”. ففي الحالة الاولى كان الشعار “لن يمروا” اما في الثانية فكان التحذير من العواقب الكارثية فقط.

النهار

سوريا وروسيا: مَن يخوض معارك الآخر؟

مالك ابي نادر

 ما الذي جعل دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة وأوروبا تتبنى خيار اطاحة بشار الاسد على الرغم من الاقتناع بأن بديله لن يكون الا الاسلام المتشدد على شاكلة “الاخوان”.

ما هي مسببات الكره الخليجي وخاصة القطري والسعودي لنظامٍ رافقوا تكّونه ورعوا دوره وشكلوا له في ما مضى غطاءً عربياً واسلامياً في وجه الاستهدافات الاقليمية والدولية على مدى اربعين عاماً؟

وعطفاً على هذه التساؤلات المشروعة يبرز سؤالٌ اكبر، ما سر الدفاع المستميت من قبل روسيا اليوم عن هذا النظام؟ وهل سيذهب محور “البريكس” بواجهتيه الروسية والصينية في الدفاع عن بقاء الاسد الى ما يزيح عنه خيار السقوط، وارضاء المعارضة والتحالف الداعم لها ببعض المكاسب الانية؟

فما هو سر هذا الدعم الروسي وما مدى ارتباط الازمة السورية بالتوازن الدولي الامر الذي اجبر روسيا والصين على استعمال الفيتو في مجلس الامن في وجه خطط اميركية واوروبية وخليجية في الوقت الذي امتنعتا فيه عن اللجوء الى هذه الورقة الا في الازمات التي  تطول احداهما مباشرةً؟

يذهب كثيرون الى القول بأن روسيا تكافح ليبقى لها مرسى سفينة على البحر المتوسط الامر الذي حلمت به منذ العهد القيصري، وجاء نظام البعث ليوفر لها محطةً بحريةً في طرطوس. وذهاب البعث بواسطة الادوات المطروحة اي الاسلاميين، سيسحب من يدها هذه الورقة  المهمة على الصعيد الاستراتيجي في الشرق الاوسط القريب من الشواطىء الاوروبية الجنوبية وشمال افريقيا.

قد يكون هذا صحيحاً ومشروعاً ولكن ما عرضه عرابو الثورة السورية على روسيا من تطمينات لضمان هذه البرتوكولات، على غرار تعهد الاخوان بالحفاظ على اتفاقية “كمب ديفيد” بين مصر واسرائيل، لم تقبل حتى بمناقشته، لا بل قابلته بالتشدد بدعم الاسد سياسياً وعسكريا وخوض معاركه الديبلوماسية الدولية كأنه احدى جمهوريات الاتحاد الروسي.

وما هي الاسباب التي تجبر روسيا على التضحية بعلاقاتها مع دول الخليج العربي الغني بالاستثمارات والاسواق الاستهلاكية، وما رفضته من عروض تجارية واستثمارية خليجية مغرية، من اجل حليفٍ تَعمَدُ كل اعوام عدة الى اعفائه من مليارات كثيرة ثمن الاسلحة المتطورة التي تمده بها ليحافظ على التوازن مع اسرائيل؟

لقد رسمت قضية الدرع الصاروخية خط تحولٍ واضحٍ وعلني في عودة الحرب الباردة بين روسيا واصدقائها من تحالف الدول النامية او “البريكس” والعالم الغربي، فالقدرات الاقتصادية لهذه الدول ومقدرتها على دخول اسواق استهلاكية على حساب الدول الغربية لا بل اختراقها للاسواق الداخلية لهذه الدول اجبرت العالم الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة على السعي لمنعها من الاستحواذ على الحصة الاكبر من التجارة العالمية بكل السبل المتاحة.

تأتي روسيا في المرتبة الاولى لانتاج النفط والغاز عالمياً فهي تنتج حوالى 11 مليون برميل يومياً تستهلك منها حوالى مليونين ونصف المليون وتصدر الباقي بالاضافة الى حوالى 500 مليون متر مكعب يومياً من الغاز، ومعظم هذه الكميات تذهب الى اوروبا ما يشكل حوالى 60 في المئة من حاجة الاوروبيين اليومية. ولم يتأخر الروس عام 2008 عن الاشارة الى ان اهم اسلحتهم في وجه الدرع الصاروخية سيكون التحكم بانسياب النفط والغاز.

الا يعتبر هذا تهديداً للمكانة الاقتصادية لهذه الدول عالمياً؟ وتالياً، الا يقضي نزع هذا السلاح من اليد الروسية على نموها الاقتصادي وبالتالي على دورها ومكانتها العالمية المستجدة؟

في المقلب الآخر تجهد دول الخليج العربي في مجابهة التهديدات الايرانية لدورها السياسي ومكانتها الاقتصادية، التي تأخذ اشكالاً عدة منها المزايدة في الملف الفلسطيني ودعم الاقليات الشيعية وبناء قوة عسكرية تعيد لها دوراً فارسياً عريقاً فقدته. واحدى ادوات هذه التهديدات هي الايحاء بأن لمضيق هرمز، الذي يمر عبره حوالى50 في المئة من نفط الدول الخليجية، دورا سياسيا وامنيا سيستعمل عندما تدعو المصلحة الايرانية ذلك.

الا يحق لهذه الدول المنتجة وتلك المستهلكة، ان تسعى لاضعاف الدور الايراني المتصاعد الذي يشكل تهديداً بنيوياً لها من خلال تأمين مسارب اخرى لنفطها بعيداً عن التهديد الايراني؟

من هنا اتت  مصلحة دول الخليج والاوروبين والولايات المتحدة في مد انابيب الغاز والنفط من حقول انتاجها مروراً بالاردن وسوريا وتركيا وصولاً الى اوروبا فيستغني الاوروبيون بذلك عن الطاقة المستوردة من روسيا وتصبح ورقة مضيق هرمز ورقة ضد المصالح القومية الايرانية، وتصبح الصادرات الايرانية تحت رحمة القوى التي تستطيع السيطرة عليه. الامر الذي يؤدي الى انهاء دورها الاقليمي وتحجيمها وربما اسقاط نظامها.

يحكى ان قطر والسعودية  وتركيا  فاتحت الاسد بهذا السيناريو الذي يستوجب ان تنخرط فيه سوريا لانها الممر الاجباري، خاصة بعد تعاظم الدور الايراني في العراق، فعارضه رافضاً ان تكون سوريا اداةً لاستهداف روسيا وايران، وسعى بعد ذلك مع ايران لاقامة “التحالف الاستراتيجي”  المؤلف من ايران والعراق وسوريا ولبنان، والذي يلحظ في المقابل خطاً يوصل النفط والغاز من ايران والعراق الى شواطىء المتوسط باسعارٍ منافسةٍ فتنقلب بذلك الخطة الخليجية لتحييد ايران الى خطة ايرانية – عراقية- سورية للقضاء على القدرة التنافسية للنفط الخليجي الامر الذي يؤدي الى تعاظم الدور الايراني خاصة بعد دخوله النادي النووي الدولي.

اذا هي لعنة النفط  التي تفسر هذا الانخراط العربي والدولي في معركة سوريا، فالمعركة ترتدي الطابع المصيري لكل من دول الغرب والدول الخليجية وايران وروسيا. وهزيمة الاسد تعني ان خط النفط الخليجي  سيصل الى اوروبا التي سرعان ما ستتخلى عن النفط الروسي الامر الذي سيرتب مضاعفات وتداعيات تؤثر على التوازنات الدولية لانه سيقضي على الدورين السياسي والاقتصادي لروسيا . وستزول القيمة الجيوسياسية لمضيق هرمز بما يسمح  لاميركا ان تتحكم بالسياسات الايرانية والعراقية.

النهار

السبت

صنع في روسيا

معتصم صالحة

روسيا هذا البلد الجميل الفسيح والمليء بالتفاصيل الكثيرة الهامّة بالنسبة لنا والغير معروف بالنسبة للكثيرين منّا إما بسبب البعد الجغرافي أو بسبب عدم الإهتمام أو التعتيم الإعلامي. زرته الشهر الماضي وعشت فيه ثلاثة أسابيع. كانت الزيارة تجربة مذهلة ومفاجئة في ما قدمته لي من حقائق معرفية عرَّت لي الواقع الذي عشته وما زال يعيشه كل من يحيا في سوريا. الآن و بعد هذه الزيارة أستطيع فهم كيف أخذ هذا النظام الحاكم شكله الحالي.

هذه الملاحظات البسيطة التي التقطتها وسجّلتها هي مجرد إشارة إلى آلاف الصور التي شاهدتها في تلك البلاد والحالات المختلفة التي عشتها خلال تلك الزيارة وقد تعطي فرصة لبلورة فهم بعض مما نحن عليه وصورة عن تلك العوالم البعيدة – القريبة. روسيا عالم وكتاب شيّق تلحظ اختلافه حالما تصل حدوده لتبدأ بقراءة أولى صفحاته المخيفة حيناً والشيّقة في معظم الأحيان.

تمشي في شوارعها عدا عن زحمة السير الخانقة والغير منظمة أحياناً تشعر وكأنك في أوروبا شعب حضاري مؤدب وخلاق يعتز بنفسه وهويته ويحب بلده روسيا كثيراً جداً.

ولكن عندما تذهب إلى أية دائرة حكومية أو تتعامل مع أي موظف في الدولة تشعر وكأنك في سوريا. بمعنى الموظف يعاملك باحتقار وعنجهية وفوقية وكأنه يمننك دائماً بأنه يقدم لك خدمة مجانية. وتشعر بأنه جاهز لتلقي الرشوة ليحظيك بمعاملة خاصة وطبعاً الفساد ينخر كالسوس في كافي أنحاء هذا الجسد الروسي.

عندما وصلت إلى مركز الحدود الروسي بين روسيا وفنلندا تذكرت مركز الحدود السوري اللبناني عندما كنت أسافر إلى لبنان. ترى النجمات على أكتاف الضباط في المراكز الحدودية تماماً وكأنك في المركز السوري الحدودي, الفارق البارز هو ان النسبة الأكبر من العاملين أينما ذهبت هنّ نساء.

إذا ما أردت التجول في الشارع يجب عليك أن تحمل جواز سفرك حتى ولو كنت روسياً لأنه ربما يوقفك شرطي ويطلبه منك. وإذا أردت أن تسافر بالقطار يجب عليك أن تبرز جواز السفر لكي تقطع التذكرة هذا أولاً ثم يأتي موظف إليك وأنت في القطار للتحقق من التذكرة وموظف للتحقق من جواز السفر والتذكرة قبل أن تصعد. في بريطانيا حيث أعيش ممنوع على الشرطة أو أي جهاز أمني أن يطلب منك أن تبرز هويتك أو أية ورقة رسمية إلا إذا كان يلاحقك خصيصاً بتهمة ما أو إذا ما ارتكبت مخالفة ما.

الخدمة العسكرية ما زالت إجبارية ولكن عندما استقصيت عن الموضوع وماذا يفعلون بهذه الأعداد الكبيرة من الجنود (عدد سكان روسيا 143 مليون نسمة) قيل لي بأن الأكثرية تحاول التهرب من الذهاب إلى الخدمة الإلزامية بأن تؤجل أي تعامل رسمي مع الدوائر الرسمية إلى أن يبلغ الشاب ال 25 حيث يعفى من الخدمة العسكرية الإلزامية بحسب القانون الذي ينص على ذلك. على الرغم من حبهم الكبير لروسيا الكل يكره الذهاب إلى الجيش ليس كرهاً بالجيش بحد ذاته مع أن الكثيرين ربما – يفعلون ولكن بعد سؤالي عن السبب قيل لي: ‘لأنك سوف تعمل أجيراً أو تبني منزلاً لضابط متنفّذ’. وهذا تماماً ما يحدث في سوريا.

كنت في سهرة في مدينة سانت بطرسبورغ مع مجموعة من الأصدقاء الأوروبيين والروس تأخرنا وعندما خرجنا أردنا أن نأخذ تكسي لنعود إلى الفندق. فتوجهت إلى سيارة تضع إشارة تكسي. فأمسك بي أحد الأصدقاء الروس وقال لي: ‘هذه سيارة أجرة نظامية لذلك سيكون الأجر مرتفعاً’. وعندما اسفسرت منه عن الموضوع قال لي بأن هناك سيارات خاصة تعمل كسيارات أجرة خلال الليل بنصف تكلفة السيارات العمومية. وفعلاً أوقفنا إحدى هذه السيارات وعدنا بها بنصف الكلفة.

مدينة سانت بطرسبورغ أجمل المدن الروسية التي رأيتها. لها خصوصية فريدة في كل شيء وخصوصاً في فنية الهندسة المعمارية. وتلاحظ تلك العلاقة الوثيقة بين هذه الهندسة المعمارية في المدينة والفنون الأخرى كالنحت والديكور والرسم والألوان الزاهية التي تطلى بها جدران الكنائس والكاتدرائيات في المدينة. كل شيء يبدو منسجماً إلا تلك المباني التي شيدت في زمن الاتحاد السوفييتي فتبدو نشازاً.

سعر المحروقات في روسيا, (بنزين- مازوت …الخ) أقل بمعدل نصف ما هو عليه في الإتحاد الأوروبي.

في فنلندا, لا تشعر بأي مطب أو حفرة في الطريق وحالما تدخل إلى الأراضي الروسية لا تشعر إلا بالحُفر في الطريق.

الناس لا شكل معين يمكن ان يحدد ويعرّف أشكالهم (كالإنكليز أو الصينيين…الخ.

نساء جميلات بل من أجمل نساء الأرض وعددهم أكثر بكثير من نسبة عدد الرجال.

الروس بشكل عام يعشقون الفن بكافة أشكاله وخصوصاً الفنون التشكيلية والرقص والمسرح وينفقون على هذه الفنون بسخاء لم أجد مثيلا له حتى في أوروبا.

زرت جامعات عدة وكل من سألته وهم كثر ماذا تدرس أو تدرسين قال أو قالت لي: إما اقتصاد أو لغات صدفة ربما.

كل الأساتذة الروس الذين تكلمت معهم في أقسام اللغة العربية يتكلمون العربية بشكل مثير للإعجاب. لم أر مثيلا لهذا المستوى على الإطلاق في بريطانيا.

نادراً ما تجد شحاذاً في الطريق أو أي مكان. أمضيت ثلاثة أسابيع ولم تقع عيني على أي شحاذ بعكس اليونان التي قدمت منها لتوي بعد أن عشت فيها لمدة ثلاثة أشهر وهي تعج بالشحاذين من اليونانيين ومن جنسيات أخرى.

بلد يهوي باتجاه النظام الرأسمالي بسرعة كبيرة وشعب حيوي منفتح يعشق الحياة ويحب الآخر.

غالبية من تكلمت معهم لا يحبون فلاديمير بوتين ويرون فيه القيصر الجديد لروسيا الحديثة.

‘ كاتب سوري

القدس العربي

الأحد

موسكو والحل السوري

الياس حرفوش

يريد الرئيس السوري «حلاً سورياً» لأزمة بلاده. وتتفق معه موسكو على أن العملية السياسية في سورية يجب أن تحسم نتيجتها إرادة السوريين من دون تدخل خارجي. كلام مثالي في المطلق وينطبق على الدول التي يتاح فيها للمواطنين اختيار قياداتهم بحرية وعلى تلك التي لا تتحول فيها أجهزة الحكم إلى أدوات لقتل المعارضين لمجرد إبدائهم رأياً مخالفاً لما تقول به السلطة الحاكمة.

غير أن الوضع في سورية لا يشبه هذه الحالة ولا تلك. والغريب أن القيادة السورية، في سياق إنكارها لأسباب المأزق الذي وجدت نفسها فيه، لا تريد الاعتراف بذلك وتصر على الدعم الشعبي الذي توهم نفسها أنها تتمتع به. شاهدت باستغراب مقابلة مع مستشارة الرئيس السوري بثينة شعبان على قناة «روسيا اليوم»، التي باتت في تغطيتها للحدث السوري أقرب إلى المحطات السورية وتلك اللبنانية المتعاطفة مع نظام دمشق، في إصرارها على رواية «المجموعات الإرهابية المسلحة» التي اصبحت تضم اليوم معظم أبناء الشعب السوري، بعد امتداد ثورته إلى كافة أنحاء البلاد. اعترضت شعبان على المطالبة بإزاحة الرئيس الأسد عن السلطة متسائلة: بأي حق يطلبون ذلك من رئيس يحكم بإرادة شعبه؟ هل يجرؤون على مطالبة ديفيد كاميرون مثلاً بالتخلي عن رئاسة الحكومة البريطانية؟

الغريب أن تعليقاً كهذا لا يأتي على لسان شخص يجهل أنظمة الحكم في العالم، ولا يعرف الطريقة التي يصل بها كاميرون وسواه من المسؤولين الغربيين إلى السلطة، بل من مسؤولة درست في بريطانيا ويفترض بالتالي أن تعرف الفرق بين طريقة وصول الأحزاب إلى الحكم في هذا البلد وطريقة وصول رئيسها وحزبه إلى الحكم في سورية. بل يفترض أن تعرف أيضاً، من خلال تعاطيها مع المجتمع البريطاني، أن التظاهرات ضد توني بلير في الماضي وضد كاميرون اليوم لا تنتهي بقطع أصابع الأطفال وبسحل المواطنين في الشوارع وبتدمير بيوتهم فوق رؤوسهم. بالطبع هي تعرف. ولكن ما العمل إذا كان منصب المستشارية يقطع الطريق على الجهر بالمعرفة؟!

من الاستخفاف البالغ بإرادة السوريين، وبما يجري في شوارع مدنهم وقراهم منذ عام ونصف، أن يدعو الرئيس الأسد اليوم إلى «حل سوري» رداً على المحاولات التي تبذل لإيجاد مخرج للأزمة، يضمن بالدرجة الأولى وقف نزيف الدم السوري. ذلك أن هذا الحل خرج منذ فترة طويلة من أيدي السوريين. فالنظام هو الذي دفعهم إلى السعي إلى حلول خارجية، بعد أن واجه مطالبهم المحقّة التي دعوا فيها إلى منحهم حرية التعبير عن رأيهم في من يحكمهم، بالسلاح والقتل وتدمير المدن المنتفضة.

النظام السوري هو الذي فرض على السوريين البحث خارج سورية عن مخرج مما يصيبهم. وعندما تنادى المجتمع الدولي، مدفوعاً بهول المجازر التي نشهدها على الشاشات كل ليلة، إلى البحث عن حل يحفظ ما تبقى من مؤسسات سياسية وأمنية في سورية، ويستبعد في الوقت ذاته المسؤولين الذي باتوا عقبة في طريق المستقبل، بعد أن تورطوا في إدارة أعمال القتل، وجد في وجهه العقبة الروسية التي تدعم موقف نظام دمشق، الرافض لأي حل لا يتم تفصيله على مقاس مصلحته وبما يخدم بقاءه في الحكم، ولو فوق دماء السوريين.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى