مقالات عن موقف نصر الله الأخير من الثورة السورية
مؤشرات متجدّدة لـ “الفتنة”/ عبد الوهاب بدرخان
لعل اللبنانيين الذين أضاعوا وقتهم في مشاهدة عنتريات رفعت عيد تأكدوا من أنه لا يستحق فقط مذكرة إحضار واستجواباً في شبهة علاقته بتفجير المسجدين في طرابلس، بل يجب الحجر عليه بعد هذا المؤتمر الصحافي واللغة الساقطة التي استخدمها وقد جلس ووراءه العلم اللبناني – من غير شر!… فالأمين العام لـ”الحزب – بلا مؤاخذة – العربي الديموقراطي” ينهل من مستنقع “التشبيح” إياه الذي يروي آخرين لا يعترفون بدولة ولا بقانون، بل ينكرون عليهما الحق في كشف المجرمين والقبض عليهم.
رفعت عيد رأى أياماً أفضل في عهد الوصاية السورية، لكنه الآن غير راض عن احد، لا الجيش ولا مخابراته، ولا فرع المعلومات، لأنه بريء مفترى عليه، ثم انه ينتظر الشكر لضبطــــه مخططاً “سعوديــــــاً – صهيونياً”، كما قال، فهو صـــار مستهدفاً من أطراف إقليميين، ولم يقل لماذا تختصمه هذه الأطــــراف. فهل صـــــــار بدوره لاعبـــــــاً إقليمياً؟ بل لم يقـــــل شيئاً عـــن الذيــــن يستخـــدمــــونـــــــه مــــن اقليميين ومحليين ليكــــــون من مستدرجي الفتنـة الى لبنان.
بعد التفجيرات ومحاولات تفجير أُحبطت أو كُشفت، لا تزال تبرز مؤشرات إلى أن النظام السوري لم يتخلّ عن ورقة نقل الصراع إلى لبنان. فهو لا يكتفي بتوظيف “حزب الله” في حروبه، بل انه، بعد افتضاح دوره والدور الإيراني في استيراد تنظيم “داعش” القاعدي بات يحرّك ميليشيات أحزاب لبنانية، احدها يوصف اعتباطاً بـ”العلمانية” والأخرى مجرد احزاب معلّبة، لاختراق بيئات أقليات سورية والعمل على جرّها إلى الانخراط في الصراع رغماً عنها. وهي، هذه الأحزاب “اللبنانية” نفسها، لن تتردد في إطاعة ما تؤمر به، ويخشى أن تأتي منها الفتنة، خصوصا أن التوترات تتكاثر في مناطق كانت الى الآن بمنأى عن قطع الطرق وغيره من الاستفزازات.
صحيح أن كل هذه المحاولات لن تفيد النظام السوري ولا اتباعه المحليين، لكن تعثّر حل سياسي ظنّه في متناوله هو ما دفعه إلى استخدام السلاح الكيميائي، وما قد يدفعه الى التصعيد “نوعيّاً” باصطناع فتنة في لبنان. فعلى رغم مظاهر الثقة التي يبديها النظام، وتطمينات حسن نصرالله، واستعداد الإيرانيين لقيادة جولة عسكرية يريدونها حاسمة، هناك في التحضيرات لـ”جنيف – 2″ ما لا يريح بشار الأسد. فالروس يوسّعون اتصالاتهم على نحو لم يتوقعه. والأميركيون يتحدّثون مع الجميع، بمن فيهم الايرانيون، وعمه رفعت الأسد، بل قد يتحدّثون مع رفعت عيد، لكنهم يتجاهلونه على رغم يقينه الراسخ بأنهم لن يتخلوا عنه.
النهار
كُن «لا طائفياً» واصمت/ حسام عيتاني
تنهال حمم التهديد والوعيد على كل من يدلي برأي مختلف عما قرره ورآه «حزب الله» في لبنان، وتُفتح في وجهه ترسانة من الاتهامات والنعوت، حتى ليكاد يستحيل تصور وجود معارض محترم وشريف يناوئ الحزب.
تحفل أدبيات التنظيم منذ ظهوره العلني منتصف الثمانينات بالصفات التحقيرية لخصومه، شأنه شأن كل منظمة ايديولوجية أتتها الحقيقة الناصعة بين يديها، فلم تفلتها ولم تسمح لأحد بأن يشاركها فيها. كانت العبارات تميل الى الاستعارة من النصوص الدينية، فرؤساء الدول العربية كانوا «فراعنة»، فيما الخصوم المحليون يحتلون مراتب منخفضة بين «الكفر والفساد في الارض» (اليسار) و «الانعزال الصليبي» (أحزاب «الجبهة اللبنانية»). بعد اتفاق الطائف انكفأ الحزب عن الداخل اللبناني في ظل تقسيم العمل الذي تم باتفاق شهير بين وزير الخارجية الايراني السابق علي أكبر ولايتي والرئيس السوري السابق حافظ الاسد وأنهى «حرب الأخوة» بين الحزب وحركة «امل» التي كلفت الجانبين مئات القتلى. وانصرف الطرف الأول الى مقاومة الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان.
وفرت له المهمة هذه رصيداً لا يُنكر من الاحترام بلغ ذروته يوم الانسحاب الاسرائيلي في 2000 وتكرس بعد حرب تموز (يوليو) 2006. لكن في هذه الاثناء رحلت القوات السورية عن لبنان بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري وتُرك للحزب الدور الأبرز في ضبط الساحة الداخلية اللبنانية سياسياً وأمنياً بما لا يخرج عن «ثوابت» السياسة السورية، بعدما فشلت قوى 14 آذار (مارس) في الوفاء بوعودها الاستقلالية والسيادية.
تغيرت لهجة الحزب بعد حرب تموز وتبنى خطاب التخوين والتهديد والاستعلاء مستفيداً من الرصيد الذي منحه له دوره في قتال اسرائيل، متهماً كل متذمر من الحرب والأثمان الباهظة في الارواح والبنى التحتية التي فرض على اللبنانيين دفعها، بالتآمر على المقاومة وطعنها في الظهر. ردد خطباء الحزب اتهامات كثيرة لشخصيات في المعسكر المقابل له، تصل الى حدود التعامل الصريح والمباشر مع اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية. لم تصل أي من هذه الاتهامات الى القضاء فيما طويت القضية الوحيدة التي تشكلت للتحقيق فيها لجنة برلمانية (قضية ثكنة مرجعيون) بطلب من رئيس البرلمان نبيه بري.
ويدرج المتحدثون باسم «حزب الله» والقائمون بأعمالهم معارضي سياساته ضمن فئات طائفية وسياسية. هناك اولاً المعارضون من الطائفة الشيعية التي يسيطر الحزب على فضائها العام. ثم الذين ينتمون الى الطائفة السنية فالمسيحيون والدروز. لا يستطيع كتبة الحزب التصديق بوجود معارض لسياستهم من الطائفة ذاتها التي يتزعمونها ما لم يكن مأجوراً ومباعاً للسفارات وأجهزة الاستخبارات الاجنبية. لا يمكن قوانين الطبيعة ان تعمل إذا وجد شيعي لبناني يعترض لأسباب موضوعية على سياسة الحزب ونهجه ودفعه الطائفة الى أتون الحروب المذهبية التي تهب رياحها في المنطقة.
اضافة الى العمالة للخارج، يبرز بين السنّة اللبنانيين من تحركه احقاده الطائفية التي تعود الى ايام الخلاف بين فاطمة الزهراء وأبي بكر الصديق على ملكية فدك. حقد ناصبيّ لا أول له ولا آخر على آل البيت يتجسد هذه الايام بكراهية المقاومة وجمهورها والاستعداد للتعامل مع اسرائيل لإلحاق الاذى بـ «أشرف الناس».
المسيحيون المعارضون يجمعون الصفات السابقة، ويضيف الحزب عليها تاريخ تعامل بعضهم مع اسرائيل اثناء الحرب الاهلية كدليل لا يقبل الجدل على العطب البنيوي الذي يشوب كل من يخالفه الرأي بين المسيحيين.
ومقابل سخريته من الخلافات الواسعة بين القوى المعارضة له، فإنه يراقب الانضباط في صفوف الموالين له بعين صقر. لا يعني ذلك انه يضيق بالتباينات ضمن صفه، لكنها خلافات من النوع القائم بين طلال ارسلان ووئام وهاب، او بين هاشم منقارة وعبدالرحيم مراد. وهذه لا تفسد في الود قضية.
أصول الاعتراض على ممارسات «حزب الله» تكمن في خروجه عن الحدود المتفق ضمنياً عليها بين الطوائف. أو ما بات يعرف بـ «فائض القوة» التي يصدرها الحزب الى صعد ونواح لا تندرج ضمن «الاملاك» المخصصة لطائفته. محاولاته شق صفوف زعامات الطوائف الثانية كانت اول ما اعترض عليه السنّة والمسيحيون والدروز. ثم انتقاله من الهيمنة الناعمة الى تلك الخشنة بنشره عناصره المسلحين عندما يرى ذلك مناسباً خارج مناطق نفوذه. اطلق هذا النوع من السلوك دينامية واسعة الانتشار باتت تشمل شرائح لم يعرف عنها الالتزام السياسي مع الحزب، لكنها اكتشفت، في المشاكسات اليومية بين الجيران وفي امتناع اجهزة الدولة عن مواجهة تمدد «حزب الله»، متعة اللجوء الى القوة من دون خوف والتهديد بها.
وجلي أن اي اثارة لهذه الظواهر تقابل باتهامات جاهزة عن العمالة والحقد الطائفي والعداء للمقاومة والارتماء امام عتبات السفارات. ولا ينجو من هذه المعزوفة حتى اولئك المصرّون على الوقوف ضد طوائفهم. ولهؤلاء يقول «حزب الله»: كن «لا طائفيا» إن شئت لكن أصمت. وبلجوئه الى سياسة هجومية شرسة وعدائية، يعتقد الحزب انه يبقى في منأى عن المساءلة والنقد وعن إعمال النظر في أصوله الاجتماعية ومنظومات الولاء التي يقوم عليها.
الحياة
تُجار الدِّين في سوريا!/ سمر المقرن
في كلِّ خطاب يخرج به أمين حزب الله حسن نصر الله، ألاحظ ارتفاع نبرة صوته أكثر فأكثر، وهذا مردّه إلى التطمينات الأمريكية التي وجدها ورفيقه بشار الأسد من قِبل الإدارة الأمريكية، التي أثبتت مُمثلة بالرئيس الأمريكي باراك أوباما، أنها لن تقف في وجه جرائم النظام السوري، هذا إنْ لم تكن داعمة له كما تفعل مع ميليشيات الإخوان المسلمين في مصر!
خطاب الأمين العام لحزب الله ليلة عاشوراء، والتي يُفترض أنها مناسبة دينية شيعية، خرج فيها بشكله السياسي في خطبته، وهذا دليل أردت إيضاحه على أنّ (الإسلام السياسي) لا يختص بجانب السنّة فقط، إنما هو أيضًا في الجانب الشيعي، وكلا الفريقان يعملان على دغدغة المشاعر الدينية للناس وتمرير أجندات سياسية من خلالها، لنخرج بوضوح في معنى (تُجار الدين)، حيث يتجسّد هذا في نصر الله وأسلوبه واستخدامه للأحداث الدينية والسياسية، ليرفع صوته أكثر وأكثر متحدّيًا العالم في قتل الشعب السوري، الذي باتت أخبار موته ودمائه أمرًا عاديًا في مجتمعات استمرأ سمعها وبصرها على هذه المشاهد، التي يشترك فيها نظام الأسد وحزب الله والقاعدة تحت لواء إيران في قتل سوريا والسوريين.
أما تأكيد نصر الله في خطابه “العاشورائي” على بقاء قواته في سوريا، فهو يتحدث بثقة بالغة، فبرغم أنّ دخول ميليشياته إلى سوريا عمل مُحرّم دوليًا، إلاّ أنّ سكوت المجتمع الدولي على هذه المهزلة، وتطمينات الرئيس الأمريكي لهذه الميليشيات بعدم ورود فكرة أي تدخل دولي لإيقافها، هو ما جعل الثقة تتعزّز في كل خطاب لنصر الله أكثر من سابقه.
إنّ نصر الله وبقية جوقة الخطاب الطائفي الشيعي أو السنيّ، هم مجرّد أدوات لإثارة النعرة الطائفية، لتأجيج النار في شِعاب العروبة وتدمير هذه الأوطان المتوائمة والمتعايشة بكل مكوّناتها، فلو لاحظنا خطاب المتاجرة بالدين (الشيعي) نجده يمضي على غِرار طائفي مقيت، ومثله خطاب المتاجرة بالدين (السنّي) فكلاهما يستهدف عقائد بعضهما البعض لإشعال النار، وليس بالتركيز على الخلاف والمشكل السياسي، وهنا يظهر استخدام الدين في كلِّ هذه المحافل الدامية لكلِّ فريق.
حسن نصر الله مطمئن للغاية، وكلامه وشعاراته المزيّفة التي يتمسّح بها بالقضية الفلسطينية والعروبة، لا تتفق مطلقًا عروبته مع تكاتفه الإيراني، وعمله تحت إمرة القائد الروسي في معركة سوريا، هذا عدا كونه ينسف وطنه لبنان الذي تغنى كثيرًا باسمه، ولا يعرف منه سوى هذا الاسم، فلا يهمه تكوين حكومة، ولا يعنيه أن تظل لبـنان تدفع ثمن هذه التوتُّرات وتبقى بلا حكومة!
محزنٌ هذا الوضع، والمحزن أكثر هذا التخاذل الدولي والإنساني والأخلاقي، وترك إيران ترتع قتلاً وتدميرًا في سوريا، ويأتي أحد جنودها “نصر الله” يستخدم الخطاب الاستفزازي في تحدٍّ يترجم واقع أرض المعركة تحت لواء الطائفية، ولهذا ولأجل التوازن تم غرس جناح طائفي آخر هو ما يسمّى (داعش) دولة العراق والشام، ويذهب الشباب والشعب السوري ضحايا طائفية صُنّاع الجريمة!
* “الجزيرة” السعودية
“لأننا نستطيع”/ رشا الأطرش
أن يطبخ طلاب هريسة عاشوراء في قِدر كبيرة وسط الجامعة اللبنانية.. أن تؤدي مجموعة أخرى “قَسَم السيد موسى الصدر” – علامة الانتماء إلى حركة “أمل” (وهذه ليست المرة الأولى)، ويلفّ جدرانها كل سنة سوادُ الذكرى وشعاراتها، وتصدح الندبيات في أجواء الحرم الجامعي (الوطني؟)… فليس، هنا، ما يقال، دينياً. ليست الإشكالية محصورة في المذهبية الصرف. لا في استنكار هذا الفرض، الذي بَلّ ممارسوه تعاميم رئيس الجامعة العديدة وسقوه ماءها. ولا في الدفاع عن شعائر “انتروبولوجية”، بدعوى أنه يحق لمعتنقين إحياؤها في الحيز العام على غرار تزيين شجرة الميلاد.
أن تمرّ سيارات مفتوحة الشبابيك، مواكب وفرادى، في أحياء معروفة باختلاطها المذهبي، في بيروت وجبل لبنان، وقد علت اللطميات من مسجلاتها، ليسمعها الرائح والغادي، بخاطره أو غصباً عنه… أن تًحتلّ الأرصفة بـ”ميني مجالس عزاء”، ويقرر صاحب كشك سجائر أن يرميك بنظرة شرر إن مررت بجانبه وأبديت انزعاجك من ارتفاع صوت اللطمية التي يعليها ليل نهار وسط شارع الحمراء، حيث يجاور “الشورت” الحجاب، وتُقدّم القهوة كما الكحول.. فإن الشعور الأول هو شعور ضحية الاعتداء السمعي والرمزي. يليه غضب شديد وربما نقمة قلما يجرؤ صاحبها على التعبير عنها أو حتى التلفّظ باحتجاج (ولمن يحتج؟ لبلدية؟ لمختار؟ لجيران، لمخفر، لمحافظ؟ لرئيس جمهورية؟!… خيراً إن شاء الله). هذه ليست “فتنة” يوقظها صهيو-ليبراليو-تكفيريون. ولا هو حقد مذهبي صافٍ منزّه عن سياق. ولا هي العنصرية، لأن الأخيرة تعريفها كره الشيعة لمجرد أنهم شيعة، لشيعيّتهم كسمة جوهرانية وحيدة، لا شيء سواها.
أن يطل علينا نائب حزب الله، محمد رعد، من أحد المجالس العاشورائية، ومن كل عقله، بخطبة عصماء قرر فيها أن لبنان، “قبل زمن المقاومة” كان “ساحة للملاهي الليلية والسمسرات ولنظام الخدمات وتمرير تبييض الأموال، لكن الآن يجب إقامة لبنان الجديد الذي ينسجم مع وجود المقاومة فيه”، وأن المرجعية ليست للعقول بل “لفقهائنا وكبارنا”، فهذا ليس الدين في يد سُلطة، وإن كان الحزب هو السلطة الفعلية. قرار الأمن والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، معظم خيوطه، في قبضته، بالمباشر أو بغير المباشر، في مناطق نفوذه وأحياناً خارجها. الخطاب هذا ليس إشارة انطلاق لأسلَمة وجه الحياة العامة، على غرار خمينية إيران أو وهابية السعودية أو طالبانية أفغانستان. ومن نافل القول إن لبنان، رغم معاناته من نظامه السياسي الطائفي، والحساسيات الطائفية التي شرخته مجتمعاً وتاريخاً وجغرافيا، منذ تأسيسه، فإن هذا النظام وهذه الحساسيات هي بالضبط، وللمفارقة، ترياقه ضد أي دين يستأثر بكامل مساحته.
الكلام هنا في السياسة أكثر من أي حقل آخر.
لا. اللطميات في الشوارع، والهريسة و”قَسَم الصدر” في الجامعة اللبنانية، ليست مثل شجرة الميلاد. فلنقفز من فوق الكلام البسيط عن الرابح في مسابقة بين الفجيعة والفرح، وعن عيد الميلاد الذي أصبح معولماً وتجارياً أكثر منه مناسبة دينية، وشجرته الملونة التي باتت رمزاً لموسم سياحي مغتبط حول العالم، وحقيقة أن أحداً لا يفرض التراتيل الدينية وطقوس قداس منتصف الليل وقداس يوم العيد (والشعنينة والفصح) على سكّان أحياء وعلى شوارع وأرصفة.. فإن قلب المسألة هو القوة، الكثير منها، فيضانها.
هي قوة عرقلة حكومة لأشهر، وفي أكثر من استحقاق. قوة الخوض العسكري في سوريا، رغم أنف الجميع، ورغم الموقف اللبناني الرسمي بالنأي بالنفس، وبزهو “المنتصر”، وبفداحة من يسدد سبابته إلى صدغه ويقول: أنا حر، سأفعلها لأني أريد، ولأني أستطيع، ولأن أحداً لا يمكنه أن يردّني. قوة الاقتصاد الموازي الزبائني، من خارج الدولة. وقوة ماكينة الفساد الأكثر تجذراً في داخلها. قوة تهديد بقطع أيدٍ ورؤوس، إن امتدت إلى “سلاح المقاومة”، يصدقه سامعوه (عن جدارة) فيهللون أو يرتعبون. قوة الهوية تؤكد ذاتها، بالمذهب عبر السياسة وبالعكس، وتعيد التأكيد، فتنتشي، مرة بعد مرة، وليس ما يروي ظمأها إلى المزيد. الهوية التي ما زالت تغذّي جرح الماضي التهميشي، وتاريخاً من الفقر والحرمان. تتعمّد تركه مفتوحاً، لأنه يمد الـ”أنا” الجماعية بالمظلومية المطلوبة، يزوّدها بالأحقية “الأخلاقية”، بالمشروعية “المزعومة” لـ”حفظ النوع”.. رغم أن المعادلة تغيرت منذ عقود.
هي قوة “هدر دم شعبة المعلومات” كجهاز أمني رسمي، والتوعّد للقضاء والجيش. قوة مبادلة الحجاج الأسرى في أعزاز السورية، بطيارين تركيين خُطفا في لبنان، أحضرتهما إلى مطار بيروت طوافة عسكرية من مطار رياق في البقاع، ولا من يجرؤ على طرح السؤال: أين كانا؟ من سلّمهما إلى الأمن اللبناني؟.. قوة الاعتراف بأن أربعة متهمين (مجاهدين بحسب تسمية نصر الله) في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، هم في حفظ “حزب الله” وحضنه المصون، ولا بدّ من التلويح المُعتاد بحرق وقطع وبتر.. إن طالب بهم أحد. قوة أخذ بيروت في ساعات سوداء، وتغيير المعادلة السياسية في الجبل، ولو بعد معركة عسكرية قاسية. قوة فتح بوابات ضاحية بيروت الجنوبية لقوى الأمن اللبناني، حين يحتاج إليها الحزب في ما لا يريد تلويث يديه به (ولا المخاطرة بعلاقاته مع عشائر وعائلات)، من قضايا مخدرات ودعارة وتعديات بلدية، ثم إغلاقها حين يستكفي من خدمات “الدولة”، ولا يعود “النظام من الإيمان”.
المذاهب والطوائف اللبنانية كلها، كأطراف سياسية (وهذا هو نظامنا المقيت إلى ما شاء الله)، تكتنز حصتها الوافية من فساد وعصبية وانغلاق وخوف هدّام من الآخر، كل بحسب حجمه ووزنه. لكن الأقوى وزره أكبر، تأثيره أعمق وأخطر. المعركة الخاسرة في كل الأحوال. تشبه الشجرة، إن كبرت في أرض الدار، وتضخمت فروعها حتى اخترقت نوافذه، وجذورها حتى فاق استيعابها قدرة التراب، فلا تترك في المكان فسحة للعيش، كما لا يعود تشذيبها ممكناً من دون احتمال هدم البيت على رؤوس من فيه.. إن كانت الرؤوس قد سلِمت أصلاً من القطع.
المدن
السيد لا يحتاج غطاءً/ حـازم الأميـن
منذ إعلانه رسمياً الانخراط في الحرب في سورية الى جانب النظام هناك، يمعن الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله كل يوم في القول والفعل إن حزبه ليس حزباً لبنانياً على الرغم من أن له نواباً في البرلمان ووزراء في الحكومة. يقول إنه لا يحتاج إلى غطاء لبناني للتواجد في سورية.
عفواً هو قال حرفياً: “لا نحتاج غطاءكم للتواجد في سورية” موجهاً كلامه الى “14 آذار” طبعاً. سيردّ متفوهو الحزب بأن “14 آذار” ليست لبنان حتى نقول إن السيد قال إنه لا يحتاج غطاء لبنانياً! لكن نصرالله حين توجه للقتال في سورية لم يطلب غطاء أحد، لا من خصومه ولا من حلفائه. طلبت طهران منه ذلك، فنفّذ فوراً. ولبنان لم يكن حساباً في تلبيته المهمة.
قال السيد “لا نحتاج غطاءكم”، ولكن غطاء من يحتاج؟ قتلى “حزب الله” هناك يشيعون في قراهم بصفتهم “شهداء الواجب”، لا تُرفق نعواتهم بأي تفصيل حول ظروف قضائهم. وهذا الأمر ينطوي على شعور بضرورة التورية، ذاك أن مجتمع الحزب نفسه من الصعب عليه مُكاشفة نفسه بالمهمة المطلوبة في دمشق.
الشهداء عادة هم ممن تَفخر أحزابهم بسير قضائهم في الحروب. الشباب المُشيعون في الجنوب هذه الأيام تُمارس في نعواتهم تقية تشي بالتباس المهمة. هذا بالنسبة الى مجتمع الحزب الذي قد يقول السيد إنه ليس في حاجة الى موافقته على القيام بالمهمة، لكننا هنا نتحدث عن بلد قرر حزب فيه المشاركة في حرب في دولة مجاورة، ويقول أمينه العام جهاراً نهاراً إنه لا يحتاج الى موافقة للمشاركة هناك، لا بل إنه لم يُشاور أحداً بهذه المهمة. فأي بلد هذا؟ وأي حزب وأي حال؟
الإرهابيون في سورية من جماعة “داعش” و”النصرة” يمكنهم والحال هذه، التوجه الى بلد قرر حزب رسمي ومُمثل في المجلس النيابي خوض الحرب في بلد مجاور. وهم فعلوها عندما أرسلوا سيارات مُفخخة قتلوا فيها أبرياء في الضاحية الجنوبية.
السيد لا يريد غطاء من أحد، فهو أقوى من البلد، وهو أغنى منه وهو مهيمن عليه أصلاً، فكيف لرجل هذه حاله أن يطلب غطاء. ثم إن “14 آذار” هذه، التي يُخاطبها نصرالله لم تعد موجودة إلا في خطاباته، فعن أي “14 آذار” يتحدث السيد عندما يقول إنه ليس في حاجة الى غطائها، وهل ما زال لـ”14 آذار” اسم أو جسم؟ إنها الحاجة الى الخصم، وهي اختراعه وصناعته.
لبنانياً لا يمكن السيد أن يُخاطب جمهوره في قضية مشاركته في الحرب هناك من دون أن يستحضر وهماً اسمه “14 آذار”. على هذا النحو يجد خطاب المشاركة الى جانب النظام في سورية مسكته اللبنانية.
فالصمت المضروب في ورقة النعي يُعوض عنه في جعل الخصم المحلي والطائفي هدفاً لشهادة صعبة وغير مُفصح عن ظروفها، وضروراتها السورية غير مبررة، فتُستحضر ضروراتها اللبنانية.
موقع لبنان ناو
نصرالله مطمئن/ الياس حرفوش
أراد السيد حسن نصرالله أن يطمئن جمهوره إلى مستقبل حزبه في وجه مساعي التسويات الجارية في المنطقة، سواء بالنسبة إلى النزاع السوري أو إلى قضية الملف النووي الإيراني. واختار الأمين العام لـ «حزب الله» ظهوراً علنياً نادراً في وسط الضاحية الجنوبية ليبلغ أنصاره ومشاهديه وحلفاءه وخصومه أن مستقبله مضمون سواء حصلت تسوية في سورية أم استمرت الحرب وانتصر نظام بشار الأسد كما يأمل. كما أن مستقبله مضمون من الجانب الإيراني، سواء تمّ التفاهم الأميركي مع إيران أم فشل. قال نصرالله: إذا كنتم تنتظرون أن تنتصروا في سورية فلن تنتصروا … وإذا حصل تفاهم نووي ففريقنا سيكون أقوى وأفضل حالاً محلياً وإقليمياً.
الظهور العلني بحد ذاته له معنى. إنه يشير إلى حالة اطمئنان أمنية وسياسية لم يعرفها زعيم «حزب الله» منذ حرب تموز (يوليو) 2006، فقد كان يحرص منذ تلك الحرب على الظهور أمام جمهوره عبر الشاشة، باستثناء مناسبات قليلة كان لا يتعدى ظهوره فيها الدقائق المعدودة، وسط قلق فريق حراسته وخوفهم على حياته.
لا يكفي الرد على هذا الظهور العلني لنصرالله بأن مناسبة الاحتفال بعاشوراء فرضت نفسها على الأمين العام، فأبى التخلف عن المشاركة الشخصية. فهذه المناسبة مرت في العام الماضي وفي الأعوام التي سبقته، ولم تكلف نصرالله عناء الوقوف لحوالى الساعة يخطب أمام الحضور، وسط منطقة تعرضت في الأشهر القليلة الماضية لسلسلة من التفجيرات، ويقول المسؤولون عن «حزب الله» إنها ما زالت بين المناطق المستهدفة.
ما الدافع إلى حالة الاطمئنان هذه إذن؟ وهل لذلك علاقة باطمئنان نصرالله إلى وضعه كنتيجة للتسويات التي تقوم إدارة باراك اوباما بطبخها للمنطقة، والتي يبدو أنه مقتنع أن حزبه لن يدفع ثمنها لا في التسوية السورية ولا في المسألة الإيرانية؟
من حسن الحظ أن نصرالله يكشف بصراحة عن تسويات للمنطقة تجهد الإدارة الأميركية إلى إخفائها عن أصدقائها وحلفائها. إنه يؤكد أن أميركا تتعامل مع هذه الأزمات بما يحقق مصالحها الأنانية ومن غير اعتبار لذيول هذه الحلول على أوضاع المنطقة وعلاقات القوى المتصارعة عليها، فالتفاهم الذي يجري الإعداد له من جانب الإدارة الأميركية مع إيران لا يأخذ في الاعتبار ضرورة الحد من دورها الإقليمي كمصدّر للنزاعات إلى دول المنطقة، ولا يهتم بحالة التفكيك والتوتر المذهبي التي أشاعها الدور الإيراني في معظم الأقطار العربية. هدف إدارة اوباما هو إقفال الملف النووي بأقل الأثمان الممكنة… وليتدبر أهل المنطقة أمورهم. ومن هنا كان تأكيد نصرالله على ان التفاهم الإيراني مع الغرب سيجعل فريقه «أقوى وأفضل حالاً محلياً وإقليمياً».
والغريب أن الفريق الذي يرعى عملية التفكيك الطائفي في المنطقة يلقي الآن هذه المسؤولية على الآخرين، ويدعي انه يشارك في الحرب السورية في مواجهة ما يسميه «الهجمة الدولية الإقليمية التكفيرية»، ويتجاهل «حزب الله» حقيقة أن النظام السوري الذي يدعمه تنفيذاً للرغبات الإيرانية هو الذي قام بتصدير التكفيريين الى العراق لتفكيكه وتدميره ونشر الفتنة المذهبية في أرجائه، ثم عاد فأطلق هؤلاء من سجونه ليستخدمهم في عملية المساومة مع الغرب على بقائه، بهدف حماية نظامه وإطالة عمره.
من مفارقات هذا الزمن، يبدو أنه صار ضرورياً لمعرفة أسرار الرئيس الأميركي أن يذهب المرء إلى منطقة حارة حريك لاستطلاع الأمر عند «حزب الله». ألم يتفق نصرالله وجون كيري، مثلاً، على التحذير من أن البديل لعدم التفاهم الأميركي الإيراني هو «الحرب». كيري حذر أعضاء الكونغرس ودعاهم إلى رفض زيادة العقوبات على ايران لأن ذلك يهدد الاتفاق الموعود مع الإيرانيين، ونصرالله حذر أهل المنطقة من أن تعطيل مسار المفاوضات سيؤدي إلى الحرب. لقد أصبح أمين عام «حزب الله» يتخوف من الحرب الإيرانية الأميركية، ويرفق تحذيره منها بعبارة «لا سمح الله» لدفع مخاطرها، فيما ايران تعدنا منذ أكثر من ثلاثة عقود بالاستعداد لتدمير «الشيطان الأكبر» إذا تجرأ على منازلتها في أي موقع!
سبحان مغيّر الأحوال!
الحياة
لنفترض أنه انتصار../ حسام عيتاني
لا تقبل جماعة الممانعة بغير وصف ما يجري في سورية بالانتصار الجديد تضمه إلى لائحة انتصاراتها الإلهية والبشرية.
على الأرض، تتراجع قوى الثورة وتظهر كل التعقيدات التي تراكمت طوال عقود في سورية ويستفيد نظام بشار الأسد وأنصاره من سلسلة طويلة من الإخفاقات العسكرية والسياسية التي منيت بها المعارضة في الشهور الماضية ومن عجزها عن حسم الموقف عسكرياً أو تشكيل قيادة سياسية ذات معنى.
يتلقف محور طهران- دمشق هذه الانتكاسات ليعلن نصراً مؤزراً على الثورة السورية ويضفي عليه طابعاً طائفياً مذهبياً مساهماً في طمس الوجه التحرري الذي بدأت الثورة السورية به وضحى ملايين السوريين بأرواحهم وكراماتهم وأموالهم من أجله. النظام، طبعاً، لا يبالي بهذه الوقائع. وجل ما يعنيه هو تحطيم قدرة الثوار السوريين على القتال والانتصار. وهذا ما لن يحدث.
لكن لنسلم جدلاً أن الأسد وأجهزته وأتباعه انتصروا في الحرب السورية. ولنفترض أننا سنستيقظ صباح الغد لنجد قوات «الجيش العربي السوري» وعناصر «حزب الله» و «لواء أبي الفضل العباس» قد سحقوا كل مقاتلي الثورة السورية وبسطوا سلطة النظام على المناطق والمدن التي خسرها في العامين الماضيين. ولنفترض، لاستكمال الصورة، أن العملية السياسية في جنيف أو غيرها، قد أفضت إلى بقاء النظام ورئيسه وبنيته وآليات السيطرة التي شيدها على امتداد أكثر من أربعين عاماً. ماذا سيعني ذلك على الصعيد الواقعي؟ وما هو المشروع الذي يبشر الأسد وأتباعه به بعد الانتصار الافتراضي؟ وما هي الدروس التي استخلصها النظام من الثورة، التي –سنفترض أنه- نجح في القضاء عليها؟
الحق يقال أن ما من شيء يتيح الاستنتاج أن الأسد ورهطه الممانعين تعلموا شيئاً من دروس الثورة. لا من حيث احترام إرادة السوريين ولا من حيث الاعتراف بهم ككائنات بشرية تتطلب الكرامة والحق في الحياة والحرية. وما من شيء يقول إنهم سيتخلون عن التذاكي والتلاعب، اللذين يسميانهما «حكمة» في التعامل مع الداخل والخارج. وما من إشارة واحدة إلى أنهم سيقلعون عن ترهيب الجيران والتدخل في شؤونهم واغتيال مسؤوليهم وتفجير شوارعهم.
الدليل على ما تقدم ماثل للعيان في «الدستور الجديد» والاستفتاء عليه وفي مسرحية رفع حالة الطوارئ والاستمرار في حملات الاعتقال والتصفية والتعذيب المنهجي. وماثل أيضاً في إرسال السيارات المفخخة إلى لبنان والاستخدام الأداتي لأنصاره هناك في شل وتعطيل كل ما من شأنه أن يمثل مساحة للقاء وطني. وماثل كذلك في استسهال التحريض الطائفي واستدراج ردود فعل من الطينة ذاتها وزج مواطنيه في صراع أهلي مذهبي مسدود الأفق.
وليس هناك ما يشير إلى ان النظام سيُدخل حداً أدنى من الإصلاح على الدورة الاقتصادية ليخفف من إمساك قبضة المافيات العائلية- الأمنية بمفاصلها الرئيسة، ولا أنه سيعيد النظر في الممارسات التي انقلبت أزمات جلبها بنفسه على القطاعات الزراعية والصناعية عبر «انفتاحه» الذي تسبب بارتفاع قياسي في مستويات البطالة ومرْكَزة الثروات بين أيدي العائلة و «الأمن» ومن يدور في فلكيهما. وهذا غيض من فيض يمتد إلى التعليم والاستشفاء وحرية التعبير والتنقل وغيرها.
بكلمات ثانية، إن انتصار الأسد المزعوم لن يزيد في أفضل الأحوال عن إعادة إنتاج الشروط الموضوعية التي أفرزت الثورة. وهذا طبعاً ما لا تهتم به أصوات الممانعة المبتهجة «بالانتصارات التاريخية».
الحياة