مقالات كتاب أجانب تناولت الثورة السورية
خصوم الأسد… معتدلون ومنفتحون
ديفيد بولوك
عادة ما تركز التغطيات الخبرية حول أحداث العنف في الشرق الأوسط على الإسلاميين المتطرفين، وهو ما ينطبق أيضاً، وبشكل متزايد، على الجزء الأكبر من تغطيات الانتفاضة السورية. والحقيقة أن التطرف الإسلامي في أوساط المعارضة السورية هو الاستثناء وليس القاعدة. فالغالبية العظمى من نشطاء المعارضة، وفقاً لمسح جديد أجري على ما يزيد على ألف شخص منهم، تعبر عن آراء معتدلة نسبية حول القضايا الإسلامية، وعن دعم للكثير من القيم الديمقراطية الأساسية، كما يتطلع معظمهم للغرب والديمقراطيات الأخرى طلباً للإلهام والحماية.
وهذه النتائج توفر إسناداً للرأي القائل بأن التيار العام من مقاتلي المعارضة السوريين، يستحقون المزيد من الدعم الذي يمكنهم من الدفاع عن أنفسهم، وهزيمة ديكتاتورية الأسد، وحصر نفوذ أي عناصر متطرفة قد تتسرب إلى حركتهم.
ويشار إلى أن المسح الذي استكمل في يوليو الماضي، بموجب تكليف من المعهد الجمهوري الدولي، وهو منظمة غير حكومية، قد تم إعداده من قبل مؤسسة “بيتشر بولز” في برينستون- ولاية نيوجيرسي، بالتشاور مع “كونارد وين” من مؤسسة “كومباس ريزيرتش”، وجامعة كارلتون. وقام بالتنفيذ العملي للبحث وإجراء المقابلات الفعلية، مجموعةٌ من المواطنين السوريين الذين استعانوا بوصلات سكايب مؤمنة على الخط تستخدم اللغة العربية.
والنتيجة التي تم التوصل إليها من خلال المسح معبرة عن عينة تمثيلية (وإن لم تكن عشوائية) لـ1168 ناشطاً سورياً من نشطاء المعارضة يمثلون قطاعاً مستعرضاً من السكان السوريين: فهم ينتمون إلى كافة المناطق السورية، ويعيش البعض منهم في بلدان مختلفة من العالم. ومن حيث العرق؛ كان 80 في المئة منهم من العرب و14 في المئة من الأكراد، و5 في المئة من الأشوريين والتركمان والشركس وغيرهم. ومن حيث الدين، كان 80 في المئة منهم مسلمين سنيين والـ20 في المئة المتبقين من المسيحيين والعلويين والدروز وغيرهم من الطوائف. وبلغ عدد من لا يزال مقيما في سوريا منهم 315 في المئة بينما يعيش باقي العدد في بلدان مختلفة.
وعندما سُئلوا عما إذا كان ينبغي لقادة المعارضة دعم حقوق وحريات الأقليات أم لا؟ أجاب 6،6 من بين كل 7 أشخاص في المتوسط بالإيجاب. وعندما سُئلوا عما إذا كان ينبغي أن تحظى الأقليات الدينية بحقوق متساوية في جميع مناحي المجتمع، كانت الإجابة مماثلة في درجة إيجابيتها للإجابة السابقة، بل قال 64 في المئة ممن استطلعت آراؤهم إن الحقوق المتساوية يجب أن تعطى أيضا لـ”غير المؤمنين”. وقال ما يزيد عن 51 في المئة من هؤلاء أنهم لا يمانعون من إعطاء أصواتهم لشخصية مؤهلة من الطائفة العلوية كي تحكم البلاد في أي انتخابات حرة.
وعلى نفس المنوال أعرب 80 في المئة ممن شاركوا في المسح عن دعمهم للفكرة القائلة بأن المعاملات الحكومية، والمناهج الدراسية، والدستور… يجب أن تتناول الشأن الديني باحترام، أما بخلاف ذلك فيجب أن تكون علمانية، ولا تعطي لدين معين أفضلية على باقي الأديان.
وبشأن القيم الديمقراطية الأوسع نطاقاً، كان هناك إجماع فعلي بلغ في المتوسط 5.2 من بين كل7 أشخاص، على الفكرة القائلة بأن الرئيس” يجب أن يحترم القانون مثله مثل أي فرد آخر في المجتمع”.
وفي المقابل، بدت المعارضة السورية منقسمة انقساماً عميقاً بصدد موضوعات أخرى. فعندما سئلوا عن إمكانية استخدام نموذج فيدرالي في مرحلة ما بعد الأسد، أيد الثلث الفكرة وعارضها الثلثان، بينما عجز الثلث المتبقي عن تقديم إجابة. أما بخصوص مسألة البحث عن نموذج سياسي في الخارج، فقد كان هناك قدر أكبر من الإجماع حيث منح ثلاثة أرباع المستطلعة آراؤهم الولايات المتحدة وفرنسا تقييماً إيجابياً، أما بالنسبة للسوريين الذين يعيشون في دول إسلامية فقد حظيت السعودية ومصر بتقييمات إيجابية من ربع العدد الإجمالي في تلك الدول، بينما حظيت تركيا بتقييم إيجابي يفوق تقييم الدولتين المذكورتين ثلاث مرات.
وبخصوص السؤال: ما الذي تريده المعارضة السورية من العالم الخارجي؟ أعربت غالبية كبيرة عن أقوى دعم ممكن لفكرة إقامة منطقة حظر طيران، وزيادة تسليح وتدريب “الجيش السوري الحر”. لكن ما يقل عن نصف المستطلعة آراؤهم عبروا عن دعمهم لفكرة غزو سوريا من أجل إسقاط حكومة الأسد، كما عارض 22 في المئة منهم أي تدخل عسكري خارجي. وعندما سئلوا عن الدولة التي يجب أن تقود التدخل الخارجي، حصلت تركيا على معظم الأصوات، تليها بفارق ضئيل فرنسا، والسعودية، وقطر، و”الناتو”.
وبشكل مجمل يمكن القول إن القطاع الأعظم من ناشطي المعارضة السورية بعيد تماماً عن أن يصنف باعتباره إسلامياً متعصباً أو متطرفاً. فهم يؤيدون التسامح الديني تأييداً قوياً، كما يؤيدون المساواة القانونية، وحرية التعبير، والدستور الذي يتناول الشأن الديني باحترام، والعلماني فيما عدا ذلك. وهم يتطلعون للنموذج السياسي الغربي، والنماذج السياسية الإسلامية المعتدلة كنموذج تركيا مثلاً، كما يريدون الحصول على المساعدة الغربية، وفي الآن ذاته لا يريدون أي أقدام عسكرية أجنبية على الأرض ويرفضون الحجة القائلة بأن تقديم الدعم من الغرب لن يسفر عن شيء سوى استبدال ديكتاتورية الأسد العلمانية بديكتاتورية إسلامية معادية.
باحث بمركز الشرق الأدنى- واشنطن
ينشر بترتيب خاص مع خدمة “واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس”
الاتحاد
الأربعاء
الأسد يوجه ضربة إلى إيران
محمد علي سبحاني *
تتواصل فصول الأزمة السورية على وقع الاشتباكات العنيفة في دمشق وشمال سورية. سيطر المسلحون علی منفذ حدودي جديد علی الحدود التركية، وتزامنت هذه الحوادث مع زيارة وزير الخارجية الإيراني، علي أكبر صالحي، سورية بعد الاجتماع الرباعي الذي عقد في القاهرة، علی رغم عدم مشاركة الوزير السعودي لأسباب لم تعرف بعد. وعقد الاجتماع إثر توجيه الرئيس المصري دعوة إلى دول الجوار لحل الأزمة السورية قبيل انعقاد قمة عدم الانحياز في طهران.
ويسود الاعتقاد بأن مصر ترغب في أداء دور مؤثر في الأزمة السورية. فهي من الدول التي شهدت حوادث الربيع العربي. وتسعى جماعة «الإخوان المسلمين»، وهي من الحركات السياسية النافذة التي دخلت العملية السياسية في أكثر من بلد من بلدان الربيع العربي، إلى دخول الساحة السورية وبسط نفوذها. وإذا بلغت القاهرة مأربها في سورية، حققت طموح جماعة «الإخوان» الرامي إلى أداء دور بارز في الدول العربية.
ويحاول المصريون الظهور بمظهر اللاعب المؤثر في الدول العربية بعد انتهاء مرحلة التغيير، خصوصاً أن دخولهم علی خط الأزمات الإقليمية يعطيهم مكانة أثيرة في أوساط الرأي العام الإقليمي.
وقد يساهم كل من الدور التركي والسعودي والإيراني والمصري في دوران عجلة حراك سياسي يفضي إلى حل الأزمة السورية. وترفع كل من هذه الدول الأربع لواء قدراتها الإقليمية ووزنها الراجح، وتعتبر انها مؤهلة للارتقاء قوة إقليمية كبيرة. والتقريب بين وجهات نظر هذه الدول كفيل بإيجاد حل للأزمة السورية.
لكن السؤال المطروح هو: ما حظوظ مثل هذا المشروع، وهل تتوقع له الحياة؟ تُجمِع السعودية ومصر وتركيا على مواقف مشتركة إزاء الأزمة، وتخالف المواقف الإيرانية. ولا تعارض الدول الثلاث إسقاط نظام بشار الأسد، فهي تحسب أن الحكومة السورية فقدت شرعيتها بسبب العنف الذي أنزلته بجماعات المعارضة، وأن معظم الشعب السوري لا يؤيد بشار. ولا يخفى أن هذه الدول تؤيد أي مشروع يضمن تنحية الأسد عن الحكم، وهذه نقطة الخلاف الرئيسة بينها وإيران. واحتمال نجاح مبادرة الرئيس المصري وتذليل التباين في وجهات النظر هما رهن أمرين: استعداد الدول الثلاث للتنازل عن مواقفها المؤيدة لتنحي الرئيس السوري، أو استعداد طهران لتغيير موقفها انسجاماً مع هذه الدول.
ولا يبدو أن بشار الأسد وحزب «البعث» في سورية سيرحبان باقتراح فك قبضتهما عن الحياة السياسية وتنحيتهما، ولو افترضنا موافقة إيران علی اقتراح الدول الثلاث. ويظهر الخطاب السياسي للرئيس الأسد أنه غير مستعد للتنازل عن السلطة، في وقت يوجّه الاتهام إلى حكومته بضلوعها في حرب إبادة بشرية، ويسعى بعض الدول إلى ملاحقتها بهذه التهمة في مجلس الأمن. مثل هذه المساعي هو وراء تعليق عضوية سورية في الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي. وتسعی الحكومة السورية إلی تغيير المعادلة الدولية من طريق الدعم الروسي في المنظمات الدولية، وشد أواصر تماسك المؤسسة العسكرية والأمنية.
والمبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي صاحب باع طويل في تـــذليل الأزمات، فهو ساهـــم في حل الأزمة اللبنانية وأدى دوراً في إبرام اتفاق الطائف الذي أنهی الحرب الأهلية في لبنان. وحظوظ الدعوة إلى الاحتذاء بالنموذج اليمني تتراجع لمصلحة النموذج الذي أرسي في لبنان. وخلاصة القول إن إرساء النموذج اليمني مستبعد، وإن كفة الحرب الأهلية راجحة. وهذه إما أن تنتهي إلى اتفاق يشبه اتفاق الطائف، أي بإجماع كل الأطراف على اتفاق يدعمه المجتمع الدولي أو الإقليمي، وإما أن تستمر الأوضاع على ما هي وصولاً إلى احتمال استفحالها كما حصل في البلقان وانتهائها إلى تقسيم سورية ثلاث دول، سنّية وشيعية وكردية.
ثمة رأي شائع يقول إن التوصل إلی حل ترتضيه الأطراف السورية المتنازعة أمر في غاية التعقيد، في ضوء استشراء الأجواء الطائفية والقومية. لذا، يصعب تصور سورية «واحدة موحدة»، خصوصاً في منطقة كردستان التي تعتبر أبرز المستفيدين من هذه التطورات. ويستعد أكراد سورية للانفصال بمساعدة بشار الأسد ومباركته، فهو ساهم في تيسير الانفصال الكردي لمعاقبة تركيا. وليس مستبعداً أن يقدم بشار وحزب «البعث» علی إطلاق يد الأكراد في تركيا، وأن يخالفا المصالح الاستراتيجية الإيرانية والتركية في القضية التركية.
وتقتضي معرفة مصير مساعي الأخضر الإبراهيمي الانتظار، لكنني لا أخفي أنني غير متفائل بنتائج جهوده. فظروف سورية لا تشبه ظروف لبنان في 1989. والإبراهيمي لم يقترح خطة جديدة، ولا تزال خطة كوفي أنان مطروحة على أنها برنامج الأمم المتحدة لتذليل الأزمة السورية. وقد يختلف مشروع الإبراهيمي عن مشروع سلفه، ويرى مراقبون أنه منصرف إلى وقف العنف والحفاظ علی وحدة سورية ودعم العملية الديموقراطية. فاشتعال الحرب الأهلية في سورية يساهم في تأجيج الحرب الطائفية في المنطقة. فنيران الحرب هذه لن تقتصر على سورية، بل ستمتد إلى دول المنطقة.
* سفير إيران السابق لدى لبنان والأردن، موقع «ديبلوماسي ايراني» الايراني، 23/9/2012، إعداد محمد صالح صدقيان
الحياة
الأربعاء
صالح مسلم: نظام الأسد يدوم سنة.. والحرب الأهلية عشر سنوات
كريستوفر أياد
في سوريا الحالية حيث يبدو مستقبل أي مسؤول سياسي معلّقاً بخيط، فإنه أحد القلائل الذين يمكن أن يزعموا أنه باقٍ لوقت طويل! إن “صالح مسلم” هو رئيس “حزب الإتحاد الديمقراطي”، أبرز الأحزاب الكردية في سوريا. وقد استفاد حزبه من الثورة السورية ليفرض سيطرته على قسم كبير من المناطق الكردية التي انسحبت منها القوات الحكومية بسبب انشغالها بمكافحة الإنتفاضة. إن الرجل القصير، وعمره ٦١ عاماً، يشبه إلى حدّ ما “عبدالله أوجلان”، زعيم “حزب العمال الكردي”. ويعتبر أغلب المراقبين أن “حزب الإتحاد الديمقراطي” ليس أكثر من فرع لـ”حزب العمال الكردي”.
ومنذ اندلاع الإنتفاضة السورية، فإن “حزب الإتحاد الديمقراطي” يلعب منفرداً. فهو يضع رِجلاً (صغيرة) في الثورة، ورِجلاً مع نظام دمشق، ويناور لكي يقطف ثمار الوضع بدون ان يتكبّد الثمن. وميدانياً، فقد تجنّب “حزب الإتحاد الديمقراطي” أية مواجهة مع النظام السوري، الذي يسكنه قبل أي شيء هاجس المواجهة مع العدو التركي. إن “صالح مسلم”، الذي التقت به “لوموند” في باريس يوم أمس، يؤكّد الآن على انخراط حزبه في الثورة السورية التي انطلقت في ١٥ مارس ٢٠١١، والتي يعتبرها “استكمالاً لانتفاضة ٢٠٠٤ الكردية”.
والواقع أن الرئيس بشّار الأسد بذل أقصى ما بوسعه لـ”تحييد” الأكراد عموماً، و”حزب الإتحاد الديمقراطي” خصوصاً، منذ بداية الإنتفاضة بسبب مؤهلاتهم العسكرية. فوعدَ بإعطاء بطاقات هوية لمئات الألوف من الأكراد السوريين الذين حُرموا من الجنسية السورية منذ الستّينات، وحرص على “الإعتدال” في قمع المظاهرات في كردستان السورية، وألغى الحكم الغيابي الصادر بحق “صالح مسلم” الذي أصبح بوسعه مغادرة سوريا والعودة إليها بدون مساءلة. مقابل ذلك، انضمّ “حزب الإتحاد الديمقراطي” إلى هيئة “التنسيق الوطني للتغيير الديمقراطي”، الذي يضمّ معارضين من الداخل يعتبرهم النظام مقبولين ويميلون إلى الحلول الوسط.
وفي كوردستان نفسها، يُتّهّم “حزب الإتحاد الديمقراطي” بتأطير المظاهرات المناوئة للنظام، أو حتى بقمعها حينما ترفع شعارات تطالب بسقوط النظام. ومقابل ذلك، حصل الحزب على حق إعادة تنظيم نفسه والتمركز في المناطق الكردية، على حساب عشرة أحزاب أخرى يضمها “المجلس الوطني الكردي” الذي يعتد خطّاً أكثر عداءً للنظام.
ولكن “صالح مسلم” يقول أن استراتيجيته تنبع من الحذر: “منذ البداية، كنا ضد الثورة المسلحة للحؤول دون تحوّل المنطقة الكردية إلى ساحة قتال”. وذلك، كما يقول، هو سبب رغبته في الإبتعاد عن الجيش السوري الحر والمجلس الوطني السوري.. الذي يعتبره صنيعة تركيا وقطر، وكلاهما يقف ضد حقوق الأكراد. ويضيف أن “عسكرة الثورة التي دفعت إليها مصالح أجنبية هي سبب المأزق الحالي”.
ويضيف: “لولا ذلك، لما كان النظام قد صمد لستة أشهر! أما اليوم، وبسبب التدخلات الأجنبية، فإن مصير السوريين لم يعد بيدهم. وبسبب هذه الظروف، فإن على الأكراد أن يحموا أنفسهم بجميع الوسائل”. وهو يقصد بذلك السيطرة السياسية والإدارية والعسكرية على المناطق الكردية.
وذلك ما حدث فعلاً في منتصف شهر يوليو حينما سمح النظام، الذي أضعفه إنفجار دمشق وحملة الجيش السوري الحر في دمشق ثم في حلب، بأن تتحرّر كردستان بدون مقاومة من جانبه. وفي ١٩ و٢٠ و٢٢ يوليو، سيطر “حزب الإتحاد الديمقراطي” على “”كوباني” و”عَفرين” و”دريك”، وهي مدن كردية مهمة يفرض سيطرته عليها بدون منازع. ويقول “صالح”: “لم نرغب بالسيطرة على “رأس العين” و”قامشلي” (“عاصمة” اكراد سوريا) حتى لا نصدم العرب من أهلها وحساسيات معينة”.
على الأرض، فإن قوى الأمن السورية ما تزال موجودة ولكنها لا تخرج من ثكناتها ومخافرها. ويُعتَبَر الجيش السوري غير مرغوب به، وكذلك الجيش السوري الحر. أما الإدارات العامة فتواصل عملها ولكن تحت إشراف “حزب الإتحاد الديمقراطي” الذي يجبي الضرائب ويتولى توزيع الغاز.
وقد جاء “صالح مسلم” إلى باريس لطلب العون، وليست هنالك لقاءات رسمية له. وهو يبدي أسفه لأن المناطق الكردية ليست ضمن “المناطق المحررة” التي تنوي فرنسا مساعدتها.
أما الأحزاب الكردية الأخرى فتخشى من هيمنة “حزب الإتحاد الديمقراطي” مع أنه يسود حتى الآن تفاهم هش تم إبرامه في ١١ يوليو ٢٠١٢ في “إربيل” تحت إشراف مسعود البارزاني. وتشارك كل القوى الكردية في سوريا في “مجلس كردي أعلى”، ولكن توحيد القوى العسكرية الكردية ليس مطروحاً حتى الآن.
إن الإستقلال الواقعي الذي تتمتع به المناطق الكردية في سوريا يطرح سؤالاً حول الوضع المستقبلي الذي يتمنّاه “صالح مسلم”. وهو يجيب: “نحن نطلب إعترافاً دستورياً بحقوق الأكراد ضمن سوريا موحّدة، وديمقراطية، وعلمانية. نحن لا نؤيد نموذج الحكم الذاتي العراقي، الذي يشتمل على حدود داخلية. إن الحدود مصدر متاعب”. وبانتظار تحقّق ما يرغب به فإنه يعتقد أن “نظام بشار الأسد لن يبقى لأكثر من سنة أوسنتين… أما الحرب الأهلية السورية فستدوم عشر سنوات”.
ترجمة شفاف الشرق الأوسط
الجمعة
حرب سورية الطويلة
باتريك سيل *
ليست المعركة القاسية والحاقدة والدامية التي تُشنّ في سورية اليوم، جديدةً أو غيرَ متوقَّعة، كما أنها ليست مجرّد نتيجة ثانوية للربيع العربي، على الرغم من أنّ الأحداث التي حصلت في تونس ومصر ساهمت في إنشاء حركة تمرّد في المنطقة برمتها. بدلاً من ذلك، يجب اعتبار الانتفاضة السورية التي تطوّرت تدريجياً خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية، الحلقةَ الأخيرة، لا بل الأكثر عنفاً في الحرب الطويلة بين الإسلاميين وحزب البعث، التي بدأت منذ تأسيس حزب البعث العلماني في أربعينيات القرن الماضي، والتي يبدو الصراع فيها بين الطرفين أشبه بعداوة حتى الموت.
ولا يعني هذا بالضرورة أنّ الثورة الحالية قائمة فقط على دوافع دينية وكره مذهبي، فعلى الرغم من أن هذا هو بعضٌ من واقع الحال، إلا أن الشكاوى الشعبية الأخرى كانت تتراكم على مرّ العقود الأخيرة، ومن أسبابها: ارتفاع نسبة بطالة الشباب، ووحشية أجهزة الأمن السورية، وإحكام أقلية من العلويين السيطرة على المراكز الأساسية في الحياة الاقتصادية والعسكرية والسياسية والمادية للبلاد، واستشراء هذه السيطرة وسط الطبقة الثرية، التي اغتنت على حساب الدولة، مقابل ضائقة خانقة عانى منها الشعب، لا سيّما سكّان «حزام الفقر» حول دمشق وحلب والمدن الأخرى، وهو ضواحٍ محرومة جرّاء النزوح الداخلي من الريف، الذي طالما تمّ إهماله، وعانى كثيراً خلال العقد الماضي بسبب الخسارة الهائلة التي تكبّدها من موجة الجفاف المنقطعة النظير… وأبعد من ذلك كلّه، فلطالما شعر المسلمون على مدى عقود طويلة بعدائية ضد النظام السوري الذي يسيطر عليه حزب البعث السوري.
كان حزب البعث، الذي أسسه مدرّسان في دمشق عقب الحرب العالمية الثانية، حركةً علمانية واجتماعية تهدف إلى توحيد العرب وإلى مساعدتهم في الحصول على الاستقلال. وتصادم حينها طلابٌ أعضاء في الحزب مرات عدّة مع أعضاء ينتمون إلى جماعة «الإخوان المسلمين» المحافِظة، وحين تولى الحزب زمام السلطة في دمشق عام 1963، تحوّل الصدام مع الإسلاميين إلى معركة مفتوحة، وقام ضباط حزب البعث الذين كانوا من خلفيات أقلية، بمن فيهم حافظ الأسد والد الرئيس الحالي، بإزاحة القيادة المدنية للحزب من مكانها، وتحالفوا مع قائد ثورة المزارعين أكرم الحوراني، الذي يحظى بكاريزما كبيرة، والذي كان يتحدّى أصحاب الأراضي في السهل السوري المركزي، علماً أن معظمهم يقطنون مدينة حماة.
ويَعتبر البعضُ مدينةَ حماة اليوم مركزَ الانتفاضة المسلحة التي أطلقتها جماعة «الإخوان المسلمين» ضد حافظ الأسد، علماً أنه قمعها بشكل دامٍ في شهر شباط (فبراير) 1982، مخلّفاً بذلك إرثاً من العدائية المذهبية، كما يَذكر عدد قليل من الأشخاص، أنه قبل ثماني عشرة سنة، في شهر نيسان (أبريل) 1964، تحوّلت أعمال الشغب التي نفّذها الثوار المسلمون ضد نظام البعث إلى حرب دينية، وراح الثوار، الذين حصلوا على التمويل من العائلات القديمة التي تملك الأراضي والذين شعروا بغضب جرّاء سلبهم الأراضي وبحماسة من خطابات إمام مسجد سلطان في حماة، يضعون الحواجز ويخزّنون الطعام والأسلحة ويداهمون متاجر النبيذ للتخلّص من هذا المشروب المحرّم ويضربون كل رجل يجدونه ينتمي إلى حزب البعث.
وبعد حرب شوارع دامت يومين، قصف النظام مسجد سلطان حيث كان يحتمي الثوّار وحيث كانوا يطلقون النار، فانهارت المآذن على رؤوسهم، ما أدى إلى مقتل عدد كبير منهم، كما جُرح عدد كبير من الأشخاص، فيما اختفى عدد آخر تحت الأنقاض. وأغضب قصف المسجد الرأيَ العام الإسلامي، ما أشعل موجة من الهجمات والتظاهرات في أنحاء البلد.
وتضرب الحرب الأهلية القائمة اليوم جذورها عميقاً في التاريخ السوري المعاصر، وتحمل ثورتها صبغة إسلامية، على حدّ قول الكاتب السويدي آرون لاند في تقرير إخباري مؤلف من 45 صفحة حول الجهادية السورية نشره المعهد السويدي للشؤون الدولية هذا الأسبوع، وقال فيه إن الملفت هو أن كافة أعضاء المجموعات المتمردة المسلحة هم من السنة العرب، وأن القتال محصور بالمناطق التي يقطنها السنة العرب، فيما المناطق التي يقطنها العلويون والدروز والمسيحيون بقيت غيرَ فاعلة أو داعمةً للنظام، وأنّ الانشقاقات عن النظام تتمّ في صفوف أشخاص سُنّة مئة في المئة، وأن المال والأسلحة والمتطوّعين يتدفقون من الدول الإسلامية أو من المنظمات والأفراد الموالين للإسلاميين، وأن الدين هو القاسم المشترك الأهم بين الحركات المتمردة.
خلال الأشهر القلية الماضية، غطّى المقاتلون الميدانيون على عمل المجلس الوطني السوري، أي المعارضة «السياسية» المدنية الموجودة في تركيا، وتمّ جمع معظم هؤلاء المحاربين ضمن تسعة مجالس عسكرية تابعة للجيش السوري الحر، وتمّ تقسيم كلّ مجلس إلى عدد من الكتائب. لكن، وكما همّشت هذه المجالس المجلس الوطني السوري، بدت غير راغبة في أخذ الأوامر من قائد الجيش السوري الحرّ الموجود في تركيا العقيد رياض الأسعد.
ولفت آرون لوند إلى أن الجيش السوري الحر هو ظاهرة عربية سنية، مع وجود بعض الاستثناءات النادرة، وأن معظم كتائب الجيش السوري الحر تستخدم الخطاب الديني، وتتم تسميتها تيمّناً بشخصيات بطولية، أو بأحداث في التاريخ الإسلامي السني، ويقال إن نحو ألفي عضو من غير السوريين مرتبط بتنظيم «القاعدة» يحاربون في سورية، وهو نحو 10 في المئة من مجمل مجموع الثوّار الذين يقدّر عددهم بـ20 ألفاً (على رغم أنّ بعض المصادر يشير إلى 40 ألفاً)، ويبدو معظم هؤلاء المحاربين فاعلين في حماية مناطق سكنهم.
وتُعَدّ ثلاثُ وحدات قتال أساسية، وهي «جبهة النصرة» و «كتيبة أحرار الشام» و «كتيبة صقور الشام»، من بين المجموعات السلفية المتشدّدة في حركة التمرّد السورية، وتمّ اتهام الكتيبة الأولى بتنفيذ الهجمات الانتحارية والهجمات بالسيارات المفخخة في المدن السورية وباغتيال شخصيات موالية للنظام، أما الكتيبة الثانية، فتنصب الكمائن وتستخدم التفجيرات من بُعد ونيران القناصة ضد دوريات للجيش، وتستخدم الكتيبة الثالثة التفجيرات الانتحارية وتروّج لدعايتها ضمن خطابها الجهادي. وأعلن قائدا الكتيبتين الأخيرتين أنّ هدفهما يقوم على إنشاء دولة إسلامية في سورية، ويبدو أنّ الكتائب الثلاثة استقبلت محاربي تنظيم «القاعدة» في صفوفها.
وأخلّت هذه المجموعات القتالية بتوازن النظام السوري من دون أي تدخّل عسكري أجنبي لمصلحتها، لكن يبدو أنها عاجزة عن إسقاطه، فيردّ النظام بالهجمات الجوية والميدانية ويبدو عازماً على سحق جيوب الثورة المسلحة على الأراضي السورية.
هذه هي المعضلة التي تواجه مبعوث السلام للأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي، الذي تقوم مهمته على إقناع العالم بفرض حظر جوي على الطرفين قبل جلبهما إلى طاولة المفاوضات، ولكن يبدو أنه لن يسعه تحقيق هدفه إلا بعد أن يتمّ إقناع الطرفين أنّ أياً منهما لن يسعه تحقيق انتصار حاسم. في هذا الوقت، سيموت عدد أكبر من الأشخاص أو سيتمّ تهجيرهم من منازلهم وسيغرق بلدهم في الدم والفوضى، الأمر الذي سيصعّب سدّ الانقسام بين الإسلاميين والرئيس بشار الأسد.
* كاتب بريطاني مختص في شؤون الشرق الأوسط
الحياة
5 أسباب للتدخل الأميركي الفوري في سوريا
مايكل دوران وماكس بوت
سواء أكنت تتفق مع الرئيس الأميركي باراك أوباما أم لا، فليس هناك شك في أنه تمكن من صياغة نهج متماسك للجوء الولايات المتحدة للقوة العسكرية، حيث تنطوي عقيدة أوباما على الدخول في مناطق النزاعات والخروج منها بسرعة من دون خوض حروب برية أو الاحتلال العسكري الموسع للأراضي، وهي العقيدة التي أثبتت فعالية كبيرة في الحرب الليبية العام الماضي.
لكن الرئيس أوباما لا يقوم بتطبيق عقيدته الخاصة في الصراع السوري، حيث سيصب استخدام مثل هذا النهج في الصالح الأميركي. ومع ذلك فيمكن للمرء إظهار بعض التعاطف مع المأزق الشديد الذي يواجهه أوباما، فسوريا في حالة شديدة من الفوضى، وهو الأمر الذي يمنعه من التورط فيها، لا سيما في عام الانتخابات الرئاسية الأميركية. بيد أن التقاعس عن اتخاذ خطوات عملية بهذا الصدد ينطوي أيضا على بعض المخاطر، فهناك خمسة أسباب لإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد عاجلا وليس آجلا:
أولا.. سوف يقلل التدخل الأميركي في سوريا من النفوذ الإيراني في العالم العربي، حيث أغدقت إيران بالمساعدات على سوريا، لدرجة قيامها بإرسال بعض المستشارين من قوات الحرس الثوري الإيراني لمساعدة الرئيس الأسد. وتدرك إيران جيدا أن سقوط نظام الأسد سوف يعني فقدان القاعدة الأكثر أهمية لها في العالم العربي، وخط مهم لتوصيل الإمدادات إلى مقاتلي حزب الله الموالين لإيران في لبنان.
ثانيا.. قد يؤدي تبني سياسة أميركية أكثر صرامة إلى عدم انتشار رقعة الصراع السوري في المنطقة، بعد أن أدت الحرب الأهلية الدائرة رحاها في سوريا بالفعل إلى تفاقم أحداث الفتنة الطائفية في لبنان والعراق، في الوقت الذي اتهمت فيه الحكومة التركية الأسد بدعم المقاتلين الأكراد من أجل تأجيج التوترات بين الأكراد وتركيا.
ثالثا.. تستطيع أميركا خلق حصن منيع في مواجهة الجماعات المتطرفة، مثل تنظيم القاعدة الذي يوجد على الأرض ويبحث عن ملاذات آمنة في المناطق التي لا تخضع لسيطرة القانون هناك، من خلال تدريب وتسليح الشركاء الذين يمكن الاعتماد عليهم داخل صفوف المعارضة السورية.
رابعا.. تستطيع القيادة الأميركية تحسين العلاقات مع الحلفاء الرئيسيين، مثل تركيا وقطر، في ما يتعلق بالشأن السوري، فقد انتقد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان ونظيره القطري الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني الولايات المتحدة لقيامها بتقديم الدعم غير المسلح فقط للثوار، بينما يفضل الاثنان فرض منطقة حظر جوي وإقامة مناطق آمنة للمدنيين داخل الأراضي السورية.
وأخيرا.. يمكن للتدخل الأميركي أن يضع حدا للكارثة الإنسانية المروعة التي تشهدها سوريا، ويحول دون استمرار نزوح اللاجئين من سوريا، وهو ما يشكل عبئا على دول الجوار. وقد تعهد أوباما خلال العام الحالي بتعزيز قدرة الحكومة على «التنبؤ بوقوع عمليات العنف الوحشية والإبادة الجماعية ومنعها واتخاذ رد الفعل المناسب تجاهها». أما الآن، فالفرصة مهيأة أمامه للوفاء بهذه الوعود. ويمكن لأوباما أن يتخذ إجراء من دون الانزلاق نحو الحرب البرية من خلال وضع حلفاء الولايات المتحدة في المقدمة.
يرغب أقرب حلفائنا في المنطقة – بما في ذلك المملكة العربية السعودية وتركيا والأردن وقطر وإسرائيل – في مشاهدة سقوط الأسد في أقرب وقت ممكن، فيما يمكن الاعتماد على كل من فرنسا وبريطانيا في تقديم المساعدة مثلما فعلتا في ليبيا. مع ذلك فلن تتحرك أي من هاتين الدولتين إلا إذا تحركت أميركا أولا.
لا يمكننا الانتظار حتى تتحرك الولايات المتحدة، فهذا أمر من غير المرجح حدوثه، فضلا عن أنه لا يمكننا أن نتوقع من الجيش السوري الحر أن يتمكن من الإطاحة بالأسد، حيث إنه لا يعتبر منظمة متماسكة. وبدلا من ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة تحديد العناصر الموجودة على الأرض التي تعتبر أكثر أهمية ويسهل توصيلها.
ينبغي أن ينصب التركيز على مدينة حلب، ثاني أكبر المدن السورية من حيث عدد السكان والمركز التجاري المهم في البلاد، حيث يحكم الجيش السوري الحر قبضته بالفعل على الكثير من الأراضي الواقعة بين المدينة والحدود التركية، التي تبعد نحو 40 ميلا فقط. ومع وجود الدعم الأميركي يستطيع الجيش التركي بسهولة إنشاء ممر آمن للمساعدات الإنسانية والإمدادات العسكرية. وسوف تمثل هزيمة القوات الحكومية في مدينة حلب ضربة قاصمة للأسد، وترسل برسالة قوية إلى القوى المدافعة عن الأسد بأن نظامه بات يحتضر.
يجب أن تكون العاصمة السورية دمشق هي الهدف التالي، لكن على العكس من مدينة حلب، لا يمكن الوصول إلى دمشق بسهولة من خلال وجود قاعدة تركية. وعلى الرغم من ذلك، فإنه يمكن توفير الدعم للقوات المتجهة إليها من خلال درعا، التي تبعد 70 ميلا عن دمشق وأقل من 5 أميال عن الحدود الأردنية، فضلا عن أنها كانت من أوائل المدن التي ثارت ضد نظام الأسد. ومن خلال العمل من المملكة الأردنية الهاشمية، تستطيع الولايات المتحدة إنشاء ممر آمن آخر للوصول إلى درعا، والذي من الممكن أن يكون بمثابة القاعدة الجنوبية للثوار. ويوم الأربعاء الماضي، أثبت الثوار قدرتهم على ضرب أهداف في قلب العاصمة دمشق، بعد أن تمكنوا من تفجير مجمع عسكري، على الرغم من أنهم لا يستطيعون القيام بذلك بصورة مستمرة.
وكي يتسنى منع الأسد من الرد بصورة مدمرة، يتوجب على التحالف المدعوم من الولايات المتحدة إنشاء منطقة حظر جوي في مناطق واسعة من سوريا، والتي ستقتضي أولا تدمير الدفاعات الجوية السورية. ويواصل الأسد استخدام الطائرات النفاثة والمروحيات لضرب قوات الثوار، بينما سيؤدي إنشاء منطقة حظر طيران إلى خروج قواته الجوية من المعركة بصورة سريعة. ومن الممكن توسعة نطاق منطقة حظر الطيران لتوفير ذلك النوع من الدعم الجوي الذي وفرته طائرات حلف شمال الأطلنطي لقوات الثوار في كوسوفو وليبيا. وعلى الرغم من أن حلفاءنا يستطيعون المحافظة على منطقة حظر الطيران في سوريا، فإنه من الضروري أن تأخذ الولايات المتحدة زمام المبادرة بإنشاء هذه المنطقة، كما كان الحال في ليبيا، حيث تمتلك القوات الجوية والبحرية الأميركية دون سواها الأسلحة اللازمة لتدمير الدفاعات الجوية الروسية الصنع الموجودة في سوريا، من دون أن يمثل ذلك خطرا كبيرا.
من الممكن اتباع منهج «القيادة من الخلف» في سوريا، حيث إن كل ما يحتاج إليه الرئيس أوباما هو تطبيق هذا المنهج فحسب.
* مايكل دوران هو زميل بارز في معهد بروكينغز.. أما ماكس بوت فهو زميل بارز في مجلس العلاقات الخارجية ومستشار حملة الانتخابات الرئاسية لميت رومني
* خدمة «نيويورك تايمز»
الشرق الأوسط
الموت و الخبز اليومي
آنا نيستات
منشور في: مجلة “وورسكيبس”
Anna Neistat
© 2008 Human Rights Watch
قامت ممرضة شابة بمستشفى دار الشفاء بمدينة حلب بتقليب صفحات دفترها الضخم، لتعطيني أسماء من قتلوا وجرحوا في الهجمات الأخيرة بشكل يومي. توقفت وتنهدت عندما وصلت إلى صفحة كتب عليها “16 أغسطس/آب”. استغرقت بضع دقائق في عدّ الأسماء ثم قالت بهدوء، وجسدها يرتعد بسبب ذكريات ذلك اليوم ” لقد تلقينا ستين جثة جراء هجوم واحد، لم نتمكن من تحديد هوية أحد عشر قتيلاً منهم، هذا بالإضافة إلى ستة وسبعين جريحاً كانوا يقفون أمام المخبز، في انتظار الخبز”. لقد وصفت عملية قتل جماعي أمام مخبز يسمى فرن الذرة، في حي قاضي عسكر، بمدينة حلب.
أنا أعمل في سوريا بشكل سري منذ أربعة أسابيع، أتحقق من انتهاكات قوانين حقوق الإنسان من قبل طرفي النزاع، وهي رحلتي الثالثة داخل الأراضي السورية خلال ثمانية عشر شهراً، بهدف توثيق الانتهاكات المروعة التي ترتكبها القوات الحكومية السورية. ومع ذلك أجد الأمرعصياً على التصديق: قصف المخابز؟! قتل الواقفين أمام المخابز؟! ماهو هدف الحكومة من مهاجمة الأهالي وهم يقفون في الطوابير، في انتظار الخبز من أجل عائلاتهم!
المخابز هي الأماكن الوحيدة التي قد ترى فيها حشداً من الناس في مدينة حلب التي مزقتها الحرب، أو في القرى المحيطة. حيث يبقى الأهالي معظم الوقت مختبئين خوفاً من هجمات المدفعية أو الهجمات الجوية التي أصبحت عادة يومية على مدار الشهر الماضي، لكن النقص الحاد في الخبز في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، أجبر الأهالي على الخروج من بيوتهم في الفجر، أو ليلاً حين تصل حصص الطحين إلى المخابز، فتبدأ عملها.
يعتبر الهجوم على طابور من منتظري الخبز صادماً، لذلك وجب علينا إجراء تحقيق لتحديد ما حدث، يبدأ عند فرن الذرة.
عند وصولنا، كان المخبز مفتوحاً رغم الهجمات السابقة، ويتجمع أمامه مئات الرجال والأطفال، بينما النساء تقفن صفاً داخله. ولقد وجدنا عدداً من الشهود الذين تواجدوا وقت الهجوم يوم السادس عشر من أغسطس/آب. أخبرونا أنه في حوالي الساعة السادسة إلا ربع، سقطت قذيفة أو اثنين من قذائف المدفعية على الميدان، قرب أحد قواعد الجيش السوري الحر في المنطقة، على بعد مائة وخمسين متراً من المخبز. لم تحدث القذيقة أي خسائر في المنشآت أو في الأرواح بين أفراد الجيش السوري الحر، وبعد حوالي ربع ساعة سقطت ثلاثة قذائف تباعاً قرب المخبز في غضون دقائق، وأصابت القذيقة الثالثة شارعاً على بعد أمتار من المخبز، وتناثرت الشظايا على الواقفين .
يعتبر ما حدث هو الأكثر دموية من بين ما تم توثيقه في مدينة حلب، ولكن مازال الوقت مبكراً للوصول إلى استنتاج نهائي. وفي الأيام التالية قمنا بتوثيق خمس هجمات أخرى على مدينة حلب والقرى المجاورة لها. وجمعنا معلومات موثقة عن أربع هجمات أخرى. في كل الحالات عدا واحدة فقط، هاجمت القوات الحكومية المخابز عندما كان الأهالي ينتظرون أمامها. كما قمنا بفحص الفجوات التي سببها القصف وبقايا الذخيرة، فاكتشفنا أنه تم إطلاق ذخيرة حربية مثل قذائف المدافع والصواريخ والقنابل قرب صفوف الواقفين في انتظار الخبز، وأنها قتلت وأصابت عدداً كبيراً من الأهالي. وفي حالات قليلة، سمع المنتظرون أمام المخابز صوت طائرات مقاتلة تقترب، فتمكنوا من الهرب قبل الهجوم، وشاهدوا الطائرات وهي تسقط حمولتها من الذخيرة.
المخابز العشرة التي تمت مهاجمتها كانت في مناطق أو مدن لا تشهد عمليات عسكرية قبل الهجوم أو بعده. فرن الذرة هو الوحيد الذي يقع قرب موقع للجيش السوري الحر. وفيما يتعلق بالمخابز الأخرى، فلقد وثقنا عدم وجود أهداف عسكرية، عدا بعض أفراد من الجيش الحر يقومون بالمساعدة في توزيع الخبز .
وهناك العديد من مقاطع الفيديو التي التقطها شهود عيان بعد الهجمات، توثق شهادتهم بوضوح صادم. أحمد ( ليس اسمه الحقيقي ) عمره سبعة عشر عاما، نجا بأعجوبة من هجوم على مخبز أقيول في حي باب الحديد في الحادي والعشرين من أغسطس/آب، بمدينة حلب. يقول في شهادته أنه رأى مروحية تحوم حول المنطقة في ذلك اليوم، فقام بتصويرها. ثم رأى المروحية تسقط قنبلة فجرى يبحث عن ملجأ، ثم أكمل التصوير بعد أن غادرت المروحية. كان في حالة من الهلع منعته من وصف ما حدث، واكتفى بأن ناولني الكاميرا.
صورت الكاميرا أكثر المشاهد التي رأيتها بشاعة. الكاميرا تتحرك ببطء لتصور صفاً طويلاً من الناس إلى جوار المخبز، جميعهم مقتولين أو مصابين إصابات خطيرة. وهناك العديد من الجثث مبتورة الرأس أو الأطراف ممددة على الأرض قرب المخبز .
الموضوع لا يحتمل الخطأ، فالقصف كان عشوائياً وبلا تمييز، كما أن نوعية الهجمات وعددها تدل بوضوح على تعمد القوات الحكومية استهداف المدنيين. إنها المرة الأولى التي نقول فيها بثقة أن لدينا دليل على وجود هجمات بالمدفعية والطيران تستهدف المدنيين، وهو ما يشير إلى دخول الصراع مرحلة جديدة، حيث لجأت القوات الحكومية إلى أكثر التكتيكات بشاعة؛ وهو قتل وترهيب المدنيين، بعد فشلها في وقف تقدم قوات الجيش الحر عبر البلاد .
إن ما يحدث دليل على يأس القوات الحكومية، حيث لا تبذل أي جهد من أجل التمييز بين المقاتلين والمدنيين، فتبدأ في قتل النساء والأطفال الذين لا يشتركون في أية أعمال عدائية ضدها. ويمكن اعتبار ما يحدث صرخة لإيقاظ بعض أعضاء المجتمع الدولي الذين يتعاملون حتى الآن مع النظام السوري كشريك شرعي. وفي هذه الأثناء، يتسبب التساهل مع النظام السوري في إضافة المئات من الأسماء الجديدة إلى قائمة الضحايا في أماكن مثل مستشفى دار الشفاء.
آنا نيستات: المدير المساعد لقسم الطوارئ في هيومن رايتس ووتش
السبت
كي لا تتحول الثورات العربية إلى رماد
جيل كيبل
بعد مرور أحد عشر عامًا على عدوان الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، قُتل السفير الأميركي في ليبيا «المحرّرة» من الاستبداد في هجوم نُسب إلى الحركة السّلفيّة الجهاديّة مستهدفًا قنصلية الولايات المتحدة في بنغازي، وهي مدينة تُعدّ رمز المصالحة ما بين البلدان الغربية والمجتمع المدني في العالم العربي. ففي التاسع عشر من آذار/مارس 2011، وأوقفت غارات الطائرات الحربية الفرنسية رتلاً من مدرّعات القذافي الزّاحفة نحو المدينة الثائرة، وحالت دون وقوع مجزرة، الأمر الذي ساعد على انتصار الثورة الليبية، وإجراء أوّل انتخابات ديموقراطية.
هل يعني ظهورُ شبح الحادي عشر من أيلول/سبتمبر في روزنامة الثورات العربية انقضاءَ «الربيع العربي»؟ هل كان هذا الربيع مجرّد وهمٍ ما لبث أن تبدّد إثر عودة الحركات الجهادية و«الحرب على الإرهاب»؟ هل ستنجح مساعي إرساء الديموقراطية في العالم العربي أم ستُجهض؟
قبل بضعة أيام على مقتل السفير الأميركي في ليبيا، وتخريب السفارة الأميركية في تونس، وهما عملان سهّلت القوى الأمنية ارتكابهما نظرًا إلى وقوفها مكتوفة الأيدي، كنتُ في سيدي بو زيد، البلدة التي أضرم فيها بو عزيزي النار في نفسه يوم السابع عشر من أيلول/سبتمبر 2010، مطلقًا بذلك شرارة الثورة التي ألهبت العالم العربي وأطاحت بكلٍّ من بن علي، ومبارك، والقذافي.
غداة إحراق هذا البائع نفسه، مجسّدًا بعملٍ ينمّ عن يأسٍ عميق، إحباطَ شبيبة عاطلة عن العمل وغارقة في بؤس ناجم عن تبعات الديكتاتورية والفساد والعولمة مجتمعةً، تولّى تعبئةَ الجماهير النّقابيّون اليساريّون ومسؤولو جمعيّات الدفاع عن حقوق «حملة الشهادات العاطلين عن العمل»، من اشتراكيّين ويساريّين وعلمانيّين. وسرعان ما نال الحراك تأييد الطبقة الوسطى في العاصمة التّونسيّة، ما ألهب الوجدان الشعبي، فانعكس مشاركة ضخمة في المظاهرات الحاشدة التي أطاحت بن علي يومَ الرابع عشر من كانون الثاني/يناير.
أفضت انتخابات الثالث والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر إلى فوز حزب «النهضة» الإسلامي البورجوازي بغالبية مقاعد البرلمان. ولم يشارك قادة هذا الحزب في الأيام الأولى للثورة لأنهم كانوا معتقلين أو منفيّين، بيد أنّهم اكتسبوا شرعيّتهم من قمع نظام بن علي لهم. وشكّل حزب «النهضة» وحزبان يساريّان وسطيّان حكومةَ ائتلاف هي «الترويكا» الحاكمة في تونس راهنًا في خضمّ صعوبات جمّة أخطرها التدهور الاجتماعي والاقتصادي المتزامن مع هبوط الاستثمارات الوطنية والأجنبية، وزيادة معدّل البطالة، وترنّح هيبة الدّولة.
لمستُ في سيدي بو زيد، بعد مرور عام ونصف على إضرام بو عزيزي النار في نفسه، ازدهارَ حرية التعبير، غير أنّ الوضع الاجتماعيّ من سيّئ إلى أسوأ. إذ يتعرّض النّقابيّون والنّاشطون اليساريّون للتّهميش، وينظر النّاس إلى حزب «النّهضة» على أنّه تجسيد جديد لدولة لا تمتّ إلى الشعب بصلة وتفتقر إلى الفاعليّة. أمّا القوة الأنشط على الأرض، والتي تستقطب الشبيبة العاطلة عن العمل، وتسكرها بشعارات تعد بـ«تغيير الحياة» من خلال فرض الشريعة وطرد «الكافرين والجاحدين» من الحكم، فهو تنظيم «أنصار الشريعة» السّلفي. فقد استولى السّلفيّون الملتحون على المسجد الكبير في ساحة بو عزيزي، ويتحكّمون بالعظة فيه، ناهيك عن أنّ إمام المسجد حرّض في السابع من أيلول/سبتمبر، المسلمين على ما سمّاه «خرافات» الأولياء الصالحين الذين يفجّر السلفيون قبورهم لتأكيد قبضتهم على الإسلام.
شرح هذا الإمام في مقابلة أجريتها معه لاحقًا أنّ الديموقراطية تعدٍّ على سيادة الله عبر تنصيب بشرٍ في موقع المشترعين. فهو يعتبر مناصري الديموقراطية كافرين، بمن فيهم زعماء حزب «النهضة». وعلّقت «يافطة» كبيرة عليها صور دامية عن ضحايا القمع في سوريا تحث المسلمين على التبرّع بالمال. وفي سوق السبت، يتولّى السلفيون الحفاظ على النظام، ويطردون السارقين في غياب الشرطة، ويحملون اليافطة ذاتها في التقاطع الرئيس، بينما تنهال أموال التبرعات في وعاء بلاستيكي. وبجوار التقاطع، لا يحظى مقام سيدي بوزيد، «القطب» الصالح الذي سُمّيت البلدة تيمّنًا به، إلاّ بتبرعات زهيدة من بضع نساء يلتمسن شفاعته.
قيل لي إنّ السلفيين في المستشفى المحلي يحرصون على نيل المرضى عناية متكافئة، ويمنعون «البقشيش»، إلاّ أنّهم يفصلون بين النساء والرجال. قبل يومين على قدومي البلدة، خرّب السّلفيون آخر محلّ يبيع الجعة، ورأيت مئات القوارير المحطّمة مكدّسة في سلال المهملات. وفي صباح التاسع من الجاري، التقيت أمام الجامع بـ«أبو عياض»، وهو جهادي سابق في أفغانستان وزعيم «أنصار الشريعة». بدأت المقابلة على ما يرام، غير أنّها سرعان ما توتّرت بعد أن تدخّل أحد حرّاسه الشخصيّين الذي أمسك بي محذّرًا زعيمه من السّمّ الذي يخفيه هذا المستشرق الكافر خلف كلامه باللغة العربية الفصحى.
تسعى قوات الأمن التونسية راهنًا إلى القبض على «أبو عياض» بتهمة التحريض على تخريب السفارة الأميركية من خلال صفحة «أنصار الشريعة» على موقع «فايسبوك». وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه المنظمة تحمل الاسم نفسه كالمجموعة السلفية الجهادية التي تشتبه السلطات الليبية بمسؤوليتها في الاعتداء على القنصلية الأميركية في بنغازي.
مع ذلك، لم يربح السلفيون المعركة بعد. ففي سيدي بوزيد، تجول غالبية النساء الطرقات بدون حجاب بكلّ حرية. وفي أوساط حزب «النهضة»، تثير السلفية الجهادية تناقضات متزايدة: فبينما يرى قادته التقدّميّون أنّ ممارساتها العنيفة تطرح أكبر تهديد على «النهضة» والدولة التونسية، يتفهّمها الأكثر تشدّدًا والمقرّبون من السلفيّين على خلفية أحداث الحادي عشر من الجاري بسبب الإهانة التي تعرّض لها المسلمون في الفيلم المسيء للإسلام الذي أنتجه رجل قبطي من كاليفورنيا.
في ليبيا كما في مصر، يؤدي فقدان الأوهام والأمل في صفوف شريحة كبيرة من الشباب الفقراء بعد أكثر من عام على اندلاع ثورةٍ يرون أنّها خانت مبادئها ونكثت بوعودها، إلى الالتحاق بصفوف الحركات الإسلامية المتطرفة التي تنادي بانشقاق ثقافي عن كلّ القيم السارية في مجتمع قائم على الجور وازدراء الدين.
هذا هو إذًا تحدّي الديموقراطيات العربية اليافعة: إمّا أن تضع القوى الحاكمة الجديدة، ومن ضمنها «الأخوان المسلمون» بعد بلوغ سدة الحكم بالاقتراع العام، المسألة الاجتماعية في صلب أولوياتها، أو أن يجتاح المدّ السلفي الثورات كافة عبر تسخير إحباط الشباب الفقراء في ضواحي المدن والأرياف لصالحه. فكما أحرق بو عزيزي نفسه، وكما يحرق الهاربون من البؤس أوراقهم قبل التوجه بطريقة غير شرعية إلى لامبيدوزا أو أوروبا، ستعود نيران الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، مثلما عادت إلى بنغازي، لتحوّل الثورات العربية إلى رماد.
جيل كيبل ـ باحث في العلوم السياسية
عن «لوموند» الفرنسية
ترجمة أسيل الحاج
السفير
الخوف الكبير لمسيحيي سوريا
جان لوي لوتوزت
على الرغم من إنقضاء ثمانية عشر شهراً على الحرب، لم تُصغْ حتى الآن وجهة نظر شاملة عن وضع المسيحيين في الشرق. حتى اللحظة، هذه المهمة تبدو مستحيلة، لأن لا الصحافيين ولا الجمعيات الأهلية… «إلا الانتحاريين من بينهم، يمكنهم الدخول الى أحيائنا. نحن محبوسون في بلادنا والمسيحيون يخشون التعبير عن رأيهم، خوفاً من الأعمال الإنتقامية». هذا ما قاله لنا لدى مروره في فرنسا، الأب مروان، وهو راهب يسوعي أصله من حمص، يبلغ حوالي الأربعين من العمر. وهو الآن في طريق عودته، عبر بيروت، الى بلدته حمص، حيث ينتظره أبناء رعيته لرئاسة قداس، و»لأبقى بالقرب من أكثرهم فقراً، أكثرهم حرماناً، وغالبيتهم على كل حال من أبناء الطائفة السنية». لا يود الراهب اليسوعي الاسترسال في الكلام، «لكي تسمح لي السلطات بالمرور من لبنان إلى سوريا».
ربة عائلة انضمت إلينا عبر الهاتف، تعيش في حي السليمانية الحلبي، وترفض الاعلان عن اسمها، تقول: «أنا منذ البداية رفضت الاشتراك في هذه الحرب، لأن الصراع فيها غريب عنا تماماً، نحن المسيحيين». وهي تختم حديثها الينا بالقول: «ليس عندي شيء إضافي أقوله. نحن تحت رحمة القنابل وكنائسنا تدمَّر. أنتم الصحافيون تنظرون الى افراد الجيش الحر كأنهم محرِّرين، ولكن هذا ليس رأي المسيحيين».
راهب كاثوليكي شرقي أصله أيضا من حمص التقيناه في باريس الأسبوع الماضي، ويرفض بدوره الافصاح عن هويته، يقول: «ليس صحيحاً القول بأن أبناء الطائفة المسيحية موالين للنظام… يقفون خلفه. هناك بالأحرى طائفة خائفة، سواء في حمص أو حماه أو دمشق، عالقة بين جبهتين، ويمكن اعتبارها رهينة حرب».
راهب سوري آخر، يسوعي، تكلمنا معه عبر الهاتف، مقيم في حي العزيزية الحلبي، يبرر عدم الإفصاح عن اسمه بالقول: «اذا اعلنتُ عن هويتي، فذلك قد يضر بأبناء الطائفة، لأن البطاركة والقساوسة لا يقاسموني بالضرورة رأيي». ماذا يقول هذا الأب اليسوعي بخصوص زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر للبنان؟ «الوضع في سوريا لا يقارَن بذاك الذي عرفه لبنان، الذي شهد مواجهات مباشرة بين مسلميه ومسيحييه. هنا، المسلمون السنة لا يأخذون شيئا على المسيحيين. يبدو لنا بأن البطاركة وأصحاب المقامات الدينية مترددون، مرتبكون، لم يعوا تماما حجم ما يحصل في حلب أو حمص. انها حرب أهلية، ولكنها ليست صراعا دينيا. القذائف التي يطلقها الجيش الحر ليس سقوطها في الأحياء المسيحية مقصوداً، كما يحاول البعض ايهامه منذ بعض الوقت. فهذه القذائف تسقط فوق رؤوس سوريين، وهي تقتل سوريين».
يوم الجمعة الفائت، نالت القذائف المدفعية من كنيسة القديس ميشال وكنيسة «الخلاص الدائم» في حيّ العزيزية في حلب، حيث هاجر 70 بالمئة من ابنائه الميسورين، بحسب إحدى الابرشيات الكاثوليكية.
ولكن الأب اليسوعي يرى بأن هذه النسبة هي ما دون الحقيقة، ويتابع: «مقابل هجرة الميسورين، فان 70 بالمئة من أبناء الأحياء الفقيرة لم يتحركوا من مكان سكنهم، فهم لا يملكون المال للهروب الى لبنان أو أوروبا». وهو يحذر من فصول «تسميم الاجواء»، موضحاً: «سمعت على الفور «انهم يستهدفون المسيحيين». من هم «هؤلاء»؟ تسألهم، فيجيبونك انهم «الجيش الحرّ». ان هذه المعلومة عارية تماما عن الصحة، فالمستهدف كان مقرا للشرطة ملاصق لكنيسة القديس ميشال. ولكنني لست ساذجا ايضا. وانا أعلم بأن هناك جهاديين بين افراد الجيش الحر». وهو يتابع بأنه سبق له ان اتصل بمقاتلين من المتمردين دخلوا الأحياء المسيحية مثل الميدان. هل شعر، عندما قابل المتمردين المسلحين، بأنهم يشكلون خطرا على ابناء طائفته؟ «لم يتهيأ لي بأنهم حاقدون على المسيحيين»، يجيب، ثم يتابع: «كل ما فعلوه انهم سألوني عما نحتاجه. وأجبتهم بأننا بحاجة الى أدوية لمهجرينا، سواء كانوا مسلمين او مسيحيين».
حسب صحيفة «التلغراف» اللندنية، فان هذه الأحياء شهدت تكوّن ميليشيات مسيحية خلال الأسبوعين الأخيرين. لكن الأب اليسوعي يوضّح: «بعض أبناء الطائفة المسيحية حملوا السلاح لحماية أنفسهم. ولكنهم من الشبيحة، والنظام هو الذي سلحهم. كررتُ لهؤلاء بأن الكنيسة لا تؤيد استخدام السلاح، حتى لحماية الصروح الدينية. وأعدت عليهم القول بأنهم اذا اشتركوا في القتال، سواء مع هذا الطرف أو ذاك، فانه لا يمكن لهم الاعتداد بالانتماء لأية كنيسة».
يبقى ان الوضع العسكري «يطغى عليه الجمود التام». وهذا بالضبط ما يردده الأب زياد، الذي تكلم معنا من حمص: «نحن بين نارين. القوات النظامية تدفع الهجمات عن نفسها، وهي في حالة انتظار. يوم تستولي على شارع، ويوم آخر تخسره. وفي اليوم التالي تعود الحركة نفسها… هكذا. ومن بقي من أبناء الطوائف المختلفة هو تحت النيران».
الأب زياد يقدّر بأنه «بقي ثلاثون ألف مسيحي في المدينة وضواحيها، من أصل مئة ألف كانوا يعيشون فيها قبل اندلاع القتال». يقول مصدر لبناني قريب من مسيحي الشرق بأن الخدمات الديبلوماسية الاميركية قامت مؤخرا باحصاء «حول امكانيات استقبال السوريين المسيحيين النازحين وسط الطوائف الارمنية والمارونية والارثوذكسية والكاثوليكية في لبنان. وكان سؤالها لهم «كم من المسيحيين يمكنكم ان تستقبلوا؟ ما هي قدراتكم الاستيعابية؟».
[ـ صحيفة «ليبراسيون» (17 ايلول 2012)
المستقبل