مقالات لكتاب سوريين تناولت الانتخابات الرئاسية في سورية
تهريج مكشوف/ ميشيل كيلو
من غير المعقول وصف ما جرى في لبنان والأردن من إقبال على صناديق الانتخاب في السفارتين السوريتين بغير “التهريج المكشوف”، ليس فقط لأن من انتخبوا لا يتخطون 2% من السوريين الموجودين في لبنان، بل، أيضاً، لأن معظم هؤلاء اقتيدوا إلى السفارتين بالعصا والجزرة.
لو أخذنا لبنان مثالاً، حيث كان هناك تطبيل وتزمير لما سمّوه في دمشق “العرس الوطني”، لوجدنا أنفسنا أمام سوريين يعيشون في الضاحية والجنوب، كان من المحال أن ينجوا بأنفسهم من ضغوط حزب الله، بعد أن أحضر لهم السيارات ووضعها في أماكن قريبة من بيوتهم، وقام بزيارات مكثفة إلى منازلهم، وهددهم وتوعدهم، وأفهمهم أن المسألة ليست فقط في إعادة انتخاب بشار الأسد، بل هي تتعلق، قبل كل شيء، بإعادة إنتاج شرعية للنظام، بديلاً عن شرعيته السابقة، التي انهارت داخلياً وعربياً ودولياً، ويريد الأسد أن يواجه العالم بشرعية جديدة هي الشرعية الشعبية التي تحتّم ذهاب كل سوري، باختياره أو بالإكراه، إلى السفارة السورية في بيروت، أو إلى أحد مقرات حزب البعث اللبناني، ليشارك في منح النظام شرعيةً، هو في أمس الحاجة إليها، بعد أن أفقدته سياسات القتل والتدمير جميع أنماط شرعية الدول، وحولته من نظام إلى عصابةٍ، تكمن مبررات وجودها في قوة سلاحها. للرد على هذا الواقع الذي سيمنع العالم من استرداد علاقاته مع الأسد، سنوات وربما عقوداً، والذي جعل منه نظاماً يشبه ما كان قائماً في جنوب إفريقيا قبل رئاسة مانديلا، من الضروري أن تبدو أموره، من الآن فصاعداً، وكأنه استعاد قبول قطاعات من السوريين لحكمه، بدت في إعادة انتخابه أنها تمنحه تأييدها “الطوعي”، أو شكلاً ما من أشكال الشرعية الشعبية، وتقنع حزب الله وأنصار الأسد اللبنانيين بأنهم يدافعون عن قضية يدعمها السوريون، وأنهم ليسوا في سورية لمقاتلة شعبها، ما يشرعن وجودهم فيها وغزوهم لها.
” لم يتعلم النظام شيئا في الأعوام الثلاثة ونصف الماضية، وبقي متمسكا بموقفه، الذي استهدف دوما إجبار شعب سورية على تغيير موقفه منه، والرضوخ له من دون قيد أو شرط. هذه المرة أيضاً، يقول بشار الأسد: على الشعب أن يغير موقفه مني، بعد أن هزمته، أما أنا فلماذا أغير، إن كنت أستمد شرعيتي الحقيقية وأهليتي للحكم من قدرتي على قتل السوريين، بلا حسيب أو رقيب؟ ”
بهاتين الخلفيتين، مارس الحزب، بالشراكة مع عصابات القوميين السوريين من عملاء المخابرات السورية المعروفين، ضغوطا هائلة على المواطنين السوريين، وبالدرجة الأولى، من يعيش منهم في لبنان منذ عقود، ولم ينخرطوا في الثورة بسبب غيابهم عن وطنهم، وتتطلب مصالحهم قيامهم بزيارات إلى بلداتهم وقراهم ومدنهم، وبقاءهم على صلة مع ذويهم، ومحافظتهم على شعرة معاوية مع نظام القتل، وتلبية بعض ما يريده منهم. في المقابل، لم تفض تهديدات الحزب والعصابة، التي وجهت إلى المهجرين السوريين في المخيمات عن أي نتيجة، على الرغم من أنهم تلقوا تهديدات بالقصف والقتل والحصار، في حال قاطعوا الانتخابات. لو كان هؤلاء انتخبوا، أو أعطوا علاماتٍ تفيد بتغير ما أصاب موقفهم، لكان الأمر مقلقاً. أما أن ينظم حزبان فاشيان شموليان بمساعدة وأموال أجهزة أمن عابرة للحدود، وموجودة بقوة في لبنان، اعتادت، طيلة نصف قرن، على اختراق شعبها، وتسييره بالطريقة التي تخدم مصالحها، فهذا ليس أمراً عظيم الشأن. ومن عايش النظام السوري يعلم علم اليقين أنه لم يقم يوماً أي وزن لرأي شعبه، هذا إن كان قد سمح له يوماً بأن يكون له رأي، فالانتخابات كانت بالنسبة له مناسبة لإذلاله، بإظهار الشوط الذي قطعه في كل ما يتصل بإطباق قبضته الفولاذية على عنقه، والمدى الذي بلغه في ترويضهم، وإلغاء قدرتهم على التفكير، وحقهم في الاختيار، فما الذي يدفعه، اليوم، إلى إبداء هذا الاهتمام المبالغ فيه بأصوات مواطنين، لم يحمل لهم قط أي قدر من الاحترام، ولم يترك مناسبةً، إلا وأبدى فيها احتقاره لهم، واستهتاره بكراماتهم؟
هل يحتاج من قتل وشرد وجرح وأعطب وعذّب ولاحق وأخفى وشوه مليوني سوري إلى أصوات من بقوا أحياءً من ضحاياه، لكي يبقى في كرسي الحكم؟ وأية شرعية يمكن لهؤلاء منحه، حتى في حال هرولوا جميعهم إلى صناديق الانتخاب وأيدوه؟ ومن سيصدق أن النظام الذي كان يستخدم العنف، أيام السلم لانتزاع موافقة السوريين على نواب مجلس شعبه ورئيس جمهوريته، سيمنحهم اليوم، وسط موتهم ودمار قراهم وبلداتهم ومدنهم وركام بيوتهم، حق اختيار من يريدونه، الذي يعني حق التخلي عن بشار الأسد، الذي أباد نصف شعبه، لا لشيء إلا ليبقى في الحكم؟
لم يتعلم النظام شيئا في الأعوام الثلاثة ونصف الماضية، وبقي متمسكا بموقفه، الذي استهدف دوما إجبار شعب سورية على تغيير موقفه منه، والرضوخ له من دون قيد أو شرط. هذه المرة أيضا، يقول بشار الأسد بكل اختصار: على الشعب أن يغير موقفه مني، بعد أن هزمته، أما أنا فلماذا أغيّر، إن كنت أستمد شرعيتي الحقيقية وأهليتي للحكم من قدرتي على قتل السوريين، بلا حسيب أو رقيب؟
العربي الجديد
الأسد والسيسي .. سباق التزوير/ نائل حريري
“انتخابات محسومة” و”عرس ديمقراطي” .. مفردات تحلم بها أي سلطة حاكمة، حديثة العهد بالديمقراطية، وتعاني الخوف من الفوضى التي يمكن أن تنجم عن “خيارات الشعب”. يفترض، في هذه الحالة، أن واقع الرقص والطبل والزمر الفعلي ليس ما رصدته الكاميرات من الشعب، بل للأنظمة الحاكمة التي ستجلس في استرخاء وتتابع المشهد بلا خوف، ما دام “العرس ديمقراطياً” و”الانتخابات محسومة”. لكن هذا لم يحصل، لا في تجربة الانتخابات الرئاسية المصرية التي انتهت، ولا السورية التي بدأت للتو. فشلت السلطتان فشلاً ذريعاً في الاسترخاء، والابتعاد عن التحكم بالتفاصيل الصغيرة، وانتظار النتيجة المحددة سلفاً.
عاشت مصر بكائية استجدائية، على مدار ثلاثة أيام، لمجابهة عدم رغبة المصريين في المشاركة، ساهم فيها الإعلام المصري المسيس “بالمعنيين السياسي والسيسي” من جهة، وساهمت فيه، من جهة أخرى، الحكومة المصرية، ممثلة برئيس وزرائها الذي سخر مؤسسات الدولة وخدماتها لأغراض تسويقية، ومن جهة ثالثة، اللجنة العليا القضائية للانتخابات التي راحت ترمي النوايا، واحدة تلو أخرى، بدءاً بتطبيق غرامة مالية، وانتهاء بالتهديد بالاعتقال. فخرجت مصر من ذاك الهزال السياسي بفوضى في المجتمع الداخلي، وضعف على المستوى الخارجي، بالإضافة إلى خسائر مالية، كان أهمها الخسائر المباشرة للبورصة المصرية، بما لا يقل عن ستة مليارات جنيه، بسبب قرار مد التصويت وحده.
الصورة التي قدمها المصريون في عزوفهم عن “العرس الديمقراطي” كانت مقلقة بشدة للسلطة الأمنية الحاكمة، لا لأنها تعني عدم فوز المشير السيسي، بل لأنها تعني عدم فوزه بالرقم الذي كان يحلم به، وهو “أربعون مليوناً”. ليس ذنب مصر أن رئيسها المقبل لا يتقن الحساب، أو أنه لا يعرف عدد الصناديق الانتخابية في مصر، والبالغة 13899 صندوقاً، والتي لو استوعبت صوتاً في كل دقيقة بلا توقف، طوال اليوم الانتخابي، على امتداد مصر بأكملها، لأحرزت عشرة ملايين صوت في اليوم الواحد.
في تصريح تلفزيوني قريب، صرح الكاتب الصحفي، عبد الحليم قنديل، أن عدد المصوتين في اليوم الثالث لم يتجاوز خمسة ملايين، وهي المعلومة الوحيدة الصادقة في سيل الأكاذيب الذي يسوقه قنديل، وغيره، على شاشات الإعلام المصري، محاولين التأكيد على أن اليوم الإضافي الذي شهد الإقبال الأكبر، بسبب إشاعات الغرامة والاعتقال، لم يكن مؤثراً كبيراً في عدد الأصوات. لكن، إن كان ذلك الكلام صحيحاً، فكيف أمكن لهذه اللجان الفارغة، والصناديق الخاوية، أن تحتضن ما يزيد عن 25.7 مليون صوتاً؟ تقول أغلب الجهات التي راقبت الانتخابات الرئاسية المصرية إن اللجان الانتخابية كانت نزيهة بالمعنى العام، وهذا لا يعني أن الانتخابات كانت نزيهة. إنه يعني فقط أن تزوير الأصوات تم خارج اللجان، وأن الفرز تضمن مئات الصناديق من الأصوات “بلا مصريين”.
والآن، يعيد النظام السوري إنتاج المسرحية المشابهة، كما اتضح من الانتخابات السورية في لبنان، والتي أعلن التلفزيون السوري عن استقبالها 250 ألف صوت في يوم واحد، أي بمعدل 347 صوتاً في الدقيقة الواحدة (عدلت وسائل إعلامية الرقم، بعد انتهاء اليوم الأول، وخفضته إلى 80 ألفاً، أي بمعدل 83 صوتاً في الدقيقة الواحدة). وبهذا، يبدو أن المشهد سيوغل في التشابه لاحقاً مع نظيره المصري، إذ سننتظر اعتناقاً مشابهاً لمبدأ التغريم، أو الإيحاء به، لكننا لن نشهد، بالضرورة، لجاناً خاوية لدى النظام السوري، المستعد برجاله وعتاده، لصورة معدة سلفاً، كما أننا لن نشهد فرزاً فعلياً للأصوات التي ستقرها لجنة معينة من رئيس الجمهورية نفسه. وإذا كان باحثون سياسيون كثيرون قد توقعوا اكتفاء الأسد بنسبة تقارب 75% هذه المرة، كسراً للروتين، فإن أغلب الظن أن الأسد الآن ينتظر النتائج النهائية للانتخابات المصرية، ليحدد النسبة التي سيقبل بها، والتي سيصر، بالضرورة، على أن تتجاوز النسبة التي سيحققها السيسي، والتي تجاوزت 95% حتى الآن.
ما سيثير السخرية حقاً، أن يصر النظام السوري على تحقيق نسبة مشاركة أعلى من النسبة المصرية كذلك. كان رئيس مجلس الشعب السوري قد صرح أن من يحق لهم التصويت في الانتخابات السورية يقاربون 16 مليوناً، ما يفترض أن المقيمين في الداخل السوري يتجاوزون 30 مليوناً، نصفهم تحت سن الانتخاب. فهل يعني ذلك أنه سيحاول الوصول إلى ثمانية ملايين على الأقل، كي يتجاوز نسبة المشاركة 46% التي صرحت عنها اللجنة العليا الانتخابية المصرية؟ أم سيحاول كسر الرقم، للحفاظ على الصدارة، متجاهلاً حقيقة أن ربع السوريين مهجرون خارج البلاد، وربعهم الآخر في مناطق خارج سيطرته، وجميع من في مناطق سيطرته في الداخل السوري ممن يفوقون 18 سنة لا يتجاوزون ستة ملايين شخص فقط؟
العربي الجديد
“الأسد وسنحرق ما بقي من البلد”/ محمد يحيى مكتبي
في الأشهر التسعة الأولى من الثورة السورية والتـــي اتسمت بزخــم شعـــبي كبير، حـــيث شاركت كل شرائح المجتمع السوري ومكـــوناته في التظاهرات التي كانت تعم كل أنـــحاء سورية، لم يتورع نظام الأســد عن استخدام الرصاص الحي لقتل المتظاهرين، والذين بلغ عددهم حوالى ٦٠٠٠ شهيد من بينهم ٣٥٤ طفلاً و٢٨٨ امـــرأة. هــــذا إضافة إلى اعتقال الآلاف من السوريين وإخضاعهم لعمليات تعذيب وتنكيل ممنهجة في أقبية الفروع الأمنية السيئة الصيت.
وكان شعار جنود الأسد في تلك المرحلة: «الأسد أو نحرق البلد»، حيث كانوا يضعونه على الجدران في الأماكن التي يمرون منها بعد ارتكابهم عمليات القتل والتعذيب والاغتصاب والسرقة، ليُعْلِموا السوريين ما ينتظرهم من إجرام وقتل وتدمير في حال أصروا على المُضي قُدماً في طريق نيل حريتهم واستعادة كرامتهم وخلاصهم من حكم عائلة الأسد الاستبدادي وسنوات القهر الأمني الذي مُورس على الشعب السوري أربعة عقود.
اليوم وبعد أن قتل نظام الأسد ما يزيد عن ١٥٠ ألف شهيد أكثرهم من المدنيين الآمنين واعتقل ٢٥٢ ألفاً، استشهد منهم ١٨ ألفاً تحت التعذيب، وبعد ٩٤ ألف مفقود وحوالى ٧.٥ مليون مهاجر داخل سورية و ٣.٥ مليون لاجئ في دول الجوار ودمار لمليون ونصف مليون منزل، إضافة إلى الأضرار الكبيرة التي لحقت بالسيارات والأثاث والنهب لمدخرات السوريين من عصابات الأسد، إذ قُدرت تلك الأضرار إجمالاً بنحو ٢٠٠ مليار دولار، بات ما حدث ويحدث في سورية أكبر كارثة إنسانية بعد الحرب العالمية الثانية وفق تقارير دولية.
وقد أصبحت سورية بلداً محتلاً من الحرس الثوري الإيراني والميليشيات العراقية و «حزب الله» و «داعش» وعدد لا يُحصى من المرتزقة، الذين جلبتهم إيران من كل حدب وصوب لقتل الشعب السوري، بذريعة الدفاع عن مقامات آل البيت الأطهار!
بعد كل هذه «الإنجازات» المروعة التي قل نظيرها لرئيس في تاريخ البشرية، تأتي المسرحية الهزلية للانتخابات الرئاسية، وشعار حملتها «سيبقى الأسد وسنحرق ما بقي من البلد». لكنها تحتاج هذه المرة، خلافاً للمعتاد، إلى «منافسين كومبارس» من أجل إقناع دول العالم بالديموقراطية التي هبطت فجأة على نظام الأسد من غير سابق إنذار، وأن الماركة المسجلة لعائلة الأسد وأمثالها من الأنظمة الاستبدادية، وهي الفوز بالانتخابات الرئاسية بنسبة ٩٩.٩٩ في المئة من دون منافسة، لم تعد تصلح في هذه الأيام، ولا بد من إجراء تعديلات على ديكورات المسرحية.
في كل دول العالم المتحضر، تظهر نتائج الانتخابات بعد فترة وجيزة من إجرائها بسبب التقنيات الحديثة في الفرز والإحصاء. لكن في الأنظمة الاستبدادية كنظام الأسد لا تظهر نتائج الانتخابات إلا بعد فترة طويلة. وأستطيع أن أعلن منذ الآن أن بشار الأسد سيفوز في المسرحية الهزلية لانتخابات الرئاسة.
المشكلة ليست في تلك المسرحية الهزلية التي سيجريها الأسد وشبّيحته. المشكلة الحقيقية في المجتمع الدولي الذي يسمح لنظامه بالبقاء جاثماً فوق صدور السوريين، وأخذه السوريين الموجودين في المناطق التي يسيطر عليها كرهائن وإجبارهم على انتخابه واستمراره في قتل الشعب السوري عبر إلقاء البراميل المتفجرة والصواريخ الباليستية والقنابل العنقودية والأسلحة الكيماوية.
إن المكان الطبيعي لمجرم الحرب بشار الأسد وشبّيحته هو خلف القضبان في محكمة الجنايات الدولية لينالوا جزاء ما اقترفته أيديهم بحق الشعب السوري. فهل يتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته الأخلاقية والقانونية تجاه ما يجري في سورية؟ ويجد حلاً لـ «المقاومة والممانعة» الروسية-الصينية في مجلس الأمن لإحالة ملف الجرائم في سورية إلى محكمة الجنايات الدولية، بما ينقذ ما بقي من البشر والحجر ويفتح بوابة أمل لدى السوريين للخلاص والبدء ببناء سورية المستقبل التي يحلمون بها؟
* عضو الهيئة السياسية في الائتلاف السوري
الحياة
نظام الأسد و«انتخابات الدم» السورية/ أحمد الجربا
خلال هذا الأسبوع سيعلن بشار الأسد أمام العالم أنه أعيد انتخابه مرة أخرى رئيساً لسوريا، والحال أن الانتخابات برمتها ليست سوى عملية نصب واحتيال على الشعب والعالم، ونتائجها معروفة سلفاً، هذا ناهيك عن أن المستبدين لا يتم انتخابهم، بل يتمسكون بالسلطة، من خلال القوة والخوف، وهما الحفازان الوحيدان اللذان قد يدفعان السوريين للنزول، والمشاركة في المسرحية.
وليس خافياً أن محاولة الأسد التظاهر بأنه يشرف على انتخابات معترف بها قانونياً، بعد كل جرائم القصف والتجويع والذبح التي مارسها على شعبه طيلة السنوات الثلاث الماضية، إنما يرمي في الحقيقة إلى إسباغ لبوس من المشروعية على النظام الديكتاتوري، رغم ما ينطوي عليه الأمر من كذب وتضليل.
وفيما وصف وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، الانتخابات السورية بأنها «مسرحية سياسية مريبة»، اعتبرها نشطاء الديمقراطية السوريون بأنها «انتخابات الدم»، وهي تكشف للعالم أن من يحاول السعي إلى إنجاح المسرحية الممجوجة هما فقط روسيا وإيران اللتان أرسلتا «مراقبين» لمتابعة سير التصويت، ورغم أن المجتمع الدولي أدان «الانتخابات» بوصفها عملية هزلية وبعيدة عن المعايير الديمقراطية الحقة، فستكون لمناورة الأسد تداعيات خطيرة؛ فهي أولاً ستنسف البيان الصادر عن الأمم المتحدة في جنيف، والذي يطالب بإنشاء هيئة حكم انتقالية تتمتع بكافة السلطات التنفيذية، كما ستضفي على نظام الأسد واجهة مزيفة من المشروعية التي سيسعى هو ورعاته في موسكو وطهران إلى استغلالها على الساحة الدولية، والأكثر من ذلك فإن هذه المسرحية الهزلية ستعطي للأسد فرصة ادعاء تفويض شعبي لتصعيد عنفه، وتدميره ضد الشعب السوري.
لكن مهما بلغ عدد السوريين الذين يقتلهم الأسد، فلن تنجح دباباته ولا طائراته، ولا صواريخه في إجهاض ثورتنا، لذا يتعين على المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة إيصال رسالة واضحة للأسد مفادها أنه لن يتسامح مع آلة القتل والتنكيل المستمرة ضد السوريين، وأن الأمل في تحقيق نصر عسكري ليس قائماً، وإذا كنا جميعاً متفقين على ضرورة اجتراح حل سياسي للأزمة السورية، إلا أنه وحتى هذه اللحظة لا يملك الأسد من الدوافع ما يحثه على الانخراط في حوار جاد مع المعارضة، ليبقى السبيل الوحيد للوصول إلى حل سياسي هو تغيير ميزان القوة العسكرية في الميدان بما يكفي لدفع الأسد إلى التفاوض حول إطلاق عملية انتقال سياسي على نحو ما جاء في بيان جنيف.
وفيما يرى بعض المراقبين للشأن السوري أن الأزمة غير قابلة للحل، وأنه لا مفر من بقاء الأسد في السلطة، نقول لهم، لا الشعب السوري، ولا الولايات المتحدة يستطيعان القبول بهذا الموقف الانهزامي، فأي محاولة لفك الارتباط بالموضوع السوري، وترك البلد نهباً للأسد وزبانيته سيحولها إلى ملاذ لـ«القاعدة» والمتطرفين الآخرين المدعومين من إيران، مثل «حزب الله» وغيره، ليرتعوا بحرية في سوريا، ويخططوا لهجمات ضد الولايات المتحدة وأوروبا وحلفائهما في الشرق الأوسط، لذا نؤكد دائماً بأن أميركا والمعارضة السورية المعتدلة هما في خندق واحد لدحر الأعداء المصرّين على الإضرار بنا معاً.
ولدعم شراكتنا الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، قمت خلال الشهر المنصرم بزيارة لواشنطن على رأس وفد من المعارضة السورية، حيث كانت رسالتنا لشركائنا الأميركيين واضحة: معاً نستطيع تغيير الوضع وقلب الأمور، فلو أن الداعمين الدوليين الأساسيين لتطلعات الشعب السوري المشروعة، في صراعه ضد الظلم والاستبداد، لاسيما الولايات المتحدة، تحركوا سريعاً لإيصال المساعدات لقواتنا على الأرض، فسيصبح الميدان متساوياً أمام الجميع، ويضع المعتدلين في سوريا من جميع الأطراف على سكة التفاوض للوصول إلى حل سياسي دائم ينهي الصراع، ويفتح صفحة جديدة في سوريا المستقبل. وهنا لابد من الإشارة إلى أن ائتلاف المعارضة السورية لديه حكومة تستطيع تولي الإدارة المؤقتة للبلد، في انتظار كتابة دستور جديد وتنظيم انتخابات ديمقراطية حقيقية لاختيار ممثلي سوريا وإرساء نظامها الجديد. كما أننا داخل سوريا نعمل على إنشاء أسلوب في الإدارة الميدانية، من خلال شبكة من المجالس المحلية التي هي عبارة عن هيئات تستند إلى قواعد على الأرض تساعد في إقامة مجتمع مدني وليد يتولى المسؤولية بعد عقود طويلة من حكم أسرة الأسد التي عملت على تدمير كل التنظيمات الاجتماعية والمدنية الخارجة عن سيطرتها، ويمكن الجزم بأن الخطط جاهزة والمعارضة مستعدة لإدارة الأمور وتسلّم السلطة الانتقالية.
وخلال وجودي مؤخراً في واشنطن، قمت بزيارة للنصب التذكاري للرئيس لينكولن. ومعروف أن أميركا نفسها مرت بفترة من الصراع الدامي قبل أن تخرج منها أكثر قوة وتماسكاً. وفيما تحدث لينكولن في خطاب «جيتسبيرج» الشهير، بعد انتهاء الحرب الأهلية، عن «ميلاد الحرية الجديدة» التي «ستجلب المساواة للجميع»، فإن هذه الكلمات هي ما يحاول الشعب السوري تمثلها اليوم في صراعه ضد الظلم والاستبداد. فنحن أيضاً مصرون على ضمان ألا تذهب دماء السوريين وتضحياتهم سدى، وبعد أن صارت خريطة الطريق نحو السلام وسوريا الجديدة معروفة وواضحة، وتم وضع الخطوات اللازمة للانتقال السياسي بالتعاون مع شركائنا وحلفائنا، فإن ما يحتاج له السوريون الآن هو الإجراءات الملموسة على الأرض التي تهيئ الظروف لإقامة هيئة الحكم الانتقالي في المناطق المحررة، لكن هذا الأمر لا يمكن تحقيقه من دون قيادة أميركية، وهو ما يفسر مطالبتنا لشركائنا ممن نتقاسم معهم المصالح نفسها في إرساء الأمن والاستقرار والحرية في سوريا وعموم المنطقة، للمسارعة نحو تقديم الدعم والمساعدة.
رئيس ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
الاتحاد
الانتخابات في سورية أداة حرب وإخضاع/ إيلي عبدو
تعامل النظامُ السوريّ مع خطوة انتخابات الرئاسة باعتبارها جزءاً من آلته العسكرية التي تمعن، منذ ثلات سنوات، قتلاً وتهجيراً ضد عموم السوريين. ولم يكن تحويل صناديق الاقتراع إلى براميل متفجرة مجرد حيلة فنية، ابتدعها ناشطون معارضون، ضمن حملات إدانتهم “انتخابات الدم”. وليست المماهاة بين الصندوق الذي يحيل إلى السياسة والبرميل الذي يحيل إلى العنف أمراً عارضاً في سلوك هذا النظام، بل جوهري، يتغلف بقصدية المزج بين العنف والسياسة وإزالة الحدود بينهما. ذاك أن حزب البعث لم يميز بين الدبابة وصندوق الاقتراع وسيلة للوصول إلى السلطة في سورية نهاية الستينيات، وعدم التمييز جزء من عقيدة شمولية، تُخضع العنف للسياسة، وتتوسله ذراعاً جوهرياً لها، لتبدو العلاقة بينهما لزجة وعسيرة الفصل.
أراد بشار الأسد أن يستخدم مفهوم الانتخابات سلاحاً في معركته المتواصلة ضد شعبه، فلم يكتف بتفريغ المفهوم من بعده الديمقراطي، بل منحه بعداً عسكرياً يسرّع الحسم ضد الجموع المنتفضة، لتبدو العملية الانتخابية الأسدية جزءاً من المخطط الرامي إلى قمع الثورة. مخطط بدأ بنزع أظافر أطفال درعا، مروراً بتهديم المدن والقرى فوق رؤوس ساكنيها، وصولاً إلى الانتخابات. هو مسار يُلابس العنف والسياسة، يُخالط بينهما عن عمد، كاشفاً عن نازع استبدادي-عائلي صلب، يحترف ارتكاب الجرائم والتنصل من استحقاقاتها المفاهيمية، فتنتزع فكرة الانتخابات من بيئتها المعرفية أداة للممارسة الديمقراطية، لتصبح وسيلة حرب قهرية، تستكمل عمل الطائرات والمدافع والبراميل المتفجرة.
” إذا كانت بعض الكتل المجتمعية صوتت للأسد، بدوافع طائفية أو مصلحية، فذلك لا يغير من طبيعة الشروط العنفية التي صنعها النظام، لإنتاج انتخابات رئاسية، أقل ما يقال فيها إنها استكمال للحرب التي تشنها آلته العسكرية ضد عموم المناطق والقرى السورية الثائرة”
ثمة تبادل أدوار بين أدوات الأسد القمعية، بعضها يهتم بتصفية المعترضين جسدياً ومادياً، وبعضها الآخر يُخصص للاستلاب الكياني، وتحويل هؤلاء المعترضين إلى أصوات انتخابية خائفة. وبذلك، يصبح المصوتون ضحايا، يماثلون أولئك الذين يسقطون جراء البراميل المتفجرة، وكأن الجثث تعادل الأصوات لدى المنطق الأسدي الساعي إلى وأد الثورة. أساليب الترغيب والترهيب التي استخدمتها أجهزة النظام، لإرغام الناس على المشاركة بالانتخابات الرئاسية، من تهديد الموظفين بقطع رواتبهم، مروراً بإجبار طلاب الجامعات على التصويت للأسد، وصولاً إلى التهديد بالاعتقال، لا تختلف كثيراً عن التي يستخدمها النظام في حربه العسكرية ضد شعبه، حيث القصف العشوائي والتدمير الممنهج واستهداف القرى بغاز السارين والكلور.
النظام الذي يسعى إلى إخضاع المعارضين العلنيين، بقصفهم وتحويلهم إلى جثث هامدة، يسعى، أيضاً، إلى إخضاع من يخشى معارضته في مناطق نفوذه، وتحويلهم إلى أصوات توضع في صناديق مدجنة، اعتادت أن تفرز نتائج مطلقة. وإذا كانت بعض الكتل المجتمعية صوتت للأسد، بدوافع طائفية أو مصلحية، فذلك لا يغير من طبيعة الشروط العنفية التي صنعها النظام، لإنتاج انتخابات رئاسية، أقل ما يقال فيها إنها استكمال للحرب التي تشنها آلته العسكرية ضد عموم المناطق والقرى السورية الثائرة.
والحال، فإن تحويل العملية الانتخابية من السياسة إلى الحرب تعدّ الخيار الوحيد المتاح لدى النظام السوري، بعد أن فقد القدرة على المبادرة الدبلوماسية، وبات معزولاً تتنافس الدول الغربية على نزع الشرعية عنه. ما يجعل خطوة الانتخابات أقرب إلى الصفر، وفق تعبير وزير الخارجية الأميركي، جون كيري. لكن، الصفر بالنسبة للمجتمع الدولي يعني تمديد الصراع سنوات إضافية، خصوصاً وأن الاستياء من إعادة انتخاب الأسد بقي عند حدود عدم الاعتراف السياسي، ولم ينعكس خطوات فعلية لدعم المعارضة، وكأن العالم يريد للأسد أن يستخدم انتخاباته وسيلة للحرب، ليبقي عليه طرفاً في صراع لا يملك حالياً أي رؤية لحله.
لن يستفيد النظام، إذن، من إعادة انتخاب رئيسه، لتحصيل نتائج سياسية، تتبدى في الداخل السوري. الكلام عن “سورية الجديدة” و “غداً يوم آخر” لا يتعدى البروباغندا الساذجة التي يحترف كتبة الموالاة فبركة عناوينها، بهدف تصوير (العرس الديمقراطي) على أنه انتصار للنظام، جاء بعد سلسلة انتصارات ميدانية. هذا الخطاب ليس سوى تأكيد على التماهي بين الآلتين العسكرية والانتخابية، وإذا كانت الأولى قد أنتجت الثانية، بحسب المنطق الموالي، فإن الأدوار قابلة للتبدل، طالما أن العلاقة بين العنف والسياسة شديدة السيولة داخل النظام البعثي. الواقع أن الانتخابات لم تمنح النظام أي نقطة إضافية ضد شعبه المنتفض، ولم تساعده على إعادة تثبيت حكمه المتصدع. كل ما في الأمر أنها ستمنحه الوقت لوضع خطط عسكرية جديدة، يتوهم من خلالها الأسد أنه يقترب من الحسم، فيما هو يزيد من ضخامة سجله الإجرامي.
العربي الجديد
سورية: البهجة بالقوة/ بشير البكر
ظلّ مشهدُ جموع السوريين، وهم يصعدون الطريق العام نحو مبنى السفارة في بيروت، من أجل التصويت في الانتخابات الرئاسية، عصياً على التفسير، حتى بدأت تتسرب من الداخل السوري معلومات عن تقنيات استخدمها النظام لدفع الناخبين إلى الاقتراع، رغم أنوفهم.
لقد استوقف الجميع الحشد السوري الذي أدى إلى تعطيل طرق المرور، واستدعى تدخل الجيش اللبناني، وكان للمشهد وقع الصدمة على قطاع واسع من الرأي العام الذي انطلى عليه أن بشار الأسد يحظى بشعبية، حتى في أوساط الهاربين من جحيم الحرب إلى لبنان. وعلى الرغم من أن عدد الذي ذهبوا للتصويت لا يشكلون نسبة تستحق التوقف أمامها، وهي قرابة 40 ألفاً من مليون مهجَّر، فإن ماكينة الأسد الدعائية نجحت في إخراج الحدث من دائرة اللامبالاة وعدم الاكتراث، إلى نقيضها، واستفادت منه لإيجاد أجواء من الإثارة الإعلامية.
لم يتساءل أحد عن سر ذهاب تلك الآلاف للإدلاء بأصواتها. وحدها سيدة لبنانية خرقت جدار الصوت، وهي محجوزة في سيارتها بسبب زحام الجموع السورية. قالت، “إذا كان هؤلاء يحبون بشار الأسد، لماذا تركوا سورية وهربوا إلى لبنان؟”. هذه السيدة مثل غيرها تعرف أن سبب هرب هؤلاء إلى لبنان هو بشار الأسد، لذلك، استفزها المشهد، ولم تتحمل السكوت على التزوير.
تقول أخبار لبنانية إن عدداً لا يستهان به ممن ذهبوا للتصويت يشتغلون لدى أرباب عمل لبنانيين، طلبوا منهم صراحة الذهاب للتصويت للأسد، تحت طائلة فقدان أعمالهم، وبعض هؤلاء صادر جواز سفر العامل السوري لديه، وأبلغه أنه يستطيع أن يستعيده عندما يصوّت في السفارة. ويؤكد آخرون أنهم تلقوا رسائل من السفارة السورية تفيد بأن من لا يذهب إلى التصويت للأسد لن يتمكن من الحصول على أي تسهيل من السفارة، من قبيل تجديد جواز السفر، أو ما شابه.
ما يبعث على الحيرة إلحاح حملة الأسد على إجبار السوريين على التصويت، على الرغم من علم القائمين عليها، مسبقاً، أن رئيسهم سوف يظل رئيسهم، امتلأت صناديق الاقتراع أم بقيت فارغة، وهم يعرفون أن هناك عشرة ملايين لاجئ سوري تسبب الأسد في تشريدهم، ولن يصوتوا له في أي حال.
يمكن تقصّي جانب من الإجابة في الجو العام الذي ساد دمشق، طوال نهار التصويت، وكان تهريجاً استفزازياً وسط حالة من الرعب الشامل. ومنذ ساعات الصباح الأولى، أخذت تحلق طائرات حربية في الأجواء على علو منخفض، وسرت شائعات عن أن أجهزة الأمن ستزور البيوت، لتتأكد من التزام السكان بالذهاب إلى مراكز الاقتراع، الأمر الذي دفع المقاطعين إلى تخزين مواد تموينية، وإغلاق أبواب منازلهم خشية رد فعل الأجهزة. كما امتلأت شوارع دمشق بالشبيحة الذين تولوا مهمة توقيف المارة واستجوابهم بشأن ممارسة “حقهم الانتخابي”.
أغلب الظن أن دور هؤلاء ليس البحث عن أصوات ناخبين مترددين، بقدر ما هو إفهام من لم يكترثوا بالعملية أنها ليست مسألة اختيارية، وانتخاب بشار الأسد واجب إجباري. ولذا، كان يتم إرغام المارة على المشاركة في حلقات الدبكة ابتهاجا بـ”العرس الديموقراطي” الذي يتم في ظل هدير الطائرات الحربية، وبحضور أقارب العريس من الإيرانيين والروس والكوريين الشماليين، والذين تكبدوا عناء السفر للإشراف على حسن سير عملية التصويت.
أن يجري التعامل مع السوريين الباقين في بلادهم على هذا النحو، يعني أن النظام لم يتعلم من دروس المأساة التي ألحقها بسورية والسوريين، وهو لا يقيم لهم أي اعتبار أو تقدير أو حتى مراعاة خواطرهم المكسورة. يريد أن يستمر في التعاطي معهم بوصفهم رعاياه الخانعين الذين لا رأي لهم في أيٍّ من شؤون حياتهم (بدكن حرية كمان؟). ومن لم يمت بالبراميل، فليمت من البهجة والدبكة بانتصار الأسد فوق أنقاض سورية.
اليوم ونحن نعبر الذكرى 47 لنكسة الخامس من يونيو/ حزيران، نقف على أعتاب ذلك الحدث كي ننظر إلى شريط حياتنا، فلا نجد غير نكسات أخرى ولدت منها، وبالنسبة للسوريين، فإن “نكسة العرس الديموقراطي” بانتخاب بشار الأسد، هي ابنة النكسة الكبرى.
واليوم، في الذكرى السبعين لإنزال “النورماندي” الذي هزم النازية، وغيّر تاريخ أوروبا، تخطر في البال حكاية معبرة، رواها ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني حينذاك. وتقول الحكاية أن تشرشل استدعى وزراء الحرب والمال والصناعة قبل أسبوع من انزال “النورماندي”، وسألهم عن امكانيات بريطانيا لمواصلة الحرب، فكانت الإجابة واحدة، وهي أن بريطانيا لا تستطيع أن تواصل اسبوعا واحدا. وحينها استدعى وزير العدل، فسأله عن أحوال العدل، وكانت الاجابة أن العدل مستتب. وهنا قال تشرشل، ارتاح بالي وأيقنت أننا سوف نربح الحرب.
العربي الجديد
وقائع تفرضها إعادة تنصيب الأسد/ غازي دحمان
يعمل الحلف الداعم لبشار الأسد على ترويج فكرة الانتصار على الأزمة، واعتبار “الانتخابات” التي حصلت تتويجاً لهذا المسار، وبداية لمسار آخر، فالأول انتهى بالحسم العسكري “شبه الناجز”، والثاني سيكون، بالنتيجة، تظهيراً للنسق السياسي الذي لن يكون سوى انعكاس للواقع العسكري، المرتسم في سورية، وعلى مساحة واسعة من الإقليم. وتالياً ستكون النتيجة المطلوب تظهيرها انتصاراً سياسياً للحلف على مستوى الإقليم برمته.
داخلياً، يعتبر الحلف أنه بات يملك تفويضاً شرعياً للسير بالأمور إلى نهايتها، مهما تكن الكلفة المتوقعة لمثل هذا الخيار، إنسانياً وعمرانياً. ويستمدّ هذا الخيار زخمه، بناءً على تقديرات الحلف بعدم وجود استراتيجية دولية جادة لتغيير قواعد الاشتباك في سورية، حيث تبدو المخاطر المتوقعة لهذا الإجراء منخفضة، طالما أن واشنطن تصيغ استجابتها للأزمة بين حدّين، منع تقديم سلاح متطور وعدم وجود استعداد للانخراط عسكرياً، وهذا المعطى يمنح للحلف أريحيّة تعيين فرصه وقدراته.
تقوم استراتيجة الحلف الإيراني على تحويل المعركة مع جبهة الثورة إلى مجرد بؤر مقاومة يجري قضمها على مدى زمني معيّن، ويتم تنفيذها، وفق خطة مرحلية، يصار في نهايتها إلى تغيير ديناميكية الحالة السورية بشكل كامل، انتهت المرحلة الأولى بإزالة الخطر من سقوط النظام وسقوط العاصمة، بتكتيكات قامت على إبعاد الخطر عن المركز، ومحاصرة الضواحي وتأمين طرق الإمداد اللوجستي بين العاصمة والساحل. وتقوم المرحلة الثانية على أساس بلورة إطار جغرافي متواصل للنظام، يجري تصويره على أنه يمثل سورية الشرعية.
“يندفع النظام بخياراته تلك، مرتكزاً إلى حقيقة اجتماعية داخلية، صارت معطىً حقيقياً لا ينبغي إغفالها، وهي استناد النظام إلى قاعدة شعبية، باتت ترتبط به عضوياً، سواء من خلال طائفته وبعض الطوائف الأخرى، أو بتحالفه مع أجزاء من الطبقة السنية المدينية، الدمشقية والحلبية”
يندفع النظام بخياراته تلك، مرتكزاً إلى حقيقة اجتماعية داخلية، صارت معطىً حقيقياً لا ينبغي إغفالها، وهي استناد النظام إلى قاعدة شعبية، باتت ترتبط به عضوياً، سواء من خلال طائفته وبعض الطوائف الأخرى، أو بتحالفه مع أجزاء من الطبقة السنية المدينية، الدمشقية والحلبية. وبعيداً عن نسبة هذا المكوّن، إلا أنه بات حقيقة اجتماعية في الصراع السوري، وهي من حقائق الحالة السورية الراهنة.
لكن، في المقابل، ثمة وقائع، أيضاً، تشكلت على الضفة الأخرى، تتصادم مع الواقع الذي يحاول الحلف فرضه، وتمتلك ديناميتها الخاصة التي تجعل لديها القدرة على تعطيل قدرة الحلف على التقدم، لعل أهمها أن زخم هذا المشروع، وحسب تقديرات واقعية، ستكون ذروته الانتخابات، ذلك أن هذا الحلف بذل جهوداً استثنائية لتظهير هذه الحالة، لن يتمكن الحلف من توفيرها دائماً، نظراً لتكاليفها الباهظة على بيئاته الاجتماعية وظروفه، وخصوصاً أن استمرارها مشترط ببقاء الزخم المالي الإيراني، وهو أمر يشك به نتيجة معطيات اقتصادية إيرانية، فيما لا يزال مشهد الحسم لم يكتمل، وهو بالكاد خفف الضغط عن بعض المواقع الإستراتجية، ولا تزال مناطق كثيرة حول العاصمة بيد الثوار، وبعضها لا يبعد مئات الأمتار عن مركز العاصمة، مثل جوبر واليرموك وبرزة وداريا، فضلاً عن سيطرة الثوار على معظم الريف السوري، والذي تشكل مساحته أكثر من 60% من مساحة البلد، في ظل إعادة تنظيم تشكيلات الثوار أساليب عملها، وحصولها على أسلحة متطورة، ما يجعل الوضع السوري في حالة سيولة وعدم ثبات دائم.
على المستوى الدولي، وصبيحة اليوم التالي لتنصيب بشار الأسد رئيساً على سورية، تثبّت نهائياً الموقف الدولي الذي تقوده قوى الغرب على رفض تحويل معطياتٍ حاول النظام وحلفاؤه تصديرها إلى أمر واقع، كبداية لهضم النظام وإعادة تأهيله. وكان القرار الغربي واضحاً في هذا السياق، نظام الأسد والمخاطر الأمنية الممثلة بالجهاديين العائدين من سورية يمثلان الخطر نفسه، وذلك في ما يبدو أنه رد مباشر على محاولات التفضيل بينهما التي تبذلها روسيا وإيران. فالتوجه الغربي يصر على أن التسامح مع نظام الأسد يعني الانكسار، وعليه، جرى إقفال خطوط الرجعة، ولم تعد ثمة إمكانية للتعامل معه، لا مكان له في الأسرة الدولية، هو في سورية مجرد طرف ميليشاوي ليس أكثر. هذه الحقيقة أشار إليها السفير الروسي في مجلس الأمن، فيتالي تشوركين، بطريقة غير مباشرة لدى اتهامه الدول الغربية بأنها غير متحمسة لتعيين خلف للممثل الخاص إلى سورية، الأخضر الإبراهيمي، قائلاً إن “أحد الزملاء الغربيين في مجلس الأمن يعتبر أن العملية السياسية في سورية لم تعد قائمة”.
تساند هذا الواقع حقيقة وجود موقف إقليمي داعم للموقف الدولي، ينطلق من تقدير موضوعيٍ يعتبر أن استقرار الوضع لإيران على هذه المساحة سيشكل تغييراً كبيراً في معادلات الأمن والنفوذ والاستقرار في المنطقة، وبالتالي، وعلى الرغم من عدم وجود تنسيق إقليمي متكامل، غير أن هذا الموقف سيشكل عائقاً لتقدم المشروع الإيراني، مع العلم أن إيران، وعلى عكس ما تحاول تقديرات إظهاره، ليست في وارد بيع حليفها الأسد، لسببين، هما إدراكها أن الجغرافيا السياسية تمنحها قوةً توازي قوة ملفها النووي، إن لم يكن أكثر، وأن إمكانيات المساومة منخفضة، لكل من الملفين حقله التفاوضي الخاص، ولا يتقاطعان في مكان أبداً.
في ظل هذه الوقائع، وما تنطوي عليه من تشظيات داخلية وانقسامات في الموقف الدولي، فالمتوقع استمرار حالة الاستاتيكو الحاصلة، في ظل إدارة دولية وإقليمية للصراع، في حين تتثبت الأمور أكثر باتجاه صناعة خطوط تقسيم أكثر وضوحاً.
العربي الجديد
الأسد القوي في ضعفه/ عمر قدور
إذاً، حدثت «الانتخابات» الرئاسية السورية كما شاء لها النظام، والأهم أنها حدثت بلا تبعات إضافية على الصعيد الخارجي، إذ لم يبادر المجتمع الدولي مع الإعلان عنها إلى التهديد بعقوبات تمس شرعية النظام وبعثاته لدى المنظمات الدولية، ولم تغير القوى الدولية استراتيجياتها إزاء الوضع عموماً، فبقيت مصرّة على الحل السياسي على النحو الذي أثبت فشله في جنيف. بالتزامن مع عمليات فرز الأصوات، صرح وزير الخارجية الأميركي جون كيري بأنها «ليست انتخابات، هي عبارة عن صفر»، في ما يشبه تنصلاً فاضحاً من الرد على إجرائها، بعد يوم على تصريحات السفير السابق روبرت فورد إلى شبكتي «سي إن إن» و «بي بي» التي أرجع فيها استقالته إلى عدم قدرته على الدفاع عن السياسة الأميركية.
يمكن القول أيضاً إن حلفاء النظام نجحوا، من خلال إجراء الانتخابات بلا عواقب، في فرض مزيد من القهر واليأس على السوريين الذين وجدوا أنفسهم مرة أخرى معزولين بلا أدنى دعم. بالإصرار على دعم الأسد، وعدم تقديم تنازلات في شأن تنحّيه، برهن الحلفاء على نيته خوض معركة بقائه حتى النهاية، مع قناعتهم بأن معركتهم هي مع الشعب السوري فقط. ولعل هذا ما ذهب إليه كيري أيضاً بقوله في بيروت: «لا يمكننا أن نحدد كيف ومتى سيسقط بشار الأسد، لأن هذا يعتمد على أشخاص في دول أخرى ويعود إلى الشعب السوري».
لا غرابة بعد تلك الحيثيات في أن يستنتج كثيرون أنّ الأسد باق، على الأقل ما بقيت الاستراتيجيات الدولية الحالية. استنتاج أثقل وطأة من ذي قبل كونه يأتي بعد ثلاث سنوات من المد والجزر حول مصيره، ومن التسريبات المتناقضة حول المواقف الدولية، سواء تلك الخاصة بالموقف الروسي أو بمواقف «أصدقاء الشعب السوري». الأسد باقٍ بدعم دولي من حلفائه، وبصمت دولي من الجهة الأخرى حيث يحضر الصفر الانتخابي لكيري تبريراً للصفر السياسي لنهج إدارته. وهو استنتاج غير مبني على نظرية المؤامرة التي قد يتبناها بعضهم، ما دامت حيثياته واضحة ومعلنة من كل الأطراف المعنية، كما أنه استنتاج لا ينبغي أن يدلل مطلقاً على قوة الأسد بمقدار دلالته على ضعفه.
أثبتت أحداث السنوات الثلاث الأخيرة أن قوة الأسد في ضعفه، وكلما بانَ ضعف النظام أكثر أسعفه الدعم الخارجي بمزيد من العتاد والمقاتلين، وأسعفته القوى الغربية بمزيد من التفهم والوقت، وبحجب الدعم عن المعارضة. كان همّ الإدارة الأميركية مع بدء الثورة السورية تحييد الدول المجاورة عن آثار الصراع السوري، ولا بد من تسجيل النجاح لها على هذا الصعيد. فهي استطاعت مقايضة الاستقرار في لبنان «المرشح أكثر من غيره للانفجار» بصرف النظر عن تدخل «حزب الله» في الحرب السورية، بل ربما كان زعيم الحزب الأكثر تفهماً للسياسة الأميركية عندما دعا المتقاتلين اللبنانيين إلى الذهاب إلى سورية لتصفية حساباتهم.
عبر القناة الإيرانية التي أعاد الغرب فتحها مباشرة، تم الاستغناء عن خدمات الوسيط السوري في لبنان والعراق، وجرى فعلياً الإجهاز على الثقل الإقليمي للنظام عندما وجدت إيران مصلحتها في مباشرة دورها بنفسها، ووجدت الإدارة الأميركية ذلك أقل كلفةً وأقصر سبيلاً. لن يكون مهماً من هذه الجهة تدفق الدعم الشيعي من العراق ولبنان على النظام، بل لعله يؤدي الغرض المطلوب أميركياً ويؤشر إلى عزل نفوذ النظام ضمن رقعة لا تغطي حتى الأراضي السورية. من نافل القول ان إضعاف النظام خارجياً، وذهاب ميليشيات «حزب الله» لمساندته داخلياً، يحققان مصلحة إسرائيلية أكبر من إسقاطه.
في المقابل، لا يخفى تشبث الروس والإيرانيين بالأسد كلما ازداد نظامه ضعفاً، بل لا يخفى تشديد حلفاء النظام جميعاً على ضعفه وعلى تولّيهم حمايته، وفُهمت تلك الإشارات مراراً كإهانات توجه الى النظام. ولكن، بعيداً من التأويل الأخير، يجوز فهم تصريحات الحلفاء بصفتها شرحاً لواقع الحال، وتأكيداً منهم أن دعمهم لنظام ضعيف أولى من دعمهم لنظام قوي، لا لأن نظاماً قوياً لا يحتاج الى الدعم أساساً، بل لأن نظاماً ضعيفاً سيكون أكثر مرونة لتمرير مصالحهم. لنتذكر أن النظام طيلة عهدي الأسدين، الأب والابن، لم يكن حليفاً موثوقاً للروس، إذ واظب خارج أوقات الأزمات على بث رسائل الغزل والتقارب إلى الغرب والإدارات الأميركية، ووجوده قيد الضغط والعزلة هو الذي يحقق المصلحة الروسية.
أما مكاسب الحليف الإيراني فتعدت التحالف الوثيق السابق إلى الوصاية المباشرة على المفاصل الأساسية للنظام. صحيح أن النفوذ الإيراني مهدد بالزوال في حال سقوط النظام، إلا أن الصحيح في المقابل أن ضعف الأخير أفسح في المجال لتغلغل إيراني غير مسبوق في مفاصل النظام. مثلاً، قبل أيام تناقلت وسائل الإعلام مقتل قائد في «الحرس الثوري» الإيراني على جبهة «المليحة»، ووجود هذا القيادي في الجبهة، وهو ليس الأول من نوعه، يعني قيادة إيرانية للمعارك، ويعني أكثر من هذا قيادة وعلاقة مباشرة بالمستويات المتوسطة من الكوادر الأمنية والعسكرية للنظام، بل يذهب معظم التقديرات إلى هيمنة الإيرانيين التامة على القرار الأمني والعسكري. فضلاً عن ذلك، يشير قياديون في «الحرس الثوري» إلى تدريبهم حوالى مئة وخمسين ألفاً من ميليشيات النظام في إيران. ومن المعلوم أن التدريبات لا تقتصر على الجانب القتالي، بل تقترن بالجانب الأيديولوجي. ومن الملاحظ أن العائدين يضعون على بزاتهم شارات طائفية من النوع الذي كان مقتصراً على مقاتلي «حزب الله». أيضاً، لعلها المرة الأولى التي تظهر فيها بوادر لنجاح «التبشير» الشيعي في الساحل السوري، بعد فشلها الذريع أيام استقرار النظام، وفي هذا دلالة على تسليم جزء من قاعدة النظام بفشله وتوسل الحماية مباشرة من الإيرانيين.
ويُرجّح أن يفضل حلفاء الأسد بقاءه، ولكن ضعيفاً، وهذا ما يفسر عدم قبولهم بتسوية طالما أن أي بديل لن يكون ضعفه مضموناً كما الحال الآن. عند هذه النقطة تتلاقى المصالح الدولية ضمن المدى المنظور، ويصح أيضاً التشكيك في وجود بديل يحقق كل هذه المكاسب.
الحياة
مختار القرية النائية في الأناضول/ بكر صدقي
في شباط (فبراير) 1985، أجري استفتاء على إعادة تولية حافظ الأسد، وكان الثالث، كحال «انتخاب» ابنه المزعوم اليوم لولاية ثالثة. تتشابه الحالتان أيضاً في أنهما أدخلتا عرفاً جديداً تمثل في ما سمي المبايعة بالدم، وهو وصف حسي لفعل الاقتراع. فقد كانت اللجان الانتخابية توفر للناخب دبوساً لجرح الأصبع والبصم على ورقة الاقتراع بالدم. الحق أن الناخب كان يخيَّر بين البصم بالدم أو عدمه، علماً أن الخيار الأول كان امتيازاً يمنح الشخص وضعية الولاء المطلق في مقابل الولاء المهزوز أو المشكوك فيه للفئة الثانية. لكن التشابه المذكور تشوبه شائبة. فانتخابات الدم اليوم غير مبايعة الدم في الأمس، من حيث مجازية العبارة في زمن الحرب والدمار والمئة وستين ألف قتيل، مقابل حسية الدم النازف من الأصبع في زمن «الأمن والاستقرار». أتحدث عن مفارقة مزدوجة بين الزمنين:
استفتاء على مرشح وحيد ناجح مسبقاً بدم مجازي لكنه محسوس، وانتخاب من بين ثلاثة مرشحين بدم حقيقي يمكن قياسه بسعة براميل، تمثلها مجازاً البراميل المتفجرة التي يسقِطها طيارو النظام على الأحياء السكنية في المدن المكتظة.
صباح يوم الاستفتاء (عام 1985)، أبلغت مفرزة الأمن السياسي في سجن حلب المركزي معتقلي الجناح أنهم سيمارسون حقهم الانتخابي في الصندوق الموجود في غرفة السجانين. فتحوا أبواب المهاجع وأخرجوا المعتقلين وطلبوا منهم الاصطفاف في نسق أحادي ينتهي عند باب المفرزة التي وقف على بابها شرطي أخذ يهمس لكل معتقل بضرورة ممارسة حقه الانتخابي، مع إيحاء بأن هذا الاقتراع قد يحدد مصير المعتقل. قلة قليلة من المعتقلين دخلت غرفة الاستفتاء، وعادت البقية إلى الجناح وفي قلوبها خوف من العواقب. ولم تتأخر هذه في الظهور. هاجمهم الشرطي المناوب وفي يده عصا طويلة راح يضرب بها مجموع المعتقلين الرافضين المشاركة في الاستفتاء، على الرؤوس والظهور والأكتاف، في خبط عشواء كما يقال.
إضافة إلى هذه العلقة الجماعية الساخنة، صودرت كل «وسائل الرفاهية» التي كانت متاحة، كالكتب والكؤوس الزجاجية وغيرها من الكماليات، مع إقفال أبواب المهاجع والحرمان من التنفس في الباحة. امتدت حالة الطوارئ هذه لفترة تقل عن شهر، عادت بعدها الحياة الطبيعية إلى الجناح. بدا أن الثمن المدفوع لرفض المشاركة في الاستفتاء كان مقبولاً قياساً إلى توقعات أشد سوداوية دفعت أحد المعتقلين إلى محاولة الانتحار يوم الاستفتاء.
تسربت إلى المعتقلين، في وقت لاحق، أخبار مفادها أن وضع صندوق اقتراع لاستفتاء معتقلين معارضين للنظام كان بمبادرة من أحد سجاني المفرزة، تلقى تقريعاً بسببها من ضباط الفرع بعدما فوجئوا برفض معظم المعتقلين، الأمر الذي شكل فضيحة لهم. ربما كان صاحب المبادرة يتوقع ألا يرفض أحد المشاركة بعد سنوات من اليأس وراء القضبان.
يمكن تشبيه هذا التوقع بتصريحات بشار الأسد إلى صحيفة «وول ستريت جورنال»، قبيل اندلاع الثورة الشعبية في سورية بنحو شهرين، والتي أنكر فيها احتمال امتداد ثورات الربيع العربي إلى سورية. فكما فوجئ فرع الأمن السياسي برفض معتقليه المشاركة في استفتاء 1985، فوجئ النظام بثورة الشعب المعتقل والمدجّن طوال أربعين سنة من حكم النظام البوليسي في آذار (مارس) 2011. وكما كانت بداية ثورة الكرامة من درعا بعدما تعرض أهلها لإهانة في شرفهم، كان رفض المعتقلين السياسيين المشاركة في استفتاء 1985 بسبب ما مثلته مطالبتهم بالمشاركة من امتهان لكرامتهم البشرية.
كانت صرخة العقيد القذافي المدوية: «من أنتم؟!» التعبير الأكثر شفافية عن صدمة الطغاة بتمرد شعوبهم. لسان حالهم يقول إننا ربّيناكم على العبودية والخنوع، فامّحت ملامحكم وأسماؤكم، جعلناكم سديماً غير مميز. هؤلاء المتمردون أصحاب الملامح والأصوات ليسوا عبيدي. هؤلاء مندسون جاؤوا من كوكب آخر أو دول أخرى متآمرة.
نقطة أخيرة حول «أول انتخابات تعددية» للرئاسة في سورية، أجد خير تمثيل لها في قصة للكاتب التركي الراحل عزيز نيسين الذي كان يلجأ إلى شيء من التمويه في كتاباته في العهود الديكتاتورية.
في إحدى قرى الأناضول النائية تجرى انتخابات لاختيار مختار للقرية، ويتنافس على المنصب المختار الذي انتهت ولايته ومرشح معارض شجعه أهل القرية على خوض المنافسة رغبةً منهم في الخلاص من مظالم المختار. باستثناء عدد محدود من أتباع المختار المباشرين، يعلن كل الأهالي أنهم سينتخبون المرشح الجديد المنافس. بالترهيب والترغيب يستميل المختار كل الأهالي قبل أيام معدودات من موعد الانتخابات.
تظهر النتائج، فيفوز المختار (القديم) بأصوات جميع الناخبين، ما عدا صوت واحد للمرشح المنافس. ويصـــبح الرجل أضحوكة لأهل القرية الذين ورّطوه بهذا الموقف. فقـد اتّهموه بأنه صـــوَّتَ لنفسه، وهـــو يحلف الإيمان المغلظة بأنه أعطى صوته للمختار. ثم تأتي الكلمة الفصل من المختار ليبرئ ســـاحة منافسه من هذا الاتهام الشائن، فيعترف بأنه هو مَن أعطى صوته، ذلك الصوت الوحيد، لمنافسه المسكين.
بشار الأسد، المعروف بحرصه الشديد، لم يصوّت للمرشح الممانع ماهر حجار، ولا أسماء الأسد صوّتت للمرشح «الليبرالي» حسان النوري، في حين رُجّح أن منافسَيْ بشار مَنَحا صوتيهما لقائدهما «المفدّى»، كعمل وطني لا مساومة عليه.
الحياة