مقالات لكتاب سوريين تناولت “داعش” والحرب الأميركية على الارهاب
متى يسقط الأسد؟/ ميشيل كيلو
لا أريد تحديد ساعة سقوط بشار الأسد، فأنا، بكل بساطة، لا أعرفها، وأعتقد أن إدعاء معرفتها لن يكون غير كذب وخداع. لكنني أعرف مسألة مهمة بالنسبة لنا نحن السوريين، هي أن بشار الأسد سيسقط حتماً، وسريعاً، في حال وفرنا شروط سقوطه الداخلية، وتفاعلنا بإيجابية، ومن موقع الاستقلالية – النسبية طبعا – مع عوامل إسقاطه الدولية، وأدركنا أن العالم يدخل، هذه الأيام، إلى منطق تغيير لن يتوقف عند شخص الأسد، بل يرجح أن يتعدّى سورية إلى بلدان عديدة في المنطقة، حيث تمس الحاجة إلى إقامة بيئةٍ تحصّنها ضد إرهابٍ تفشّى في كل موقع منها، ثمة، اليوم، إرادة سياسية وخيارات عسكرية دولية، هدفها إقامة هذه البيئة، باقتلاع نظام هنا وإصلاح آخر هناك، وإنشاء حاضنة عامة، دولية وعربية وإقليمية، تكون مترابطة الحلقات، تتكفل بإنجاز تحولٍ لا يفضي إلى انهياراتٍ سياسيةٍ، تصعب معالجة نتائجها والتحكم بمسارها، يمكن أن تفيد إيران والإرهاب منها.
ماذا يعني التحالف الدولي غير تحقيق مهمتين رئيستين، هما، تغيير من أنتجوا الإرهاب في الماضي، ويمكن أن ينتجوه ويستعينوا به اليوم، لكي يبقوا في السلطة، وعلى رأسهم نظام الأسد في دمشق. والمهمة الثانية، تحول البلدان المتحالفة إلى جهات قادرة على الصمود في وجه الإرهابيين، وإزالة كل ما من شأنه تمكينهم من التكون والانتشار داخلها، بالإفادة من العيوب التي تسم أوضاعها.
يرتبط النجاح في محاربة الإرهاب بالنجاح في التصدّي لهاتين المهمتين، اللتين تعني أولاهما التخلص من بشار الأسد وأمثاله من المتلاعبين بأوراق الإرهاب، وثانيتهما التخلص من مفاسد وعيوب النظم التي تحتاج إلى إصلاح يحصن أوضاعها برضا مواطنيها، وخصوصاً الشباب منهم، ضد إغراءات الإرهاب وتهميشهم.
هل قرر التحالف الدولي إطاحة بشار الأسد؟ أعتقد أن القرار كان موجوداً منذ بدأت الثورة السورية، لكن رهانات الولايات المتحدة وسياساتها التي تتجاوز سورية، والتي استخدمت الصراع الدائر فيها لكي تصفي حساباتها مع جهات دولية وإقليمية، جعلتها تؤجل تنفيذه، الذي يرتبط اليوم بجملة قضايا متشابكة، منها: الضغط على روسيا وإيران، كي تتوقفا عن خوض معركة الأسد. ثمة علامتان ترجحان حدوث شيء من هذا، هما ضخامة قدرات التحالف الدولي الجديد، والذي لن يكون في مصلحة روسيا مواجهته أو تحديه، وسيكون من مصلحتها الانتساب إليه ولعب دور ما في إطاره.
وثانياً، رفض التحالف منح إيران أي دور في الحرب ضد الإرهاب، داخل العراق وفي سورية، مع ما يعنيه ذلك من تآكل محتمل، سيفرضه تهميشها على نفوذها وقدراتها في البلدين، وخصوصاً منهما سورية، حيث يتشابك وجودها مع النظام والإرهاب، وسيكون من الصعب عليها إبقاء نظام الأسد بعيداً عن الاستهداف والضغط العسكري، والنجاح في حمايته بواسطة أساليب التدخل المباشر التي تتبعها منذ بدء الثورة، ويحتمل أن تقيّدها خشية تعرضها، من الآن، لمواقف صعبة، يمليها تبدل موقف دولي صار هجومياً، تعبر عنه سياسات وتدابير عسكرية، تتجاوز الساحة السورية، يرجح أن تعزل أنشطة إيران وتقلصها، في العراق وعبره في سورية، بقوة ميزان قوى يستطيع وضعها، ووضع الأسد، تحت ضغوط يومية، يستبعد أن تعرض نفسها لها من أجل نظام تعلم أن باب عقد صفقة على رأس رئيسه سيظل مفتوحاً أمامها بصورة دائمة، بينما تتخلق شروط سقوطه، وتصير قابلة للتنفيذ، من دون موافقتها أو مشاركتها، بأدوات تحالف يعتبره من أركان الإرهاب، ويرفض التعامل معه، وقد يسدد غداً ضربات مباشرة، أو غير مباشرة، إليه.
ومن القضايا المتشابكة أيضاً، اختلاف الأوضاع بعد التحالف عنها قبله، أقله فيما يتعلق بسياسات باراك أوباما المتحفظة، والتي أطالت عمر النظام، ولعبت دوراً حال دون سقوطه. لا يمكن أن يكون أوباما قد بادر إلى خلق تحالف دولي لمحاربة الإرهاب، لكي يتمسك بسياسة غض النظر تجاه النظام والتحفظ الانسحابي حيال الثورة السورية، وسيكون عليه، بعد اليوم، أخذ مصالح وحسابات شركائه بعين الاعتبار، بما فيها التي كانت نقدية حيال سياساته. ولا يمكن أن يكون أوباما قد أسس تحالفاً دولياً، لكي يواصل غض النظر عن النظام الأسدي، أو يستمر في ممارسة سياسات التساهل والتفهم حياله، أقله لأنه لم يكن بحاجة إلى حلفاء ليفعل ذلك.
وثالثة القضايا المتشابكة، إعادة ترتيب البيت السوري المعارض، ليكون قادراً على جني بعض عوائد الحرب ضد الإرهاب. هنا عوامل ومستجدات مشجعة، أهمها أن الجيش الحر سيكون طرفاً رئيساً في حرب ضد الإرهاب، والنظام بادر إلى إطلاق رصاصاتها الأولى، من دون أي غطاءٍ، أو تنسيق دولي، بعد أن استهدفه الإرهاب، وسعى إلى القضاء عليه، وانتزع مناطق واسعة منه، كان قد طرد النظام منها. ومنها أن سقوط بشار الأسد سيعبر أكثر فأكثر عن قرارٍ دولي يأخذ اليوم بعداً تنفيذياً، سيكون الجيش الحر شريكاً فاعلاً فيه، سيقنع أداؤه العالم بأهلية المعارضة لإدارة بلادها بعد سقوط الأسد، وبقدرتها على منع الإرهاب من إيجاد بيئة ملائمة فيها بعد التغيير المنتظر. هل تعي قيادة الائتلاف هذه المسألة وتعمل لها، أم ستبقى غارقة في حساباتها الصغيرة ومشاريعها الوهمية؟ إذا كانت قيادته راغبةً حقاً في إسقاط الأسد، وكانت تعي ما يرتبه ذلك عليها من دور، فإنه يكون من واجبها المبادرة إلى تشكيل خلية أزمة وطنيةٍ، تضم سياسيين وعسكريين من أصحاب الخبرة والدراية، من أعضاء الائتلاف وغيرهم، مهمتها وضع استراتيجية وطنية شاملة لاسقاط الأسد ونظامه، تؤهل المعارضة للمشاركة من موقع قوي في الصراع الدولي ضد الإرهاب، استناداً إلى قتال الجيش الحر، منذ قرابة نيف وعام ضد طرفيه المتعاونين: النظام و”داعش”، ونجاحه في مواصلة القتال ضدهما، على الرغم من التجاهل الدولي لإنجازاته المشرفة، وإحجام العالم عن مد يد العون إليه، وحتمية أن يرجع عائد تضحياته إلى الثورة وحدها، وليس إلى أي طرف غيرها، وأن يسقط نظام الأسد الإرهابي بسقوط داعش وبالعكس، ويقوم نظام ديمقراطي على أنقاضه!
هل سيسقط بشار الأسد؟ الجواب: نعم، لأنه دخل دولياً في زمن سقوط، ولن يكون مصيره بالنسبة للتحالف الدولي الجديد مختلفاً عن مصير معمر القذافي بالنسبة للتحالف الذي أسقطه. هل تتوفر الشروط الذاتية، السورية، لسقوطه؟ لا، ليس بعد، لأن قيادة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية تلعب بمصير الوطن والجيش الحر، بدليل قرار رئيسه حل المجلس العسكري الأعلى، لأنه أقال من سيصوتون لرئيس الائتلاف السابق، أحمد الجربا، في انتخابات الرئاسة المقبلة، وليس لأي اعتبار وطني أو ثوري.
متى يسقط بشار الأسد؟ عندما ينجح الائتلاف والمعارضة في توفير شروط سقوطه، ويقنعان العالم بأنها قابلة للتحقيق، وأن البديل الديمقراطي مؤهل للقيام والعيش، وستكون له أنياب حادة يستطيع غرسها في جسد الإرهاب، الأسدي وغير الأسدي. هل سينجح الائتلاف والمعارضة في المهمتين؟ نعم، إن نجحا في الخروج من احتجازاتهما الذاتية وحساباتهما الصغيرة التي تشل فاعليتهما، وتغربهما عن الحراك الميداني السياسي والعسكري، ومن احتجازاتهما العربية التي سيمكنهما قيام التحالف الدولي من تخطيها، وسيجعل من الصعب على بلدان الخليج مواصلة خلافاتها حول سورية، في حين سيفضي انخراطها ضمن إطار دولي إلى توحيد جهودها، من أجل تحقيق هدفٍ لن يتهاون العالم في تحقيقه، هو القضاء على الإرهاب، وسيجعل وحدة الجيش الحر مصلحةً مشتركة لها، بعد أن عطلتها قيادات “الائتلاف” بصراعاتها التي حابت قطاعات منه، وأهملت أخرى، وافتعلت صراعات بينها أوصلتها في حالات كثيرة إلى الاقتتال.
هل سينجح التحالف الدولي؟ نعم، إذا ما نجح الائتلاف والمعارضة في تحقيق المهام التي تحدث نقلة نوعية في رؤاهما وممارساتهما، وتوحدّها على أرضية وطنية واضحة وصلبة. هل سينجح الائتلاف والمعارضة؟ هذا هو السؤال الحاسم الذي سيقرر نوع الرد السياسي والعسكري عليه كل شيء، وسيحسم، بين أشياء أخرى، مصير الأسد ونظامه الإرهابي.
العربي الجديد
“الحَمْل الكاذب” ضد “داعش”/ عمر قدور
في كلمته الأسبوعية الأخيرة يقول الرئيس الأميركي أوباما: “هذه هي لحظة القيادة الأميركية، فعندما يتعرض العالم إلى تهديد ويحتاج إلى مساعدة فإنه يستنجد بأميركا، ونحن نستدعي قواتنا”. لكن، ربما من الأفضل أن نتجاوز العبارة السابقة التي تنتمي إلى عهد مضى، أو إلى نوعية من الرؤساء الأميركيين الطامحين حقاً إلى قيادة العالم وإلى استعادة الدور الأميركي التقليدي. فالقوات التي يتحدث أوباما عن استدعائها لا تثير الذعر في نفوس الأعداء، ولا تثير الرهبة والتقدير في نفوس الأصدقاء، بعد الحديث المتكرر داخلياً عن خساراتها السابقة وعدم الاستعداد لتكبدها خسائر جديدة خارج الحدود. أما قيادة أميركا، العائدة من نافذة التحالف الدولي ضد داعش، فهي لا تتعدى الرهان على تولّي مهمّة اللاعب من الخلف ومن الجو، مع قيام الأعضاء الآخرين بتحمل الكلفة المادية والبشرية.
تنظيم داعش، وفق المنطوق الأميركي الحقيقي، لا يرتقي ليكون مشكلة أميركية. هو مشكلة المنطقة التي عملت الإدارة على الانسحاب منها، وعلى تركها لمشاكلها وفي مقدمها المشاكل التي خلقتها السياسات الأميركية. لذا لن تلعب أميركا دورها الريادي المزعوم، والمؤشرات التي تتوالى عن الحلف لا تعطي انطباعاً عميقاً عن جديته، فلا الدول المنضوية رسمياً في التحالف تبدو مقتنعة تماماً بجدواه، ولا الدول أو الأنظمة الممانعة له تشعر بتهديده لها. حتى تنظيم داعش في سوريا لا يُبدي احتياطات واسعة تحسباً من الضربات الغربية، بل إنه صعّد مؤخراً من حصاره وحربه على كوباني “عين العرب” السورية وكأنه يستبق الضربات بتوسيع رقعة نفوذه، بدل التركيز على حماية مناطق سيطرته الأصلية.
تركيا، التي تحفظت على الحلف ضد داعش، متهم رئيسي اليوم في دعم التنظيم، بخاصة مع الإفراج عن الرهائن الأتراك في الموصل، وما يُشاع عن تسهيلات تقدمها له في حربه على كوباني. إلا أن لائحة اللاعبين الإقليميين الذين يمتلكون سياسات مغايرة للتصور الأميركي تمتد إلى أنظمة انضوت ضمن الحلف نفسه، ولا تزال تستثمر في وجود داعش، وليست متلهفة إلى القضاء عليه. الأميركيون يعون هذه الحقيقة، لكنهم ليسوا قادرين على فرض سياساتهم كما كان الأمر في الأيام الخوالي. من هنا يبدو الحلف منذ بدايته محكوماً بالخلافات الداخلية، والحديث عن تماسكه وعن رغبة دول أخرى في الانضمام إليه لا يعدو كونه نوعاً من الاحتفاء بحمل كاذب يتواطأ الجميع على عدم كشف زيفه.
في مقاله “ما هي خطتهم؟ استراتيجية أوباما لمحاربة داعش لا تتعلق كلها بنا”، المنشور في نيويورك تايمز 13/9/2014، يفنّد توماس فريدمان سياسات الدول الإقليمية المنضوية في التحالف، ليخلص إلى ازدواجيتها في التعاطي مع وجود داعش، وإلى عدم وجود استراتيجية إقليمية لحل مشاكل المنطقة؛ الخطر الذي يهدد استراتيجية أوباما بالفشل. لكن فريدمان، تماشياً مع السياسة الأميركية المعلنة، يتجاهل كلياً دور الإدارة الأميركية في تنصيب المالكي والسكوت عن سياساته لسنوات ثمانٍ طوال، مثلما يتجاهل الصفقة القذرة التي أبرمتها الإدارة مع النظام السوري عندما استخدم السلاح الكيماوي. المشكلة أن فريدمان يمثّل منطوق السياسة الأميركية الحالية، فهو يقول بوضوح: لسنا مستعدين للمساعدة ما لم تتولوا أنتم حل مشاكلكم التي أوجدت التربة الملائمة لوجود داعش. ما لا يقوله فريدمان وإدارته هو أنهما يريدان من المنطقة أن تحل مشاكلها والمشاكل التي أوجدتها فيها السياسة الأميركية السابقة، سواء أيام التدخل المفرط أو أيام الانسحاب المعلن بعد التسبب في اختلال التوازن في المنطقة ككل.
ثمة ملفان لا يُظهران جدية الحلف الذي تقوده الإدارة ضد داعش، فالملف العراقي وما رافقه من تفاؤل بتنحية المالكي تمخّضا عن حصيلة هزيلة، ملخصها أن ينال المالكي حصانة سياسية بحكم منصبة الجديد، وأن يمتلك حق الفيتو على خليفته الذي ينتمي إلى حزبه نفسه. في الواقع، لم يتنحَّ المالكي، ولم تتضمّن التسوية الأميركية الإيرانية في العراق جديداً يُبشّر بتسوية أكبر في سوريا، بل تشي استراتيجية أوباما والردود الإيرانية عليها بأن سوريا ستبقى كساحة خلفية للتفاوض من خلال استمرار الحرب فيها. تأكيد الإدارة الأميركية الموجّه إلى إيران بأن لا حل عسكرياً في سوريا يحمل رسالة مزدوجة مفادها ألا حل عسكرياً سيقوم به الحلف أيضاً، وهي بالأحرى طمأنة للجانب الإيراني تفوق ظاهرها كتنبيه أو إنذار.
في سوريا مساحة لكل المنضوين في الحلف ضد داعش كي يتخلوا عن التزاماتهم المعلنة، ومساحة لمناهضي الحلف كي يخوضوا معركتهم ضده. هناك مساحة لإثبات هشاشة الحلف نفسه، طالما أن الإدارة الأميركية لا تريد منه سوى إراحة نفسها من تمدّد داعش إلى العراق واختراقه التسوية الأميركية الإيرانية التي انسحبت بموجبها القوات الأميركية من العراق. هذه المرة لا تأتي الإدارة الأميركية بهيئة شرطي العالم، هي تأتي بهيئة التاجر الذي يريد الاستثمار من دون التورط في أية مخاطرة محتملة أو ضرورية، ثم إنها تأتي في وقت تشرذمت فيه دول المنطقة، وغابت عنها التحالفات والتوازنات السابقة ولم تنضج بعد التوازنات الجديدة؛ في وقت لا تظهر فيه ملامح توافق إقليمي باستثناء ما يشبه الإجماع على عدم الثقة بأميركا وعلى عدم الخوف منها.
المدن
حدود الرهان على جديد السياسة الأميركية/ أكرم البني
«لو لم تصل السكين إلى رقبتي صحافيين أميركيين، ما كانت إدارة أوباما لتغير موقفها من الأحداث المتفاقمة في سورية والعراق»… هي عبارة يكررها البعض للتحذير من التسرع في البناء على جديد السياسة الأميركية ومن الرهان على دور مرتقب بعد الكلمة التي وجهها أوباما إلى الشعب الأميركي وأعلن فيها إستراتيجيته لمعاقبة «دولة الخلافة الاسلامية» يماثل دورها بعد خطاب جورج بوش رداً على ضرب برجي التجارة العالمية ومبنى البنتاغون. ولكن أوباما ليس بوش وأميركا عشية أحداث ايلول (سبتمبر) 2001 ليست أميركا اليوم، والفارق يتعلق بنقطتين:
أولاهما، رأي عام أميركي ذاق مرارة التدخل العسكري في أفغانستان والعراق وعاني كثيراً من سياسة سابقة اتسمت بنزعة هجومية وكبدته خسائر لا تطاق، وأدرك تالياً أن تحرر بلاده من الأعباء الريادية في السياسة الخارجية هو أهم رافعة لمعالجة أزماته الداخلية، بخاصة أن البلاد لما تتعافَ بعد من مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية، فكيف الحال وقد تمكنت بعد تجميد الدور العسكري من الحفاظ على دورها العالمي متوسلة ما يسمى القيادة من الخلف واستخدام القوة الناعمة والضغوط متعددة الوجوه.
ثانيهما، التطورات التي شهدتها بعض الأطراف العالمية وبخاصة روسيا والصين، وتنامي قدراتهما على المنافسة الاقتصادية والعسكرية، ما حدا بالسياسة الأميركية إلى منح أولوية لمحاصرة الاتحاد الروسي وإرباك دوره العالمي، مثلاً استنزافه في الحدثين السوري والأوكراني، إلى جانب تخصيص مزيد من الجهود لردع التنين الصيني وتفكيك نفوذه في شرق آسيا.
نقطتان لا تزالان حاضرتين بقوة في جديد السياسة الأميركية، والدليل حرص أوباما على تأمين إجماع داخلي قبل إعلان استراتيجيته ضد «داعش»، ثم تكرار تطميناته للشعب الأميركي بأنه سيكتفي بالضربات الجوية ولن ينجر أبداً إلى زج قوات برية وبأنه لن يخوض معركته منفرداً، بل من خلال تحالف دولي عريض يضم أهم الدول العالمية والإقليمية، وبالنتيجة فإن الإستراتيجية التي أقرت لمكافحة «داعش» والإرهاب الاسلاموي لا ترقى بأي حال الى المستوى الذي أنتجته إدارة جورج بوش والمحافظين الجدد، والأرجح أن لا تتجاوز، في ظل الشروط الراهنة، حقل الوسائل والأساليب التي اتبعتها واشنطن في اليمن كخيار مجرب يفاخر المسؤولون الأميركيون بنظافته ونجاعته في مواجهة الارهاب من بعد، والنيل من أهم رموزه.
وبهذا الخيار تحاول واشنطن ضرب أكثر من عصفور بحجر واحدة، بدءاً بتوجيه ضربات مركزة ضد تنظيم داعش لتصفية كوادر الخلايا الأجنبية التي رفدته، وهي خلايا بقيت كامنة ونائمة لسنوات وشكلت هاجساً مقلقاً وخطراً غامضاً على الغرب، ولا يغير هذه الحقيقة القول إن التنظيمات الاسلاموية سرعان ما تتوالد وتتكاثر، إذ أن تصفية هذه الكوادر والكفاءات النوعية تلحق ضرراً كبيراً بإمكانيتها العملية على تجديد قدراتها يصعب تعويضها باندفاعات شبابية متهورة وعديمة الخبرة، ومروراً بتعميق شروخ العلاقة الموضوعية بين الاسلام السياسي والتيارات الجهادية، وقد خبر البيت الأبيض تجريبياً قوة الترابط العقائدي بين هذه الجماعات على اختلاف اساليبها، وإن كل منها يغذي الآخر، وخير دليل سرعة مبايعة أطراف سياسية إسلامية «دولة الخلافة» بمجرد أن تمكنت في الأرض، ومروراً بتخفيف امتعاض الرأي العام الناجم عن سلبية واشنطن المزمنة من العنف المتصاعد في سورية وتجاه معاناة المهجرين، فكسر شوكة «داعش» يخفف حركة النزوح وتالياً الأعباء التي تتحملها دول الجوار مع الازدياد المتسارع لأعداد اللاجئين إلى أراضيها، إنتهاءً بتوظيف الحضور العسكري الدولي ضد الارهاب الاسلاموي في العراق وسورية للضغط على القيادة الايرانية وحضها على تقديم مزيد من التنازلات حول ملفها النووي، بخاصة أن الرئيس أوباما لا يزال يحلم بأن يسطر سابقة تاريخية بنجاحه في تطويع العدو الايراني اللدود، ومن وجوه هذا الضغط، عدم دعوة طهران إلى اجتماعي جدة وباريس، وعودة الحرارة للعلاقات الأميركية العربية بعد فتور اصابها جراء مبالغة واشنطن في التركيز على المسار الايراني، فضلاً عن غموض مقصود في موقف البيت الأبيض من دور طهران ضد داعش، غامزاً مرة من قناة الاكتفاء بدعمها للحكومة العراقية، ومرة بمد البيشمركة الكردية بالسلاح، ومرة ثالثة بتعويم سياسته من الوجود الداعشي في سورية ومن أفق التغيير السياسي هناك.
«لا مسعى جدياً لمواجهة أي أزمة إقليمية من دون قرار وإرادة أميركيين» هي حقيقة تؤكدها تطورات اليوم والتي تظهر موقع واشنطن الريادي ووزنها المتميز عالمياً وقدراتها النوعية على فرض سياستها عندما تستدعي مصالحها ذلك، بما في ذلك محاصرة وردع أي طرف يناهض هذه السياسة أو إجباره على الانصياع أو الصمت كما الحال في تشكيل التحالف ضد «داعش» من دون الرجوع إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومن دون اعتبار لموقفي روسيا والصين، وهو أمر يطرح السؤال عن جذر الموقف السلبي الأميركي من تصاعد الصراع الدموي في سورية، هل يرجع السبب حقاً إلى الفيتو الروسي المتكرر أم إلى مصالح البيت الابيض وحساباته الخاصة؟!
والخلاصة، إن جديد السياسة الأميركية المتشددة اليوم ضد «داعش» والإرهاب الاسلاموي ليست مؤشراً لعودة الروح التدخلية والهجومية كما يراهن البعض ممن اعتادوا العيش على أدوار الآخرين ويتطلعون إلى من يحارب نيابة عنهم، فمثل هذا الرهان لا أساس له اليوم ولا حظ، ومن قبيل الأوهام رسم صورة لمستقبل قريب يسود فيه مناخ ما بعد أيلول 2001 وتعود فيه القوة العسكرية الاميركية لترسم وجه الأحداث العالمية، والقصد توخي الحذر عند التعويل على إستراتيجية مواجهة «داعش» ونفض اليد من دور أميركي ينحو لمعالجة أزمات المنطقة جذرياً، فلا تزال غلة واشنطن وفيرة من سياسة الترقب والانتظار واستنزاف الخصوم، ولا تزال ثمارها مجزية من طرائق ادارة الصراع من بعد.
* كاتب سوري
الحياة
داعش ورقة نعي للنظام العربي/ برهان غليون
ليست هناك أجندة أخرى، اليوم، في مواجهة الوضع المتدهور في المشرق، سوى التدخل العسكري، الذي يعد به التحالف الدولي ضد الإرهاب، أو ما اصطلح على تسميته كذلك. هذا هو الجواب الوحيد، الذي يقدمه المجتمع الدولي، ممثلا بدولٍ تشعر بالخطر على مصالحها من ترك الأمور تسير كما هي عليه الآن، بعكس دول أخرى مثل روسيا وإيران والصين والهند وغيرها، من التي تُراهِن على هذا التدهور، أو من التي لا يعنيها الأمر في شيء، لمواجهة أكبر أزمة تضرب النظام الإقليمي وانهيار الدولة وتفكك النسيج الاجتماعي، في أكثر المناطق حساسية في العالم. هذه هي الأجندة الوحيدة، ولنا الخيار في أن نقبل، أو نرفض.
لا أعتقد أن هناك بشراً كثيرين ممن يتعاطفون، أو يمكن أن يتعاطفوا، مع وسائل داعش وعنفه، وليس هناك بالتأكيد مسلمون يفضلون العيش في ظل نظام سياسي يخضع لأساليب داعش في المحاكمة، والحساب على العيش في ظل دولة تخضع لحكم القانون، وتضمن الحد الأدنى من الأمن والسلام والاستقرار والعدالة والحياة الحرة. وقليلون جداً يراهنون على بقاء داعش، أو قدرته على البقاء، في وجود الحملة الدولية، أو من دونها، فلن تستطيع المجتمعات احتمال نظامها، من دون أن تحكم على نفسها بالجمود والانتحار والموت.
لكن، هناك بالتأكيد مسلمون وغير مسلمين، وربما غير مؤمنين، يمكن أن يتعاطفوا مع داعش أو يغضوا النظر عن أعماله، ليس من منطلق التعلق بالدين، كما يعلن هو، وإنما إيماناً بالمشروع الحقيقي الذي يمثله، وهو إرادة الانتقام النابعة من اليأس والخيبة والخديعة والرغبة العارمة في التشفي بأي ثمن.
هذه المعاينة للواقع ليست مطمئنة بأي شكل، لكنها معبرة عن درجة الانهيار الذي أصاب المجتمعات والإنسان نفسه، في منطقةٍ لا تزال تتعرض منذ أكثر من نصف قرن، لضغط لا حدود له من كل الجهات، لفرض واقع خارجي عليها، ودعمه بالقوة والسلاح. وليست النظم الديكتاتورية السقيمة والبدائية، التي فرضت عليها، سوى بعض وسائل القوة المستخدمة لإخضاعها وترويضها وإجبارها على القبول بالأمر الواقع، وعدم التطلع إلى ما يجعل الإنسان والمجتمع واعياً بذاته، وسيداً وطامحاً إلى أن يدخل العصر ويجاري الشعوب والمجتمعات الأخرى. هكذا عاشت المجتمعات المشرقية محرومة من كل سمات وقيم حضارة عصرها ومدنيته: السلام، والسيادة، والدولة الوطنية، وحكم القانون، والحياة الدستورية المستقرة، واحترام الحريات الأساسية، والقضاء العادل والمساواة والأمن والأمان، وأخيراً، شروط التنمية الاجتماعية والاقتصادية، التي تحد من التقدم المضطرد للفقر والتدهور المتواصل لقيمة الحياة.
لم تتوقف الحروب منذ تشكل هذا المشرق في الخمسينيات، مع الإعلان أحادي الجانب، بدعم من روسيا والولايات المتحدة وأوروبا، عن قيام دولة إسرائيل. ولا تزال مستمرة بأشكال مختلفة. ولم ينجح بلد واحد في ظل هذه الحروب واصطفافات الحرب الباردة أن يحتفظ بأي هامش للمناورة، فما بالك بالسيادة، وهي ترى حدودها، اليوم، كالغربال، تجتازها الميليشيات الإيرانية، المنظمة والمدربة والممولة في إيران، من اليمن إلى العراق، مروراً بلبنان وسورية. وبعد انهيار نظام صدام حسين في حرب التدخل الخارجية، وإلحاق العراق بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، وإخضاعه لحكم الطائفة الشيعية حصراً، بوصفها الأغلبية العددية، دخلت المنطقة في حرب التقاسم الطائفي للنفوذ والمواقع، وصارت الدول الطائفية مطلباً لجماعاتٍ كثيرةٍ، تعبت من البحث عن دولة قانونيةٍ، تؤمن لها الحماية، وأصبحت تراهن، وهي على خطأ كبير، على روح الأخوة المذهبية، أو الطائفية، قبل أن تنالها قريباً الخيبة وتكفر، مع تحول حكم النخب الحاكمة، باسم الأخوة، وخارج الدستور والقانون، الذي لا يمكن إلا أن يكون عاماً وشاملاً ومساوياً، بالضرورة،كما حصل مع النخب الايديولوجية السابقة، إلى حكم العصابة، ويقضي نظام الأجهزة السرية والمخابراتية والقمع والمحسوبية على كل ما وعدت به المدنية الحديثة الفرد من حرية وكرامة ومساواة وقضاء عادل وتنمية مضطردة وتقدم في مستويات المعيشة، ومن سعادة واستقرار.
يمكن، بالتأكيد إضعاف داعش بالقصف الجوي، وتعبئة قوى وعشائر متضررة منها، وهناك من يشك حتى في هذا، لكن، من يستطيع وكيف يمكن الحفاظ على هيكل هذه المنطقة المتداعي تحت ضغط الحروب والاختراقات والتدخلات، واليوم، سياسات رعاية الميليشيات من الدول نفسها واستخدامها كأدوات في السياسة الاقليمية والدولية؟ وكيف يمكن للدولة أن تقوم وتستقر وتقطع الطريق على رغبة الجماعات الأخرى المحرومة من الحماية الخاصة في بناء ميليشيات مقابلة وتمويلها من الخارج، أو من غنائم الحرب؟ وكيف يمكن ترميم النسيج الاجتماعي الذي تمزق تماماً، والاستجابة لملايين النازحين، الذين يتركون المنطقة من كل المذاهب والأديان، بعد أن يئسوا من إمكانية بناء حياة مستقرة فيها؟ وكيف يمكن إقناع الفرد بأنه لا يزال هناك أمل للإنسان في هذه المنطقة، التي أصبحت حياة الانسان أرخص بضاعة ممكنة فيها، فما بالك بكرامته واستقلاله وحرياته وتطلعاته وأحلامه؟
نشكر أولئك الذين تحملوا، أو يهمّون بتحمل، عناء السفر لضبط إيقاع الحرب في المنطقة، التي نعيش فيها. لكن، هذا لا يكفي لجعل المشرق منطقة قابلة لحياة الإنسان. هناك حاجة إلى عملية إصلاح شامل وجريء، أنا أعترف بأن على أبناء المنطقة تحمل العبء الأكبر فيها، لكنهم، وهم غارقون في حروب متعددة الأبعاد، سياسية وجيوسياسية ومذهبية وطائفية، لا يزالون مأخوذين بالمهام اليومية للحرب، وغير قادرين على بلورتها والنظر فيها.
أما الدول “المتقدمة” التي استكثر بعضها حتى المشاركة في حربٍ تكاد تتحول إلى لعبة اليكترونية، من دون أية مخاطرة تقريبا، فهي تتجنب فتح الملف، لأن غلقه في ما بعد سيكلفها الكثير، وسيجبرها على تقديم تنازلاتٍ كبيرة، هي في أصول المشكلة، وستجد أن جزءاً كبيرا من العفن، الذي يملأ مستنقع ما تسميه بالشرق الأوسط، هو الثمرة المباشرة لسياساتها، وسياسات النظم، التي فرضتها بالقوة، أو بالتواطؤ، على شعوب جردت منذ قرون من تضامناتها وثقتها بنفسها في ظل الاستبداد التاريخي الأعمى، وحرمت، في دول الاستقلال، من أدوات التعبير عن ذاتها، والإفصاح عن مطالبها وأهدافها، وحوربت في لقمة عيشها.
داعش لم يدمر نظام المشرق العربي، لكنه يمثل ورقة نعي الإنسان المرفوعة على أنقاضه. وإعادة بنائه على أسس القانون والحق والعدالة والاحترام المتبادل لحقوق جميع الناس هي ورقة النعي الحقيقية الوحيدة لداعش. وهذا يحتاج إلى أكثر بكثير من تجريد حملة للردع.
العربي الجديد
إيبولا أم داعش؟/ صبحي حديدي
حسب آخر الإحصائيات، قضى قرابة 3000 آدمي من غرب أفريقيا، جراء انتشار فيروس “إيبولا”؛ والتقديرات العالمية تحذر من أنّ 550 ألف إلى 1,4 مليون نسمة، قد يصابون بالعدوى، ثمّ الوفاة استطراداً، إذا لم تُتخذ إجراءات فعالة لوقف زحف الوباء.
جوان ليو، رئيسة منظمة “أطباء بلا حدود”، ذكّرت الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأنّ الخطب العصماء لن توقف انتشار الفيروس؛ وأعادت تذكير الأمم المتحدة بأنّ قرارات الهيئة الدولية حول مجابهة الوباء سوف تظلّ حبراً على ورق، إذا لم تنتقل من منابر القول إلى ميادين الفعل. وإذْ تواصل ليو قرع نواقيس الخطر، فلأنّ أعداد المرضى، ومعها الوفيات، لا تنقص أبداً، كما تتمنى بلاغة أوباما وحيثيات القرارات الأممية، بل تتزايد وتتضاعف.
وها أنّ العالم يشهد، إذاً، إعادة إنتاج السيناريوهات الكارثية التي اقترنت بأنماط سابقة من هذه الأوبئة “الكونية: من جنون البقر إلى جنون الدجاج، ومن أنفلونزا الخنازير إلى أنفلونزا الطيور… وذات يوم غير بعيد لاح أنّ الفارق، إذا كان من الصواب استخدام مفردة “فارق” في الأساس، كبير ورهيب بين تلك المشاهد التي تصوّر جياع الأرض في أفريقيا، ينبشون التراب بحثاً عن عرق يابس يقيم الأود بين الجلد والعظم؛ وتلك المشاهد الأخرى، التي كانت تقفز إلى شاشات العالم كلما شاع وباء “كوني”، واستدعى إلقاء مئات آلاف القطعان من الماشية والدواجن إلى محارق جماعية.
وكان بلانتو، رسام الكاريكاتير الشهير في صحيفة “لوموند” الفرنسية، قد التقط المسألة بذكاء يجمع الطرافة السوداء إلى التشخيص السياسي والأخلاقي الصائب: لقد رسم خروفاً وعجلاً وطائراً مقيّدين إلى خشبة المحرقة، ورسم عدداً من رجال الأعمال مدخّني السيغار الفاخر يمرّون بالمحرقة غير عابئين، وأجرى على لسان الحيوان هذا التعليق: لماذا نُحرق نحن، وهم يتبخترون؟ والحال أنهم يتبخترون لأنّ مبدأ الخضوع للوقاية لا يمكن أن ينطبق عليهم، أيّاً كانت الفيروسات المالية التي يحملونها، وأياً كانت الأوبئة الاقتصادية التي ينقلونها.
وليس عجيباً أنّ بعض وسائل الإعلام الغربية تتطوّع، منذ الساعات الأولى لولادة أيّ وباء “كوني، إلى تأكيد مجيء الفيروس من مناطق “الجنوب”، أو “العالم الثالث” في التعبير الأقدم، ومن آسيا وأفريقيا وبعض دول الشرق الأوسط تحديداً. بيد أنّ العالم ليس جُزراً منعزلة، وسواء أتت الأوبئة من جنوب أو من شمال، فإنّ الكرة الأرضية بأسرها (هذه التي اعتبرتها العولمة قرية صغيرة!) سوف تخضع للعواقب، في كثير أو قليل، والفارق في نهاية الأمر سوف يُردّ إلى حكاية تقنيات الوقاية. لكنّ العالم، في الآن ذاته، ليس متساوياً في آلام وأزمنة ونطاق الخضوع للجائحة، الأمر الذي يعيد التشديد على تلك الهوّة العتيقة الفاغرة: بين شمال وجنوب، تخمة ومجاعة، عافية وعياء، رفاه وتخلّف.
كما يعيد التشديد على كونية الاعتلال، شاء فقراء الكون أم أبى أغنياؤه. ففي المستوى التكنولوجي ـ التجاري، يجري الحديث عن الأعلاف الحيوانية التي ألغت، أو نابت عن، الأعلاف الطبيعية لاعتبارات تدور حول تحقيق المزيد من الربح السريع والميسّر. وفي المستوى السيكولوجي ـ الثقافي، يأخذ الوباء صفة رهاب جماعي في نهاية الأمر، والرعب المعمَّم يبدّل الميول والسلوكيات والأعراف. وفي المستوى السياسي ـ الاقتصادي، تبدو البراهين ماثلة في عزوف المستهلك عن البضاعة بأسرها، وما يعنيه ذلك من إفلاس صناعات، وإخراج الآلاف من سوق العمل إلى سوق البطالة…
وفي كتابها الهام “هسترات: الأوبئة الهستيرية ووسائل الإعلام”، تطرح إيلين شوآلتر سؤالين، بصدد وباء من نوع آخر عرفناه بالاسم الرهيب العجيب “آفة حرب الخليج”: ألا يقوم التاريخ النفسي للوجدان الغربي على سلسلة طويلة من الارتياب الطهوري (البيوريتاني) في وجود أسباب ميتافيزيقية وراء الاضطرابات الصحية الكبرى؟ أليست البارانويا، التي تجتاح الوجدان الغربي كلما انتشر وباء “كوني”، بمثابة أوالية إيهام واستيهام بأنّ “الآخر” هو منبع الاعتلال والمرض والشرّ؟
أو، في فذلكة تضع العربة أمام الحصان، كما قد يقول قائل غربي أيضاً: اللقاح ضدّ “إيبولا” يحتاج إلى وقت وأبحاث وأموال، وثمة ما هو أكثر إلحاحاً الآن؛ ألسنا ننقذ ذلك “الآخر” من وباء آخر، اسمه “داعش”؟
استراتيجية الأسد للإلتحاق بحلف محاربة الإرهاب/ غازي دحمان
لا يملك نظام بشار الأسد الكثير من أوراق القوة، المادية والسياسية، تؤهله للإنضمام إلى التحالف الدولي الذي شكّلته الولايات المتحدة لمواجهة تنظيم “داعش”، كما ليس من المتوقع ان تلاقي الدعاوى الروسية التقليدية المتلطّية خلف القانون الدولي والمطالبة بالتنسيق مع حكومات المنطقة، وليست مضمونة أيضاً جهود ايران في هذا المضمار، الناعمة حيناً، والتي تتخذ طابع التهديد باجتياح عواصم عربية أحياناً اخرى.
يدرك نظام الأسد جيداً ان الخلطة التي يقاتل بها في الميدان لا تشكل هيكلية عسكرية حقيقية يمكن على اساسها الفوز بعطاء المشاركة في الجهود الدولية الهادفة لبناء تحالف اقليمي ودولي لمحاربة الإرهاب، فبنيته الميدانية ليست سوى مزيج من ميليشيات متعددة الجنسية، سورية وعراقية ولبنانية وإيرانية وأفغانية، وهي لا تشكل بنية منسجمة الا لناحية اشتراكها بجرائم الحرب التي ارتكتبتها بحق السوريين، وهو ما يفند الزعم الروسي بأن تلك البنية تشكل حالة منسجمة مع القانون الدولي والشرعية في الوقت الذي تنتظر جرائم الحرب التي ترتكبها تلك البنية موافقة مجلس الامن إحالة ملفها الجرمي الى محكمة الجنايات الدولية، اما إيران فهي تعرف أن العالم يرفض التفاوض معها في شأن سورية، عكس موقفه منها في العراق، وبالتالي فهي لا تحتاج لإرتكاب الكثير من الاخطاء التي من شأنها التأثير على بعض الإختراقات التي أنجزتها حتى اللحظة في تفاوضها مع الغرب.
هذا الواقع، يبدو انه شكّل محفّزاً لنظام الاسد للبحث عن مخارج جديدة، إذ تشير المعطيات الى تبلور ملامح استراتيجية جديدة سيعمل على تصديرها في المرحلة القادمة واعتمادها بوليصة تأمين مستقبلية ضد أي إمكانية لإشتماله في مندرجات الحرب على الإرهاب في المنطقة، وكذلك بهدف دمجه كعضو مشارك فيها في المرحلة الراهنة، وتقوم تلك الإستراتيجية على ثلاثة ركائز:
– الركيزة الأولى: تكثيف القوة النارية في الحرب السورية، بما يسمح للنظام بفرض نفسه بقوة الأمر الواقع، طرف يحقق انتصارات ميدانية ذات قيمة عملانية مهمة، بغض النظر عن مواقف بعض القوى منه، وقد حاول نظام الأسد، في الفترة الماضية، وعبر شركات العلاقات العامة التي يديرها بعض اصدقائه في الدول الغربية، الى ترويج هذا الأمر، على قاعدة تحالف الضرورة، على أن يجرى تأجيل طرح تنحية النظام الى مرحلة لاحقة وإعطاء الاولوية لمحاربة الإرهاب في هذه المرحلة، والمعلوم أن هذه المسألة شكلت انقساماً في الغرب، حاول نظام الأسد اللعب على وترها، وفي محاولة لترسيخ هذا الخيار وتحويله خياراً واقعياً واجبارياً يكثف نظام الأسد نيرانه على المناطق الخارجة عن سيطرته في شكل جنوني لدرجة تصل الى حد إزالة مناطق كاملة حول دمشق من الخريطة مثل جوبر والمليحة.
– الركيزة الثانية: تعريض الأقليات لخطر الإبادة، حيث يدرك نظام الأسد مدى حساسية هذه المسألة في الغرب ومدى خطورتها في الوضع الراهن للمنطقة، وبخاصة أن شرعية الحرب على داعش تقوم على حماية الأقليات التي استهدفتها الاخيرة في العراق، فلماذا لا يصار الى إدراج الحالة السورية ضمن هذا الجهد طالما تمتلك نفس المعطيات، وفي سبيل ذلك قام نظام الأسد بجملة من التكتيكات وضع من خلالها مصير بعض الاقليات في سورية على صفيح ساخن، إذ إن انسحابه من المناطق الشرقية جعل الطرق سالكة باتجاه مدينة السلمية التي تقطنها الطائفة الإسماعلية، والى ريف حماة الغربي حيث محردة وسقيلبية المسيحيتين، كما قام النظام بسحب جزء من قواته من منطقة محردة وطلب من أهلها المدنيين والعزل العمل على حماية منطقتهم، وفي السويداء جنوباً، موطن الطائفة الدرزية، يحاول النظام الى إحداث فتنة مع أهل درعا المجاورة، وقد استطاع أبناء المنطقة تفكيك الكثير من الألغام التي تزرعها أجهزة استخبارات النظام على جبهة التعايش والسلم بين الطرفين، الا أن نظام الاسد لا يكل ولديه دائماً تكتيكات بديلة وجاهزة.
– الركيزة الثالثة: اقحام لبنان عنوة في أتون الحرب السورية، إذ يعمل على فتح ثغرات عديدة في مناطق القلمون أمام تقدم بعض المتطرفين وغض الطرف عن اعادة تجميع قواهم في مناطق محددة، بما يضمن له ادراج لبنان ضمن حالة الخطر وإشراك الجيش اللبناني في الحرب، وذلك لعلمه أن القوى الإقليمية والدولية تعمل على تحييد لبنان والحفاظ على مؤسسة الجيش، ويعمل نظام الاسد جاهداً في هذه المرحلة، وبمساعدة حلفائه، على تسريع انخراط لبنان الدولة في الحرب السورية، وذلك بهدف إعادة صياغة الوضع الأمني في المنطقة عبر تشبيك لبنان ضمن الحالة السورية وتصديرها للعالم كمشكلة تفرض التنسيق مع نظام الاسد الامني والعسكري.
ويستند نظام الاسد في استراتيجيته تلك على حالة الإرتباك وعدم الوضوح في الرؤية لدى الإدارة الاميركية والصعوبات التي تواجهها في بناء تحالفها ضد الارهاب، إضافة الى تعدد حساباتها، وتضاربها أحياناً، ما ينعكس على حركتها البطيئة وفعلها الرخو حتى اللحظة، كما يحاول استثمار التطورات الحاصلة على الحدود مع اسرائيل والتي تمثلت بسيطرة كتائب المعارضة على معبر القنيطرة، لعل كل ذلك يشكل عوامل مساعدة في الضغط على الغرب من أجل ضمه لحلف الحرب على الإرهاب بما يتضمن ذلك من اعادة تأهيل وعودة للمجتمع الدولي.
وعلى رغم خطورة حصول تحولات معينة في توجهات الغرب تجاه نظام الاسد، وإمكانية اختراق الترتيبات الجارية في المنطقة وإمكانية تعديل الاولويات، الا أن الأخطر هي الالعاب التي يمارسها هذا النظام على الصعيدين الداخلي واللبناني، ذلك ان نجاحها يعني اشعال النيران في حقول لن يستطيع بعدها اي حلف دولي إخمادها بسهولة.
* كاتب سوري
الحياة
انطلاق الفصل السوري من الحرب على داعش/ بكر صدقي
يشير الابتهاج السائد في وسائل إعلام النظام الكيماوي ببدء عمليات التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة في سوريا، واكتفاء هذا النظام من «التنسيق» الذي طالب به بمجرد «الإبلاغ»، إلى اطمئنانه من أن القصف الجوي وبصواريخ التوماهوك الذي انهال على الرقة وريفها والبوكمال وريف حلب الغربي، صباح الثلاثاء، لن يطال مواقع قواته، بما يتيح له التفرغ لمواصلة قصف المدنيين في مناطق أخرى. ومن جهة أخرى، يشير إسقاط إسرائيل للطائرة الحربية التابعة لقوات النظام فوق الجولان إلى نقص في التنسيق أو إغفال النظام «إبلاغ» إسرائيل بتحركات سلاح جوِّهِ قرب الحدود المشتركة.
لا يمكن التكهن منذ الآن بالنتائج المحتملة لبداية الحرب الدولية على دولة الخلافة في سوريا، ولا بالمسار المحتمل الذي يمكن أن تتخذه الأحداث في الأيام والأسابيع القادمة، ولكن يمكننا من الآن تسجيل بعض الملاحظات والأسئلة المبدئية:
-الملاحظة الأبرز هي مشاركة عدد من الدول العربية في عمليات القصف إلى جانب الولايات المتحدة، كالسعودية والإمارات والأردن والبحرين، الأمر الذي لم نر مثيلاً له في الحرب على داعش في العراق. هل يمكننا الاستنتاج من ذلك تسليماً أمريكياً بدور إيراني في العراق مقابل تأييد دور عربي في سوريا؟ الغريب في الأمر أن النظام الكيماوي لم يعبر عن هواجسه، إلى الآن وبعد مضي نحو 12 ساعة على بدء العمليات، من هذه المشاركة العربية. ترى هل قدم «التحالف» ضمانات له بضبط هذه المشاركة بما لا يتجاوز الحدود المرسومة، أي استهداف مواقع داعش والنصرة حصراً من غير التعرض لمواقع النظام؟
من جهة أخرى تتمتع المشاركة البحرينية بالذات بدلالة سياسية واضحة أكثر من أي اعتبار آخر: وضع حد فاصل للنفوذ الاقليمي الإيراني بما لا يتجاوز الحدود العراقية غرباً نحو سوريا، بالنظر إلى مصير الثورة البحرينية ذات البعد المذهبي وإقرار الأمر الواقع الذي أفرزه تدخل قوات درع الخليج لإخمادها في مهدها. وهذا ما يزيد من غرابة المشهد. فإيران اليوم، مع امتداداتها من الميليشيات الشيعية وخاصةً حزب الله اللبناني، لها الفضل الأول في بقاء نظام الكيماوي في دمشق واقفاً على قدميه، ولم يصدر، إلى اليوم، أي تعبير عن استياء أمريكي من هذا التدخل الإيراني الكثيف في سوريا. فهل آن أوان الصفقة الأمريكية الإيرانية على توزع النفوذ الإقليمي بين القطبين السني والشيعي، مع اقتراب موعد استئناف المفاوضات حول الملف النووي الإيراني؟
-الملاحظة الثانية تتعلق بغياب المشاركة القطرية – التركية، كأن الشقاق بين المحورين السنيين (السعودي – المصري – الإماراتي من جهة، والقطري التركي من جهة ثانية) ما زال يفعل فعله على رغم بداية الفصل السوري من الحرب الدولية على داعش، وكأن المصالحة التي تمت منذ حين بين قطر والسعودية لم تؤت ثمارها بعد. أما تركيا فهي تتعرض لحملة انتقادات من بعض دول الخليج ومن الولايات المتحدة بمناسبة ترددها في الالتحاق بالتحالف الدولي ضد داعش.
فتركيا التي تنفست الصعداء بعد إطلاق رهائنها التسع وأربعين الذين كانوا محتجزين لدى داعش، لم تخرج من ترددها بعد، على رغم أن بعض قصف الحلفاء يتم على الأراضي المتاخمة لحدودها الجنوبية، في تل أبيض. وهناك تحليلات ربطت بين طرح مجلس الأمن القومي التركي لفكرة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية، وإفراغ مدينة كوباني (عين العرب) وريفها من سكانهما بسبب احتدام المعركة بين قوات داعش وقوات حماية الشعب التابعة للفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وبينهما وبين توقيت إطلاق الرهائن الأتراك في إطار صفقة تبادل أسرى، أطلق بموجبها لواء التوحيد المقرب من الإخوان المسلمين السوريين خمسين من مقاتلي داعش، بينهم أيضاً أرملة أحد القادة الميدانيين لتنظيم الدولة وأولادهما.
بالمقابل من المحتمل أن القيادة الأمريكية للتحالف تمهلت في بدء الجزء السوري من الحرب على داعش إلى حين إطلاق الرهائن الأتراك، لنزع ذرائع الحكومة التركية لتهربها من المشاركة الفعالة فيها. بل إن بعض الروايات تتحدث عن تأخير تركي مقصود لإطلاق الرهائن للتهرب من المشاركة في الحرب على داعش. فقد كانت الصفقة ناضجة منذ شهر، وفقاً لهذه الرواية، بعد توسط من بعض العشائر العربية في العراق بين الطرفين. لكن الطرف التركي هو الذي ماطل في تنفيذ الصفقة.
لا بد من الإشارة، بهذا الصدد أيضاً، إلى بروز التناقضات التركية – الكردية إلى درجة غير مسبوقة. فقد عبرت قيادة إقليم كردستان عن استيائها من غياب أي مساندة تركية حين كانت قوات داعش تقترب من العاصمة أربيل بعد غزوها لجبل سنجار الشهر الماضي. واليوم تتعرض بلدة كوباني لمصير مشابه، والحكومة التركية تبحث في إقامة منطقة عازلة. يا ترى أتكون هذه المنطقة هي كوباني بعدما أفرغت من سكانها؟ من هنا يتخذ تصريح القائد الميداني لحزب العمال الكردستاني مراد قرة يلان بصدد «انتهاء مسار الحل السياسي» مع الحكومة التركية أهميته.
-الملاحظة الثالثة والأخيرة تتعلق برد المحور الإقليمي الشيعي – الإيراني على التحالف الدولي بعد إقصاء نظام دمشق الكيماوي منه، بسيطرة القوات الحوثية على العاصمة اليمنية صنعاء وفرض أمر واقع جديد على تخوم المملكة العربية السعودية، هو بمثابة عزل جغرافي – سياسي بين الحليفين السعودي والمصري.
٭ كاتب سوري
القدس العربي
ماذا لو صحّ هذا السيناريو؟!/ صبحي غندور
ما زلت أذكر ما شاهدته منذ عقدٍ من الزمن على محطة «سي ان ان» الأميركية من تفاصيل شهادة كونداليزا رايس (التي كانت تشغل آنذاك منصب مستشارة الرئيس جورج بوش الابن لشؤون الأمن القومي) أمام لجنة من أعضاء الكونغرس الأميركي كانت تحقّق في أحداث 11 سبتمبر 2001، حيث واجه أحدهم المستشارة رايس بتقرير مطبوع مرسل من وكالة المخابرات الأميركية إلى الرئيس بوش في شهر آب/أغسطس 2001، أي قبل شهر تقريباً من وقوع الهجمات في أميركا. وكان عنوان التقرير: «القاعدة تهيئ لهجوم على نيويورك وواشنطن». وقد كان ذلك موقفاً محرجاً جداً للمستشارة رايس، والتي ارتبكت في الإجابة عن السؤال الموجّه لها عن سبب عدم أخذ الاجراءات الأمنية اللازمة لمنع حدوث الهجمات.
طبعاً، كانت إدارة جورج بوش الابن مسيّرة من قبل مجموعة من «المحافظين الجدد»، وفي مقدّمهم نائب الرئيس ريتشارد تشيني، والذين كانوا يبحثون عن أعذار أمنية لتنفيذ أجندة سياسية داخلية وخارجية، من ضمنها غزو العراق وتغيير خريطة «الشرق الأوسط»، وبما يتناسب مع سياسة الحليف الإسرائيلي الأبرز لهم حينها، بنيامين نتنياهو.
كانت إدارة جورج بوش الابن هي الحاضنة والمنفّذة لكلّ السياسات التي وضعها، في أواسط التسعينات، جملةٌ من «المحافظين الجدد» في الولايات المتحدة، بالتنسيق مع معاهد وشخصيات معروفة بعلاقتها الوطيدة بإسرائيل، بل كان لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو دورٌ مباشر فيها آنذاك من خلال ما يُعرف باسم وثيقة: «الانفصال عن الماضي: استراتيجية جديدة لتأمين الأمن» Clean Break التي صاغها في العام 1996 ثمانية من كبار «المحافظين الجدد» والذين حاز بعضهم على مسؤوليات كبيرة في الإدارة الجمهورية السابقة، وكان لهم القرار في الحرب على العراق وفي إطلاق مقولة «الحرب على الإرهاب» في العالم الإسلامي.
أتذكّر الآن هذه التفاصيل عن مرحلة سابقة عاشتها الولايات المتحدة والعالم قبل 13 عاماً حيث كانت «الحرب الأميركية على الإرهاب» آنذاك مقدّمة لغزو أفغانستان، ثمّ للحرب الإسرائيلية التي قادها شارون في العام 2002 على منظمة التحرير الفلسطينية ومقر قيادتها في رام الله، ثمّ احتلال العراق في العام 2003، ثمّ اغتيال رفيق الحريري في لبنان واخراج القوات السورية منه في العام 2005، ثمّ الحرب الإسرائيلية على المقاومة في لبنان وغزّة في العام 2006… وهي كلّها تداعيات لما بعد أحداث سبتمبر 2001 وللحرب على «نجم الإرهاب» حينها: جماعات «القاعدة».
الآن، إدارة أوباما بدأت تهيئ العالم لحربٍ جديدة على اسمٍ إرهابي جديد (داعش)، لكنّه نسخة «طبق الأصل» عن أصله «القاعدي» فكراً وممارسةً، بل أشدّ إجراماً في الأساليب وأكثر نفاقاً باستخدام التسميات الدينية الإسلامية. فهل أميركا والعالم والمنطقة العربية أمام أيضاً «نسخة طبق الأصل» عن مشاريع الإدارة السابقة وأجنداتها الداخلية الخارجية؟!.
أعتقد أنّنا أمام حالة معاكسة تماماً، وإن كان المشترك بين المرحلتين (2001 و2014)، هو منهج توظيف ما يحدث لصالح هدف إبقاء الهيمنة الأميركية في العالم. فصحيح أنّ ما قامت به إدارة جورج بوش الابن قد أضّر كثيراً بالمصالح والثروات الأميركية، لكن مبرّره «الاستراتيجي» كان الإبقاء على القيادة الأميركية للعالم، بل جعل الأرض كلّها ملحقات أمنية وسياسية للإمبراطورية الأميركية. وطبعاً احتاج هذا الهدف لدى واضعيه، الهيمنة أولاً على كل المنطقة العربية وعلى كل الثروات النفطية فيها، وعلى التواجد العسكري القوي على أرضها، فهذه المنطقة هي قلب العالم الإسلامي وفيها مصدر الطاقة لدول كبرى في آسيا وأوروبا، وهي تربط القارات القديمة الثلاث (افريقيا وآسيا وأوروبا)، وعلى أرضها جذور الحضارات الإنسانية وكل المقدّسات الدينية.
لقد خدمت الإدارة البوشية السابقة في سياساتها حليفها الإسرائيلي بالنسبة نفسها التي أضرّت فيها بالمصالح الأميركية، كما أوصلت الولايات المتحدة إلى حافة الانهيار الاقتصادي ما دفع الأميركيين إلى إسقاطها مرّتين: الأولى بالانتخابات «النصفية» في العام 2006 حيث وصلت غالبيةٌ «ديموقراطية» إلى مجلسي الكونغرس، وصدرت آنذاك وثيقة «بيكر-هاملتون» التي تبنّاها لاحقاً باراك أوباما، ثمّ المرّة الثانية بالانتخابات الرئاسية في العام 2008 حينما فاز أوباما بمنصب الرئاسة، والذي كانت حملته الانتخابية تقوم على مناهضة سياسات الإدارة السابقة وخاصّةً حروبها الخارجية. فهل يعقل أن يكرّر الرئيس أوباما سياسةً كانت مدانة أميركياً وعالمياً… وشخصياً منه؟!
وماذا لو صحّ هذا «السيناريو» الآن: أجهزة المخابرات الأميركية، (تماماً كما حدث في صيف العام 2001)، أبلغت «البيت الأبيض»، منذ مطلع العام الحالي، بوجود نموّ متصاعد لجماعات «داعش» على الأراضي السورية والعراقية، وبتقدّم عسكري لهذه الجماعات وبقرب اجتياحها لمناطق واسعة في العراق، لكن «البيت الأبيض»، وبعد جلسات طويلة مع عددٍ محدود من الأشخاص، بينهم وزير الخارجية جون كيري ووزير الدفاع تشاك هيغل، قرّر تأجيل أي ردّة فعل أميركية على هذه المعلومات، من أجل توظيف أفعال هذه الجماعات الإرهابية لصالح أجندة سياسية تريدها إدارة أوباما في السنتين الباقيتين من عهدها. وهي أجندة معاكسة لما كانت عليه أجندة إدارة بوش من حيث الأساليب، لكنّها تطمح حتماً إلى تكريس ما قاله أوباما اخيراً عن ضرورة أن يكون القرن الحالي قرناً أميركياً أيضاً، كما كان القرن الماضي.
وفي هذا «السيناريو»، فإنّ أجندة أوباما الخارجية تريد تحقيق تسويات سياسية لأزمات مشتعلة الآن، وليس البدء بحروب جديدة كما فعلت الإدارة السابقة. تريد تحسين العلاقات مع إيران، لا إشعال حربٍ معها كما كان – وما يزال – يسعى لذلك نتنياهو وبعض «الجمهوريي» في الكونغرس. تريد الانسحاب من أفغانستان مع حفظ التأثير الأميركي في هذا البلد والتحكّم بمساره السياسي، حتى لو اقتضى ذلك مستقبلاً صفقة مع حركة « طالبان» التي لم تكن بعيدة في نشأتها عن هذا « التأثير» الأميركي. وتريد هذه « الأجندة الأوبامية» حلاً سياسياً الآن للأزمة الدموية السورية، بعدما فشلت المراهنات على تغيير الحكم في دمشق من خلال بعض جماعات المعارضة المدعومة من واشنطن، والتي تقلّصت لصالح جماعات «النصرة» و«داعش» المصنّفة أميركياً بأنّها جماعات إرهابية، وحيث لا يمكن من دون البدء بحلٍّ سياسي للأزمة السورية تحقيق الاستقرار في لبنان وانتخاب رئيس جديد فيه، ولا أيضاً توفّر المناخ السياسي والأمني المرجو أميركياً للعراق، أو لتحقيق التقدّم في المفاوضات مع إيران.
أيضاً، أجندة أوباما الخارجية لم تتخلَّ بعد عن هدف إقامة «دولة فلسطينية»، وهي تريد تحقيق هذا الهدف قبل نهاية العام 2016 وربّما من خلال الدعوة لمؤتمر دولي شبيه بمؤتمر مدريد في العام 1991، وهذا يتطلّب تنسيقاً مع موسكو وطهران لضمان نجاح نتائجه، حيث من الممكن جعل المؤتمر شاملاً لكلّ عناصر وجبهات الصراع العربي- الإسرائيلي وتوقيع معاهدات على الجبهتين السورية واللبنانية، وتطبيق ما هو يُعرف باسم «المبادرة العربية»، ما يؤكّد الحاجة إلى تفاهمات مع موسكو وطهران ووضع تسوية سياسية للحرب الدائرة حالياً بأشكال مختلفة في سورية.
وحتّى تتحقّق هذه «الأجندة الأوبامية»، فإنّ من المهم وجود «عدوّ مشترك» يجمع القوى المتناقضة إقليمياً ودولياً وفي المنطقة العربية، ويبرّر الكثير من الاتصالات والعلاقات مع «خصوم» الأمس، والحاجة لدعمهم في حربٍ أميركية مفتوحة أيضاً زمنياً (كما كانت حرب الإدارة السابقة)، لكنّها ستكون حرباً محصورةً جداً مكانياً، وعلى إرهابٍ هو فعلاً مصدر أخطار كبيرة على أمم وأوطان وشعوب، كما هو على مصالح دول وحكومات.
لقد كانت حرب إدارة بوش على الإرهاب مقدّمة لتصدّع أوطان ولـ «فوضى خلاّقة» عانت وتعاني منها الكثير من البلاد العربية، ولم تتراجع إدارة أوباما عنها كثيراً في السنوات الماضية. فعسى أن تكون هذه «الحرب الجديدة» على الإرهاب مقدّمة لتصحيح مساراتٍ خاطئة في السياسة الأميركية، وعسى أيضاً أن تستفيد شعوب المنطقة وحكّامها من هذه الفرصة لإعادة وحدة نسيجها الوطني، ولوقف حروبها وصراعاتها الأهلية التي خدمت «أجندات» ومشاريع إقليمية ودولية، ليس أيٌّ منها عربياً أو إسلامياً.
وإذا صحّ هذا «السيناريو»، فإن الرئيس أوباما سيستحق في ختام فترة ولايته الثانية ما حصل عليه قبل قيامه بأي انجاز في بداية عهده بـ «البيت الأبيض» من «جائزة نوبل» للسلام!.
الرأي
حلف ضد التحالف…/ علي العبدالله
في الوقت الذي تسعى الولايات المتحدة إلى حشد دول غربية وعربية خلف استراتيجية رئيسها باراك أوباما فان الحلف الثلاثي (روسيا والصين وإيران) أعلن اعتراضه على التحالف وأهدافه وبدأ حملة مضادة لإجهاضه حماية لمصالح أطرافه وخياراتهم السياسية في سورية والعراق.
لم تجد دول الحلف الثلاثي التي استبعدت من تحالف الراغبين إلا الاعتراض على التحالف إن من حيث مشروعيته والسند القانوني الذي يستند إليه أو أهدافه. ولما كان الوضع العراقي يعطي التحالف مبرر العمل على الأرض العراقية لطلب الحكومة العراقية ذلك لمساعدتها في دحر عدوان داعش وإرهابه ضد المدنيين، فقد تركزت اعتراضات دول الحلف الثلاثي وانتقاداتها على التدخل في سورية في ضوء رفض دول التحالف التنسيق مع النظام السوري على خلفية الجرائم التي ارتكبها ضد المواطنين السوريين وفقدانه، بسبب ذلك، للشرعية، وتجاهلها للعوامل المباشرة التي دفعت الإدارة الأميركية إلى استبعادها من هذا التحالف.
فروسيا التي تخوض مغامرة عسكرية شرق أوكرانيا، بهدف إجبار الحكومة الأوكرانية على التخلي عن توجهاتها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وربما حلف الناتو، والاشتراك في الاتحاد الأوراسي الذي تسعى لإقامته، أو البقاء على الحياد كحد أدنى، عبر تهديد استقلالها ووحدة أراضيها، روسيا هذه لا تريد تسهيل مهمة التحالف العتيد بل تريد عرقلة حركته لانعكاسه على مصالحها ونفوذها في المشرق العربي أولاً وللرد على الدعم الأميركي للحكومة الأوكرانية ثانياً، لذا كان خيارها منذ انفجار القتال بين داعش والحكومة العراقية عرقلة التحرك الأميركي عبر دعم حكومة المالكي وتزويدها بالطائرات والطيارين كي تعزز موقفها في وجه الضغوط الأميركية التي ربطت المساعدات العسكرية بتشكيل حكومة جديدة برئيس وزراء آخر، وطالبت بالعودة إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار دولي ينظم عملية الحرب على داعش، ودعت إلى التنسيق مع النظام السوري، واتهمت الإدارة الأميركية باستغلال هجوم داعش لإسقاط النظام السوري.
أما الصين التي بدأت في تعديل سياستها الخارجية بحيث تأخذ دوراً سياسياً دولياً يتناسب مع حجمها الاقتصادي فمدت حدود خطوطها الدفاعية في بحر الصين ووضعت يدها على عدد من الجزر المتنازع عليها مع اليابان والفيليبين وفيتنام، وتوسعت في الاستثمارات في دول العالم الثالث، وبخاصة النفطية منها، ما دفع بالإدارة الأميركية إلى إعادة النظر في استراتيجيتها في شرق آسيا وإعادة تجهيز قواعدها العسكرية في اليابان الفلبين ونشر أساطيلها في بحر الصين والمحيط الهادي، لذا رأت الصين في تطورات الوضع في العراق وسورية فرصة لابتزاز واشنطن والحصول على ثمن مناسب يخدم تصوراتها الجديدة فأعلنت رفضها للتحالف ودعت إلى الالتزام بالقانون الدولي واستصدار قرار من مجلس الأمن قبل التحرك عسكرياً في سورية. إيران من جهتها وجدت نفسها في وضع حرج فقد انهار النظام العراقي الذي صاغته ورعته أمام هجوم داعش، وقادت الضغوط الأميركية إلى إبعاد المالكي عن رئاسة الوزارة، ورأت في التحالف وعودة القوات الأميركية إلى العراق تراجعاً لنفوذها فيه، وخطر انعكاس ذلك على مفاوضاتها مع الدول الكبرى حول ملفها النووي مع بقاء العقوبات الاقتصادية وفرض المزيد منها، واحتمال تعرض النظام السوري لهزائم عسكرية في ضوء خطة أوباما لتسليح المعارضة السورية المعتدلة فتخسر نفوذها ليس في سورية فقط بل وفي لبنان، فهاجمت التحالف ورأت أن هدف التحرك الأميركي في سورية إطاحة الحكومة السورية وتنصيب حكومة موالية للغرب، وأعلنت عدم شرعية التدخل الأميركي هناك، وقللت من أهمية القصف الجوي الأميركي ودوره في النجاحات التي حصلت في المعركة وقالت إنها ثمرة المقاومة الشعبية، ما يجعل منها شريكاً باعتبار المقاومة الشعبية هي الحشد الشعبي الشيعي الذي دعت إليه المرجعية الدينية والذي قام ضباط من الحرس الثوري بتدريبهم ما يسمح لها بتجييرها. في السياق كشفت تصريحات مرشد الثورة وقائد الحرس الثوري الإيراني واتصالات طهران بالنظامين العراقي والسوري بدء تحركها لعرقلة المخطط الأميركي إن عبر دفع حكومة العبادي للمطالبة بإشراكها في التحالف أو عبر عرقلة استكمال تشكيل الحكومة العراقية الجديدة عبر تمسك التحالف الشيعي بالوزارات الأمنية (الدفاع والداخلية) والإصرار على تسمية هادي العامري، رئيس لواء بدر، وزيراً للداخلية، أو منع التمدد الأميركي والاستقرار في العراق، فقد نُقل عن أوساط عراقية موالية لإيران أن الأخيرة طلبت من العبادي أن يرفض أية طلبات أميركية لإقامة قواعد جوية على أرض العراق، وأن يطلب وقف الحرب وسحب القوات الأجنبية مباشرة بعد تحرير المدن الرئيسة، أو عبر دعم النظام السوري كما أعلن قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء محمد علي جعفري. لقد رأت إيران في الاستراتيجية الأميركية ضربة قاصمة لنفوذها في العراق، وبالتالي في سورية ولبنان، لذا كانت انتقاداتها أكثر حدة من انتقادات شركائها في الحلف حيث اعتبرت التدخل في العراق بمثابة احتلال لبلد وانتهاك سيادته، وأن هدف الحملة على داعش في سورية ضرب المقاومة الإسلامية في لبنان، وأن الهجوم على داعش عبثي لأنه سيقويه.
يبدو أن الإدارة الأميركية متمسكة بخطتها وبشركائها حيث أكدت مراراً أنها لن تشرك إيران في التحالف، وإنها لن تنسق عملياتها في سورية مع النظام السوري وسترد على أي تحرك عسكري سوري بتدمير قواعد الدفاع الجوي للنظام، وهذا سيرفع من حرارة التنافس والتحدي ويزيد سخونة المواجهة وحدتها على امتداد الساحات السياسية والدبلوماسية خاصة والعالم على أبواب اجتماعات قمة في مجلس الأمن والجمعية العامة في دورتها الجديدة.
* كاتب سوري
الحياة
سورية في “الحرب” ضد داعش/ سلامة كيلة
تمتد داعش من غرب العراق إلى شرق سورية، تسيطر على مناطق فيها فقط، لكن، حين تقرر أميركا الحرب على داعش في العراق، لا بد من طرح السؤال حول سورية، فداعش هي داعش هناك وهنا. تدخلت أميركا في العراق، وهي تقوم بضربات جوية ضد “داعش” (أضعها هنا بين مزدوجين، لأن من سيطر على مناطق الغرب العراقي ليس داعش، التي سيطرت على بعضها فقط)، وتحقق على الأرض تغييراً في بنية السلطة العراقية، بعد أن سيطرت إيران عليها، عبر ديكتاتورية نوري المالكي. هل سينجح هذا التغيير لمصلحتها؟ ربما، وليس شكل الحكومة الوحيد الذي يعطي الصورة التي تؤشّر إلى ذلك، حيث يمكن أن يعود حيدر العبادي إلى الهيمنة، كما فعل المالكي، إذا لم يتحقق ما هو أبعد من ذلك.
لكن، تشكيل “دولة العراق والشام” يجعل كل حرب ضد داعش توصل إلى سورية، حيث ستعتبر أميركا أن وجودها في سورية “القاعدة الخلفية” لدورها في العراق، وستقول إنها ستضرب تلك القاعدة الخلفية لكي “تتخلص” من داعش في العراق. لا شك في أن سورية مطروحة في الاستراتيجية الأميركية الجديدة التي تستهدف “تحجيم” داعش، أو ملاحقتها سنوات، كما أشار أكثر من مسؤول.
ولهذا معنىً، أن الهدف ليس “داعش” بالضبط بل “شيء آخر”، هذا يتعلق بالنظم القائمة، كما حدث في العراق التي خضعت لضغط أميركي شديد، من أجل فرض تغيير مهم في “العملية السياسية”، يضعف سيطرة إيران (أو على الأقل يحاول ذلك). لهذا، يُطرح السؤال عن سورية، ما الذي يمكن أن تفعله أميركا في سورية؟
ستوجه ضربات جوية؟ أظن أن هذا مؤكد، لكن، وفق أي استراتيجية؟ هل تريد إسقاط النظام؟ هي تقول لا، بل تؤكد على الحل السياسي، وتعيد إلى مبادئ جنيف1. وهي لا تريد التحالف مع نظام الأسد في الحرب ضد الإرهاب، لكنها ترى أن وجود النظام ضروري لهزيمته، وأيضاً، تصرّ على دور الكتائب المسلحة “المعتدلة”، ولقد قررت تسليحها، بعد مماطلة ومراوغة طويلة، كما أنها لا تريد أن تسيطر قوات النظام على المناطق التي سوف تقصف داعش فيها (أي في الشمال والشرق). من كل هذا “الكوكتيل” ماذا يمكن أن نستنتج؟ هل المشكلة هي داعش، أم أن أميركا سوف تتدخل عبر الضغط من أجل تحقيق ما لم يحققه الروس في جنيف2، أي تشكيل هيئة تقود مرحلة انتقالية؟
ما يمكن تأكيده، هنا، أن السلطة السورية التي لعبت بجبهة النصرة ثم داعش (عبر العلاقة مع إيران)، سوف تجد أن لعبتها وقد انقلبت عليها. فقد عملت بعد عام من الثورة على أن تنشر “الجهاديين” بعد أن أطلقتهم من سجونها، وأن تدفع بهم للسيطرة على المناطق التي قررت الانسحاب منها أواسط سنة 2012 نتيجة قوة الثورة والاحتقان الذي اخترق الجيش، وجعلها عاجزة عن تحريكه كله.
وبهذا فرضت أن تواجه مناطق الثورة بقوى أصولية، حيث بات الصدام واضحاً بين تلك القوى، منذ تشكيل جبهة النصرة والكتائب المسلحة وكل الناشطين في مختلف المجالات. وكان واضحاً أن السلاح الذي تمتلكه تلك القوى هو من السلطة، وأن تدخل هؤلاء كان يأتي من أجل إنقاذ المناطق التي تحاصرها الثورة، فقد قتلوا خيرة قيادات الكتائب المسلحة والناشطين في الإعلام والإغاثة، والتظاهر، وفرضوا سلطة قروسطية، كما نشاهد في الرقة، ونظام متشدد يتأسس على القمع الشديد للناس.
هذا ما جعل الكتائب المسلحة تخوض الصراع ضدهم منذ أكثر من سنة، وتطرد داعش من الشمال السوري، قبل أن تعود بتغطية جوية من السلطة، ولكي تواجه بنشاط من تلك الكتائب لطردها من جديد. وكان ذلك يربك الثورة، لأنها باتت تخوض الصراع على جبهتين في الآن ذاته، ضد السلطة التي تستخدم كل العنف الممكن (وغير الممكن)، وضد داعش وحتى النصرة. بالتالي، وجدنا أن داعش والنصرة توظفان في الصراع ضد الثورة، من أجل إضعافها وتشويهها. لكن، كانت السلطة تسعى، كذلك، إلى إظهار الثورة بأنها هي تلك القوى “الجهادية”، من أجل كسب الدول الإمبريالية التي تقول إنها تحارب الإرهاب.
لقد عملت لأن تظهر الثورة كقوى إرهابية، من أجل كسب دعم عالمي، خصوصاً من أميركا، في مواجهة الثورة، ومن أجل تدمير الثورة. الآن، ينقلب الوضع، وتصبح داعش مدخل أميركا للتدخل في سورية، ولكي تصبح قوة التأثير في تكوين “الوضع الجديد”.
طبعاً، تقول كل المؤشرات إن أميركا سوف تضرب مواقع داعش في سورية، على الرغم من “تهديد” السلطة الذي بدا بلا معنى، وهي تطالب بأن تكون جزءاً من التحالف المطروح ضد داعش. وربما تكون سيطرة داعش على مدن كردية هي الشكل المكرر لما حدث في العراق، حيث تدخلت أميركا فقط حين تقدمت داعش نحو أربيل. لهذا، لا بد من التفكير بما تريده أميركا، التي لا يسرّها انتصار ثورات، أو تقرير الشعوب مصيرها.
في هذا السياق، يمكن أن نشير إلى احتمالين، الأول يتعلق بتحقيق مكسب فوري، ويقوم على أن يقود التهديد بالتدخل، ومن ثم توجيه ضربات لداعش ودعم “الجيش الحر”، إلى أن يتحقق ما عجز الروس عن تحقيقه، والمتعلق بإزاحة بشار الأسد من طرف عن السلطة، وفتح الطريق إلى حل سياسي يؤدي إلى تشكيل حكومة انتقالية، تشارك في الحرب ضد داعش. لكن، يكون وضع السلطة قد حُسم بما يؤدي إلى تشكيل وضع جديد، في سورية والمنطقة.
ويتعلق الثاني بضرب مواقع لداعش وتمكين بعض قطاعات “الجيش الحر” من السيطرة على الشمال والشرق السوريين، ما سوف يُظهر سورية مقسمة، وغارقة في “صراع طويل”، ينهي ما بقي منها. وخلال ذلك، ستستنزف إيران، ويستنزف حزب الله في صراعٍ يقود إلى تغيير جوهري في وضع لبنان وإيران.
العربي الجديد
السوريون وقضيتهم في اللحظة الراهنة/ فايز سارة
لعل الابرز في وضع السوريين وقضيتهم اليوم، هو ما يجري في شمال سوريا وفي المنطقة القريبة من الحدود في تركيا بالقرب من عين العرب «كوباني» وحولها. ففي هذه المنطقة ثمة حرب طاحنة تدور منذ اسبوع بين تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام وقوات الحزب الديموقراطي الكردي (pyd) الكردية، والتي قيل ان تشكيلات من الجيش الحر، انخرطت في القتال الى جانبها ضد «داعش».
ورغم ان نتائج تلك الحرب محاطة بالالتباس من حيث نتائجها كما في مقدماتها الجوهرية، فان التقديرات تشير الى نتائج كارثية، حتى لو اخذنا اقل التقديرات وابسط المعطيات المحيطة بالمعارك المتواصلة وابرزها، ان مئات قتلوا وجرحوا، وعشرات القرى قد اخليت من سكانها، وان عشرات آلاف من العرب والاكراد نزحوا، وان الذين وصلوا منهم الى تركيا وحدها تجاوز الستين الف نازح، اغلبهم في اسوأ الاوضاع الانسانية والمعاشية.
وبالقرب من كارثة الحرب في عين العرب ومحيطها، ثمة كارثة اخرى تجري تفاصيلها بالقرب من ادلب في الشمال الغربي، حيث تتواصل اعتداءات جبهة النصرة ضد قرى وتشكيلات محلية مصنفة في عداد الجيش السوري الحر، ونتائج هذه الكارثة لا تختلف من حيث المضمون، وان اختلفت النتائج الرقمية، التي تشير الى قتل وجرح وتشريد سوريين وتهجيرهم نحو تركيا، ليعيشوا اوضاعاً في منتهى السوء في الوقت الحالي.
ويتزامن ما يوقعه المتطرفون من «داعش» والنصرة بالسوريين مع استمرار حرب نظام الاسد في مناطق اخرى على نحو ما يجري في مدن وقرى غوطة دمشق، وحصار مدن وقرى في القلمون، وهجمات بالبراميل المتفجرة في الجنوب، وكلها تسبب فصولاً من القتل والتشريد والتهجير للسوريين على نحو ما هو مستمر منذ اكثر من ثلاث سنوات ونصف مضت.
واهمية ما يجري اليوم، انه يتواصل متصاعداً مع خطين من وقائع لا يمكن تجاهلها، او التخفيف من اهميتها، الاول فيها تحرك دولي واقليمي هدفه الحرب على الارهاب والتطرف، الذي تمثله «داعش» دون اشارة الى النصرة المنتمية الى القاعدة، والمصنفة عالمياً بانها تنظيم ارهابي متطرف، ودون ان يوضع نظام الاسد الذي يمثل ارهاب الدولة بأوضح صوره ضمن اهداف الحرب على الارهاب والتطرف، التي تقول تصريحات كثيرة وخاصة من جانب الاميركيين انها سوف تستغرق زمناً طويلاً. والاهم مما سبق، ان التحرك لم يتمخض عن نتائج واجراءات عملية، توحي بجدية التحرك الدولي والاقليمي في هذا المجال.
وثاني خط في الوقائع، التي تتواصل مع الكارثة، يمثله التردي الدولي والاقليمي في التعامل مع السوريين، والامر في هذا يشمل جوانب سياسية وانسانية، بينها في الجانب السياسي، تجاهل دولي واقليمي للمعارضة السورية في لحظة يفترض فيها، ان التواصل مع طرفيها السياسي والعسكري على اعلى الدرجات سواء بسبب التطورات الجارية في الداخل او بسبب موضوع الحرب على الارهاب، وهو في احد جوانبه موضوع سوري.
ولايقل الامر عما سبق سوءاً في الموضوع الانساني، فثمة تجاهل وتقصير دولي واقليمي في التعامل مع اللاجئين السوريين. فالمساعدات اقل من ان تغطي الحاجة في حدودها الدنيا، وقد اعلنت الامم المتحدة مؤخراً انها بصدد تخفيض مساعداتها بنسبة اربعين بالمائة، مما يعني ان الوضع سوف ينتقل من سيء الى اسوأ في وقت يزداد عدد اللاجئين السوريين، وحياة اللاجئين في البلدان المضيفة تزداد تردياً من مصر الى العراق الى الاردن وصولاً الى لبنان، وفي كل هذه البلدان اصبحت صفة اللاجئ او الوافد السوري بمثابة تهمة، وفي احيان تتم شيطنته والتحريض العلني عليه من جانب وسائل اعلام ومن فعاليات سياسية واجتماعية وسط تخلي سلطة البلد المعني عن مسؤولياتها الدولية في حماية اللاجئين والمقيمين بصورة رسمية، كما يقضي القانون الدولي والتزامات الدول ذاتها، التي اتخذ بعضها قرارات بوقف استقبال السوريين الا بشروط تعجيزية، يصعب تطبيقها.
ان احد الثمار المرة للوضع الانساني الصعب المحيط باللاجئين السوريين، دفع بعشرات آلاف منهم للبحث عن خلاص فردي عبر الهجرة غير الشرعية نحو اوروبا من خلال قوارب الموت، التي تسيطر عليها عصابات المافيا في حوض المتوسط، والتي ادت الى مآسي اقلها موت ركاب الزوارق غرقاً او وقوعهم فريسة عصابات الاتجار بالبشر المحرم نشاطها وفق القانون الدولي.
ان النظر الى الوقائع المحيطة بالسوريين وقضيتهم، تؤشر الى امرين اثنين، اولهما غياب المسؤولية السياسية والاخلاقية في التعامل الدولي والاقليمي مع السوريين وقضيتهم سياسياً وانسانياً، وهو سلوك يكاد يكون غير مسبوق في السياسة الدولية، ولا يمكن تفسيره على نحو ما يقال من عجز السوريين عن وحدتهم في معارضة نظام الاسد، او عدم وجود بديل مقبول يخلف النظام، ويمكن ان يأخذ سوريا الى مستقبل آمن وافضل.
وسط الكارثة التي تتواصل قتلاً وتشريداً وتهجيراً للسوريين وتهميشاً لقضيتهم على نحو ما تبين الوقائع المحيطة، هناك حاجة جدية لمبادرة عملية، تقوم بها الدول الفاعلة ولاسيما المصنفون في عداد اصدقاء الشعب السوري بالتعاون مع روسيا، او بدونها لمعالجة القضية السورية ونتائجها، التي من الواضح انها تجاوزت الواقع السوري الى محيطه والى الابعد منه، ولن ينفع في شيء، ان يقال في المستقبل، اننا اخطأنا، كما قال كثير من مسؤولي دول كبرى في معرض كلامهم عن تطورات القضية السورية في اوقات سابقة.
المستقبل
أين السوريون من الحرب على “داعش”؟/ عمر كوش
حيثيات التحول
مخاوف السوريين
جرعة الخذلان
فاجأت الضربات الجوية -التي شنتها القوات الأميركية وحلفاؤها العرب على مواقع تنظيم الدولة الإسلامية وفصائل أخرى- معظم المراقبين والمهتمين بالشأن السوري، كونها لم تتأخر كثيرا بعد تصويت الكونغرس الأميركي لصالح خطة الرئيس الأميركي، القاضية بدعم وتسليح المعارضة السورية.
وتأتي هذه الضربات لتؤكد وجود تحول نوعي في التعاطي الأميركي مع الأزمة السورية، ذلك أن الإدارة الأميركية اتخذت مواقف لامبالية بما يجري داخل سوريا منذ أكثر من ثلاث سنوات، رغم مناشدات دولية وعربية، وعارضت تسليح المعارضة بأسلحة نوعية، بل وحاولت منع الدول الراغبة من فعل ذلك.
غير أن هذا التحول له حيثياته وأسبابه الأميركية، الخاصة، ويقتصر على الجانب العسكري، ضمن إستراتيجية الحرب على تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، وبالتالي يبرز السؤال عن وضع السوريين في هذه الحرب التي تجري على أراضيهم، وهل أخذت في الحسبان المخاطر التي قد تسببها وتزيد من هول الكارثة التي ألمّت بهم، نتيجة الحرب الشاملة التي بدأ بشنها النظام السوري على غالبية السوريين، بوصفهم الحاضنة الاجتماعية للثورة السورية.
حيثيات التحول
جاء التحول في الموقف الأميركي بعد سنوات من اللامبالاة والمماطلة والتردد، إلى أن بات الوضع كارثيا وخطيرا، ولعل أسبابا عديدة تقف وراء التحول، لا تختصر على مشاهد قتل الصحفيين الأميركيين من طرف عناصر داعش، ومدى تأثير ذلك على الرأي العام الأميركي، بل تتعداها إلى أن داعش بات يهدد الولايات المتحدة وحلفاءها ومصالحها في المنطقة، خاصة مع سيطرته على مناطق واسعة في العراق وسوريا، وعلى بعض حقول النفط في سوريا، واقترابه من حقول كركوك والشمال العراقي.
يضاف إلى ذلك أن مقاتلي داعش لم يعودوا بضعة آلاف، ضمن مليشيا منفلتة، بل تعدى عددهم الثلاثين ألف مقاتل، ولهم قيادة عسكرية، مكونة من ضباط محترفين، يضعون إستراتيجية، تعتمد على المباغتة وسرعة الانتشار والاقتحام، فضلا عن استخدام تنظيم الدولة لماكينة إعلامية، تنفذ ما تريده وفق حرفية عالية، وباستخدام متقن لوسائل الاتصال الحديثة.
ويتكون الجسم الأساسي لتنظيم داعش من عناصر غير سورية، حيث تفيد تقارير موثوقة بأن عدد المقاتلين القادمين من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وسواها، يشكلون جيشا من عدة آلاف، وهناك تخوف كبير مما سيفعله هؤلاء حين يعودون إلى الولايات المتحدة وبلدانهم الأوروبية، بل هناك خشية حقيقية من قيامهم بأعمال انتقامية وشيكة، على غرار ما حدث من قبل، في نيويورك وواشنطن ولندن ومدريد وباريس وغيرها.
ولعل هذه الحيثيات والأسباب جعلت الرئيس الأميركي يعدل عن عدم اكتراثه ولامبالاته، ويتحرك سريعا لتوجيه ضربات جوية إلى بعض مواقع داعش في العراق وسوريا، كونه بات يمتلك مبررات لانتقال القرار الأميركي من موقف المتفرج غير المكترث بما يجري إلى موقف الفاعل الذي يريد تصفية هذا التنظيم، وعدم ترك ملاذ آمن له.
لكن ذلك لا يلغي أن التحول في الموقف جاء على خلفية الإقرار بأن وجود الخطر لا يختصر على العراق وسوريا، بل له امتدادات إقليمية ودولية، لذلك اضطر الرئيس الأميركي إلى وضع إستراتيجية، تسعى إلى تصفية مقاتلي داعش وأشباهه “أينما وجدوا”.
مخاوف السوريين
غير أن الأولوية، بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية وللحلف الذي تسعى إلى تشكليه، ليست سوريا، بل العراق، وبالتالي يبدو مؤجلا التحرك الأميركي الفاعل لحل الأزمة في سوريا إلى حين حدوث تطور ما.
وقد تكتفي الإدارة الأميركية بتوجيه ضربات جوية مباغتة، وآنية، لمواقع التنظيم في كل من الرقة ودير الزور والبوكمال وتل أبيض وسواها، مثلما فعلت في الجولة الأولى من عمليات القصف، التي قامت بها في الساعات الأولى من صباح 22/9/2014، وذلك من أجل لفت الرأي العام الغربي والحلفاء إلى أنها جادة في محاربة التنظيم.
ومع ذلك هناك تخوف لدى السوريين من ألا يكون الرئيس الأميركي جادا في المضي بإستراتيجيته، وخاصة في جانب دعم وتسليح المعارضة السورية، مثلما لم يكن جادا في ضربة عسكرية ضد النظام السوري، حين اخترق الخط الأحمر الذي وضعه أوباما بنفسه، ثم محاه في صفقة، جردت القاتل فقط من سلاحه، ولم تكترث لأرواح الضحايا.
وتزداد مخاوف السوريين من خطة أوباما ضد داعش في سوريا، كونها قد تمتد إلى عدة سنوات، وما يعني ذلك من زيادة الكلفة البشرية والمعاناة، ولا تتضمن رؤية سياسية لحل الأزمة، وتتحدث عن تدريب خمسة آلاف مقاتل، تختارهم الجهات الأميركية المختصة من بين عناصر “الجيش السوري الحر”، بهدف محاربة داعش ودحرها على الأرض، في حين أن مقاتلي الجيش السوري الحر وجميع “المعتدلين”، يرون في النظام خطرا إلى جانب داعش، ويساوون بين النظام وبينه، بل ويعتبرونه صنيعته، ولن يتوقفوا عن محاربته.
وتثير تعقيدات الوضع العسكري في سوريا التباسا في فهم التطورات الحاصلة فيها، لدى واضعي الإسترتيجية الأميركية، الذين لا يأخذون معاناة السوريين في الحسبان، ولا يضعونها ضمن حساباتها، حيث إن السوريين -معارضة سياسية أو عسكرية- لم يشتركوا أو يستشاروا في وضع الخطة الأميركية، وكل ما عليهم هو تنفيذ ما تريده الإدارة الأميركية منهم، أي أن يبقوا في موقع المنفعل وليس الفاعل.
والأمر لا يعود برمته إلى الطرف الأميركي فقط، إنما يعود أيضا إلى مختلف أطراف المعارضة السورية، التي ارتضت لعب هذا الدور منذ بداية الأزمة، وراهنت على الدور الخارجي من أجل دعمها ونصرة قضيتها.
ولعل المهم هو أن تعرف المعارضة السورية كيفية الاستفادة من محاربة داعش والدعم الذي قد تتلقاه، من أجل تجييره في صالح تعجيل الخلاص من الوضع الكارثي. وهذا يتطلب فهم السياسات المتناقضة بين دول المنطقة، التي تترتب عليها اصطفافات إقليمية، لدول تتنافس في لعب الأدوار في المنطقة، مثل تركيا وإيران، ومدى انعكاس ذلك في الحرب على داعش.
وقد عانت أطراف المعارضة السياسية السورية ضعفا مزمنا في قراءة الموقف الأميركي من الأزمة السورية، بالنظر إلى السمة الرغبوية، التي طبعت تلك القراءة، فضلا عن صدورها عن موقع الضعيف، وليس القوي أو المؤثر في مسار تطور الأحداث. والأمر ذاته ينطبق على موقف المعارضة السياسية حيال قوى الثورة في الداخل، منذ البدايات، التي طاولها تراكم الأخطاء والانحرافات، ولم تتمكن القوى السياسية المعارضة وقتها من قيادة الثورة أو توفير مظلة سياسية لها، توجهها وتقودها.
جرعة الخذلان
المخاتلة في سياسات الإدارة الأميركية حيال سوريا هو جرعة الخذلان التي تجرعها سوريون كثر، حيث عمدت إلى القول بحتمية الحل السياسي، وأن لا حل عسكريا للأزمة في سوريا، وهو ما يوافق رؤية سوريين كثر، لكن من غير أن تبذل الإدارة الأميركية أي جهد حيال العمل على تهيئة ظروف ومعطيات الحل السياسي المنشود.
بالمقابل، لا يكل نظام الأسد من استجداء الولايات المتحدة ودول العالم، كي تقوم بدور ما في الحرب على الإرهاب، مع العلم أنه لم يتوقف يوما عن ممارسة الإرهاب ضد شعبه، وأسهم في رعاية وتقوية كل أصناف الإرهاب. وهناك آراء تحذر من أن الحرب على داعش قد تصب في مصلحة النظام، وربما ستقوي موقفه عسكريا. وكان واضحا أن نظاما استخدم السلاح الكيميائي ضد شعبه الأعزل، لا يمكن للولايات المتحدة أو سواها من دول الغرب أن تضع يدها بيده، لأسباب أخلاقية على الأقل.
وقد حاول النظام الإيهام بأن الإدارة الأميركية نسقت معه وأخبرته بموعد الهجمات الجوية الأولى على مواقع داعش وأشباهه، لكن تبين أن الأمر لم يتعد الإخطار بالهجمات، كي لا يتعرض لأية طائرة لقوات دول التحالف، ولتذكيره بتحذير الرئيس الأميركي، باراك أوباما، من أنه “إذا فكر وأمر قواته بإطلاق النار على الطائرات الأميركية، التي تدخل المجال الجوي السوري، فسندمر الدفاعات الجوية السورية عن آخرها، وسيكون هذا أسهل لقواتنا من ضرب مواقع داعش”.
والأكيد هو أن نظام الأسد يعي جيدا أنه لا يمكنه الإقدام على “أي عمل يندم عليه”، ويعي كذلك أن واشنطن لن تنسق معه حول الضربات الجوية ضد تنظيم داعش، لذلك لم يجد سوى الترحيب بالغارات، مستجديا التنسيق معه من جديد، الأمر الذي أثار حفيظة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي طالب بالتنسيق مع نظام الأسد واحترام سيادته المفقودة، فيما لام الرئيس الإيراني حسن روحاني حليفه السوري على قبوله قصف أراضيه.
ويبدو أن المهم بالنسبة لنظام الأسد هو اطمئنانه إلى أن قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لن تضرب مواقع قواته والمليشيات الإرهابية التي تقاتل دفاعا عنه، مثل مليشيا حزب الله وأبو الفضل العباس وعصائب الحق وسواها.
ويراهن هذا النظام على أن تؤدي الغارات الأميركية إلى إضعاف قوات المعارضة، على أمل أن يعيد احتلال المناطق التي قد تنسحب منها داعش وغيرها، فيما تراهن الإدارة الأميركية على إنضاج الظروف التي تمكن المعارضة المعتدلة من محاربة داعش، وذلك من خلال إعادة تدريبها وتأهيلها، كي تستطيع القيام بالدور المطلوب.
وبين تعويل نظام الأسد ورهانات الإدارة الأميركية يبقى السؤال عن معاناة السوريين ومصير سوريا، وعن طموحات الثائرين في الخلاص من نظام الأسد، والسير نحو تحقيق أهداف الثورة في الحرية والتحرر.
الجزيرة نت
الطريق إلى تصفية “داعش”/ نائل حريري
يبدو أن «جميع الطرق تؤدي إلى داعش» اليوم، مع الجهود الحثيثة التي تؤدي إلى تقاطع الخيوط الدولية وتشابكها في محور وحيد أخيراً: الحرب على الإرهاب. تلك النقطة السحرية التي تجمع بين القرار الأخير لمجلس الأمن وانتقال السلطة العراقية ووصول المندوب الأممي إلى دمشق وتشكل الحلف الدولي لمحاربة «داعش» في سورية والعراق. صحيح أن هذا المحور كان يوماً ما علامة مسجلة للنظام السوري في نواحه المستمر طيلة الأعوام الماضية، إلا أنه يبدو حتى الآن خارج سياق لعبتها حتى إشعار آخر، أو ربما للأبد.
وعلى رغم جدية هذا التحرك المتسارع، فهو لا يحمل الكثير من الآمال بتغير دراماتيكي سريع. من البديهي أن عمل هذا التحالف في مواجهة الإرهاب قد يستغرق أشهراً طويلة، لكن رؤية خبراء ومحللين في البنتاغون الأميركي تذهب إلى ما هو أبعد: تلك خطة لن تكفيها إدارة أميركية واحدة. ستة وثلاثون شهراً هو الرقم الذي يعلنه هؤلاء فيما يبدو أنه أكثر من مجرد تخمين. ستة وثلاثون شهراً، لا ثلاث سنوات.
ثمة من لا يأخذ هذه التقديرات بجدية، ويرى أن خلفها محاولة مبطنة لمنح الرئيس أوباما ولاية رئاسية ثالثة استثنائية على خطا سلفه روزفلت. صحيح أن المادة 22 من الدستور الأميركي لم توضع فعلياً إلا بعد فوز روزفلت بمنصب الرئاسة أربع مرات متتالية، إلا أن مبرر كسر القاعدة العرفية غير المكتوبة آنذاك عام 1940 كان ضرورة الحفاظ على السياسة الأميركية في خضم الحرب العالمية الثانية، وهي ظروف قد لا تختلف كثيراً عن الطريق الذي تسير فيه الولايات المتحدة الأميركية اليوم ضمن ما لا يختلف كثيراً عن مفهوم الحرب العالمية الثالثة المفترض. خصوصاً إذا تناولنا بجدية مفرطة محاولات النائب الديموقراطي (هوزيه سيرانو) إعادة تمرير مشروع قرار مطلع هذا العام يقضي بإلغاء المادة الـ22 من الدستور الأميركي، والسماح للرئيس بالترشح عدداً لا نهائياً من المرات.
إلا أن الدخول في التفاصيل يوحي بأن الخطة قد تقتضي ما لا يقل عن هذه المدة الزمنية بالفعل، إذا افترضنا أنها أكبر من مجردة تصفية كيان الدولة الإسلامية إلى ما هو أبعد، أي استئصال أي خلفاء محتملين لهذه الدولة قد يؤدي الانحسار الداعشي إلى تمكنهم. بالتالي فإن خطة شاملة كهذه لا بد أن تضع في اعتبارها خيار تصفية «داعش» أخيراً لا أولاً، متضمناً الضغط العسكري على «داعش» لتجميدها في مكانها أو إضعافها نسبياً من دون القضاء عليها في هذه المرحلة، ريثما يتم التخلص من جميع الحركات المقيدة بها، والتي لا يمنع انتعاشها وانتشارها الحالي سوى الغول الداعشي المتربص بها. بل إن هذه الحركات قد تكون أخطر وأكثر أهمية بالنسبة للإدارة الأميركية، إذ إنها تحظى بحواضن شعبية كبيرة مقارنة بـد»اعش» التي تم الاشتغال إعلامياً على جعله العدو المطلق والشر الأكبر. نتحدث هنا عن حركات جهادية من قبيل الجبهة الإسلامية وأحرار الشام وجيش المجاهدين… وصولاً إلى «جبهة النصرة» و «داعش».
ما أعلنته الإدارة الأميركية مؤخراً عن المراحل الثلاث لخطة استئصال «داعش» يكاد لا يبتعد كثيراً عن هذه الرؤية، فاستهداف «داعش» واستئصالها في سورية يشكل المرحلة الثالثة والأخيرة من ملامح تلك الخطة. مما يعني أن ثمة مرحلتين أوليتين تستثنيان في سورية طرفين كبيرين هما «داعش» والنظام السوري. ولكأن الرئيس الأسد الآن يجلس منتشياً في قصره وهو يراقب أحلامه تتحقق أمامه: سيأتي يوم تقتصر فيه سورية على خيارين متضادين هما النظام السوري و «داعش».
يبدو أن اغتيال عدد من القيادات السلفية الجهادية في سورية متضمنة قائد تنظيم حركة أحرار الشام الإسلامية ليس حدثاً عابراً في هذا السياق، وأن مستقبل هذه الحركة بعد اغتيال قيادييها لن يكون أفضل حالاً بكثير – رغم الاختلافات الجوهرية – من حال لواء التوحيد الذي دخل مرحلة انحدار واضح بعد اغتيال قائده عبد القادر الصالح منذ أكثر من عام. ولا يمكن هذه الرؤية أن تؤكد نفسها بنفسها الآن، لكن من المحتمل أن تكون هذه إحدى خطوات السيناريو المحسوب بدقة الذي يرسم ملامح المرحلة القادمة. ولن يكون معيار ذلك سوى انتظار المستهدف التالي على اللائحة، وسقوط بيدق آخر من المجموعات المسلحة الجهادية في سورية، رغم أن ذلك لا يعني بالضرورة اللجوء دائماً إلى الاغتيال المباشر للقيادات.
إن الحركات الجهادية الإسلامية المغضوب عليها في سورية ترزح الآن تحت خطر أكبـــر وأشد وطأة، فلم يعد كافياً الحصار العسكري والاقتصادي الذي مـــورس عليـــها بصـــرامة طيلة الأشهر الماضية. يبدو الآن أن صلاحيتها انتهت ولا حل إلا بإزاحتها طوعاً أو كرهاً، بل وأغلـب الظن أنها ستختفي جميعها قبل «داعش» التي ستكون بمثابة «الشاه الملك» الذي يتم التخلص منه في نهاية المطاف.
* كاتب سوري
الحياة
جديد أوباما/ ميشيل كيلو
قدّم رئيس أميركا، باراك أوباما، خطة لمكافحة الإرهاب، قال إنها ستأخذ صورة حرب، بدأها بنقطة جد مهمة، تقول إن الحل في سورية سيكون سياسياً، بيد أنه سيُبنى على قوة المعارضة.
إلى ما قبل أسابيع قليلة، كان حل المعضلة السورية يستند إلى وعدٍ بإقامة توازن قوى على الأرض، هو جزء من دور دولي، هدفه إرغام الطرفين المتصارعين على قبول حل سياسي “متوازن”، لا غالب فيه ولا مغلوب، تحققه ضغوط ينتجها تفاهم أميركي ـ روسي، يرغمهم على قبول ما كانوا سيرفضونه، لو كانت إرادتهم حرة. لكن أميركا اكتشفت، في مؤتمر “جنيف 2″، أن روسيا لا تريد حلاً دولياً، وتعتبر الحل السياسي مساوياً للحل العسكري الذي يطبقه النظام. وكانت واشنطن قد تجاهلت، طوال أعوام، أن توازن القوى الداخلي والدولي يسمح للنظام بشن حربٍ لا نهاية لها، ستكون في مصلحته، وسيعني استمرارها تحقيق ما يريده من تدمير سورية وتهجير شعبها وتشريده، وجعل الأصولية والإرهاب قَدَراً لا مهرب منه، داخل بلادنا وخارجها.
واليوم، وبعد بلوغ أوضاعنا حالاً تكاد تقوّض وجود شعبنا ووطننا، وبعد تصاعد الإرهاب إلى درجة يمكن أن تطيح أوضاع المنطقة وتوازناتها، وتفتح الطريق أمام حروبٍ بلا نهاية، تغطي جميع أرجائها، يبدو أن أوباما قرّر، أخيراً، القيام بخطوةٍ حاسمةٍ لوضع حدٍ للصراع في سورية، تَعِدُ بتقوية وضع الجيش الحر إلى الحد الذي يجعل الحل السياسي يستند إلى قوته التي ستفرض على روسيا والنظام.
هل هذا كل ما قاله أوباما في خطابه؟ كلا، لقد رسم خريطة طريقٍ تقود إلى حلٍّ يقوم على تسليح الجيش الحر وتدريبه، و”مساندته خلال معاركه”، ومنع النظام من الإفادة من الضربات التي ستوجّه إلى “داعش”، وتزويد الجيش الحر بمعلوماتٍ استخباريةٍ، وصور جوية ضرورية لمعاركه، وتقديم الخبرات اللازمة له ميدانياً، وتنشيط إمداده بمساعدات مستمرة وثابتة. لن يكون لدى أوباما أي تحفّظ، من الآن فصاعداً، إلا على اشتراك قوات أميركا البرية في القتال، التي قال إنه لن يحدث، علماً أن خبراءها دخلوا إلى العراق، بعد انهيار جيشه مباشرة، وإن أعدادهم ستزيد إلى أن تبلغ 1600 ضابط وجندي، شارك كثيرون منهم في التخطيط للمعارك، والإشراف على إدارتها.
هذا هو شكل التدخل العسكري الذي قرّره أوباما، بعدما كان يرفض رفضاً قطعياً حتى مجرد الحديث عنه، فهل قرّر حقاً نقل دوره من سلبيته الانسحابية إلى إيجابية مشروطة؟ أعتقد أنه قرر اعتماد ضربٍ من انخراطٍ محسوبٍ ومتدرّج، في الصراع ضد الإرهاب بالدرجة الأولى، وضد النظام السوري الذي أنتجه بدرجة تالية، مع أن الانخراط قد لا يتزامن في الحالتين. وأؤمن أن أوباما يقوم بهذه النقلة، خشية انتقال الإرهاب إلى أميركا وتهديد مصالحها.
سيكون من الخطأ تجاهل التحوّل في سياسات أوباما التي علينا ملاقاتها بتطوير وضعنا الذاتي، نحن السوريين، في اتجاه يخدم شعبنا وثورته، لحمته و”سداه” وحدة وطنية، تمكّكنا من تحقيق حل سياسي، يستند إلى قوة الجيش الحر، تقدم، في الوقت نفسه، الغطاء اللازم لدور دولي أكثر حسماً حيال النظام، يشجع الثورة في حربها ضد الإرهاب وضده، ويعد بإنهاء الصراع خلال زمن منظور.
هل نحن حيال تحوّل دولي محمّل بالانعكاسات الايجابية؟ أعتقد أننا أمام فرصة واعدة، تتوقف نتائجها على استخدام أوراقنا الكثيرة، والمعطّلة بطرق فاعلة وعقلانية، تخدم قرارنا المستقل، ومصالحنا الوطنية العليا وحرية شعبنا، وقتله المجاني!
العربي الجديد
نهاية زمن «الأسود والأبيض» السوري/ عمر قدور
حتى الآن لم تنفع توسلات النظام السوري، ومن ثم تهديداته باستهداف الطائرات الغربية التي ستقصف «داعش» السورية، في دفع التحالف ضد «داعش» إلى الاستعانة به، ومنحه الشرعية جراء ذلك. مع بداية الحديث عن إنشاء التحالف، ظهر محور الممانعة سعيداً، فلحظته قد حانت أخيراً، وبات بوسعه التحالف مع «الشيطان الأكبر» والدولة العظمى الراعية للإرهاب.. وما إلى ذلك من أوصاف مخصصة لأميركا. إلا أن الشيطان الأكبر بقي على عهده، ولم يقدّم شهادة حسن سلوك للممانعين، ولم يأخذ في الاعتبار أيديهم الممدودة، وليست سابقة ألا تبالي القوى العظمى بالأيدي المستغيثة للغرقى.
إلا أن توسل الانضمام إلى التحالف الدولي ضد «داعش»، أو الوقوف ضده، لن يكونا سهلين على أنصار النظام السوري. فالنظام منذ بداية الثورة اتهم الإدارة الأميركية والغرب عموماً بمساندة المعارضة، ولأنه اتهم الأخيرة بالإرهاب فهو قد اتهم الأولين بمساندة الإرهاب رافعاً شعار مناهضة التدخل الخارجي في الشأن السوري، ولن يكون سهلاً على أنصاره تفهم قبول التدخل العسكري الغربي، ونسيان عدائهم المعلن للغرب بسهولة. إعلام النظام كان يعدّ الرواية عن أنه سبق الجميع في الحرب على الإرهاب، وها هم أتوا أخيراً ليلتحقوا به، غير أن هذه الدعاية لم تكن لتنفع، لأن دعايته السابقة المضادة للغرب لم تتوقف عند حدود الثلاث سنوات ونصف الأخيرة، بل تجاوزتها طويلاً لتنبش مقومات العداء التاريخي المزمن.
عدم قبول الغرب بالتحالف مع النظام ضد «داعش»، لا يعني أيضاً عودة الانسجام إلى رواية النظام، ومن ثم إلى نفوس مؤيديه، فمسؤولو النظام استخدموا فوراً لغة الوعيد، مهددين بإسقاط الطائرات التي تخترق الأجواء السورية، أي أنهم سيستهدفون الطائرات التي تستهدف «داعش»، ما يضعهم واقعياً في مرتبة التحالف مع «داعش». ولعل أكبر إهانة تلقاها مؤيدو النظام هي ما نُقل عن الرئيس الأميركي من أن ضرب الدفاعات الجوية للنظام أسهل بكثير من ضرب داعش، فالرسالة هذه تتجاوز الاستهانة بتهديدات المسؤولين، إلى الاستهانة بوضع النظام ككل، والقول بأن قوته أقل من قوة تنظيم إرهابي مستجد.
لقد قسم النظام ومؤيدوه العالم إلى «فسطاطين»، هم وحلفاؤهم في محور الخير والآخرون بطبيعتهم في محور الشر. الآخرون شريرون وإرهابيون ومنخرطون في مؤامرة كونية على النظام، وهم من اشترى بالمال ملايين الخونة من السوريين؛ ساعدهم في ذلك القسمة المشابهة التي أقامها أولياء النظام مع العالم، بسبب عداوات قديمة أو مستجدة مع الغرب. تقسيم العالم بالأسود والأبيض، أسوة بما يفعله المتطرفون من كل حدب وصوب، يلغي إمكانية السياسة في الداخل أو الخارج، لذا يبدو هذا الخطاب منسجماً تماماً مع الوحشية التي لاقى بها النظام جموع المتظاهرين السلميين، في الأشهر الأولى للثورة، ومنسجماً تماماً مع الوحشية المفرطة في قتل وتدمير أحياء أو مدن كاملة. «داعش» أيضاً يتبنى الخطاب نفسه، إذ يقسم العالم إلى فسطاطين، ديار الإسلام وديار الكفر، وذلك بالضبط ما يجعل منه تنظيماً محض إرهابي.
بعد ثلاث سنوات ونصف من انطلاق الثورة، لم تعد نعمة الأسود والأبيض متاحة لجمهور الموالاة، فنغمة إنكار موبقات النظام التي راجت في البداية راحت تنحسر، وبدأ فكرة الموالاة تتغذى من نسبوية تُقام بين ممارسات النظام وأخطاء المعارضة، أو أخطاء مزعومة لها. صار تبرير الموالاة ينص بمواربة أو بدونها على أن النظام هو الأقل سوءاً بالنسبة لجمهوره، فضلاً عن أن الأقل سوءاً لم يعد قادراً على حماية أنصاره، ولعل أكبر صدمة لاقاها جمهور الموالاة هو تمدد «داعش» وتهديدها للنظام بعد أشهر من النظر إليها كنيران صديقة. لقد ظن الموالون أن تمدد داعش سيعيد الزمن الجميل للأسود والأبيض، بما أن العدو لا يخفي سواده، لكنهم فوجئوا بأن العالم لا ينظر إليهم كنقيض لداعش، وبأن العالم لا يعيش في زمن الأسود والأبيض وحسب.
ما يصح على جمهور الموالاة يصح أيضاً على بعض جمهور المعارضة، إذ لا يخفى ذلك الارتباك في صفوف الأخيرة، جراء التحالف الدولي ضد «داعش». بعض المحسوبين على المعارضة لم يخفِ عداءه للحلف، إما ضمن عصبية أيديولوجية لا تفرق بين إسلام داعش أو الإسلام عموماً، أو ضمن عصبية أخرى لا ترى عدواً سوى النظام، والأكثر عقلانية من بين الاعتراضات، تلك التي تتضمن خشية استفادة النظام من الحرب على «داعش»، من دون البحث في الطرق التي ينبغي فيها للمعارضة أن تستثمر الحرب؛ الأخيرون يتناسون أن «داعش» تمدد أولاً وبحدوده الأكبر على حساب فصائل المعارضة الأخرى وليس على مناطق سيطرة النظام. هنا أيضاً يلوح تقسيم للعالم إلى فسطاطين؛ واحد إسلامي يتبنى ضمناً تقسيم «داعش» بين ديار الإسلام وديار الكفر، وآخر سياسي لا يرى سوى القسمة بين المعارضة والنظام، على رغم اكتظاظ الساحة السورية باللاعبين ذوي الأجندات المختلفة.
ثم، إن أخطاء المعارضة لم تعد قابلة للتغاضي عنها، سواء ما يتعلق برهاناتها أو بفساد بنيتها، الأمر الذي يدفع بعض أنصارها إلى استلهام النسبوية السابقة معكوسة، أي مقارنتها بالشر المطلق المتمثل بالنظام. وفق هذا المنظار، فقدت المعارضة أحقيتها الأخلاقية المفترض حصولها من برنامجها السياسي وطرق تنفيذه لتعتاش على فظائع النظام وخطاياه، وإذا كانت ثمة وعي للتفريق بين المعارضة والمثل التي انطلقت من أجلها الثورة، فهو لم يصبح قيد التأثير ليطيح أطر المعارضة الحالية. بل يكاد هذا الوعي المخلص للثورة ألا يلحظ الانقسامات العميقة الحاصلة في المجتمع السوري، والتي تجاوزت الانقسام الأول بين موالاة ومعارضة، انقسامات من شأنها الإجهاز على بعض مثل الثورة نفسها، فتبدو فكرة الثورة كأنما باتت من زمن الأسود والأبيض في واقع يتشظى بين مختلف الألوان.
قد يكون من «فضائل» الحلف الدولي ضد «داعش» على السوريين صعوبة الاصطفاف معه أو ضده بلا تحفظات، فذلك أدعى إلى فهم السياسات الدولية وعدم تبسيطها بحسب الرغبات المحلية، وأدعى إلى فهم مصالح الآخرين بدل انتظار اغتنام الفرص من خلالهم. لا يخفى هنا انتظار جمهور النظام فرصة التدخل الخارجي لمساندته، ولا يخفى انتظار المعارضة المناسبة نفسها عسى أن تقلب الموازين على الأول، إلا أن ما توضحه استراتيجية التحالف أنها لن تكون في هذا المقلب أو ذاك، ومن المرجح أن تكون مفيدة لمن يحسن التعاطي مع متغيراتها على الأرض، هذا إن لم نقل إن القضاء على «داعش» لا يمكن إلا أن يكون نافعاً كخطوة أولى للقضاء على إرهاب النظام، لمن لا يريد الاستقالة من واجباته.
التشرذم الذي وصلت إليه الحالة السورية بعد ثلاث سنوات بات مضرباً للمثل، وهو أمر ليس مستبعداً بعد خمسة عقود من الاستبداد، الذي أجبر السوريين على أن يكونوا متشابهين. الثورة كانت أول فأس يُضرب في فكرة التشابه، فهي قد بينت لطرفي الثورة والموالاة أنهم ليسوا واحداً، وأن المدخل إلى سوريا الجديدة هو بالضبط الإقرار المتبادل بأنهم ليسوا واحداً. استمرار الصراع وتداعياته كان لا بد لهما أن يُبرزا التباين ضمن كل خندق أيضاً، والتدخلات الخارجية المتباينة لا بد لها أن تؤدي الغرض ذاته. ضمن هذه اللوحة المعقدة؛ لا يندر، ولا يضير الواقع بشيء، أن تنتعش موجات من الحنين، بعضها إلى زمن التماثل العمومي، وبعضها إلى زمن التماثل ضمن الخندق الواحد. في الحالتين، الأمر لا يتعدى ما يفعله كهل يجلس على كرسيه ليستعرض ماضيه بالأسود والأبيض، بينما الحياة أمامه تستمر بالألوان.
المستقبل
نصيب السوريين من الحرب/ فواز حداد
المهمة العاجلة للحرب الدائرة اليوم هي القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية في المناطق التي بسطت سيطرتها عليها في سورية والعراق. المحاولات تجري على ألا تتخطى الحرب حدود أرض المعارك. “داعش” اخلت مواقعها الظاهرة في الرقة والموصل، وذاب رجالها في المدن والقرى. في الوقت نفسه واصلت هجومها على عين العرب، وكما يبدو تعمل جاهدة على كسر الحصار المضروب حولها، على الرغم من المراقبة المستمرّة بالأقمار الصناعية وطائرات التجسّس وعملاء التحالف وغيرهم. بينما يعمل التحالف على تضييق رقعة الحرب، وألا تمتد إلى بلدان الجوار. توسع “داعش” يؤدي الى بعثرة القتال والجهد الحربي والإغاثي.
خرق الحصار انتصار لـ”داعش”، حتى لو كان باتجاه تركيا التي بادرت إلى الامتناع عن مؤازرة التحالف، أو على الأغلب تقليص مشاركتها فيه الى الحد الأدنى، فـ”داعش” لا تنوي احتلال أراض تركية، بقدر ما تريد تسجيل انتصار إعلامي، بضرب المصالح الغربية في الداخل التركي، ما يشكل رداً سريعاً على قصف طيران التحالف لمواقعها، هذا أحد أسباب غض النظر عن مشاركة تركيا الفعالة.
الاهتمام بالحرب على أشده، الأمريكان يريدون تحقيق نصر سريع ولو كان إعلامياً، ربما تحقق في ضرب معقل “خورسان”، الذي ظهر فجأة على أنه أخطر من “داعش”، كتبرير لدخول حرب كانوا يمانعون فيها، يسوغ تورّطهم فيها ولسنوات قادمة، لمجرّد أنهم ذهبوا إليها بعد طول تردّد، وخسارة الكثير من الوقت. فـ”داعش” التي استجرّتها للحرب اتخذت حذرها، ولديها البديل؛ حرب عصابات لن تفلح فيها ضربات الطيران، ولا مشاركة المتحالفين معها.
المشكلة أنه لا يمكن للأمريكان أن يدخلوا حرباً ليخسروها، وإنما لينسحبوا منها، لكن ليس بدون إبداء الأسباب، لذلك يبالغ أوباما في قوة “داعش” وتعداد مقاتليها، وأسلحتها المتطورة، وقدرات أجهزتها الإعلامية؛ مبالغة تستغلها “داعش” في تصعيد العنف، وممارسة المزيد من الإرهاب، ما دام هناك من يرى ويسمع، أصواتهم تصل إلى القارات كلها، موثقة بالفيديوهات. يأمل أوباما أن تساعده المبالغة على طلب المزيد من الذين يأملون من الحرب منافع ترتدّ عليهم داخل بلدانهم وخارجها، سعوا إليها متضامنين، بعد تفويت أكثر من فرصة أضاعوها متفرّقين. فلا عجب أن الحديث يدور عن حرب تدوم سنوات، لا بضعة أيام.
الفرص الحقيقية التي فاتت المتحالفين أكثر من أن تحصى، ترى هل تستدرك قبل أن تصل “داعش” إلى عقر بلدانهم؟ هذا ما يجري العمل عليه، خاصة وأن الحرب تزيد عن قصة الإرهاب محور اجتماعات الأمم المتحدة، إلى ترتيب أوضاع المنطقة على نحو ينزع الأسلحة والحجج من المتمرّدين ضد أنظمة كادت أن تحظى بمتغيرات إيجابية في الربيع العربي. ما يطمح إليه الآن، ألا يكون الربيع من الفصول الأربعة.
هذه الحرب ليست لإنقاذ سورية على الإطلاق. القرار؛ سورية ساحة قتال، تبرّعت بها، أما الضحايا المدنيين فحصّتها من المشاركة. يتبدّى هذا في حصار “داعش” ومنعها من التسلل خارجها، وعدم السماح بعودة الجهاديين إلى البلاد التي خرجوا منها، حتى الذين تابوا عن الجهاد.
سورية حتى الآن غير موعودة بشيء، هذا ما توضحه التصريحات المراوغة، وما يرسم لها في دوائر القرار، وما يجهد في إخفائه. لم يُعطَ السوريون أملاً ولا وعداً بوقف إطلاق النار، أو عودة النازحين إلى بيوتهم. الحلّ السياسي لم يلق أي تجاوب من النظام، وتجاهله الروس والإيرانيون، لم يلجؤوا إليه إلا للتهرّب من وضع حدّ للأزمة، وتوافقوا على إبقاء سورية تحت وصايتهم، ورقة إقليمية، المثال الساطع كان في “جنيف”، لم يكن العمل على حلّ سياسي بلا أنياب، وإنما إلى لا حلّ، بإبقاء القصف والتهجير على حاله.
إن لم تلزم هذه الحرب المتحالفين بنهاية للمأساة السورية، فهذا لا يعني سوى أنه خطط لها على أن يجني ثمارها الآمنون في بلدانهم، لا السوريون المنتهكون في بلدهم، بينما تضيق بهم أرض الله الواسعة، فيلاقون حتفهم غرقاً في البحار، أو يتماوتون في الخيام. أما في لبنان الجار، فيتبارى الأشقاء بعنصرية انتهازية، في إيقاع الأذى والإهانة بهم. هذا زمنها، مادام العالم ابتلع اقتلاعهم من أرضهم، ألا يتضاءل إزاءها الدعس بالأقدام على شبان مقيدين طرحوا أرضاً؟
إن لم يظفر السوريون بحلّ سياسي عادل، ليس الذي كان محور خداع الديبلوماسية العالمية طوال نحو أربع سنوات، حل سياسي عادل يحترم تضحياتهم، وحقهم في دولة مدنية، يتساوى أفرادها أمام القانون، فالداعشيون وأمثالهم، وعلى منوالهم، جهاديون، أو حتى ملاحدة بلا دين، لن يكفوا عن التناسل والقتال والانتحار.
المدن
النظام السوري وضرب “داعش”/ ميشيل كيلو
تدور في أوساط متنوعة، حوارات يومية حول الجهة التي ستفيد من ضرب “داعش”. يقول رأي إن النظام السوري وإيران ستفيدان وحدهما، ويقول رأي آخر إن الضربة ستكون محكمة سياسياً وعسكرياً، لكي لا يفيد منها أحد، غير المشاركين فيها، كالجيش السوري الحر.
إذا كان من الصعب تحديد الجهة التي ستفيد من ضرب “داعش” في سورية، فإن جهات عراقية أفادت من الضربات التي أصابت التنظيم الإرهابي، بعد أن غطتها المرجعية الشيعية وهيئة علماء المسلمين، وأيدها الكرد ومعظم أحزاب البرلمان والجيش.
أما في سورية، فالصعوبة من غموض ما قد يحدث، ومن البلبلة التي ترتبت على سياسات أميركية تبدو وكأنها قررت الانتقال من الركود والسلبية إلى حال مختلفة، ليست طبيعتها وأبعادها ومقاصدها واضحة، وليس معلوماً إلى أين ستصل، وخلال أي زمن، مع أن مجرد دخول أميركا النشط إلى الصراع السوري يكفي لتغيير أدوار جميع المنخرطين فيه، مهما كان حجمهم، فكيف إذا كانت تعطي الانطباع بأن سياساتها ستنقلب من قوة تعطيل إلى قوة جرٍّ وعصف، تؤثر بشدة وتبدل طبيعة الساحة السورية، شارك الآخرون أم لم يشاركوا في الحرب ضد الإرهاب.
ثمّة، من حيث المبدأ، ملاحظة تبين هوية من قد يفيد من ضربات التحالف، يلخصها أن “داعش” قوية في المناطق التي حرّرها الجيش الحر، وغير موجودة، أو ضعيفة في مناطق سيطرة النظام. ألا يعني ذلك أن ضربها في مناطق قوتها يضعفها، ويفيد الجيش الحر الذي يقاتلها في هذه المناطق، ويعد إضعافها بالضرورة قوة له؟ بينما يرجّح أن يستبعد ضربها في مناطق النظام، حيث هي ضعيفة وغير فاعلة، ولن يفيد، بالتالي، من غيابها عن مناطق هي بالكاد موجودة فيها.
يبقى أن يرتب الجيش الحر أموره في مناطق الصراع مع “داعش”، لأن قدرته على الإفادة من الضربات ستتناسب مع أوضاعه، فإن كانت جيدة ومنظمة استعاد المناطق التي خسرها، وعناصره الذين تركوه وانضموا إلى “داعش” (اختار رئيس ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، هادي البحرة، هذا الوقت بالذات كي يربك الجيش الحر، ويقيل مجلسه الأعلى، مع أن هذا ليس من صلاحياته، وينقل الصراعات السياسية إليه). إن حدث هذا، ستتغير معادلات الصراع تدريجياً، وسيتراجع دور “داعش” فيه لمصلحة تناقضٍ، حداه البديل الديمقراطي والنظام الذي كان قد تلاشى مع تراجع سيطرة الجيش إلى 10% من مساحة سورية، تقع بين مناطق النظام وسطاَ وجنوباً، و”داعش” شمالاً.
أخيرا، من المستبعد ذهاب عائد الحرب ضد “داعش” إلى نظام تحالف معها، واستخدمها في مناطق طرد منها، حيث لعبت أخطر الأدوار في احتواء الجيش الحر، وإجباره على القتال في جبهتين، وأخرجت معظم وحداته من شمال سورية.
أخيراً: كيف يمكن لنظام رفض العالم مشاركته في الحرب ضد “داعش” الإفادة من ضربها، وهو الذي تكاملت، أو تماثلت، أنشطته وأهدافه مع أنشطتها وأهدافها، ويعد إضعافها ضعفاً له؟ وكيف يمكن له الإفادة من هزائمها، إذا كان الوحيد الذي أفاد من انتصاراتها وحروبها ضد الثورة والشعب، ومن بسط سيطرتها على المساحات التي كان قد طرده الجيش الحر منها؟
هذه بعض الافكار حول الجهة التي قد تفيد من الحرب على الإرهاب. تبقى إشارة أخيرة، أن هناك مشروعاً دولياً لتسليح الجيش الحر بهدف تقويته، لن يتحقق في حالتين: إن تم السماح للنظام بالإفادة من الحرب على الإرهاب، وتواصل تلاعب رئاسة الائتلاف الوطني بوحدته ومصداقيته.
العربي الجديد