مقالات لكتاب سوريين تناولت “داعش” والازمة في المنطقة
تأملات في صدّام وبشّار وداعش/ باسل الجنيدي
يــكون مزاج أغلب القنوات التلفزيونية عـكـــراً فـــي الصباح الباكر. تبدأ نشراتها الإخبارية بخبــر سيطرة داعش الإرهابية على مدينة عراقية جديدة، ويتحسّن المزاج شيئاً فشيئاً بعد القهوة الصباحية وانحسار موجة الحر بعد الظهيرة، وما إن يخيّم الظلام وتبدأ ليالي السمر، حتى تبدأ القناة ذاتها نشرتها المسائية بصياغة أخرى، تتحدث عن سيطرة «ثوار العراق» على المدينة.
يبدو العالم مرتبكاً وكاريكاتورياً أكثر من أيّ وقت مضى. يخرج أوباما بحديثه الرتيب المعتاد، ويؤكد أن الولايات المتحدة لن تتدخل في العراق، ويستجديه روحاني في اليوم التالي، ويصرّح من دون أن تبدو عليه علامات الخجل، أنّ إيران قد تقدم يد العون لأميركا إن غيرت قراراها وبادرت بالتدخل في العراق. أثناء ذلك يمارس بشار الأسد رياضته الصباحية المعتادة، بحسب جريدة «الأخبار»، ولا يجد داعياً لمراجعة مختصٍّ نفسي، بينما يصرّح: «فهم العالم أخيراً أن ما قلته قبل ثلاثة أعوام في خطابي الأول كان صحيحاً»، ويبقى بان كي مون المسكين الوحيد الذي ينهشه القلق!
وطالما أنّ حدود «الدولة السنية» الحديثة لم تستقر بعد، فهذا لن يسمح لنا الآن بقياس مساحتها جغرافياً وعدد سكانها، ولو أن امتدادها من ريف حلب الشرقي حتى حدود بغداد حتى الآن يجعلها ربما من أكبر دول المنطقة، كما أن سيطرتها على آبار النفط التي تدر ملايين الدولارات على داعش يجعلها تملك اقتصاد حربٍ يكفيها لتنفلت من عقال سيطرة أي داعم أو ممول، وتكفيها «ترسانتها العسكرية» بما غنمته وصنّعته واشترته للتمدد شيئاً فشيئاً، وهي ترسانة لم تعد تقتصر على الأحزمة الناسفة والبنادق والدبابات والهاون والمدرعات، بل حتى سيارات الهامر، وربما الطائرات.
حينما أعلن أبو بكر البغدادي في 9 نيسان (أبريل) 2013، عن قيام «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، بدا الأمر أشبه بالطرفة، لم يأبه الكتّاب والمحللون والسياسيون لهذيان هذا الرجل، ولم تتجاوز ردود الأفعال «الإفيهات» الفايسبوكية. بدا «مشروع داعش السياسي» أشبه بمشروع منافستها الافتراضية والهزليّة «دانس»، «دولة الإسماعيلية في النهر والسلميّة».
لا يهمّ اليوم أن تكون «داعش» هي من تتقدّم في العراق أو العشائر السنيّة الحليفة أو الثوّار العراقيون، فالمصطلح أقلّ أهمية بكثير مما تظنّ القنوات التلفزيونية المرتبكة، فحينما تُترك الموصل من دون مسلّحين بعد تخليصها من جيش المالكي، فهذا لأنّ الأرض أصبحت تتبع للدولة «السنيّة» الحديثة من دون حاجة لبقاء المسلحين فيها، فالآن لهم أن يتفرّغوا للجبهات ويكملوا رسم حدود الدولة ويتركوا إدارة المدن التي انتزعوها لـ»حاضنتهم الشعبية»، ولنا أن نكتشف أن المشروع السياسي للبغدادي يمتلك مقومات قيامه، بل ربما استمراره لفترة طويلة أيضاً!
هذه الدولة الحديثة امتدادٌ حتمي لحزب البعث في ظلّ المظلومية السنيّة والضوء الأخضر للتمدّد الشيعي خلال الفترة الماضية، ولا يتعلّق هذا التوصيف بكشف وسائل الإعلام عن هويّات قيادات داعش وترويجها أنهم من المجندين السابقين في الجيش العراقي، أو بالإشاعات التي تتحدث عن كون عزة الدوري قائداً ميدانياً للعمليات العسكرية، بل يتعلّق بكون صدام حسين قد قام، حقاً قام بهيئة شنيعة جديدة، بلحية و «باكستانيّة» وساطور متحفّز لقطع الرؤوس وحزامٍ ناسف، وكان محتّماً له أن يقوم بهذه الهيئة بعد أن أعدم في أول أيام العيد، وسُلّم العراق لإيران، وبعد 200 ألف شهيد في سورية، وبعدما اقتربت نسبة الفقراء من السوريين من 90 في المئة، وفق الأمم المتحدة، وبعدما دمّر ثلثا المنازل، واستخدم الروس والصينيون عدداً يؤرق ذاكرتي من الفيتو، وتراجعت أميركا عن ضربتها العسكرية، وزحف عشرة آلاف مقاتل شيعي للحرب مع النظام، وبعد كل مناسبة يسمح فيها لمريض نفسي دموي أن يمارس الرياضة في الصباح، ويتفاصح للصحف عن حذاقة نظرته في المساء!
منذ أخرجت «داعش» من حلب، بدأت حملة البراميل وسوّيت أغلب أحياء المدينة بالأرض وأفرغت من السكان، وبقيت داعش آمنة في الرقة، فيما لم تهنأ الكتائب التي حاربتها بليلة هادئة من يومها. كان صعباً على السوري الذي يحارب النظام أن يرفع بندقية في وجه من يسانده في حربه، والأصعب أن يكون هذا الآخر يرفع راية الإسلام، إلا أنّ الحرب على داعش، التي دفعت كتائب الجيش الحر والجيش الإسلامي آلافاً من عناصرها ثمناً لها، كانت حرباً عفوية لم يسبقها أي قرار سياسي أو دعم، ولو برصاصة، على عكس ما يظنّ الجميع، بل إن قيادات «جيش المجاهدين» الذي بدأ الحرب كانت خارج البلاد تتوحّد في اجتماعٍ مغلق، ولم تكن أصلاً على معرفة بأنّها «علقت!» في الريف الغربي لحلب، ومن ثمّ في المدينة.
بعدما «قام صدام»، أصبحت الثورة السورية أمام مفترق طرقٍ تاريخي، فإما أن يندثر المشروع الوطني فيها للأبد، وتبتلعها الدولة السنية الحديثة، وإما أن تنهض لتحارب أعداءً يحاصرونها من كل مكان. أقرّ أوباما دعمها بالسلاح أخيراً ومتأخراً جداً، فإن لم يكن هناك تغير جوهري في السياسة الأميركية، وإن لم يتحسس الأسد رقبته قريباً، فعلى الثورة، وسورية، وربما المنطقة السلام. وللأسد أن يتبجّح بأنه لم يُلسع، على رغم أنه قال يوماً منكراً علاقته بداعش: الإرهاب كالعقرب، إن وضعته في جيبك قد يلسعك.
* كاتب سوري
الحياة
بلدان جديدة لشعوب قديمة!/ عمر قدور
من باب التعسف يُنسب لداعش تحطيم حدود سايكس بيكو والتشجيع على تخيل خرائط جديدة للمنطقة. ألحق أن الخرائط المصدَّرة من مراكز أبحاث غربية قد سبقت بروز داعش، وسبقت أيضاً التطورات الأخيرة في العراق، الأمر الذي قد يشجع أصحاب نظرية المؤامرة على القول بأن مخططاً ما كان مبيّتاً لإعادة تقسيم المنطقة. لكن تلك الخرائط، المختلفة في ما بينها، يبدو أنها رُسمت على عجل، وبغية تخيّل حلّ نهائي للصراعات المحلية بوصفها صراعات ذات طبيعة بنيوية مزمنة، أي أنها ليست صراعات سياسية بل هي صراعات دينية أو إثنية تقع في صميم معتقدات شعوب المنطقة بحيث لا ينفع معها سوى التحاجز التام.
قبل انتشار هذه الخرائط، لم تكن الشعوب المعنية تعبّر عن تطلعاتها على هذا النحو. الآن أصبح للخرائط الجديدة بعض الزبائن المحليين، وهو أمر إما أنه يدلل على عدم قدرة الشعوب على اقتراح الحلول المناسبة، أو على انتظار البعض اقتراحات المركز الغربي واعتبارها إستراتيجية ينبغي اللحاق بها فوراً. الغائب المشترك في الاحتمالين هو حق الشعوب في تقرير ما تريد خارج الضغوط والإكراهات، حيث لا يُنتظر أن يُعاد رسم الخرائط بسلاسة، أو من دون هدر دماء جديدة، إلا بافتراض إجبار الجميع على قبول الأمر الواقع، وتوكيل تنفيذه لنخب عسكرية وأمنية محلية مؤمنة تماماً بعدالة التقسيم الجديد.
خارج الاحتمال الأخير، لا أحد بوسعه الجزم بأن إعادة تقسيم المنطقة ستنهي دورة العنف الحالية، إلا إذا كان الهدف هو تحويل شكل الصراع من حروب أهلية داخلية إلى حروب خارجية إقليمية. أيضاً سيبدو ضرباً من الخيال النظر إلى الدول الجديدة كمجموعات بشرية منسجمة تنتظم مباشرة في الدولة العتيدة، فقط على خلفية الانتماء المذهبي أو الإثني. أي أن الدول الجديدة ستخلو من الاحتراب، وكأن المشكلة لم تكن أساساً في النمط الاستبدادي المعمّم على شعوب المنطقة، والمولِّد بطبيعته للعنف والإرهاب. الدولة القومية أو المذهبية لم تمنع الصراع السياسي يوماً، ولا يجوز أن تفعل ذلك، وفي أغلب التجارب لم تكن دولة الانصهار هذه سوى قوة قسر وإخضاع، فهي دولة الجماعة على حساب حريات أفرادها، بل يمكن القول بأن الانتقال إلى الدولة الحديثة أتى عندما قطعت الدول مع ماضيها القومي وتحوّل الأخير إلى محض إرث رمزي.
الآن ثمة من يقول بأن حدود سايكس بيكو كانت تعسفية، وهو القول نفسه الذي واظب على تكراره القوميون، إلا أن إثبات قدرة الحدود الجديدة على الاستمرار مجازفة أكبر من القول السابق. الحدود الجديدة إما أن تُرسم في مطبخ دولي مشابه لما حدث قبل نحو قرن، ولا ضمانة بأن تأخذ رغبات شعوب المنطقة في الحسبان على نحو ما حدث حينها، أو أن تُرسم من خلال الحروب الإقليمية، وقد تستقر مؤقتاً بموجب موازين القوى الحالية. غير أن هذا استقرار معرّض للانهيار متى تغيرت موازين القوى. بعض التصورات الحالية يستند على أن الدول عبر التاريخ لم تكن نهائية، على ذلك لا بأس في أن تشهد المنطقة دورات من التغييرات الجيوسياسية الشاملة. هذه المقولات تتجاهل أن قيام الدول كان دائماً على نيّة الديمومة، وإذا كانت الحدود الحالية غير مقدسة أسوة بالحدود الغابرة والجديدة المقترحة فما الذي سيشجع الناس على الانخراط في مشروع الدولة القادمة؟
لعلّ ما يجمع المتحمسين لتغيير خريطة المنطقة، بخاصة تغييرها على هذا النحو الاعتباطي، هو تجاهلهم للمشاكل الحقيقية التي عانت منها الشعوب طوال ما يقارب القرن، وهكذا ينصرف الاهتمام إلى الحدود بدل تفحص ما كان يجري ضمنها. ولئن كانت انتفاضات “الربيع العربي” السبب في فتح هذا الباب، فهي لم تنطلق احتجاجاً على الحدود الحالية، وكانت مطالبها داخلية بحتة، حتى أن الكثير من خلافات السياسة الخارجية المزمنة لم تكن في قائمة أولوياتها. ولئن كانت الثورة السورية تحديداً هي التي فجّرت هذا الباب في المشرق فهي لم تنطلق لإحياء “المسألة الشرقية” كما يصورها البعض اليوم، أما المظهر الطائفي للصراع السوري فهو تعبير عن الأزمة الحادة الحالية، وهي أزمة امتدت إلى الوعي من دون المخاطرة بالقول إن وعي الأزمة سيكون مستداماً، لأن افتراض ديمومته يعني توريث الصراع لأجيال قادمة في حيز جغرافي لا يقبل القسمة بالسهولة المتخيلة.
تغيير الجغرافيا السياسية لن يغيّر من الجغرافيا ذاتها، ولن يغيّر من الشعوب المقيمة فيها، مثلما لن يغير من الصراع على الثروات ومحاولة الاستحواذ عليها من قبل الفئات الأقوى اجتماعياً، أي لن يغيّر من مفهوم الغلبة الذي يحكم علاقات المنطقة حتى الآن. هنا يحضر المثال المؤلم عن الملايين من كافة المذاهب والإثنيات، الملايين التي هاجرت إلى الغرب توسّلاً لحياة كريمة على المستويين الاقتصادي والسياسي، بما فيها الآلاف التي تخاطر بحياتها حتى الآن في مسالك الهجرة غير الشرعية. هؤلاء لم يهاجروا لأن أحلامهم في إمبراطورية قومية أو مذهبية قد خابت. ببساطة، لا يكترث الناس بمن يحكمهم، ولا يعيشون على الأيديولوجيات، أو على اتساع الحدود أو ضيقها. المغلوبون على أمرهم ربما هم أقرب الناس، بفطرتهم ومتطلباتها، لما تعنيه الدولة الحديثة.
المدن
“داعش” ظاهرة ملفقة/ د. طيب تيزيني
تحوَّلت «داعش» و«حالش» و«النصرة» وغيرها في السنوات الثلاث الأخيرة إلى ظاهرة أيديولوجية سياسية ذات حضور في سياق الصراع المسلح في العالم العربي الإسلامي. وهي وإن كانت قد ظهرت كمجموعات مسلحة إلا أن استراتيجيتها تقوم على كونها تزعم السعي لتأسيس «دولة إسلامية» تجعل من «الخلافة» ركيزة سياسية دينية وتنظيمية، معلنة أن مهمتها تتمثل في إقامة مجتمع إسلامي على النمط الإسلامي الباكر، ومن ثم، فإن أنماط الدولة القائمة الآن في العالم العربي والإسلامي إن هي إلا كيان قائم على الكفر والضلالة، والضلالة إلى النار!
ويلاحظ أن الظاهرات الأيديولوجية المذكورة هنا، بوصفها نماذج للحركات الإسلامية التكفيرية، وجدت تنامياً جديداً في المرحلة التي بدأت مع «الربيع العربي» لأسباب عديدة وآخذة في التوسع، وذلك بقدر ما تعجز النظم العربية التقليدية عن الإجابة عن مشكلاتها ومعضلاتها المعلقة. وهذا الأمر الأخير هو أحد الأسباب الفاعلة المذكورة لـ«الحطام» الذي تعيشه تلك النظم، أي للعجز عن حلّ مشكلات الشباب والنساء والعلماء والعمال ومن تبقى في المجتمعات العربية، ويمكن أن تتضح معالم إخفاق حل مشكلات تلك الفئات بصورة أكثر وضوحاً وأكثر فظاعة وعنفاً، وذلك حين نضع في حسباننا ما يحدث ضمن العلاقات القائمة بين النظام الحاكم أو بين بعض النظم الحاكمة عربياً، وبين الشعوب العربية المعنية، وخصوصاً في إطار تلك المجموعات المذكورة والمتميزة بنشاطاتها المجتمعية والسياسية.
إن ذلك الإخفاق الذي تحدثنا عنه بين الفريقين، أي القائم بين بعض النظم والشعوب، يظهر حقاً إلى أي مدى اتسعت رقعة الفساد والاستبداد والإفساد في بعض المجتمعات العربية، بحيث راح أفق التحديث والتغيير -الديمقراطي يظهر أمراً خارج التحقق. ومن ثم ومن موقع ذينك المعطيين، العجز عن الإجابة عما يحدث من أسباب احتقان وتفكك في المجتمع العربي من طرف، وظهور أجهزة الاستبداد كعناصر حاضرة من طرف آخر. وبنظرة أولية تتضح أمامنا الإشكالية الثنائية المأتي عليها، ويظهر معنا حدّان اثنان لهذه الأخيرة، وهما القهر الاجتماعي والقصور المعرفي. وهذان قد يظهران بصيغة أخرى وبإضافة عنصر أو آخر، وبإضعاف الأول منهما أو الثاني. وقد جرى البحث في هذين العنصرين من باحثين وناقدين كثر، ونلاحظ أن هؤلاء أو فريقاً منهم قد توغل في المسألة، فلاحظ أن هيمنة نظم استبدادية متخلفة تحول دون تكوّن مجتمع بشري فاعل ومنفتح وينتج، خصوصاً إذا كان يسمح لمعاهد البحث والدراسة الدخول لمقاربة الموضوعات بحثاً وتدقيقاً ونشراً. وقد لوحظ أن جملة من النتائج جرى التوصل إليها من الجهود التي بذلها بعض الباحثين والمفكرين وتتمثل في العلاقة بين ثلاثي السياسي والاقتصادي والفكري. لقد أفصحت تلك العلاقة عن نتيجة باهرة تضبط أهمية هذا الثلاثي مجتمعاً من عناصره الثلاثة، وللكشف عن أهمية التأثيرات المتبادلة بينها، وقد لاحظنا إضافة إلى ذلك خطورة تلك التأثيرات بين العناصر الثلاثة.
وقد نضع يدنا على نقطة منهجية ذات ثقل ملحوظ في إطفاء الكثير من القنابل الموقوتة والعوائق المولدة للصراعات والتناحرات بين الأطراف المختلفة في وجهات النظر وفي تحويلها إلى مجال للاحتراب.
فحين ينظر إلى كأس الماء في نصفه ويقال بمقتضى ذلك: إن الحوار الديمقراطي يتأسس على فض المشكلات والالتباسات والاختلافات فيما بين أصحابها، ليبرز ذو الرأي الغالب الأوحد! إن الخطأ المنهجي في ذلك يكمن في الاعتقاد بأن طرفاً واحداً من أطراف الحوار هو الرابح، فيما يكون الآخرون خاسرين! فمطالبة بعض أطراف الصراع أو الاختلاف بالخروج من الحلبة ليس صحيحاً لأن كأس الماء نصف الملآن قد يفصح عن مفاجأة تتمثل في ضرورة الحفاظ عليه كما هو، ومساعدته في الوصول إلى ما لم يمل إليه بعد، ولكن بشرط أن يتم ذلك بطرق سلمية كذلك، وبتوافقات أولية مقبولة، بطرق سلمية، كذلك، بل وبتقديم المساعدة هنا أو هناك.
إن «داعش» هي ومثيلاتها لم تعش سوى لحظات الصراع العدائي. وحين تكون السلطة قد جاءت بطرق مشروعة وسلمية، تستطيع الزعم بأن دورها الاجتماعي ليس فقط في دورها الراهن المرتبط بما هو قائم، وإنتاج أدوار جديدة تتحدد في النزول إلى أرض الواقع ليس في سبيل مجابهتها بعيداً عن الدخول معها في حوارات يمكن أن تغير وجه الأرض، وخصوصاً أن النظام الأمني يتذكر أنه هو الذي غرس «داعش» وأمثاله في الأرض العراقية والسورية، وأنه قد راهن في ذلك على نتائج القول الملتبس: عليَّ وعلى أعدائي.
الاتحاد
البغدادي وبيكاسو في مشهد سريالي/ ربيع بركات
يتمعن الخليفة ابراهيم البغدادي بالخبر ثم يبتسم مستهزئاً. «لن يبقى لجلّ هذه اللوحات أثر»، يقول لنفسه. الخبر المكتوب على شاشة «اللابتوب» أمامه صدر قبل أيام من ظهوره في الجامع الكبير بالموصل، مفاده أن خبراء بيّنوا أن إحدى لوحات الفنان والنحات الإسباني بابلو بيكاسو تخبّئ لوحة أخرى تحتها. اللوحة الظاهرة تحمل عنوان «الغرفة الزرقاء»، وهي تبيّن امرأة عارية، من غير تفاصيل، في غرفة غارقة باللون الأزرق.
يستطرد الخليفة، حامل شهادة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية ولاعب كرة القدم البارع سابقاً، في بحثه عما ينير له سيرة ذاك الفنان، فيأخذه محرك «غوغل» من صفحة إلى أخرى. بيكاسو من بلاد الأندلس. وبما أن عمر الأمم لا يقاس بالشهور، يمكن القول إن الأخيرة قاب قوسين أو أدنى من الفتح بحسب مخططات «الدولة الإسلامية» ورؤيتها للمستقبل، ووفق خرائطها المُعدّة والمنشورة على الملأ. لذلك، فالتهيئة مفيدة لحدثٍ يفترض أن يكون قريباً، ولا بأس من التبحر قليلاً بأحوال البلاد التي ينتظر أن تغدو ولايات في دولة «الخلافة».
الفنان هذا تنقل بين الأندلس وباريس، حيث أنجز معظم أعماله في النصف الأول من القرن الميلادي الفائت. حياته الشخصية صاخبة، تخللها عدد من الزوجات والعشيقات، فضلاً عن أربعة أولاد من ثلاث نساء مختلفات. أطلق ما يسمى بالفن التكعيبي. هو عبارة عن أشكال هندسية يرسم عبرها أو ينحت أناساً وأمكنة. بعضها لتماثيل متقوقعة على نفسها، فيما بعضها الآخر يبرز نساءً سافرات غريبات الأطوار، وأكثرها إثارة للعجب، يظهر وجهاً مفجوعاً بألوان كثيرة، في لوحة بعنوان «المرأة الباكية».
يتوقف خليفة «الدولة الإسلامية» قليلاً ليقارن بين لوحات التكعيب الهندسي وأنواع الفن الفاجر الذي طالته أيدي رجاله حيث بسطوا سيطرتهم. يستذكر تحديداً قطع رأس تمثال أبي العلاء المعري في معرة النعمان بإدلب قبل عام ونيّف. شكّل هذا باكورة فرض «المجاهدين» هيبتهم العقائدية في بلاد الشام. مسلحو «جبهة النصرة» قاموا بالمهمة آنذاك، حين كانوا امتداداً لـ«الدولة الإسلامية» قبل الانشقاق عنها، وقبل التحول من صفّ الخليفة إلى الجبهة الأخرى، حيث الجماعات المسلحة الحليفة لجمهوريةٍ ومملكةٍ وإمارة، كلها في عداد الكافرين.
في حسابات أبي بكر البغدادي، يُصفّى الخلاف مع تلك الجماعة المارقة بتصفيتها. ولا يشفع لرجال «النصرة» إظهارهم بأساً في المعارك واعتمادهم أساليب «الدولة» نفسها في القتال. فبرغم استمرارهم على المنوال ذاته، يفجرون أنفسهم بين الجموع ويجزون أعناق الخصوم ويقتلون الأسرى للاعتبار، هم اليوم في صف الضلال المبين. والدليل أنهم محل غزل معارضة اسطنبول ووسائل إعلام عربية مؤيدة لها. لكنهم ذاقوا جزاءهم برأيه. وها إنهم يهيمون على وجوههم مع سيطرة رجال «الدولة» على ريف «ولاية الخير» أو دير الزور كما يسمونها، واستسلام مناطق نفوذ «نصرتهم» الواحدة تلو الأخرى، وخروج عشرات الآلاف من أهاليهم إلى البوادي بانتظار تأكد «الدولة» من مبايعتهم وولائهم الكامل لها.
يرتاح البغدادي لمسار الأمور ولجلاء رؤيتها في رأسه، ويعود إلى حيث كان معلقاً، على شبكة «الإنترنت». «المرأة الباكية»، برغم سفورها، تستدرجه لمزيد من الإطلاع على المغزى وراء رسمها. هي امتداد لمجموعة لوحات للمدعو بيكاسو تستعرض مآسي أفراد تائهين في بحور الكوارث الكبرى. كلها من وحي الحرب الأهلية الإسبانية، وأكثرها شهرة واحدة بعنوان «غورنيكا». و«غورنيكا»، خلافاً لـ«المرأة الباكية»، هي لوحة تستعرض مأساة الجماعة بمجلها، وهي تخلو من الألوان وتترواح بين حدي الأبيض والأسود. فيها ثورٌ ملتوٍ وحصانٌ يصهل وبشرٌ يستنجدون. تشبه الكثير من الأحداث التي عايشها البغدادي، من حصار العراق والموت الجماعي يوم كان طالباً، مروراً بسقوط بغداد وتحوله إلى تلميذ نجيب لأبي مصعب الزرقاوي، وصولاً إلى تحول كامل العراق والشام إلى دار حرب جاذبة لجهاديين مهاجرين من شتى بقاع الأرض.
يستعرض البغدادي أول خلاصة في رأسه، وهي من البديهيات: النساء المكعبات المفجوعات تلك، لا مكان لهن في دولة الخلافة. حتى لو حصل أن ظهر بعضهن في المعارك على هذه الشاكلة، فهن سيختفين خلف الخمار، ما إن تستقر الأمور وتخضع البلاد لولي أمرها الجديد. حصل هذا في أكثر من مكان في بلاد الشام وكانت بدايته في مدينة الرقة ومحيطها. وحدها لوحة «غورنيكا» أثارت إعجاب الخليفة المتصفح لـ«غوغل». فهي تشبه غزواته من حيث سفك الدماء، وآخرها في محافظات العراق الوسطى والشمالية وفي «ولاية الخير» أو دير الزور الشامية. وألوان اللوحة كدولته ومنطقها. إنها عبارة عن فسطاطيْن لا غير، أبيض وأسود، خير وشر، إيمان وكفر.
بعد خلاصته هذه، يعود الخليفة إلى الفكرة التي دفعته إلى الانغماس في البحث من أساسه، إلى خطته التراكمية التي ينوي عبرها فتح بلاد الأندلس وضمها إلى الخلافة، بحد السيف وإرادة آلاف «الانغماسيين» المستعدين لتفجير أنفسهم لإعلاء رايتهم. حين يمسك رجاله بهذه البلاد، سيحطمون ألف أبي العلاء المعري. وستغدو الولايات الجديدة محكومة بالحدود القاطعة، حيث لا مكان للحلول الوسط.
بيكاسو هذا يرسم القلق. قال ذلك بنفسه. لذلك، فحتى لوحاته التي لا تتعارض مع تطبيقات الخلافة الشرعية، إن وجدت، غير مسموحة. الفنانون والفلاسفة يطرحون أسئلة أكثر مما يطيعون أصلاً. أما الخليفة و«دولته الإسلامية»، فيثبّتان اليقين الذي ما بعده شك.
يقرأ الخليفة على إحدى الصفحات أن معظم أعمال بيكاسو في باريس، لا في الأندلس. يغتاظ لذلك، ويقرر إقفال محرك البحث والصفحة التي تستعرض أعمال الفنان الإسباني السريالية. يدخل عليه أحد مساعديه ويطلعه على الخطوة الإعلامية التالية لـ«الدولة الإسلامية» بعد نجاحها في اختبار الموصل وإتقانها نقل خطبته وإحداثها الأثر الإعلامي المطلوب على مستوى العالم، وتنتهي هذه المقالة التي، بسرياليتها الفاجرة، تشبه الحقيقة أكثر مما يتمناه سكان هذه البلاد.
السفير
“داعش”: إغراء القوة!/ بشير عيسى
ما يمر به العراق من حراك مسلح، وتنامٍ لدور «داعش»، يوحي باستنساخ التجربة السورية! وكي نكون دقيقين، علينا مقاربة ومقارنة الحالتين، لنرى مقدار التشابه والتطابق لدى المعارضة والنظام في الدولتين. وهذا يتطلب تحديد ماهية الحراك، ولكن شريطة معرفة المعيارية التي يقوم عليها هذا الخطاب، كمقدمة للإمساك بناصية الحقيقة الضمنية، بعد إزالة التراكمات المتناقضة، في التوصيف والأهداف، لمجمل الأنساق السياسية المؤثرة.
وما يجرى من التباس في المفاهيم، وضعف القدرة على قراءة وتفسير الواقع، فيه دلالة على غياب المنهجية الموضوعية. لذلك لا عجب أن تأتي النتائج بخلاف ما تصبو إليه معظم نخبنا الثقافية والسياسية، ليبقى الثابت الوحيد فوضى المصطلحات والمسميات، حيث يساهم جل الإعلام والمثقف الوظيفي، في تزييح المعنى. ومع هذا الاعتلال المعرفي الذي نقدمه للعالم، نصر على أننا جميعاً على حق، وان ما يجري مؤامرة كونية جلبت الإرهاب العالمي، للقضاء على الإسلام والعروبة، أو لإفشال ثوراتنا الديموقراطية والمدنية، القادمة من بوابة الصحوات!
أبرز وجوه المعارضة العراقية السيد طارق الهاشمي، يشدد من إسطنبول، على أن ما حصل أخيراً في الموصل «حركة ربيع عربي وثورة. وأن التغيير قادم وبغداد في إطار هذا التغيير»، وفي رأيه أن نزع فتيل الأزمة «يستدعي تغييراً جذرياً بإبعاد المالكي». وفي حديثه على «التركية» يقول: «لا أنكر دور داعش، ولكن هو ليس كل شيء! والقضية في الأساس «مظلومية السنّة»!
اللواء مزهر القبيسي قائد المجلس الثوري العام، يصف على شاشة «بي بي سي» ما يحدث في العراق بـ «ثورة شعبية»، وفي إجابة عن الموقف من «داعش»، يقول إن «داعش» يتقاطع مع أفكار وتوجهات الثوار، لكن لا يوجد أي تنسيق أو تعاون بين الثوار و «داعش»! بينما يصرح القيادي المعارض عبدالرزاق الشمري: سنتحالف مع الشيطان لإسقاط المالكي! القيادي في الجيش الإسلامي الشيخ أحمد الدباش يعلن «أنها ثورة شعبية ضد قوات المالكي»، مطالباً بوجوب «دفع الصائل» وهي الحجة الشرعية التي استخدمها الإخوان في سورية بداية الأحداث بقصد شرعنة جهاد السلاح! وهذا يقودنا للبيان الذي أصدره الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بزعامة القرضاوي، واعتبار ما يجري «ثورة شعبية»! أما الشيخ علي الحاتم فيتوعد بأنه في حال بقاء المالكي، فالعراق ذاهب إلى التقسيم، مطالباً في الوقت ذاته، بإيجاد ممرات آمنة للنازحين، وإيصال المساعدات العاجلة لهم، مؤكداً أن الثورة ستنتصر في القريب العاجل!
هذا الغيض من المواقف يكاد يطابق مجمل الخطاب والمسار السياسي للمعارضة السورية، لا سيما تلك المتعلقة بحتمية انتصار الثورة، ولو بالتحالف مع الشيطان! في إشارة الى داعش في العراق، و «القاعدة» ممثلة بـ «جبهة النصرة» في سورية، و «داعش» قبل انقلابها على فصائل المعارضة، إذ عرف النظام في دمشق كيف يجيّرها لمصلحته. وإذا كانت المعارضة العراقية تحاكي جارتها السورية، فمن البديهي ان يسير المالكي على خطى الأسد!
وعليه يصبح بديهياً أن «داعش»، بحكم قوة شوكته، كان بمثابة حصان طروادة، المعوّل عليه «تحرير الديموغرافيا السنّية»، باعتبارها تحولت في اجزاء منها الى بيئة معادية للجيش النظامي، الذي يغلب عليه المكون الشيعي. ولعلنا نجد في كلام قاسم عطا الناطق باسم وزارة الدفاع، إشارة الى ما نذهب إليه، في معرض حديثه حول وجود «حواضن للإرهابيين» في الموصل! وهنا يصبح وجود «داعش» بسلوكه التكفيري، الذي يفتك بكل من يخالفه الرأي، ضرورة لتدخل الجيش لاحقاً، بغية إنقاذ الناس من شروره، انطلاقاً من مبدأ «ترويض الفيل»!
لذلك يجب ألا تمر مسألة تحرير الموصل على انها فاجأت القيادة العراقية، وأن ما حدث انتصار وتحرير للثوار، كما حصل مع «الجيش الحر» في سورية، لعلمنا أن الاستخبارات الإيرانية والسورية مخترقة في شكل فاعل هذا التنظيم. وإلا كيف نفسر عدم استهداف طيران المالكي العرض العسكري الضخم للتنظيم بعد «تحريره الموصل». والشيء ذاته ينسحب على غياب الطيران السوري عن العرض الذي أقامه التنظيم في محافظة الرقة!
إن حصول «داعش» على هذا العتاد الضخم من الجيش العراقي، والتغاضي عن دخوله عمق الاراضي السورية، ومن ثم إعلان التنظيم قيام دولة الخلافة، يرمي الى تحقيق مجموعة أهداف، أهمها: التهويل بقوة وخطر التنظيم بحيث يطغى على حقيقة المشهد السياسي للمنطقة. كما أن دخوله بهذه القوة، سيلهم الشباب المتحمس والمهمش، لا سيما بعدما افتتح مجازره المروعة بحق من يعتبرهم «رافضة»، وذلك كمقدمة لتصفية حساباته داخل المكونات السنّية.
وهذا، بالتالي، سيساهم في تصدع البيئات الحاضنة، وباقي قوى المعارضة. وعندها قد تتمكن إيران ومعها روسيا من تحقيق ما تسعيان إليه، ألا وهو قيام تحالف دولي لمحاربة الإرهاب، على غرار سيناريو إسقاط صدام حسين!
قد يبدو للبعض، شكلاً، أن المناطق المحررة، إنجاز عسكري وسياسي، يقطع ما يسمى بالهلال الشيعي، لكنه، في المضمون، تدمير ممنهج يؤسس لنزوح جماعي، تساهم في تعاظمه الفوضى المسلحة التي ستتصاعد حدتها، وانقلاب الحواضن على الممارسات العنفية التي يحكم بها غرباء التنظيم، الأمر الذي سيدفع بالناس، وأولهم النازحين، للمطالبة بعودة «دولة النظام»! لذلك، يتوجب على معارضي المالكي ألا يقعوا في فخ إغراء القوة، الذي يمثله داعش. فإذا صح أنها ثورة، فالأكيد أن «داعش» سيواصل أكل بقية أولاده، ممن لم يقدموا له البيعة!
* كاتب سوري
الحياة
دولة «داعش» في سوريا/ د. رياض نعسان أغا
تابعت إعلان قيام «دولة الشام والعراق» وخطبة «أميرها» الذي طلب من مسلمي العالم مبايعته، فخِلت أنني أتابع حلقات مسلسل «فنتازيا» تاريخية تعود إلى القرن السابع الميلادي، وكنت أتساءل عن طريقة نمو هذا التنظيم وامتداده السريع المفاجئ ما بين الشام والعراق، ومن المتوقع أن تكون له امتدادات خفية في لبنان وسواه. ومن المحال أن يكون قد تم نموه في غفلة من الدول العظمى التي تحصي كل شاردة وواردة في بلادنا. وقد رأى كثير من المحللين أن النظام السوري أراد أن يقدم صورة البديل في حال غيابه، ليرى السوريون قبل جيرانهم أي حكم سيواجهون، وليؤكد لهم أنه هو الأفضل على رغم كل ما يشكون منه من فساد ومظالم. وربما سيقول كثير من الناس نعم هو الأفضل بالضرورة إذا فشل السوريون في الوصول إلى الحل الوسط الذي طالبوا به وهو الدولة المدنية المعزِّزة للمواطنة والحرية التي تضمن كرامة لا تنتهكها أجهزة القمع. وقد أخفق السوريون إلى اليوم في حماية ثورتهم من هذا الاختراق المتطرف الذي غيّر اتجاه بوصلة الثورة، ووجدوا أنفسهم بين نارين، نار النظام التي أحرقت سوريا، ونار «داعش» التي ستحرق ما تبقى منها، وبات خطر وقوع النظام والثورة معاً في هوة التقسيم التي تنذر بالجحيم، قاب قوسين أو أدنى من الحدوث.
وقد دعوت في مقالي السابق إلى عقد مؤتمر وطني يجمع المعارضين والمؤيدين والرماديين وممثلين عن السوريين جميعاً ليكون مؤتمر «إنقاذ وطني» هدفه الحفاظ على سوريا الأم، والبحث عن حلول وسطى عبر تسويات تتم فيها تنازلات من كل الأطراف، فلابد من الإسراع بوضع نهاية ممكنة لهذا الانهيار الذي سيدفع ثمنه النظام ومعارضوه معاً، وستعاني منه كل المنطقة التي قد تصبح ساحة حروب لا تنتهي. ومرة أخرى أؤكد أن النظام يخطئ إن ظن أنه انتصر لكونه تمكن من تشريد من اعتبرهم أعداءه، وهدم مدنهم وقراهم، وقتل مئات الآلاف من أبنائهم. وتخطئ المعارضة المسلحة أيضاً إن ظنت أنها تسقط النظام حين تهاجم مركزاً أو حاجزاً حتى لو كان فيه «شبيحة» أو عساكر من الشباب السوريين بعضهم يؤدون الخدمة الإلزامية. وقد أدرك المعارضون أن مسانديهم من المجتمع الدولي ورطوهم بوعود الدعم العسكري الذي لا يعادل أنملة بالمقارنة مع تدفق دعم بلا حدود للنظام من معسكرات إيران وروسيا وبعض الدول الأخرى التي تريد دماراً لسوريا بعد أن تم تدمير العراق.
وقد استغل المتطرفون هذه الفوضى العارمة ومكنوا تنظيماتهم مستفيدين من تقاطع المصالح، ولكن صارت الكذبة تحكي (كما في مسرحية «بياع الخواتم») وأعلن رجل من عامة الناس أنه هو «أمير المسلمين» وطالبهم ببيعته في كل أنحاء الأرض.
ولم يعد مجدياً أمام الحقائق الراهنة أن نكتفي بتبادل الاتهامات بالمسؤولية عن تورط الثورة بالانتقال من مظاهرات سلمية إلى صِدام عسكري فرضه النظام، أو عن تورط المعارضة بالنهج الديني الذي غيّب الشعارات المدنية ورفع شعارات دينية حتى لم يكد يبقى اسم لصحابي لم تُسمَّ به كتيبة أو لواء، وتم زج الصحابة الكرام في معارك باسمهم، وتم زج الدين في مطالب مدنية صرفة كانت تبحث في بداياتها عن تخفيف القبضة على رقاب الناس لتجد نفسها تبحث عن «أمير للمسلمين» يطالب ببيعة من إندونيسيا إلى الأندلس.
والمؤسف أن الثقافة الدينية التي تم الترويج لها مؤخراً عبر فيض من القنوات الفضائية الدينية وفي الثقافة السلفية زرعت في نفوس الشباب قابلية لهذا النوع من الفكر المتشدد الذي لا يقبل أي خروج عن النص، وقد يجد في تأويلات بعض النصوص ما يجعل مطالب «الأمير» المزعوم تدغدغ عند بعض المسلمين أحلام استعادة مجد «الخلافة» وبالتوسع إلى ما نتغنى به من دولة تمتد من حدود جدار الصين إلى شمال بلاد الغال، ومن شمال سيبيريا إلى جنوب أفريقيا، دون ملاحظة المتغيرات التاريخية والجغرافية، فحين تحقق للمسلمين هذا التوسع في العصور الوسطى كانوا قد بدأوا بالنصر على أعظم إمبراطوريتين في عالمهم يومذاك هما إمبراطورية الروم وإمبراطورية الفرس. وبعد أن دخل الفرس في الإسلام استعادوا ممالكهم وأسسوا دولهم باسم الإسلام، وكذلك لم يتوقف الروم عن محاربة دولة الخلافة بما فيها الخلافة العثمانية.
والمفارقة الثانية أن دولة بني أمية التي استقرت لها الفتوحات لم تكن دولة دينية، وإنما كانت دولة مدنية مثل كل الدول التي لها ملك وقوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية كما هو الحال اليوم في كثير من الممالك والجمهوريات الإسلامية بما فيها الدول العلمانية شكلاً مثل سوريا ولبنان وتونس، وقد تحققت مدنيّة الدولة الأموية في شكلها الأمثل في الأندلس على رغم الصبغة الإسلامية العامة.
وفكرة مدنية الدولة مستمدة من الإسلام نفسه، ومن وثيقة المدينة المنورة التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أول دستور في الإسلام، وقد كان جوهر هذه الوثيقة التأكيد على مفهوم المواطنة وتحقيق المساواة في الحقوق والواجبات بين سكان المدينة على اختلاف أديانهم وعقائدهم.
كما أن من المهم التأكيد على أن الإسلام لم يحدد شكلاً للحكم وإنما حدد مضامين تحقق العدل والقسط والمساواة وتحافظ على أن يأخذ كل ذي حق حقه. وقد شهد تاريخ الإسلام كل أشكال الحكم من الخلافة إلى الممالك إلى السلطنة إلى الإمارة إلى الجمهوريات، ويبدو أن الفرس وحدهم وجدوا بعد ثورتهم حلاً يوازن بين سلطة الدين وبين المعاصرة حين قدموا شكلاً خاصاً بهم جمع بين الجمهورية وبين سلطة الولي الفقيه، ولكي لا يقعوا في تخبط بين السلطتين اخترعوا مؤسسة مهمتها تشخيص النظام.
وربما سيكتب التاريخ أن «داعش» هي التي أجهضت الثورة السورية، وهي التي ستكون مسببة لتحول بلادنا إلى ساحة حروب كبرى تدمر ما تبقى فيها من الحياة، وأعتقد أن إنقاذ البقية لا يزال ممكناً إذا ما توقف إهدار الدم، وقبِل ممثلو النظام والمعارضة أن يجلسوا في حصة للعقل والتروي لمراجعة ما تم إنجازه على الضفتين، فهم سيرون أن إنقاذ سوريا من الضياع هو الهدف الأهم بين كل الأهداف، ولقد وجدت استجابة عند كثير من حكماء سوريا لعقد هذا المؤتمر، ولكنني لم أسمع بعد، أية استجابة ممن يمثلون النظام.
الاتحاد