صفحات سورية

مقالات لكتاب سوريين عن الثورة في مصر

سوريون في سياسة مصر

فايز سارة

تبدو الإجراءات المصرية بطلب الفيزا المسبقة للسوريين نقطة تحول في العلاقات بين السوريين ومصر، إذ هي تعكس تغييرا في سلوك الدولة المصرية في تعاملها مع عموم العرب، ومع السوريين بصفة خاصة.

وخصوصية تعامل الدولة المصرية مع السوريين لا تستمد من وضعهم الراهن، إذ هم بحاجة إلى بلد مثل مصر يلوذون به في ظل حرب النظام الحاكم في دمشق عليهم، إنما تعود الخصوصية أيضا إلى العلاقة التاريخية التي ربطت مصر وسوريا، والتي في تفاصيلها أن البلدين والشعبين تشاركا في صنع أول تجربة عربية وحدوية جمعتهما في الفترة ما بين (1958 – 1961)، وكله يضاف إلى عامل ثالث أساسه أن مصر هي أكبر الدول العربية ومسؤوليتها إزاء العرب قائمة مهما شهدت من تبدلات وتطورات تتعلق بأوضاعها الداخلية وعلاقاتها الخارجية.

وبالاستناد إلى العوامل الثلاثة السابقة يمكن فهم الموقف الذي اتخذته مصر في الموقف من دخول السوريين إليها، إذ هي استمرت في فتح أبواب مصر أمام تدفق السوريين ومنحهم تسهيلات في الدخول والإقامة والمغادرة، والعمل والاستثمار، إضافة إلى مزايا أخرى تتعلق باستفادة السوريين من خدمات الدولة المصرية، ومنها التعليم والصحة، مما جعل المزايا الممنوحة للسوريين تفوق ما يحصل عليه غيرهم، ولم تقتصر تلك الإجراءات على السوريين الهاربين من بطش النظام، وإنما شملت الآخرين بمن فيهم مؤيدو النظام الذين كان لهم دور سلبي لجهة المساهمة في الفوضى القائمة والاستفادة منها للإساءة للسوريين في مصر ولمصر ذاتها.

ولم يقتصر الدور السلبي على مؤيدي النظام في تأثيرهم على الوجود السوري في مصر، بل شمل أشخاصا زجوا بأنفسهم في غمرة الصراعات المصرية بين النظام ومعارضيه.

ورغم محدودية عدد هؤلاء، فقد استغلوا في الأزمة الأخيرة ليكونوا في حيثيات الموقف المعادي لوجود وعيش السوريين في مصر، والذي أثارته مجموعات من الفلول وشاركت في إذكائه بعض مراكز في النظام للقول إن ثمة «عوامل خارجية» تدفع إلى تصعيد الأزمة القائمة في مصر، رغم أنه لا يمكن رؤية هذا التطور في الموقف المصري من السوريين معزولا عن مواقف وسياسات النظام الحاكم في دمشق، وقد سعى باستمرار إلى إرباك تلك العلاقة، كما عمل على تفجيرها مستغلا كل الظروف والإمكانات، ومن بينها وجود أعداد كبيرة من مؤيديه المقيمين في مصر، وهو أمر كان ظاهرا ومكشوفا باستمرار.

لقد تفاعلت عوامل مختلفة في تطوير موقف ملتبس حيال الوجود السوري في مصر، كان من بين تعبيراته قرار السلطات المصرية بضرورة حصول السوريين على فيزا مسبقة للدخول إلى مصر، ومن التعبيرات الأخرى حملة في بعض وسائل الإعلام ضد السوريين، ومثلها تعميم إشاعات من قبل بعض الجماعات السياسية في الوسط الشعبي عن دور للسوريين في الأحداث الأخيرة، رغم أن الوقائع الظاهرة لم تقدم أي دلائل مادية عن دور خطر للسوريين في الأحداث.

وإذا كانت حيثيات الموقف السابق تسيء للسوريين في مصر وتجعل إقامتهم في مصر وحركتهم أصعب في اتجاهها وإليها، وتسمم أجواء العلاقات المصرية مع السوريين، فإنها في الوقت نفسه تترك آثارها السلبية على مصر وعلى المصريين أيضا، إذ تضرب في الصميم علاقات مصر ودورها العربي، والتي كانت فيها على مدار العهود حاضنة العرب في أشواط حياتهم المختلفة، كما تترك آثارا اقتصادية على الاستثمار في مصر، ذلك أن بعض الوافدين السوريين في العامين الأخيرين شكلوا الكتلة الأهم من أصحاب الاستثمارات الخارجية في الاقتصاد المصري.

وتمثل العوامل السابقة كلها دوافع حقيقية من أجل موقف مصري أكثر إيجابية من وجود السوريين في مصر وعلاقتهم معها، وهو أمر صدرت فيه تصريحات مصرية عن حلحلة قريبة في موضوع فيزا دخول السوريين، وتوجها للعمل على وقف حملات بعض وسائل الاعلام والاشاعات حيال السوريين، غير أنه وبالتوازي مع التوجهات المصرية، ينبغي تعزيز التوجهات السورية في الابتعاد عن أية تدخلات في الأمور السياسية المحلية والصراعات الجارية فيها وحولها، حتى يكون السوريين، كما كانوا دائماً عنصراً مساعداً في استقرار مصر وداعماً لمساعيها في الخروج من اشكالات وضعها الحالي.

إن مصر اليوم في الموقف من الوضع السوري، تقف أمام تحدي عمقها ودورها العربي، وهي امام واحد من محتويات ثورة شعبها من أجل الحرية والكرامة، وهي تقف امام مصالح مصر وشعب مصر. وواجب السوريين والعرب عامة، أن يساعدوا مصر في اتخاذ موقف حقيقي وجدي يعزز علاقات مصر مع محيطها العربي، انطلاقاً من تعاملها الإيجابي مع حضور ودخول السوريين إلى مصر ورفع كل القيود في هذا المجال.

الشرق الأوسط

مصر: أسئلة شائكة تتجدد

صبحي حديدي

لا يلوح أنّ الأسئلة، الشاقة والمعقدة، التي طرحتها ثورة الشعب المصري في كانون الثاني (يناير) 2011، قد لاقت إجابات شافية خلال مسار التطورات اللاحقة، السياسية والاجتماعية والعسكرية؛ وصولاً إلى النقلة الكبرى، كما سجّلتها الانتفاضة الشعبية العارمة، والاستثنائية بالمعايير كافة، يوم 30 يونيو الماضي.

الأحرى القول، في المقابل، إنّ الأسئلة القديمة قد استولدت طائفة من الأسئلة الجديدة، ليست البتة أقلّ مشقة وتعقيداً، ولعلّها لا تقتصر على المعارضة الشعبية الواسعة لنهج جماعة الإخوان المسلمين، في سرقة مبادئ الثورة وأهدافها الأصلية، وفي “أخْوَنة” مؤسسات الدولة والمجتمع والثقافة والاقتصاد، أسوة بالدستور والسلطات الثلاث. وقد يكون صحيحاً، ومنطقياً منتظَراً، أنّ من طبيعة البرهات التاريخية الفاصلة ـ أي تلك التي تنذر بالثورات الكبرى، أو تشهد اشتعال شراراتها الأولى، أو تكون مهاداً لسياقاتها المختلفة ـ أن تطلق ذلك الطراز، تحديداً، من الأسئلة: العصيّة على إجابات فورية، أو سهلة، أو سلسة.

بين تلك الأسئلة، على سبيل المثال، ذاك الذي يخصّ محتوى التحالفات السوسيوسياسية، لكي لا يذهب المرء أبعد في التنقيب عن حدود شرائحها الطبقية والعقائدية والثقافية، كما تكوّنت سريعاً في ساحة التحرير، ومواقع أخرى من أرض مصر، يوم الجمعة، 28 يناير 2011، ذلك النهار المليوني بامتياز. والبحث، في الإجابة عن هذا السؤال، لم يقتصر على المحتوى والحدود، لأنه أيضاً شمل الهيكلية الفعلية التي أتاحت مستويات عالية في التنظيم على الأرض، وتناسقاً بنيوياً في التنشيط والتحريك، وتوحيداً في الشعارات (حتى إذا كانت قد تبدّلت بعدئذ، لاعتبارات يسهل إدراكها). كيف، استطراداً، يمكن إجراء مقارنة ما، سوسيو ـ سياسية بدورها، بين تلك البرهة، و30 يونيو الماضي؟ وما أبرز الدروس، وهي كثيرة أغلب الظنّ؟

سؤال آخر كانت تفرضه حقائق قوى البطش الأخرى التي تنامت وتفاقمت، عدداً وعدّة كما يتوجب القول، من حول كبار حيتان الفساد في مصر؛ ابتداءً من جمال وعلاء مبارك، نجلَيْ الرئيس المصري الأسبق، وليس انتهاءً بحفنة من كبار رجال السلطة والأمن والأعمال والمال والنهب. أين، وهل انتهى، أزلام هؤلاء وأنصارهم والمتكسبون من أعمالهم؟ وما مصير استطالاتهم، وجيوبهم النائمة، في مختلف أجهزة القمع المصرية؟ وهل يعقل أنّ ترشيح أحمد شفيق، ومنافسته الشديدة للمرشح الإخواني محمد مرسي، كانت ذروة ردّ فعل الحيتان، والصيغة الفصوى لدفاعاتهم المضادة؟

سؤال ثالث انبثق من الغياب الملحوظ لجماعة الإخوان المسلمين خلال الساعات، والأيام، الأبكر من اندلاع الثورة؛ وما إذا كان ذلك الخيار تكتيكاً مؤقتاً، قبيل العودة بقوّة إلى قلب المشهد، أم تسليماً مؤقتاً بأنّ الرياح لا تجري الآن في صالح الجماعة، ومن الخير انتظار التوقيت الملائم. الأرجح أنّ تكتيكات أخرى اكتنفت سلوك الإخوان، ومزجت بين هذَين الخيارين، قبل أن يحكمها خيار أعلى هو القبض على زمام السلطة، والاستئثار بها تماماً، والشروع في سيرورات “الأخونة”؛ خاصة وأنّ اختبارات صندوق الاقتراع المتلاحقة، من الانتخابات التشريعية ومجلس الشورى إلى التصويت على الدستور والانتخابات الرئاسية، أطاشت صواب “مكتب الإرشاد”، وأقنعت الجماعة أنّ اللعبة الديمقراطية صارت ملك يمينها!

كان صحيحاً، من جانب آخر، أنّ التيارات الشبابية المستقلة، كوادر وأنصار “حركة شباب 6 أبريل” و”كلّنا خالد سعيد” بصفة خاصة، لعبت الدور الأبرز في الدعوة إلى التجمّع الشعبي الكبير الأوّل؛ وأنّ تطوّرات الانتفاضة دحرت تلك “الحكمة الشائعة” في الغرب، حول حتمية سيطرة الإسلاميين على حركات الاحتجاج الشعبية العربية؛ وأنّ قوى المعارضة القديمة، أو التقليدية، اليسارية والقومية والليبرالية، استجمعت صفوفها تدريجياً، وعلى استحياء. ولكن كان من الصحيح أيضاً، في المقابل، أنّ الجماعة هي الكتلة السياسية الأعلى تنظيماً وتماسكاً وتمويلاً، ومن المنطقي أن ينتظر المرء منها انخراطاً أوسع في التحرّك، ودرجة أعلى من النجاح في امتطاء الثورة بأسرها.

يبقى سؤال الجيش، بالطبع، وهو ليس معلّقاً ومتقلباً وحمّال أوجه، فحسب؛ بل لعلّه أمّ أسئلة الثورة المصرية، صمّام الأمان أو كعب آخيل، منقذ الشرعية الشعبية أو المنقلب عليها. وستبدي لنا الأيام ما يلوح، الآن، ملتبساً ومتشابكاً ورهن الغامض.

موقع 24

حدث معقد!

ميشيل كيلو

ليس ما وقع في مصر بالحدث البسيط. لو قلنا إنه انقلاب غير شرعي، لوجب أن نضيف: إنه وقع بإرادة شعب خرجت ملايينه إلى الشوارع والميادين مطالبة برحيل الرئيس محمد مرسي. ولو قلنا إنه انقلاب شرعي، لكان علينا أن نضيف: إنه وقع ضد رئيس منتخب، رجح كفته على كفة الفريق أحمد شفيق: مرشح الفلول، من خرجوا يطالبونه بالرحيل، لاعتقادهم أن من حقهم سحب شرعيته، ما داموا هم من منحه إياها، ولأنه ما كان لينجح دون أصواتهم. ولو افترضنا أن الجيش انتهك الدستور، الذي يدين الانقلابات العسكرية، لكان من واجبنا أن نقول: لكن مرسي كان يتبع سياسات شقت الشعب ومثلت خطرا حقيقيا على هوية وطابع وربما وجود الدولة، فهل كان من الوطنية والشرعية، دستورية كانت أم شعبية، أن يقف الجيش مكتوف اليدين حياله، حتى إن لم يطالبه الشعب بالتدخل؟

أعتقد أننا نقف هنا أمام خطأين ارتكب مرسي أولهما والجيش ثانيهما، وأن خطأ مرسي كان أكبر بكثير من خطأ الجيش.

أما خطأ مرسي فيكمن في حقيقة أنه حاول قلب ثورة قام بها شعب مصر ضد الاستبداد والفساد والتسلط إلى فعل حزبي مستبد وفاسد ومتسلط. لم يكن حزب الرئيس مرسي هو من قام بالثورة، أو أول من نزل إلى الشوارع مطالبا بتنحي حسني مبارك وإسقاط نظامه. ولم يقدم القسط الأكبر من تضحياتها، ولم يصغ شعاراتها أو يتزعم جماهيرها، بل انضم إليها بعد أسبوع كامل من انفجارها، وحصر مواقفه بالسياسة التي أودت بمرسي: تحويلها إلى ثورة إخوانية، وبالتالي سرقتها وانتزاعها من أصحابها الحقيقيين: جماهير الشعب المصري غير الحزبية، الرافضة للاستبداد والمطالبة بالحرية. رفض مرسي هذه الحقيقة الحاسمة ورسم سياساته ضد منطقها واتجاهها، وقصر جهده على استكمال خط سرقة الثورة وأخونتها، ورأت قطاعات كبيرة من المصريين فيه خيانة لثورتهم ولهم شخصيا، فلا عجب أن بلغت النقمة عليه حدا لم ينجح حسني مبارك في الحصول على ما يماثله، رغم سنوات حكمه الطويلة المليئة بالفساد. وزاد الطين بلة أن أخونة الثورة بوسائل الرئاسة وموقعها كانت تعني تغيير طبيعة الدولة، وحتمية استفزاز رد فعل المؤسسات المكلفة بحراستها والدفاع عنها، وعلى رأسها مؤسستا الجيش والأمن، اللتان وجدتا نفسيهما محمولتين على موجة غضب شعبي لا سابقة لها جعلتهما تتصرفان تحت غطاء شرعية شعبية كاسحة: بدعم من عشرات ملايين المصريين. ذلك جعل مرسي يبدو خارجا على الدولة والشعب في آن معا، ورجل حزبية ضيقة وخطيرة تهدد وجود الأولى ووحدة الثاني.

أما خطأ الجيش، فيكمن في موقفه من الديمقراطية: من إمكانية تسوية سياسية تكبح رهان الرئيس وتحول في الوقت نفسه دون إبعاده بالقوة، أي بالانقلاب، عن منصبه، وفي تجاهل حقيقة تاريخية قاهرة هي أن السيرورة الديمقراطية شديدة التعرج، وتتسم في بداياتها بموجات متناقضة من الخيارات والتطورات، تضمر فيما تضمره إمكانية قيام سلطات غير ديمقراطية تتخذ تدابير وإجراءات استبدادية بهذا القدر أو ذاك، دون أن تلغي مع ذلك المسار الديمقراطي كخيار تاريخي. مشكلة الجيش أنه تصرف وكأن الذهاب إلى النظام الديمقراطي يجب أن يتم بخط مستقيم لا تجوز أن تحيد الرئاسة عنه، بينما يعلمنا التاريخ أن هذا لم يقع في أي تجربة ديمقراطية عرفتها البشرية في أي وقت. ومن تساوره الشكوك في صحة ما أقول، فليتابع سيرة أعظم ثورة ديمقراطية في التاريخ الحديث: الثورة الفرنسية. يتفرع عن هذا الخطأ موقف قد تترتب عليه مخاطر عظيمة بالنسبة إلى مصر.

من الضروري لإنقاذ مصر وإخراجها من مأزقها توفر أمرين: التزام الأحزاب والجهات السياسية بطابع الدولة المدني: العام والمجرد والشامل، وبحقيقة أنها يجب أن تكون لجميع مواطناتها ومواطنيها. والتزام الجيش عقدا وطنيا يمنع تحول جيشها إلى جهة سياسية تخبط ذات اليمين مرة وذات الشمال مرة أخرى، فتدور مصر داخل حلقة مفرغة فيها عدم استقرارها.

حمى الله أرض الكنانة، أم الدنيا!!

المدن

هل سقط «إخوان مرسي» ؟

حمّود حمّود *

لنتفق بداية على أمر: إنّ السيد مرسي، بالمعنى التاريخي الدقيق، كان يحمل بذور وإمكانات سقوطه التاريخي منذ لحظة صعوده إلى سدة الباب العالي. نضعُ هذه النقطة في إطار أعمّ: إنّ مشروع الإسلام السياسي هو، بالأصل، مشروع ضدي، يقف في مقابل حركة التاريخ وكردّ على فشل استجابته لما يطرحه الغرب من أسئلة حداثية، وهي أسئلةٌ صعبة، حقيقةً، على إمكاناته الذهنية القروسطية. إنه إذْ لم يستطع، ولن يستطيع، الإجابة عن الأسئلة الحداثية (ما دام غارقاً في قروسطيته)، فإنه يقدم نفسه على الدوام كخيار ضدي أصولي بديل عن الغرب. فهو، ومن هذه الناحية، لطالما كان يتلقى الصفعات، الواحدة تلو الأخرى، رداً على ضديته. وبكلمات مختصرة، لقد كان السقوط وبالتالي الفشل، السمة الأبرز لكل مشروعيته اللاتاريخية (من هنا الفرق بين سقوط الإسلاميين «المتأصل» بالمعنى التاريخي والحداثي، وبين سقوطهم سلطوياً وسط صراع «ابتلاعي» على السلطة).

أوليفيه روا كان من أبرز من تحدث عن فشل الإسلام السياسي منذ أكثر من عقدين عام 1992، أي في الأيام التي بدأ فيها الصراع بين الإسلاميين الجزائريين وبين نظامهم العسكري وذلك بعد إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية 1991. وقد كان كلا الطرفين يسجلان فشلاً ذريعاً: النظام الجزائري في طريقة إقصائه وشكل مواجهته جبهةَ الإنقاذ الإسلامية، والإسلاميون في طريقة تعاطيهم «الأداتية» والبراغماتية مع صناديق الاقتراع، حيث شاءت الأقدار أنْ تُقرأ، إسلاموياً، لا بشروط الصناديق الحداثية هي، بل وفق الشروط الإسلاموية، وكأفضل الوسائل التكنولوجية في السيطرة على المناخ العام، من غير إيمان أصلاً بالتأسيس الحداثي-السياسي لثقافة الصناديق. هكذا غدت الصورة: فشل إسلاموي، يُقابل بفشل سياسي وعسكري للنظام.

ليس هذا الكلام لكي نقول أنّ مواجهاتٍ عسكريةً ستقوم حتماً، في الحالة المصرية، بين الطرفين، الإخواني والعسكري، أو أنّ حرباً أهلية تلوح بالأفق، بل للتأكيد على التقاطع الكبير بين ما يحدث هنا وما يحدث هناك في البيئة العربية (مع عدم استبعاد احتمال المواجهات العسكرية إذا ما استمر الاحتقان السياسي داخل الشارع وداخل النخب، ومن ضمنها العسكرية، من جهة، وإذا ما رجع الإخوان إلى استخدام إحدى الأدوات المهمة في تأسيسهم، أي أنْ يُعاودوا التحول إلى «مشاريع شهادة» من جهة ثانية). فالإسلاميون المصريون لم يستفيدوا من كل التجارب التي سبقتهم، ولا المؤسسة العسكرية في طريقة تعاطيها معهم.

وأكثر من ذلك، ما أحدثته المؤسسة العسكرية في مصر، ليس إسقاط إخوان مرسي، بالمعنى الدقيق، بل أخرت السقوط الذي كان وشيكاً، وإضافة جرعات زائدة لهم للمطالبة بأحقيّة السلطة. هكذا ليس غريباً أنْ يُوضع المصريون أمام مفارقة مذهلة: الإخوان هم من يؤكدون على الشرعية الديموقراطية الانتخابية، في حين أنّ معارضيهم من الليبراليين هم من يخرجون على الشرعية الديموقراطية! والأهمّ أنّ هذه الشرعية لن تُعاد إلى أحضان الإخوان إلا بواسطة ما أعلنوه مع حلفائهم عن القيام بـ «الثورة الإسلامية ضد الانقلاب على الشرعية لتكون ثورة التصحيح ضد النظام البائد» (الحياة، 5 يوليو/تموز، 2013).

لا شك، الإخوان وحلفاؤهم هم من يتحمل مسؤولية عواقب هذا الإعلان؛ لكن بنفس الوقت لا يجب إغفال مسؤولية الجيش وطريقة تعاطي المعارضة مع مرسي وإخوانه الذين خلقوا «أرضية خصبة» للإخوان كي يخرجوا بإعلانهم بهذا. الآنْ ستُنال الشرعية الديموقراطية بواسطة ثورة إسلامية!! من المؤسف جداً هذه الحال التي عاود المصريون وضع أنفسهم أمامها.

لم يكن «الصعود الإخواني» بالأصل، ممثلاً بمرسي، سوى الترجمة الفعلية لما تدرّ به مقبرة دفن السياسة وذلك في ظل مناخ ثقافي إسلاموي مفتقر إلى أبسط مفردات الحداثة الغربية والتصالح تاريخياً معها. أليس هذا هو حال معظم الحركات الإسلامية المسيّسة والقومية (سواء الناصرية منها أو البعثية أو أشباههما)، حيث يتبارى كلٌّ منهم على عداء الغرب والحداثة؟ إنّ هذا العداء هو بالضبط أحد الأسباب الرئيسية في تحوله من عداء ضد الغرب إلى عداء ضد الدولة والذات، وهو الأمر الذي يؤدي، كما العادة، لأنْ تُعيد به البيئة العربية إنتاج ثقافتها: إما العسكر وإما الإسلاميون!

ومن جهة ثانية، يمكن للمرء أنْ يلاحظ على مدار سنة، من خلال قراءة سريعة لسلوك الرئيس الإخواني، أنّ معظم الحركات والخطوات التي كان يتقدم بها كانت بمثابة مسامير يدقّها في نعشه السلطوي. فهو قد صعد، أساساً، في ظل استقطاب حاد داخل المجتمع المصري، ولم ينجح تالياً في استيعابه أو حتى التخفيف من حدته. لا بل على العكس، فقد مثل وجوده أحدَ أبرز وجوه الاستقطاب والمنافسة على ابتلاع مصر. ولنتذكر، مثلاً، سلوك الإخوان في تعاطيهم مع الأقباط في مصر قبل وأثناء الحملات الانتخابية الرئاسية. فهم لم يتعبوا من كيل الاتهامات ضد المسيحيين، ليس أقلها أنهم من أنصار النظام السابق، لكنْ ما إنْ احتدّت المنافسة بين مرسي وأحمد شفيق حتى بدأت التصريحات المرسيّة بأنّ الأقباط هم شركاء الوطن وبأنّ «فئات الشعب المصري كلها في قلبي وعيني». لكن، لم يخرج هذا الإعلان إلا لأنّ الإخوان شعروا بأنّ حاجتهم للأقباط أكثر من حاجة الأقباط لهم. وهكذا ليظهر بعد فوز مرسي، وعلى مدار سنة، أنّ قلب مرسي وعينه قد بقيا صامتين تجاه كل الاعتداءات المتعصبة التي كانت تصدر بين الحين والآخر ضد المسيحيين والليبراليين؛ ليتحول مرسي، مُنساقاً بواسطة «إخوانه»، لا إلى رئيس كل فئات المصريين، بل إلى طرف «ضدي» تماماً يحاول استكمال عملية ابتلاع مصر وحشد التظاهرات ذات الطابع الإسلاموي في ظل القوة الرمزية لشعار «الشريعة والشرعية»؛ وهو الأمر الذي كرّس الاستقطاب، مُحوّلاً أكثر من نصف الشعب المصري، من ضمنهم المسيحيين والليبراليين، إلى أعداء له.

وإذا كان من الصعب في هذا السياق حصر قائمة فشل مرسي في التعاطي مع الأزمات الداخلية والخارجية، فإنه ليس هناك شك بأنّ فشله في كلّ خطوة كان يخطوها كان يُؤذن، عاجلاً أو آجلاً، بالنهاية الحتمية له (بالمعنى السلطوي). كان يمكن للمصريين أنْ يفرحوا بعد التظاهرات المليونية الضخمة بـ «تأبين» مشاريع، هي ميّتة أصلاً. لكن ما حدث، وما يحدث الآن، ليس مثيراً للقلق فحسب، بل إنه إيذان بفتح جبهات أخرى، وبالتالي ليتأجل مرة أخرى بناء الدولة والدخول في الحداثة والتاريخ؛ ذلك أنّ المصريين سيكونون مشغولين في الصراعات بين بعضهم البعض!

* كاتب سوري

الحياة

فشل الإخوان ونهاية حلم الخلافة

                                            سلامة كيلة

حين وصلت حركة النهضة إلى الحكم في تونس، وسيطر الإخوان المسلمون على مجلسي الشعب والشورى ومن ثم على الرئاسة في مصر، نشأ تصوران موهومان ومتناقضان: الأول “إسلامي”، أي من قلب الإسلام السياسي ومن جماعة الإخوان المسلمين، يعتقد أن زمن الخلافة الإسلامية قد حان، وأن “الوعد الإلهي” يتحقق، وبالتالي فإن القادم يشي بسيطرة شاملة لهم من المغرب إلى المشرق، لكي يقيموا دولة الخلافة و”عاصمتها القدس” كما أشار صفوت حجازي ذات مرة. والتصور الثاني “علماني” أو “يساري” ينطلق من أن الزحف الفاشي قد بدأ، وأن المنطقة مقبلة على سيطرة مديدة للإسلاميين، ربما تستمر عقوداً، مما جعلهم يعيشون حالات هلع حقيقية.

في الحالين، ما هو واضح أن الصورة التي تبلورت أوحت بأن الجماعة منتصرة وستحكم إلى زمن مديد، ومن ثم كان التقدير متوافقاً بين الطرفين المتناقضين. هذه ليست غرابة، بل ربما نتاج التوافق في “منطق التفكير” الذي يحتكم إلى المنطق الصوري الذي يتلمس ما يحدث دون فهم قاعه أو معرفة جذوره وأسبابه.

لهذا يكون لدى الإسلاميين نتيجة “وعد إلهي”، ولدى اليسار “مصيبة حلّت من السماء”. والنتيجة هي الفرح من طرف، والخوف من الطرف الآخر، وهنا يظهر تناقضهما. لكنهما يتوافقان على تضخيم الحالة، وعلى دفعها نحو المطلق، لنكون إزاء بالون ضخم يملأ الأبصار.

الآن وقد سقط حكم الإخوان المسلمين في مصر بزحف مليوني لم يحصل ضد حسني مبارك، ماذا سيقول هذا وذاك؟

تبيّن أن المسألة أبسط من أن تخيف أو أن يجري التعلّق بها، وأن الأمر كان زوغان نظر ليس أكثر. فالشعب الذي أتى بالإخوان لم ينتظر السنوات الأربع التي يحددها الدستور لكي يغيّرهم، بل زحف إلى الشوارع لكي يسقطهم.

الملايين التي ملأت الشوارع كانت تحمل غلاً لم يظهر ضد حسني مبارك، وهذا ما يحتاج إلى تفسير، حيث إن الشعب الذي ملأ الشوارع ليس ملحداً ولا علمانياً، بل هو متدين في غالبيته، فمصر فيها يتسم الشعب بالميل إلى التدين، وهذا ما كان يخيف العلمانيين واليساريين، حيث اعتقدوا أن سطوة الإسلام السياسي ستركب على ظهر تديّن الشعب، وأن خطاب الإخوان المسلمين سيكون حاسماً في استقطاب ملايين المصريين.

هذه الفكرة سقطت ببساطة، لأن ملايين المصريين هم الذين زحفوا بقوة وعنفوان من أجل إسقاط الإخوان. أكثر من ذلك كان واضحاً أن ميل الإخوان لفرض سلطة “دينية” كان من الأسباب التي حرّكت كل هذه الملايين.

ولهذا قلت بأن هؤلاء يمتلكون غلاً وليس حقداً فقط، حيث أوحت لهم سلطة الإخوان بأنها قادمة من القرون الوسطى، سواء من حيث المقدرة على الحكم، أو من حيث الخطاب، أو من حيث الميل السريع للنهب وفرض سيطرة مافيا أصولية محل مافيا حسني مبارك، خبروها منذ أن تشكلت البنوك الإسلامية في السبعينيات والتي نهبتهم بالتالي صورة حكم طالباني في بلد يمتلك تاريخاً طويلاً من الحضارة.

هذا ملفت في ردة فعل الشعب، ملفت أنه وقف مرتعباً من سلطة قروسطية تجاهد من أجل “التمكين”.

لكن بالأساس لم يلمس الشعب -العاطل عن العمل والمفقر والمهمش- أن تحسناً طرأ على وضعه، خصوصاً أن من انتخب الإخوان انتخبهم لأنهم يقولون بأن “الإسلام هو الحل”، وأنهم يمتلكون حلولاً لمشكلات الشعب.

وبالتالي اكتشف أنهم يزيدون الوضع سوءاً، حيث لم ترتفع الأجور بينما ارتفعت الأسعار، ولم يتحقق تحسن في مشكلة البطالة، والتعليم والثقافة باتا يزدادان انهياراً. فالسياسة الاقتصادية ظلت كما هي، بل نفّذ الإخوان سياسات لم يستطعها حسني مبارك، ومشوا في طريق “بيع مصر”، خصوصاً قناة السويس والسد العالي، ومن ثم يمارسون كتاجر قروسطي يهمه النهب.

الشعب تمرّد على “أبو الهول” (حسني مبارك) لأنه لم يعد يستطيع تحمّل الوضع الذي هو فيه، الوضع المعيشي أولاً وأساساً، فكيف يمكن ألا يتمرّد على سلطة وعدت ولم تحقق شيئاً. كل النقد هنا ينطلق من أن الإخوان لم يعطوا فرصة كافية، لكن هل يمكن إقناع جائع بأن ينتظر سنوات على أمل أن يتجاوز وضعه؟ المسألة هنا أن الوضع الثوري لا يسمح بانتظار حلول، بل إن كل من يصل إلى السلطة عليه أن يقدم حلاً مباشراً للعاطلين عن العمل ولانخفاض الأجور، ولانهيار التعليم والصحة والبنية التحتية.

هذه مسائل لم يعد ممكناً انتظار الزمن من أجل تحقيقها.، هي النقطة الأولى في جدول أي سلطة جديدة، وإلا ثورة جديدة. الشعب تمرّد ولن يعود خالي الوفاض، ولقد كسر حاجز الخوف، ولن يهمد قبل أن يحقق ما يريد.

هذه هي المعادلة التي أسقطت “حكم المرشد” و”دولة الخلافة”، وستسقط كل من يتصدر السلطة دون أن يحقق للشعب مطالبه، وربما سيظهر الآن سقوط “الليبراليين” الذين سيبدون البديل الممكن.

طبعاً الصورة في مصر أعقد من ذلك، حيث إن ميل الإخوان إلى السطو على الدولة عبر سياسة “التمكين” (التي تعني الهيمنة على كل مفاصل السلطة) كان يؤدي إلى نشوء تناقض مع بيرقراطية عريقة لا ينقصها اللؤم ولا الحنكة، وجيش قيادته جزء من طبقة مسيطرة تتحكم في اقتصاد البلد.

وكان يرى بأن أفضل إستراتيجية لمواجهة ثورة الشعب هي الإتيان برئيس منسجم معها ومن داخلها، لكن الضغط الأميركي فرض إنجاح مرسي بدل شفيق. وكان يتحسس سياسة الإخوان الهادفة إلى السيطرة، والتي ستطال مصالح كثيرة، ومن ثم كان الإخوان في مواجهة مع الشعب لأنهم لا يملكون حلولاً لمشكلاته، وكان الصراع الاجتماعي يتصاعد خلال السنة الأخيرة، ووصل حد اقتحام الاتحادية. وأيضاً في مواجهة مع البيرقراطية الحاكمة -ومنها قيادة الجيش- نتيجة الميل إلى تهميش سلطتها وفرض سلطة إخوانية كاملة.

لهذا فإن ما أخاف الشعب -أي ما سمّي بالأخونة- حرّك مشاعر الخوف لدى البيرقراطية. وأصبح الإخوان بين نارين حاميتين، لهذا كان أمراً “طبيعياً” أن يطردوا من السلطة.. هل هذه ثورة أو انقلاب؟

من يركز الانتباه على دور الجيش يصل إلى أن ما حدث هو انقلاب، ومن يلمس دور الشعب يؤكد أن ما جرى هو ثورة حدث فيها ما حدث مع حسني مبارك، أي تدخل الجيش لحسم الأمر كي لا تنهي كل النظام وليس فقط الرئيس أو الحزب الحاكم، وبالتالي فهي ثورة انتظرت دور الجيش، وكأن تجربة المجلس العسكري قد نسيت، أو كأنه محكوم على مصر أن تجد مخرجها بالجيش.

هذا الأمر هو ما يهرب من تناوله اليسار الذي ارتعب من سلطة الإخوان، وظن أنها ستتأبد. فسبب سلطة الإخوان هو غياب البديل الذي يعبّر عن مطالب الشعب، في وضع لن يستقر الوضع قبل تحقيق مطالب الشعب تلك.

ما أثر ذلك على الإسلام السياسي في المنطقة؟

في مصر يرقد المرشد العام لمجمل الجماعة، ونهاية حكم الإخوان في مصر يعني نهاية حلم الخلافة، ليس لأن الجماعة سقطت في مصر، بل لأنها لا تمتلك حلولاً لمشكلات راهنة ومستعصية للشعب، كما اتضح في مصر، ويتضح في تونس. الجماعة لا تمتلك حلولاً بل تكرر النمط الاقتصادي القائم الذي أوصل إلى الثورات، وأوجد كل هذا التمرّد لدى الشعب. وظهر أنها تذكّر بقرون خلت لقطاع كبير من الشعب يعتقد أننا بتنا بعيدين عنها، وأنها لا تناسب وضعنا الراهن.

هذا الأمر سيدفع للإطاحة بحركة النهضة في تونس، وبحركة حماس في غزة -وفي سوريا يبدو أن دور الإخوان قد انتهى- ويهمش كل الأصوليين في المنطقة.

وهكذا.. لحظة المجد انتهت، وقمة الغرور أودت بالجماعة، والشعب لا يزال يقاتل من أجل تحقيق التغيير الذي يحل مشكلاته، والعسكر لا يزالون يلعبون اللعبة ذاتها.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى