مقالات لكتاب عرب تتناول “داعش” والتطورات الأخيرة في العراق وعلاقتها بالوضع السوري
بعد “داعش” في الموصل/ حـازم صـاغيـّة
نافس احتلال “داعش” مدينة الموصل العراقيّة ثوراتِ “الربيع العربيّ” في هزّ الخريطة القائمة من أركانها.
لا بل إذا نظرنا إلى النجاح في “دمج” جزء كبير من العراق بجزء ليس صغيراً من سوريّا، أمكن القول إنّ انتصار “داعش” الأخير أشدّ تأثيراً على تلك الخريطة من الثورات، مع أنّه، بمعنى ما، واحد من تداعياتها.
كائناً ما كان الأمر، تغيّر شكل العراق كما تغيّرت علاقاته الداخليّة، والشيء نفسه يمكن قوله عن سوريّا.
وفي سياق العمليّة هذه، لا تكتم إيران الشيعيّة خوفها من نشأة كيان سنّيّ متزمّت على حدودها، ولا تخفي تركيّا خوفها من قيام كيان إرهابيّ على مقربة منها. وإذ تتخوّف السعوديّة منه، يحاول الأردن مداراة ذعره من احتمالات انعكاسه، غداً أو بعد غد، عليه وعلى أمنه، فيما قد تتّجه إسرائيل إلى خلط بعض أوراقها وأولويّاتها في العداء. وغنيّ عن القول إنّ لبنان الذي يُقلقه كلّ تغيّر كبير في جواره، يستشعر القلق الصادر عن الحدث الداعشيّ.
وهذا حتّى لا نشير إلى تأثيرات ذاك التطوّر على الوضع النفطيّ استخراجاً وإمداداً وتسعيراً وتوزيعاً للعائد.
ولقد سبق لكثيرين من المحلّلين والكتّاب أن ناقشوا الحدث هذا ورصدوا أسبابه، الداخليّة منها والإقليميّة، السياسيّة والثقافيّة بالمعنى العريض للكلمة. لكنّ المُلحّ اليوم التوقّف عند احتمالاته الضخمة. فربّما شهدنا، مثلاً لا حصراً، إعادة اصطفاف وتموضع تقرّب بين قوى المنطقة المتعارضة وتغلّب في سلوكها مبدأ “مكافحة الإرهاب”.
وهذا، في أغلب الظنّ، ليس الحلّ الذي يمكن النوم على حريره لأسباب عدّة. ذاك أنّ حروب مكافحة الإرهاب لم تحقّق من النتائج ما كان يرجوه أصحابها، فضلاً عن تعزيزها حكّاماً كبشّار الأسد ونوري المالكي ممّن يصعب تبرئتهم من التسبّب في الإرهاب. وفي النهاية فإنّ تطاير الدول والمجتمعات أعمق كثيراً من حصره بمكافحة الإرهاب، على ضرورة هذه المكافحة ووجوبها.
لقد جاء التطوّر الهائل في الموصل ليطرح على العالم، المهدّد هو أيضاً بمضاعفاته، ضرورة إعادة النظر في خريطة بالغة القلق والإقلاق، خريطةٍ تقوم على حساب الملايين من شعوبها الرافضة لها فيما تشكّل صداعاً دائماً للآخرين.
والحال أنّ الزلزال الذي عصف بالخريطة إيّاها قد يكون مقدّمة لزلازل أخرى من الطينة ذاتها، خصوصاً أنّ دعوة المرجع الشيعيّ العراقيّ علي السيستاني إلى “حرب مقدّسة” لا تترك مكاناً للتمويه على النزاع السنّيّ – الشيعيّ المتصاعد والذي يهدّد بابتلاع كلّ شيء، دولاً وموارد. فكيف وأنّ هذه الخريطة ودولها عجزت حتّى الآن عن حسم موضوعين عالقين وفي غاية الأهميّة، هما المسألتان الكرديّة والفلسطينيّة؟
إنّ الزلزال السياسيّ، عن طريق مؤتمر دوليّ أو ما يماثله، بات البديل الأوحد عن الزلازل العنفيّة، شبه الطبيعيّة، التي شهدنا ونشهد. لكنْ أين السيّد أوباما من هذا؟
موقع لبنان ناو
القنبلة المذهبية بديلة عن القنبلة النووية؟/ مطاع صفدي
في الوقت الذي يعتقد أوباما أنه سائر نحو إقناع إيران بإلغاء مشروعها النووي، تنفجر قنبلة إيران الأخرى والأخطر من القنابل النووية الممنوعة من الإستعمال. إنها القنبلة المذهبية التي تفشّت تفجيراتها ملء أصقاع المنطقة العربية ومحيطها الإسلامي وهاهي تبلغ ذروة مريعة في الخطورة وقدرة هائلة على الانتشار مع الحدث الداعشي الذي يجتاج جناحيْ المشرق من الشام إلى بلاد مابين النهرين.
هذه القنبلة المذهبية، صنيعة الخمينية، المركزية، كانت ولا شك هي الوليدة البكر لما سُمي بالثورة الإسلاموية. ولم تكن ولادة صدْفية، بل فرضت وجودها في الوقت المناسب تاريخياً، بالنسبة لمقدمات الواقع المشرقي الغارق آنذاك في عقابيل الهزيمة الأخيرة والكبرى لنهضة القومية العربية، مع توقيع خليفة عبد الناصر، غير الشرعي، السادات الذي ندب نفسه عن «الأمة» ليُوقّع إتفاقية سلام مع اسرائيل، ينهي بموجبها تاريخ الصراع العربي الصهيوني على مستوى الدول. أو بالأحرى هي الإتفاقية السوداء التي تقدم للصهيونية اعترافاً مجانياً بشرعية اغتصاب فلسطين، وتضع خاتمة بائسة لواحد من أعظم أسباب النهضة الوجودية للعرب في العصر الحاضر. كان المطلوب هو حرمان النهضة القومية الشاملة من محركها السياسي الوجودي، وهو إنجاز شروط الإستقلال العربي باجتثاث مخلفات الإستعمار في أقطاره، ومن أحدثها ولا شك كان هو اغتصاب الوطن الفلسطيني، وطرْدُ شعبه، وإحلال شرائحَ من شُذّاذ الآفاق في بيوته ومزارعه ومُدُنه.
القنبلة المذهبية انزلت السياسة الوجودية عن عرشها، من ذروة المشروع النهضوي كما فهمته طلائع الأقطار العربية المتحركة. لتُحِلّ مكانَه تنويعاتٍ من موضوعة الأسطرات التدينية القروسطية. عدّلت وجهة الصراع من ذات نهضوية ضد أعدائها الخارجيين، إلى محاور نزاعات ثانوية داخلية تتنافس للعب الأدوار الأولى ضد بعضها في مختلف نواحي الحياة العامة والخاصة. فهزيمة الاعتراف العربي الرسمي بمشروعية إسرائيل، عبر اتفاقية السادات في كمب ديفيد، كانت في أشد الحاجة لاستمرارها إلى حماية شاملة من قِبَل خارطة جيوسياسية جديدة تتصدَّى سلفاً لإحباط قوى المقاومة العربية، الرافضة للهزيمة؛ إذ كان (العدو) يتوقع كل أشكال الغضب الشعبي العام، التي ستندلع عبر المسيرة القادمة لتأصيل الهزيمة في الواقع السياسي العربي. في هذا المنعطف التاريخي ولدت الخمينية التي عجّلت بفرض أجندتها. زرعت بذرة الفتنة الكبرى في رفع شعار: الهدف نحو تل أبيب يمر ببغداد. فكانت حرب الثماني سنوات العجاف بين الجارين الكبيرين: إيران والعراق، بمثابة مَهْلكةٍ همجية هائلة للشعبين معاً، وللنهضة العربية وجناحها الإسلامي الآخر، كانت بمثابة تمرينِها الأول، والنموذجِ الناجح تماماً بفظاعاته المطلقة، لإنطلاق (مبادئ) هذه الإستراتيجية الجيوسياسية التي تنتظر مستقبل المنطقة كلها. كان المبدأ الإفتتاحي قلْبَ وجهة العدو التاريخي، من الغاصب الأجنبي المعتدي والخارجي، إلى وجهة إيقاع الإنفصام في عمق الجسم المجتمعي والقومي للكيان العربي والإسلامي. كان من المفترض، بل من المنتظر أن يغرق هذا الجسم في صراعات أعضائه، حتى خلاياه، فيما بعضها؛ أن يصبح العدو الأصلي، إسرائيل، مركوناً، نسياً منسياً؛ بينما تتحلَّل مجتمعات العرب إلى أصغر فئوياتها. أن يصبح أشباح أمواتها من قرون، هم حكامها للقرن العشرين والواحد والعشرين.
لم تأت (الثورة الإسلامية) استكمالاً للثورة العربية، لم تأت الخمينية تصحيحاً لعثرات القومية العربية.. كل هذه الآمال التي استبشر بها بعض مثقفي اليسار العربي والإيراني خلال مرحلة سقوط الشاهنامية، ذهبت أدراج الرياح مع تلك الحملة الاولى والمشؤومة للثورة في حربها ضد العراق. كانت تلك الممارسة مدخلاً كئيباً لتفعيل الهزيمة القومية إزاء الصهيونية المغتصبة، ونقلها ونشرها ملء العلاقات العربية الفارسية. باتت مجتمعات المنطقة تعيش على إيقاع انبعاثات مشبوهة لشعوبيات العصور السحيقة، وإن كانت – هذه الشعوبيات – أمست تتكنّـى بالهويات الدينية. فالقنبلة المذهبية تتفرقع إلى تعددية من قنابل أخرى فرعية، وموقوتة باحثة عن البؤر الإجتماعية المناسبة لتفجرها في الزمكانية المختارة.
طيلة أربعة عقود تقريباً اشتغل العقل السياسي السلطوي، وحتى الشعبي، على مفردات القاموس المذهبي، بينما مضت مجتمعاتنا في مصائر التحلّل والاهتراء في مختلف مؤسساتها المدنية. تم تزييح ثقافة التغيير من مركزية الهموم العامة الأولى، لتأخذ مكانَها اصطفافاتُ الطَقْسَنَة وتحزُّباتها الدينية المصطنعة؛ وقد شرعت القنبلة المذهبية خاصة في نسف الروابط الطبيعية بين مكونات كل مجتمع عربي بحسب ظروفه الديموغرافية .. إلى حد تفتيت كل مكِّون على حدة، تذريره إلى أصغر فئوياته؛ أمسى العداء للعدو الخارجي منقلباً إلى دواخل الشعوب العربية، داعماً العلاقات الضدّية بين هذه الفئويات. لم يعد المذهب الواحد مرجعاً متفقاً عليه حتى بين أتباعه. تمّ فرطُه وإفراطه إلى طُرُق ونِحَل، وهذه بدورها توزعت إلى أجهزة دعوات وشراذم من شبكيات شخصانية تصادر المسلمات العقلية المنظِّمة لآلية الإجتماع السياسي والثقافي وحتى الإقتصادي لكل متحد إنساني عريق. فما كانت تؤديه أطروحة إعادة أسلمة المسلمين، هو إبطال عصر النهضة الحداثية المستقلة من أسسه الفكرية وأنظمته التطويرية المستجدة. فلم يعد همّ أعداء العرب وقْفَ حراك التاريخ النهضوي لشعوبهم، تخلّوا عن قيادته لأدعياء الإسلام السياسوي كيما يردوا تاريخ أمتهم على أعقابه، كيما يحرموه من حاضره ومستقبله، ويفرضوا عليه الاحتباس في قفص ماضيه وحده، الذي لم يعد له وجود إلا عبر تأويلات شيوخه، العلماء الجَهَلة، وفتاواهم الملفّقة.
أمريكا تسمح بتفجير القنبلة المذهبية مقابل منع الخمينية عن استكمال القنبلة النووية، لعلمها يقينياً أن هذه المذهبية هي الأفعل والأقدر على تحقيق صميم الهدف الأزلي للغرب في إلغاء الشرق. فالعالم العربي الإسلامي هو الذي سيتولى تدمير ذاته بذاته. ومن هنا ينبغي أن يُفهم أوباما، وسرِّ استراتيجية عدم التدخل التي أنتجته «مؤسسة» الحكم الأمريكي قبل شعبه، من أجل أن يأخذ على عاتقه كل أعباء تنفيذها. فلن يتحمل مسؤوليتها رئيس عادي، من السلالة البيضاء والشقراء. لون الرئيس الحالي سوف يسمح بضم شخصه الكريم إلى ذلك العالم الآخر الذي سيجعله يتدّمر ذاتياً.. نعم، أمريكا لن تتدخل في العراق لتنقذ الطغمة المذهبية الحاكمة والفاسدة فسادَ ما يُسمى العملية السياسية التي ركّبها سادة الغزو البوشي – نسبة إلى الرئيس بوش الصغير – لكي تستمر مفاعيل الغزو إلى ما بعد جلاء قواته، وإلى أطول فترة ممكنة، مطلوبة بانتظار دفعة أخرى من انفجارات القنبلة المذهبية. فالغرب كله وأمريكا قائدته، لم يعد يؤمن أن منازعات الشرق، العربي والإسلامي خاصة منه، يمكن أن تحلّها الجيوش الأجنبية، ولا حتى جيوش دول هذا العالم الشرقي نفسه، فالمساحات الصحراوية الواسعة التي تكاد تغطي جغرافيته باتت مؤهلة فحسب لفتح نوع الجبهات المتنقلة، لنوع الحروب الشبيهة بغزوات البدو سكانه الأصليين. فمن يتقاتل في هذه الجبهات هي أشكال مشوهة عن نماذج القبائل القديمة: هذا ما تثبته نزاعات ليبيا واليمن ولبنان وسورية.. وأخيراً العراق.
لكن انفجارات القنبلة المذهبية في عراق اليوم قد تتطور إلى الحال الذروية من رأس هرم عال، يقوم على القاعدة الأوسع التي قد تشمل صحراء المشرق في كل جهاتها وجنباتها: وعندئذ لن يستطيع الغرب أن يحجز فعاليته في دائرة تدبير أسباب الحروب القبلية فحسب كعادته، إذ ستنتقل، أو إنها انتقلت فعلاً من طورها القبلي إلى الطور الأممي. هكذا صار واقعياً جداً الإعتراف شبه الجماعي، ما بين الشمال والجنوب، أن القنبلة المذهبية قد خرجت انفجاراتها عن السيطرة. فهي لم تعد تطلق حِمَمَها هنا وهناك لحساب هذه الدولة أو تلك. بل لعلها وصلت أو تخطّت حتى حدود صانعيها الأوائل، وتمردَّت على خطط أبرع مهندسيها الأصليين. ذلك أن من طبيعة المغازي البدوية المعاصرة أنها فاقدة، عن قصدٍ وتصميم، لمنظومة أخلاق الشرف للبداوة الأولى؛ باتت المذهبيات تمتح قواها من مستودعات الكراهية المكبوتة، التي سوف تتبادل فظائعها ما بين مكوناتها، ما أن تحين ساعات الإنفجارات الموقوتة.
لن تنتظر منتصراً، ولن تشمت بمنهزم. ليس الجميع سواسية في أدوارهم ومآلات أفعالهم. لكن المحصلة الأخيرة لكل صراع مذهبي لم تعد ملكاً لأحد من هؤلاء. لا بأس في أن يتابع الفرقاء ادعاءَ الشجاعة كلٌّ بطريقته. لكن أحداً من هؤلاء لن يملك من جديد جائزةَ الإدعاء بملكية الشجاعة ومعها الحقيقة. ذلك هو رهان النهضة المغدورة الأخير.. وسوف يظل امتيازَها الفريد، لن تضفيه إلا على فرسانها الأصليين، الذين لم يولدوا بعد..
٭ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي
فائض مكافحة الفتنة اوصلنا إلى “داعش”/ وسام سعادة٭
سواء في سوريا أم في العراق، لا تُقاس نسبة «داعش» من مجموع القوى المنتفضة بوجه نظامي «البعث» و«اجتثاث البعث» المتحالفين مذهبياً فيما بينهما، بالشكل الذي يعتمده خبراء حوادث السير، وإذا كانت «الدولة الإسلامية في العراق والشام» تشكّل قطوعاً تاريخيّاً كان من الممكن تفاديه لولا مصفوفة كاملة من أنماط الغلبة والصلف الفئويين في جانب، ومن أنماط التدمير الذاتي والرهانات التي تتقاذفها الأهواء في جانب آخر، الا أنّ «داعش» وأخواتها، إن يكن في سوريا أو في العراق، ليست مع ذلك «حوادث سير» ترتكبها مجتمعاتنا في لحظة طيش أو انفعال، كما أنها ليست «جوف التاريخ» الكامن الذي كان ينتظرنا عند أوّل تصدّع ليصلينا بحممه المتجمعة على امتداد الدهور.
«داعش» هي بكل بساطة الطرف الوحيد الذي أجاب، وان بخطأ شديد، على سؤال قويّ الحجّة، كابر عليه الآخرون، ان في العراق أو في سوريا. السؤال هو هل ثمّة مصير مشترك يربط العرب السنّة في بلد لا يشكّلون فيه الأكثرية، كالعراق، بالعرب السنّة في بلد يشكّلون فيه الأكثرية، كسوريا، بعد انتقال الغلبة الطائفية من يد الى يد في بغداد، وثباتها في اليد الأسديّة إيّاها، بل ومتطوّرة الى حالة من القمع الدموي الحيوي المتمادي سنة بعد أخرى تستهين بكل المدونات الحقوقية للإنسانية ولا يردعها رادع؟
وحدها «داعش»، بدءا من الاسم الجامع للبلدين الذي اختارته لنفسها، طرقت باب هذا السؤال. الآخرون، بعد سقوط نظام صدّام حسين وفتح نظام بشار الأسد خطوط التعاون والامداد مع المجموعات المسلّحة، راهنوا، على ظروف تتيح «اعادة توحيد البعث». غيرهم، كانت لا تزال لديه أوهام حول «وحدة الحركة الاسلامية». وهناك من جمع الرهانين في «وحدة القوى القومية والإسلامية».
قد ننسى اليوم ان موقف «حزب الله» لم يكن شعبياً بين شيعة العراق، بعد مبادرة أمينه العام السيد حسن نصر الله قبل أيام قليلة من انطلاقة عجلة التدخل الانغلو – اميركي، والتي وصفت بالمسعى «الانقاذي» لصدّام. لاحقاً، سوف تتهم حكومة نوري المالكي نفسه «حزب الله» بالتنسيق مع مشتقات «القاعدة» في العراق. كان ذلك أيام كان المالكي يوازن بين عملية يشنّها ضد المجموعات الراديكالية السنية في الموصل والأنبار وبين عملية ضد جيش المهدي في المقلب الآخر.
لم تكن الفتنة المذهبية الشيعية السنّية شيئاً تعذّرت رؤية تناميه بعد التدخل الانغلو – اميركي لاسقاط نظام صدام حسين واحتلال العراق. على العكس تماماً.
أرشيف السنوات الاحدى عشرة الماضية يفيض تحذيراً من هذه الفتنة، واستنفاراً للتحاليل والدعوات والطاقات والجهود بقصد محاربتها، سواء بالعزف على وتر «إعادة توحيد البعث من بشار الاسد الى عزت ابراهيم الدوري» أو على وتر «وحدة الحركة الاسلامية المقاومة» انطلاقاً من الثنائي «حزب الله وحماس». في الحالتين، كنا أمام مكابرة مزدوجة: عدم رؤية أن سقوط المعادلة السابقة (بعث يستند الى أقلية طائفية في العراق يقابله بعث يستند الى أقلية طائفية أخرى في سوريا) بالشكل الذي حدث فيه، انما جاء ليطلق العنان لمسألة «عربية سنّية» مشكلتها الأساسية افتقادها لإطار يحدّد اذا كانت مسألة «البحث عن مرجعية»، أو مسألة «البحث عن هوية»، أو مسألة «البحث عن كيانية جديدة». ففي هذه المسألة العربية السنية، ينعقد الاثني على المذهبي، ليواجه القريب اثنياً المخالف مذهبياً والمختلف اثنياً والقريب مذهبياً على حد سواء، وما يجمع العرب السنة في العراق وسوريا يصنع الاختلاف بينهما أيضاً: فالهيمنة الطائفية تمارس عليهم باسم «البعث» في سوريا وباسم «اجتثاث البعث « في العراق، وهي مزمنة على هذا النحو في سوريا، في حين انها متأتية من انفراط الهيمنة العربية السنية بفعل الغزو الأميركي في حال العراق.
مسألة فيها كذا بعد، وتتداخل مع أكثر سياق، الا أنها نافية من تلقائها للحدود الوطنية التي سطّرها المبضع الكولونيالي بين البلدين، وتذكّر الى حد كبير بالمسألة «الباشتونية» المتمددة بين أفغانستان والباكستان كمدخل للمقارنة بين «داعش» و»الطالبان» والمسألة «البلوشية» بين الباكستان وايران، كمدخل لتلمّس الأبعاد الذي يمكن أن يسلكها تداخل الاثني مع المذهبي.
الكل تحدّث عن الفتنة المذهبية وحذّر منها. الكلّ – باستثناء ابو مصعب الزرقاوي وابو بكر البغدادي – حدّدها في المكان الخاطئ.
فالمكابرة على تداخل الأوضاع والمصائر بين «العرب السنّة» في كل من سوريا والعراق اتخذ أشكالاً مختلفة. فهذا يحدّثك عن «مقاومة وطنية» عراقية ضد الاحتلال الأميركي فيتبرّع للمجموعات المقاتلة بما ليس لها ليحرمها مما لها، وذاك يقوم في المقابل باختزال كل العرب السنّة الى «داعش والنصرة» ليسقط في المقابل الصفات التنويرية والتقدمية على المقلب الآخر من المعادلة المذهبية الاقليمية، من نوري المالكي الى «حزب الله» و»الحرس الثوري الايراني». أدّى ذلك بالنتيجة الى «طفرة محاربة الفتنة»، المحاربة الاستباقية لها، بـ«قطع رأسها». اللازمة كانت: «الآخر هو الفتنة».
الفتنة الحالية، أو هذا الشكل العاري من التصادم الأهلي بين السنة والشيعة من العرب على أرض العراق، هي نتيجة «الوعي الزائد عن حدّه» لمخاطر الفتنة ومخططاتها في العقد الأخير، أي لهذه الطفرة التي جعلت كلّ واحد يرى الفتنة في عين الآخر، أو التي جعلت الثورة السورية مثلاً تكابر على واقع الانقسام الطائفي والغلبة بشعار «واحد واحد واحد»، في حين استطاعت «داعش» وحدها ان ترى الفتنة بعينين . فهي تقول ما معناه «الفتنة هي أنا وأنت»، لأنها «إما أنا وإما أنت». هي تجمع اذاً بين تلمّس المسألة بشكل صحيح، أي وقائع الاضطهاد السياسي، وأحياناً الأهلي، للعرب السنة في العراق وسوريا، وبين الإجابة بشكل كارثيّ، أي بنَفَس «إباديّ».
فاذا كانت الراديكالية الشيعية تريد قطع رأس الفتنة استباقياً، أو باستخدام المقولة الغربية عن «الارهاب»، فهي تفعل ذلك لأنها تمكنت من التصالح ولو مؤقتاً مع الكيانية العراقية والسورية، في حين أن الراديكالية السنيّة، بطلاقها مع الكيانيات المرسومة بالمبضع الاستعماري، انما تحوّل نفسها الى سبب اضافي لمحنة العرب السنة في الهلال الخصيب: انسداد السبيل أمام البحث عن هوية، ومرجعية، وكيان.
٭ كاتب لبناني
القدس العربي
هل أصبحت “داعش” خيار السنة؟/ محمد أبو رمان
من يرصد تطوّر الأحداث، منذ انسحاب القوات الأميركية من العراق في 2011، ثم تنامي تأثير دومينو الثورات العربية على العرب السنة في العراق، وصولاً إلى عودة الحياة إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق (توسع لاحقاً إلى سورية، وأصبحنا نختصره بـ”داعش”)، وتداعيات ما يحدث في سورية، ذلك كله كان يؤذن، واقعياً وموضوعياً، بالثورة السنية العربية، والتي شاهدناها، لكنّنا لا نزال في البدايات، والمرحلة المقبلة متخمة بالتطورات والأحداث.
صحيح أنّ داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام) هي أحد أهم التنظيمات الفاعلة في الأحداث الحالية، لكنها ليست وحيدة، فهناك قوى سنية عديدة فاعلة على الأرض، والتي ستعود إلى العمل والنشاط، في الأسابيع القليلة المقبلة، مثل جيش المجاهدين وأنصار السنة، وكتائب ثورة العشرين، وربما يعود الجيش الإسلامي (تفكك مع الصحوات العشائرية)، وجيش “الطريقة النقشبندية”، والمجالس العسكرية للعشائر.
ربما تتغير أسماء هذه الفصائل، في الأسابيع المقبلة، تندمج وتتفكك، وقد يعاد تشكيل التحالفات، لكن، في نهاية اليوم، سنجد أنفسنا أمام فصائل سنية، تتنافس على “المناطق المحررة”، وتصطدم مع “داعش” (تحمل أجندة مختلفة)، في حال بقي المسار الراهن. وإذا لم تحدث تحولات كبيرة، كتدخل عسكري خارجي يقلب موازين القوى، أو يدفع نحو تسوية سلمية جوهرية، تطيح رئيس الحكومة العراقية، نوري المالكي، وتعيد إدماج السنة في المشهد العراقي عبر شخصية توافقية، وهذا السيناريو السياسي هو “الأقل حظّاً”، في ظل الاصطفافات الإقليمية والداخلية الراهنة.
” صحيح أنّ داعش هي أحد أهم التنظيمات الفاعلة في الأحداث الحالية، لكنها ليست وحيدة، فهناك قوى سنية عديدة فاعلة على الأرض، والتي ستعود إلى العمل والنشاط، في الأسابيع القليلة المقبلة، مثل جيش المجاهدين وأنصار السنة، وكتائب ثورة العشرين، وربما يعود الجيش الإسلامي وجيش “الطريقة النقشبندية”، والمجالس العسكرية للعشائر”
على الرغم من هذه الخارطة السنّية المكتظّة، إلّا أنّ “داعش” تبقى رقماً صعباً ومهماً في المعادلة، وإذا كنا نستبعد أن تكون خياراً سياسياً ثقافياً حضارياً للسنة (لما تطرحه من خطاب ماضوي منغلق)، إلّا أنّها في الظروف الاستثنائية الراهنة ستمثّل خياراً اضطرارياً، مؤقتاً، لشريحة اجتماعية من السنة، راهنت في الأعوام الماضية على العملية السياسية والاندماج فيها، وحقق تحالفهم مع إياد علاوي نتائج مهمة في انتخابات العام 2010، لكنّ الانتصار اختُطِف منهم، وتغول المالكي عليهم، وأوغل في تحجيمهم وإضعافهم، في السنوات الماضية.
كل من راهن على الأميركيين والمالكي من السنّة العرب، في العراق، ودفع باتجاه العملية السياسية، والاندماج فيها، فشل فشلاً ذريعاً، على الرغم من أنّ العمل العسكري انحسر تماماً في المناطق السنية، لإنجاح العملية السياسية، وفكّكت الفصائل السنية المسلّحة الكبرى نفسها (منذ العام 2007)، مثل الجيش الإسلامي وكتائب ثورة العشرين وجيش المجاهدين وحماس العراق.
مع ذلك، لم يفلح الخيار السياسي، ولا حتى السلمي، في مواجهة الإقصاء السياسي، وتنامى الشعور بمخططٍ يستهدف السنة في هويتهم ووجودهم ودورهم، فكان ذلك المسار بمثابة الهدية الثمينة التي منحها المالكي لـ”داعش”، إذ اعتبرت أنّ ما يحدث تأكيد على أنّها كانت محقّة في رفض العمل السياسي، وفي مواجهة الصحوات التي أضعفت السنة أمام المالكي، وكذلك في عدم وثوقها بالطرف الأميركي!
خلال الأعوام الماضية، وعلى الرغم من ضربات قاسية تعرّضت لها داعش، مثل مقتل قياداتها (مثل أبي مصعب الزرقاوي وأبي عمر البغدادي وأبي أيوب المصري)، وكالمواجهات بينها وبين الصحوات العشائرية، وانقلاب القوى السنية عليها؛ إلّا أنّ هذا التنظيم لم يتوقف عن العمل، واستطاع أن يتكيّف مع الظروف المتحولة والمختلفة، ويتحول ما بين التمدد العسكري إلى عمل العصابات والخلايا النائمة المسلحة، وما بين أسلوب المفخّخات والانتحاريين إلى الاغتيالات التي تطاول قيادات الصحوات، وصولاً إلى عمليات نوعية متطورة، مثل تحرير نزلاء سجن أبو غريب واقتحام جامعة الأنبار في الأشهر الماضية، فتحصّل هذا التنظيم على قدر كبير من الخبرة في التجنيد والعمل العسكري الاستراتيجي وبناء الموارد والخبرات، ما لم يتح لغيره من الفصائل السنية.
ليس صحيحاً القول إنّ داعش صنيعة النظام السوري أو الإيراني، بالمعنى المباشر السطحي للكلمة، لكن ذلك لا ينفي أنّ صعود هذا التنظيم نتيجة موضوعية لسياسات هذه الأنظمة القمعية، ولفشل الرهانات السياسية السلمية من جهة، ولعدم وجود حلول دولية وإقليمية، من جهة أخرى.
وتبدو المفارقة أنّ كلا الطرفين يستثمر في هذا الواقع، فحكومتا بشار الأسد ونوري المالكي تعيدان توجيه نمو داعش في اتجاه معاكس، بوصفها البديل في حال انهارتا، وبوصفهما طرفاً ضرورياً في الحرب على الإرهاب، وداعش، بدورها توظّف هذه السياسات، لتنفيذ أجندتها الطامحة إلى التحول من دولة افتراضية إلى دولة واقعية.
الآن، من المتوقع أن تتوغل إيران أكثر في الحالة العراقية، ويعزّز قاسم سليماني (المسؤول العسكري الإقليمي الإيراني، قائد فيلق القدس) من مهماته هناك، لكن ذلك، وإن كان سيؤثر على موازين القوى، لن يقضي على داعش، وقد يقوّي من دعايتها السياسية، وقدرتها على التجنيد، التي تتغذى على الفوضى والصراع الطائفي الهوياتي، وسنجد نسخة عراقية قريبة من الحالة السورية، في أغلب حيثياتها ومعالمها الرئيسة.
إذا تجاوزنا الإطار العراقي إلى الأفق الإقليمي، فإنّ أخطر ما في المشهد هو أنّ داعش أصبحت خياراً سنّياً، على الأقل في المرحلة الراهنة، إذ تجد المجتمعات السنية في العراق وسورية ولبنان محاصرة مستهدفة في هويتها وحضورها، مستضعفة، بلا عناوين سياسية ولا مظلات إقليمية حقيقية.
في الأثناء، تعاني القوى المعتدلة السياسية من انفصال عن شروط الواقع الموضوعي، فإنّ ذلك كله سيجعل من المنطقة مسرحاً لصراع طائفي مرير، يعيد تشكيل الحدود الواقعية، ويهدد الدول العربية الأخرى، التي ستجد نفسها إما أمام نفوذ إيراني أو صعود داعش، وكلاهما، بالنسبة إلى هذه الدول، خطر داخلي وليس خارجياً!
العربي الجديد
الأحزاب الشيعية وتكريس الطائفية في العراق/ بدر الإبراهيم
يُنتج نظام المحاصصة الطائفي الأزمة تلو الأخرى، لأنه يقوم على توازنات هشّة بين الطوائف، سرعان ما تُحوّل حرب النفوذ بينها داخل المؤسسات إلى قتالٍ في الشوارع. في العراق، نموذج المحاصصة الذي أسسه الاحتلال الأميركي، قبل أكثر من عشر سنوات، يصنع احتراباً أهلياً وانعداماً للاستقرار، يُعاد إنتاجه باستمرار، ما يهدد البلاد بالتفكك والتقسيم.
النظام الذي صممه بول بريمر، تهيمن عليه الأحزاب الشيعية التي اتخذت من الاحتلال الأميركي جسراً للعبور إلى السلطة. الحديث هنا ليس عن “شيعة العراق”، اللفظ ذي الدلالة الطائفية، والذي يستخدمه بعضهم لاستنكار طائفية النظام الحالي في العراق، ويؤدي به إلى الانخراط في الفتنة وخطابها. الحديث هو عن الأحزاب الشيعية الطائفية، ممثلةً في حزب الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى وحلفائهم، التي تُسيِّس الهوية المذهبية الشيعية، وتنبري لتمثيل الطائفة الشيعية في نظام المحاصصة.
تقدّم الأحزاب الشيعية ادعاءين، يبرران هيمنتها على نظام الحكم الحالي، إذ تدّعي أن مظلوميةً تاريخية وقعت على الشيعة، طوال عمر العراق الحديث، فقد تم إقصاؤهم من الحكم، وحكمت الأقلية السنية. وتدّعي هذه الأحزاب أن للشيعة الحق في حكم العراق، باعتبارهم أغلبية سكانه. تتبنى الأحزاب الشيعية رواية عن حكٍم سنيٍّ مهيمن تاريخياً على الدولة العراقية، وتتحدث عن طائفية نظام صدام حسين خصوصاً، لتبرر طائفيتها في مواجهته، لكن فحص الوقائع التاريخية يبدد صدقية هذه الرواية.
لم يكن هناك حكم سني للعراق، فمن حكموه، بدايةً من الهاشميين، مروراً بعبد الكريم قاسم ومن جاء في عصر الانقلابات، ووصولاً إلى صدام حسين، لم يقيموا أنظمة حكم سنية، ولم يقدموا أنفسهم ممثلين للسنة، بل كانوا علمانيين. وكان الشيعة مشاركين في الحياة السياسية، وإن امتنعت مراجعهم في النجف عن ذلك، فقد كانوا عماد الأحزاب القومية واليسارية في العراق، وخصوصاً حزب البعث.
” لم يكن هناك حكم سني للعراق، فمن حكموه، بدايةً من الهاشميين، مروراً بعبد الكريم قاسم ومن جاء في عصر الانقلابات، ووصولاً إلى صدام حسين، لم يقيموا أنظمة حكم سنية، ولم يقدموا أنفسهم ممثلين للسنة، بل كانوا علمانيين. وكان الشيعة مشاركين في الحياة السياسية، وكانوا عماد الأحزاب القومية واليسارية في العراق، وخصوصاً حزب البعث”
في بدايات تأسيس حزب البعث في العراق، تشكلت أول خليتين في المناطق الشيعية، حيث شكّل نعيم حداد خلية في الناصرية، وسعدون حمادي (أول بعثي في العراق كما يُروى) خلية في النجف. وعندما تشكلت أول قيادة قُطرية للحزب عام 1953، كان معظمها من الشيعة، إذ ضمت فؤاد الركابي (أمين سر) وجعفر حمودي وآخرين.
لم يكن الشيعة ممنوعين من تبوّء مناصب عليا في نظام صدام، فقد تولى سعدون حمادي ومحمد حمزة الزبيدي، مثلاً، مناصب رفيعة في الحكومة. وحتى في الجيش الذي لم يتحمس الشيعة لدخوله في بداية تأسيسه في العشرينات، وصل عسكريون شيعة إلى منصب رئيس الأركان، كما أن الشيعي سعدي طعمة الجبوري صار وزيراً للدفاع في عهد صدام.
تستخدم الأحزاب الشيعية حججاً متهافتة لإثبات طائفية نظام صدام، مثل القول إنه قتَل عديدين من علماء الشيعة، بينما تثبت الوقائع أنه قتل المتمردين منهم على حكمه، فيما لم يمس علماء شيعة آخرين لم يعارضوه. كذلك، فإن منع بعض الطقوس الشيعية كالتطبير (ضرب الرأس بالسيوف والآلات الحادة) لم يكن استهدافاً للتشيع، بل مُنِع لقناعة النظام بأن هذه مظاهر “غير حضارية”، ما دفع النظام لمنع أتباع الطريقة الرفاعية الصوفية من ممارسة ضرب البطون بالسيوف.
ولم يكن قمع انتفاضة عام 1991، استهدافاً للشيعة، فمن تصدت لها، من البداية، ميليشيات حزب البعث من الشيعة في العمارة والناصرية والبصرة، ولم يكن هناك وقت حينها (حتى لو توفرت الرغبة) لاستقدام أشخاص من المناطق السنية، وقد ساعد الجيش على القمع، وخصوصاً في كربلاء، وهو الذي أكثر من نصفه جنودٌ شيعة.
كان نظام صدام مستبداً مجرماً يقمع معارضيه، لكنه لم يكن طائفياً، بل همّش صدام حزب البعث لصالح عائلته وعشيرته، وعائلة “المجيد” المنحدرة من تكريت ليست “الطائفة السنية”. ما فعلته الأحزاب الشيعية هو الانتقال من حكم العائلة إلى حكم طائفة الأغلبية، مع أن منطق اللعبة الديمقراطية لا يعترف بأغلبيةٍ طائفيةٍ لها الحق في الحكم، بل يؤكد على أغلبيات وأقليات متبدلة، تبني خطابها على أساس برامج عمل سياسية، تطلب من خلالها ثقة الناخبين، لتمثيل الجماعة الوطنية كلها في الحكم، لا تمثيل طائفةٍ منها.
لم تنتج هيمنة الأحزاب الشيعية، ورئيس الوزراء نوري المالكي، سوى الفشل الأمني والتنموي، والازدياد الكارثي لمعدلات الفساد، وفتح الباب أمام التدخلات الخارجية، وتضييع استقلال البلد، وشعور السنة العرب بالتهميش، ما أدى إلى إيجاد بيئة حاضنة في أوساطهم لخيارات متطرفة مثل داعش.
إن نقد الأحزاب الشيعية في تسييسها الهوية المذهبية هو، بالضرورة، نقد “للسنية السياسية”، واستنكار استدعاء الأحزاب الشيعية النفوذ الإيراني، يكمله رفض استدعاء النفوذ التركي وغيره. من حق المهمشين في الوسط السني رفض تهميشهم، لكن تبنّي ردة فعل طائفية على طائفية السلطة سيؤدي إلى ديمومة الأزمة. في لبنان، بدأت الحرب الأهلية بثورة يسارية على اليمين الانعزالي، وتحولت إلى صراع طائفي، وانتهت إلى تعديل التوازنات الطائفية، وإبقاء المحاصصة، فاستمرت أزمة النظام.
يحتاج العراق إلى مشروع وطني، يتعالى على التقسيم الطائفي، ويواجه نظام المحاصصة بمشروع دولة المواطنة. من دون ذلك، نكون أمام الحرب الطائفية، وخطر التقسيم.
العربي الجديد
الهلال وتقطيع الأوصال/ غسان شربل
كان ذلك قبل اندلاع الاحتجاجات في محافظة الأنبار. كنت في مهمة صحافية في احدى العواصم وعلمت بوصول مسؤول عراقي إليها. قلت أغتنم الفرصة للتعرف إليه وسماع وجهة نظره.
استقبلني بلطف واضح. سألته عن الوضع في العراق فرد انه أفضل بكثير من السابق. وأن العملية السياسية مستمرة والحالة الأمنية أفضل. وأعرب عن اعتقاده أن التحسن مرشح للاستمرار وأن العراقيين سيقفون سداً منيعاً امام القوى التي يمكن أن تهدد وحدتهم والتعايش بينهم.
شعرت بالانزعاج لأن متابعتي للموضوع العراقي تقودني الى استنتاجات مغايرة تماماً. أدركت أن المسؤول يستخدم لغة اللياقة والعموميات لأنه يستقبل صحافياً لم يلتقه من قبل. غلبتني الوقاحة فقلت للمسؤول إنني جئت لمعرفة الوضع على حقيقته خصوصاً أن الجلسة ليست للنشر وأنني لن أشير الى اسمه لا من قريب او بعيد لأنني ادرك حساسية موقعه.
شدد الرجل على أن الكلام ليس للنشر باسمه. كررت تعهدي فانطلق على سجيته. أخرج من جيبه ورقة وراح يقرأ منها. انها جدول بتراجع عدد المسؤولين السنة في الوزارات. تحدث عن بناء القوات المسلحة على قاعدة طائفية و «تنظيف جهاز الامن من اي وجود سني فاعل». قال الرجل ما هو اخطر من ذلك: «حاولوا دفع ضابط كبير في موقع حساس في احد الأجهزة الى الاستقالة. حين رفض أرسلوا من اغتاله قبل اسبوع». كشف ان بعض منفذي الاغتيالات يحملون بطاقات تسهل مرورهم على الحواجز الأمنية.
سألته الى أين يتجه العراق اذاً، فاجاب: «الوضع شديد الخطورة. مرجعية نوري المالكي ليست الدستور. لن يقبل السنّة باستمرار سياسة الاقصاء والتهميش. انا شديد التمسك بوحدة العراق لكن السنّي العراقي لن يقبل ان يعيش مواطناً من الدرجة الثانية. اذا تعذر التغيير بسبب امتلاك المالكي دعماً ايرانياً وتأييداً اميركياً سيحصل انفجار. ربما ترى السنّة يطالبون بإقليم خاص بهم. في اوساطهم قلق شديد على موقعهم في البلد وعلى عروبته ايضاً. تخطئ ايران اذا اعتقدت انها تستطيع ادارة العراق بالأسلوب الذي ادارت به سورية لبنان والذي انتهى على النحو المعروف».
سمعت البارحة كلاماً مشابهاً او أخطر. قال سياسي عراقي ان العراق مقسم عملياً وليس مهدداً بالتقسيم. اعتبر ان تقدم «داعش» السريع والمذهل مجرد تأكيد لتدهور العلاقات السنّية – الشيعية. رأى ان «داعش» لافتة كبيرة لكن الذين اضطلعوا بدور بارز في انهاء الوجود الحكومي في الموصل وانحاء اخرى هم عسكريون سابقون ومدنيون شاركوا في عمليات المقاومة ضد الاحتلال.
قال ايضاً ان «داعش» لن تستطيع اقامة امارة والاستقرار فيها طويلاً. وان ابناء المناطق انفسهم سيضيقون ذرعاً بتعصبها وتخلفها وسيتولون انهاء سيطرتها. ودعا الى قراءة ما حدث في سياق اوسع وهو ازمة دور السنّة في العراق. وشدد على ان الخروج من الازمة لا بد أن يبدأ بإخراج المالكي وتصحيح مسار العملية السياسية واعادة شيء من التوازن الى موقع العراق الاقليمي.
استوقفني قوله إن ازمة موقع السنّة لا تقتصر على العراق وحده «بل هي مطروحة بحدة في المنطقة التي يسميها الاعلام احياناً الهلال الشيعي او هلال الممانعة وهي في النهاية المنطقة التي تمكنت ايران من احداث تغييرات كبيرة في دولها».
وأضاف: «ما كانت الاحداث في سورية تصل الى ما وصلت اليه لولا شعور المكون السنّي بالتهميش. من هذه الثغرة بالذات تسربت «داعش» و «جبهة النصرة» الى الاراضي السورية. قسوة المشاهد الوافدة من سورية اعادت اشعال الجمر العراقي خصوصاً بعد تورط حكومة المالكي هناك لحسابات ايرانية. في لبنان ايضاً لا يمكن فهم الازمة على حقيقتها الا بالتوقف عند ازمة موقع المكون السنّي الذي يشعر بأنه مستهدف من سياسة تحالف الاقليات. انها ازمة موقع السنّة في العراق وسورية ولبنان، وهم بالمناسبة ليسوا اقلية اذا اخذت في الاعتبار سقوط الحدود بين هذه الدول. الخيار إما العودة الى احترام التوازنات وصوغ توافقات فعلية وإما حرب طويلة مدمرة لحسم المواقع المذهبية في الهلال. وهي حرب تتيح لـ «داعش» وأخواتها التحصن هنا والتقدم هناك وانهاء ما تبقى من هياكل الدول مع تمزيق التعايش والخرائط. اخطر ما يمكن ان يحدث ان تتعامل ايران مع ما يجري في العراق باعتباره مجرد مؤامرة لتقطيع اوصال الهلال وهو ما فعلته في سورية».
اصعب ما يواجهه الصحافي العربي هو اشتراط من يتحدثون بصراحة ان لا ينشر الكلام باسمائهم. احترم ارادة المتحدثين لكنني وجدت في الكلام ما يساعد على فهم غليان المشاعر في بلدان الهلال التي تبدو موعودة بمزيد من الاهوال.
الحياة
الحرب السنية – الشيعية… حقيقة أم وهم؟/ عبدالله ناصر العتيبي
منذ اليوم الأول الذي أعلن فيه «داعش» احتلاله الموصل، توقع عشرات المحللين والراصدين للأوضاع الشرق أوسطية أن هذا التحول الخطر على الساحة العراقية بداية لحرب سنية – شيعية، قد يتجاوز مفهومها الخلاف السياسي على الأرض ليصل إلى حرب عقدية وقودها «الطريق إلى الجنة والنار».
المؤشرات تقول ذلك أيضاً، والأطراف السياسية العراقية «تقول وتفعل» هذه الأيام ما يؤكد ذلك، لكني استبعد حدوث هذه الحرب، بل أكاد أجزم أنها لن تحدث، لأسباب عدة يأتي على رأسها:
أولاً: لم نخبر في التاريخ الإسلامي صراعاً سنياً – شيعياً تحول إلى حرب حقيقية. الصراعات السنية – الشيعية كثيرة جداً في سجلات التاريخ، لكن جميع تلك الصراعات لم تدخل في دائرة الحرب، إما بسبب حجم نتائجها، وإما بسبب تغلب الأمة السنية في كل مراحل الصراع.
ثانياً: المذهب الشيعي الذي جاء تالياً للمذهب السني ليس مذهباً ثورياً واحتجاجياً كما البروتستانتية، بل مذهب يؤمن بعقيدة مخالفة لمذهب السنة، وبالتالي فهو يوازيه (كلٌ له عقيدته) ولا يتقاطع معه في الطريق إلى الحياة الآخرة.
ثالثاً: المذهب الشيعي لم يأتِ بإصلاحات حياتية ومعاملاتية تمس حياة الشعوب، الأمر الذي جعله مادة «بادئة – مستمرة – منتهية» في يد رجال الدين الشيعة. هذا البعد عن الحاجات الرئيسة الخمسة للشعوب (هرم ماسلو) ألغى الحاجة إلى ثورة – تتلوها حرب – لفرض الرؤية الحياتية التي تفرض طريقة عيش معينة.
رابعاً: كان الحكام السنة منذ البدء – وما زالوا – يتعاملون مع أتباع المذهب الشيعي بمنهجية علمانية تحترم خيارهم ومعتقدهم (الذي ينحصر في الروحية مثلما أشرت)، بعكس أباطرة الكاثوليك في العصور الوسطى الذين رأوا في الثورة اللوثرية تهديداً لمصالحهم التي اكتسبوها من الحق الإلهي في الحكم، والزواج المصلحي مع بابوات الكنيسة.
هذه الأسباب الرئيسة وغيرها أسباب أخرى فرعية، تمنع في تقديري قيام حرب سنية – شيعية في أي مكان في العالم وفي أي زمن، لكن هناك أيضاً العديد من الأسباب التي تمنع قيام حرب سنية – شيعية في العراق في الوقت الراهن، ومن هذه الأسباب:
أولاً: التداخل الكبير بين العائلات السنية والعائلات الشيعية في العراق، وتعدد المشتركات بين الطرفين (هذا الأمر مثلاً موجود في الكويت والبحرين وغير موجود في الإمارات والسعودية)، يجعل من التقاتل على مسألة غير موجودة أصلاً في أجنداتهم اليومية ضرباً من المستحيل.
في العراق لا يمثل معتقد الشخص أولى محددات تعريفه أمام الآخر، هكذا أظن وهكذا أخبر، فلطالما عرفنا الكثير من الرموز العراقية، ولم نلمح في المحددات التي صدرتهم لنا أي ملمح عقدي أو جهوي.
ثانياً: من يُعتقد أنه يعمل على اجتثاث الشيعة ونفيهم من الأرض ليس نسيجاً عراقياً خالصاً، وإنما تنظيم دولي تنتظم تحت رايته مجاميع مكونة من ثوار ذوي جنسيات متعددة. وهذا الأمر تحديداً سيخرج «المواطنة العراقية» من سجنها، لتواجه استغلال الدين باسم السياسة، كما تفعل «دولة القانون»، وإخضاع الدين للحصول على مكتسبات سياسية كما يفعل «داعش»!
ثالثاً: الدعوات الدينية الشيعية الأخيرة لمواجهة الخطر السني، مثل دعوة السيستاني وغيره، لا تعدو كونها إملاءات من الطبقة السياسية الحاكمة في إيران لضمان بقاء ممثل طهران في بغداد (المالكي). الشعب العراقي يعرف أنها ليست دعوات دينية خالصة، وبالتالي من الصعوبة بمكان أن ينجر خلفها تحت وعود الجنة والنار كما تفعل الدعوات الدينية الأخرى في الشعوب المتأدلجة.
رابعاً: السنة في العراق لا يبحثون عن الثورة والحرب من أجل المعتقد. هم يثورون الآن ويختلطون بقصد وبغير قصد بـ «داعش»، للحصول على حقوقهم المسلوبة تحت نظام لم يخجل من أن يعلن عن طائفيته في أكثر من مناسبة.
الحرب الدينية لن تحصل في العراق، وإنما سيدعي هذا الطرف (الداعشيون) أو ذاك الطرف (السيستانيون والمالكيون) حصولها، ليكسبوا من وراء النفخ في نارها!
سنسمع خلال الأسابيع المقبلة مصطلحات جديدة تشبه مصطلحات الحروب الكاثوليكية – البروتستانتية في أوروبا، وسترتفع أسهم رجال الدين في كلا الطرفين، وسيذهب بعض العوام الموهومين لربط ما يحصل في العراق بسخط الرب ورضاه، لكن ذلك لن ينطلي على الجماهير العريضة، ولن يقنع المتحاربين على الأرض أن ما يقومون به حرب مقدسة!
ما يحصل في العراق الآن غزو خارجي لتنظيم إجرامي خارج على القانون، وجد في الفراغ الأمني في شمال وغرب العراق وشرق سورية بيئة مناسبة للتمدد والنمو، كما هي طبيعة كل التنظيمات غير الشرعية، وترافق ذلك مع غضبة سنية في بعض أقاليم العراق على الحكومة الاتحادية التي وضعت علمانيتها على الرف ولبست العمة الشيعية، فاختلطت الغايات والأهداف غير المعلنة «للمجرم الداعشي» الذي هو على باطل مع الغايات والأهداف المعلنة للسني العراقي الذي هو على حق، وبدا هذا «التزاوج الموقت» لبعض المراقبين والراصدين – كما أشرت في بداية هذه المقالة – حرباً سنية موجهة ضد المكون الشيعي العراقي.
الحرب الدينية لن تحصل في العراق، لكن الوجود «الداعشي» المدعوم ببعض الجيوب السنية سيستمر ما لم تتحقق اللاءات الثلاث التالية:
واحد: لا لوجود المالكي في الحكم، ونعم لحكومة توافقية تجمع أطياف الشعب كافة. هذه «اللا» ستبعد السنة العراقيين عن «داعش» وتتركه وحيداً في مواجهة آلة الدولة.
اثنان: لا للتدخل الإيراني في العراق بأي شكل من الأشكال، هذه «اللا» ستطمئن السعودية وتركيا، وستجعلهما ينئيان بثقلهما عن التدخل لفرض رؤية سياسية مقابلة لما سيفرضه التدخل الإيراني.
ثلاثة: لا للتدخل الأميركي، ونعم لدعم الجيش العراقي لمواجهة «ألف» رجل فقط من «داعش»! هذا «اللا» الأخيرة ستجنب العراق احتلالاً أميركياً جديداً ينتهي بعد ١٠ أعوام بتسليمه إلى إيران، كما تجري العادة الأميركية الطارئة خلال الأعوام الأخيرة.
* كاتب وصحافي سعودي
الحياة
إيران عراب الفتنة في المنطقة/ عبد العزيز التويجري
منذ أن قامت جمهورية إيران بعد الثورة على نظام الشاه، وهي تخطط وتنفذ برنامجاً تخريبياً في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، قوامه التآمر على وحدة المسلمين دينياً، والتدخل المغرض في شؤون دولهم ومجتمعاتهم. وقد استعانت في تنفيذ هذا البرنامج بالموالين لها من أتباع المذهب الإمامي في عدد من دول المنطقة، حيث مولت تنظيماتهم، ودربت قيادييهم، وسعت بكل إمكاناتها لتكوين ميليشيات منهم تأتمر بأمرها وتنفذ تعليماتها وأوامرها، كحزب الله في لبنان، وفيلق بدر في العراق، والحوثيين في اليمن.
وبعد سقوط النظام البعثي في العراق على يد القوات الأميركية التي تعاونت معها إيران والميليشيات العراقية الشيعية، أخذ برنامج إيران التخريبي مساراً توسعي جديداً، يهدف إلى بسط نفوذها على العراق وسورية ولبنان، لتشكيل هلال شيعي شمال المنطقة العربية، والعمل على تهديد المملكة العربية السعودية من جنوبها، وذلك بدعم الحوثيين في اليمن وتسليحهم، وتحريك شيعة البحرين والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، لإثارة الاضطرابات فيهما استكمالاً لمخطط التطويق والتغلغل وبسط النفوذ.
ثم جاءت أحداث سورية لتكشف ما كانت إيران تحاول إخفاءه، وظهر وجهها العنصري الطائفي، وذلك بمشاركتها بكل إمكاناتها إلى جانب النظام السوري الطائفي في قتل الشعب السوري وتدمير مدنه ومعالمه الحضارية. ولم تكتف إيران بهذا الإفساد، بل سعت إلى تكوين ميليشيات تدعي أنها تنظيمات سنًية كـ «داعش»، التي مولتها وسلحتها وجعلتها شوكة في خاصرة «الجيش السوري الحر» والقوى المعارضة للنظام السوري الطائفي. والمتأمل في التطورات الأخيرة في العراق في ضوء سيطرة «داعش» على الموصل ونينوى وتكريت وغيرها من المدن والمناطق العراقية، وتفكك القوة العراقية الحكومية وانسحابها مدحورة من مواقعها، وهروب بعض أفرادها واستسلام بعضهم لمقاتلي «داعش»، يرى في الأمر ما يريب، حيث إن هذه الأحداث المتسارعة جاءت في وقت عصيب بعد مسرحية انتخابات سورية، وفشل ضغوط إيران في إعادة تكليف المالكي برئاسة الحكومة العراقية للمرة الثالثة، وفي أفق الجولة المقبلة من الحوار والتفاهمات بين إيران والدول الغربية حول برنامجها النووي، حيث تريد إيران إثبات خطر التنظيمات الإرهابية، وأنها هي القادرة على حماية مصالح الغرب ودحر الإرهاب، بينما في الحقيقة هي صانعته ومسيّرته. فهل سيكون هذا كله بداية التقسيم الفعلي للعراق ولسورية وربما للبنان بعد ذلك؟
إن الغموض الذي يكتنف الوضع في العراق، في هذه الفترة العصيبة، يجعل المراقب يميل إلى الاقتناع بأن المنطقة مقبلة على تطورات بالغة الخطورة، ستنتهي إلى التغيير في الخريطة الجغرافية للإقليم، على النحو الذي يحقق الأهداف الشريرة التي لطالما سعت إليها إسرائيل والصهيونية، وعملت مـــن أجلها إيران والولايات المتحدة ومعها الــقوى الغربية التي لا ترى من مصلحتها بقاء الدول العربية بحدودها الدولية الحالية.
ولعل من تعقيدات الوضع الحالي في المنطقة، أن الصورة تبدو وكأن داعش التي تعمل في سورية والتي اصطنعها النظام الطائفي بدعم وتخطيط من إيران، والتي تقاتل «الجيش السوري الحر» والجماعات المقاتلة الأخرى التي تعارض النظام وتحمل السلاح في وجهه، هي غير «داعش» التي قلبت الأوضاع في العراق حين احتلت مدناً ومناطق عدة وتزحف حالياً، كما يُعلن قادتها، نحو العاصمة بغداد. فهل هما داعشان؟ كيف تكون هذه المنظمة الإرهابية الإجرامية في سورية بلون وفي العراق بلون آخر؟ هل أثبتت الحسابات التي تجربها إيران أن المالكي بات يهدد، بالديكتاتورية التي ينهجها وبالقمع الذي يمارسه وبالفساد الذي يستشري في دواليب النظام، يهدد المصالحَ العليا الإيرانية في العراق، ولذلك حان موعد الاستغناء عن خدماته وربما ترحيله عن البلاد؟ وهل أصبح وجود المالكي في سدة الحكم يمثل، في حسابات إيران، خطراً على الشيعة في العراق، ويهدد بحرب أهلية يكون الشيعة ضحيتها؟
إن ما يجري اليوم في العراق من حرب تسقط خلالها المدن في أيدي عناصر ما يسمى بالدولة الإسلامية في الشام والعراق، هو فوق إمكانات أي جماعة إرهابية إجرامية معارضة. ثم إن انسحاب القوات النظامية من مواقعها ورفعها الراية البيضاء أمام جحافل «داعش»، لهو أمرٌ مريبٌ، ولكنه لا يستعصي على الفهم بربطه مع التطورات التي تجري في المنطقة. وهو ما يبيّن لنا أن إيران تلعب لعبتها الماكرة، وتمضي قدماً في تنفيذ مخططها التخريبي، وأنها وراء الفتنة، أكانت في سورية أم في العراق، فهي المحرك لخيوط هذه التحركات الخبيثة ضد العرب والمسلمين بتواطؤ مُخزٍ مع الولايات المتحدة وإسرائيل والقوى الغربية. وليست «داعش» إلا واجهة واحدة، من جملة واجهات عدة، لقلب الأوضاع في المنطقة. فهذه المنظمة الإرهابية الإجرامية تتحرك وفق المصالح الإيرانية، مهما تكن المبررات والوسائل والأهداف.
لقد سقطت كل الأقنعة وظهرت الحقائق واضحة أمام كل ذي بصر وبصيرة، ولم يعد هناك مجال لليّ أعناق الحقائق وتجميل القبيح. وليــــس لدي أي شك في أن إسرائيل وأميركا وروسيا ضالعة في أحداث هذه الفوضى الهدامة التي تفكك نسيج المنطقة دينياً ومذهـــبياً واجتماعياً وأمنياً. وتبقى إيران صاحبة الوزر الأكبر في ما آلت إليه الأوضاع في المنطقة العربية والمسؤولة عن إثارة الفتنة فيها، بل هي عرابها وصانعتها وأكبر المستفيدين منها، وربما ستكتوي بنارها يوماً ما.
* أكاديمي سعودي
الحياة
الهلال الجحيم/ علي بردى
تنذر التطورات الخطيرة في العراق بحرب مذهبية اشتعلت شرارتها الأولى في سوريا. تهدد بالإمتداد الى لبنان وعبر حدود أخرى. ما كانت التنظيمات الإرهابية لتتغذى على مظالم أهل السنّة في الهلال الخصيب ولتحوله جحيماً بعدما سماه البعض شيعياً. أخشى ما يخشاه كثيرون أن تصير الحرب على الإرهاب غطاء لحرب شيعية – سنية يستحيل لجمها سنوات، وربما عقودا مقبلة.
نعم، التاريخ كله ملؤه عبر ودروس يمكن الإفادة منها. ولكن لا جدوى الآن خصوصاً من فتح دفاتر الماضي وكيف جرّ السيد الفرنسي جورج فرنسوا بيكو والسير البريطاني مارك سايكس قلميهما في ليلة ليلاء لتقاسم تركة السلطنة العثمانية التي عاشت ستة قرون. سنة ٢٠١٦، يكون اتفاق سايكس – بيكو عمّر قرناً كاملاً. طوي الأمر. لن ينفع كثيراً البحث عن الأمكنة والظروف التي صعد منها الإرهاب الإسلامي ليشكل تهديداً دولياً. تكاد أخطاء جورج بوش لا تعد ولا تحصى في دفع الجيوش الأميركية الى غزو أفغانستان والعراق وتغيير قواعد النظام الإقليمي الذي أنشئ بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية.
يلوذ البعض بأن “الحق على الأميركان”. ولكن مهلاً، لعل ايران كانت المستفيدة الأولى إذ أن الولايات المتحدة خلصت العالم وخلصتها من جارين لئيمين: البعث و”طالبان”. توافرت لها فرص مد النفوذ وعرض العضلات عبر المنطقة العربية، وخصوصاً حيث جماعات شيعية الهوية أو الهوى. لم تغفل قط عن بناء قدراتها الذاتية، بما في ذلك عبر برنامجها النووي المثير للجدل. غير أن نفوذ الجمهورية الإسلامية عبر “الهلال الشيعي” – وفقاً للتسمية التي أطلقها الملك عبد الله الثاني بن الحسين – لم يكن فرصة لتكريس مبدأ تقاسم السلطة وتداولها في العراق أو لمبدأ الإنتقال الديموقراطي في سوريا أو للمحافظة حتى على الصيغة التعددية التي قام عليها لبنان. تتعرض هذه الدول لاضطرابات متوالية. تعاني الآن كلها خطر الإرهاب. يجب على طهران أن تقدم مساهمة جوهرية في الحرب العالمية على الإرهاب من غير أن تجازف بتأجيج حرب طائفية لا تبقي ولا تذر.
يحق لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أن يشعر بالهلع من زحف مقاتلي “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، (داعش) عبر المحافظات ذات الغالبية السنية وفي اتجاه بغداد. تحققت المخاوف من امتدادات الكارثة التي تشهدها سوريا، ليس فقط بسبب هذا التنظيم و”جبهة النصرة” وغيرهما من الجماعات الإرهابية، بل أيضاً وأولاً من النظام البطاش للرئيس بشار الأسد في دمشق. لم تظهر بعد خطورة ما يعنيه تورط “حزب الله” في سوريا، وأخطر ما في الخلايا النائمة لتنظيم “القاعدة” في لبنان.
قد تتمكن الولايات المتحدة من تقديم مساعدات عسكرية تعزز قدرات دول المنطقة في حربها على الإرهاب. غير أن ذلك قد لا ينفع كثيراً إذا لم تنفذ دول المنطقة ما يتوجب عليها من إصلاحات سياسية.
لم يحصل ما يجري الآن بومضة عين.
النهار
كيف ستتعايش تركيا مع «الجار الجديد» في سوريا والعراق؟/ إسماعيل جمال
إسطنبول ـ «القدس العربي» أدى ارتفاع وتيرة سيطرة مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» على مناطق واسعة في العراق وسوريا إلى تزايد تخوفات أنقرة من التحديات الأمنية والسياسية التي سيفرضها عليها الجار الجديد في الدولتين المرتبطتين بحدود تزيد عن 1100 كلم مع تركيا. ويسيطر تنظيم «الدولة الإسلامية» على مناطق واسعة من الحدود السورية التركية وخاصة في محافظة الرقة، في حين بات التنظيم يسيطر على ربع مساحة العراق ويخوض معارك واسعة لضم المزيد من المناطق في البلدين.
وتصنف تركيا التنظيمات المرتبطة فكرياً بتنظيم القاعدة على قائمة «الإرهاب»، وأدرجت مؤخراً كلاً من تنظيم «الدولة الإسلامية» و»جبهة النصرة» و»الشباب المجاهدين»، بالإضافة الى ضمها منظمة «بوكو حرام» في نيجيريا على القائمة قبل أيام. وتخشى أنقرة من لجوء التنظيم إلى تنفيذ عمليات إرهابية على أراضيها خلال الفترة المقبلة، لاسيما بعد تعرض التنظيم للمصالح التركية في كلاً من سوريا والعراق خلال الفترة الماضية.
ويواصل التنظيم منذ أيام احتجاز القنصل التركي في مدينة الموصل العراقية مع 80 مواطناً تركيا من موظفي القنصلية وسائقي الشاحنات الأتراك في العراق، بعد أيام من إرسال تهديدات للقنصلية.
وسبق ذلك، تهديدات وجهها التنظيم بتفجير ضريح «سليمان شاه» جد مؤسس الدولة العثمانية الواقع في مدينة حلب السورية، حيث تَعتبر تركيا منطقة الضريح أراضي تركية خارج حدودها بموجب اتفاقية 1921 مع فرنسا.
وكادت تهديدات التنظيم بتفجير الضريح أن تجر تركيا إلى مواجهة عسكرية مع النظام السوري، الأمر الذي كشفه تسجيل صوتي مسرب لإجتماع لمجلس الأمن القومي التركي كان يناقش الخيارات العسكرية للجيش التركي في سوريا نهاية شهر شباط/ فبراير الماضي. وواجهت حكومة رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان اتهامات كبيرة من قبل أحزاب المعارضة بتسهيل دخول المسلحين الأجانب إلى سوريا من خلال الأراضي التركية، الأمر الذي تنفيه الحكومة بشكل مطلق.
واتهم أمس نائب عن حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة التركية الحكومة التركية بمساعدة التنظيم في السابق وحمل صورة قال انها لأحد قادة التنظيم وهو يتلقى العلاج في احدى المستشفيات التركية في مدينة هاتاي، وهو ما نفته ادارة المستشفى على الفور.
ولا يعرف حجم تأثير هذه الاتهامات على فرص فوز رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة والمقررة في العاشر من آب/ أغسطس المقبل، والمتوقع أن يترشح لها أردوغان.
ويشكل المقاتلون العرب والأجانب الجزء الأكبر من مقاتلي التنظيم الذي يقوده أبو بكر البغدادي، بعد انفصال التنظيم عن جبهة النصرة في سوريا.
توسع التنظيم في العراق اثار ايضا مخاوف الحكومة التركية من تأثير ذلك على تدفق النفط العراقي اليها وخاصة أنها تعتمد عليه بشكل كبير في السنوات الاخيرة، بالاضافة الى تأثيره على حجم التبادل التجاري الكبير بين البلدين.
ووجد أردوغان الذي حاول بناء سياسته الخارجية على قاعدة «صفر مشاكل» نفسه أمام كم كبير من التحديات التي فرضتها عليه التغيرات الأمنية والسياسية في العالم العربي ودول الجوار خلال أحداث «الربيع العربي».
وشكلت سياسة «الباب المفتوح» التي يتبعها أردوغان أمام اللاجئين السوريين الذين بلغ عددهم أكثر من مليون في الاراضي التركية تحديات أمنية متزايدة نتيجة دخول عدد من اعضاء التنظيمات المتشددة للأراضي التركية.
وتمتد الحدود التركية السورية على طول 900 كيلو متر وهو ما يجعل من الصعب مراقبتها وحمايتها، في حين أقرت الحكومة التركية خطة لبناء سياج فاصل على الحدود وبدأ تطبيق الخطة منذ أشهر.
وارتفعت المخاوف التركية بعدما شهد شهر آذار/ مارس الماضي اشتباكاً مسلحاً بين مسلحين أجانب يتبعون لـ»الدولة الإسلامية» والجيش التركي في مدينة «أغري» جنوب البلاد، أدى الى مقتل ثلاثة جنود أتراك، في حين شهدت اسطنبول حادثاً مشابهاً أدى لإصابة عناصر من الشرطة التركية.
وأعلنت هيئة الأركان العامة التركية، الأربعاء الماضي، إلقاء القبض على عنصر من منظمة «حزب العمال الكردستاني» كان يحاول عبور الحدود السورية باتجاه تركيا، حيث يتزامن ذلك مع تجدد الاشتباكات المسلحة بين مسلحي الحزب والقوات التركية، وسط تراجع في محادثات السلام التي يجريها رئيس الاستخبارات التركي «هاكان فيدان» مع زعيم حزب العمال الكردستاني «عبد الله أوجلان» الذي يقضي حكماً بالسجن المؤبد في إحدى الجزر القريبة من مدينة اسطنبول.
في سياق متصل، قال نائب رئيس الوزراء التركي بولنت أرينج، الأربعاء الماضي، إن «تركيا لن تسمح بشكل من الأشكال للجماعات المتطرفة، والجماعات المرتبطة بالقاعدة، أن تفرض سيطرتها على المنطقة التي يقطنها التركمان، والمكونات الأخرى، باختلاف معتقداتها ومذاهبها وإثنيتها، وتكوين تنظيمات غير قانونيه لكسب القوة». وأوضح «أرينج» في تصريحات صحافية في العاصمة التركية أنقرة أن «تطورات الأحداث في الموصل تدعو إلى القلق الشديد»، مؤكدا أن «تركيا تراقب الأوضاع عن كثب».
يذكر أن تنظيم «الشباب المجاهدين» المقرب من القاعدة شن الشهر الماضي هجوماً بسيارة مفخخة على القنصلية التركية في العاصمة الصومالية مقديشيو، ادى الى مقتل تركي وإصابة آخرين.
القدس العربي
هل تغزو إيران العراق؟/ عبد الرحمن الراشد
العالم فوجئ بالأحداث الأخيرة، لأنه كان يظن أن القوات العراقية، التي تم تدريبها على أحدث الأسلحة وعلى أعلى المستويات، لا يمكن منازعتها على تأمين سلامة النظام. لكن عندما ذابت قوات المالكي كالملح، في مدينة الموصل في ظرف ساعات، لم يصدق كثيرون ضعف قيادتها، حتى تأكد ذلك بعد توالي سقوط المدن والقواعد العسكرية والمصالح الحكومية سريعا.
برهنت الأحداث، مرة أخرى، أن العلة في قيادة نوري المالكي. فهو رئيس وزراء جاهل ومتسلط، يجمع كل الصلاحيات في يده. رجل لا يفهم في الإدارة، وفي الوقت نفسه يحرم وزراءه من صلاحياتهم. ومن حماقاته اليوم أنه يهاجم خصومه ويستفزهم للتحرك جماعيا ضده، بما قد يؤدي إلى حرب أوسع وانهيار النظام برمته. هنا يبرز دور إيران كحامٍ للنظام. فهل هي حامية فعلا، أم أنها طامعة في ثاني أغنى دولة بالنفط في العالم؟ وعلينا ألا نصدق الطروحات الطائفية: أن إيران ستساند حكومة المالكي بحكم الرابطة الشيعية. فهي على خلاف حاد ومستمر لسنوات مع أذربيجان الشيعية، في وقت علاقتها فيه جيدة مع تركيا السنية.
لطالما كانت العلاقة بين العراق وإيران، بطبيعتها، تنافسية لقرون طويلة، بغض النظر عمن كان يحكم البلدين. ولفترة وجيزة اتفقا في الخمسينات، ضمن حلف بغداد الذي جمع العراق بإيران، مع باكستان وتركيا وبريطانيا لمواجهة المد الشيوعي. ثم اختلفا وأخضع الشاه العراق في نزاع على شط العرب، وانحدرت العلاقة أكثر مع تسلم الخميني للسلطة، وأكثر مع حماقة صدام حسين بمحاولته تغيير ميزان القوى. وحتى في عهد المالكي، الحالي، رغم علاقته المميزة بطهران، استولى النظام الإيراني على مراكز حدودية، ونهب الكثير من نفطه في الجنوب في الفترة الأولى. ولا تزال المدفعية الإيرانية تسمع في جبال كردستان العراق تقصفها بدعوى استهداف المعارضة الكردية الإيرانية.
في الظرف المستجد، من المؤكد أن تتدخل إيران لدعم النظام العراقي، لكن ما حجم التدخل وما نواياه الحقيقية؟ من المستبعد أن نرى دبابات إيرانية في شوارع بغداد، إلا في حالات الانهيار الكامل. أيضا، العراق، بخلاف سوريا، دولة حيوية للعالم الصناعي كمنتج للبترول، لن يكون سهلا تغيير معادلاتها إقليميا دون أن يجلب ذلك قوى كبرى للصراع.
الأكيد أن إيران هرعت لمساندة المالكي، منذ اليوم التالي لسقوط الموصل، تشارك في القيادة والقتال بميليشياتها. وهذا يوسع دائرة الأسئلة والتكهنات: هل تملك إيران القدرة الهائلة على الاستمرار؟.. وهل ستتحمل النزيف الدموي والمالي لمغامراتها في سوريا والعراق معا؟! نحن نعتقد أن هذا مرهون بالصراع العراقي – العراقي أولا، حجما وزمنا. وثانيا، يعتمد على نوايا القيادة الإيرانية، إن كانت ترى في الفوضى عبر الحدود فرصة للسيطرة، خاصة أن قيادة الحرس الثوري لها شهية كبيرة للتوسع. وهذا، في نظري، سيثير العراقيين على اختلاف طوائفهم، وسيعيد الصراع بين الجارتين إلى مساراته التاريخية القديمة.
علينا أن نتذكر أن مستقبل العراق بقي معلقا منذ اثنين وعشرين عاما، بعد هزيمة العراق في الكويت، وتهشيم قوته الهائلة. ثم عاد معلقا بخروج القوات الأميركية منه، ورهنها الحكم لجماعة واحدة في ظرف سياسي مضطرب، كان سيجلب الفوضى حتما، كما نرى اليوم، ولا يزال الوضع مختل التوازن وغير قابل للاستمرار، لكننا لا نعرف في أي اتجاه ستمضي الأحداث. نحن الآن نشهد فصلا مؤقتا آخر. فإن دخلت إيران، دعما أو احتلالا، سيكون هناك خلل كبير في الأمن الإقليمي وسيثير الصراع متعدد الأقطاب، الخليجي العربي، والإسرائيلي، والتركي.
الشرق الأوسط
العراق.. نعم دفاعا عن أوباما!/ طارق الحميد
كتبت في هذه الزاوية مطولا منتقدا سياسات الإدارة الأميركية الحالية بمنطقتنا، انتقدت إدارة أوباما عند الانسحاب المتسرع من العراق، وانتقدت تقلبات إدارة أوباما القاتلة في «الربيع العربي»، وانتقدت، وما زلت، موقف أوباما من سوريا، لكن اليوم، ووفق المعطيات، والمواقف الأميركية، وللحظة كتابة المقال، فإنه لا بد من الدفاع عن أوباما في العراق!
موقف الرئيس الأميركي الرافض لإرسال قوات للعراق الآن، أو استخدام القوة العسكرية هناك، هو موقف سليم، خصوصا أن واشنطن تشترط في مساعدتها للعراق الآن تغلب العراقيين أنفسهم على الانقسامات العميقة بينهم «وتطبيق أسلوب منسق وفعال لإقامة الوحدة الوطنية اللازمة لتقدم البلاد، ومواجهة تهديد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام»، بحسب بيان الخارجية الأميركي الأخير، وبحسب تصريحات أوباما نفسه الذي قال بوضوح إن ما يحدث في العراق الآن «ليس بالأمر الجديد»، ومضيفا أن بلاده قدمت الكثير للعراق «لكن للأسف القادة العراقيون لم يستطيعوا التغلب على الخلافات العرقية، وتنحية الخلافات جانبا، وفي غياب الجهود السياسية، فإن أي تحركات عسكرية لن تنجح، ولن يكون هناك أي تأثير لأي دعم، من دون تحقيق استقرار داخلي في العراق».
وهذا هو الموقف السليم بكل تأكيد، خصوصا أن العراق لم يصادق بعد على نتائج انتخاباته الأخيرة، ولم تحسم مسألة رئاسة الوزراء فيه، ولا تشكيل الحكومة، فكيف بعد كل ذلك يصار إلى تدخل عسكري خارجي ببلاد لم تحسم خلافاتها السياسية التي أدت إلى ما أدت إليه الآن؟ مع ضرورة التنبه بالطبع إلى أن البرلمان العراقي لم يمنح للآن المالكي السلطات التي يطلبها، ولذا لجأ المالكي لغطاء الفتاوى الدينية الشيعية، وإلى الميليشيات المسلحة، وهو ما تنبه له الرئيس الأميركي جيدا حين قال إن الخلافات السياسية والطائفية هي التي أدت إلى ضعف الحكومة العراقية، وضعف قواتها الأمنية التي انهارت.
وعليه فإنه لا حل عسكريا في العراق ما لم يكن هناك حل سياسي ينتج عنه رحيل نوري المالكي وتشكيل حكومة وطنية، وهذا مطلب عراقي، ومطلب دولي، لتجنيب العراق ككل تبعات حرب أهلية طائفية ستكون عواقبها وخيمة. وكذلك لتجنيب العراق مغبة التدخل الخارجي، من أي شخص كان، وتحديدا التدخل الإيراني الذي سيكون الأسوأ، خصوصا أن إيران تحاول جاهدة إيجاد غطاء دولي لتدخلها الآن في العراق التي هي أحد أبرز مشاكله، فطهران تحاول الآن البحث عن غطاء دولي يجنبها مغبة الظهور بمظهر طائفي، ويضمن لها أنها لن تكون الوحيدة في العراق الآن، لأن ذلك يعني استنزافا حقيقيا، وتورط في معركة لن تسلم منها إيران أبدا.
ولذا، وحتى اللحظة، فإن موقف الرئيس أوباما هو الموقف الأنجع بالعراق، خصوصا أنه يعتبر ما يحدث هناك بمثابة «دعوة لضرورة الاستيقاظ» لكل العراقيين، وهذا هو الموقف الذي على الجميع التمسك به الآن، فالحل في العراق هو رحيل المالكي، وليس التدخل العسكري.
الشرق الأوسط
إيران و«داعش»: حصاد الفشل/ عبدالله بن بجاد العتيبي
الصدمة الكبيرة التي سببها استيلاء «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام»، المعروف باسم «داعش» على الموصل ثاني أكبر مدن العراق بكل سهولة ويسر هي صدمة مستحقة لأنها تطرح من الأسئلة أكثر مما تقدم من إجابات.
أول هذه الأسئلة هو سؤال عمن نفّذ العملية العسكرية؟ داعش عاجزة لوحدها أن تفعل ذلك، وهي قد حظيت بمشاركة من بعض العشائر السُنية في غرب العراق تلك العشائر التي قرر رئيس الوزراء نوري المالكي محاربتها ومحاربة حراكها السلمي الطويل، وألغى كل أدوارها وبطولاتها السابقة كصحواتٍ في محاربة تنظيم «القاعدة» في العراق بنسخه المتعددة، إذن «داعش» شاركت مع غيرها في عملية مشتركةٍ، ولكنّها أخذت الصيت الإعلامي نظراً لخبرتها في التعامل مع الإعلام، التي ورثتها عن تنظيم «القاعدة»، كما تحدثت بعض التقارير عن مشاركةٍ فاعلةٍ لعناصر من بقايا الجيش العراقي قبل تفكيكه بعد عام 2003.
سؤال آخر عن الرسالة التي يمكن أخذها من هذه الصدمة؟ معلوم أن إيران لم تزل هي الراعي الرسمي لحركات الإرهاب السُنية والشيعية في المنطقة، فهل تعني هذه العملية بداية شرخٍ كبيرٍ في هذه العلاقة؟ وقد خرجت تصريحات إيرانية رسميةٌ عن دعم العراق في مواجهة الإرهاب، أم أن المقصود هو السماح لـ«داعش» بالاستيلاء على عددٍ كبيرٍ من الأسلحة والعودة لمقاتلة الشعب السوري وقوى المعارضة السورية؟ أم أنها كما طرح البعض محاولة لمنح المبرر لضرب المدن السُنية في شمال العراق بذريعة القضاء على «داعش»؟
لا أحد يستطيع أن ينكر طغيان الشعور الطائفي في العراق على الشعور الوطني، وهي سياسة إيرانية أصيلة في استخدام الطائفية كسلاحٍ سياسيٍ وعسكريٍ في أكثر من بلدٍ عربيٍ، والإرهاب في بعض تجلياته هو أحد تجليات الطائفية البشعة، وسياسة إيران في العراق منذ خروج القوات الأميركية، تتمثل في الدفع بالطائفية إلى أقصى حدودها ومحاصرة ومعاقبة المكوّن السنّي من الشعب العراقي، ومنطق التاريخ يقول إن مثل هذه السياسات التي تمّ تطبيقها بعنجهيةٍ وصلفٍ في العراق كان يجب أن تخرج حركاتٍ تتبنّى ذات المنطق الطائفي، ولكن باتجاه معاكسٍ وبأساليب تختلف عن أساليب مؤسسات الدولة التي تمّ تحويلها بشكلٍ شبه كاملٍ إلى مؤسسات طائفيةٍ.
أيضاً، هل اكتشفت إيران أن جيلاً جديداً من الإرهابيين قد تطوّر بعيداً عن عينها وبعيداً عن قيادات «القاعدة»، التي تؤويها وتحميها منذ 2001 وحتى اليوم؟ هذا الأمر إنْ حصل سيكون ثقيل الوطأة على إيران، وستنزف كثيراً سياسياً ومادياً لمحاولة إعادة الاحتواء والبحث عن عوامل تأثيرٍ تحدّ من الانفجار الإرهابي في وجهها، غير أن تاريخ العلاقة بين الطرفين يوحي بقدرةٍ إيرانية على إدارة مثل هذه الحركات والتحكم بها، ولديها من الخبرة التاريخية في التعامل مع الجماعات الصغيرة وتجييشها ضدّ دولها وشعوبها ما يؤيد هذا الاتجاه، وما التحالف غير المعلن بين تنظيم «القاعدة» في اليمن وحركة «الحوثيين» إلا مثال على ذلك.
غربياً نجحت إيران على مدى طويل في صناعة لوبي إيراني في الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية يتشكل من أكاديميين ومثقفين وكتّاب وجماعاتٍ موالية تمكنها من إسماع صوتها هناك، بل وصلت في بعض الأحيان للتأثير على القيادات السياسية، وكمثالٍ فقد عمل كثيرٌ من الباحثين على تقديم قراءة سياسية للطائفية تقول باختصار إن المسلمين الشيعة هم الأقلية الديموقراطية المضطهدة، وأن المسلمين السُنة هم الأكثرية الديكتاتورية، ومع تفاهة الفكرة حين توضع على المحك العلمي، إلا أنها وجدت آذاناً صاغيةً هناك.
سعت إيران للتفاوض مع دول الخمسة زائد واحد حول ملفها النووي وهي تعلم أن إدارة أوباما الضعيفة ستمنحها الوقت ولن تجبرها على شيء في نهاية المطاف، وستوضح الأيام المقبلة وتقدم إجاباتٍ عديدةٍ لأسئلة من مثل هل هذه الصدمة الكبرى من صنع إيران لأسبابٍ متعددةٍ استراتيجياً أم أنها نكبةٌ لمشروعها في بسط النفوذ في الدول العربية؟
فشل المشروع الإيراني في الاستحواذ على مصر من خلال حليفتها الاستراتيجية جماعة «الإخوان المسلمين»، والجماعة خسرت في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي تخسر في السعودية وفي ليبيا وتنسلخ من جلدها في تونس والدولة الخليجية الحليفة للجماعة وهي قطر تخضع لضغوطٍ كبيرةٍ لتغيير نهجها السياسي، وتركيا تحاول استعادة توازنها بعد الانجراف خلف الجماعة بعد 30 يونيو.
تصريحات أوباما تبدو أكثر صرامةً تجاه ما يجري في العراق أكثر من تصريحاته وقراراته المتخاذلة تجاه سوريا، ولكنّها فيما يبدو لن تؤدي إلى تغيير رؤيته الانعزالية المستقرة مع التأكيد المستمرّ بأنه لن يتمّ إرسال قوات برية على الأرض، ومن هنا جاء الموقف الروسي الشامت بسياسات أميركا في المنطقة.
العدو الأول لإيران هو السعودية ودول الخليج والدول العربية فهي تستهدفها بكل سياساتها وخططها وطموحاتها في المنطقة، وهذه الدول في الوقت نفسه هي العدو الأول لتنظيمات الإرهاب ك«القاعدة» و«داعش»، ومن هنا فإن معرفة العدو المشترك يبرز زاويةً جديرةً بالاستحضار في قراءة مشاهد مضطربةٍ وأحداث متداخلة كالذي جرى في الموصل، وأدبيات «داعش» المنشورة ومقاطع الفيديو التي ينشرها موجهةٌ بقوةٍ لمعاداة السعودية ودول الخليج.
متى يمكن اعتبار ما يجري في العراق انقلاباً استراتيجياً مربكاً في المنطقة؟ سيحدث ذلك فيما لو قامت «داعش» باجتياز عشرات الكيلو مترات لا باتجاه بغداد، بل باتجاه الحدود الإيرانية واستهداف القوات الإيرانية على الحدود ولو بطريقةٍ رمزيةٍ عندها ستنفجر الطائفية وأحقادها بشكلٍ غير مسبوقٍ.
حصاد الفاشلين هو أفضل تعبير عما يجري هناك، فشل سياسة الانسحاب الأوبامية، وفشل إيران في السيطرة على العراق وعلى جماعات الإرهاب، وفشل حكومة المالكي الطائفية في كل شيء تقريباً، وكمثالٍ دالٍ في هذا السياق فإنه بعد حُلّ الجيش العراقي في 2003 جاء المالكي وصرف مليارات الدولارات لبناء جيشٍ عراقيٍ قويٍ ولكنه بطائفيته الصارخة وسوء إدارته لم يخلق سوى جيشٍ سريعٍ في الهرب وأحياناً قبل أن تبدأ المعارك!
أخيراً، فإن حكومة المالكي انتهت دستورياً في العراق، وعلى الكتل السياسية أن تتوافق بأسرع وقتٍ على بديلٍ وطنيٍ بعيدٍ عن الطائفية يكون قادراً على مواجهة التحديات الكبرى من التغلغل الإيراني في مفاصل الدولة إلى تفشي تنظيمات الإرهاب، الحل السياسي يمهد للحل الأمني والعسكري.
الاتحاد
من يقف وراء الانهيارات العسكرية في العراق؟!
عبد الزهرة الركابي
الكثير من القادة العسكريين في كثير من الحروب والأحداث التي وقعت على مر التأريخ، إذا ما شعر أحدهم بمسؤوليته المعنوية والأخلاقية والشخصية، عن هزيمة جيشه في هذه المعركة أو تلك الحرب، يسارع الى تقديم إستقالته بل وبعضهم أقدم على الإنتحار، وهذا الأمر يشمل بعض رؤساء الدول والحكومات الذين تقلدوا مناصب عسكرية مثل منصب (القائد العام للقوات المسلحة).
وما أريد قوله هو، أن العراق يكون فيه رئيس الحكومة أيضاً هو القائد العام للقوات المسلحة، الأمر الذي يعني أن رئيس الوزراء نوري المالكي بحكم منصبه العسكري هذا، يتحمل بالدرجة الأولى مسؤولية إخفاق الجيش والشرطة في أداء المهمات الموكلة لهما داخلياً وخارجياً، وبما أن الجيش والشرطة في العراق يقومان بأداء مهام داخلية، تنحصر بالجانب الأمني ومحاربة الإرهاب، فإن الإخفاقات المتوالية للجيش والشرطة في هذا الجانب، تؤكد على ضرورة أن يتحمل القائد العام للقوات المسلحة، مسؤولية هذه الإخفاقات والنكسات والإرباكات الحاصلة طيلة ولايتي رئيس الحكومة.
ولست هنا بصدد تعداد هذه الإخفاقات في الجانب الأمني ومحاربة الإرهاب، فهي كثيرة بل وهي لا تُعد ولا تُحصى، وإنما أريد القول أن السيد نوري المالكي، وبقطع النظر عن إخفاقه السياسي، كان من المفترض به أن يستقيل منذ زمن، وأن يعلن عن مسؤوليته عن هذه الإخفاقات، وبروح رياضية، بيد أنه ما يزال مصراً على تطبيق مقولته الشهيرة، لن نعطيها أو باللهجة العراقية (ما ننطيها)!.
ولذلك، فإن الأمن مضطرب ويزداد إضطراباً يوماً بعد آخر، من جراء هذه الإخفاقات المتواصلة، وآخر هذه الإخفاقات المدوّية، هو ما حصل في مدينة سامراء التي تضم مرقدي الإمامين العسكريين، عندما أجتاح 200 عنصر من (داعش) نصف المدينة، وسيطروا على مواقع مهمة فيها، من جراء إنسحاب قوات الجيش والشرطة من المواقع الدفاعية المهمة، وبالتالي لولا مجيء قوات من بغداد بمعية الميليشيات وكذلك إنسحاب (الفرقة الذهبية) من محيط مدينة الفلوجة وتدخلها في هذه المعركة، لأصبحت مدينة سامراء تحت سيطرة (داعش) أسوة بمدينة الفلوجة التي عجزت قوات الجيش والشرطة عن تحريرها، منذ أن سيطر عليها هذا التنظيم قبل نحو ستة أشهر، وكذا الحال في مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار، حيث ما تزال (داعش) تسيطر على أحياء ومناطق عدة فيها!.
وبسقوط مدينة الموصل مركز محافظة نينوى بيد تنظيم (داعش) على النحو الدراماتيكي أخيراً، يكون الجيش العراقي (ثلاث فرق) وقوات الشرطة (17 ألف عنصر) في هذه المحافظة عموماً، يتلقيان أقسى هزيمة مدوية، خصوصاً وأن القيادة العسكرية العليا للجيش، كانت متواجدة في المدينة وتشرف على سير العمليات العسكرية فيها، وهي تضم القادة: قائد القوات البرية الفريق اول ركن علي غيدان وقائد العمليات المشتركة الفريق اول ركن عبود كنبر وقائد عمليات نينوى الفريق الركن مهدي الغراوي وقائد الفرقة الثانية في الجيش العراقي وقائد الشرطة اللواء الركن خالد الحمداني، الذين غابوا عن مواقعهم في المدينة قبل ليلة من إعلان سقوطها!.
أن سقوط الموصل بل ومحافظة نينوى برمتها، بعد أقل من اسبوع من سقوط مدينة سامراء، ومن ثم إستعادتها من قبل القوات الحكومية، دلالة قوية على أن هذا الإنهيار الأمني والعسكري، إنما يعود أصلاً الى فشل الحكومة تخصيصاً والعملية السياسية القائمة تعميماً، في إدارة العراق على مختلف الصُعد، كما لا ننس أن القائد العام للقوات المسلحة، هو رئيس الحكومة في الوقت عينه، وبالتالي فإن هذه الهزيمة القاسية حكومياً وعسكرياً تُضاف الى مسلسل الهزائم السابقة التي بدأت في مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار وكذلك مدينة الفلوجة أكبر مدن المحافظة المذكورة والتي ما يزال تنظيم (داعش) يسيطر عليها منذ أشهر خلت، وكذلك في مدينة سامراء في الفترة الأخيرة.
وبسقوط محافظة نينوى أخيراً، يكون هذا التنظيم الإرهابي، قد حقق سلطته الميدانية والجغرافية على أكثر من مدينة.
من الطبيعي أن سقوط الموصل، لم يكن هزيمة مرحلية للحكومة القائمة والعملية السياسية السائدة، وإنما هي هزيمة كبيرة ومدوية لمجمل العملية السياسية التي تمحورت على النهج السائد منذ مجيء الإحتلال، وستكون إنعكاساتها السلبية، عاملاً مساعداً في تشجيع الأصوات كي ترتفع نبرتها، في المطالبة بإحداث تغيير جذري في العملية السياسية، بما في ذلك تغيير الدستور.
وبالتالي، فإن مراجعة منصات العملية السياسية أو حتى هيكلتها على نحو مغاير للسائد، يتطلب أولاً كتابة الدستور على مرتكزات وطنية وليست طائفية وأثنية، لأن إحداث مثل هذا التغيير، سيكون بلا شك تغييراً نحو كل إستتباعات وملاحق العملية السياسية على الأصعدة العسكرية والأمنية والإقتصادية، مثل هيكلة القوات المسلحة، وتحديد ضوابط ملزمة في تصدير النفط، بدلاً من الممارسات السائدة في هذا الجانب، والتي ألحقت ضرراً بالغاً في الإقتصاد العراقي الذي تعتمد خططه من خلال الميزانية المالية على واردات النفط.
لذلك، فإن هذه الهزيمة العسكرية والأمنية المدوية، مهما قيل من مبررات وذرائع بشأنها، تظل مسؤوليتها تقع على عاتق رئيس الوزراء نوري المالكي بإعتباره (القائد العام للقوات المسلحة)، حيث لم يوفق كثيراً في إختيار ضباط القيادة العامة للقوات المسلحة هذا على الجانب الأمني والعسكري، وعلى الجانب السياسي بات المالكي وحاشيته، في خصومة شديدة مع جميع مكونات العملية السياسية السائدة: الأكراد، السنة، وقسم كبير من الشيعة وخصوصاً التيار الصدري وحزب الحكيم، ناهيك عن القوى المدنية والليبرالية واليسارية.
وفي ظل هذا الواقع المزري والمتردي من حكمه، ما يزال يعمل المستحيل كي يحصل على فترة ثالثة من الحكم!.
المستقبل
قنبلة العراق وتداعياتها عليه وعلى المنطقة/ ياسر الزعاترة
ليس من العسير القول إن اختصار ما يجري في العراق بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام هو نوع من التدليس. صحيح أن التنظيم هو من يتصدر المشهد القائم حاليا، وهو الأقوى تأثيرا، لكن ما يجري لا يمكن اختصاره بمئات من عناصر تنظيم مسلح، أو حتى آلاف، وإلا فما الحاجة إلى ملايين المتطوعين الذين تتحدث عنهم دوائر المالكي إذن، وهو الذي يملك جيشا ويملك أجهزة أمنية باطشة، ويملك دبابات وطائرات أيضا؟ ولا تسأل هنا عن ما يمكن أن يأتي من دعم إيراني (وأميركي أيضا) متعدد المستويات (هل ستزوده إيران بطائرات بدون طيار؟).
ما جرى ويجري في العراق منذ أيام -بل منذ شهور في واقع الحال- هو إعلان صريح من العرب السنة بأنهم يئسوا تماما من العملية السياسية بطبعتها الراهنة، وإمكانية أن تمنحهم وضعا كريما في عراق ما بعد الاحتلال، رغم أنهم كانوا أصحاب الفضل الأكبر في هزيمة مشروع الغزو الأميركي.
ما جرى ويجري يمثل انتفاضة مكون أساسي من مكونات العراق ضد الظلم والتهميش والإقصاء، وذلك بعد أن سلكوا كل السبل التي يمكن أن تؤدي بهم إلى وضع معقول يتعايشون معه ضمن مكونات العراق الأخرى.
سنوات وساسة العرب السنّة وعشائرهم يطاردون المالكي كي يمنحهم ما يحفظ ماء الوجه أمام جماهيرهم دون جدوى. شكّل قطاع منهم ما يعرف بالصحوات رغم إشكاليتها الأخلاقية، واشتبكوا مع تنظيم الدولة، واستطاعوا أن يحجّموه بالفعل، ثم دخلوا الانتخابات، وحققت قائمتهم المرتبة الأولى، فتدخلت إيران وأعادت ترتيب البيت الشيعي، وبقي المالكي رئيسا للوزراء، ولم يتوقف عن سياساته في الإقصاء والتهميش، بما في ذلك لأطياف من الشيعة أنفسهم.
وما صرخات مقتدى الصدر ضده سوى شكل من أشكال التعبير عن حنق قطاع من الشيعة منه، لكن الرجل الذي رهن نفسه لإيران، واستحوذ عليه هوس السلطة، لم يكن ليلتفت إلى ذلك كله، وظل مصرا على مواقفه، مستخفا بالآخرين.
بمرور الوقت كان العرب السنّة يذهبون في اتجاه اليأس من العملية السياسية، وحين جاء الربيع العربي قرروا أن يحاكوه باعتصام سلمي رفضا للظلم والتهميش، فما كان من المالكي إلا أن واجهه بالقتل والموت، فأين يذهبون؟
اشتبك العرب السنة مع جيش المالكي في الأنبار والفلوجة، فما كان منه سوى إجراء انتخابات جديدة في ظل هذه الأجواء، فكانت المقاطعة السنية الطبيعية بسبب رفض المسار، والقسرية لقطاع منهم بسبب الحرب، والنتيجة هي منح هذه الفئة نصف ما منحتها الانتخابات السابقة، في أسوأ نتيجة على الإطلاق، فجاء الرد المدوي على تلك الإهانات المتواصلة، وانحاز الناس إلى التنظيم الأكثر إثخانا في عدوهم، أعني تنظيم الدولة.
شخصيا قلت مرارا حين بدأ تنظيم الدولة يتراجع في العراق قبل سنوات إن ذلك مرتبط بالعملية السياسية وما يمكن أن تمنحه للعرب السنة، ذلك أن شعورهم باليأس منها، سيدفعهم إلى منح حاضنة شعبية أقوى للتنظيم، تمنح مزيدا من القوة، وهو ما كان، بل إن المعارك الأخيرة، لم تكن من فعله وحده (رغم كونه الأقوى)، بل هناك فصائل أخرى، والأهم هناك ثوار العشائر الذين حملوا السلاح دفاعا عن أنفسهم، وما ذلك الرضا النسبي في الموصل الأقل عنفا بين مدن العرب السنة عما جرى سوى تأكيد على يأس هذه الفئة من العملية السياسية.
لا شك أن جزءا مما جرى منذ الاحتلال كان يتعلق -إضافة لطائفية المالكي ومن سبقه- برعونة بعض قادة العرب السنة السياسيين، والذين تمكن المالكي من التلاعب بهم طوال الوقت، وذلك عبر المكاسب الهامشية التي كان يمنحها لهم، في حين يتحكم هو بكل شيء في العراق، جيشا وأمنا، ومؤسسات مدنية، وصولا إلى تورط سافر في الحرب على الشعب السوري لصالح بشار، الأمر الذي استفز أكثر فأكثر العرب السنة المتعاطفين مع إخوانهم السوريين.
اليوم تغيب السياسة في العراق، ويختفي ساسة العرب السنة عن المشهد، بل يتوارون خجلا في واقع الحال، بينما يرتدي ساسة الشيعة ومراجعهم لباس الحرب، وكل ذلك بسبب إيران التي دعمت طائفية المالكي من جهة، وقتلت الشعب السوري من جهة أخرى، وذلك بروحية غرور وغطرسة كان من الطبيعي أن تنتهي هذه النهاية التي ستفرض عليها حربين في آن، واحدة في سوريا، وأخرى في العراق.
ثمة سؤال مهم يطرح نفسه هنا وهو: هل من تداعيات لهذا الذي يجري على وحدة العراق، بخاصة في ظل السلوك الانتهازي القائم والمتوقع من الأكراد الذين سيساومون المالكي على تنازلات لصالحهم في كركوك وملف النفط والعلاقة مع المركز، وقد يفكرون في الذهاب أبعد من ذلك بإعلان الاستقلال الكامل بعد اقتطاع أجزاء أخرى من الشمال العراقي، فضلا عن كركوك، وأيضا في ظل اتساع مطالب الانفصال (الكامل أو عبر فدرالية مرنة) في أوساط العرب السنة، وربما الميل لاحقا إلى هذا الخيار من قبل فئات شيعية ربما تجده مفضلا بدل استمرار الصراع، بخاصة أن أكثر ثروات العراق موجودة في الجنوب إذا اعتبرنا أن الشمال الكردي يعيش ما يشبه الاستقلال العملي ويصدر نفطه بطريقته عبر تركيا؟
من الصعب الإجابة بالجزم على سؤال من هذا النوع، إذ سيعتمد المسار التالي على جملة التطورات في المنطقة، ذلك أن الملفات جميعها تبدو مرتبطة بعضها ببعض، بخاصة أن عنوان الأزمة في عموم المنطقة يبدو مرتبطا بالصراع مع مشروع التمدد الإيراني الذي بلغ من غرور القوة والغطرسة مبلغا لا يمكن أن يحتمله الآخرون، لا تركيا ولا المحيط العربي، وحتى لو احتمله الرسميون، فإن الوضع الشعبي ليس كذلك، وما جرى في العراق شاهد، وما يجري في سوريا شاهد آخر.
ولأن خيار التقسيم يبدو خطيرا إلى حد كبير، وقد يمتد إلى دول أخرى، بما فيها إيران التي تعيش بدورها تعددية ومظالم كثيرة (عقد مؤتمر لعرب الأحواز في لاهاي يشير إلى إمكانية اللعب بهذه الأوراق من قبل آخرين في المنطقة)، فيما سيؤثر عليها وكذلك على تركيا بإحيائه لمشروع الدولة الكردية الكبرى، لأنه كذلك، فإنه يبدو مستبعدا في القريب، ما يرجح استمرار الصراع في سوريا والعراق على نحو يستنزف إيران أكثر فأكثر، وقد يعيدها إلى رشدها لتقبل التفاهم على جميع الملفات العالقة على نحو يرضي تركيا والمحيط العربي.
ويرتبط ذلك من جهة أخرى بنتائج الحوار الدائر حول الملف النووي بينها مع أميركا والغرب من جهة، وبمسار الصراع الداخلي بين الإصلاحيين والمحافظين من جهة أخرى، لا سيما أن الطرف الأول يبدو أقل ميلا لتأجيج الصراع مع المحيط، ومع الاهتمام بالشأن الداخلي الذي كان سببا في فوز روحاني.
الحكاية إذن تبدأ وتنتهي بإيران، فمن دون أن تعرف هذه حجمها وحدودها، وتكف عن الاستخفاف بغالبية الأمة، فلن يهدأ الوضع في المنطقة، وستكون حربا مفتوحة على كل الاحتمالات، كما ستكون طويلة ومكلفة على الجميع، لأن الحروب الطائفية والمذهبية هي أكثر الحروب دموية.
ومن المؤكد أن الغالبية السنيّة لم تختر الحرب، وإنما فرضت عليها، هي التي كانت تعول على ربيع العرب الذي طاردته إيران في سوريا، تماما كما طارده خصومها الذين جعلوا أولويتهم هي ربيع العرب والإسلام السياسي السني، ولعل ذلك هو ما ساهم في جعل إيران أكثر غرورا وغطرسة، بخاصة بعد إخراج مصر من دائرة التأثير من خلال الانقلاب على ثورتها العظيمة.
الجزيرة نت
زمن الوحل والدم/ غسان شربل
استيقظت البارحة فغمرني أنا العربي شعور بالاحتقار. ذهبت الى صحيفة «الفايننشال تايمز» فوجدتها. وكذلك في «الغارديان» و «الاندبندنت» وغيرها. أعرف أن الصورة نفسها تصدرت البارحة الصفحة الاولى من «الحياة». وأنها طافت على شاشات العالم. إنها صورة مسلحين من «داعش» يُجهزون بدم بارد على عسكريين عراقيين وقعوا أسرى بفضل تخاذل جنرالاتهم وتهور القيادة السياسية. والمأساة من شقّين: وجود «داعش» والسياسات الفئوية التي توفر له فرصة التسرب الى هذه الدولة او تلك. لا يزدهر «داعش» إلا حيث يغيب الوفاق ويحل الإقصاء.
شعرت بالاحتقار. من عقود ونحن نشكو من وضع صورتنا في العالم. ونقول إن الإعلام الغربي منحاز ضدنا. وأنه أسير الايحاءات الامبريالية والصهيونية. وزعمنا أننا بذلنا جهوداً لتحسين الصورة بعد ما لحق بها بفعل «غزوتي نيويورك وواشنطن». وحاولنا إقناع العالم بأن قاطعي الرؤوس حفنة منحرفة تلفظها مجتمعاتنا وثقافتنا.
شعرت بالاحتقار بسبب خبر آخر. بنيامين نتانياهو رئيس وزراء الدولة العنصرية الفاجرة يقيم الدنيا ولا يقعدها بسبب خطف ثلاثة مراهقين يهود. استنفرت الدولة العبرية كل أجهزتها وتفرّغ كبار القادة للموضوع وعُقدت سلسلة لا تنتهي من الاجتماعات الحكومية والعسكرية. أعرف أن إسرائيل تغتال شعباً كاملاً، لكنني شعرت أن للإسرائيلي دولة تحميه او تفتش عنه فيما العربي متروك في العراء تحت رحمة البلطجية والجلادين. استنفرت إسرائيل قدراتها العسكرية والديبلوماسية لجلاء مصير ثلاثة مراهقين ولا تجرؤ امرأة عربية على السؤال عن نجلها الذي أخذه الأمن ولم يعد.
اشعر أنا العربي بالاحتقار الشديد. حين أرى «مجاهداً» من الشيشان يستبيح ارض سورية ويؤسس إمارة على بعض لحمها. وحين ينفجر انتحاري بأبناء طائفة اخرى. وحين تتساقط البراميل على أحياء سكنية. وحين يُقتل شاب في المعتقل بفعل فنون التعذيب. وحين أشاهد بعض الفضائيات وأشعر بأن أمواجاً من التعصب والدم تتصبب من الشاشات. وحين اقرأ ما يبيح القتال ويسوّغ القتل. وحين أشاهد عربياً يخرج من تحت الركام حاملاً جثة طفله. لم تأت «داعش» من السماء. التهميش قابله التطرف. الظلم بوابة الظلام.
اشعر أنا العربي بالاحتقار حين اسمع أن دولنا المضطربة خسرت قرارها واستقرارها. وقدرتها على تشكيل حكوماتها. وأنها مهددة بالزوال وسط نصائح السفراء وإملاءات الأوصياء الجدد.
تقتلني الإحصاءات اذا كانت ذات صدقية. نسبة الأميين في العالم العربي. وجيوش أنصاف الأميين. تراجع المدارس والجامعات الى الكهوف. انقطاع الكهرباء وارتفاع منسوب الظلام. الكتب العمياء وقوافل المشعوذين. الماء الملوث والخبز الصعب. وشعوب العاطلين من العمل. ونادي المهرّجين.
أشعر بالاحتقار حين اسمع ان الجامعة العربية ترفض وتستهجن وتستنكر. تعجز حتى عن إعداد لوائح دقيقة بعدد الحروب الاهلية والخرائط التي تمزقت وعدد النازحين داخل الدول وخارجها. ليتها استعدت لهذا الليل العربي الرهيب. ليتها أسست مصانع للخيام والحليب والتوابيت. ليتها ركزت جهودها على توفير قبور لهؤلاء الذين يسقطون يومياً من عمران الى بنغازي من دون أن ننسى الأنبار وحلب.
اشعر بالاحتقار حين يُخيّر العربي بين الطغاة والغزاة. وحين نستعجل طرد المحتل لنتفرغ للفتك الداخلي. وحين نستجدي المحتل السابق أن يرسل طائراته لحماية عاصمتنا ممن يفترض انهم شركاؤنا في الوطن. وحين نقول مداورة إننا لا نقبل العيش «مواطنين من الدرجة الثانية». وحين تتآكل الدول والجيوش على حدود اسرائيل المستقرة او على مقربة منها.
اشعر أنا العربي بالاحتقار حين يصر لبنان على اعلان فشله كمختبر للتعايش وديموقراطية منتصف الطريق. «داعش» على مرمى حجر والقصر شاغر. كأن الدولة تستعذب العيش بلا رأس. كأن الشراهة احتجزت القصر والجمهورية في افظع عملية لاحتجاز رهائن. كأن الموارنة يصرّون على إعلان إفلاسهم. سمعت نائباً يمتدح الفراغ. يعتبره ضرورياً وربما لذيذاً. لا يستحق اللبناني المسكين كل هذا الاحتقار. تطرق «داعش» وأخواتها على الأبواب وتستمر لعبة احتقار اللبنانيين واستحمارهم.
هذا زمن الاحتقار. يبكي النشيد الوطني هنا ويبكي هناك. الخرائط ممددة على موائد العصبيات والخناجر تلمع مبللة. هذا زمان الوحل والدم. دم الجغرافيا المذعورة وأوحال التاريخ الموصد. هذا زمن الاحتقار.
الحياة
لماذا الجيش للعراق؟/ حازم صاغية
مرّة أخرى يجيء حدث كالانهيار المريع للجيش العراقيّ، جيش الـ600 ألف باسل، ليحضّ على التفكير في أمر جيوشنا عموماً، وهذا الجيش على نحو خاصّ.
وقد كان نوري المالكي صريحاً حين دعا، هو الذي كره «الصحوات» السنّيّة وحاصرها، إلى «جيش رديف» تدلّ هويّة المتطوّعين فيه إلى شيعيّته. وعصارة الحكمة هنا أنّه حين يعجز جيش طائفيّ عن الانتصار لطائفته، يغدو المطلوب جيشاً أكثر طائفيّة ينجح في الانتصار لطائفته. فلأنّ مَن يُستَبدل رخيص يغدو الاستبدال سهلاً.
ومن لم يفهم، أتته دعوة مرجعيّة السيستاني إلى «حرب مقدّسة» لتنهي كلّ تمويه، لا في صدد الطبيعة السنّيّة – الشيعيّة للتنازع فحسب، بل أيضاً في ما خصّ الوظيفة الطائفيّة المناطة بالجيوش «الوطنيّة».
وعلى جاري العادة، ظهرت أصوات تعثر، هنا أيضاً، على دور لأميركا في المسألة لأنّها مَن درّب هذا الجيش. إلاّ أنّ أفعال القوّات المسلّحة في العراق، وهي مرّة سنّيّة ومرّة شيعيّة، كامنة في المجتمع العراقيّ قبل عقود على حرب أميركا في «بلاد الرافدين». ويبدو أنّ هذا «القانون» لم يتغيّر عمله مع تغيّر الجيش بعد صدّام، لأنّ وعاء الجيش ظلّ، في الحالتين، ينضح بماء المجتمع.
فما حدث في الموصل ليس الصفحة «المضيئة» الوحيدة في تاريخ مؤسّسة انتهت جامعةً بين الطائفيّة والعجز، بعدما جمعت، في عهد صدّام حسين، بين الطائفيّة والتجبّر.
فالجيش العراقيّ، كما نعلم جيّداً، أبكر الجيوش العربيّة في المحاولات الانقلابيّة، على ما يدلّ انقلاب بكر صدقي في 1936. وصدقي هذا لم يكن سوى منفّذ المقتلة التي نزلت، في 1933، بالأشوريّين، وبعد عامين بعشائر الفرات الأوسط الشيعيّة، ليركّز شرّه بعد ذاك على أكراد العراق تركيزاً توارثه الحكّام العسكريّون حاكماً عن حاكم.
وفي سجلّ ذاك الجيش أيضاً انقلاب رشيد عالي الكيلاني في 1941. والكيلاني، تذكيراً، هو الذي كان رئيس الحكومة التي كلّفت بكر صدقي ذبح الأشوريّين. وإذا صحّ أنّه لم يكن هو نفسه عسكريّاً، إلاّ أنّ حلفاء الكيلاني المباشرين، الذين نفّذوا انقلابه القوميّ العربيّ ذا الهوى الفاشيّ، ليسوا سوى ضبّاط «المربّع الذهبيّ» الشهير.
لقد شكّل عسكريّو الجيش العثمانيّ، ومن ثمّ العراقيّ، معظم الحكومات التي عرفها العهد الملكيّ. لكنّ ما هندسه هؤلاء كان من الهشاشة والتضارب بحيث انهار تماماً مع سقوط الملكيّة في تمّوز (يوليو) 1958. بعد ذلك تولّى ثلاثة عسكريّين رئاستي الحكومة (عبدالكريم قاسم) والجمهوريّة (عبدالسلام وعبدالرحمن عارف). وفي هذه الغضون عُسكرت الحياة العراقيّة، وكانت الحروب المتتابعة على أكراد الشمال أهمّ ذرائع العسكرة تلك. أمّا صدّام حسين الذي لم يأت من صفوف الجيش، فأكمل العسكرة التي بدأت قبله ودفع بها إلى ذروتها. وهو راح يزجّ القوّات المسلّحة في حروب متتالية، داخليّة وخارجيّة، في إيران والكويت وفي شمال العراق وجنوبه، من دون أن يلقى من ذاك الجيش الباسل أيّة نأمة اعتراض جدّيّة. وفي هذه الغضون لم يخلُ الأمر من وضاعة وانتهازيّة: ففي 1970 حين مرّر «جيشُ البعث» الجيشَ الأردنيّ ليضرب القوّات الفلسطينيّة، لم يُبد عسكريّ عراقيّ واحد استنكاره ذاك السلوك المتناقض مع التعاليم العقائديّة. لكنْ حين قدم الأميركيّون في 2003 ولّى عناصر الجيش الباسل هاربين في الصحراء، راسمين لوحة أكثر إبهاراً من تلك التي ارتسمت بنتيجة تحرير الكويت.
أمّا الاحتفاظ بالتحفة المسمّاة الجيش العراقيّ والإنفاق الباذخ عليها من أجل «تحرير فلسطين»، أو في الحدّ الأدنى «مقاتلة إسرائيل»، فمزحة أخرى سمجة ومكلفة لا تعادلها إلاّ مزحة الحفاظ على الجيش العربيّ السوريّ الباسل بدوره، حيث البسالة تستعرض نفسَها في ساحات المدن والبلدات السوريّة.
وهذه التجارب مجتمعة، من مقتلة الأشوريّين في 1933 إلى الانهيار اليوم أمام «داعش»، تقول إنّ الذين طالبوا بحلّ الجيش العراقيّ ذات مرّة… ربّما لم يكونوا مخطئين.
الحياة
المجتمع الدولي مسؤول عن “داعش”!/ غسان حجار
لنقلها بصراحة، إننا بتنا نخاف، وفقدنا كل مشاعر الغبطة التي سادت مع انطلاق الثورات العربية في أكثر من بلد. القلق الذي يساورنا لا يقتصر علينا كمسيحيين، اذ لم يعد عددنا في هذا الشرق يشكل عائقاً أمام أي مشروع، فالخوف المتنامي يشمل أكثر المسلمين الشيعة والدروز والعلويين، كما لا يعفي السنّة من غير الملتزمين التطرف والإرهاب.
وإذا كان الوضع الراهن لم ولن يدفعنا الى الترحم على ماضي الأنظمة الديكتاتورية التي سقطت او اسقطت او تلك المستمرة، لان لا عودة الى الماضي، ولأن العيش فيه مدمر، فإن الرهان يبقى قائماً على تغيير ما يقوده اسلام معتدل هو الهدف والأمل والمرتجى لكل الخائفين والقلقين على السواء، ولكل الطامحين الى عيش كريم في شرق قيل ذات يوم، انه مسقط الانبياء والرسالات، فإذا به يتحول قاعدة لحروب الالهة. ونشر الاسلام المعتدل مسؤولية المسلمين انفسهم، وهذه مهمة دول اكثر من الافراد، وفي طليعتها المملكة العربية السعودية متقدمة دول الخليج، ومعها مصر.
ولعل المجتمع الدولي يتحمل مسؤولية تلك الحروب المزمنة، وما آلت اليه الاوضاع حالياً في كل الدول العربية والاسلامية، لأنه تلكأ عن دعم الثورات الناشئة واحتضانها والضغط على الانظمة الحاكمة للاستجابة السريعة لمطالب شعوبها في التحرر. بل يمكن القول ان هذا المجتمع لم يرد ان تحسم الأمور سريعاً، وهلل لتمركز نشاط “القاعدة” والتنظيمات المتطرفة، واجتذابها العناصر الارهابية من كل بقاع الأرض، الى تلك البقعة في العالم الثالث، محور كل النزاعات، لإغراقها في وحول الحروب الداخلية، العربية – العربية، والاسلامية – الاسلامية، اضعافا لأنظمة الدول المشاركة والداعمة وابتزازها وبيعها السلاح والعتاد، وسلب أموالها ونفطها.
بل ان عدداً من صانعي السياسات العالمية طمح الى “سايكس بيكو” جديد، يرسم خريطة لدول الشرق الاوسط تفيد من تنامي النزاعات العنصرية، الدينية – المذهبية، والعرقية، وحتى القبلية.
هذا التلكؤ الدولي، والتقصير في دعم قيام أنظمة بديلة تتسلم مقاليد الحكم بشكل سريع، وتعمل على تنظيم الدول وحياة الشعوب، دفعا الى تفاهم الصراع السياسي الذي تطور نحو العنف المسلح، وبات يهدد أمن المجتمع الدولي ككل، مما حدا بمسؤولي الأمن في دول الاتحاد الاوروبي الى التشدد في التصدي لالتحاق مواطنين لديهم بجبهات القتال في العراق وسوريا واليمن وغيرها.
اليوم يجد المجتمع الدولي نفسه في مواجهة تنظيم “داعش” الذي سيخرج عن السيطرة ما ان يضع يده على مقدرات النفط، فيتحرر من مموليه ومحركيه، ويتفلت المارد السني الجديد، الذي بدأ يلقى قبولاً وتعاطفاً في بعض الاوساط لمواجهة الهجمة الفارسية الشيعية.
المجتمع الدولي العاجز مسؤول بطريقة او بأخرى عن حمامات الدم السابقة، وخصوصا المقبلة على عالمنا العربي.
النهار
صاعق العراق يفجّر العالم الإسلامي؟/ راجح الخوري
يقف العراق على حافة الانفجار المذهبي الكبير، الفتاوى الشيعية والسنيّة المضادة ترسم خريطة طريق الى مذبحة كبرى، وتمثّل صاعق تفجير يبدأ في العراق والمحيط وقد يمتد الى كل العالم الاسلامي في آسيا وافريقيا.
بكل أسف، يتم الآن استحضار كل تاريخ الدم المذهبي وكل الاحقاد والكراهيات المتراكمة، معطوفة طبعاً على شلال الدم المتفجر في سوريا منذ ثلاثة اعوام ونيف، وسيكون المرء مغرقاً في الاوهام ليظن ان ايران التي تتدخل لدعم نوري المالكي يمكن ان توقف الانهيار، وان واشنطن التي ارسلت حاملة طائرات الى المنطقة لديها رغبة حقيقية في وقف الانفجار الذي سعت اليه وخططت له منذ ثلاثة عقود ونيف!
على الايرانيين قبل ارسال الفرق للقتال دعماً للجيش العراقي، ان يتأملوا جيدا في كيمياء هذا الجيش الفاسد الذي هندسه المالكي مندوبهم السامي في بغداد، وفي السياسات القمعية التي مارسها ضد المناطق السنيّة. فالحديث عن هجوم “داعش” الارهابية المتوحشة، لا يكفي لتمويه كل جوانب الحقيقة الفاجعة التي صنعتها يدا المالكي!
سيكون عليهم وعلى الاميركيين ان يقرأوا جيداً مثلاً كلام مقتدى الصدر عن المالكي و”الديكتاتورية التي كمّت الافواه وهجّرت المعارضين وقتلتهم وعاثت في العراق فساداً وافسدت السياسة والجيش”.
وعلى طهران التي تدفع بالمزيد من قواتها الى العراق، ان تتمعّن جيداً في تصريحات ديريك هارفي الذي عمل مستشاراً للجنرال ديفيد بترايوس في العراق لصحيفة “الواشنطن بوست” اذ قال “ان جوهر الأمر سياسي وما نواجهه اليوم ليس “القاعدة”، وان رئيس الوزراء المالكي يريدنا ان نركّز على “داعش” بوصفها التهديد الرئيسي ولكن عمق ما نراه ونسمعه هو من حيث الاساس عرب سنّة زهقوا وضاقوا ذرعاً”!
ديريك يحمّل المالكي مسؤولية الفشل والانهيار بسبب عمليات التطهير التي اجراها مستهدفاً كوكبة من خيرة القادة العسكريين لدوافع مذهبية، اما إيما سكاي مستشارة قائد القوات الاميركية في العراق فتقول ان المالكي بدل ان يركز على بناء الجيش استخدم صلاحياته للتنكيل بخصومه السياسيين.
محافظ الموصل أثيل النجيفي ابلغ نيكولاي ميلادينوف مبعوث الامم المتحدة صراحة “انني مستعد لقتال الارهابيين ولكنني ارفض العمل تحت راية المالكي او الاجندة الشيعية، وان السنّة وحدهم قادرون على منع الارهاب من التغلغل في ديارهم”، وبالفعل سبق لهم ان نجحوا في ذلك على يد “الصحوات” التي حلّها المالكي.
العشائر في المحافظات الملتهبة تطالب باقالة المالكي وتتهمه بالسعي الى إلباس الثورة السنيّة ضد ممارساته ثوب الارهاب، وتدعو الى تشكيل حكومة انتقالية لإنقاذ العراق، لكن نفير الفتاوى المذهبية، شيعية وسنيّة، التي تحضّ على القتال تكاد تجعل من العراق صاعقاً يفجر العالم الاسلامي كله لا سمح الله!
النهار
“داعش” و”الربع الخالي”/ امين قمورية
ما يجري في العراق فصل وحشي يشعر هولاكو في قبره بانه كان رؤوفا بالعراقيين عندما أحرق بغدادهم.
هذا البلد نكبت فيه الرحمة من زمان، وتعمقت نكبتها بعدما أضاع بوصلة وحدته عام 2003 عندما اجتاحته القوات الاميركية واعدة شعبه باعادة توحيده بالديموقراطية، لكنها اعادت بناء خشبة مسرحه على تناحر طائفي ساهم التاريخ في تأجيج جزء منه وفرض الواقع السياسي في المنطقة الجزء الاخر. وبدل ان يكون خلاص الشيعة من الاضطهاد المزمن حافزا لتكريس المساواة بين المكونات، صار التهميش بابا دوارا تدخل منه طائفة وتخرج اخرى. تراكم السياسات الهوجاء جعل “داعش” عنوانا خاطئا لانتفاضة السنة ضد الاقصاء. وصار التقدم السريع والمريع لهذا التنظيم التكفيري مجرد تأكيد لانحدار العلاقات السنّية – الشيعية. ولن يكون “داعش” او المالكي او فتاوى التعبئة التي تصدر من هنا وهناك سوى حطب جديد في المسرح الوطني لا يلبث ان يحرق بعضه بعضاً ليشتعل من جديد في موقع آخر من الجسد العراقي الساخن.
“داعش” السني بتزمته وعصبيته ونيران حقده سيستدرج الشيعة والاكراد الى اعادة انتاج “دواعشهم” الكامنة بعدما حاولوا عبثا اكسابها صفة مؤسسات واجهزة دولة، وما الفارق بين هذا “الداعش” وذلك الذي يعبأ طائفيا ويصدر كل هذه الفتاوى العمياء للشحن العصبوي ويؤله العنف سيدا مطلقا. الشيعة اقصوا السنة عن مناطقهم في جنوب العراق، والسنة يحاولون تهميش من بقي من شيعة في الانبار ونينوى وصلاح الدين، والاكراد يبعدون العرب سنة وشيعة عن اقليمهم ويغتنمون لحظة الانقسام للانقضاض على “قدسهم” كركوك. الجميع يقتلون. الجميع يفتكون. الجميع يبتدعون فنونا في الارهاب والتخويف. الجميع معبأون بالتعصب والتزمت والجاهلية حتى النخاع . جميعهم يفتكون بما تبقى من العراق، وبمن بقي من اهل العراق. والكل يتساوى في الجريمة ووحده المواطن العراقي المسكين يدفع الثمن، ويتساوى في ذلك مع جيرانه وفي مقدمهم الجار السوري الاقرب.
تحيا الوحدة، فقد انتظرناها طويلا حتى جاءت على أيدي “الداعشيين” الجدد. هؤلاء وحدوا بالسيف والراية السوداء غرب العراق مع الرقة ودير الزور السوريتين. واولئك يقاتلون متحدين في غوطة دمشق والقلمون وحمص. تحيا الحرية التي انتظرناها مع “الربيع” لكنه لم يحمل منها سوى حرية القتل والاستباحة، حينا باسم الوطنية واحيانا باسم الدين.
انفجارات القنبلة المذهبية والكراهية المكبوتة في عراق اليوم الذي يشكل قمة هرم قاعدته قد تشمل صحراء المشرق بكل جهاتها واتجاهاتها، وعندها لن ينفع لا الندم ولا التسويات.
واذا كانت حرب المئة سنة بين الكاثوليك والبروتستانت انتجت نهضة أوروبا، فان حروب الـ 14 قرنا بين السنة والشيعة بطاقة رحيل جماعي الى “الربع الخالي”.
النهار
حروب التدمير الذاتي/ سليمان تقي الدين
منذ اندلاع العنف في العراق وبلاد الشام أصبحت الجماعات المنظمة والمسلحة صاحبة القرار على حساب أي عمل سياسي سلمي مدني آخر. هكذا تصادر إرادة الناس والمدن وتخضع بالقوة لسلطة هذه الجماعات، أكانت ترتبط بجهة رسمية حكومية أم بجهة معارضة. الشرعية هنا للقوة وليس لسواها.
تجذر العنف في هذه البلاد لأسباب عدة طال الحديث عنها. لم تتكوّن ثقافة سياسية سلمية ولم تعرف هذه البلاد الحرية فأخذت نزاعاتها المتنوعة مسالك القوة من دائرة العصبية، ولحمتيها النسب (القرابة) والولاء (الهوية الثقافية)، إلى الاستقواء بكل خارج يمدها بعناصر الحماية والمناعة. في واقع الحال لم تكن حدود سايكس ـ بيكو كما توهمناها وأطلنا الهجاء فيها.
الكيانات التي رسمت حدودها تلك الاتفاقية الاستعمارية تعرضت للاختراق منذ اللحظة الأولى واستمرت حركة التواصل السياسية والمادية بين مكوناتها. قامت حركات سياسية منظمة فوق هذه الحدود، ونشأت حركات مسلحة تعاونت في كل هذه المناطق من ثورات سوريا وفلسطين ولبنان، وانتشر الشعب الفلسطيني المهجّر في أقطار الجوار، وتدخلت الأنظمة وجيوشها مرات ومرات في شؤون جاراتها، واجتاحت خلال العقود الأربعة الماضية دولاً شقيقة، كما حصل من العراق وسوريا تجاه الكويت والأردن ولبنان. لكن ولا مرة خلال المئة عام المنصرمة على تلك الاتفاقية قامت دولة أو نواة دولة تشكل نقيض سايكس ـ بيكو أو تشكل مشروعاً جاذباً توحيدياً حتى في العهد الذهبي لفكرة الوحدة والقومية العربية الناصرية والبعثية. فلا الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) شكلت هذا النموذج، ولا حكم البعثيين في سوريا والعراق. على العكس من ذلك، دار تاريخ هذه السلسلة العربية من الكيانات المشرقية على نزاعات إقليمية وجهوية وطائفية ولو خمدت حيناً تحت سلطتَي الترويض الإيديولوجي والقمع السياسي، وانتهى إلى استدراج الوصايات والاحتلالات على أنواعها حتى صارت سايكس ـ بيكو أملاً وحلماً غير ممكنين.
انفجرت «علاقات الأخوة» حروباً أهلية داخلية وخارجية في الأردن ولبنان والعراق وفلسطين بين مكوناتها وفي ما بينها، وانتهت إلى انقسامات عميقة بين «الشعوب» سوّغت الاحتلالات واستدعتها أحياناً كثيرة لدى فئات من هذه «الشعوب» كما حصل واقعياً في هذه البلدان ويحصل الآن في «طلب العون والنجدة» من خارج على داخل.
باسم منظومة من الشعارات والتبريرات التي تغلف النواة المرّة لهذه الحروب، اختلط الحابل بالنابل وسقطت الحدود هذه المرة بفوضى عارمة نتيجة «مشاريع» تمثل «داعش» إحدى صورها إلى جانب الكثير من الصور الأخرى التي لا تقل خطورة في صناعة المشهد الطائفي في مقدماته وتداعياته ونتائجه. ولا نملك الآن أن نتحاور مع «داعش» ولا مع غيرها بما في ذلك «ميليشيات الأنظمة» وأدواتها التي لا تقوم على شرعية سياسية حقيقية، بل على غلبة سابقة أو لاحقة، وعلى إسناد خارجي سابق أو لاحق، وعلى عصبية قديمة أو مستجدة. هكذا ستأخذ النيران مداها الطبيعي ما دامت لا تتدخل نيران أقوى منها أو مطافئ بحجم الحريق الذي جمعت له كل هذه الأضاحي من أجل التخلص من الماضي والحاضر معاً.
فلا أفق الآن إلا بنجدة مجتمع دولي أدنّاه واستخفينا به، أو بقوى دولية عدوة نطلب ودّها وصداقتها الآن، أو بيقظة من حكام عرب أو غير عرب في الجوار يقض مضاجعهم هذا الحريق أو يستصرخ ضمائرهم، أو من قادة «حركات سياسية مسلحة» يستدركون هذا المشهد الكوارثي الذي لا يبقي لهم إلا عمراً مديداً من الحرب والدماء والدمار. في هذا المسرح من الحروب الأهلية والطائفية والدينية لا مجال لأي انتصار، مهما احتشد له الأنصار ومهما شدّت روابطه لغة قداسية دينية هي مشتركة وموجودة لدى كل الأطراف ولديها المخزون التاريخي نفسه القابل للتداول. ولعله مسرح يتحدث فيه رئيس دولة أو حكومة هنا أو هناك باللغة المذهبية ولا يوفر لمرجعيته الدينية تلك اللغة. هذه حروب الأخوة الأعداء التي يقف العدو الخارجي منها معلناً أنه ليس مسؤولاً عنها ولم يفعل بجرائمه مثلها. ويقول آخر إنه لا يريد أن يكون طرفاً وشريكاً فيها كما أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما عن حرب سوريا والعراق التي «صارت طائفية». إنها لعنة كل هذا التراث السياسي للأنظمة والحكام والقادة والأحزاب والحركات ومن يؤيدهم.
السفير
لا تَستكثروا على العراقيين ثورتهم/ إياد الدليمي
إذا كان لدى المصري، أو التونسي، أو اليمني، أو السوري، أو الليبي، سببٌ واحد، أو مائة سبب للثورة، فإن لدى العراقي ألف سبب وسبب، فمنذ أن نجحت المجاميع المسلحة في العراق في احتلال مدينة الموصل، وما تبعها من عمليات سيطرة على مدن عراقية أخرى، وأصداء ما جرى يتردد في الكون الشاسع، حتى وصل الأمر إلى أن تحرك الولايات المتحدة الأميركية حاملة طائراتٍ إلى الخليج العربي، استعداداً منها لأي تحرك عسكري قادم، في وقت انبرت المرجعية الشيعية في النجف، بشأن ما جرى في تلك المناطق، إلى إعلان فتوى الجهاد الكفائي، حيث توافد آلاف العراقيين إلى مراكز تطوع خاصة، أقيمت في مدن في الجنوب وفي بغداد.
لسنا، هنا، بصدد استعراض ما جرى في أسبوع مضى، ولكن، ما يستدعي الانتباه إليه، في هذه المرحلة، أن هناك عملية تشويه متعمد لما جرى ويجري في العراق، بدأ منذ اللحظة الأولى لانطلاق الثورة المسلحة في الموصل، وما زال، يعتمد على قلب الحقائق، وعلى محاولة استمالة السذج إلى مطحنة عراقية مقبلة، لا تبقي ولا تذر.
يذكر الماضي القريب أن العراقيين السنة، ومنذ أن دخلت القوات الأميركية إلى بغداد في ربيع 2003، كانوا أول من تصدّوا لها، ولم تلتحق بهم بقية طوائف الشعب العراقي، حتى من التحق فيما بعد من ميلشيات شيعية، إنما كان لأسبابٍ ودواعٍ لا علاقة لها، من قريب أو بعيد، بمفهوم المقاومة، بقدر ما كانت عمليات لتحقيق مكاسب، بعضها سياسي وآخر عسكري.
العراقيون السنة، وهنا نصف فقط، من دون أن ننجر إلى لعبة المصطلحات الطائفية، تعرضوا لأبشع أنواع القتل والتدمير والتشريد، طوال عقد من عمر الاحتلال الأميركي، من دون أن نعني، هنا، بأن العراقيين الشيعة لم يتعرضوا لمثله، غير أن الفرق في أن ما تعرض له السنة كان يجري على أيدي الحكومات التي تعاقبت على العراق بعد الاحتلال، فيما كان الشيعة يتعرضون لعمليات قتل وتصفية على يد مجاميع إرهابية، تنتمي إلى السنة، كالقاعدة مثلاً، وكانت موضع إدانة من السنة قبل الشيعة.
انتفض السنة العراقيون، وكانت ساحات اعتصامهم، عاماً كاملاً في مدنهم الست، خير شاهد على سلمية تحركهم. لم تسجل أية حالة اعتداء، أو تصرف مشبوه، فبماذا قابلهم نوري المالكي، رئيس الحكومة؟ نفذ بحقهم عدة مجازر، من أبرزها مجزرة الحويجة، والتي قتل فيها نحو 70 معتصماً، وأصيب عشرات، وقتل معتصمين عديدين في الفلوجة، طارد النشطاء واعتقلهم، وأكثر من هذا، وصل الأمر إلى حد قطع الرواتب عن كل من ثبت اشتراكه بهذه الاعتصامات، قبل أن تتقدم قواته إلى الأنبار، وتعتقل النائب أحمد العلواني، وتحرق خيم الاعتصام، لتدخل الأنبار مرحلة الثورة المسلحة، وهي مستمرة منذ مطلع العام الجاري.
ليس من السهولة أن نسرد، هنا، ما كان يتعرض له سنة العراق، من عمليات تصفية وقتل وتشريد وظلم، على يد الحكومات العراقية، وتحديداً حكومة إبراهيم الجعفري، وبعدها حكومتي المالكي الأولى والثانية، حيث عاش هذا المكون المهم والرئيسي، مواطنين درجة ثانية، ولربما ثالثة، وعملت هذه الحكومات على إقصائهم من مجالات الحياة، ناهيك عن عمليات قتل استهدفتهم، ولعل الجميع يذكر عمليات الاعتقال بحق عشرات من الشباب السنة، ومن ثم العثور على جثثهم في مزابل بغداد، وتفيد التقديرات بأن السجون الحكومية تعج بأكثر من 400 الف معتقل عراقي، السنة فيهم أكثر من 90%.
“اليوم هناك حالة من الثورة المسلحة تجتاح أغلب المدن والمناطق السنية في العراق، ثورة يسعى العراقيون الذين نجحوا في إشعالها، أن تكون ثورة خلاص للكل، وليس للسنة وحسب”
تطول قائمة الظلم الذي تعرض له السنة، من دون أن يعني ذلك أن بقية طوائف العراقيين كانت ترفل بالعز وأثواب الغار، فالشيعة العراقيون، أيضاً، كان لهم نصيب من ظلم الحكومة، غير أنه ظل في أغلبه ظلماً اجتماعياً، ناتجاً من سوء إدارة، وفساد أغلب مرافق الدولة العراقية التي تشكلت عقب 2003. اليوم، هناك حالة من الثورة المسلحة تجتاح أغلب المدن والمناطق السنية في العراق، يسعى العراقيون الذين نجحوا في إشعالها إلى أن تكون ثورة خلاص للكل، وليس للسنة حسب، ما دفع تيارات عديدة مسلحة فجرت الثورة إلى التأكيد، في أكثر من بيان، على أنها ثورة عراقيين.
في مقابل ذلك، يعمل إعلام الحكومة العراقية، ومعه إعلام عربي، أقل ما يقال عنه إنه متواطئ في شيطنة الثورة العراقية، بإلباسها لبوس الجماعات التكفيرية، وفي مقدمتها دولة العراق والشام الإسلامية، “داعش”. وهنا لا بد من القول، والتأكيد والتذكير، لكل باحث عن الحقيقة، إن ما يجري في العراق نتاج حالة ظلم طويلة، ومن يشارك في هذه الثورة هي الفصائل العراقية المسلحة التي شاركت في مقاومة المحتل الأميركي، وأيضا تنظيم الدولة الإسلامية، بمعنى أن “داعش” مشارك في هذه الثورة، وله نصيب منها، غير أنه ليس الوحيد، وقوة هذا التنظيم تتفاوت من منطقة الى أخرى. وبالتالي، ليس من مصلحة العراق والعراقيين، ولا دول المنطقة أيضاً، أن تنسب الثورة العراقية إلى هذا التنظيم. كل من يعمل على “دعشنة” الثورة العراقية مشارك بذبح العراقيين من المذاهب والطوائف والأديان كافة، فالذي تخلص من تنظيم القاعدة، لم يكن قوات المارينز، ولا قوات حكومة المنطقة الخضراء، بل العشائر العراقية التي ترفض التطرف، وتدينه، قبل أن يأتي من يعلمهم ذلك.
العربي الجديد
العراق.. محادثات أميركية ـ إيرانية على ماذا؟/ طارق الحميد
كتبت أمس مدافعا عن موقف الرئيس الأميركي الرافض للتدخل العسكري، أو إرسال قوات أميركية للعراق، حيث اشترط الرئيس أوباما ضرورة اتخاذ مواقف سياسية حقيقية من العراقيين أنفسهم قبل مناقشة أي تدخل، وقلت فيما كتبته إن دفاعي عن الموقف الأميركي مبني على المعطيات المتاحة حتى كتابة مقال أمس.
الآن تتواتر الأخبار من أميركا، ونقلا عن وزير خارجيتها ومسؤولين آخرين، أنه قد تشن هجمات جوية على «داعش»، وأن واشنطن منفتحة على المحادثات مع إيران حول العراق! والسؤال، أو قل الأسئلة: ماذا بعد توجيه الضربات العسكرية؟ هل ستقصف أميركا العشائر أيضا؟ وهل ستقصف كل خصوم نوري المالكي لتمكنه من فترة ولاية ثالثة؟ وبالنسبة للمباحثات الأميركية الإيرانية، أو البريطانية الإيرانية، فإن السؤال هو: مباحثات على ماذا؟ فكل ما تستطيع إيران فعله الآن هو سحب المالكي من المشهد السياسي، وهو الإجراء الأولي المطلوب لنزع فتيل الانفجار الكبير بالعراق، لكن ماذا بعد ذلك؟ هل تستطيع إيران ردع كل المكونات العراقية الرافضة لحكم المالكي الإقصائي الطائفي؟ أم أن الإدارة الأميركية، وغيرها، باتت تعترف ضمنيا بوصاية إيران على العراق؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل يعتقد الغرب برمته أن العراقيين سيقبلون بهذا؟ وهل يعتقد الغرب أن هذا هو الحل الذي سيجنب العراق حربا أهلية طائفية ستحرق الأخضر واليابس؟
الحقيقة أن أزمة العراق اليوم سببها هو أنصاف الحلول، ومنذ سنوات، ومثلما هو حادث في سوريا، والسبب في ذلك هو الإهمال الأميركي، واليوم لا يمكن الاستمرار بأنصاف الحلول هذه في العراق؛ لأن ذلك يعني ببساطة اشتعال نار حرب أهلية ستكون أبشع ما عرفته منطقتنا. العراق ليس سوريا، ولا أحد يتحدث عن سقوط نظام، أو رحيله، الجميع يطالب بحكومة وطنية عراقية تنبذ الإقصاء والطائفية اللذين حكم بهما المالكي. والتدخل العسكري لن يحل الأزمة، بل سيعقدها، كما أن منح إيران دورا في العراق يعني تعقيدا أكبر للأزمة، كما أنه يعني إنقاذا لورطة المشروع الإيراني التوسعي بكل المنطقة، وهو المشروع الذي يعاني فشلا حقيقيا في العراق وسوريا.
المطلوب اليوم في العراق، وكما طالب العراقيون أنفسهم، وكما قالت السعودية أمس، هو: «ضرورة المحافظة على سيادة العراق ووحدته وسلامة أراضيه، ورفض التدخل الخارجي في شؤونه الداخلية، ودعوة كافة أطياف الشعب العراقي إلى الشروع في اتخاذ الإجراءات التي تكفل المشاركة الحقيقية لجميع مكونات الشعب العراقي في تحديد مستقبل العراق والمساواة بينها في تولي السلطات والمسؤوليات في تسيير شؤون الدولة وإجراء الإصلاحات السياسية والدستورية اللازمة لتحقيق ذلك، والإسراع في تشكيل حكومة وفاق وطني للعمل على إعادة الأمن والاستقرار، وتجنب السياسات القائمة على التأجيج المذهبي والطائفية التي مورست في العراق». هذا هو الحل الأفضل، وليس التدخل العسكري، أو منح إيران حق الوصاية على العراق مما يعني أننا سنكون مقبلين على حرب أهلية عراقية مدمرة.
الشرق الأوسط
“داعش ـ بيكو”!/ حسين شبكشى
بعد عامين من اليوم تكون قد انقضت مائة عام على اتفاقية تقسيم منطقة الشرق الأوسط بعد سقوط الخلاقة العثمانية، والتي أشرف على تحقيقها وزيرا خارجية بريطانيا وفرنسا مارك سايكس وفرنسوا جورج بيكو، واليوم تبدو نفس المنطقة مرشحة وبقوة لمجموعة جديدة من التقسيمات وبالتالي خارطة جغرافية جديدة تبرز هذه الحدود، ولكن لأننا نعيش زمانا مغايرا لما كانت عليه الأمور قديما، فبالتالي تقتضي الحاجة لإبراز وسائل جديدة لتحقيق هذه الغايات. فظهرت دول ومجاميع لتلعب أدوارا «مؤثرة» و«موجعة» وكان لإسرائيل وإيران وحزب الله و«داعش» أدوار لإنجاز هذا الأمر كل بحسب وضعه وكل بحسب وقته. الولايات المتحدة (وهي دولة علمانية بامتياز تفصل الدين عن الدولة) اختارت التحالف قديما مع إسرائيل وحاليا مع إيران وهما دولتان دينيتان بامتياز؛ فالأولى تقول عن نفسها إنها دولة حصرية لليهود وذلك فيه تميز عن باقي مواطنيها، والأخرى تقول إنها دولة إسلامية لا بد أن يكون رئيسها شيعيا (أي إنها ليست فقط دينية ولكنها طائفية وفي دستورها نص بهذا الأمر مما ينتقص حقوق المواطنين الآخرين المختلفين).
إسرائيل لا تريد أن تكون الدولة الدينية العرقية الوحيدة في المنطقة وبالتالي تكرار المثال من حولها لن يجعلها المثال الوحيد «الشاذ»، وإيران مهووسة بإرث انتقامي قديم لا علاقة له بنشر الدين ولا بالمقاومة، فهي على خلاف عقائدي حاد مع من حولها وموضوع «الدولة المقاومة» مرحلة وانقضت حققت هدفها المطلوب لكنها تسعى اليوم لأن تكون شرطي المنطقة وإذا صعدت من وجه الإرهاب القبيح وركزت أن هذا الوجه هو على العكس منها تماما شكلا ولغة وانتماء وطائفة وهي تعلم عقدة الغرب عن فكرة الإرهاب كان من الطبيعي أن تضعهم بالتالي أمام خيارين صعبين؛ إما «داعش» أو إيران، وهناك معسكر في الإدارة الأميركية لديه قناعة بأن إيران هي المؤهلة لأن تكون قوة الاعتدال في المنطقة وهذا لعمري هراء عظيم، فلقد تناسوا أن المنطقة لم تعرف السلام منذ وصول الخميني وثورته إلى الحكم، فلقد دخل في حرب ملعونة مع شريكه في الجريمة صدام حسين. الخميني الذي قال واصفا وقف إطلاق النار أنه أشبه بكأس سم يتجرعه، وهو الذي نفسه سمح بميليشياته أن تحاول قتل أمير الكويت وتقوم بتفجير مبانٍ في الخبر بالسعودية وتعبث في أمن الحجاج، وعن طريق أداته ميليشيات حزب الله الإرهابية في لبنان قامت بتفجير مبانٍ لقوات المارينز والسفارة الأميركية وخطف غربيين ومفاوضهم وخطف طائرات مدنية.
الآن يتناسى العالم إرهاب إيران وحزب الله المتروك قواته تقاتل في سوريا والآن في العراق تحت أنظار الولايات المتحدة وإسرائيل دون التعرض له وهو الذي كان «مصنفا» ذات يوم بأنه جماعة إرهابية ويتم التركيز على الفزاعة الجديدة «داعش»، تلك الجبهة الغامضة التي أسسها العراقي المعروف باسم أبو بكر البغدادي، وهو اسمه الحركي، واسمه الحقيقي عوض إبراهيم علي السامرائي مواليد سامراء عام 1971 ويقال: إن لديه دكتوراه في التاريخ الإسلامي حصل عليها من جامعة بغداد الإسلامية وهو الذي يفسر الإشارة إليه بعض الأحيان بلفظ الدكتور، انخرط في الأعمال القتالية منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003 حتى ألقي القبض عليه عام 2005 عن طريق القوات الأميركية وسجن لمدة أربع سنوات في جنوب العراق بأحد المعسكرات ولسبب غامض وغير واضح تم إطلاق سراحه، وبدأ يعد العدة بتجهيز أعداد غفيرة من الناس للقتال معه حتى بلغ جيشه 12 ألف مقاتل، ثلاثة آلاف منهم جاءوا من الغرب وكان دخوله إلى الثورة السورية نقطة انتقال ضد الثورة وتحويلها إلى دموية همجية (دور مطلوب؟). وفي شهر يونيو (حزيران) من العام الماضي أعلن طلاقه التام من ولاية «القاعدة» وأيمن الظواهري الذي انتقده بشدة ليزداد بريقه «الإرهابي» إعلاميا بأنه «أشد» تطرفا من «القاعدة» وها هو يساهم مع إيران ومن قبلهم إسرائيل في رسم جديد لخارطة الشرق الأوسط.
لم يعد من السهولة أن ينطلي على المواطن العربي نفس الخدع التي كانت سببا لمصائبه في السابق. «داعش» وإيران وحزب الله و«القاعدة» وغيرها هي وجوه للشر عرفها أهل المنطقة وتأكدوا من ذلك وها هم اليوم يرون بأعينهم تمزيق المنطقة على أيديهم وإعادة رسمها مجددا.
الشرق الأوسط
“داعش”..خطر حقيقي/ جوشوا كيتنج
بعد سقوط الموصل هذا الأسبوع، أشار بعض خبراء الإرهاب، مثل “تشارلز ليستر” من “مؤسسة بروكينجز” في واشنطن و”بيتر نومان” من جامعة “كينجز كوليدج” في لندن، إلى أن “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، أو “داعش” – وهي المجموعة المقاتلة التي بسطت سيطرتها على المدينة – باتت قاب قوسين أو أدنى من أن تصبح “الدولة الإسلامية” التي يوحي بها اسمها.
إنه موضوع يستحق التأمل، فمثلما قالت “ليز سلاي” في صحيفة “واشنطن بوست”، فإن “داعش”، التي بدأت قبل عام واحد فقط باعتبارها “الفرع السوري لتنظيم القاعدة في العراق”، باتت اليوم “تحكم فعلياً قطاعاً واسعاً من الأراضي التي تمتد من الحدود الشرقية لمدينة حلب السورية إلى الفلوجة في غرب العراق – وتشمل الآن أيضاً مدينة الموصل الواقعة شمال العراق”.
التقديرات تشير إلى أن حجم قوات “داعش” يتراوح ما بين 7 آلاف و10 آلاف رجل، غير أنه وخلافاً لمجموعات متمردة سورية أخرى، فإن “داعش” تركز بشكل أقل على إسقاط نظام الأسد منه على فرض نسختها المتشددة والمتطرفة من الحكم الإسلامي في المناطق التي تبسط عليها سيطرتها إلى جانب الهدف الأكبر المتمثل في إقامة دولة إسلامية موحدة. ووفق معظم التقارير، فإنها بكل تأكيد القوة السياسية المهيمنة أكثر في المناطق الخاضعة لسيطرتها من الحكومتين السورية أو العراقية.
وعليه، فهل علينا أن نشرع في التفكير في “داعش” باعتبارها شكلاً أول للدولة – أو كياناً غير معترف به ولكنه يتمتع بالسيادة بحكم الواقع؟ أم أنها ستلقى مصيراً مماثلًا لذاك الذي لقيته “أزواد”، الدولة المتمردة في شمال مالي التي أعلنت استقلالها بعد أن طردت الجيشَ المالي، لتُطرد بدورها من قبل قوة دولية قادتها فرنسا العام التالي.
الواقع أنني أجدني أميل بحذر إلى الاحتمال الأخير، وذلك لجملة من الأسباب، من بينها أن النوع الوحشي من حكم الشريعة الذي تفرضه “داعش” في المناطق السورية التي تسيطر عليها – مثل قطع الرؤوس وبتر الأطراف – أخذ على ما يبدو يثير مشاعر استياء قوية جداً بين السكان الذين يعيشون تحت لوائها الأسود. الماليون الإسلاميون كانت لديهم مشكلة مماثلة. ولعل من صعوبات إقامة “دولة إسلامية”، مثلما تتصورها المجموعات المتطرفة، أنها أماكن لا أحد يرغب في أن يعيش فيها.
ثم إن هناك أيضاً مؤشرات منذ بعض الوقت على أن “داعش” باتت منهَكة في سوريا، كما أن المناطق التي تسيطر عليها تتغير وغير محددة بشكل جيد. وعلاوة على ذلك، فإن التنظيم يخوض الآن حرباً على ثلاث جبهات ضد الحكومة العراقية، وقوات بشار الأسد، ومجموعات متمردة سورية أخرى. وهكذا، يمكن القول إن معارضة “داعش” هي قضية نادرة يستطيع زعماء الولايات المتحدة وإيران، بل وحتى “القاعدة”، الاتفاق عليها.
ومن جهة أخرى، ومثلما أفادت صحيفة “نيويورك تايمز”، فإن “داعش” ستزداد قوة الآن، حيث ستستعمل “المخزونات المالية للبنوك في الموصل، والمعدات العسكرية التي تم الاستيلاء عليها من قواعد الشرطة والجيش، وإطلاق سراح 2500 مقاتل من السجون المحلية من أجل تعزيز قدرتها المالية والعسكرية”. كما أن ثمة بعض الدلائل التي تفيد بأن الأسد اختار التساهل نسبياً مع المناطق السورية التي تسيطر عليها “داعش” في محاولة لزرع الانقسام وبث الفرقة بين المجموعات المتمردة. والواقع أنني لست مستعداً بعد لأعلن “داعش” دولة حقيقية، غير أنها أثبتت هذا الأسبوع أنه لا ينبغي الاستخفاف بها.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة “واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس”
الاتحاد
من يرسم مستقبل العرب: الإرهاب؟/ عبد الوهاب بدرخان
هل انهار الجيش والأمن العراقيان فعلاً أم أن مَن أمرهما بالانسحاب أراد فتح الطرق أمام «داعش»؟ وإذا كان الانهيار هو المرجَّح، فهل يحدث فجأة في عتمة الليل ومن دون إشارات مسبقة؟ أما إذا كان الانسحاب هو الأرجح، فهل نُفِّذ إعراباً عن أن مناطق في العراق لم تعد تعني جيشه وحكومته لأنها… سُنّية؟! وإذ صاح نوري المالكي ومعارضوه، كلٌ يوجّه أصبع الاتهام إلى الآخر، بأن هناك «مؤامرة»، فهل يتساوى الناكب والمنكوب؟ وكيف تقول دمشق إنها وبغداد تحاربان عدواً واحداً، يُفترض أنه «داعش»، مع أن هذا التنظيم لم يقاتل أبداً ضد النظام السوري. أما النظام العراقي فيحاربه شكلياً بيدٍ ويستخدم فعلياً بيد أخرى؟ وعلى أي نحو سيكون «الجيش الرديف» الذي يبحث عنه المالكي؟ وهل سيأتي به من عشائر أمكنه اختراقها أم من أهالي مناطق عانت طويلاً من عَنَته وتعصّبه أم أنه سيسحب جزءاً من الميليشيات الشيعية المقاتلة بإمرة الإيرانيين في سوريا؟ وأساساً لماذا فعل كل شيء، وهو «القائد العام للقوات المسلحة»، ليعدم الثقة بين الجيش والمواطنين، وهل يستقيم أصلاً أن يكون «القائد» في بلد متعدد المكوّنات منتدباً لتطبيق أجندة تخريبية لا يضاهيها سوى أجندة «داعش»؟
ليس في ما يحصل أي مصادفة، ولعل في تسمية «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، ما يشير إلى مشروعٍ «داعشي» لكنه في التفاصيل يتطابق مع مشروع إيراني. وفي أقل تقدير يعبّر عن أهداف بعيدة المدى تلتقي عندها أنظمة إيران والعراق وسوريا، بدليل أن كل تحركات «داعش» كانت ولا تزال بمثابة خدمات، لا يجني ثمارها سوى الأنظمة الثلاثة هذه. فعندما كان التنظيم لا يزال فرعاً لـ «القاعدة» جرى استخدامه إلى أقصى حدّ لجعل أيام الاحتلال الأميركي صعبة في العراق، وبواسطته قاومت دمشق وطهران كل النيات التي أعلنها الأميركيون للتدخل وتغير نظاميهما غداة سقوط نظام صدّام حسين. وعندما أصبح «الدولة الإسلامية في العراق»، راح يستهدف خصوصاً «صحوات العشائر» السُنّية وشبابها المقاتلين تعزيزاً للدولة العراقية، وسُجّل تراجع كبير لعملياته ضد الأميركيين بالتزامن مع بدايات نشوء التفاهم بينهم وبين الإيرانيين على «تقاسم النفوذ» في العراق. أما قرار دخوله سوريا وضمّه «الشام» إلى اسمه فجاء خصوصاً بعد اعتماد «جبهة النُصرة» كفرع لـ «القاعدة» إلا أن قادة «النصرة» اتخذوا منهجاً آخر، إذ انخرطوا في القتال ضد النظام، وقاوموا اختراقات عملائه الذين بادروا إلى عمليات تفجير استُنكرت دولياً على نطاق واسع، وأتاحت للنظام أن يركز دعايته على محاربة للإرهاب.
أما أين يلتقي المشروعان «الداعشي» والإيراني ففي أكثر من موضع. أولاً على المستوى إدارة الصراعات: فالطابع المذهبي ازداد بروزاً في الأزمتين السورية والعراقية، وفيما تولّت روسيا والصين لجم المجتمع الدولي بتخويفه بـ «الإرهاب الإسلامي»، أي «السُنّي» فحرمت المعارضة السورية من الدعم والتسليح جرى ضخّ «الداعشيين» إلى مناطق السُنّة لإرباك المعارضة وإشعال قتال سُنّي – سُنّي في مناطقها، وضرب أي آمال لها بالحصول على دعم عسكري يمكنها من الحفاظ على معادلة ميدانية متكافئة، ويمنحها بالتالي موقعاً تفاوضياً جيداً. أما في العراق فمع اتضاح فشل المالكي في معالجة الأزمة مع المحافظات السُنّية، وإصراره على تحقيق هدفين في آن (محاربة داعش وإخماد على الاحتجاجات السُنّية)، ورفضه كل الحلول السياسية التي اقتُرحت عليه من جانب واشنطن والعديد من الأطراف العراقية بمن فيها الشيعة، وسعيه إلى ولاية ثالثة في المنصب بقبول إيراني (رغم اعتراضات الشيعة الآخرين)… كل ذلك أدّى إلى ترجيح «معاقبة» السُنّة بترك «داعش» يتحرك لإنشاء «دولته».
أما المستوى الآخر لالتقاء المشروعين، فيتعلّق بتدشين فتح الخرائط لجولة أولى من «الحلول» المقترحة. وليست الذريعة هنا أن نظامي بشّار الأسد ونوري المالكي أفسدا الدولتين، بل إن الإرهاب – «السُنّي» – مصرّ على رسم مستقبل المنطقة العربية، وأن «داعش» (مع حاضنته الاجتماعية) يريد إقامة «دولته»، أي أنه هو من يبدأ عملياً مخطط التقسيم، فلا عجب في هذه الحال إذا تطلع نظاما الأسد والمالكي إلى «الحلول» المتاحة أمامهما، وطالما أنهما لم يبادرا إلى طرح التقسيم، إلا أنهما سيتعاملان مع «الأمر الواقع» الذي يفرضه الإرهابيون، أو بالأحرى ساعدا الإرهابيين على فرضه، وهذه «الدولة» الداعشية، إذا قدّر لها أن تقوم فعلاً، ستكون الفزّاعة التي ستستخدمها إيران وحلفاؤها لهزّ استقرار المنطقة وزعزعة خرائطها.
يحدث ذلك عشية بلوغ المفاوضات النووية محطة استراتيجية حسّاسة، فإما النجاح في التوصل إلى اتفاق، وإما الفشل وتأجيل التفاوض، وفي مختلف الأحوال تواصل إيران تلاعبها بمجرى الأحداث لتعيير حقائق ولخلق وقائع على الأرض. فهي تضغط بالملف السياسي لنيل تسهيلات في ملفها النووي، وإذا لم تنلها تكون ضاعفت الصعوبات في التفاوض على حدود نفوذها السياسي والعسكري في الإقليم.
الاتحاد
العراق في معمعة الهزيمة الثلاثية/ هلكوت حكيم
بالأمس كانت بقايا القيادات البعثية السابقة تدفع بمن يستمع اليها للانتشار في الشوارع والمطالبة بخروج المحتل الأميركي من البلاد. وما ان تمكنت، حتى حملت السلاح ضده وفتحت الأبواب امام كل من يريد ان يقتل جندياً اميركياً يؤدي خدمته العسكرية في العراق. فأتت بأولئك الذين تعودوا على سفك الدماء في كل مكان من دون اي حساب سوى زعزعة الأمن والاستقرار.
من لا يفهم موقف تلك القيادات وهي تعود اليوم تحت عباءة داعش، بحثاً عن مجد وسلطة فقدتهما حين انهار نظام صدام؟ كانت تلك القيادات وما زالت منسجمة مع ذاتها وواضحة في افكارها ونشاطاتها. فبالنسبة لها كان الأميركيون حقاً محتلين ولولاهم لما كانوا هم يفقدون سلطة تمتعوا بخيراتها طويلاً.
بالأمس كانت قيادات شيعية في العراق تدفع بحشود الناس الى الشوارع كي تطالب بمغادرة المحتل الأميركي. وتطورت الحال بها الى حمل السلاح ضد المحتل ورفع كأس الانتصار يوم غادر ارض العراق تاركاً لهم بلداً يحكمونه. ولو لم يأت المحتل الأميركي لكان شيعة العراق يئنون حتى هذه الساعة تحت حكم لا يرحمهم. فالمحتل الذي طردوه قدم لهم الحكم في بلد غني على طبق من ذهب. مع ذلك طلبوا منه، وبخط رئيس الوزراء نوري المالكي ولسانه، أن يخرج بعدما انجز عمله. اذ صاروا يعتبرونه عبئاً عليهم بما لديه من انتقادات تمنع عليهم الحكم من دون معارضة. كانوا آنذاك منسجمين مع انفسهم وأوفياء لإيران التي حضنتهم.
اليوم تطلب هذه القيادات ذاتها من المحتل المطرود ان يعود ليدافع عنها ضد «المؤامرة الداخلية والإقليمية» التي تحاك ضدها. فهل تندم على ما فقدت في السابق تجاه المحتل؟ المحتل بقي منسجماً مع نفسه في حين اخذت هي تتخبط في تناقضاتها.
المهزوم الأول في هذه المسرحية المأسوية التي تجري امام اعيننا هو نوري المالكي. اذ لم يتمكن منذ تسلم الحكم ان يهيء، وهو المنتصر، جواً للسنة العرب المهزومين يحسون فيه انهم لا يدفعون ثمن جميع جرائم نظام صدام حسين. الا ان حكومة المالكي لم تقم بأية محاولة في هذا المضمار.
فتصرف المالكي وكأنه لا يملك في نهاية المطاف نموذجاً للحكم غير نموذج صدام، حين بدأ يدير حكمه يوماً بعد يوم بشكل فردي ثم دكتاتوري خلق له اعداء حتى داخل طائفته الشيعية. ولم يكتف بسياسة معادية للسنة، بل بدأ يعادي الأكراد أيضاً وهم حلفاء الشيعة، قبل صدام وبعده. وقد وصل به الحال ان يذهب، في فورة الانتخابات البرلمانية اخيراً وبعد مقتل الصحافي العربي محمد بديوي على يد ضابط كردي من حرس الرئيس جلال الطالباني اثر شجار بينهما، الى مكان الحادث وينادي امام كاميرات التلفزيون بـ «الدم بالدم»، وأن يضيف بكثير من الافتخار بأنه «ولي الدم»، اي ولي الثأر، هو الذي وصل الى السلطة على رأس تحالف باسم «دولة القانون».
كان موقفه هذا وراء تصويت الأكراد بقوة لمثلي احزابهم رغم انتقاداتهم العنيفة لها بسبب الفساد المدمر المتفشي بينها. ولذا استطاعوا ان يكسبوا في البرلمان المنتخب قبل شهرين خمسة مقاعد مضافة على مقاعدهم في البرلمان السابق. فتصريحات المالكي التي اعتبروها مثيرة للحقد العربي على الأكراد اعادت الى ذاكرتهم صوراً سوداء من الماضي القريب.
والمهزوم الثاني هو الطائفة الشيعية التي اثبتت عدم امكانيتها إدارة بلد فيه من العناصر والمعتقدات ما لا يعد ولا يحصى. اذ لم يتمكنوا من مواكبة الأحداث وتفهم التعدد الديني والمذهبي بخاصة، فبقوا حبيسي أفكار تكونت عبر مئات سنين قمع خلالها العربُ السنة اخوانهم في الدين والعرق واللغة العربَ الشيعة. ولم تتمكن الطائفة الشيعية بل لم تحاول ان تعطي للعالم صورة اخرى عن نفسها غير التي توارثتها منذ الثورة الإيرانية. ودخل بعض قيادات الشيعة في عالم الفساد المالي الجارف في العراق. وهذا الفساد بالذات يفسر رفض العسكريين الشيعة دخول المواجهة ضد السنة وداعش. اذ يرون ان قياداتهم تغذيهم ليل نهار بالآيات القرآنية وأخبار الصحابة الأولين، في حين تثري نفسها بأموال الفساد على مسمع ومرآى الجميع.
أما الهزيمة الثالثة فتلحق بتلك الفكرة التي تقول وبكلمات رنانة ومؤثرة ان العراقين عرباً وأكراداً، شيعة وسنة، مسلمين ومسيحيين ويزيديين وصابئة، فقراء وأغنياء، لا يهدفون إلا ان يعيشوا معاً، لكن الشيطان الأميركي هو الذي يفرق بينهم كي يسود. ومرة أخرى أظهرت شعوب العراق ما يجيش في اعماقها من حقد على الآخر ورفض له. انهم لا يريدون ولا يتمكنون، بخاصة بعدما حدث، ان يتعايشوا بهدوء، جنباً الى جنب.
بالأمس كان الشيعة والأكراد ينتفضون طلباً لمعاملة احسن. اليوم ينتفض العرب السنة طلباً لمعاملة احسن وتقسيم اعدل للموارد التي تعودوا ان يستفردوا بها خلال ثمانين عاماً من عمر العراق. فهل يفهم الشيعة طلب السنة والبعثيين الذين لا يترددون في طلب عون مجرمي داعش. ام فات أوان الأمل؟
* أستاذ عراقي كردي في جامعة باريس
الحياة
حرب البعثين في العراق والشام/ ربيع بركات
«… وبهذا الصدد، ندعو أبناء شعبنا العراقي بكل أطيافه ومكوناته إلى التكاتف والتلاحم والثورة على ظلم وديكتاتورية الحكومة الطائفية الصفوية العميلة، ونقول لأهلنا وإخواننا من أبناء العشائر والفصائل المجاهدة في الأنبار، لستم وحدكم في ميدان المنازلة» (بيان عن الموقع الرسمي لـ«رجال جيش الطريقة النقشبندية» ـ 1/1/2014).
بعد بضعة أشهر من البيان المذكور أعلاه، في نيسان ٢٠١٤ تحديداً، طلب «جيش الطريقة النقشبندية» من مقاتليه الاستعداد لدخول العاصمة العراقية بغداد. والجماعة التي يقودها عزت الدوري، نائب الرئيس العراقي السابق صدام حسين، كانت قد تأسست العام 2007، وخاضت، شأنها شأن فصائل إسلامية عدة، بعضها سني وبعضها الآخر شيعي، مواجهات مع قوات الاحتلال. وقد اعتبر البعض هذه الجماعة أحد أبرز التحديات التي تواجه السلطة العراقية بعد الانسحاب الأميركي، نظراً لإفادتها من بقايا البنى التحتية لحزب «البعث» الذي حكم البلاد طوال خمسة وثلاثين عاماً. ففي أيار 2010 مثلاً، أي قبيل خروج القوات الأميركية من العراق، نقلت خدمة «نيويورك تايمز» لصحيفة «الشرق الأوسط» عن مصادر في الاستخبارات العسكرية الأميركية قولها إن «رجال الطريقة النقشبندية» يطرحون تهديداً لاستقرار البلاد على المدى الطويل يفوق تهديد تنظيم «القاعدة».
على أن الهجمة الأخيرة على مدن الشمال العراقي ووسطه جاءت بتدبير مجموعة فصائل، بحيث لا يمكن اختزال الصورة بفعل تنظيم من دون آخر، علماً أن متصدر الهجمة الذي يُنتظر أن يباشر عملية تصفية القوى الأخرى في حال طول أمد الأزمة، هو تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، «داعش».
وقد أثبت التنظيم فعاليته في السيطرة على الأرض، حيث شكلت مجموعاته قوات الصدم، أي طلائع المسلحين الذين أطلقوا عملية الاجتياح الواسع والمنسق مع عدد من ضباط الجيش، الذين أخلوا مراكزهم وأعطوا الأوامر بإلقاء السلاح. كما حصدت الجماعة جراء غزوة الموصل وحدها غنائم تقدر بنحو خمسمئة مليار دينار عراقي (أربعمئة وثلاثين مليون دولار) نقداً، فضلاً عن كميات ضخمة من الذخائر والأعتدة والآليات العسكرية.
وبالرغم من لعب «داعش» دوراً رئيسياً في مناطق سيطرة المسلحين، فإن ذلك لا يلغي حقيقة مفادها أن بعض أبرز ضباط هذا التنظيم هم من بقايا الجيش العراقي السابق، أي بعثيون سابقون، سلفيون حاليون.
وضباط الجيش السابق يمثلون العمود الفقري لمعظم التنظيمات المقاتلة في العراق. بعضهم حافظ على «بعثيته» (الولاء التنظيمي أكثر من أي شيء آخر)، فيما انفض بعضهم الآخر عنها تماماً وآثر الانضواء تحت مظلة أخرى. غير أن الصنفين على السواء، وجدا ملاذاً في جماعات ما دون الدولة بعد خروجهما منها. وقد اكتسب هذان النمطان زخماً مع سلوك حكومات ما بعد الاحتلال نهحاً إقصائياً، دفع جل ضحايا «اجتثاث البعث» إلى الارتماء في أحضان الجماعات الأهلية بتعريفها البدائي، فكان أن حمل بعضهم راية «السلفية الجهادية» (مثل «داعش» و«أنصار السنة» و«الجيش الإسلامي») وبعضهم الآخر عنوان «الإسلام الوسطي» (مثل «كتائب ثورة العشرين» و«جيش المجاهدين») فيما آثر ثالثهم البقاء تحت قيادة «البعث» بصيغة يصفها أنصاره بالـ«صوفية» («جيش الطريقة النقشبندية»).
والانتماء إلى الجماعات الأهلية بمعناها البدائي (الطائفي)، له صلة بسيرورة حزب «البعث» بشقيه العراقي والسوري، بمثل ما يتصل بقضية انهيار الدولة ومؤسساتها.
فقد كان «البعث» في العراق، نظرياً، جلباباً يتسع للأقلية العربية السنية في البلاد، ولقوى غير إسلامية في الوسط الشيعي الغالب ديموغرافياً، خصوصاً مع نمو الإسلام الحركي الشيعي بعد الثورة في إيران. وكان الأمر مشابهاً إلى حد بعيد في سوريا، حيث شكلت خيمة البعث ملاذاً لخصوم الإسلام الحركي السني، من «العلمانيين» السنة والأقليات على السواء، تحديداً بعد تمدد ظاهرة «الإخوان المسلمين» أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي.
بمعنى آخر، فقد شكل «البعث» في القـُطرين حلاً نظرياً (مع التشديد على الكلمة) لهواجس أقلوية، فيما هو اليوم يعكس هذه الهواجس بشكل فج، سواء عن طريق انخراطه في «الحراك السني» في العراق، أو تسويقه لحماية «الأقليات» في سوريا.
وقد بدأ الصراع بين البعثين، السوري والعراقي، تنظيمياً أكثر منه أي شيء آخر. فكان مطلعه بانفجار الخلاف بين القيادتين القطرية (العسكر) والقومية (المدنيين) لحزب «البعث» في سوريا، وبانقلاب العسكر على «القيادة القومية» المنتخبة العام 1966، واختفاء عدد من قياديي الحزب البارزين وهرب مؤسسه ميشال عفلق إلى لبنان فالبرازيل… قبل عودته راعياً رمزياً لحكم «البعث» في العراق.
ثم ما لبث أن انخرط الجناحان في معارك قاسية، ظهرت فيها الهواجس الطائفية التي يعبر عنها كل منهما بشكل أكثر وضوحاً. وتمثل أبرزها بدعم النظام العراقي جماعة «الإخوان المسلمين» في سوريا في صراعها على السلطة في الثمانينيات، بينما احتضن النظام السوري جماعات الإسلام الشيعي («الدعوة» و«المجلس الأعلى للثورة الإسلامية»…) التي خاضت حربها مع «بعث» العراق كامتداد لحرب إيران مع بغداد.
بيد أن اجتثاث الدولة ومؤسساتها في العراق، حشر بقايا «البعث» في زوايا الانتماء الطائفي، بشكل يفوق ما يحصل في سوريا راهناً، حيث حافظ شعار «الدولة» (في مقابل الفوضى أو «الإمارات الإسلامية») على قدر من الجاذبية التي تفسر، مثلاً، قتال قسم معتبر من السنة في مدينة حلب إلى جانب النظام في تشكيلات «لواء القدس» وكتائب البعث».
أما في العراق، فقد أخذ الاستقطاب الطائفي شكلاً أكثر رادكالية، والسبب هو انهيار الدولة بالذات. إذ إن تفكيك أجهزتها لم يسفر عن إعادة صياغة علاقات القوة في البلاد تلقائياً. وما زال عصياً على الفهم كيف ظن بعض «المثقفين» العرب أن الأمر وارد بمجرد حصول الفراغ، وأن شكلاً من أشكال الهندسة الاجتماعية ممكن بمجرد إسقاط قوالب نظرية حول الديموقراطية المفروضة قسراً، على ظروف مادية غريبة عنها.
لقد ظل إرث عقود حكم «البعث» الثلاثة مسيطراً على مناطق واسعة في العراق، خصوصاً في الوسط والشمال، أو في أوساط «العرب السنة». وكان نتاج تفكيك الدولة لجوء هذا «البعث» إلى ما دونها. وفي حالة «البعثين» المعنيين، يعني ذلك العودة إلى الهواجس الأصلية التي عبر عنها الجناحان، كل في بلده، بكثير من المواربة سابقاً.
…أما اليوم، فاتساع رقعة الحرب في عموم المشرق يوحي بأن حرب «البعثين» لم تنته قط. وحرب «البعثين» ما هي إلا شكل من أشكال «الحروب الأهلية القومية»، مع ذوبان الحدود الفاصلة بين القطرين، ومع انهيار الدولة الحاضنة لإحدى التجربتين، ووقوف التجرية الثانية بدولتها على حافة الانهيار.
السفير
فليرحمنا الأمريكيون من أكاذيبهم!
أبلغ مسؤولون في الإدارة الأمريكية نواباً في الكونغرس بأنهم سيقدمون قريباً طلباً للكونغرس من أجل تمويل «للعمليات الخارجية الطارئة» ضمن مشروع قانون اعتمادات دفاعية بقيمة 79.4 مليار دولار، وجسامة هذا الرقم، معطوفة على إرسال 275 عسكرياً إلى العراق، وتحريك سفينة حربية تقلّ 550 عنصراً من المارينز وطائرات مروحية الى الخليج، كلّها علامات تدلّ على ملامح انعطافة في سياسة أمريكا الشرق أوسطية.
بناء قرار خطير مؤسس على ردّ الفعل في سياسة الرئيس الأمريكي باراك أوباما الحالية بعد الهجوم المفاجئ الذي شنه تحالف قوى عسكرية وسياسية ودينية «سنّية» (على حدّ وصف وكالات الأنباء) على مدن الموصل ثم التقدم نحو تكريت والفلوجة وتلعفر تذكر بقرارات جورج بوش بعد غزو العراق عام 2003، وخصوصاً في المفاجأة التي حصلت بعد سقوط نظام صدام حسين والمتمثلة في أن الغزاة الأمريكيين لم تكن لديهم خطة للتعامل مع البلد، فكان أن تُرك آنذاك لبول بريمر والبطانة العراقية التي التفّت حوله ليعيدوا اختراعه.
على مدار السنوات الأربع الماضية التي شهدت ثورات الربيع العربي اكتفت الإدارة الأمريكية بأقل قدر ممكن من التدخّل، باستثناء مشاركتها الخجولة في العمليات العسكرية في ليبيا والتي تركتها تحت القيادة الأوروبية، وعرضها لعضلاتها العسكرية بعد قصف النظام السوري لأهالي غوطة دمشق بالسلاح الكيماوي، وباستثناء ذلك فقد اكتفت الإدارة الأمريكية مع خصومها المفترضين، بدبلوماسية القوة الناعمة، والعقوبات الاقتصادية، وبيع الكلام لبعض الدول العربية الخائفة من تقاربها المطرد مع إيران، واستمرار تغطيتها العملية لكل ما تفعله إسرائيل.
التحليل البسيط لمنطوق السياسة الأمريكية تحت إدارة أوباما يعتبر أنها تركز على إعلاء شأن المصلحة المحلية الأمريكية، بإعطاء الأولوية لتعزيز الاقتصاد والضمان الاجتماعي والطبي، والاستفادة من الدرسين الأفغاني والعراقي بالامتناع عن التورّط في حروب باهظة الثمن لا تؤدي إلى نتيجة غير زيادة الخراب والدمار حيثما حلّ اليانكي.
غير أن التفاجؤ الأمريكي بما حصل في العراق وردّة الفعل السريعة، نسبياً، للإدارة الأمريكية حول ما حصل فيه، كشفا هلهلة «عقيدة أوباما» هذه، والتي هي في النتيجة النهائية للأمور ليست أكثر بؤساً من عقيدة جورج بوش وحسب، بل هي ذيل وظلّ لها، لأنها أضافت الى تجاهل الكارثة العراقية التي سببتها سياسات جورج بوش، تجاهل الكارثة السورية التي سببتها سياسات باراك أوباما، وحريقها المشتعل في فلسطين ولبنان والأردن.
تنظيمات مثل «داعش» ليست إلا المولود المشوّه لزواج الوحشية العسكرية الأمريكية في العراق بأتباعها الصغار الذين تربّوا في حضن طهران وأخذوا عنها نموذج تلبيس السياسة بالدين.
بول بريمر، في لقاء له على راديو 4 البريطاني قبل أيام قدّم تفسيراً أكثر «عمقاً» لخطّة الإدارة الأمريكية التي طبقها في العراق، فقد اعتبر ما قام به ثورة قلبت نظاماً عمره ألف عام كانت السيطرة فيه للمسلمين السنّة في العراق، وهو قول جريء وصريح يوضح بشكل أفضل ما يقوله ويفعله الأمريكيون، فالتقارب المتسارع لفتح سفارات غربية في طهران والتنسيق الأمني معها، وتحريك أوباما للقطعات والوحدات العسكرية والتمويل الضخم لتدخل عسكري في العراق دون أن يذكر أحد كلمة «مجلس الأمن»، وكذلك حديث جون كيري أن أمريكا ستتدخل عندما تحصل مجازر… كل ذلك إذا تمّ تظهيره على الضوء الكاشف لكل سيناريوهات التسويف والتأجيل والتدقيق في الشأن السوري، وتجاهل المجازر المستمرة في كل أنحاء العالم ضد المسلمين وغيرهم، يأتي تصديقاً لقول «مؤسس العراق الحديث» حول خطته (؟) لقلب نظام تاريخي ساد ألف عام.
… إرحمونا إذن من مزاميركم عن نشر الديمقراطية والسلام والأمان، وكذلك عن ضرورة «أن يطمئن العراق جيرانه بأن الحرب ليست طائفية»، على حد قول جون كيري.
رأي القدس
“غزوة الموصل” ونبوءة غالبيرث السوداء/ عبد اللطيف السعدون
يذكر العضو في لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس سابقاً، والدبلوماسي الخبير في شؤون العراق، بيتر غالبيرث، في كتابه “نهاية العراق”، أن الأميركيين أقدموا على فعلٍ أحمق، باحتلالهم هذا البلد الذي أرادوا جعله نموذجاً، تحذو حذوه دول المنطقة في بناء الديمقراطية، فأورثوه العنف والفوضى وسفك الدماء، ودمّروا كل إمكانية فيه، لقيام دولة ناهضة ومعتبرة، وأنهم لن يجدوا أمامهم لاحقاً، لإنقاذه من السقوط في براثن الديكتاتورية، أو الحرب الأهلية، سوى تقسيمه إلى دويلات ثلاث: كردية في الشمال موالية للغرب، وشيعية في الجنوب موالية لإيران، وسنية في الوسط مبهمة الولاء، وتعمها الفوضى. ويضيف أن عراق المستقبل لن يظل، بأي حال، موحداً، تجمعه مصالح وطنية عليا، إذ لابد له من التفكك، على غرار ما تم فعله مع يوغوسلافيا السابقة التي يصفها المؤلف بأنها “مثل العراق، متعددة المذاهب والطوائف والأعراق، لكنها فقدت استعدادها للعيش معاً، تحت سقف واحد”!
ويبدو أننا، اليوم، وبعد بضع سنوات على نبوءة غالبيرث السوداء، نجد أنفسنا أمام هذه الحقيقة المرعبة التي أوصلنا إليها الزلزال المدمر الذي واجهه العراق عام 2003، والذي لم يكن الهدف منه، بحسب فيتالي شوركين، ممثل روسيا الدائم في مجلس الأمن، “إسقاط نظام ديكتاتوري، وإنما تغيير نظام الدولة العراقية الذي كان قائماً طوال ألف عام”، وقد فجر هذا الزلزال أوضاعاً، وبدل أحوالاً، ليس على صعيده فحسب، إنما على صعيد الإقليم كله، والعالم أيضا، ولسوء طالع العراق، وهو منشأ الحضارات ومؤسس الدول ومقيم العمران، بحسب توصيف المؤرخين له، أن الخراب بدأ عنده وعليه، وعصر الخرائط الجديدة وتفكيك الدول شرع يحفر بصماته على أرضه، مرةً بإرادة أشخاص وقوى منظورة، ومراراً بفعل أقدار ومصائر مبهمة، لا رادّ لها!
وينبئ العصف الماثل أمامنا اليوم في سماء العراق والمنطقة، والذي صنعته “غزوة الموصل”، بما هو أشد هولاً، بعدما تحولت هذه “الغزوة” إلى مصيدةٍ، تشابكت خيوطها، إلى درجة أنك لا تستطيع أن تفرز خيطها الأبيض من الأسود.
” تحولت مدن وحواضر عراقية إلى حواضن لتيارات وقوى مشبوهة، وجدت فرصتها في الدخول إلى المجتمع، مستغلة مشاعر النقمة والغضب، ومثيرةً الحس الطائفي والإثني لدى هذا الطرف أو ذاك، وفي رعاية قوى دولية وإقليمية، لها مصلحة في تغيير الخرائط الجغرافية، وخبرة في تأسيس الدول الجديدة وتفكيك المجتمعات، واللعب على التناقضات”
وبالطبع، شرعنت تجربة الأعوام الأحد عشر الماضية في العراق الفساد، وكرست الخراب، وأسست لدولة المحاصصة الطائفية، في عملية سياسية مشبوهة، ودستور سلب حقوق مجموعات وشرائح واسعة من العراقيين، مورست ضدهم سياسات التهميش والإقصاء، جذّرت الشعور بالغبن والاستهداف، وأحدثت ردود أفعال بدت، في أحيان كثيرة، لاعقلانية وغير منضبطة، وتصاعد هذا الشعور بقوة، وعلى نحو حاد، في ظل ولايتي نوري المالكي الذي سعى إلى إعادة إنتاج الديكتاتورية في شخصه، ولم يقدم على أي مبادرة، تفتح الطريق أمام إرساء دعائم السلم الاجتماعي، وتزيل الشعور بالتهميش والغبن، وتساوي بين أبناء الوطن الواحد في الحقوق والواجبات، بل عمل، وبتعمد واضح، عكس ذلك، دافعاً بالاحتقان إلى مداه الأعلى، ومن دون أي إحساس بالمسؤولية الوطنية، وحتى المسؤولية الدينية التي زعم أنه يراعيها.
وفي ظل وضع معقدٍ وزاخرٍ بالأفعال غير المسؤولة، وردود الأفعال المماثلة لها كهذا الوضع، تحولت مدن وحواضر عراقية إلى حواضن لتيارات وقوى مشبوهة، وجدت فرصتها في الدخول إلى المجتمع، مستغلة مشاعر النقمة والغضب، ومثيرةً الحس الطائفي والإثني لدى هذا الطرف أو ذاك، وفي رعاية قوى دولية وإقليمية، لها مصلحة في تغيير الخرائط الجغرافية، وخبرة في تأسيس الدول الجديدة وتفكيك المجتمعات، واللعب على التناقضات.
وهكذا فوجئ الجميع، وبينهم لاعبون أساسيون، بغزوة الموصل التي أوجدت واقعاً جديداً، لكنه واقع محسوب، جرى التمهيد له بدقة، ونفذت صفحته الأولى بنجاح، وبدا لرجال الحكمة والعقل ضرورة التعامل مع الواقع الجديد بعناية وحذر، من خلال إدراك المخاطر التي يمكن أن يفرزها على صعيد وحدة العراق وأمن المنطقة، وكان من الممكن أن تتخلى الطبقة السياسية الحاكمة عن أنانيتها وعنجهيتها لمصلحة الوطن، ولو مرة واحدة، وأن تعمل باتجاه دفع المالكي إلى الاستقالة، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني، تأخذ على عاتقها تأسيس عملية سياسيةٍ عابرة للطوائف والإثنيات، وإجراء مصالحة وطنية حقيقية، إلا أنها تصرفت من خلال الجيشان العاطفي وردود الأفعال غير المحسوبة، وأدخلت البلاد في نذر حرب أهليةٍ، لا تستثني أحداً، وسوف نعرف أن الفتاوى الدينية، من مراجع وشيوخ الطائفتين، لعبت دوراً شريراً في إثارة الأحقاد، وتأليب الطوائف بعضها على بعض، وبدا أن هذا الدور مرسوم لها بعناية أيضا!
قبل ذلك وبعده، ظهر أن الخاسر الأكبر هو العراق الوطن، والشعب الذي كان حلمه منذ تأسيس دولته الحديثة في عشرينيات القرن المنصرم، إنضاج هوية وطنية موحدة (بكسر الحاء وفتحه أيضاً)، وقد سقط هذا الحلم، اليوم، وتناثر وسط هذا الهيجان المتصاعد والتوترات الطائفية الحادة وغيرالمسبوقة.
وبكل مرارة، نشعر أن الطريق نحو الخلاص من النكبة الجديدة يبدو منغلقاً إلى حد القرف، وتلوح في الأفق سيناريو نبوءة غالبيرث السوداء أقرب إلى التحقق، ولا نملك إلا أن نطلق حسراتنا على وطنٍ أضعناه، قبل أن يضيعنا، وهو الوطن نفسه الذي وصفه المسعودي في “مروج الذهب” بأنه “منار الشرق وسرة الأرض وقلبها، (والذي) إليه تحدرت المياه، وبه اتصلت النضارة، وعنده وقف الاعتدال”، (وهو) “المجتبى من قديم الزمن، ومفتاح الشرق، ومسلك النور، ومسرح العينين، ومدينة المدائن”. …ولسوف يلعننا التاريخ إن أنصف في تقييمنا!
العربي الجديد
قبل العشائر والدواعش/ عدلي صادق
منذ لحظة تنفيذ حكم الإعدام شنقاً، في الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، مع صلاة الفجر في عَرَفة، وقُبيل بدء مناسك الحج (30/1/2006)، عُلم أن رئيس الحكومة، نوري المالكي، بدأ في إيقاع الشرخ الكبير، بين الشيعة والسنة في العراق. هو الذي أمر بالتنفيذ، وكان التوقيت مستهجَناً، وذا دلالات مُهينة، حتى للمواطن البسيط في أي بلد عربي، فضلاً عن أعضاء نادي الحاكمين في العالم العربي. فالأميركيون أنفسهم، الذين سلموه لأعدائه، استنكروا توقيت الإعدام وطريقته، وكانت تلك علامة فارقة، أقل ما دلت عليه، أنهم تلقوا الرسالة المفزعة: لن يكون العراق هو ذلك البلد الذي أردتموه بعد صدام حسين!
قبلها، كان نوري المالكي يطرح نفسه شيعياً عراقياً عروبياً. وهذا توصيف سمعته شخصياً من الرئيس جلال الطالباني، في حديث معه في بوخارست. ربما كان “مام جلال” أنشأ انطباعه على حقيقتين ليستا كافيتين، بالضرورة، لتأسيس هكذا انطباع. الأولى أن سورية كانت ملجأ المالكي، مثلما كانت ملجأ الطالباني، والثانية أن المالكي، وهو يعارض النظام العراقي، قيادياً في حزب الدعوة الإسلامية لم يُطق الملجأ الإيراني، لأن الإيرانيين لا يستوعبون عربياً لا يتبعهم مائة في المائة، ولا يرضون بأقل من احتلال روحه. لذا، اختار المالكي موقعه وفقاً لضرورة الحفاظ على الخصوصية العراقية، وعلى العمق العربي الذي أفاد جماعته وطائفته. كان ذلك عندما انشقّ الحزب إلى فئتين، واحدة تتماهى كلياً مع إيران وتدخل في أنساق قواته التي تقاتل الجيش العراقي، والأخرى تؤيد إيران، من دون أن تفعل ذلك.
لم تطرأ على ذهن “مام جلال” حقيقتان أخريان، هما أن أحزاب العراقيين، قومية أو يسارية أو أصولية، لا تنفي أن يكون إنسانها مغمّساً بروحٍ قبليّةٍ تراعي تراتبية الدم وصنوفه في المخيال ــ العشائري ــ الطائفي. فقد كان صدام حسين يقاتل إيران بجيش أغلبه من الشيعة، وهؤلاء كانوا يقاتلون بحماسة. أما الحقيقة الثانية، فهي أن نظام الأسد، وكلما كان الأمر يتعلق بإيران أو بطائفته هو، لن يكون إلا حصان طروادة داخل فكرة العروبة وثقافتها.
لم يستطع المالكي أن يخالف طبيعته، وميله المخبوء إلى التمكين المطلق لطائفته في العراق. وبمفاعيل السلوك الذي أبدته مراكز السلطة من حوله، بدأ الأصوليون من العراقيين الشيعة، المبتهجين بالغلبة التي انعقدت لهم، يتحدثون علناً عن تميزهم، وعن عرقهم “السامي”، ولم يعد مستغرباً أن يسأل واحدهم عن رجلٍ يمرّ ويطرح السلام، فيقول لصاحبه:”هل هذا من السادة، أم من العامة؟”. وفي ظل حكم نوري المالكي، استمر واستشرس، الانقضاض على اللاجئين الفلسطينيين في العراق، لأنهم من أهل السُنّة، ولا عشائر لهم، ويسهل استباحة دمهم. ولمّا لاذ الناجون بالفرار، احتبسهم النظام السوري على الحدود، في أقسى بقاع الصحراء الموحشة. استوعبت دمشق نحو مليون عراقي، لكنها ضاقت ببضعة ألوف من الفلسطينيين الفارين. في محل إقامتي في الهند، سمعت من 82 عائلة أوصلتها الدروب إلى نيودلهي، كيف ضحّت الأسرة، بما تملك، لكي تبتاع جواز سفر عراقي مزور، بأسماء شيعية، لكي تدخل إلى سورية وتنجو. أطفال ماتوا لانعدام الطبابة والأمصال، ونساء قضين في أثناء الولادة في الفيافي. وقال لي واحد من هؤلاء إنهم في دمشق كانوا يحتبسون أطفالهم، لكيلا يكتشف عسس النظام السوري فلسطينيّتهم من اللهجة ومنحى الكلام!
في برقية أميركية مسربة ضمن “ويكيليكس”، نُقل عن العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز قوله لديك تشيني نائب الرئيس بوش: “لا أثق في هذا الرجل، ولن أستطيع العمل معه، فهو عميل إيراني. فبُعيد أن تسلم منصبه، أعطاني قائمة مكتوبة بالتعهدات على نفسه، لكي ينجز مصالحة داخلية في العراق، لكنه لم ينفذ أياً منها”! كان ذلك طبيعياً، لأن الرجل لم يكن بصدد العمل على إنجاز مشروع وطني ديموقراطي في العراق، وكانت تلك هي المصيبة، قبل أن تشتدّ سواعد العشائر والدواعش
العربي الجديد
للبراءة من “داعش”/ حسام كنفاني
أحداث العراق تخطف أضواء العالم. هذا ما تظهره المتابعة اليومية للصحف ومحطات التلفزة الأجنبية. لكن لهذا العالم رؤياه التي قد لا تتطابق كلياً مع واقع الحال العراقي، وتداعيات سنوات طويلة من الحكم الفئوي والإقصائي. رواية العالم، المدعمة بقصر نظر الكثير من الإعلام العربي، تتمحور حول عنوان واحد لا ثاني له: “داعش” يزحف على العراق والمنطقة.
هذه الرواية لم تأت من فراغ. هي حقيقة موجودة على أرض الواقع، غير أنها ليست الحقيقة الكاملة. هي جزء، قد يكون صغيراً أو كبيراً، من حراك عمره سنوات، تفجّر في النهاية معارك دموية، وانهياراً مفاجئاً ومريباً لقوات الجيش العراقي النظامي أمام جموع المسلحين من “داعش” وغيره من القوى العشائرية، التي كانت تقاتل الحملة العسكرية لجيش العراق في الأنبار.
كلام قد يكون غائباً عن المشهد الإعلامي، المكون لرأي عام سياسي واجتماعي مستعد لقبول رواية رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، الذي لم يحظ بهذا الكم من التضامن الغربي منذ اطلاقه العملية العسكرية في الأنبار. تضامن ودعم كان المالكي يسعى اليهما جاهداً، وهو الذي استنفد كل المحاولات لحسم المعركة عسكرياً، فكان لا بد له من فتح الباب امام تدخل خارجي، غربي وايراني، لانهاء ما لم تستطع قواته القيام به.
قد يكون هذا المنطق جزءاً من تفسير خلفيات انهيار القوات العراقية، وتمدد المسلحين، القليلين نسبياً، في مناطق أوسع جغرافياً. تمدد من شأنه عسكرياً ان يشتت هذه القوات، ويضعف سيطرتها على المناطق التي سقطت في أيديها، ما يجعل عملية السيطرة عليها أسهل نسبياً.
من المؤكد ان للمالكي هدفاً آخر من حملته وهروب قواته، اذ تمكن من اعادة شد العصب الطائفي حول حكمه ورئاسته مجدداً لحكومة العراق بعد الانتخابات. هدفاً تحقق جزئياً عبر فتوى المرجع، علي السيستاني، بالتجند لقتال المسلحين والوقوف الى جانب المالكي في معركته، بعدما كان الى الامس القريب من اشد المطالبين باطاحة رئيس الحكومة من منصبه. الامر نفسه بالنسبة الى مقتدى الصدر، الذي خاض معارك سياسية عنيفة لاستبدال المالكي، غير انه اليوم بات في صفه، في إطار ما روج له رئيس الحكومة العراقية بأنه خطر يتهدد الطائفة.
المالكي، على هذا الأساس، نجح في تحقيق جزء من أهدافه. لكن ماذا عن الطرف المقابل، والاهداف التي خاض حملته من أجلها. أي مكاسب حقق من التحالف مع “داعش”، في ظل الحملة التي يقودها المالكي لشيطنة كل من يقاتل حكومته، بغض النظر عن اي خلفيات. حملة مستندة الى أسس وممارسات وانتهاكات بدأت ترتكب على خلفيات طائفية وسياسية.
لا يكفي انتقاد الرواية الغربية القاصرة عن رؤية المشهد كاملاً، ولا تكفي الإشارة إلى أن “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” ليس جزءاً من المكون القتالي في الأراضي العراقية. كلام لا يصد سيل الصور والتقارير الواردة من العراق عن إعدامات ميدانية هنا أو انتهاكات هناك، طالما لم تقترن بأفعال أو أقوال حقيقة تجنّب المقاتلين العراقيين، الذين يرون في حراكهم انتفاضة على مسار التهميش الطويل، تكرار السيناريو الذي نجح النظام السوري في تطبيقه، وها هو المالكي يستنسخه بحرفيته.
النظام السوري تمكن، في ظل غياب المعارضة اعلامياً وتلهيها وانقسامها سياسياً، من تسويق فكرة أنه يقاتل مجموعات من “الإرهابيين الدمويين”، وساعدته في ذلك مجموعة من التسجيلات المصورة لإعدامات جماعية او فردية، أو انتهاكات بحق أفراد أو مجموعات، ما جعل الغرب متردداً في تقديم اي مساعدة للمعارضة السورية، فيما راجت أصوات تدعو الى الابقاء على النظام باعتباره ضمانة قتالية في وجه “المد الارهابي”.
الأمر نفسه على وشك التكرر في العراق، وإن بصورة أسوأ، بعدما بات التدخل الغربي مباشراً الى جانب المالكي، مع مباركة الدخول الإيراني على الأرض في “معركة مشتركة” مع الغرب. كل ذلك، والطرف الآخر لم يتدارك بعد مآلات الامور، فلا بيان واضحاً صدر عن العشائر ومجلسها لإيضاح صورة الحراك العسكري وأبعاده، ولا موقف صارماً اتخذ تجاه “داعش” والتحالف معه. موقف لا يجب ان يكون أقل من البراءة من هذا التنظيم، وخصوصاً أن هؤلاء العراقيين أنفسهم جربوا بالسابق التحالف مع “القاعدة”، وكانوا أول الضحايا.
كيف بنى “داعش” امبراطوريته المالية؟/ موناليزا فريحة
خلال يومين، قلب تنظيم “داعش” ميزان القوى في العراق. قوّض هيبة الجيش وخلخل حكم نوري المالكي. أتاح للأكراد السيطرة على كركوك، وأعاد اشعال الجبهات الطائفية، مهددا الخريطة الجيوسياسية للمنطقة برمتها. غزوه المدوي فاجأ مسؤولين أميركيين وعراقيين على السواء، إلا أنه بدا لخبراء تتويجا لاستراتيجية بدأها “تنظيم الدولة الاسلامية في العراق” عام 2006 وثابر خلفه عليها، وخصوصا منذ الانسحاب الاميركي من العراق.
من سياسة التهميش التي اعتمدها المالكي حيال السنة، مرورا بسياساته الامنية وسيطرته على مفاصل الحكم، وصولا الى النزاع السوري والتقارب الايراني – الاميركي، بدت كلها عوامل هيأت الاجواء لضربة “داعش”. غير أن هذا الفصيل الاسلامي المنشق عن “القاعدة” الأم كان بدوره أكثر طموحا وفاعلية مما تصورت واشنطن عندما كانت تنهي تورطها في العراق.
واجه الجهاديون السنّة هزيمة قوية على أيدي القبائل التي انضمت الى القوات الاميركية، مما اضطرهم الى الانسحاب من غرب العراق الى مناطق حول الموصل. لكن هؤلاء بدأوا ينتعشون تدريجا بعد انتهاء الانسحاب الاميركي في نهاية 2011. وعرفوا لاحقا كيف يستغلون الاستياء الواسع بين العراقيين السنة وخصوصا من سياسات المالكي، وتحالفوا مع جماعات سنية مسلحة أخرى، مثل البعثيين السابقين وميليشيات قبلية أخرى، وحّدها العداء لحكام بغداد.
وشكل نشوب الحرب في سوريا فرصة لانطلاقة جديدة لهؤلاء الجهاديين. وعلى حد تعبير الباحث الاميركي بريان فيشمان، إن “داعش غزا سوريا من الموصل قبل وقت طويل من غزوه الموصل من سوريا”.
تعلّم “داعش” من تجربته في العراق معتمدا استراتيجية مختلفة في سوريا. هنا ركز على الاستيلاء على مناطق تخسرها القوات السورية ويعجز “الجيش السوري الحر” عن السيطرة عليها تماما. تجنب المواجهات المباشرة مع قوات النظام مقللا الخسائر البشرية والمادية في صفوفه. وطوال العام الماضي كثرت التقارير الاستخبارية عن تدفقات مالية ضخمة اليه من حقول النفط التي سيطر عليها اواخر 2012، وأعاد بيع بعض منها للنظام السوري. ولم تكن وارداته أقل من تهريبه غنائم الحرب على أنواعها، بما فيها القطع الاثرية التي لا تقدر بثمن. هكذا في أقل من ثلاث سنوات تحول “داعش” من حفنة من العصابات الى المجموعة الارهابية ربما الاكثر ثراء وقوة حول العالم.
قبل غزو الموصل كشفت وثائق ضبطتها القوات العراقية لدى رئيس المجلس العسكري لـ”داعش” ان حجم ثروة التنظيم تقدر بـ875 مليون دولار. ولكن بعد حربه الخاطفة واستيلائه على أموال مصارف ثانية كبرى المدن العراقية ومعدات عسكرية متطورة وأجهزة اتصالات معقدة، أضاف التنظيم بسهولة الى ثروته بحسب “الغارديان” 1,5 مليار دولار. ومع أكثر من ملياري دولار، لا شك في ان التنظيم “باق وسيتمدد” (كما في شعاره) بمساندة جهات خارجية أو من دونها.
النهار
تقاعس أميركا أحيا “داعش”؟/ راجح الخوري
بعد سقوط صدام حسين واتخاذ بول بريمر “القرار المؤامرة” بحل الجيش، ما أسس للفوضى العراقية منذ ذلك الحين، ارتفع شعار “اجتثاث البعث” الذي تحوّل منطلقاً لسياسة غبية مورست ضد مناطق بعينها، وأدت الى ظهور تنظيمات إرهابية عجزت عنها القوات الاميركية، التي شكّلت فرقاً من العشائر السنيّة سمّيت “الصحوات” تمكنت من السيطرة على الموقف في مناطق الوسط السني.
مع خروج الاميركيين تغوَّل نوري المالكي في احتكار السلطة فألغى “الصحوات” وتمادى في سياسة الاجتثاث على خلفية بدت كأنها تنطلق من استهدافات مذهبية، ومنذ اعوام لم يهدأ الوضع واستمر الاضطراب الامني الذي انفجر اخيراً مهدداً بحرب مذهبية طاحنة في العراق والمنطقة كلها!
كانت “داعش” فصيلاً ارهابياً محدوداً في الأنبار، ولا يغالي طوني بلير عندما يقول ان “الصحوات” وضعت “داعش” خارج اللعبة، ولكن تقاعس اميركا والغرب عن وقف المذبحة المتمادية في سوريا ادى الى اعادة احيائها وتقويتها، وان ما يجري في العراق مخطط له من داخل سوريا وانه “في كل مرة نصرف النظر عن اتخاذ قرار ما نجبر لاحقاً على اتخاذ اجراء اكثر خطورة”!
هذا الكلام موجّه الى الادارة الاميركية التي ارسلت حاملة طائرات الى المنطقة وتستعد لإجراء مفاوضات مع ايران، التي ارسلت بدورها مقاتلين لدعم الجيش العراقي المنهار، وهو ما يعمّق الخوف من اشتعال الفتنة المذهبية الشاملة بين السنّة والشيعة، وخصوصاً وسط التعامي عن حقيقة ما جرى في الموصل ونينوى!
ذلك ان “داعش”، وفق تقارير بعثة الاتحاد الاوروبي للعلاقات مع العراق، ووفق محافظ الموصل أثيل النجيفي وشيخ عشائر الدليم علي الحاتم، لا تساوي اكثر من ٣٠ في المئة من القوى المسلحة التي انتفضت على حكومة المالكي، والتي تتألف من عشرة تنظيمات هي:
جماعة التوحيد “داعش” – جيش النقشبندية عزت الدوري – كتائب ثورة العشرين حارث الضاري – الجيش الاسلامي ضباط مبعدون – الجبهة الاسلامية الاخوان المسلمون – جيش المجاهدين عشائر ابو جندل الشامي – انصار السنّة ابو عبدالله الحسن بن محمود – انصار الاسلام أكراد نجم الدين فرج الملاّ كريكار – جيش محمد أنصار صدام – جيش سعد بن وقّاص ضباط وعسكريون مجتثّون!
البعثة الاوروبية وشيوخ العشائر يتحدثون عن انتفاضة شعبية ضد المالكي لا عن هجوم ارهابي يقوم به متوحشو “داعش” وحدهم، كما يصوّر المالكي وطهران الوضع لكسب الرأي العام، ورئيس البعثة آسترون استيونسن يقول ان ازاحة المالكي من منصبه وتشكيل حكومة موقتة وطنية وغير مذهبية، ووقف التدخل الايراني الذي حرك ويحرك المالكي، هو الحل الوحيد والضروري، الذي تؤيده قطاعات واسعة بمن فيها قيادات شيعية مهمة في العراق… وإلا ستشعل الفتنة المنطقة!
النهار
حتى لا نُلدغ من جُحر “داعش”/ تركي الدخيل
مرّت سنوات كان الإرهاب فيها معروفاً بالسلوك والفكر، التفجير والتنظير، ومن ثم تحديد الخطاب والهدف. تجدد الإرهاب تبعاً للموجات التي خاضها والمعارك التي باشرها، منذ الأفغان العرب وصولاً إلى تأسيس “القاعدة”، والآن ينتج الفصيل الأخطر، تنظيم دولة العراق والشام (داعش)، وهو تنظيم كارثي خطير، لأنه يعتمد على الفوضى الشاملة والاستباحة المطلقة، لا شيء يردعه.
لم يعد “القاعدة” منافساً لـ”داعش”، بل تجاوزه الأخير بالقوة والسلاح والمال، إذ يستنزف من النظامين السوري والعراقي أموالاً و”غنائم” يعيش عليها. ولدى “داعش” قدرة على التجني بدليل أن العشرات من الخليجيين يُقتلون أسبوعياً، يُعلن قتلهم عبر معرفاتٍ في “تويتر” من القاتلين هناك، فالأزمة أعمق مما نتخيل!
الإرهاب له طفرات ويتحول ويتغير ويتجدد ما لم يضرب الفكر، ووزير الداخلية السعودية الراحل الأمير نايف بن عبدالعزيز ممن حذّروا من هذه التنظيمات بالعراق منذ وقت مبكر، كان يتحدث عن خطورة هذه التنظيمات على السعودية منذ عام 2007، حين بلغت الأصولية ذروتها والإرهاب قمته. الحديث عن “داعش” بالعراق يجب أن يكون واضحاً، هذا التنظيم له مآربه ومخططاته ضد السعودية وضد الخليج، ولا نستبعد أن يتم ترحيل بعضهم إلى هذه الدول في ظل التغاضي والدعم الذي يلقاه التنظيم من دولٍ إقليمية.
سألني صديق عن التفريق بين “داعش” العراق، و”داعش” سورية، فقلت له: “كلاهما يغرفان من بحر تطرفٍ ووحشية واحد، والمنتمون إلى داعش يرون دولنا في الخليج دولاً كافرة وغير شرعية، ولو تمكنوا لنقلوا حربهم إلى بلادنا”.
أن تضخم عدوَّك خير لك من أن تحتقره ثم ينقض عليك، هذه الصيغة الداعشية ليست ذات مشروعٍ محدد، ولا تريد أن تقاتل الأميركان والصليبيين “خطاب القاعدة الأول”، ولا أن تضرب هذه الحكومة أو تلك، بل شعارهم “الزحف الدائم” إلى كل مكان، أياً كان هذا المكان، هم في دوران مستمر وسيرٍ طويل لا هدف لديهم إلا تحقيق حلم “الدولة الإسلامية” وهي دولة العراق والشام.
ولو تصفحنا الذين كان لهم مواقف ضد هذا التنظيم من “الدعاة” لوجدناهم أندر من النادر، لأن التماهي بين التنظيم الإخواني والداعشي ليس سراً، فالجوامع كثيرة منها: تنفيذ الحاكمية، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وسحق الطغاة من وجهة نظرهم، وغزو المستعمر الأحمر كما هو المستعمر الأسمر، يضربون من دون تأملٍ أو فحص أو تحليل، القتل غاية لا وسيلة، هذا هو تنظيم داعش.
إنها الفوضى العارمة التي يمكن أن تنجرّ، وأتمنى على دول الخليج التحفز الأقصى والتحصين الأعلى والبدء ببرامج أمنية مكثفة والتركيز على الحدود لئلا تخترق هذه الدول، حينها ننتصر على التنظيم الداعشي كما انتصرنا على التنظيم القاعدي، وأتمنى أن لا نُلدغ من ذات الجُحر مرتين.
الجريدة
الأميركيون بين خيارين في العراق/ عبد الرحمن الراشد
ليست الإدارة الأميركية هي الوحيدة المحتارة والمترددة في كيفية التعامل مع أزمة العراق الخطيرة الجديدة في المنطقة. فالجميع في حيرة، ينتظرون ما ستفرزه المواجهات التي تلبس أشكالا مختلفة، فيها من خصائص الربيع العربي بانقضاضها على النظام السياسي الفاشل، وفيها الاصطفاف الطائفي السني الشيعي، وتسلل الإرهاب من الحرب في سوريا. في هذه الأزمة، حيث إن الوقت من دم، مطلوب تحقيق المتناقضين الاثنين، التأني والاستعجال، الفهم العميق والتحرك السريع!لذا، نأمل ألا ترتكب إدارة الرئيس باراك أوباما نفس الخطأ في سوريا، بالتعامل بلا مبالاة، وترك الأحداث تكبر لتقرر بنفسها مصير المنطقة، فتسمح للفوضى بأن تهدد المنطقة والعالم. وعسى ألا تسير في خطى إدارة جورج بوش السابقة باستعجال الحل الأمني العسكري وتقديمه على المصالحة بين مكونات العراق بعد الغزو.
بإمكان الحكومة الأميركية مساندة حكومة نوري المالكي عسكريا ضد خليط العشائر والبعثيين والثائرين والإرهابيين، لكنها لن تحقق انتصارا ساحقا، بل ستعمق الجراح وتعقد القضية، خاصة في شأن مواجهة «داعش» و«القاعدة». فالوحيدون القادرون على مواجهة الإرهابيين هم السنة، لأنهم يوجدون في مناطقهم، ويتحدثون لغتهم، وهذا ما يجعل الحل السياسي يمثل الفرصة الوحيدة للسيطرة على الوضع، والاتفاق على ملاحقة «داعش» و«القاعدة».
لقد كان على الأرض، للولايات المتحدة، في العراق مائة وثلاثون ألف جندي، مع هذا لم تتمكن من السيطرة نتيجة لفشلها في استنباط حل سياسي. وها هي القصة تتكرر من جديد، الغاضبون من تهميشهم، مع الجماعات المتطرفة، انقضوا على حكومة طائفية يريد المالكي استمرارها بعد الانتخابات بشكل صريح، وبسبب هذه المعادلة المختلة يمكن أن تستمر الفوضى والحرب، ربما لعقد أو عقدين، بلا منتصر أو مهزوم، التي لن ينجح أي طرف داخلي أو خارجي في لجمها.
لا حل إلا الحل السياسي الشامل، والفرصة متاحة جدا اليوم، ومن دونها سيصبح العراق حالة سورية مكررة، والأرجح سيكون الاقتتال أكثر عنفا. وقد يذكرنا البعض بأن الحل السياسي قد فشل في سوريا، فكيف ينجح في العراق؟ السبب أننا في بداية الأزمة، وبخلاف سوريا، يوجد في العراق نظام حكم ديمقراطي عادل، لكن يوجد حاكم ديكتاتور ظالم. وبالتالي توجد مرجعية سياسية معتبرة تحتاج إلى حكم جديد يقدم المصالحة واسعة، وينهي الاعتقالات والملاحقات.
ومشكلة معظم المنتفضين هي ضد المالكي وحكومته، تحديدا، وليست ضد بقية القوى السياسية، مما يسهل التفاوض وتقريب وجهات النظر. أما المالكي فمتحمس فقط لفرض الحل الأمني، لأن هدفه الأخير من تجييش العواطف الطائفية، وحثه إيران والولايات المتحدة على دعمه عسكريا، ونقل اللوم على السعودية، هو البقاء في الحكم. وهو شخصيا، يلام على أزمة اليوم، بسبب فشله السياسي حيث لم يسع على مدى سنوات حكمه، ولا مرة واحدة، لتحقيق المصالحة بين السنة والشيعة وبقية مكونات البلاد. بل نكل بخصومه، واستمر يلاحق قادتهم وممثليهم! فقد اختطف النظام السياسي، واستولى على كل صلاحيات الدولة في السنوات الأربع الماضية، لتكون نتيجتها فضيحة الهزيمة العسكرية التي يتهرب منها، ويلقيها على أكتاف القادة العسكريين، متناسيا أنه ليس فقط القائد الأعلى للقوات المسلحة، بل نصب نفسه وزير الدفاع ومسؤول الأمن والاستخبارات أيضا!
الشرق الأوسط
هل أصبح تنظيم «داعش» الآن جارنا في الجنوب؟/ آيلين كوجامان
يتغير الوضع في العراق كل ساعة، أو يمكن القول كل دقيقة. وبينما أكتب هذا المقال، تتقدم «داعش» في مناطق رئيسة في العراق، كما أنها لا تزال تحتجز الرهائن الدبلوماسيين الأتراك. دعونا نلقِ نظرة على الأحداث من داخل تركيا. فإذا تم الاستيلاء على السفارة أو القنصلية التابعة لك في إحدى الدول، وأُخذ من بداخلها رهائن، فإن هذا الأمر يعد بموجب القانون الدولي إعلانا للحرب. وفي الحالة التركية، تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) في الأمر؛ إذ تندرج مثل تلك الحالات تحت أحكام المادة 5 الخاصة بحلف الناتو، التي تضفي الشرعية على شن هجوم مباشر.
فقد جرى شن هجوم على القنصلية التابعة لتركيا في العراق، وقام الناتو بعقد اجتماع استثنائي، ولكن لم تجرِ مناقشة ما وقع من أحداث بموجب المادة 5؛ فتركيا لا نواجه دولة أخرى، بل تنظيما متطرفا يشن حرب عصابات. وذكرت أنقره: «ننظر في إجراء حل دبلوماسي»، الأمر الذي أثار دهشة الجميع، «فهل يمكن أن يكون هناك حل دبلوماسي مع إحدى المنظمات المتطرفة؟» نعم، من الممكن، كما سيتضح من التالي.
في البداية، دعونا نتساءل عن السبب وراء استهداف القنصلية التركية:
فلنعُد إلى الوراء، إلى الأسبوع الذي سبق استيلاء «داعش» على الموصل، عندما وقعت بعض الأمور المتعلقة بتركيا. ويمكن إيجاز ذلك في الآتي:
1. خصص الرئيس الأميركي أوباما مبلغ قدره خمسة مليارات دولار من أجل محاربة المتطرفين. وكانت تتحول هذه الأموال، بالأساس، إلى الدول التي تستضيف اللاجئين السوريين، وتحاول التعامل مع «الإرهابيين» على حدودهم، ومن أمثلة تلك الدول العراق، ولبنان، والأردن، وتركيا.
2. أدرجت تركيا جبهة النصرة على لائحة المنظمات الإرهابية.
3. أعلن فرانسيس ريتشاردوني، السفير الأميركي لدى تركيا، عن التعاون في مجال الأمن القومي ما بين تركيا والولايات المتحدة، ولا سيما بشأن سوريا.
4. زيارة الرئيس الإيراني روحاني إلى أنقرة.
بدأ كل شيء مع الاجتماع رفيع المستوى الذي عُقد بين أجهزة المخابرات التركية والأميركية في شهر فبراير (شباط)؛ حيث فُرضت شروط وأوضاع مختلفة على عمليات التفتيش في نقاط العبور من الحدود السورية، كما أُدرجت جبهة النصرة على لائحة المنظمات الإرهابية.
مع تبني تركيا سياسة «الباب المفتوح» حيال اللاجئين السوريين، أوضحت الأدلة انعدام الأمن على طول الحدود مع سوريا بطول 911 كيلومترا. وحسب ما ذكره الكاتب التركي مراد يتكين، عقب انعقاد ذلك الاجتماع، بدأت الاستخبارات التركية تتلقى معلومات من أجهزة الاستخبارات الغربية بشأن احتمالية عبور الميليشيات للحدود، وبدأ بذل الجهود من أجل منع الميليشيات من العبور عبر الحدود.
قد تكون معارضا للجماعات المتطرفة من الناحية الآيديولوجية، ولكن إذا كنت مسؤولا عن تقديم المساعدة للناس في سوريا الذي يواجهون ظروف شاقة، أو مسؤولا عن الحدود، وضمان توفير الأمن، لذا سوف يتعين عليك أن يكون لديك تواصل مع تلك الجماعات المتطرفة الموجودة على الحدود، بشكل أو بآخر. عندما سيطرت «داعش» على القنصلية التركية، ومن بداخلها، لم يخفِ المتحدث باسم الحكومة التركية حقيقة وجود تواصل مع تلك الجماعات، ولذا يعد التوصل إلى «حل سياسي» أمرا ممكنا. كانت تركيا تعد بمثابة باب مفتوح للميليشيات للعبور من خلاله؛ إذ إنه لم يكن من السهل تحديد من الذي ينتمي أو لا ينتمي لإحدى الميليشيات، ولكن منذ تكثيف التعاون مع الناتو، أصبح هذا الطريق مسدودا أمام الميليشيات، الأمر الذي – من دون شك – جعل «داعش» تشعر بالاستياء الشديد. ولكن لم تكن هذه بمثابة المشكلة الوحيدة، فمن يراقب ما تقوم به «داعش» في سوريا يلاحظ أنهم سيطروا عموما على المناطق الغنية بالنفط؛ حيث نجد مدينة الرقة، التي تقع تحت سيطرة «داعش» في سوريا، تعد غنية بالنفط، كما تعد قرية دير الزور بمثابة البوابة للعراق؛ حيث تحتوي مدينتا الفلوجة والرمادي في العراق أيضا على آبار نفطية مهمة. وأخيرا، تمتلك الموصل احتياطات ضخمة قادرة على تلبية احتياجات النفط في أوروبا لمدة 300 عام، ولذا نحن بحاجة إلى إضافة هذه المناطق الغنية بالنفط إلى أهداف «داعش» الآيديولوجية.وليس من قبيل المصادقة أن تتزامن كل تلك الأحداث مع بدء ضخ البترول في شمال العراق إلى تركيا، فالطاقة تعد هي السبب الرئيس وراء الحروب التي نشهدها اليوم، حتى إذا انضمت المنظمات المتطرفة إلى تلك الحروب.
وفي ذلك الوقت، دخلت زيارة روحاني إلى تركيا في المعادلة. ويبدو أن «داعش» لا تفضل إقامة علاقات جيدة مع إيران الشيعية. إيران تفتح معامل تكرير النفط الخاصة بها أمام العالم عبر تركيا، وهذا يعد بمثابة أحد العوامل المهمة في بعد الطاقة المتعلق بالمشكلة. فبالنسبة لـ«داعش» فإن سماح إيران، الأكثر قوة، للغرب بالدخول عبر تركيا في الوقت الذي خُففت فيه العقوبات المفروضة عليها ينم عن تعزيز مكانة الشيعة والتحالف بين المالكي وروحاني، و«داعش» ليست سعيدة على الإطلاق لرؤية تركيا السنية تلعب دورا فعالا في ذلك الأمر. يعد استهداف «داعش» للقنصلية التركية بمثابة تحذير لتركيا، وعلى الجانب الآخر، فإن الهجوم المضاد سيكون خطأ؛ حيث يوجد أشخاص هناك يؤيدون المقاومة السنية، حتى ولو كانت مقاومة متطرفة، نظرا للصراع الطائفي الذي جلبته إدارة بوش أثناء حرب العراق، والذي رسخه حكم المالكي المعيب. في تلك الأراضي، يواجه السنة والأكراد والتركمان اضطهادا إلى حد كبير، ولكن تدمير تلك الأراضي بالتعاون مع «داعش» لا يمثل حلا للمشكلة.
هناك حاجة لتدخل تركيا في الموصل، وفقا لاتفاقية أنقرة عام 1926، كما أن تركيا تتمتع بالقوة والنفوذ الثقافي الكافي بما يمكنها من كبح جماح الصراعات الطائفية. و«داعش» هي جماعة متطرفة؟ يتعين على تركيا أن تستخدم نفوذها السياسي من أجل تصحيح ذلك، وتركيا هي الدولة التي بمقدورها القيام بذلك.
الشرق الأوسط
“داعش” … قصة لا تنتهي!/ طارق الهاشمي
ثورة المظلومين والمهمشين في الموصل وراءها تنظيم «داعش»! هكذا يروج الإعلام هذه الأيام … وكذلك الذين تصدوا للتهجير المنهجي في ديالى هم أعضاء في تنظيم «داعش»!، وهذا التحليل يسري على احداث صلاح الدين وكركوك وبغداد، وقد سبق اتهام عشائرنا الثائرة في الأنبار بأنها الوجه الآخر لـ «داعش»! وحتى تكتمل فصول الرواية لا بد من الادعاء بأن قوات نوري المالكي على درجة عالية من المهنية القتالية والصدقية فهي (كما يدعي الإعلام الرسمي العراقي) لا تقاتل الا فصائل «داعش»، ولا تقصف الا مواقع «داعش»، وأقرب دليل على ذلك هو قصف صالة طوارئ مستشفى الفلوجة ليلة الرابع من حزيران (يونيو) الجاري التي ذهب ضحيتها ثلاثون شخصاً وجرح ما يزيد على سبعين غالبيتهم مرضى وأطباء وإداريون، (هذا مثال صارخ على أهداف نوري المالكي في حربه المزعومة ضد «داعش»). لا نعجب لذلك، فقد هاجمت قواته فجر 23 نيسان (ابريل) ٢٠١٣ المعتصمين في الحويجة وقتلت خمسين وجرحت مئتين وخمسين. لم تعثر وحدات جيش المالكي في ساحة الاعتصام الا على عصي خشبية، رغم ان الإعلام الرسمي كان يروج على مدى أشهر بأن المعتصمين السلميين ماهم الا إرهابيون مسلحون بأسلحة ثقيلة وينتسبون لتنظيمات «داعش»، والقصص في هذا المجال كثيرة وهذا غيض من فيض.
تنظيمات «القاعدة» و»داعش» غير مرحب بها ورغم ذلك فهي موجودة فعلاً في العراق ومحاضنها عشائرية مختلفة كما انها موجودة وناشطة في دول اخرى ايضاً، هذه حقيقة. ان اعضاء هذه التنظيمات من العرب السنّة لكنها لا تمثلهم وهي ليست وحدها في الميدان، وتنشط كما تنشط فصائل مسلحة اخرى وشاركت بفعالية في معركة الموصل الأخيرة كما هي موجودة بكثافة في الفلوجة، والاعتراض ليس على حقيقة وجودها بل ينصب على تجاهل قوى اخرى مع تضخيم قوة وفعالية هذه التنظيمات بشكل متعمد، والغرض لفت انتباه العالم وهو متحسس جداً من تنامي ظاهرة الإرهاب بهدف خطف الأضواء وتحويل الانتباه، اذ بدل ان ينصرف العالم الى التحري عن سبب غضب العرب السنّة والتعاطي مع ثورتهم المشروعة وتحميل نوري المالكي كامل المسؤولية بسبب سياساته التراكمية الكارثية في التمييز والإقصاء والظلم، فإن العالم ينشغل بدل ذلك بتهديد مزعوم هو تهديد «داعش». وهكذا كلما ارتفع رصيد «داعش» إعلامياً خفت صوت مظلومي السنّة وهذا هو المقصود، اولاً وأخيراً.
هذه المقاربة الخبيثة التي يتلاعب بها الإعلام بالعقول وينقلب فيها الضحية الى جزار والمظلوم الى ظالم مقصودة اذ ليس من شأنها فقط تحرير نوري المالكي من اية ضغوط للاستقالة او الاستجابة للمطالب المشروعة للعرب السنّة او للتخلي عن المطالبة بولاية ثالثة، بل من شأنها ان تستدرج المغفلين او المدفوعين بالهوس الطائفي في الداخل والخارج وتغريهم بالاصطفاف مع المالكي وهو بأمس الحاجة الى ذلك حيث يعيش اضعف أيامه سياسياً.
قصة «داعش» رواية لا تنتهي، سبقتها قصة «القاعدة»، حيث وظفها سياسيون من الصفويين الجدد وعلى رأسهم نوري المالكي في التطهير العرقي، وفي قطع الأعناق وفق قانون ٤ ارهاب، او قطع الأرزاق وفق قانون المساءلة والعدالة، وجميع اعمال القتل والإعدامات والتهجير الطائفي ومصادرة المساجد، واغتصاب النساء، واعتقال الشباب، والتضييق المتواصل الذي حرم العربي السنّي ابسط متطلبات العيش بكرامة – وهو يتعرض لذلك منذ سنوات – وهو ما يرقى إلى ان يكون تطهيراً عرقياً، ليس جديداً، بل هو سياسة منهجية دأب عليها حزب «الدعوة» والمتحالفون معه من اجل اجتثاث العرب السنّة ابتداء من حكومة ابراهيم الجعفري عام ٢٠٠٥ وحتى هذه اللحظة. لقد اغتالت ميليشيات شيعية في يوم واحد الف شخص من السنّة بينهم الكثير من أئمة المساجد والخطباء وكان افراد هذه الميليشيات يرتدون بدلات سوداء هي نفس ملابس «داعش» و»القاعدة» وأحرقتوا منازل وهجروا 1500 عائلة في بغداد عشية الهجمات التي طاولت المرقدين العسكريين الشريفين في سامراء في 22 شباط (فبراير) ٢٠٠٦، والذريعة «القصاص من متشددين سنّة وإرهابيين»! رغم ان ايران وليس متشددي العرب السنّة كانت وراء التفجيرات كما أعلن الجنرال كيسي لاحقاً.
في كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١ وفي اليوم التالي لمغادرة آخر جندي أميركي مقاتل ارض العراق استهدف نوري المالكي نائب الرئيس العراقي بتهم مفبركة وأصدر عليه قضاؤه المسيس ستة احكام بالإعدام والتهم نفسها «ارهاب» وهي نفس التهمة التي تلاحق تنظيمات «داعش» و»القاعدة». في ضوء ذلك لم يعد في العراق الجديد اي معنى ان تكون وسطياً او معتدلاً، لأنك في نهاية المطاف متهم بالإرهاب، ليس بالضرورة لأنك تورطت في عمل او نشاط إرهابي بل لأنك تنتسب لمكون متهم جميع أفراده بالإرهاب – باستثناء من يرضى عنه المالكي او تزكيه دولة ولاية الفقيه – بمعنى ان تكون سنياً اذن انت إرهابي، وهنا أتوقف عند مذكرات كونداليزا رايس عندما نبهت نوري المالكي الى امتعاض العرب السنّة لأنه يستبعد أولادهم من الجيش والأجهزة الأمنية، فأجابها بكل وقاحة «انا لا أطيق العرب السنّة ولا اثق بهم». هكذا وضع نوري المالكي خطاً احمر على جميع افراد المكون، وعلى أساس هذه النظرة يدير المالكي ملف العرب السنّة. الإرهاب ذريعة يوظفها المالكي ويتنصل من خلالها من التزاماته الدستورية والسياسية والأخلاقية كرئيس لوزراء العراق يفترض به ان يمثل العراقيين جميعاً من دون تفريق او تمييز. وهو ليس كذلك بالتأكيد.
لم يسلم نائب الرئيس العراقي من هذه التهمة، ولم يشفع له سجله في المشاركة المبكرة في العملية السياسية التي ثبت الآن انها وظفت من اجل التمكين لمكونات بعينها وهمّشت مكونات اخرى مثل العرب السنّة والتركمان وأقليات اخرى، كما لم تشفع له خسارته لثلاثة من اخوته تم اغتيالهم عام 2006 بسبب ذلك، كما لم يشفع للعرب السنّة وقفة عشائرهم الشجاعة في ملاحقة وتطهير مناطقهم عام ٢٠٠٨ من تنظيم «القاعدة»، وهذا هو نوري المالكي يكافئ تلك العشائر بعدوان عسكري على الأنبار مضى عليه ستة أشهر والعالم كله يتفرج ولا يحرك ساكناً.
لائحة الاتهام لا تتوقف ويبدو ان «داعش» قصة لا تنتهي. لكني أحب ان انوه وأقول بمنتهى الصراحة والوضوح ان الدوائر القلقة من تنامي ظاهرة الإرهاب ونحن نشاطرها ذات القلق يمكنها معالجة الأمر بأقل مايمكن من التضحيات، ان تكون موضوعية وتنفتح على الجميع وعليها ان تتحرك بسرعة اذ ان الوقت ينفد وكلما تجاهل المجتمع الدولي معاناة العرب السنّة – كما حصل حتى الآن – تفاقم الوضع وتوسعت شريحة المتشددين المؤمنين بالعنف، ونصيحتي لمن يعنيهم الأمر ان يعيدوا النظر في موقفهم والفرصة لا زالت متاحة.
* نائب الرئيس العراقي المستقيل
الحياة
عواصم المخيمات… عربية/ زهير قصيباتي
عكس كل ضجيج الانتصارات الذي هوّل به حلفاء إيران في المنطقة العربية، وحين ينزلق العراق إلى مسار الخراب السوري، يمسك محور الممانعة بخريطة من نار: مزيد من القتل والدمار، والمآسي، والتشرد، وبين كل ذلك تتمدد عواصم المخيمات، العربية.
إيران في قفص المفاوضات النووية، ما زالت تقاوم من يرفضون مشاريعها وهيمنتها، تقاوم بدماء عربية! ومع حبل «داعش» على عنق نظام نوري المالكي، يلوّح الرئيس الإيراني «المعتدل» حسن روحاني بأفواج إيرانيين يتطوعون للقتال دفاعاً عن المراقد الشيعية و «للقضاء على الإرهابيين».
ومثلما في سورية قتل عراقيون وإيرانيون ولبنانيون سوريين «إرهابيين»، يستعد إيرانيون لقتل عراقيين «إرهابيين».
قبل سقوط الموصل وتكريت في أيدي المسلحين المعارضين للاستبداد في العراق، الذين اقتاد المالكي كثيرين من ذويهم الى مقصلة الإعدامات وسجون التعذيب السريّة، تناوبت بغداد وطهران على أدوار في تضليلٍ يأسر سنّة العراق جميعاً في رداء الإرهاب. على مدى شهور طويلة تظاهر عشرات الألوف منهم مطالبين بإنصافهم. أما ردود المالكي فمعروفة.
ولا يستطيع رئيس الوزراء بعد فضيحة سقوط الموصل وتكريت والتي يسمّيها بتواضع «نكسة»، أن يقنع أحداً بأن جيوش «داعش» أخذته على حين غرة وهو مطمئن نائم على حرير سطوته، تحت مظلة المرشد علي خامنئي… لا «داعش» بعثية ولا بقايا «البعث» هم كل السنّة في العراق الذين عاملهم جيش المالكي كأنه قوة احتلال، وهرب قادته من دون مواجهة مع «الإرهاب»!
من وقائع فيينا، حيث يحاور الأميركي الإيراني بوصف الثاني راعياً لنظام المالكي، ان تقترح واشنطن استبدال رئيس الوزراء وطي الأزمة. وبعدما أبدت استعداداً للتعاون مع حكومة روحاني في «مكافحة الإرهاب» في العراق، تحدث وزير الخزانة الأميركي عن اقتناع إدارة الرئيس باراك أوباما بتورط طهران في تمويل الإرهاب. وهكذا يسعى أوباما الى استراتيجية «خلاّقة»، فيضغط على المرشد و «الحرس الثوري» ليكفّرا عن الإرهاب بملاحقة «داعش»، والعشائر السنّية في العراق!وإنصافاً للرئيس الأميركي الذي ما زالت إدارته متهمة باستكمال برنامج المحافظين الجدد والثأر لـ 11 أيلول (سبتمبر) عبر تدمير المنطقة العربية بحروب الجيوش الجوّالة وفروع «القاعدة» التي تقاتل بالأصالة، والوكالة ربما عن أجهزة استخبارات لا تُحصى… إنصافاً لأوباما، قد يجوز القول بنظرية إدارة «الذكاء الناعم»، فهو يعرف العلّة ومَنْ يموّل الإرهاب ومَنْ يرعى الإرهاب (ألم تكن إيران ولا تزال على رأس الدول الراعية له، في القوائم الأميركية). ويدرك ان الخلاص النهائي لإسرائيل لا يكون فقط بنزع الأسنان الكيماوية لنظام بشار الأسد، ولا الأسنان النووية للنظام الإيراني الذي يريد دور الراعي الإقليمي لإدارة كل منطقة الخليج والشرق الأوسط.
لذلك، ومثلما جرّ الرئيس الأميركي المتردد طهران إلى قفص المفاوضات النووية، بعد تشديد حبل العقوبات، فباتت تلهث لبلوغ الحل النهائي، ما الذي يحول دون رهانه على توريط المرشد و «الحرس الثوري» في وحول العراق ودمائه؟
قد تكون تلك أمنية لدى كثيرين في المنطقة، عاصروا بعد الخميني، عهد الوصاية الإيرانية على قضايا العرب، ونتائجه: تدمير قضية فلسطين، تدمير الوحدة الوطنية اللبنانية ومؤسسات الدولة، زرع بذور شرذمة اليمن، تحريض المعارضة البحرينية، توريط «الإخوان المسلمين» بشبهة التآمر مع طهران، مصادرة قرار بغداد، ورعاية الإبادة الجماعية في سورية.
بين الوقائع ايضاً، مجرد تساؤل عن الذين أجّجوا النار المذهبية في المنطقة، وصوّروا السنّة جميعاً إرهابيين هدفهم الانقضاض على الشيعة وتدمير أماكنهم الدينية. ولا يحتاج إلى جواب إدراك ممارسات نظام المالكي مع كل معارض له، ومع كل السنّة بعدما وصمهم في العراق بشبهة «البعث».
الأهم اليوم، أن مَنْ أراد تتويج نفسه حاكماً أبدياً مستظلاً بالمعركة ضد «الإرهاب»، يحشر نفسه في هواجس صفقة أميركية- إيرانية. واشنطن تظن ان مجرد استبداله سيحل الأزمة المستعصية ويعيد لملمة أشلاء حصص العراق، أما طهران ففي ربع الساعة الأخير لن تقايض نفوذها في بلاد الرافدين بسحر المالكي وسطوته.
والمضحك المبكي ان قادة العراق الذين اجتمعوا مع المالكي واتفقوا على نبذ اللغة «الطائفية»، يبدون كمن يحاول إنقاذ حصته في السلطة. فلا الموصل خانعة ولا تكريت مضطهدة بجريرة صدام حسين، ولا كركوك تحت السلطة المركزية للمحاصصة الغبية.
تغيّر الأكراد، اقتنصوا اللحظة التاريخية لشدة «تعاطف» المالكي مع حق تقرير مصيرهم. وإن اكتمل رسم حدود الإقليم الكردستاني في شمال العراق، ألا يحق للسنّة إقليم؟ تلك كانت مبادرة نقلها الأكراد إلى طهران، فباتت محور مفاوضات إيرانية- أميركية، ولا غرابة إن تحمّست قيادة خامنئي فظنّت أن التعاون مع واشنطن سيتمخّض عن وصاية على سنّة العراق وإقليمهم!
دون ذلك عقبات هائلة، ترجّح خيار ترك واشنطن الإيرانيين في مستنقع حرب طائفية- مذهبية لاستنزافهم. وما دامت الدماء من المنطقة، أي مشكلةٍ للغرب… تدمير سورية وقضية فلسطين ووحدة أبنائها، وعوارض المذهبية في لبنان، تعفي إسرائيل خمسين سنة من القلق على أمنها. تفتيت العراق، وإنهاء وهم الرعاية الإيرانية لأمن المنطقة ووهم مقايضة الأميركيين، يريحان الغرب وإسرائيل، حتماً لعشرات السنين.
بعد ثلاثة عقود من «الانتصارات» الإيرانية كأس فصل مرير يبدأ في بغداد، وينتهي في طهران… تنتظر مَنْ يتجرّعها.
الحياة
فتح خرائط التقسيم» خدمة أخيرة من «داعش» لإيران/ عبدالوهاب بدرخان
فشل نوري المالكي، كما فشل بشار الأسد، في إدارة التعدّد الطائفي في بلديهما، ولم يتمكّنا في المنعطف التاريخي الصعب من تغليب المشروع الوطني على الأجندة المذهبية. يُنسب اليهما هذا الإخفاق الفادح لأنهما في موقع القرار والمسؤولية، عسكرياً وأمنياً وسياسياً، وسنحت لهما كل الفرص لمدّ اليدّ الى جميع مكوّنات شعبيهما، لكنهما فضّلا المشروع الإيراني: إمّا الحكم بالإخضاع، أو الذهاب الى تقطيع أوصال البلدين العربيين حتى لو اقتضى الأمر إشعال فتنة سُنّية – شيعية، وحتى لو تطلّب التوسّل بالإرهاب والإرهابيين.
طوال عامين ونيّف لم يرتكب تنظيم «داعش» أي خطأ يمكن أن يربك نظامَي دمشق وطهران، بل كانت تجربتهما معه شاملة المكاسب، فهو «الفزاعة» التي تبعد أي تدخل اميركي، وهو الاشتباه الذي يلوّث سمعة المعارضة ويرشّح فصائلها الجهادية أو «التكفيرية» (وفقاً للمصطلح المفضل لدى الإيرانيين) للوائح الإرهاب الغربية. ورغم أن «داعش» كان مزعجاً لنظام بغداد إلا أنها تعايشت مع تفجيراته، لأنه مفيد أيضاً في وصم محافظات السُنّة بالتطرف والإرهاب لتبرير عدم النظر في مطالبها وللتشهير بأقطابها وإقصائهم فلا يبقى سوى المدعو «أبو بكر البغدادي» زعيماً أوحد لها. لكن في الهجوم على الموصل بدا كما لو أن «داعش» انقلب على الدور المُعطى له. هل هذه هي «الخدعة» التي تحدث عنها المالكي ولم تكن في حساب قاسم سليماني؟ الجواب: قصف طيران النظام السوري، للمرّة الأولى، مواقع «داعش» في الرقّة والحسكة.
في النهاية كان «القاعدة» كرة ملتهبة تراكلها نظاما دمشق وطهران لتسجيل أهداف غداة «مونديال» الغزو الأميركي الذي أسقط نظام صدّام حسين واستشعارهما بأن واشنطن تطوّقهما من كل الجهات وتبيّت أيضاً لتغييرهما. وبعدما زال الخطر باشر الأميركيون والإيرانيون اتصالات علنية وسرّية لتقاسم النفوذ في العراق، وتزامن ذلك مع انكماش «الحاضنة السُنّية» للتنظيم وولادة «صحوات العشائر» السنّية التي أجبرته على الإنكفاء وساعدت في الإيقاع بالعديد من عناصره اعتقالاً أو تصفيةً. لكن المالكي كافأ «الصحوات» بالاستغناء عن معظم أفرادها ولم يهتمْ بدعوات ملحة من الأميركيين عام 2008 لتعزيز التحسن الأمني بالشروع في عملية للمصالحة الوطنية، فكان أن عاد «القاعدة» مجدداً، وقد أصبح «داعش»، وراح يستهدف خصوصاً السُنّة الذين سبق أن قاتلوا ضدّه.
في نهاية العام 2012 وقع المالكي في الأزمة المستمرّة بعدما أنجز استعداء المحافظات السُنّية التي بدأت اعتصاماتها الاحتجاجية وحافظت على سلميّتها طويلاً رغم الاستفزازات. وفي منتصف ذلك العام كانت عوارض الانهيار بدت على النظام السوري مع اندلاع معركتَي دمشق وحلب. في هذه الظروف تولّت ايران ربط الأزمتين وإدارتهما، وبموازاة الاطمئنان الى صلابة الموقف العسكري للمالكي داخلياً استلزم التخطيط لتغيير موازين القوى في سورية تجنيد «حزب الله» وميليشيات عراقية، كما تطلّب في الوقت نفسه العودة الى استخدام ورقة «داعش» في سيناريوين متشابهين: «دعشنة» مناطق المعارضتين السورية والعراقية لإفساد قضيتهما، وهو ما حصل. فحتى التطوّر الأخير في الموصل، ورغم أنه حمل ملامح «انتفاضة شعبية»، ارتكب الخطأ المحسوب ايرانياً، فمن يمشي وراء «داعش» سيخسر بلا شك.
لا تخلو السياسة الإيرانية من ملامح سخرية، سوداء وعدوانية طبعاً وتطبّعاً، من الخصوم والحلفاء، ومن الأعداء المفترضين دولياً، فهي تمضي في حراكها، أو بالأحرى في تخريبها، والآخرون جالسون في مقاعد المتفرّجين. وها هي «تقترح» الآن، بعبثية كاملة، أن «داعش» الساعي الى «دولة اسلامية» يصلح للاستخدام بغية افتتاح مسلسل التقسيم في العراق كما في سورية. أليس اسمه «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، ألم يحذّر أهل الموصل من مواصلة تسميته «داعش» مفضّلاً أن يُشار اليها اختصاراً باسم «الدولة»، ألا يحلم بربط نينوى والأنبار بصلاح الدين وديالى شرقاً وبدير الزور والرقة فحلب وحماه وإدلب غرباً؟
بعد اجتياح نينوى لازم اسم «داعش» الشاشات، وبدا جمهور عربي كبير حائراً لا يعرف ماذا يجري: «داعش مع مين بالظبط»؟! فهو مع الأسد في سورية وضدّ المالكي في العراق ومع ايران في البلدين. في بغداد كادوا يبثّون الخبر كـ «بشرى سارة»، فالجيش انهار لكن «التماسك» الحكومي والسياسي استمر. لم يكن هناك انهيار بل انسحاب. وفي النهاية تبيّن أن هذا الجيش الذي صُرفت عليه مئات بلايين الدولارات هو جيش نوري المالكي وليس جيش العراق وكلّ ما اهتم به هو حماية مرقدَي الإمامين الهادي والعسكري في سامراء. كانت قوات صدّام حسين أُذلت وهي تتقهقر من الكويت نحو العراق، وكان إعلام النظام يصدح بـ «انتصاراته». قوات صدّام انهارت تحت نيران تحالف دولي وفي غير أرضها، فهل كانت قوات المالكي هي الأخرى في أرض غريبة؟
صدّقوا أو لا تصدّقوا: استطاعت «داعش» أن تستغفل الجنرال قاسم سليماني، حتى أنه وهو الذي يتحدّث عن العراق (وسورية ولبنان) باعتباره الحاكم الفعلي لم يتلقَّ أي اشارة الى وهن أصاب القوات الحكومية، بل «انهارت» من دون أن تستأذنه، والواقع أنها انسحبت بإيحاءٍ إنْ لم يكن بأمر منه. وفيما يقاتل عشرات الآلاف العراقيين في سورية الى جانب النظام لم يصدف أن وُضعوا في مواجهة مع مقاتلي «داعش» الذين قال المالكي إنه في صدد سحقهم، فكيف يكونون «حلفاء» في سورية و»أعداء» في العراق. تلك هي عبقرية سليماني، المصنِّع الحقيقي لتنظيم «داعش» ومهندس عملياته. لكنه لم يقدّر، على ما يبدو، أن التحوّلات في المحافظات السُنّية يمكن أن تؤدي الى «تحالف الضرورة» بين «جيش النقشبندية» (فلول صدّام) و»داعش» ومجموعات عشائرية مسلحة سئمت أو يئست من «حكم سليماني – المالكي».
نتيجتان لما حدث ويحدث: الأولى، الأفضل أن يقاتل السُنّة بعضهم بعضاً في مناطقهم لئلا يدخلها جيش الشيعة لمقاتلة السُنّة فيقال عندئذ إنها حرب مذهبية. كان المالكي يصرّ على دخول الجيش لكن لكسر الاحتجاجات السُنّية أولاً ثم لضرب «داعش»، ولما مُنع راح يقلّد الأسد فيقصف المدن والبلدات من بعيد، وأحياناً بالمروحيات، بل هدّد أحد ضباطه بالبراميل، وكانت الحصيلة في الأسبوعين الأخيرين أكثر من عشرين ضحية من المدنيين يومياً، ما أتاح لـ «داعش» أن تقود ما وصف بأنه «انتفاضة شعبية» سنّية. أما المحاولة الأكثر «سخريةً» فهي استنجاد المالكي بالولايات المتحدة بالتزامن مع اعلان طهران استعدادها لمؤازرة الأميركيين في الحرب على الإرهاب. في سورية، كانت التجربة أكثر اثارة، اذ لم تؤدِّ فقط الى قتالٍ سُنّي («داعش») – سُنّي («الجيش الحر») بل الى حرب «القاعدة» («داعش») ضد «القاعدة» («جبهة النُصرة»)، والأهم أن سورية الغارقة في حال أفغنة على صوملة على عرقنة أحدثت الطلاق غير المعلن «رسمياً» بين «داعش» و»القاعدة» تمهيداً لإعلان موت الأخير. ومنذ غداة غزوهم افغانستان يعرف الأميركيون أن ايران وضعت يدها على جزء مهم من تنظيم «القاعدة» وراحت تعيد انتاجه وتستخدمه، لكن واشنطن فضّلت الصمت مثلما فعلت حيال التدخل الإيراني في سورية، رغم أن جنرالات البنتاغون، خلافاً للسياسيين، يصرحون من حين لآخر بأن «رعاية ايران للإرهاب» مصدر قلق لهم.
أما النتيجة الثانية فهي اكتشاف ايران أن هناك من توصّل الى استخدام «داعش» ضدّها، ما أشعرها بأن مدبّري الحدث يريدون تخريب المفاوضات النووية، لذا استنفرت الجميع، بدءاً من مرجعية السيستاني الى مقتدى الصدر، لإشاعة مناخ فتنة كبرى. غير أنها غير مضطرة لخوض حرب، بل قد تعجّل بفتح الخرائط لإنجاز تقسيم وفقاً لموازين القوى على الأرض، وليس بموجب «الفيديرالية» كما يلحظها الدستور العراقي، ولا نتيجة توافق دولي – اقليمي في ما يخصّ سورية.
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة
لماذا تدعم تركيا «داعش»؟/ محمد نور الدين
ترك موقف تركيا من «غزوة داعش» للعراق، ومن قبل نشاطها في سوريا، أسئلة كثيرة حول أسباب دعم أنقرة لتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، ومعه «جبهة النصرة»، وكل التنظيمات المتطرفة التي ظهرت مؤخراً على مسرح الأحداث في سوريا، ومن ثم في العراق.
وقبل أيام، قدّم رئيس بلدية ماردين النائب الكردي أحمد تورك إلى سفير الاتحاد الأوروبي في تركيا ومجموعة من الصحافيين، في جلسة عقدت في ماردين، تقريراً مفصلاً وموثقاً ومدعوماً بالأدلة الدامغة من صور واشرطة فيديو عن الدعم الرسمي الذي تقدمه تركيا لتنظيم «داعش»، ومنها تنقل أفراد منه يرتدون البزة العسكرية التركية، والآليات العسكرية التركية داخل البلاد، وكيف أن رئيس بلدية جيلان بينار، وهو من «حزب العدالة والتنمية»، يلتقي داخل أحد الخيم مقاتلين من «داعش».
ولا يتوقف أكراد سوريا عن تقديم أدلة أخرى عن فتح الحدود لمقاتلي «الدولة الإسلامية» للتسلل إلى سوريا او التداوي في تركيا كلما نشبت معارك بينهم وبين المقاتلين الأكراد.
لم يعد السؤال هل أنقرة تدعم «داعش» أم لا، فهذا بات محسوماً، ومنذ زمن طويل. لكن السؤال هو لماذا تدعم تركيا، بقيادة «حزب العدالة والتنمية»، هذا التنظيم الإرهابي الخطير والعنيف، والذي لا ينسجم أبدا مع القيم التي يحملها الإسلام التركي السمح؟
لعلّ أول الأسباب أن انهيار سياسة تركيا الخارجية، وفشلها في سوريا ومن ثم في مصر والعراق وفي كل المنطقة، جعلاها تلجأ الى شعار مكيافيلي الشهير «الغاية تبرر الوسيلة»، وأن تكون مستعدة للتعاون مع الشيطان من أجل التعويض عن الفشل، بدلا من أن تعترف بالهزيمة وتعيد النظر في سياساتها بما يحفظ ما تبقى من ماء الوجه.
وقد عملت ايران حثيثاً على تغيير السياسة التركية، غير ان رئيس الحكومة التركية رجب طيب اردوغان لم يفعل بعد عودته من طهران في شباط الماضي سوى الهجوم على كسب، ونعت الشيعة بأقذع الأوصاف في 12 آذار الماضي.
وبالكاد كان الرئيس الإيراني حسن روحاني يغادر تركيا الأسبوع الماضي، حتى كان اردوغان يهجم على العراق من خلال تنظيم «داعش» وحلفائه.
ثانياً، لقد جربت تركيا في العراق شتى الوسائل للإطاحة برئيس الحكومة نوري الملكي، حتى قبل نشوب الأزمة في سوريا، بدءاً من رعاية تشكيل القوائم الانتخابية المعارضة، وصولاً إلى ترتيب انقلاب عسكري عبر طارق الهاشمي. ولما لم تنجح في ذلك لجأت إلى خيار التنظيمات الإرهابية، مثل «داعش»، لعلها تضرب أكثر من عصفور بحجر واحد.
ثالثاً، إن استخدام انقرة لـ«داعش» بالتحالف مع مجموعات المعارضة السابقة، إنما يهدف إلى خلق دولة سنية، وبالتالي تقسيم العراق بعدما بات بقاء العراق موحداً ـ ولو شكليا ـ لا يخدم المصالح التركية كما يرسمها وزير الخارجية احمد داود اوغلو.
وانتقلت أنقرة، بعد دعم المالكي للنظام في سوريا، من سياسة حماية وحدة العراق إلى سياسة تفتيته وتدمير كيانه السياسي. وآخر هذه الخطوات كانت اتفاقات نفطية مع إقليم كردستان من دون العودة إلى حكومة بغداد، وتصدير النفط العراقي من كردستان إلى موانئ تركيا، في سرقة موصوفة للنفط العراقي، كما أن أنقرة كانت شريكة أساسية في تفكيك وسرقة معامل حلب إلى تركيا.
رابعاً، إن تقسيم العراق، بنظر أنقرة، سيخلق دولة سنية محاذية لها تقتات بنسبة كبيرة على مساعداتها. فتكسب تركيا نفوذاً في العراق لم تستطع أن تكسبه سابقا.
خامساً، إن مثل هذه الدويلة السنية ستصل جغرافيا، على اعتبار أنها ستسيطر على محافظتي الأنبار ونينوى، بين تركيا والسعودية، فينشطر «الهلال الشيعي» وينقطع التواصل بين طهران ـ بغداد من جهة وبين دمشق والمقاومة في لبنان من جهة ثانية، وتوجه ضربة قوية منشودة تركياً وخليجياً الى النفوذ الإيراني. وفي هذه النقطة تلتقي تركيا والسعودية، برغم خلافاتهما المصرية والإيديولوجية، ما دام «العدو الشيعي» واحداً.
سادساً، إن انفلات الوضع في العراق وسوريا سيتيح لأنقرة، في حال توفرت الظروف الدقيقة أن تعود إلى الموصل بعدما خرجت منها في اتفاق العام 1926 مع بريطانيا والعراق. والموصل، أو محافظة الموصل، كانت تضم معظم إقليم كردستان الحالي، إضافة إلى أجزاء من محافظة نينوى الحالية. وهو ما يحقق حلما تاريخياً لم يمت لدى العقل السياسي التركي، فأتاتورك قال للأتراك بعد التخلي عن الموصل انه عندما تمتلك تركيا القدرة على استعادتها فستفعل. أما الرئيس الاسبق طورغوت اوزال فسعى إلى إرسال قوات تركية لاحتلال شمال العراق أثناء «حرب تحرير الكويت» لإنشاء فيدرالية بين أكراد العراق وتركيا، تستعاد خلالها الموصل ونفطها، لكن معارضة العسكر التركي ورئيس الحكومة حينها يلديريم آق بولوت حالت دون ذلك.
وفي 8 شباط العام 2007، قال الرئيس التركي الحالي عبد الله غول «لقد أعطينا الموصل في العام 1926 إلى عراق موحد. والآن نريد أمامنا عراقاً موحداً» في إشارة إلى انه في حال تقسيم العراق وعدم بقائه موحدا فإن لتركيا الحق في «استعادة» الموصل.
وقامت قيامة «حزب العدالة والتنمية» الأسبوع الماضي على قيام شاب كردي بإنزال العلم التركي عن قاعدة عسكرية تركية في ديار بكر، واعتبرته مساسا بالأمن والشعور القومي، لكنها لم تر أي مساس بالأمن، ولا الشعور ولا الكرامة التركية، عندما احتل «داعش» القنصلية التركية في الموصل وانزل العلم التركي عن المبنى، واخذ مئة تركي بينهم 49 ديبلوماسيا مع عائلاتهم رهائن.
السفير
لماذا فعلا ينهار عراق ما بعد الغزو والاحتلال؟/ د. بشير موسى نافع
أفاق العراقيون والعالم صباح يوم العاشر من حزيران/يونيو على انهيار شبه شامل للجيش العراقي (الجديد) في المحافظات الشمالية. فرق عسكرية بأكملها فرت من معسكراتها ومواقعها، وتركت خلفها أسلحة ومعدات بكميات هائلة، في مشهد هزيمة أقرب لمشاهد الحرب العالمية الثانية منه إلى مواجهات مع قوى غير تقليدية.
كانت عواقب هذه الهزيمة على الدولة العراقية، دولة ما بعد الغزو والاحتلال، فادحة بكل المقاييس. سيطرت جماعات مسلحة من الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وجنود الطريقة النقشبندية، الموالون لنائب الرئيس العراقي الأسبق، عزة الدوري، وثوار عشائريون سنة، وضباط من الجيش العراقي السابق، وعناصر ممن تبقى من تنظيمات المقاومة العراقية ضد الاحتلال، على مدينة الموصل. وفي الأيام القليلة التالية، بسط الثوار العراقيون سيطرتهم على مدينة تكريت، وبلدات أخرى في محافظتي صلاح الدين والتأميم (كركوك)، وبدأت محاولة السيطرة على القطاع الشمالي من محافظة ديالى والمدخل الشمالي للعاصمة بغداد. في الوقت نفسه، أدى الانسحاب الملموس للقوات الحكومية من محافظة الأنبار إلى اتساع سيطرة الثوار العراقيين من أبناء المحافظة على المزيد من البلدات والمواقع. وقد أدى الفراغ العسكري والأمني إلى انتشار متزايد لقوات البشمركة التابعة لحكومة إقليم كردستان، سواء في مدينة كركوك المتنازع عليها، أو في مناطق واسعة من محافظتي نينوى وديالى.
التوقعات المبكرة لاقتحام الثوار المسلحين مدينة بغداد لم تكن في محلها؛ تماماً مثل التقديرات التي قالت بأن هؤلاء الثوار المسلحين ينتمون جميعاً لداعش. سقوط بغداد ليس شأناً سهلاً، ليس فقط لحجم القوات التي يفترض أن تتدافع عنها، ولكن أيضاً لعمق الانقسام الطائفي في العراق، والأرجح أنها في طريقها للتحول إلى ساحة حرب أهلية متفاقمة. وبالرغم من أن داعش تمثل المجموعة الأكثر تنظيماً وتماسكاً أيديولوجياً، فما شهده العراق في هذه الأيام الحاسمة من حزيران/يونيو لابد أن يرى في سياق الانتفاضة العربية السنية ضد حكم طائفي، المستمرة منذ أكثر من 18 شهراً. مهما كان الأمر، فلابد أن عراق ما بعد الغزو والاحتلال، الذي يقوده المالكي منذ أكثر من ثماني سنوات، يواجه أكبر تحد لنظامه السياسي، وربما لوجوده كما عرفناه. عندما تنهار قطاعات من الجيش بهذا الحجم، أي جيش، فلابد أن تثار أسئلة حول بقاء الدولة نفسها.
ثمة عدد من التفسيرات التي طرحت لهذا الانهيار، يعكس أغلبها الموقف السياسي أو الخلفية الدينية – الطائفية والأيديولوجية لأصحابها، ووظفت بالتالي للترويج لمواقف أصحابها السياسية.
القول، مثلاً، بأن عشرات الآلاف من القوات الحكومية، جنوداً وضباطاً، التي فرت من ساحة المواجهة في المحافظات الشمالية والغربية كانت من السنة، وأن انتماءها الطائفي منعها من مواجهة الثوار السنة، هو بالتأكيد نوع من الوهم. الحقيقة، أن ليس هناك وحدات عسكرية عراقية شيعية أو سنية خالصة، اللهم إلا قوات البيشمركة التي لا تخضع لحكومة بغداد. أغلب الجيش العراقي من الشيعة، وأغلب ضباطه من الشيعة، ولا يوجد قائد فرقة واحد من السنة العرب. كما أن الأغلبية العظمى لقوات الشرطة الاتحادية، التي فرت هي الأخرى من الموصل، هي من الشيعة؛ بل وعرفت بممارساتها الطائفية في المدينة. أما القول بأن سيطرة الثوار المسلحين تمت بتواطؤ من حكومة إقليم كردستان، فلا يقل وهماً. ينظر الأكراد إلى داعش، التي تمثل عماد القوة التي سيطرت على الموصل، نظرة عداء وتوجس لا تقل عن نظرة بغداد لها؛ ولكن ذلك لا يمنع انتهاز حكومة إقليم كردستان الفراغ الأمني والعسكري لتعزيز نفوذها في نينوى وكركوك وديالى.
أظهرت قوات المالكي في الأنبار، حيث تدور معركة متواصلة منذ أكثر من خمسة شهور، فشلاً ذريعاً في مواجهتها لثوار العشائر وعناصر داعش. في الأسابيع والأيام الأولى من المواجهة، كان فرار الجنود والضباط من ساحة المعركة أمراً معتاداً ومتكرراً، تماماً كما حدث في الموصل وتكريت. وحده قرب الأنبار النسبي من بغداد، ما سمح بإرسال تعزيزات مستمرة، ومنع الانهيار الكامل للجبهة الحكومية. ولكن حتى هنا، ما كان للقوات الحكومية أن تحافظ على مواقعها بدون مساندة مجموعات الصحوات العشائرية الموالية للمالكي، سيما في الرمادي. على مستوى الكفاءة والانضباط، ليس ثمة ما يدعو للاستغراب والدهشة في سلوك جيش الحكومة العراقية، بالرغم من حجم المعدات العسكرية التي يمتلكها. بعد حل الجيش العراقي الوطني في بداية الاحتلال، أسس الجيش الجديد من عاطلين عن العمل وعناصر ميليشيا شيعية سابقة. وباعتباره مهنة من لا مهنة له، لم تنجح الحكومات العراقية المتعاقبة في تسليح هذا الجيش بعقيدة وطنية صلبة. إن نجحت هذه الحكومات في شيء فكان في تعزيز السمة الطائفية للجيش. أسس الأميركيون بلا شك دولة جديدة في العراق، ولكن العلاقة بين هذه الدولة والدولة الوطنية الحديثة هي علاقة واهية.
باعتبارها دولة سيطرة طائفية، لم ينظر العراقيون مطلقاً، ولا حتى أبناء الطائفة الشيعية، لهذه الدولة بأي قدر من الاحترام والولاء. ولأن نظام الحكم الذي يقود هذه الدولة ارتبط منذ البداية بقرار خارجي، أكثر من ارتباطه بالإرادة الوطنية، أحاط الشك والريبة بمصداقية هذه الدولة. وليس ثمة دولة فاشلة يمكنها تأسيس جيش ناجح. بكلمة أخرى، لم يختلف سلوك هذا الجيش في كل مرة وجد نفسه في ساحة قتال.
لمعالجة انهيار الدولة وجيشها في ثاني أكبر مدنها، وعبر أربع محافظات رئيسية، تشكل أكثر من نصف مساحة البلاد، عادت حكومة المالكي إلى سلوكها المعتاد طوال السنوات منذ توليه الحكم. كان بإمكان رئيس الحكومة العراقية الاعتراف بالفشل وتحمل المسؤولية، مثل أي رجل دولة محترم. ولكنه لم يفعل. وكان بإمكانه الإعلان عن حل حكومته والدعوة إلى تشكيل حكومة توافق ووحدة وطنية، تعيد للعراقيين الثقة بحكومتهم ودولتهم، وتعمل على مواجهة الأزمة، معززة بدعم شعبي وتفويض وطني. ولكنه لم يفعل هذه أيضاً. ما قام به المالكي كان طلب المساعدة الأميركية، من جهة، والاستنجاد بالخبرة الإيرانية في مكافحة الشعوب الثائرة، من جهة أخرى. الأخطر، تمثل في تصعيد الخطاب الطائفي الشيعي، وتصوير الانهيار في الموصل وتكريت وكأنه حرباً على التشيع والمراقد الشيعية. وفي مناخ غير مسبوق من تأجيج المشاعر والعصبيات البدائية، سارعت مراجع دينية إلى إصدار الفتاوى والدعوات للحشد الطائفي والدفاع عن حكومة، أقل ما يقال إن العراقيين منقسمون حولها. وفي مشاهد مثيرة للضحك والخوف في الوقت نفسه، ظهرت قيادات سياسية ودينية وهي ترتدي الملابس العسكرية النظيفة وتحمل البنادق الرشاشة. والمشكلة، أن أياً من هؤلاء لم يحرك إصبعاً للدفاع عن البلاد من الغزو الخارجي.
مستقبل العراق الآن مفتوح على الاحتمالات، تماماً كما هو مستقبله منذ أكثر من عشر سنوات، وكما هو مستقبل سورية، ولبنان، والأردن، والمشرق بأكمله. جادلت في هذا الموقع من قبل بأن حركة الثورة العربية لم تكن حول الديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية، وحسب؛ وأن جذور هذه الحركة تعود إلى بداية العقد الأول من هذا القرن، وليس اندلاع الثورة التونسية في كانون أول/ديسمبر 2010. كان فوز العدالة والتنمية في الانتخابات التركية نهاية 2002، وانهيار الدولة العراقية أمام الغزو الأجنبي، وحركة الاحتجاج المصرية في 2005، والانتفاضات العربية القصيرة في مواجهة الحروب الإسرائيلية على لبنان وقطاع غزة، التي لم تخل من توجهات سياسية واجتماعية داخلية كذلك، كلها مؤشرات على أن نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى قد وصل إلى نهاية الطريق. سواء للضغوط الخارجية، أو لفشل النخب المدنية والعسكرية الحاكمة، عجزت دول ما بعد الرابطة العثمانية عن الاستجابة لآمال الشعوب والقيام بواجباتها التي يفترض بنظام الدولة الحديثة القيام بها. وليس ثمة دليل على انهيار نظام المئة سنة الإقليمي من اختفاء خط الحدود الفاصل بين سورية والعراق والتوسع المطرد لإقليم الحكم الذاتي الكردي. ما يقلق، أن هذا الانهيار لن يكون سهلاً ولا منظماً، وأن تكاليفه ستكون باهظة؛ وأن ليس لأي من أطرافه تصور واضح لما يمكن أن يكونه النظام الجديد. ولكن أحداً، مهما بلغ من حسن النية، لن يمكنه إيقاف هذا الانهيار، على أية حال.
٭ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
القدس العربي
الموقف الدولي من الأزمة العراقية/ د. يوسف نور عوض
إذا نظرنا إلى سائر مناطق العالم فلن نجد منطقة ملأى بالصراعات كما هو الحال في المنطقة العربية، صراعات تتميز بالعنف والاعتداءات التي حيرت كثيرا من دول العالم وجعلتها تنأى بنفسها عما يجري في هذه المنطقة.
ولعله من الخطأ أن ننظر إلى مايجري في العالم العربي من الزاوية السياسية الخالصة وحدها، ذلك أن الصراع الدائر هنا ليس في جوهره سياسيا، بل هو ثقافي وعرقي وطائفي، تتحكم فيه المعتقدات الثقافية التي ظل يتوارثها الناس ويتعاملون معها كحقائق لا تقبل التغيير.
وإذا أخذنا نموذجا واحدا لذلك وهو النموذج الطائفي الذي يحدث الانقسام بين السنة والشيعة، وتساءلنا ما إذا كان الناس يعيشون حقا مثل هذا الانقسام في حياتهم الواقعية؟ كانت الإجابة هي بكل تأكيد لا، لأن الناس في العالم العربي لا يتذكرون خلافاتهم المذهبية، إلا حين يثيرها الزعماء في ساحات الصدام، وهكذا في مجتمعات تغيب فيها نظم الدولة الحديثة ليس من المستغرب أن تخضع هذه المجتمعات من وقت لآخر لمثل هذه المشاكل كما هو الشأن في العراق الذي يخضع لحروب أهلية مدمرة لا جدوى منها، وهي حروب تؤثر على مسيرة الحياة بصورة كبيرة، وذلك ما يجعلنا نتوقف أمام ما يحدث في العراق من منظورات مختلفة لنرى كيف يبدو الواقع العراقي في رأي كثير من القياديين في العالم، وأيضا من منظور المؤسسات التي تعنى بالشؤون الدولية.
ونبدأ هنا بموقف رئيس الوزراء البريطاني السابق «توني بلير» الذي نفى أن يكون غزو بلاده للعراق في عام 2003 سببا في حالة العنف التي تجتاح العراق حاليا، وقال «بلير» إن التقاعس عن مواجهة الموقف في سوريا هو الذي جعل الدول الغربية تشعر بالندم على ما يحدث في العراق، وقال إن الزعم بأن الإطاحة بنظام «صدام حسين» هي التي أوجدت الوضع الحالي غير صحيح لأن الاستيلاء على محافظة الموصل خطط له عبر الحدود السورية. وقال «توني بلير» إنه يتفهم عدائية المواقف ضد حرب أفغانستان والعراق، ولكنه لا يعتبر الموقف في سوريا شبيها بالمواقف من هذين البلدين. وقال «بلير» شاهدنا سوريا خلال السنوات الثلاث الماضية تنزلق إلى أسفل، وظلت تلف حبالها حول خاصرة الدول الغربية من أجل جرها إلى أسفل أيضا. وأكد «بلير» أن ذلك لا يعني ضرورة التدخل العسكري في العراق، ولكن إذا كان من الضروري اتخاذ موقف من الإرهاب فيجب أن يكون ذلك بإرادة وحزم. وقال «بلير» إن الرئيس «أوباما» كان مصيبا عندما قرر طرح الخيارات كافة في العراق، بما فيها التصدي بالقوة للإرهاب.
ومن جانبه اعتبر مفتي جبل لبنان الشيخ «محمد على الجوزو» أن ما يحدث في العراق هو حرب طائفية تحركها دولة أجنبية، ويقف وراء هذا الصراع من وجهة نظره رئيس الوزراء «نوري المالكي»، ورفض المفتي الفكرة التي تقول إن «داعش» وحدها هي التي تخوض المعركة، لأن من يخوض المعركة من وجهة نظره هم أهل العشائر الذين عانوا كثيرا من تعصب المالكي، بالإضافة إلى العسكريين الذين ظلمتهم الولايات المتحدة الأمريكية. وقال «الجوزو» إن هيئة علماء المسلمين أرسلت رسالة إلى من وصفتهم بالثوار لتجنب الحرب المذهبية.
وهنا تساءلت صحيفة «ليسكبريس»الفرنسية ما إذا كان العالم الغربي يستعد لحرب رابعة في هذه المنطقة لمقاومة استيلاء «داعش» على أجزاء من أرض العراق؟ وقالت الصحيفة الفرنسية إن واشنطن تسرعت في قرارها بعدم إرسال قوات أمريكية إلى العراق، على الرغم من ضغط بعض أعضاء الكونغرس على الرئيس «أوباما» لتوجيه ضربات جوية لثوار العراق. وقالت الصحيفة إن الدبلوماسي السابق «دينيس بوشار» قال إن التجربة في «مالي» أكدت أن مقاومة مثل هذه الجماعات لا يمكن أن يتحقق إلا على الأرض. ونسبت الصحيفة إلى «بوشار» قوله إن رئيس الوزراء العراقي «نوري المالكي» يتحمل مسؤولية كبيرة في الصراع القائم بين الطوائف، والتي دفعت الكثير من السنة إلى الانضمام إلى «داعش».
وتساءلت صحيفة «الديلي تلغراف البريطانية»، هل سيكون موقف الولايات المتحدة من العراق بداية عهد جديد بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية؟ وقال بعض الناصحين للرئيس الأمريكي إن مصالح أمريكا ستكون أفضل، إذا ما أقام تحالفا مع ما سمته عدو بلاده اللدود، لكن من وجهة نظر الصحيفة إن ذلك مثل حال الغريق الذي يبحث عن «قشة» من أجل النجاة.
وتساءلت صحيفة «كرستيان ساينس مونيتور» قائلة مع تدهور الوضع في العراق، على من تلقى المسؤولية؟ هل هي بسب قرار الرئيس السابق «جورج دبليو بوش» غزو العراق، أم بسبب قرار الرئيس الحالي «باراك أوباما» سحب القوات الأمريكية من العراق قبل عامين؟ وقالت الصحيفة إن حربا كلامية بدأت تشتعل بسبب موقف الولايات المتحدة عدم إرسال قوات أمريكية إلى العراق، وأيضا تذكيرا بأخطاء قال الكثيرون إنها صاحبت حرب غزو العراق. وقال الكاتب الأمريكي «جوردون آدمز» في مقال نشرته صحيفة «فورين بوليسي» إن ما لا تفعله الولايات المتحدة الآن وما فعلته سابقا يوصف بالفشل، ولكن الذي يتحمل الأعباء والنفقات هو شعب الولايات المتحدة. وقال «آدمز» إن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على بناء دول أخرى، أو بناء جيوش هذه الدول، وضمان أمنها عبر الاحتلال أوعبر تجهيز الجيوش.
ومن جانب آخر بحث وزير الخارجية الأمريكي «جون كيري» مع نظيره العراقي «هوشيار زيباري» عبر الهاتف الأوضاع الأمنية والسياسية في العراق، وأكد «كيري» خلال هذه المحادثة أن الولايات المتحدة سوف تدعم مواقف العراق في مواجهة الإرهاب.
وأما في الإطار العربي فقد عقد اجتماع غير عادي في جامعة الدول العربية حضره المندوبون الدائمون برئاسة المغرب، وناقش الاجتماع ما وصفه بالأوضاع الخطيرة في العراق، وعبر الأمين العام لجامعة الدول العربية «نبيل العربي» عن قلقه مما يحدث في العراق متمنيا أن تعود الأوضاع إلى حالتها الطبيعية قريبا، وقال إن الاجتماع الذي سيعقد في جدة لوزراء الخارجية العرب سيدرس الوسائل والخطوات التي يجب اتخاذها لمساعدة العراق على الخروج من مأزقه.
وبالطبع لا تملك الجامعة العربية الوسائل التي تحدث بها تغييرا فعالا في العراق، خاصة أن صراع العراق يأخذ في كثير من جوانبه منحى طائفيا، وذلك ما قد يحدث انقساما واضحا في مواقف بعض الدول التي لا تريد للجامعة أن تدخل نفسها في مثل هذه الصراعات.
القدس العربي
ماذا يجري في العراق؟/ أمجد ناصر
فعلاً، ماذا يجري في العراق؟ مَنْ لديه العلم والخبر فليتقدم ويخبرنا، لأننا، نحن الذين نكتب ونقرأ ونتابع ما يحدث في العالم، لم نعد نفهم. كيف يمكن أن يحدث ما حدث في العراق، في غمضة عين؟ إن كان ما يجري ثورةً، فلم نرَ ثوراتٍ (عربية في الأقل) كذلك. ما كان يبشر بثورة (على الغرار المصري والتونسي) هي الاعتصامات التي استمرت، في الشارع، أكثر من عام، من دون أن تفضي، لسوء الحظ، إلى نتيجة ملموسة: أي إطاحة النظام، أو إحداث تغييرات جذرية فيه. هذا لم يحدث، لأنَّ العراق، للأسف، لم يعد بلداً موحداً يمكن أن تنتظمه موجة ثورية واحدة، حتى لو كانت ذات طابع مطلبي صرف، أي تتجاوز ما هو سياسي مباشر إلى ما هو معيشي، لا يثير انقساماً طائفياً ولا استنفاراً إثنياً.
فحكاية الطبقات والفئات والصراع بينها، واستغلال الإنسان أخاه الإنسان، لا وجود لها اليوم إلا كأهزوجة فلكلورية، في برامج الشيوعيين الذين لم يسلموا، هم أيضاً، من الانقسامات الطائفية والعرقية. من يقول غير ذلك يصدر من تمنٍّ ورجاءٍ، وليس من واقع قائم. فعراق ما بعد الاحتلال الأميركي رُكِّبَ على نحو طائفي سافر. كان الردّ على الديكتاتورية هو التفتيت المذهبي والعرقي والترابي. صار العراقُ عراقَ “مكوِّنات”، لا يُعرّف إلا بها، ولا يُفهم إلا من خلالها: المكوّن الشيعيّ، المكوِّن السنّي، المكوّن الكرديّ، المكوّن التركمانيّ، المكوّن الأشوريّ إلخ..، وعندما يتحول أيّ بلد في العالم إلى مكوناتٍ، يكفُّ عن أن يكون موحداً، ويصبح لعبة في أيدي رعاة المكوِّنات، حيث يمكن أن تنتفي عروبة بعض المكوِّنات وعراقيتها، ويتماهى مع مراجع دينية، أو عرقية خارجية. كيف نفهم، إذن، أن التركيب المذهبي لم يمنع الجيش العراقي، ذا الأغلبية الشيعية (على مستوى القاعدة، أضعف الإيمان) من قتال الإيرانيين قرابة عقد (بصرف النظر عن رأينا في تلك الحرب وعدالتها)؟
لِمَ لم تكن إيران الخميني أقرب إليهم من ديكتاتورية صدام حسين؟ هناك، طبعاً، من فرَّ إلى الجانب الآخر، غير أنهم لم يشكلوا ظاهرةً يعتدّ بها. كان هناك عراقيون يقاتلون إيرانيين، بصرف النظر عن مذاهبهم وإثنياتهم، على الرغم من إدانتنا تلك الحرب التي مزَّقت المنطقة، وزرعت أحقاداً وضغائن، وأحيت فتناً وتواريخ أكل الدهر عليها وشرب.
***
لا أعرف إن كان ما يجري في العراق “ثورة”. في الواقع، أشكُّ في ذلك، فثورةٌ قوامها العشيرة والطائفة والتنظيم الديني المتشدد ليست، حسب معرفتي المتواضعة بالتاريخ، ثورة.. ولا قريبة من الثورة. لا أخلط، هنا، بين برامج محاربي نظام المالكي وعسكره، فمنهم الوطنيون العراقيون ومنهم التكفيريون، التقوا على نقطةٍ واحدةٍ من برنامج ثوريٍّ، مكوَّن من ألف نقطة.
ولكنَّ ذلك لا يعني أنَّ أسباب الثورة ليست كامنة في الوضع العراقي. إنها أقوى، وأكثر أحقية، من أي بلد عربي آخر. فالعراق، صاحب الاحتياطات النفطية الهائلة والمياه الوافرة والأراضي الزراعية الخصبة، لا تعرف عاصمته، فضلاً عن أريافه وقصباته ونواحيه، مياه شرب نظيفة، ولا تياراً كهربائياً متواصلاً، ولا أنظمة صرف صحية، ولا طرقاً معقولة، ولا طبابة يعوَّل عليها. الصور التي تأتي من بغداد، ومن قلب أكثر المناطق الشيعية العربية فقراً، تتفوق في بؤسها، ورثاثتها، على صور بنغلادش، أفقر بلد في العالم.
أين ثروات العراق؟
أين مليارات النفط؟
في جيوب “نخبته” الحاكمة، الفاسدة، وزبائنها الفاسدين.
***
هذا كلُّه كوم، وما يجري تحت الطاولة بين أميركا وأوروبا من جهة، وإيران من جهة ثانية، كوم آخر. إذا كانت صورة العراق القائمة معقدة، فإن الموقف الأميركي – الأوروبي حيال ما يجري في العراق أكثر إثارة للشكوك وللريبة، ولا تنفع في تفسيره إلا نظرية المؤامرة ذات الواقع والمنشأ الغربيين.
فكيف انتقلنا، في غمضة عين، من الكارثة السورية التي لم يجد لها “أصدقاء سورية” حلاً، إلى الساحة العراقية المفتوحة على الحرب الأهلية والتدخل الخارجي بكلِّ أنواعه؟ كيف طوي “الملف” السوري وفتح “الملف” العراقي؟ أهو إغراقٌ لإيران في “المستنقع” العراقي؟ توسيعٌ لرقعة الجبهة التي تقاتل عليها إيران (وحلفاؤها)، بحيث يجري استنزافها، لتأتي إلى حلّ نووي وإقليمي شامل، أم هو إقرار بدور إيران الإقليمي الذي يمتد من هرات إلى صور، وتقاسم النفوذ معه؟ هل ما يجري، على أرض المعركة، رسمٌ لحدود الطوائف والإثنيات، تمهيداً للتقسيم الذي تتعالى معزوفته الوقحة، هذه الأيام، حتى من أفواه بعض “العروبيين”، الذين التقطوا الطعم من الإعلام الغربي، أم أن العراق، على الرغم من اللاعبين في مصائره، عصيٌّ على التقسيم؟
لا أعرف.
من يعرف ماذا يجري في العراق، اليوم، فليتقدم ويخبرنا.
العربي الجديد
جيش هذا أم ميليشيا؟/ صقر أبو فخر
غداة سقوط بغداد، في التاسع من إبريل/ نيسان 2003، عمد بول بريمر إلى فرط الجيش العراقي برمته، بذريعة متهافتة، هي أن إعادة تكوين الدولة العراقية الجديدة تحتاج إلى إعادة تأليف جيش جديد تماماً. وتبيّن، في ما بعد، أن هذا الجيش الجديد، الذي جرى جمعه من هنا وهناك، مجرد ميليشيا طائفية، لا تمتلك البتة أي عقيدة عسكرية، تحدد مَن هو العدو ومَن هو الصديق. وهذا ما كشفته، بجلاء ما بعده جلاء، وقائع الأحوال الجارية في العراق، بُعيد سقوط الموصل وجوارها في أيدي مقاتلي “الدولة الاسلامية في العراق والشام”.
قدمت هذه الوقائع برهاناً جديداً، يُضاف إلى عشرات البراهين الأخرى، على أن السياسة الأميركية في العراق كانت خرقاء، إذا ما قيست على المصلحة العراقية؛ فهي دمرت العراق، ومنحت إيران أوراقاً قوية في لعبة القوة والنفوذ في الشرق الأوسط، وأطلقت سُعاراً طائفياً ما برح يتفاقم في كل مكان. أما إذا قيست هذه السياسة على المصلحة الإسرائيلية، فلا ريب في أنها سياسة ناجحة جداً، فما فعلته أميركا في العراق كان مرغوباً في حد ذاته، أي تدمير الجيش العراقي كقوة احتياط في مواجهة إسرائيل، وتشتيت العناصر البشرية القابلة للتجمع على أسس قومية في المشرق العربي.
لم يبنِ نوري المالكي جيشاً على الإطلاق، بل أسس ميليشيا طائفية لحفظ “الأمن” في الداخل، واعتمد على إيران لحفظ أمنه في النطاق الإقليمي. ولتعصبه الطائفي، لم يتورع عن تهميش السُنّة، أينما استطاع، وها هو اليوم يتباكى على اللبن المسكوب، ولم يتعلّم، كما يبدو، أن من غير الممكن أن يقتل المرء أمه، ثم يختبئ عند خالته. وفي معمعان هذه الوقائع، يبرهن الإيرانيون، مجدداً، أنهم أفضل لاعب إقليمي في حالات الفوضى، فقد كسبوا أوراقاً في أفغانستان، بعد سقوط حكم “طالبان” في سنة 2001، من دون أن يدفعوا درهماً. و”أكلوا” معظم العراق، من غير أي حرب. وها هم يُضيفون إلى أوراقهم في هذا البلد المعذب أوراقاً قابلة للصرف في السياسات النووية والنفطية. ومن غرائب الدهور أن تصبح إيران، المصنّفة دولة داعمة للإرهاب، حليفة لأميركا في مكافحته.
يقول مونتسكيو، في كتابه: “روح الشرائع”، إن أخلاق الصينيين، على خلاف أخلاق الإسبان، تتّسم بعدم الأمانة، وهم أشد شعوب الأرض خداعاً، خصوصاً في التجارة، فعلى مَن يريد أن يشتري منهم أن يحمل ميزانه الخاص، لأن لكل تاجر صيني ثلاثة موازين: ثقيل للشراء، وخفيف للبيع، وعادل لمَن يعرف الحق. والإيرانيون منغمسون بهذه “الشطارة” الآسيوية، فلديهم موازين كثيرة: ميزان لسورية، وميزان للسعودية، وميزان لأميركا، وميزان لمصر… وهكذا. وبفضل هذه الموازين، صارت إيران لاعباً مقرِّراً في العراق وسورية، وله تأثير كبير في الخليج العربي والسعودية واليمن ولبنان، بينما لم تكن، قبل ربع قرن تقريباً، تمتلك أي قدرة على فرض مواقفها على محيطها العربي، لا سيما العراق وسورية. وحدها السياسة الأميركية، ومعها الهبل العربي، جعلا إيران قوة حماية لبلد مهم كالعراق في عهد نوري المالكي.
هل يعود المشرق العربي، في خضم هذه التحولات المروِّعة، إلى حقبة حماية الأقليات من الخارج: إيران لحماية الشيعة، وتركيا لحماية التركمان والسُنّة أحياناً، وأميركا لحماية الأكراد، والقاعدة لحماية السُنّة، والمهاجر الغربية للمسيحيين والصابئة، إنه كابوس مرعب، فيما لو تحقق يوماً ما.
كان الملك فيصل الأول يقول إنه لا وجود لشعب عراقي، وإنما لأناس كثيرين يفتقدون أي نزعة وطنية، ومشبعون بالعقائد الدينية والخرافات، وهؤلاء يصغون لأي دسيسة، ويميلون إلى التمرد على أي حكومة مهما كانت. وأراد الانكليز تأسيس العراق بعد سنة 1920 على الروابط العشائرية والطائفية. أما فيصل، فحاول تأسيس البدايات الأولى للهوية العراقية على فكرة العروبة، وهي قوة دمج، وفكرة بديلة عن الهويات البدائية الممزِّقة، سني ـ شيعي ـ كردي ـ آشوري ـ تركماني. ولا شك في أن النظام الجمهوري طوّر هذه الهوية إلى مؤسسات مركزية، وصار هناك شعب عراقي إلى حد كبير. ظهر العراق الحديث بلداً مؤلفاً من ملك وجيش ودولة، لكن عبد الكريم قاسم قضى على الملكية، وأنهك صدام حسين الجيش في حروب خاسرة، وقضى الأميركيون على الدولة والجيش معاً، فتسيّدت إيران و”داعش” المشهد العراقي كله، فيا للهول!
العربي الجديد
ماذا يعني أن تتدخل إيران في العراق؟/ عبد الامير الركابي
تنامى بنتيجة الاحداث العراقية الاخيرة في الموصل، ومدن أخرى قريبة منها، احتمال التدخل الايراني. وبسرعة بدأت الإشاعات. بعضها لا يستبعد ان يكون من قبيل “التسريبات”. الأميركيون الذين واصلوا، رغم بعض المظاهر، نهج الانكفاء الذي يميز سياسة أوباما، أرسلوا إحدى البوارج العسكرية الى الخليج العربي، وحين صدرت تصريحات من ايران توحي بالاستعداد للتدخل، لم يقابلها الجانب الاميركي بأي اشارة انزعاج. لا بل على العكس، لوحظ ما يشبه ضوءاً أميركياً أخضراً. أما بريطانيا، فمن جهتها بادرت في خطوة مفاجئة، حين قررت اعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة مع ايران. ولأن الأوساط العليمة بشؤون الغرب مقتنعة بان الموقف البريطاني من قضايا الشرق الاوسط ينطوي حتماً، وفي كل مفصل، على بعد أميركي، فقد ازدادت القناعة بقرب منح ايران تفويضاً في العراق، إن لم يكن قد منح فعلاً.
من التفاوض مع ايران الى التفويض. هذا ما يبدو اننا نقترب باتجاهه كنتيجة لاحداث الموصل، فهل ما حدث مقصود ومخطط من الجهات التي تبادر الآن إلى استثماره، أم هو خطوة خاطئة أجازتها، وربما دعمتها، اطراف تصورت انها بصدد تحقيق اغراض اخرى مختلفة ان لم تكن معاكسة؟
الفرضية الثانية تجعل المرء يقتنع بان العالم العربي يتصرف خارج اي إعتبارات، أو حسابات تمت بصلة للعقل، أو توخّي المصلحة الاستراتيجية والوجودية، وأن مناخ الانزعاج من تفاوض ايران مع الغرب، يخلي محله لما هو اسوأ بكثير، بما في ذلك احتمال الاضطرار للتعايش مع التفويض. فاحتلال العراق ايرانياً لا يمكن ان يكون اقل من مقدمة لاحتلال الخليج العربي برمته، وثقل العراق في التوازنات بمواجهة ايران يوشك على الانقلاب من الآن فصاعداً، ليصبح بلا مواربة، ثقلاً ووزناً مضافاً لقوة ايران، وهذه نتيجة كافية لوضع الخليج العربي برمته تحت السطوة والهيمنة الايرانيتين.
الغريب في هذا، هو الاندفاعة الإعلامية المهللة لما جرى مؤخراً في العراق، وكأنه فتح عظيم، وهي ظاهرة تستحق القراءة المتأنية، بالأخص لما تعكسه من خلل مهول في فهم حساسيات الحالة العراقية وركائزها، التي يستحيل من دونها ضمان حضورالعراق وفعاليته الإيجابية في محيطه. فالإعلام يمكن، لا بل يجب أن يلعب دوراً تنويرياً، وإلى حد ما تصحيحياً، إزاء القرارات السياسية التي قد يتم الإقدام عليها، بناءً لتقديرات خاطئة أحياناً، وإلا تحولت المغالات والتهييج إلى مسوغ لانعاش الأوهام القاتلة. وفي حالة العراق وكقاعدة ثابتة لمقاربة شؤونه، لا يمكن مطلقاً تبني موقف “جزئي”، واعتباره من قبيل المدخل الصالح لحلول تتفق مع المصلحة الوطنية، كما لا يمكن أبداً تأجيج المواقف الجزئية، من دون الإسهام في إضعاف العراق لدرجة إخراجه المضطرد من المعادلات العربية بدل استعادته. فأي طائفي من أي فئة أخرى، لا يختلف عن المالكي سوى بالموقع من المتراس، والاثنان يعبّران عن تفكير وسلوك مضاد لشرط حضور العراق عبر وحدته. ووجود “عملية سياسية طائفية”، قائمة على الغلبة وتهميش الآخرين، لا يصح أبداً الرد عليه بالمنطق الطائفي نفسه، بل باعتماد تصور مضاد يتجاوز الجزئية نحو إعادة بناء وحدته الوطنية، من دون ذلك ستتكرس نظرية التدمير الذاتي، التي أرساها الاميركيون بعد عام 2003، بإصرار وتقصّد.
على كل من يريد عراقاً يضاف إلى الثقل العربي، أن يركز على وجهة الإنتقال من الخيار الاميركي القاتل، الى الخيار العربي العراقي الوطني، وهو ما لن يتحقق بغير نهج ومشروع موازٍ، أساسه تفاهم المكونات العراقية بدل تناحرها، الأمر الذي كان موافقاً منذ اليوم الاول للاحتلال، للضرورة الوطنية، في ظل انهيار الدولة الحديثة، والفراغ الكلي الناجم عن تدميرها وسحقها، مع كل خراقة السياسة الاميركية المتبعة في حينه. ذلك الأمر وضع البلاد أمام فقدان أي مصدر من مصادر الشرعية، وجعل منح قوى، منتهية الصلاحية تاريخياً، السلطة بمثابة انقلاب وسرقة، تحققت بقوة الاحتلال وتدبيره المجافي لطبيعة البلاد وضرورات حياتها ومستقبلها.
ثمة مقاربة عربيه خاطئة للعراق وحالته، يستمدها المناخ العربي العام من بداهات، وتصورات بائدة، تعود إلى مفاهيم وواقع عالمي لم يعد قائماً، عدا عن الإستماع لآراء عراقيين وعيهم متدنٍ، أو أصحاب أغراض خاصة، لا يتمتعون برؤى متعدية للهويات الفرعية، تؤول في النتيجة إلى مزيد من الخسارة والخراب، لتنعكس على العالم العربي نتائج كارثية. فأيهما يا ترى أكثر أهمية؟، أن تخرج الموصل من يد المالكي، أم أن تضع ايران يدها على العراق؟، لنصبح بعدها امام تساؤل متجدد عن مصير الكويت مثلاً، وهذا من تحصيل الحاصل، أو مصير البحرين وكل دول الخليج. العراق يكون عربياً بمعنى الثقل الجيوبوليتيكي، والتاريخي الاستراتيجي، إذا جرى الإصرار على ترميم وبعث وحدته التعددية بتفاهم مكوناته، بالضد من العملية السياسية الطائفية المحاصصاتية، المرتكزة على دعم الاميركيين وترتيبهم أصلاً، وما عدا ذلك نفق عربي مظلم، لا نريد تخيل فصوله لشدة قتامتها.
المدن
خراب العراق أميركياً وإيرانياً!/ راجح الخوري
“لن يعود العراق الى ما كان عليه”!
هذا هو الموقف الذي يسمعه المراسلون في المناطق الكردية شمال العراق، بعد انفجار الاوضاع الذي كشف ان السلطة المركزية في بغداد كانت تنام على بركان يغلي لا بل هي صنعته، وان حكومات نوري المالكي لم تعالج هذا الوضع، الذي تسببت به اصلاً سياساتها الإقصائية والانتقامية وتسخير الحكم لأغراض جهوية ومذهبية.
ليس من المستغرب ان يرتفع هذا الكلام في مناطق الاكراد، الذين طالما طالبوا بقيام دولة كردية وسبق لهم ان حصلوا عام ١٩٧٤ على نوع من الحكم الذاتي، وليس من المستبعد ان يرتفع الكلام عينه في مناطق الوسط العراقي السنّية، التي عوملت على يد حكومات المالكي وكأنها كلها صدّام او صدّامية يتعيّن اجتثاتها كما حصل مع البعثيين في الجيش ومؤسسات الدولة!
على رغم كل ما قيل عن دور “داعش” الارهابية المتوحشة، فقد كان واضحاً ان آلافاً عدة من الارهابيين لا يمكنهم اجتياح مساحة ١٠٠ ألف كيلومتر مربع من العراق في خمسة ايام، بما يؤكد ان معظم الضباط من قادة الـ٦٠ الف جندي الذين كانوا في الموصل، أخلوا مراكزهم وهربوا ليس خوفاً من “داعش” بل رداً او بالأحرى ثورة ضد سياسات المالكي العمياء، التي جعلت حتى القيادات الشيعية تصفه بالديكتاتور كما ورد على لسان المرجع علي السيستاني ومقتدى الصدر عشية الانتخابات الاخيرة!
السؤال المٌلح الآن: هل ان اميركا تعامت عن اخطاء المالكي وظلت تدعمه لأسباب تتصل بأهدافها الخبيثة المضمرة، أي دفع الامور أكثر الى التأزيم الذي يفضي الى “الفوضى الخلاّقة” فالتقسيم وقد بدأت اشباحه وظلاله تطل من العراق وبلدان اخرى ومنها سوريا، وهل ان ايران لم تكن تدري مغبة أخطاء المالكي وحماقاته وهو رجلها الاول في العراق، ام انها شجّعته ودعمته هي ايضاً لأسباب تتصل بأطماع مضمرة تجاه الجنوب العراقي الشيعي؟
يجمع الضباط الاميركيون الذين عملوا في العراق وخبراء الامم المتحدة على ان المالكي هو المسؤول الأول عما جرى، وانه هو من يجب ان يحاكم لا الضباط الذين اتّهمهم امس بالتقاعس، ومن الواضح ان الاتهامات التي وجهها الى السعودية ليست سوى أضاليل لمحاولة التعمية على سياساته المذهبية التي ادت الى قيام ما تُجمع العشائر السنّية الآن على انه ثورة في حين يقول هو وطهران انه هجوم ارهابي كبير تقوم به “داعش” بدعم اقليمي!
كما اعلنت الرياض والجامعة العربية، وكما دعا اياد علاوي، وكما يطالب زعماء من ابناء الطائفتين السنّية والشيعية في العراق، ان الحل هو بتنحية المالكي وتشكيل حكومة وحدة وطنية من كل الاطراف، وإلا يغرق العراق في حرب مذهبية بغيضة تنتهي بالتقسيم وفي أحسن الاحوال بالفيديرالية!
النهار
وقائع موت مُعلن/ هشام ملحم
النجاحات المفاجئة التي حققها تنظيم “الدولة الاسلامية في العراق والشام” (داعش) في العراق، أثارت جدلا حادا في الولايات المتحدة، بين المطالبين بدور اميركي أكثر فاعلية عسكريا وسياسيا، والمعارضين الذين يقولون ان واشنطن غير قادرة على انقاذ العراقيين من انفسهم، وانها لا تستطيع ان تستثمر سياسيا في رئيس الوزراء نوري المالكي لان سياساته التمييزية والمذهبية ساهمت في تأجيج مشاعر السنةّ الذين أوجدوا “البيئة الحاضنة” لتنظيم الدولة لاسلامية. ورد الفعل الاولي، جاء من مؤيدي الرئيس باراك اوباما الذين قالوا ان جذور المشكلة تعود الى قرار الرئيس السابق جورج بوش غزو العراق وقلب بنيته السياسية رأسا على عقب. ورد عليهم المحافظون بلوم اوباما لانه لم يضغط ما فيه الكفاية على نوري المالكي لإبقاء قوة أميركية في العراق للردع والتأثير على العملية السياسية.
الواقع ان مسؤولية الانهيار الراهن المرشح لان يقوض الدولة العراقية كما عرفناها، هي مسؤولية عراقية في الدرجة الاولى، ولكن تليها مسؤولية مباشرة اميركية وايرانية وعربية. ولا نبالغ اذا قلنا ان انزلاق العراق الى جحيم الحرب الاهلية بدأ مع القرار المجنون لصدام حسين غزو ايران عام 1980. افلاس العراق بعد حربه على ايران، دفع صدام الى غزو الكويت لنهبها. واحتلال الكويت ادى الى حرب الخليج الثانية التي ابقت نظام صدام في قفص العقوبات، الى ان جاء جورج بوش الابن لإكمال ما لم يكمله والده، واطاحة نظام صدام، في قرار مجنون آخر.
النقاش في واشنطن دفع البعض، انطلاقا من الخوف من انهيار الصرح العراقي الهش بكامله، الى التفكير في التعاون السياسي، وحتى العسكري مع ايران، الدولة ذاتها المسؤولة عن قتل مئات الجنود الاميركيين في العراق على نحو غير مباشر من طريق تسليحها وتدريبها الميليشيات الشيعية.
وفي هذا المناخ السوريالي، وجد بعض الصقور الجمهوريين أنفسهم في سرير واحد مع بعض الحمائم الديموقراطيين. السناتور الجمهوري ليندزي غراهام (التوأم السياسي للسناتور جون ماكين) وأحد اقسى منتقدي السياسة الخارجية للرئيس اوباما، افترق عن ماكين واقترح التعاون مع ايران للتصدي لتنظيم الدولة الاسلامية. وزير الخارجية جون كيري، قال ان واشنطن منفتحة على التعاون السياسي، ولم يستبعد التعاون العسكري مع ايران (تراجع لاحقا عندما رفض العسكريون ذلك).
العراق يحتضر وكأننا نراقب وقائع موت معلن. إيران التي نصبت نفسها محاميا عن شيعة العالم والتي انقذت نظام الاسد (ولو موقتا) تريد انقاذ نظام شيعي آخر في العراق. والدول العربية وتركيا ذات الاكثرية السنية تشعر بأنها مهددة وبعضها ساعد المتطرفين. كل هذا على خلفية اقتتال سني – شيعي غير معهود من الخليج الى المتوسط.
النهار
إيران – العراق وسوريا – لبنان: التوازنات المفقودة/ غسان حجار
إيران وسوريا في محور واحد من البطش ومحاولة التلاعب بالمكونات الأساسية وبالتوازنات القائمة منذ زمن. العراق ولبنان يعانيان أزمة تغيير الهوية وتبديل الأدوار وإضعاف مكونات أساسية في البلدين. لا مجال هنا وهناك لاستقرار دائم، ما لم تعالج الأمور العالقة في البلدين. ولعلّ ايران تواجه اليوم في العراق حال نقمة، مثل ما واجهته سوريا في لبنان عندما خرج “الجيش العربي السوري” يجر أذيال الخيبة وراءه، ولم يتمكن، بعد نحو 30 عاماً، من الوصاية من دفع اللبنانيين الى القبول به “جيشاً شقيقاً”، بل تنامى الشعور بأنه جيش احتلال ليس أقل. والحال في العراق اليوم، مع التدخل الايراني، مشابهة تماماً. فالعراقيون يرون في التدخل الايراني انتهاكاً لبلدهم، خصوصاً أن ايران، ومثلها سوريا، عملتا على تقوية المكون الشيعي الحليف على حساب الطوائف الأخرى، وابرزها الطائفة السنية الكثيرة العدد على امتداد العالم العربي، والتي صارت تأمل في فتح الحدود ما بين الدول لتشعر مجدداً بقوتها. واذا كان الحرس الثوري الايراني فعل فعله في العراق للإطاحة بالسنة في كل المواقع الحساسة، فانه عمل أيضاً على الامساك بمفاصل الدولة في لبنان، وفي إنقاذ النظام السوري.
والهلال الشيعي الذي تحدث عنه الملك الأردني عبدالله بن الحسين قبل أعوام، يقابل اليوم بمواجهة قاسية، بل دموية، من كل رافضيه الذين ازدادت نقمتهم على الشيعة، سواء في لبنان وسوريا والعراق ومصر ودول الخليج العربي مجتمعة، لتعيد تحريك أو ايقاظ فتن نائمة.
في لبنان، كانت التوازنات الهشة سبباً للحروب، وثورة المحرومين والمستضعفين الشيعة ولدت من الحرمان، لتعوض لاحقاً بأكل الأخضر واليابس. وبعد الحرب اختلت التوازنات أكثر فأكثر، لمصلحة الشيعة أولاً على حساب السنة، ولمصلحة السنة والشيعة على حساب المسيحيين، لذا لن يجد لبنان استقراره في المدى المنظور ما لم يقم اتفاق بين مكوناته يصحح الخلل.
وفي سوريا، أعطى الرئيس حافظ الأسد السنة امتيازات اقتصادية، وأخرى سياسية في الظاهر، ورفع شعار فلسطين، فحكمت الأقلية العلوية بشعار الأكثرية السنية. لكن نجله بشار ضرب تلك التوازنات التي كانت قائمة، فاختل الميزان، ليحول أهل السنة “داعش” و”نصرة” وجبهات وتيارات أخرى أصولية ارهابية.
لعبت ايران لعبتها في المنطقة وتجاوزت الخط الأحمر المرسوم، فخربطت كل التركيبات القائمة على توازنات، ولا يمكن بالتالي اعادة صوغ خريطة المنطقة الا باعادة التوازنات ما بين السنة والشيعة، مع حفظ دور الأقليات المسيحية، والكردية، والدرزية، والعلوية، أو الذهاب الى خريطة جديدة للمنطقة، قد تغرق في بحر واسع من الدماء، قبل أن ترتسم معالمها القائمة على المذهبية والاتنية والقبلية، والتي تؤسس بدورها لحروب مقبلة.
النهار
استعيدوا الموصل/ روجر كوهن
نقل تقرير صادر أخيرا عن شركة “رنيسانس كابيتال” الاستثمارية الروسية مشهدا مغايرا من العراق، وتحديدا من منطقة تقع على بعد أقل من 60 ميلا من الموصل حيث يذبح المتطرفون الإسلاميون السنّة الذين سيطروا على المدينة، أعداءهم وكأن القرون الوسطى لم تنتهِ بعد.
جاء في التقرير:
“رأينا سيارات فيراري وبنتلي يقودها طلاب من الجامعة الأميركية في العراق ومقرها السليمانية؛ وفي الفندق خمس نجوم الوحيد في إربيل، امتلأ الموقف بسيارات “بي إم دبليو” و”راينج روفر” جديدة. في المطاعم الدولية القليلة المتواجدة في إربيل، تكلّف الوجبة مع احتساء البيرة نحو 90 دولاراً للشخص الواحد. تبيع المراكز التجارية في المدينة ماركات دولية، وقد لاحظنا أن الأسعار المحدّدة لكل تلك السلع أعلى بـ40 في المئة على الأقل من المعايير الدولية؛ وادّعى مديرو المتاجر أن البضاعة تختفي سريعاً عن الرفوف”.
في إقليم كردستان الناشئ، الذي تديره حكومة إقليم كردستان التي تربطها علاقات متقطّعة بالحكومة المركزية في بغداد، تختلف الأمور. حتى أسوأ أشكال الفوضى تعود بالفائدة على البعض. فالأكراد، وبعد نحو قرن على إخفاقهم في إقامة دولة إبان انهيار الأمبراطورية العثمانية، يُفيدون الآن من المعمعة العراقية. حتى علاقاتهم مع أعدائهم الأتراك تحسّنت بفعل التجارة وباتت أقرب إلى الدفء والوئام.
يجب ألا يراهن أحد ضد دولة كردية مستقلة خلال العقد المقبل. فسوريا والعراق تشهدان انفجاراً من الداخل؛ وحدود الشرق الأوسط سائبة. وقد اغتنمت المجموعات التابعة لتنظيم “القاعدة” الفرصة، فباتت تسيطر الآن على مساحات شاسعة من سوريا والعراق بعد 13 عاماً على خوض الولايات المتحدة حرباً في أفغانستان (وإنفاقها تريليونات الدولارات) لتفكيك الدويلة الجهادية التي أقامها تنظيم “القاعدة” بزعامة أسامة بن لادن داخل الدولة.
ليست هذه نهاية سعيدة للحروب التي خاضتها أميركا بعد أحداث 11 أيلول. وقد تحوّلت الولايات المتحدة هدفاً مستساغاً للملامة وتحميلها مسؤولية ما يجري. إنه يوم ميمون بالنسبة إلى هواة الفرضيات المغايرة للوقائع. فالعراق الذي يتخبّط في معاناته هو محط التركيز الأمثل لمروّجي الفرضيات.
يحمّل اليسار مسؤولية الكارثة للرئيس بوش والاجتياح الأميركي عام 2003 الذي أدّى إلى تفتيت الدولة العراقية وإطاحة ديكتاتورها القاتل صدام حسين. لو لم يحدث ذلك، لما ظهر متطرّفو “الدولة الإسلامية في العراق والشام” عند أبواب بغداد. فيردّ اليمين بأن هذا الكلام ليس صحيحاً، معتبرين أن أوباما هو الملام على مغادرة العراق عام 2011 من دون ترك قوة هناك لمكافحة الإرهاب. ويضيفون أن فشله الذريع في دعم المعارضة السورية في بداية الانتفاضة كان سبباً أساسياً في انهيار سوريا وتحوُّلها ملاذاً خارجاً عن القانون يؤوي المتشدّدين الإسلاميين. يقولون إنه لو أظهر أوباما حزماً أكبر في العراق وسوريا، لما أفلت تنظيم “داعش” من عقاله بهذه الطريقة.
اللعنة على الفريقَين معاً. ليس لائقاً خوض حرب حوارية في واشنطن فوق جثث القتلى المتراكمة في المشرق.
الوقائع واضحة بما يكفي. اجتاحت الولايات المتحدة العراق عام 2003 بسبب برنامج أسلحة الدمار الشامل. لكن العراق لم يكن يملك أسلحة دمار شامل. أتاح الاجتياح للأكثرية الشيعية الوصول إلى السلطة، فتحقّقت بذلك مصالح إيران الشيعية، عدوّة الولايات المتحدة. وأدّى إلى إخراج السنّة من الحكم، ما أحدث خللاً في التوازن السنّي – الشيعي في الشرق الأوسط، وأثار غضب السعودية، حليفة أميركا في الشكل. نتيجةً لذلك، احتدم النزاع الإقليمي السنّي – الشيعي خلال العقد الماضي.
لم يكن لتنظيم “القاعدة” وجود في العراق في عهد صدام حسين. الولايات المتحدة هي التي تسبّبت بظهوره من خلال الاجتياح. ثم هزمت تنظيم “القاعدة”، قبل أن تفسح في المجال أمام الجماعات التابعة له كي تعيد تنظيم صفوفها، وذلك عبر مغادرتها العراق والوقوف مكتوفة اليدَين إزاء تفكّك سوريا. لدى الولايات المتحدة وإيران مصلحة مشتركة الآن في العراق تتمثّل في الحفاظ على حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي، عبر تشجيعه على التقرّب (المستبعَد) من الأكراد المنتصرين والسنّة المسحوقين، وهزم همجيي تنظيم “داعش”. بيد أن القوى السياسية التي تعارض التعاون مع إيران في الكونغرس نافذة – كما أن المصالح الأميركية والإيرانية تتباعد إلى حد كبير في الملفَّين السوري والإسرائيلي. نادراً ما تكون المقاربة المنطقية في الشرق الأوسط قابلة للتطبيق.
تُضيّع لعبة تقاذف اللوم الهدف. فالعراق وسوريا، وقبل وقت طويل من تدخّل الولايات المتحدة البائس، ومن ثم شللها التعيس، كانا يعانيان من العفن في الصميم، وتجتمع لديهما كل العناصر اللازمة للتفتّت كما كانت الحال مع الأمبراطورية العثمانية قبل قرن من الزمن، بعدما نخرهما السقَم بسبب عبادة الشخص التي فرضها حكّامهما الهمجيون، وتصدّعت بنيتهما تحت تأثير الخطوط الداخلية للانقسام التي اختارت القوى الاستعمارية المشرِفة التغاضي عنها. كان هذان البلدان في حالة من التفكّك المؤجَّل. كان السنّة في العراق والعلويون في سوريا، وكلاهما أقلّية، يعتقدون (ولا يزالون) أنهم يملكون حقاً لا رجوع عنه بحكم البلاد. لكنهم مخطئون.
على الرئيس أوباما أن يستخدم القوة العسكرية الاستهدافية لطرد متطرّفي “داعش”. إذا أحكم الجهاديون قبضتهم، فسوف تكون لهذا الأمر ارتدادات تصل إلى أوروبا والولايات المتحدة. لن تؤدّي مثل هذه الخطوة العسكرية إلى حل مشكلات العراق أو المنطقة. لكن البديل أسوأ بكثير. لأنها ستكون خيانة لآلاف الأميركيين الذين فقدوا حياتهم منذ عام 2001، ولملايين الأشخاص في الشرق الأوسط الذين يعتبرون أن القرون الوسطى قد ولّت.
المصدر: انترناشونال نيويورك تايمز ترجمة نسرين ناضر
النهار
دعوة إلى وحدة ساحة الثورتين العراقية والسورية/ عبد الوهاب القصاب
صياغة الرأي العام وتوجيهه حرفة وظّفت كلّ ما حققه العلم والتقانة في مجال الإعلام، أو ما اصطلح على تسميته بالميديا، بعد أن تعولمت حتى لغة التخاطب في هذا الزمن الذي اختلطت نهاياته مع بداياته، وتفاعلت فيه الأفكار المتولدة في زوايا الكون الأربع. ومن هذه القناعة المتولدة، يجري، وعلى نطاق واسع، بيع سلع الأفكار وتأسيس القناعات. لم تكن عملية شيطنة نظام الحكم الوطني في العراق، بعد النصر المؤزر الذي سطره العراقيون في 8 أغسطس/آب 1988، بعيدة عن أذهاننا، عندما خلقت أسطورة قصف نظام الحكم وقواته المسلحة لحلبجة بالسلاح الكيمياوي أوائل نيسان/إبريل 1988، ومع حقيقة أن حلبجة ضربت بهذا السلاح فعلاً، فإن بوصلة صياغة الرأي العام وصناعة العدو تم توجيهها إلى نظام الحكم في العراق، وليس إلى السلطة الحقيقية التي استخدمت سلاحاً كيمياوياً آخر، من غير المتوفر لدى العراق، وادُّعي أن العراق استخدم السلاح الكيمياوي ضد شعبه، على الرغم من أن مختبرات ومراكز بحوث أميركية تحديداً أثبتت أن إيران، وليس العراق، هي من قصف حلبجة، ربما استهدافاً لفرقة عراقية، كانت تتمركز فيها وحولها. وعلى الرغم من أن السلاح الكيمياوي سلاح مقيت، ولا فائدة عملياتية ترتجى منه، إلا اللهم زرع روح الهلع في نفوس الأعداء، لكن ذلك لا ينفي أنه استخدم من جهة وألصق بأخرى، تم نتيجة هذا التشويه للحقائق الوصول إلى هدف محدد، هو شيطنة نظام الحكم العراقي، وإلصاق تهمة إنسانية به، تمهيداً لمراحل لاحقة، تم فيها استهدافه ومحاصرته وتدميره، هو والعراق سوياً عام 2003.
تعرضت المقاومة العراقية المجيدة التي انطلقت غداة احتلال بغداد، وتدنيسها، إلى عملية شيطنة مشابهة، انطلقت معها، صنعتها قوات الاحتلال، ومن معها من تابعيها من العراقيين اللاجئين خارج القطر، والذين تحالفوا مع الغزاة ومهدوا لهم الأرض والسبيل. هنا، تم توظيف اسطورة القاعدة باعتبارها القوة الإرهابية العالمية المجربة والمكروهة على نطاق واسع، باعتبارها من تقوم بعمليات المقاومة العراقية ضد الغزاة، وتابعيهم من سكان المنطقة الخضراء. ونظراً إلى أن الرسالة التي حملها الغزاة معهم هي زرع “الديموقراطية وحقوق الإنسان في العراق، وتقديمه مثلاً لدول المحيط، عسى أن تتبعه في هذا النهج الحضاري”، فإن كل من وقف ويقف بوجه هذه الرسالة الحضارية سيكون إرهابياً، ومرّ هذا التلفيق وليُّ الحقائق على كثيرين، وأضحى مسألة مسلماً بها، لأن مقدماتها ونتائجها معقولة، إرهابيون يقاتلون نهج الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني الحضري.
هذه هي المقدمة المنطقية لما جرى ويجري الآن، خلق أسطورة يلتف حولها خالقوها والمتلقون، وشيطنة طيف واسع يمتلك الشرعية والمشروعية والرسالة الوطنية، التي في أساسها رسالة حرية وديموقراطية وحقوق إنسان فقط، لأنه لا يتوافق مع الوصفة التي جلبها الغزو إلى العراق، وصفة التفتيت على أسس طائفية وإثنية، من جهة، ولا مع حقد متجذر في نفوس بعض القوى الظلامية التي أتى بها الغزاة معهم. خلقت هنا الأخت الكبرى، وهي القاعدة التي ثبت عدم وجودها لا هي ولا جذورها في المجتمع العراقي قبل الغزو الأميركي للعراق 2003.
” انطلق الربيع العربي، وانطلق معه ربيع عراقي حقيقي، عابر لخط الفصل الطائفي والإثني يوم 25 مارس/آذار 2011، حيث خرجت المحافظات العراقية كلها من البصرة إلى السليمانية مطالبة بالتغيير، وجرى قمع هذه الانتفاضة النزيهة، وأعيد إحياء موضوعة الإرهاب والقاعدة، لتذكير المنتفضين من المحافظات الجنوبية بالقاعدة والتفجيرات، وتمكنت قوى السلطة من العودة إلى نهجها، في استهداف القطاع الواسع من عرب العراق”
وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها المحتلون وأعوانهم، في وضع حدّ لوجود القاعدة في العراق، في العقد الأول المنصرم من القرن الحالي، إلا أن الفشل كان نتاج كل فعالياتهم، إلى أن رأى قطاع من المقاومة العراقية أن يتحالف مع الغزاة، ويضع، بنفسه، حداً لوجود القاعدة في حاضنتها. تم ذلك بفعل قبائل الأنبار، وفصيل من المقاومة في حينه، وشكلت ظاهرة الصحوات التي ما أن انتهت مهمتها، حتى أضحت، هي الأخرى، هدفاً للحكومة الطائفية في بغداد، واستهدفت، هي وقياديوها، بالدرجة نفسها، الطيف الواسع من المجتمع المقاوم في وسط وشمالي العراق. بل إن هذه الصحوات أضحت هدفاً لجهتين متعاديتين، هما الحكومة العراقية وأدواتها من جهة، وبقايا القاعدة من جهة أخرى. صفيت القاعدة عملياً وصفي قادتها الكبار، وأبرزهم الزرقاوي، وصفي كذلك قائد الصحوات، محمد أبو ريشة، غداة احتفاله بزيارة الرئيس الأميركي، جورج بوش، له في “ديرته” لتقديم واجب الشكر له على جهوده في تصفية القاعدة في الأنبار. خرجت الصحوات بكم هائل من كره بيئتها، واشمئزازهم من الدور المشبوه الذي قاموا به، ليس لتصفيتهم القاعدة، بل لفتحهم أبواب مناطقهم لمشاريع تدمير القناعات، والنسيج الاجتماعي التي بدأت على قدم وساق، وأنتجت ما نراه حالياً من عودة الصحوات للتحالف مع من أذلها وأهانها طوال نحو عقد.
انطلق الربيع العربي، وانطلق معه ربيع عراقي حقيقي، عابر لخط الفصل الطائفي والإثني يوم 25 مارس/آذار 2011، حيث خرجت المحافظات العراقية كلها من البصرة إلى السليمانية مطالبة بالتغيير، وجرى قمع هذه الانتفاضة النزيهة، وأعيد إحياء موضوعة الإرهاب والقاعدة، لتذكير المنتفضين من المحافظات الجنوبية بالقاعدة والتفجيرات، وتمكنت قوى السلطة من العودة إلى نهجها، في استهداف القطاع الواسع من عرب العراق، في الوسط والشمال الذي لا يتطابق مذهبياً مع طائفيتهم السياسية، واستمر الشحن الطائفي على أعلى مستوياته، مع إجراءات القمع والاعتقالات الكيفية التي لا دليل لها، وانتهكت الكرامات والأعراض لعشرات آلاف المعتقلين، ونفذت عمليات إعدام، بناءً على محاكماتٍ تدور حول عدالتها الشكوك. واستهدفت رموز المجتمع العربي السني الموجودين في الحكومة المركزية، وألصقت بها تهم الإرهاب، وحوكمت غيابياً وحكمت بالإعدام، كما في قضية نائب الرئيس العراقي، طارق الهاشمي، وملاحقة نائب رئيس الوزراء، رافع العيساوي، على الرغم من أنهم من العملية السياسية نفسها التي أتاحت لرئيس الوزراء الحالي، نوري المالكي، الحكم وفق صفقة سرعان ما تخلى عنها.
هنا، ولدت الشقيقة الصغرى للقاعدة في العراق أولاً، باسم “الدولة الإسلامية في العراق” (داع)، التي مارست وجودها في القسم الشمالي من العراق تحديداً، ثم استغلت ما جرى في سورية، ووسعت حضورها إلى بلاد الشام، واتخذت تسمية “الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام” (داعش) أو ( ISIL). كان لظهورها أثر سلبي كبير على الثورة السورية، فهي لم تضف للثورة شيئاً، بل أسهمت في تمزيقها وتشتيت جهدها، وإعطاء النظام مبرراً يتحدث فيه مع العالم، باعتبار أن ما سينتج لو انتصرت هذه المجاميع سيكون كارثة على المنطقة. وعلى المنوال نفسه، جرت حليفة الأسد في العراق وهي الحكومة التي يديرها رئيس الوزراء الحالي، بشيطنة الحراك الشعبي السني الذي استمر أكثر من عام بطبيعته السنية، والمطلبية التي لم ترفع إلا شعار المساواة في المواطنة، إلى جانب ثلاثة عشر مطلباً آخر، يتوافق عليها العراقيون جميعاً، وكان يتوقع أن تلحق محافظات جنوب العراق بها، لولا بعبع التمزيق الطائفي والتحذير من “الإرهابيين” الذي أضحت داعش تمثلهم حالياً، وجرى وصم الحراك الجماهيري واسع النطاق في المحافظات الست بأنه حراك إرهابي، ترعاه “داعش”. تحت هذه الذريعة، استعدت الحكومة العراقية الرأي العام العالمي وجهات القرار الرسمية في الغرب، وتمكنت من الحصول على سلاحٍ نوعي، استهدفت فيه الحراك، وبهذا، بدأت مرحلة ثانية من التصعيد؛ قوى الحكومة تستهدف مدن الأنبار الرئيسية، باعتبارها حواضن لداعش، فمنذ نهاية العام المنصرم، تستهدف الفلوجة والرمادي وغيرها من المدن العربية السنية، من دون أن تتمكن قوات الحكومة من الدخول إلى المدينتين الكبيرتين، الفلوجة بشكل رئيسي والقطاع الأكبر من الرمادي ومحيطهما، على الرغم من كل الأسلحة المتوفرة لهما.
فوجئت أجهزة الدولة بالصولة الأخيرة على الموصل من الثوار الذين كانوا يشكلون الطيف الكبير الذي قام بالعملية التي يبدو أن مقاتلي “داعش” كانوا في مقدمتهم، وسقطت الموصل، واندحر جيش الحكومة، وفرّ بقياداته، تاركاً أسلحته ومعداته غنيمة للثوار، وتداعت التطورات، وأضحت الثورة الآن على أبواب بغداد.
الثابت إن “داعش” ليست كل الصورة، وإن حجم الفصائل الأخرى والجماهير الملتحقة بالثورة هو أكبر منها، لكنها تتحرك بميزتين، حسن التخطيط، وعزم الاستهداف. الفصائل الأخرى عراقية الهدف والمشروع بالتأكيد، لكنها لن تقع في فخ الصحوات مرة أخرى، هي تسعى إلى أن تكون الأجندة الوطنية العراقية هي السائدة، وواثقة أنها ستصل إلى هذه النتيجة، في مستقبل الأيام، من دون أن تستهلك قواها في صراعات جانبية.
وهنالك درس مستنبط جديد، هو وحدة ساحة الثورتين العراقية والسورية، الأمر الذي أصبح يستدعي التنسيق بين القوى الثورية الوطنية للثورتين، باعتبار ساحة العراق وبلاد الشام (سوراقيا)، كما يدعوها القوميون السوريون، أضحت واحدة. في هذا التنسيق وتوحيد الخطط خير كثير للثورتين، والخير الكثير في إسقاط المشروع الإيراني الذي يستهدف المشرق العربي، خصوصاً إن الأخبار تؤكد أن هيئة أركان قاسم سليماني تقود الهجوم المقابل على مناطق الثوار في وسط وشمالي العراق، والتي جاءت الأنباء لتؤكد فشل صفحته الأولى، بفشلها في استعادة تلعفر القاعدة الكبرى التي فقدتها لصالح المقاومة التي دخلتها الثلاثاء.
وحدة الساحة الثورية العراقية السورية هي الجواب على المشروع الإيراني ومشروع أخوات “داعش”. فهل سيرقى قادة المقاومتين العراقية والسورية لهذا التحدي؟ أصلّي وأتمنى.
العربي الجديد
سقوط الموصل وتكريت مفاجأة العقد الاستراتيجية!/ هدى الحسيني
سألت مسؤولًا أمنيًا غربيًا: هل أخطأت بريطانيا والولايات المتحدة باحتلال العراق والإطاحة بصدام حسين؟ كان جوابه: نعم.
سألته: لو كنت الآن مكان المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، بماذا كنت تفكر؟
أجاب: سأشعر بالندم على كل فعل أقدمت عليه، وأقدم عليه من سبقني لإيقاظ العالم السنّي. سأندم على نزوات الهيمنة والسيطرة التي خدعت نفسي بها، وجلبت معها الدمار لشعبي، سأندم لأنني نسيت أننا أقلية.
وأضاف: تأخر الوقت الآن، العالم السنّي تحرك، الحروب ستعم المنطقة، هناك من سيقاتل، وهناك من سينتهي.
الشرق الأوسط سيتغير، ما بدأ مع الربيع العربي لاحقًا (بعد العراق)، قد يتحول إلى شيء آخر. المنطقة كلها ستتغير، بعض التغييرات يمكن أن نراها الآن، والبعض الآخر لا نستطيع رؤيته في هذه المرحلة. كيف ستصبح التحالفات؟ ليس معروفًا، إنما هي مرحلة مهمة يعيشها العالم بكل سلبياتها.
الفيديو الطويل «صليل الصوارم» المليء بأعمال جنونية الذي وزعته «الدولة الإسلامية في العراق والشام» يكشف عما ينتظر العراق والمنطقة من حروب مذهبية بغيضة ومخيفة، لن تنتهي قبل عشرات السنوات، لذلك حتى لا تستفحل الأمور أكثر، من الضروري استئصال «داعش» قبل أن تعم أمراضها القاتلة المعدية، أو تستدعي ردود فعل انتقامية أسوأ.
بعيدًا عن نظرية المؤامرة، إذا نظرنا إلى واقع ما جرى الأسبوع الماضي، هناك عدة أسئلة تطرح:
أين هي استخبارات الدول؟ الكل فوجئ، وصدم وضاع. سقوط الموصل وتكريت بهذه السرعة سماه أحد الخبراء الأمنيين: مفاجأة العقد الاستراتيجية، ومفاعيلها لن تنتهي.
المفاجأة الاستراتيجية الثانية: تقهقر الجيش العراقي وهرب نصف مليون عراقي، والحديث عن حماية بغداد، متناسين أن الموصل سقطت في يد «داعش».
المفاجأة الثالثة: ثبت أن لا سلطة في العراق. والمفاجأة الاستراتيجية الرابعة كانت تكرار مسؤولين أميركيين، وعلى رأسهم جون كيري، وزير الخارجية، وليندسي غراهام، زعيم الأغلبية الجمهوري المتشدد في الكونغرس، ضرورة التنسيق مع إيران لمواجهة إرهاب «داعش»، وكأن إيران دولة لا تدعم الإرهاب! في اتصال مع مصدر أميركي حول تصريح كيري عن «تنسيق بناء» مع إيران لمكافحة الإرهاب، قال: «إن واشنطن قد تكون مهتمة بذلك، وخصوصًا إذا حصل تقدم في المفاوضات حول النووي، فالرئيس باراك أوباما لا يتحمل الفوضى في العراق لأنها ستؤذي رئاسته، ودول الخليج لن ترتاح لذلك».
هذا على عكس ما قاله مصدر أوروبي، وهو أن أوباما يحتاج إلى إيران في حال لم يتحقق أي تقدم في المفاوضات حول النووي، يريد أن يظهر أن أمرًا إيجابيًا نتج عن علاقاته مع إيران. إذا فشلت المفاوضات حول النووي تبقى «صداقة» أفرزتها، هو يريد أن يكسر حدة 37 سنة من المقاطعة.
إيران في أزمة، يضيف، أنها تريد من أميركا أن تقصف بؤر الإرهاب السنّي في العراق، لكنها إذا أعطت الشرعية لعمل عسكري أميركي فقد يأتي دورها لاحقًا.
قال أحد المراقبين الأميركيين، لو أن الأميركيين عام 2003 مع غزوهم للعراق قصفوا المنشآت النووية الإيرانية لكنا نعيش الآن في عالم مختلف، ولكانت إيران تقزمت إلى حجمها الطبيعي.
عندما اجتاح «داعش» الموصل رحب الكثير من السنّة به كرهًا في نوري المالكي. في أول فيديو تسرب عن تلك الليلة، سمع صوت أحد الداعشيين وهو يلقي خطبة كيف سيعيدهم إلى الإسلام الحقيقي، فانطلق الجمهور بصوت واحد يهتف: بالروح بالدم نفديك يا عراق. ثم بدأت مجازر الداعشيين. تحت غطاء «داعش» انضم البعثيون القدامى وهؤلاء علمانيون، وكل الذين اضطهدهم المالكي.
هذا يكشف كيف انهارت الدولة العراقية. أول رد فعل لإيران جاء في تعليق صحيفة «ابتكار» 12 يونيو (حزيران) الحالي، المقربة من هاشمي رفسنجاني قالت: «إن انهيار العراق يهدد الأمن القومي الإيراني». وحذرت «من احتمال تقسيمه إلى ثلاث دول: كردية، وسنية وشيعية». وأضافت: «هذا السيناريو يجري تطبيقه الآن وسوف يؤثر على الأقليات داخل إيران، وخصوصًا الأكراد، الأمر الذي سيؤدي إلى تقسيم إيران هدف القوى العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة».
إذا حدث ما هو في حسبان الدولة الإيرانية، فهي تعرف أن قواتها لا تستطيع القيام بكافة مسؤولياتها: في سوريا، وفي العراق ومن ثم داخل إيران.
تأثير «غزوة داعش» سيضعف النظام السوري، لأن «داعش» سيجذب مجندين جددا – لأول مرة قصف الجيش السوري مواقع «داعش» في الرقة، قد يعجل هذا في اقتطاع بشار الأسد لدولته بالتركيز على استعادة حلب. سنّة كثر سينضمون إلى «داعش»، إذ إن للنصر «تأثيره». كل الذين رحبوا بـ«داعش» في الموصل لم يكونوا معه في السابق. هم انضموا إلى «المنتصر» على المالكي، وهذه خطورة مقولة: عدو عدوي صديقي، سقط فيها الكثير من السنّة وتسقط فيها أميركا بلجوئها إلى «التنسيق البناء» مع إيران.
عندما سيستيقظ هؤلاء على طعم «داعش» المر والدموي سيكون الوقت قد تأخر، لهذا فإن الصراع المتعدد الجوانب، سيطول.
الواقع الحتمي ينبئ بأن العراق سيقسم إن اندحر «داعش» أو تمدد. المناطق السنية ستشكل دولة بحد ذاتها. الأكراد اقتطعوا دولتهم، والسؤال هو: هل سينضم إليها أكراد سوريا وما إذا كان أكراد إيران سيتحركون.
أما أكراد تركيا، فإن مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان، حريص على ألا يزيد النيران اشتعالًا. هو يدرك أبعاد اللعبة، عندما مد يد المساعدة إلى أكراد سوريا ثارت حفيظة رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان لأنه عرف أن هذا سيحفز مشاعر أكراد تركيا. بارزاني برر أن الاثنين لم يطرحا على جدول البحث مستقبل أكراد سوريا، فالاتفاق بينهما كان أن أكراد تركيا مواطنون أتراك، وبارزاني لن يقترب منهم.
لكن إردوغان يعرف ضمنًا أن الإحساس بقرب التحرر من الطغيان الذي يتنفسه أكراد سوريا ستصل أمواجه وبقوة إلى أكراد تركيا، وأيضا إلى أكراد إيران. أما بالنسبة إلى انعكاسات «غزوة داعش» على تركيا، فإن الأخيرة هي «المرتكب»، وقد تصبح «الضحية». تركيا لا تستطيع الاعتراف بـ«داعش».
تركيا وإيران تعتقدان أن المصائب تحل بالعالم العربي والأفضل أن تبقى محصورة فيه. لكن هل ستبقى؟
احتلال الموصل ضرب الليرة التركية وهز الاقتصاد، كما هدد أيضا مصالح إيران الاقتصادية في العراق. الأزمة الحالية في العراق قد تدمر الاقتصاد العراقي الذي يمثل سوقًا بمئات المليارات للصادرات الإيرانية غير النفطية، وكانت إيران بصدد الاستعداد لتصدير الغاز إلى العراق هذا العام مقابل 3.7 مليار دولار سنويا. هناك قول صيني قديم: حذارِ أن يتحقق ما تتمناه.
عندما اجتاح «داعش» محافظة نينوى بدأ الاحتفال بما سماه تدمير حدود سايكس – بيكو وبث صورًا وهو يجرف علامات الحدود بين العراق وسوريا. وقال على أحد مواقعه على «تويتر/ البركة»: «انسحبت أميركا من العراق مهزومة وتركت الخريطة لـ(الدولة الإسلامية في العراق والشام) لتعيد رسم حدود العالم على المسار الواضح للخلافة النبوية».
لم يأتِ «داعش» بجديد، حدود سايكس – بيكو تنهار، لن تكون هناك دولة اسمها العراق، سوريا ستقسم، وستبرز دولة جديدة على جزء من شرق سوريا وغرب العراق.
مساء الاثنين الماضي قالت الخارجية الأميركية، إن اجتماعًا قصيرًا جرى مع الإيرانيين في فيينا لبحث موضوع العراق. لكن، إذا قرر البيت الأبيض التدخل في العراق ضد «داعش»، لماذا لم يتدخل ضده في سوريا؟ هذا ما لا يريد البيت الأبيض الإجابة عنه. ثم هل سيعرف الأميركيون مدى استعداد الإيرانيين لإقناع المالكي بأن تضم حكومته كل أطياف المجتمع العراقي؟ إن إيران هي من دعم المالكي الذي اتبع أجندة مذهبية بغيضة، عادى الأكراد، اهتم فقط بالمصالح الشيعية الضيقة ولم يلعب دورًا بناء في إعادة بناء العراق. لم يرفّع سوى السياسيين الشيعة، وطرد السياسيين السنّة من حكومته واتهمهم بدعم الإرهاب. قد تريد أميركا وإيران أن يبقى العراق موحدًا، لكن نظرة كل منهما للعراق مختلفة.
أوباما وروحاني يتطلعان لأحداث العراق كفرصة لتطبيع العلاقات على حساب جثة العراق. ثم إن روحاني يرى الأزمة العراقية فرصة ذهبية كي يحصل على تنازلات أكثر من الأميركيين والغرب في المفاوضات النووية. لكن العاصفة المذهبية بدأت، وستعبر إيران وصولاً إلى باكستان.
الشرق الأوسط
غموض الأوضاع في العراق/ أحمد عبد الملك
تتفاقم الأحداث في العراق بصورة دراماتيكية، لربما تؤدي إلى انفجار الأوضاع الأمنية بصورة أشرس وأسرع مما عليه الآن، لدرجة أن تؤثر على جيران العراق، أو قد يترتب على هذا التفاقم تدخلٌ خارجي يفرض معادلات جديدة على المنطقة.
ويبدو أن العامل الأساسي المشترك لما يجري في العراق هو الانتقام، وهو ما أكدته «المركزيات» المذهبية والقبلية والإثنية، فالشيعة وجدوا في خلو الساحة من صدام حسين فرصة لحكم العراق والثأر من «غرمائهم» السُنة الذين كانوا في المركز وهمشوا دور الشيعة ردحاً من الزمن ووضعوهم في الهامش. واليوم يبدو أن صحوة جديدة لدى أهل السُنة قد قامت، ليس عبر الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش»، كما يبدو للعيان – بل كما صلّحَ لي مواطن عراقي أثقُ في معلوماته – من أن المسلحين أو الثوار الذين أخذوا دوراً جديداً على الساحة هم من السُنة، والضباط والجنود العراقيين السابقين، الذين شعروا بالغبن في ظل الحكومة الشيعية في بلدهم، وبأن الفصائل الأخرى تُمعن في قتلهم والاستيلاء على مقدراتهم، وتهضم حقوقهم الوطنية، ظهروا في معادلة العنف كرقم جديد.
وفي وقت كهذا تلاشى الانتماء للوطن، واقتصر على المذهب أو القبيلة، ذلك أن العناصر التي تحتربُ على الساحة العراقية، سواء كانت من جيش الحكومة أو عناصر «داعش» أو من الثوار الجُدد ممن كانوا أفراداً في الجيش العراقي الذي حلّهُ «بريمر» عندما حكم العراق، أو عناصر «القاعدة» لا يدافعون عن شيء اسمه العراق! بل عن انتماءاتهم وأفكارهم وعقائدهم وكربلائيات تاريخهم. وهذا يجعل الأمر أكثر تعقيداً عند بعض العراقيين المعتدلين الذين لا يعترفون بـ «المركزيات» قدر اعترافهم بالانتماء إلى العراق الواحد الذي يتعايش فيه جميع العراقيين بتساوٍ وإخاءٍ وتنمية.
تحاول إيران من جهة الشرق إيهام الرأي العام العالمي بخطورة «داعش» ليس خوفاً من عتادها، بل خوفاً من مذهبها السُني الذي يتعارض تاريخياً وميدانياً وإدارياً مع المذهب الشيعي، وهذا ما أجبرها على التصريح بأنها لا تستبعد التعاون مع الولايات المتحدة (الشيطان الأكبر سابقاً / الملاك حالياً)، من أجل التصدي لهجمات متكررة لـ«داعش»على العديد من المدن الإيرانية، كما أعرب الرئيس الإيراني عن « قلق» طهران من «زحف مقاتلي الدولة الإسلامية في العراق والشام في شمال وشرق العراق، مبيناً عدم وجود نية للتدخل، ومستدركاً بالقول «من الممكن أن يطلب العراقيون منا المشورة لقتال الإرهاب». وبالفعل، فقد قام وفد من عدة ضباط إيرانيين بزيارة للعراق – الأسبوع قبل الماضي – بهدف تقديم المشورة لقيادة البلاد المحاصَرة، ولوقف تقدم الميليشيات نحو بغداد.
ويرى محللون غربيون أن العراقيين يأملون في الحصول على مساعدة كبيرة من إيران كنوع من الضغط على الولايات المتحدة حتى تقدم العون من تلقاء نفسها للدفاع عن العراق. ويرون أن الحالة العراقية تفرض عدم الالتفات إلى الخصومة بين الولايات المتحدة وإيران، في ظل وجود مصالح للطرفين داخل شريك مُحاصَر ضد «داعش».. ولقد نشرت «داعش» يوم 15 يونيو صوراً لمقاتليها وهم يعدمون عشرات المدنيين والجنود العراقيين في محافظة صلاح الدين. كما نشرت وسائل الإعلام العربية شروط «داعش» لمستقبل الحياة في العراق، وهي شروط تتجاوز سوءاً تلك التي وضعتها «طالبان» في أفغانستان.
وينفي الأميركيون أي تنسيق لهم مع الإيرانيين بشأن الأحداث في العراق، إلا أنهم يعترفون بضرورة عدم قيام إيران بتصرفات تزعزع استقرار الوضع أكثر، وألا تحاول إذكاء التوترات الطائفية ، وتلك إشارة واضحة لاستخدام عنصر الطائفية والوقوف مع حكومة المالكي ضد التحركات السنية سواء كانت «داعش» أو (الثوار – جيش العراق).
ويتخوف المسؤولون العراقيون من إجبارهم على التوجه نحو طهران لطلب الدعم، في حال تقاعس واشنطن عن تقديم العون اللازم لهم، كما يتخوف كتاب عرب من دور تركي في داخل العراق، خصوصاً بعد تصريحات واضحة لرئيس الوزراء التركي بأن «حكومة العراق الاتحادية تتصرف على أساس طائفي» وأنه قلق من أن يتحول العراق إلى سوريا أخرى»؟ وكذلك قيام الرجل بالوقوف مع تحركات عشائر السُنة في محافظة الأنبار وتقديم العون لها، بعد أن أصاب التهديد مدينة كركوك ممرَ النفط العراقي نحو تركيا! وقام مقاتلو «داعش» بالاستيلاء على القنصلية التركية في مدينة الموصل واحتجزوا 50 شخصاً كرهائن، وبذلك يصل عدد الأتراك الذي يحتجزهم التنظيم أكثر من 80 شخصاً، بمن فيهم سائقو شاحنات النقل الأتراك. فيما استبعدت المصادر «مغامرة تركية عسكرية لتحرير الرهائن»!.
معلوم أن المنطقة الكردية وغرب الموصل لها أهمية استراتيجية لأنقرة فيما يتعلق بضخ النفط إلى تركيا، وأيضاً أنها تعتبر ثاني أكبر مستورد للبضائع التركية بعد ألمانيا. عرقياً ترى تركيا أن للتركمان حقا أخلاقيا وأدبيا عليها، لأنهم يعيشون في المنطقة منذ الدولة العثمانية، وهذا برأي مراقبين مبرر أكثر من كافٍ لتدخل تركي في شمال العراق، بعد أن دعت تركيا حلف الأطلسي لاجتماع عاجل لدراسة الأوضاع في العراق.
ويبدو أن العراقيين سيواجهون حقيقة أو معضلة الخلاف السُني/ الشيعي، بعد أن بات جلياً وجود «شبح» صدام حسين «السني» في المشهد، ووجود تقارير عن ظهور مسلحي الجماعة النقشبندية بقيادة عزة الدوري، إلى جانب «داعش» في المواجهات التي خاضوها مع الجيش العراقي.
المشهد يغيب عنه مجلس التعاون الخليجي، ورغم تقديرنا لسياسة التأني والحبل الطويل الذي تنتهجه دول الخليج تجاه التطورات الإقليمية والدولية، إلا أن ما يجري في العراق هذه الأيام سوف يلقي بظلال غير مريحة على مجمل دول المنطقة. وتشخصُ الأبصار حالياً إلى كل من الرياض وطهران، في محاولة لاستكناهِ تبلور موقف من الجانبين، قد يؤثر على سير الأحداث المتفجرة في العراق.
الاتحاد
“|داعش” حالة لا طائفة!/طارق الحميد
صحيح أن الشيطان في التفاصيل، لكنها تفاصيل لا يمكن تجنبها، خصوصا أنها تناقش أمراء التفاصيل الدامية في منطقتنا؛ فمع الأزمة العاصفة في العراق، وبروز ما بات يعرف بتنظيم داعش الإرهابي، تركز الحديث الآن على أن التطرف في المنطقة هو صفة سنية.
والحقيقة التي يجب إدراكها هي أن «داعش» الإرهابي حالة أكثر من كونه طائفة؛ ففي منطقتنا هناك «داعش» الرئيس، و«داعش» رئيس الوزراء، و«داعش» الحزب الممثل في دولة، كما لدينا «داعش» الميليشيا المسلحة، وجميعهم يقترفون نفس الجرائم التي يقترفها تنظيم داعش اليوم في العراق، من حيث قتل عناصر الجيش العراقي بشكل همجي إرهابي، ونفس «داعش» الذي يقاتل الجيش الحر في سوريا بدلا من أن يقاتل نظام بشار الأسد الإجرامي الذي قصف «داعش» في سوريا، وللمرة الأولى، فقط قبل أيام معدودة!
نقول إن «داعش» حالة وليس طائفة؛ لأن ما يفعله «حزب الله»، المكون والممثل للحكومة اللبنانية، في سوريا، ومثله «عصائب الحق» الشيعية العراقية، و«لواء أبو الفضل العباس» هو نفس ما يفعله «داعش» بالعراق الآن. ومثلهم فيلق القدس الإيراني! كما أن ما يفعله الأسد نفسه، وقواته، بحق السوريين، هو «داعش» كذلك، خصوصا أن نظام الأسد قتل ما يزيد على مائة وستين ألف سوري بالبراميل المتفجرة، والأسلحة الكيماوية.
والحقيقة أن الاستدلال على الأفعال الإجرامية لـ«داعش» بفيديوهات أو خلافه ستقابله أدلة مماثلة لجرائم أخرى تم اقترافها، فلكل «داعش»، سني أو شيعي، سجل لا يقل سوءا عن الآخر في التعذيب والإهانة والقتل. فما يجب أن نعيه هو أن نتائج التطرف واحدة، ومن أي طرف كان، فتطرف الحكومة العراقية، مثلا، ومن هم محسوبون عليها هو ما قاد العراق إلى ما هو عليه الآن.
ومن هنا فإن «داعش» حالة وليس طائفة، وما يجب أن يعيه الغرب، وعلى رأسه الأميركيون، أن التطرف والإرهاب لا يولدان إلا التطرف والإرهاب، وأن كل «داعش» سيقابله «داعش»، ولذا فلا بد من حلول جذرية لنزع فتيل الأزمة، وإلغاء مسببات التطرف والإرهاب، خصوصا أن ما يحدث بالعراق اليوم ليس كله بسبب «داعش»، بل هناك أسباب حقيقية قادت إلى ما نحن عليه، وبالتالي فلا بد من حل سياسي حقيقي في العراق، وتحرك جاد في سوريا، وإلا فإن المنطقة برمتها مقبلة على ما هو أسوأ. فلا بد من حلول تعلي هيبة الدولة، وتلغي المحاصصات الطائفية، وتقطع الطريق على التدخلات الخارجية، وعدا عن ذلك فإن كل أزمة قادمة ستجلب لنا ما هو أسوأ من «داعش» الذي هو أسوأ من «القاعدة» الآن!
الشرق الأوسط
عودة النكات “المصلاوية”/ محمد عارف
«مصلاوي مات أبوه وضع لافتة بالسوق كتب عليها: يونس ينعي أباه ويُصلّح الساعات». هذه النكتة تفسر وضع أهل الموصل الآن. وإذا كنا لا نعرف ما يريده سكان الموصل، فالسبب هو أن «مصلاوي احترق بيته اتصل هاتفياً بالإطفاء، وأغلق الهاتف بعد رنّة واحدة ليقلل من كلفة الاتصال». والعتب على رئيس الحكومة الذي يتصرف مثل «مصلاوي تزوج وراح شهر العسل لوحده». والنكات تصدر عن قلب مثقل، وليس عن قلب خال، إنها أنين الروح العراقية التي تسلينا عن هذا الهزيع الأخير من ليل البلد بنكتة عن مصلاوي في سكرات الموت يشتم أولاده المحيطين بسريره: «مناعيل الوالدين، كلكم هنا، لعد منو بقى بالدكان»!
وتبدو كالنكتة الموصلية واقعة أربع فرق عراقية، نزع ضباطها وجنودها أرديتهم العسكرية، وسلاحهم، وولوا هاربين. الفريق «جون بيدنيرك»، رئيس دائرة التعاون الأمني في سفارة واشنطن ببغداد، ذكر أن المسألة ليست قوة «داعش» بل انهيار القوى الأمنية العراقية، ودليل ضعف بالغ في هيكل وقيادة الجيش العراقي الذي يتكون من 14 فرقة. وشكّكَ العسكري الأميركي بصحة تفسير انهيار الفرق الهاربة لعدم انسجام تكوينها المتعدد الطوائف؛ شيعة وسنة وأكراد، وذكر في شهادة أمام لجنة القوات المسلحة في الكونجرس أن «المجندين الشيعة، حتى في المنطقة الخضراء، كان بعضهم يرتدي ملابس مدنية تحت ردائهم العسكري، تحسباً للهرب عند التعرض لهجوم ثقيل».
وتفسير الجنرالات الأميركيين للكارثة، كالمصلاوي الذي مات وترك وصية مكتوب فيها «آني غاسل.. لا تغسّلوني». ولم يغسل الجنرالات ضميرهم عن مسؤوليتهم في إنفاق 25 مليار دولار أنفقت لتدريب وتسليح قوات الأمن العراقية، وتجهيزها بالمعدات، منذ بدء الحرب حتى مغادرتهم في سبتمبر 2012. ولم يُسألوا عن المسؤول عما ذكروه حول «عوامل غير مساعدة للقوات العراقية، ومحدودية قوتها الجوية، وعدم كفاءة التدريب، وضعف القيادة». وغسلوا عار هروب 4 فرق أمام 3 أو 5 آلاف مقاتل، بالقول إن «داعش شقّت طريقها شهورا عدة عبر الموصل والمناطق الأخرى في حملات تضمنت الاغتيالات والتجهيزات المستمرة بالانتحاريين من سوريا».
و«الجيش العراقي كان يتهاوى قبل فترة طويلة من سقوطه»، عنوان تقرير «نيويورك تايمز» تحدث عن «الانهيار المريع للقوات العسكرية في مدن عراقية عدة». وأوردت الصحيفة شهادات كبار مسؤولي الجيش والأمن الأميركيين عن ضعف القيادة العسكرية العراقية، وانهيار معنويات القوات، وعطب المعدات، والتدهور الحاد في التدريب منذ مغادرة آخر المستشارين العسكريين. ونقلت الصحيفة عن الفريق المتقاعد جيمس دوبيك، الذي أشرف على تدريب آلاف القوات العراقية في عملية «الاندفاعة» المشهورة، أن العسكريين العراقيين فقدوا الثقة بأنفسهم وبقدرات الحكومة على تحقيق الانتصار، والحكومة فقدت الثقة بالعسكريين. وحمّلَ «دوبيك» سياسات الحكومة العراقية مسؤولية اضمحلال ما يسميها «جزر الكفاءات العسكرية». وماذا عن مسؤولية قيادات أميركية درّبت عشر سنوات قوات عراقية «سقطت ست من مروحياتها خلال الشهور الخمسة الماضية، وتعطلت 60 منها في العمليات الحربية»؟ وهل العراقيون وحدهم مسؤولون عن ضعف صيانة دبابات «إن-1» التي اخترقتها أسلحة روسية مضادة للدروع غنمتها «داعش» في سوريا؟ ومن اختار ودعم سنوات عدة المالكي الذي يحملونه الآن مسؤولية «تسييس قيادات الجيش العراقي، وتفتيت كفاءة القوة العسكرية العراقية على مختلف المستويات»؟ وما قيمة المثال الذي أورده «دوبيك» عن إقصاء المالكي جنرالا عراقياً سنياً كفئاً واستبداله بشيعي، بالمقارنة مع استراتيجية واشنطن القائمة على الطائفية سنوات قبل غزو العراق وبعده؟
«أمران فقط لا نهاية لهما؛ الكون، والغباء البشري، وأنا لست متأكداً من الأول». قال ذلك إينشتاين الذي وضع إحدى أهم النظريات عن الكون، وعاش تحت ظل أغبى نظامين في العالم؛ ألمانيا النازية التي فرَّطت به وبعلومه، وأميركا الإمبريالية التي حوّلت علومه إلى قنابل نووية، جعلته يندب حظه أن لم يمتهن تصليح الساعات في جنيف. وقد ندبتُ نفسي وقلة قليلة من مثقفي العراق المناهضين للاحتلال والطائفية، لا نعرف ما إذا كنا نحن الأقلية المجانين أم الأغلبية التي وقفت مع الاحتلال والطائفية! واليوم أعرف أننا جزء من خبال لا طائفي يصر على إنكار وجود الطائفية. وأكثر ما يرعبني أن يكون صدور فتوى المرجع الشيعي الأعلى بالجهاد الآن، وعدم صدورها ضد غزو العراق عام 2003 نذيراً بحرب عابرة للبلدان، كحرب المئة عام في أوروبا.
والموصليون يُنّكتون عندما تحل بهم مصيبة، وتاريخ نكاتهم من تاريخ ديارهم التي تعرضت لغزوات شتى الأقوام عبر التاريخ. ويُرّجح الباحث العراقي صباح صدّيق الدملوجي أن الإغريق والرومان غزوا ديار الشام والموصل واستوطنوها، ونشأت عن اختلاط الأجناس سلالة تتميز بالعيون الملونة والبشرة البيضاء خلافاً للأقوام المحيطة بهم. ذكر ذلك في دراسته لكتاب «م. إي. هيوم-غريفيث»، وهي امرأة إنجليزية عاشت مع زوجها الطبيب في الموصل بين عامي 1900 و1908، وألفت كتاباً جميلا عن مشاهداتها. وترجم الدملوجي الفصول الخاصة بالموصل في كتاب نشره بعنوان «الموصل في مستهل القرن العشرين»، مزين بصور فوتوغرافية نادرة التقطتها المؤلفة، وبينها صورة جسر على نهر دجلة عند تجمده عام 1908، وهي حالة لم تحدث قبل ذلك بنحو 150 عاماً. وأجمل صفحات الكتاب عن نساء الموصل ونهر دجلة الذي يستقون منه مياه الشرب، ويغسلون الثياب، ويعومون كالسمكات في النهر الخالد الذي استخدم وسيلة النقل بعيد المدى من الموصل حتى بغداد، ومهرجان طقوس واحتفالات يمتد تاريخها إلى طوفان نوح، حسب روايات سكان الموصل. وتذكر الكاتبة أنها رأت «أجمل الوجوه بين نساء الموصل المسلمات. فمنهن الشقراء الفاتنة ذات العيون الزرقاء الفاتحة، والشعر الذهبي، ومنهن السمراء الأخاذة الجمال تسترق النظرات من وراء حجابها بأعين عسلية مرحة». و«سحر الجاذبية الرئيسية للنساء الشرقيات يكمن في عيونهن». قد لا يكون الوجه «جميلا جداً»، غير أن «العيون رائعة، وتعبر عن روحية يملؤها الحزن، وتتمنى شيئاً لا يمكن إدراكه. إنها عيون تجعلك تبكي إذا ما ركزت نظراتها عليك في اشتياق لنوع من الحب لا يمكن التعبير عنه بالكلام».
وقد حاولتُ التعبير عن ذلك في آخر قصيدة كتبتها باللهجة البغدادية، وهي في الحقيقة ليست قصيدة، ولا آخرها، بل بطاقة تهنئة بعيد ميلاد مصلاوية: «العِشِقْ ما لَهْ عُمُرْ، ولا إلَهْ ميلادْ. كُلْ أيام العِشِقْ تِنعشِقْ، وكُلْ أعماره أعيادْ». و«شتاقيتولكي كثيغ، وغت أخابركِ، بس قِلتُ ما طول إنتِ بقلبي، عليش هالمصاريف الزايدي». وتعني بالعربية اشتقت لك كثيراً وأردت أن أخابرك، لكن قلتُ طالما أنك في قلبي فلماذا هذه المصاريف الزائدة»!
الاتحاد
حزب الله في العراق؟/ حـازم الأميـن
سأل لبنانيون كثر في الأيام القليلة الفائتة عن احتمال أن يُرسل حزب الله مقاتلين إلى العراق، على غرار ما فعل في سورية!
لسذاجة وضعف في الفطنة كان كاتب هذه السطور استبعد أن يُشارك الحزب في القتال في سورية. سورية بلد كبير ومترامٍ وتأثير الحزب يبقى محدوداً، ثم إن الخسائر ستكون كبيرة. الى أن أعلن الحزب رسمياً أنه يُقاتل هناك.
الأسباب السورية للتردد في الذهاب إلى القتال إلى جانب النظام هناك تبدو في الحالة العراقية مضاعفة. العراق بلد أكبر من سورية، ومشاكله أعقد، والقدرة على التأثير في الوقائع أدنى منها في سورية. وعلى رغم ذلك على المرء أن يتردد في الحسم في أن الحزب لن يذهب للقتال هناك. فما رشح من كلام السيد حسن نصرالله الأخير يؤشر إلى احتمال المشاركة. ويؤشر أيضاً إلى أن مسألة “حماية المقدسات” انتقلت لتحل مكان تحرير القدس.
القول بأن الحزب لعب أدواراً كبرى في الحرب السورية ينطوي على مبالغة. لعب أدواراً محددة، ودفع أثماناً كبرى على صعيد الخسائر البشرية، وأيضاً لجهة تهشم صورته على نحو غير مسبوق.
ثم إنه اليوم أسير المشاركة في القتال. فقد صار واضحاً أن الحزب في سورية مصلحة أميركية واسرائيلية أيضاً. واستمرار القتال يشكل بحسب استراتيجية أوباما فرصة لاستنزاف إيران وفروعها الإقليمية، وهو يعني أن النصر في سورية ممنوع على أي طرف.
كلفة الذهاب إلى العراق ستكون أكبر، على المستوى البشري على الأقل، لكن ربما تطلب الأمر “تضحيات”، على رغم أن المنطق ينفي ذلك. فالحزب في سورية قاتل في القصبات القريبة من الحدود مع لبنان، وفي حمص وفي منطقة السيدة زينب. ولنقاط القتال هذه صلة بهويته الطائفية والمذهبية، وبوظائفه المباشرة كجهاز إقليمي.
في العراق المهمة أوسع بكثير، وخط الانقسام المذهبي هناك أشبه بشفرة سيف.
اللبنانيون حين تساءلوا، كان دافعهم بالدرجة الأولى البحث في ارتداد مشاركة الحزب في العراق على لبنان. على المستوى الأمني، انتقام داعش لن يكون سهلاً في حال توفر حد أدنى من النصاب السياسي والأهلي. هذه معادلة فهمها الحزب. إقصاء السنة اللبنانيين يوفر بيئة لداعش. أما على المستوى السياسي، فقد شعر اللبنانيون في الآونة الأخيرة أن حزب الله أدار ظهره لقضاياهم وانشغل حتى العنق في الوحل السوري. مرر الحكومة ومرر زيارة البطريرك الراعي اسرائيل، وانكفأ إلى حد ما عن السجال الداخلي. وسيكون للمشاركة في العراق نتائج مشابهة.
بعض الخبثاء من خصوم الحزب يريدونه أن يذهب إلى مزيد من الحروب في الخارج، وهم تأملوا خيراً بكلام السيد حسن الأخير.
هؤلاء يا سيد حسن خصوم خبيثون. ثمة خصوم غير خبيثين يتمنون أن لا يذهب الحزب إلى العراق، ولو أنه لم يكن قد ذهب إلى سورية. لو أنه حزب لبناني. فقط لبناني. حزب طائفي لبناني يسعى وراء مصالح الجماعة التي يُمثلها، ولا يدفع للجماعات الأخرى، من حصة جماعته، أثمان مشاركاته في حروب خارج الحدود.
وثمة وجه آخر لهذه المشاركات، تتمثل في أن آلاف العائدين من القتال اختبروا على تلك الجبهات البعيدة أنماطاً من التشيع كانت عقود العيش في لبنان قد امتصت بعض غلوائها. اليوم يبدو أن شيئاً عاد ليتسرب. علينا أن ننتظر ونراقب.
موقع لبنان ناو
من بغداد إلى دمشق وبيروت/ وليد شقير
سيمر وقت طويل قبل أن يتبين المتابعون الخيط الأبيض من الخيط الأسود في العملية المعقدة التي أدت إلى الحدث العراقي بطبعته الجديدة التي أطلقت سيلاً من التكهنات حول الجهة، أو الدولة، أو الأجهزة التي تقف وراء هذا الانتشار الواسع لتنظيم «داعش» في مناطق عراقية واسعة.
فالدينامية التي سارت فيها التطورات في بلاد الرافدين تبدو في الكثير من الأحيان عصية على الفهم والتفسير: ما هو الخيط الفاصل عراقياً بين «داعش» وبين العشائر السنية المتمردة على تفرد رجل طهران نوري المالكي وجنوحه الفاقع نحو المذهبية طوال 8 سنوات من الحكم الذي أثار أيضاً قيادات شيعية رئيسة وجيش النقشبندية الذي يقوده نائب الرئيس العراقي السابق عزت الدوري وضباط الجيش العراقي السابق المسرّحين منذ عام 2003 والذين توزعوا على تنظيمات عدة بما فيها «داعش»؟ وأين هو دور إيران وسورية اللتين عقدتا صيغة وثيقة من التعاون مع «داعش» للإفادة منها في الحرب السورية من أجل شيطنة المعارضة المعتدلة ووصم المعارضين بالإرهاب وإفقادهم الحجة أمام دول الغرب؟ وما هو الدور التركي في العلاقة مع هذا الخليط المتمرد على المالكي وحكمه المذهبي؟
وإذا كان استسهال المالكي اتهام المملكة العربية السعودية بدعم «داعش» يأتي في سياق عدم الحرج عنده من أن يواجه التمرد السني بالاستنفار الشيعي من حوله، فإن الرياض لم تكن تخفي رفضها سياساته الفئوية والمذهبية وتعاطفها مع المحتجين على هذه السياسة منذ سنوات. فالتداخل بين التنظيم، الذي صنفته السعودية على لائحة الإرهاب، وبين الانتفاضة في المناطق السنية ضد حكمه والهيمنة الإيرانية على قراره، يسمح لرئيس الوزراء العراقي بأن يلقي التهم على هذا الشكل مستفيداً، كما يفعل بشار الأسد في سورية، من الفوضى التي اصطنعتها الاستخبارات السورية والخيوط الإيرانية في الساحة الواحدة الممتدة من العراق إلى سورية ولبنان، والقائمة على اختراع عدو إرهابي، ليطغى على الصراع الدائر بين كل من النظامين السوري والعراقي وبين الخصم الفعلي المناوئ لاستبداد حكام ديكتاتوريين وظيفتهم حفظ نفوذ طهران في الدول التي تمتد على مساحة هذه الساحة المشرقية الشاسعة. هكذا يصبح الاعتراض على الهيمنة الإيرانية دعماً للإرهاب ولـ «داعش».
يحتقر المالكي والأسد وداعموهما في إيران عقول العارفين بأن التشكيلات السنية المتمردة في سورية والعراق قاتلت «داعش» وقبلها «القاعدة» قبل أن يدّعي الأسد والمالكي والقادة الإيرانيون مقاتلتها.
وهم يحتقرون العقول حين يستجيرون بدول العالم، وصولاً إلى الطلب من الولايات المتحدة الأميركية المساعدة في التخلص من الإرهابيين، بحجة إسقاطهم الحدود، كأن لا ذاكرة عند الناس بأن ما أسقط الحدود منذ بداية عام 2013 هو هذا النفير العام الذي دقته طهران داعية ميليشيات «حزب الله» والعديد من التنظيمات العراقية والمقاتلين الأفغان الهزارة إلى خوض الحرب في سورية، في أبشع صورها، باعتبارها دفاعاً عن العاصمة الإيرانية نفسها. وهو ما برر إبقاء هذه الحدود مفتوحة أمام هؤلاء من كل الجبهات، لا سيما اللبنانية- السورية والعراقية- السورية براً وجواً، مقابل فتح أنقرة الحدود التركية السورية لمعارضي الأسد، بعد إسقاطه خيار الحل السياسي بالبراميل المتفجرة والمجازر والكيماوي والتنظيف الديموغرافي… وصولاً إلى إعلان سقوط صيغة جنيف-1.
استعارت طهران وحلفاؤها صيغة «الفوضى الخلاقة» التي كانت تتهم واشنطن باعتمادها، متناسية أن الأسلوب الأميركي هذا أدى في كثير من الحالات إلى إفلات عملية إدارة هذه الفوضى من السيطرة وانقلابها على أصحابها. والأرجح أن الإدارة الأميركية تترك للآخرين أن يتخبطوا هم في ما سبق أن وقعت فيه، مع فارق القدرة على استيعاب الخسائر والأضرار.
في هذه الفوضى التي تتراوح بين الحرب المذهبية والتقسيم وتثبيت مناطق النفوذ بين المتناحرين المحليين والإقليميين، تتركز عين الغرب على المفاوضات حول الملف النووي الإيراني التي تواجه صعوبات تجعل من موعد انتهائها المفترض في 20 تموز (يوليو) المقبل حداً فاصلاً بين ضبط الفوضى الإقليمية القائمة التي يسعى كل فريق إلى الإفادة منها في العملية لتحسين مواقعه في المرحلة التالية من البحث في الأزمات الإقليمية، وبين استمرارها. وهو موعد معرض للتمديد.
وفي هذه الساحة المفتوحة سيبقى الصراع على السلطة هو جوهر المشكلة لا سيما في بغداد ودمشق.
لكن السؤال يبقى حول لبنان الذي وجدت القوى الإقليمية وسيلة تبقي عليه واحداً من ميادين الساحة المفتوحة من دون أن يذهب به الصراع على السلطة إلى الفوضى الكاملة، عبر تسوية على تشكيل الحكومة اللبنانية منتصف شهر شباط (فبراير) الماضي، بقيت ناقصة بتعذر انتخاب رئيس للجمهورية منذ 25 أيار (مايو) الماضي. وهو أمر قد يؤدي شيئاً فشيئاً إلى تآكل هذه التسوية إذا كان اكتمال السلطة فيه سيبقى مرتبطاً بالصراع الطويل الأمد على السلطة في بغداد ودمشق. والحديث عن أن لا رئيس في لبنان إذا لم يكن مرضياً للأسد، وتأييد الأخير ترشيح زعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون، لا يبشران بإمكان تحييد لبنان عن الصراع على السلطة في دول الساحة الواحدة، عبر تسوية ما على الرئاسة الأولى.
الحياة
تلاقٍ بين أوباما وروحاني للضغط على المالكي/ راغدة درغام
توجد نظريتان متضاربتان حول ما ستؤدي إليه التطورات الأخيرة في العراق من تأثير أولاً على مستقبل الدور الإقليمي لإيران بدءاً من العراق مروراً بسورية وصولاً إلى لبنان، وثانياً على الداخل الإيراني في المعركة بين صفوف الاعتدال وقوى التشدد والتطرف، وثالثاً على المفاوضات النووية 5 + 1 والعلاقات الثنائية الأميركية – الإيرانية. إحدى النظريتين تتوقع إصرار «الحرس الثوري» الإيراني على عدم خسارة موقع قدمه في العراق وسورية ولبنان. بالتالي، فإنه سيضاعف عزمه على محاربة القوى المتعاضدة ضد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، وسيعزز تمسكه بالرئيس السوري بشار الأسد، وسيستعين بـ «حزب الله» لإلحاق الهزيمة بـ «داعش» مهما كلّف الأمر. كما أنه سيمنع قوى الاعتدال داخل إيران من التنازل أمام المطالب الأميركية للتخلص من المالكي إنقاذاً للمفاوضات النووية وللعلاقة الثنائية المبتغاة بين الرئيس باراك أوباما والرئيس حسن روحاني. النظرية الأخرى ترى أولاً، أن الانتفاضة العراقية ستؤدي إلى إلحاق الهزيمة بمشروع «الهلال الشيعي» نظراً إلى استيلاء القوى السنّية على مواقع رئيسية تشمل الحدود والمعابر إلى سورية. وثانياً، أنها ستسفر عن التخلص من نوري المالكي بصورة أو بأخرى، يليه بشار الأسد وربما أيضاً قيادة «حزب الله». وثالثاً، أن جديداً سينتج من الانتفاضة العراقية لجهة حديث إقليمي جديد يشمل السعودية وقوى الاعتدال الإيراني يحتوي التشنّج المذهبي ويتفادى حروباً سنّية – شيعية. ورابعاً، إن كل ذلك سيخدم المفاوضات النووية بين الغرب وإيران وسيساعد باراك أوباما في نسج الإصلاح النوعي في العلاقات الأميركية – الإيرانية. إلقاء نظرة على التطورات العراقية المذهلة خلال الأيام العشرة الماضية قد يساعد في تشريح الحدث وقراءة أبعاده عما إذا دخلت في نطاق نظرية التصعيد والتقسيم والحروب أو في نظرية الاحتواء وتصحيح مسارات خاطئة.
ظاهرياً، هناك اليوم تلاق أميركي – إيراني في دعم الحكومة العراقية والجيش العراقي في وجه تنظبم «داعش» الذي طُبِعَ اسمه في البداية على الانتفاضة العراقية. تلك الانتفاضة تضم عشرة تنظيمات عراقية على الأقل إلى جانب «الصحوات» وفورة تلقائية ضد سياسة الإقصاء التي مارسها المالكي ضد سنّة العراق لتهميشهم فيما كان يستفرد بالسلطة. لذلك، يُستهجن ذلك التلاقي بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية لدرجة ظهورهما حليفين في العراق يدعمان المالكي في مواجهة التهديد الذي يشكله «داعش».
عند التمعّن في المواقف الأميركية والإيرانية، لا سيما أمام أنباء تقدم الطرف الأميركي إلى الطرف الإيراني بطلب تغيير المالكي، يبدو الأمر مختلفاً قليلاً.
فهناك مؤشرات إلى تلاقٍ بين الرئيس باراك أوباما والرئيس حسن روحاني قوامه ضرورة إلزام المالكي العمل مع السنّة العرب والأكراد لتصحيح الأوضاع والاعوجاج الذي رافقها. رد المالكي عليهما أن لا مجال للتفاهم مع السنّة العرب والأكراد الآن وأن الرد يجب أن يكون عسكرياً وحاسماً. داخل العراق هناك من الشيعة من يعارض المالكي في اتهامه الأكراد بدعم «داعش» ويعتبره خطأ استراتيجياً. وهناك أيضاً من يلومه على الاستهانة باستعداد سنّة العراق لإنشاء مجالس صحوة ضد «داعش» مشابهة لمجلس «الصحوة» عام 2007 التي ألحقت الهزيمة بـ «القاعدة».
قد تصل الأمور بأوباما وروحاني إلى العمل معاً للتخلص من المالكي، وإيجاد بديل عنه وقد يجدان أنهما في معركة إطاحة المالكي ضد قوى «الحرس الثوري» وقائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني الذي أسرع إلى العراق لدعم المالكي.
إدارة أوباما لن تستطيع مد الدعم إلى المالكي طالما هو ماضٍ في تعنته، ليس فقط بسبب ديكتاتوريته وتحوّله طاغية تشبه صدام حسين، وإنما أيضاً لأن خضوع أوباما أمام قوى التطرّف الإيراني وإذعانه لبقاء المالكي سيشكل مساهمة مباشرة في إذكاء الحرب المذهبية داخل العراق وفي جيرته.
ثم إن أي تمسك لأوباما بالمالكي الآن سيؤدي إلى عودة التوتر مع الدول الخليجية وبالذات السعودية، لا سيما أنه يعني عملياً التحالف مع قوى التطرف الإيراني في العراق. هذا إضافة إلى أن أي تحالف أميركي – إيراني اليوم في العراق، لن يبدو فقط مستهجناً وإنما لن يكون مقبولاً لدى بعض الصفوف الأميركية لأنه يتزامن مع المفاوضات النووية التي تحتاج الحزم وليس الاضطرار إلى الإذعان – أقله في رأي هذه الصفوف.
في الوقت ذاته، برزت أخيراً بوادر الخلاف بين المقاتلين السنّة و «داعش» الذي سيكون مرفوضاً أكثر فأكثر من جانب البيئة العراقية السنّية الرافضة تطرفه. هذا الخلاف يمكِّن إدارة أوباما من التمييز بين إصرارها على هزم «داعش» وبين رغبتها في تشجيع نمط «الصحوات» لمحاربة التطرف والإرهاب السنّي.
هنا يحتاج باراك أوباما إلى سياسة دقيقة مع الدول الخليجية العربية، لأن هذه الدول لن تتبنى دعم «داعش» وأمثاله خوفاً من خروج الأمور عن قدرتها وفلتان هذه التنظيمات في المنطقة بما قد يطاولها. إنما هذه الدول لن تقف متفرجة على معركة العراق الجديدة لإخراج العراق من تسلّط المالكي وتخفيف الهيمنة الإيرانية عليه. على أوباما أن يسير على الحبل المشدود كي لا يقع في معسكَرٍ معيّن ويبدو طرفاً في هذه المعركة المهمة على العراق.
المسؤولون الأميركيون والإيرانيون أجروا محادثات مباشرة على هامش المفاوضات حول الملف النووي في فيينا وناقشوا، في خطوة نادرة، التطورات العراقية و «الاهتمام المشترك» لواشنطن وطهران ضد تنظيم «داعش»، كما صرحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية ماري هارف. يسرع المسؤولون الأميركيون إلى القول إنهم «منفتحون على تحرك مع الإيرانيين، تماماً كما مع أطراف إقليميين آخرين، في مواجهة التهديد الذي يشكله «داعش» على العراق»، وذلك كي يرطّبوا الانطباع بأن إدارة أوباما لزّمت إيران إدارة العراق والفوز بسورية والسيطرة على لبنان.
البعض يرى أن الحدث العراقي فضح العجز الإيراني أمام زلزال سقوط المدن العراقية وانهيار الجيش العراقي إزاء الانتفاضة السنّية. يرى أن الآلة العسكرية الإيرانية عاجزة كذلك عن الانتصار الحقيقي في سورية مهما بدا، وأن إيران تنجز ما تريده بما في ذلك إبقاء بشار الأسد رئيساً للبلاد. ترى أن الارتباك السياسي الداخلي والإقليمي واضح على القيادات الإيرانية المختلفة، لا سيما أمام اقتراب موعد 20 تموز (يوليو) في المفاوضات النووية.
قد تكون مفاجأة الزلزال العراقي أسوأ تطور بالنسبة إلى إيران، لأنها كانت تفاوض نووياً من موقع القوة، وفجأة، إنها في موقع هشّ يكشف ضعفها في العراق وكذلك سورية. فلو كان الحدث العراقي عبارة عن معركة شنّها تنظيم «داعش» – كما قيل في البداية – لوقع ذلك في مصلحة إيران ومفاوضاتها النووية مع الغرب. أما وقد تبيَّن أن «داعش» قد يكون مجرد طرفٍ بدأت القوى الأخرى بتهميشه، فإن الوضع بات عكس ما كان عليه وقد ينعكس سلباً على الجانب الإيراني.
الولايات المتحدة ستستفيد من إيران أضعف في العراق وسورية لتحصل على ما تريده في مفاوضات الملف النووي. والولايات المتحدة لن تتمكن من التحالف مع إيران في مواجهة «داعش» و «القاعدة» وأمثالهما لأن القضاء عليهما لن يأتي سوى من طريق «صحوات» سنيّة وليس من طريق استفزاز السنّة وتهميشهم، أو من طريق التحالف مع بشار الأسد في سورية.
عراقياً، الأرجح أن يتمترس نوري المالكي في تعنته ويرفض الحلول السياسية وهذا سيؤدي إلى تفاقم المعارك العسكرية والمذهبية. إيران قادرة أن تمون على المالكي. فإذا قرر تيار «الحرس الثوري» أن هذه معركته، فلن تتخلى إيران عن المالكي ولن تتراجع أمام الانتفاضة السنّية. أما إذا انتصر تيار حسن روحاني واتخذت إيران قرار استبدال المالكي إنقاذاً للمفاوضات النووية – التي تؤدي إلى رفع العقوبات تدريجاً عن إيران وترسم مساراً تهادنياً رسمياً مع الولايات المتحدة – عندئذ قد تبرز خريطة طريق جديدة للعراق أساسها الأقاليم وليس التقسيم.
سورياً، يستفيق بشار الأسد على واقع لم يكن يتصوره عندما رقد مرتاحاً إلى انتصاراته المرحلية، لا سيما إعادة انتخابه رئيساً. فالمعابر إلى العراق فائقة الأهمية وهي تهدد تلك الانتصارات الوهمية لأن وقوعها في أيادي السنّة الغاضبين في العراق وسورية سيبدّل المعادلات العسكرية في الساحة السورية.
لبنانياً، لن يكون سهلاً على «حزب الله» دخول العراق طرفاً عسكرياً في معركته لحساب إيران لأن العراق ليس سورية، ولأن الجغرافيا تجعل المهمة أصعب وتعرّض مواقع «حزب الله» في لبنان للهشاشة والانتقامات المتعددة. سيبقى «حزب الله» متأهباً في غرفة العمليات الإيرانية لكنه قد يضطر لتحالفات تحمي ظهره لبنانياً. لذلك، إنه يحاول التوافق مع «تيار المستقبل» للعمل معاً وأمنيّاً على إبعاد أمثال «داعش» عن لبنان مقابل تنازلات سياسية. فقيادة «حزب الله» تدرك أن «تيار المستقبل» يشبه «الصحوات» العراقية في ردع التنظيمات المتطرفة أقله لما يمثله من قيادة سنّية تساعد في الردع.
كل شيء وارد في هذه الحقبة من مسيرة التغيير في المنطقة العربية وفي الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتركيا. الأرجح ألا تتعطل المفاوضات النووية بغض النظر عما إذا تم التوصل إلى اتفاق نهائي في 20 تموز أو لاحقاً في الخريف. فلقد تم اتخاذ قرار أميركي بإنجاح تلك المفاوضات لأن باراك أوباما يريد للاتفاق أن يتوّج مسيرته التاريخية. الغامض يدخل في خانة الطموحات الإيرانية الإقليمية وموقف باراك أوباما منها. الواضح أن إيران كانت بالأمس القريب تفاوض من موقع القوة، وباتت بعد زلزال العراق تفاوض وهي مرتبكة.
الحياة
استحقاقات عراقية حارقة/ خالد غزال
على رغم أن ما ظهر من مسار الأحداث العراقية الدامية أخيراً لا يعطي مؤشراً كاملاً حول مستقبل العراق، إلا أن ما بدا يكفي للمغامرة بالقول ان هذا البلد دخل نفق الانقسام والتقسيم المجتمعي والجغرافي، وأن الفوضى الكيانية تبدو السمة التي ستحكم مساره الى أمد غير منظور. وكما شكل الاحتلال الاميركي – الغربي للعراق عام 2003 ومعه إسقاط نظام صدام حسين، منعطفاً في مسار البلد، فإن «الانتفاضة» الجارية اليوم تشكل الوجه الآخر لمسار سياسي ومذهبي امتد عقداً من الزمن.
كان العراق موحداً في عهد البعث بقوة الديكتاتورية وليس بالتوافق الاجتماعي بين مجموعاته السياسية والإثنية. مارس الحكم السابق تمييزاً طائفياً وقهراً للمجموعات الطائفية التي تشكل العراق. وعلى رغم الادعاءات القومية للحكم السابق والعلمانية المبتذلة التي اعتمدها، فإن سياسة إقصائية واستئصالية جرى تطبيقها من أقلية حكمت البلاد بالحديد والنار. حطم الاحتلال الاميركي التركيبة السابقة، لكنه، وخلافاً لادعاءات إقامة حكم ديموقراطي في العراق، نصّب منظومة مذهبية مكان السابقة، وحطّم مكونات السلطة البعثية، فبات البلد في قبضة المذهبية الشيعية.
شكلت السنوات السابقة مختبراً لممارسة المذهبية الطائفية للسلطة، فلم تكن أقل إقصائية واستئصالية من المذهبية السابقة، حيث اعتمدت وجهة «تشييع البلد»، وتصرفت بمنطق الثأر، ليس عن سنوات حكم البعث، بل عن الصراع القديم المستمر. اذا كان البعث والتركيبة السنية السابقة مارسا التمييز الطائفي تحت غطاء القومية والعروبة، فإن ممارسة الحكام الجدد كانت طائفية مذهبية عارية، في كل الميادين العسكرية والسياسية والإدارية، مستلهمة النموذج الإيراني في الحكم.
كان العراق يحفر عميقاً خلال العقد الماضي في تراكم الأحقاد والكراهية بين مجموعاته، وكان انفلات العنف والعنف المضاد قانوناً يحكم قواه المتعددة هنا وهناك. وكان الفشل المتمادي لسياسة نوري المالكي يؤسس ويراكم عناصر التمرد الذي كان واضحاً لكل مراقب أن ناره قادمة. هكذا رسم الاهتراء الداخلي وانقسام المجتمع والإمعان في القمع والعجز عن اقامة توافق سياسي حول السلطة، معالم المستقبل، بما جعل التقسيم الجغرافي نتيجة منطقية وتكريساً للانقسام الداخلي وتمزيق النسيج الاجتماعي للعراق.
اذا كانت الاحداث العراقية قد وضعت تنظيماً إسلامياً متطرفاً في واجهة المعارك التي تخوضها قوى فعلية عسكرية وسياسية بعضها ينتمي الى النظام السابق وبعضها الآخر من العشائر السنية التي اضطهدها النظام الحالي، إلا أن هذه الواجهة يجب ألا تغفل حقيقة أو حجم المشروع الجديد لقوى المعارضة، التي بات من الواضح انها تهدف الى إسقاط حكم المالكي ومعه الهيمنة الطائفية القائمة في حد أدنى، او الى تقسيم العراق بين مجموعاته الطائفية وتكريس جغرافيا جديدة في البلاد. لعل مجريات الأحداث من قبيل انهيار الجيش العراقي او تسليم مواقعه ما يشي بحجم التطورات الكبيرة المنتظرة، والتي لا تفيد فيها تصريحات المالكي عن مؤامرة وخيانة وغيرها من الأوصاف. هذا على الصعيد الداخلي، أما على الصعيد الخارجي، فإن الموقف الإيراني هو الأشد تأثراً بما يحصل. تصرفت ايران منذ الاحتلال الأميركي على ان العراق امتداد لإيران وقد بات عملياً تحت وصايتها، وهي حقيقة لم تكن غائبة، تمثلت في بناء السلطة التي كان لإيران اليد الطولى فيها. لا تخفي ايران استعدادها للتدخل العسكري لإعادة الامور الى ما كانت عليه، وهو مركب سيدخلها في رمال الحرب الأهلية بكلفة كبيرة لا تقاس بما تدفعه في سورية. اما الولايات المتحدة الاميركية، صاحبة فضل أساسي في تفجير بنية العراق، فلا يبدو انها فوجئت بما حصل، لكنها أعلنت صراحة عن عدم استعدادها للتدخل لإنقاذ نظام المالكي، من دون ان تنفي إمكان التنسيق مع ايران في شأن المواقف الممكن اللجوء اليها عسكرياً وسياسياً، مع دعوتها المالكي الى وجوب الوصول الى تسوية سياسية.
تقف القوى العراقية اليوم، كل على سلاحها. يكلل الشحن الطائفي والمذهبي شعارات المرحلة. يعلن السيد علي السيستاني الدعوة الى الجهاد المقدس ضد «غزوة السنّة»، وهو الذي افتى عام 2003 بعدم التصدي للاحتلال الأميركي، ويمتطي عمار الحكيم لباس الحرب ويدعو الى المنازلة، وهو الذي اتى على الدبابات الأميركية خلال الاحتلال. في المقابل، يعلن مفتي العراق السنّي ان ما يحصل هو انتفاضة الطائفة السنية على التسلط الشيعي المتمادي منذ عشر سنوات. تحتشد القوى المتطوعة من هنا وهناك لحرب عنوانها ضرب القوى الإرهابية من جانب جيش المالكي، واستعادة السلطة ووضع حد للاضطهاد من جانب التحالف السنّي.
قبل خمسة عشر قرناً، شكل العراق ذروة التقاتل المذهبي بين الشيعة والسنّة زمن قتال الحسين ويزيد. بقيت نار الكراهية تعتمل طوال هذا الزمن، ينفخ فيها كل طرف ويؤججها خدمة لمصالحه، في سياق الصراع على السلطة. قد يكون ما نراه اليوم ليس سوى «رأس جبل الجليد» في الصراع الراهن المقبل، أما وقود هذا الصراع فهو العراق شعباً ومجتمعاً وأرضاً وتاريخاً وتراثاً…
* كاتب لبناني
الحياة
الحدث العراقي أسقط الدول في تناقضات واسعة هل بات مصير الأسد والمالكي على ترابط؟/ روزانا بومنصف
طالبت السلطات العراقية من الامم المتحدة توجيه ضربات لمعسكرات ما يسمى تنظيم “الدولة الاسلامية في العراق والشام ” من اجل كسر الحالة النفسية ووضع القوات العراقية لهزيمة تلك الجماعات وفق ما قال وزير الخارجية هوشيار زيباري. كما ابدت ايران استعدادها للتدخل في ضوء تقارير تفيد بارسال كتائب من الحرس الثوري دعما للجيش العراقي ومساعدته على التصدي لهذا التنظيم وسحق ما بات يعتبره كثر ثورة سنية ضد حكم نوري المالكي. بدوره اعلن قائد القوات الاميركية مارتن ديمبسي امام اللجنة الفرعية للمخصصات في مجلس الشيوخ ان العراق طلب من الولايات المتحدة قوة جوية لمواجهة متشددين اسلاميين مضيفا ان من مصلحة امننا القومي مواجهة الدولة الاسلامية في العراق والشام اينما وجدناهم، ما اثار موجة من المواقف المتناقضة داخل الاوساط السياسية الاميركية شأنها في ذلك شأن ما حصل بين دعم تراجع اوباما عن الضربة العسكرية لسوريا وبين توجيه انتقادات قاسية له لا تزال مستمرة حتى اليوم تحمّله مسؤولية ما آلت اليه سوريا وما آل اليه العراق تبعا لخطأ التراجع الاميركي الذي كان انقذ العراق لو انه انهى المأساة السورية العام الماضي.
ادخلت التطورات العراقية الدول الاقليمية والغربية المؤثرة في تناقض مخيف اذ ان الاسئلة في كل الاوساط المهتمة تتمحور على كيفية تبرير ادارة الرئيس الاميركي باراك اوباما المشاركة في حملة عسكرية ضد مواقع في العراق من اجل انقاذ حكم المالكي في حين انه لا يزال حتى الان يبرر من دون نجاح تراجعه عن توجيه ضربة عسكرية موضعية الى النظام السوري من اجل تقييد حملاته العسكرية على شعبه معتبرا ان اي تدخل يفترض تغيير المعادلات يتطلب انخراطا عسكريا كبيرا وهو غير مستعد لذلك. فتح ذلك الباب على تساؤلات ايضا حول الرهان الاميركي على ايران والقوى الشيعية في المنطقة وهل ستتعاون الولايات المتحدة مع ايران في مقابل اتفاق على الملف النووي الايراني بذريعة ان القوى الشيعية نضجت ” ثورتها ” وذلك على حساب الرهان والعمل مع القوى السنية التي هي في انطلاق ” ثورتها “. وتاليا ما اذا كانت الولايات المتحدة وايران ستتحالفان في العراق على رغم تناقضهما في سوريا او اذا كانت تتحمل ابقاء المالكي الذي تسبب في وصول العراق الى ما وصل اليه راهنا من تقسيم واقعي على الارض والذي تناهض بقاءه القوى السنية والدول الخليجية في المنطقة فيما لا تزال ترغب في انهاء سلطة بشار الاسد الذي يستمر يقوم بما قام به المالكي. فاذا كان الاسد وفق ما قالت الولايات المتحدة والدول الغربية جاذبا للتنظيمات الارهابية وبقاؤه يشجع على تناميها فان الامر ينسحب بالمنطق نفسه وفق ما تقول مصادر معنية على المالكي الذي يشكل استمراره في السلطة جاذبا للتنظيمات الاصولية والمتشددين كما لثورة مذهبية.
الدول والتنظيمات في المنطقة يمكن ان تقع في التناقض نفسه ازاء كل من العراق وسوريا. اذ اعلنت المملكة العربية السعودية رفضها التدخل الاجنبي في شؤون العراق. في حين سألت اوساط عدة في بيروت عما يمكن ان يكون عليه موقف ” حزب الله” من طلب السلطات العراقية الشيعية مساعدة الولايات المتحدة واستخدام قواتها لابقاء هذه السلطات قائمة وضمان استمرارها علما ان الاسئلة تسري ايضا على موقفه من استعدادات التعاون الايراني الاميركي على هذا الصعيد.
وبغض النظر عن واقع استحالة اعتبار سلطة تحكم بلدا من خلال الاعتماد على قوة خارجية كما يفعل العراق او كما يفعل النظام السوري الذي يستند الى الدعم المباشر للتنظيمات الشيعية الذي انقذت حكمه ولا تزال ترفده بالمساعدات الميدانية من اجل محاولة تدعيم استمراره سلطة سيدة ومستقلة، فإن التطورات العراقية وارتباطها العضوي بالوضع السوري باتت تفتح الابواب على تساؤلات عدة: ان استمرار المالكي في العراق يعني استمرار الازمة العراقية وانفتاح احتمالات حرب اهلية طويلة تماما كما هي الحال وستكون بالنسبة الى النظام السوري. فاذا فتح المجال من اجل ايجاد حل سريع في العراق من اجل منع تفككه اسقاط التمسك بالمالكي الذي يمثل كما الاسد نظاما واجهزة امنية وليس مجرد شخص عبر السعي الى تأمين بديل يطمئن كل الفئات العراقية ويستوعبها ويعيد انتاج حال وطنية يمكن ان تغني عن تقسيم العراق او تفتيته فهل سيسري ذلك على الاسد انطلاقا من انه قام ولا يزال يقوم وعلى نحو اكثر عنفا وسوءا بما قام به المالكي بحيث من المرجح ان تبقى سوريا في حرب اهلية طويلة اذا استمر الاسد في السلطة لعجزه عن اعادة استيعاب كل الفئات السورية ؟ بعض المصادر تقول ان احتمال رفض التخلي عن المالكي من جانب ايران تحديدا ينطوي على خشية من ان ينسحب ذلك على الاسد ما يعني انهيار مكاسبها الواحد تلو الاخر في حين ان دول الخليج العربي ترفض بقاء المالكي في العراق كما ترفض بقاء الاسد في سوريا. ثمة من يذكر بنظرية الدومينو في هذا الاطار انطلاقا من ان الحل في العراق الذي غدا ملحا اكثر من سوريا يمكن ان يفتح باب الحلول الى سوريا وسواها كما ان الحروب المذهبية ستتدحرج ايضا الى المنطقة. فعلى غرار سوريا التي تحولت ثورتها الشعبية ضد الاسد الى سلة من التعقيدات والعوامل المتداخلة يخشى ان الوضع العراقي يحتضن تعقيدات خطيرة مماثلة على نحو لا يجعل الحل سهلا بالمقدار الذي يأمله كثر.
النهار
هل اقترب حلم الدولة الكردية من التحقق؟
رأي القدس
كان لافتاً تصريح رئيس وزراء كردستان العراق نيجيرفان بارزاني لهيئة الإذاعة البريطانية أنه «من شبه المستحيل» أن يعود العراق كما كان عليه قبل احتلال متشددين إسلاميين للموصل، ثاني مدن العراق، معتبراً ان السنّة يجب ان يكون لهم الحق في ان يقرروا اقامة منطقة خاصة بهم «مثل كردستان».
ترافق هذا التصريح المهم مع أقوال ترددت عن دور للأكراد في إقناع قادة الفرقتين العسكريتين 46 و47 بتسليم مواقعهم للفصائل الإسلامية السنّية مما أدى لإنجاح الاستيلاء المفاجئ لها على الموصل وفتح الطريق لامتدادها على مساحة كبيرة من العراق.
لكن الأكثر أهمية من الأقوال المزعومة تلك أن الأكراد أنفسهم ما لبثوا أن استولوا على مدينة كركوك بعد انسحاب الوحدات العسكرية النظامية العراقية منها، وهي مدينة غنية بالنفط ويعتبرها الأكراد بمثابة «قدسهم» وقلب كردستان التاريخية.
قال الأكراد إن استيلاءهم على كركوك جاء بطلب من حكومة المالكي، ولكنّ الواضح من أقوال بارزاني وتصرفات السلطات الكردية أن هذا الدعوة لدخول كركوك التي جاءتهم من الحكومة المركزية في بغداد اعتبرها الأكراد بطاقة ذهاب بدون عودة، إضافة الى أنه رغم المناوشات البسيطة التي حصلت بين الأكراد ومقاتلي «الدولة الإسلامية في العراق والشام» فهناك ما يبدو اتفاقاً غير مكتوب مع المقاتلين السنة باحترام هذه الحدود الجغرافية الجديدة التي لا تفصلها عن «دولة الخلافة» المرتقبة غير نهر يمكن عبور جسره بسهولة، وهو ما جعل بعض المسؤولين في حكومة المالكي يتهمون الأكراد بعقد اتفاق سري مع جماعة «الدولة الإسلامية».
الأكراد أوضحوا موقفهم من البقاء في كركوك رافضين التنازل عنها ومعززين خطوطهم الدفاعية ويستعدون، كما يقولون، «لخوض معركتهم الأخيرة».
والحقيقة أن المشروع الكرديّ لا يستند إلى النجاحات العسكرية التي حققتها الفصائل السنّية المسلّحة، وعلى افتراض محافظة هذه الفصائل على الجغرافية السياسية المستجدة، بل يستند أساساً إلى «نجاح» رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في فرط وجود العراق كوطن متكامل وهوية عربية وانتماء أساسه المواطنة والمسؤوليات والحقوق المشتركة التي تجمع العراقيين، مما كرّسه بالنتيجة زعيماً لميليشيا شيعية كبيرة (سواء كان عنوانها الافتراضي الجيش العراقي او «قوات التدخّل السريع – سوات» أو حزب «الدعوة») بدل أن يكون قائداً لبلد بأكمله.
الاستنتاج الطبيعي الذي استنّه الكرد من مشروع المالكي أنه ما دام «أكبر رأس» في العراق قد افتتح المزاد لبيع العراق لزعماء الميليشيات الشيعية (مثل قائد فيلق بدر، وزير النقل هادي العامري والد الشاب الذي أعاد الطائرة من بغداد الى بيروت لأنها غادرت بدونه) فلماذا لا يتشارك الكرد والسنّة «كعكة» الوطن المنهوب مع المتقاسمين؟
المشروع الكرديّ القديم – الحديث سيواجه بالطبع مشروع «العراق الأمريكي الإيراني» الذي يحاول ديك تشيني وبقيّة المجموعة الأمريكية التي خططت لاحتلال العراق نفخ الروح في جثمانه المتهاوي، كما أنه سيتواجه مع أصحاب مصالح الحفاظ على خريطة الشرق الأوسط التي تأسست بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية والتي رسمتها فرنسا وبريطانيا (وصادقت عليها روسيا كما كشف لاحقاً البلاشفة بعد استيلائهم على السلطة في روسيا عام 1917).
لكن السؤال الملحّ هو: لماذا لا يوظّف الكرد والعرب (سنّة وشيعة) ثقلهم لإفشال مشروع نهب العراق وتقسيمه طائفياً وإثنياً، والعمل على بناء دولة العدالة والتنمية والقانون بدل الدخول في متاهة الدم والمشاريع المتناحرة؟
المؤكّد في كل ما يحصل أن العراق بعد حدث الموصل لن يعود كما كان.
القدس العربي
العراق.. استعراض قوة أميركي ولا نية للتدخل/ حسين عبد الحسين
“طيب يا (قاسم) سليماني، هذه لعينيك: الآن قواتك هي المنهكة في سورية ولبنان والعراق، ومقاتلينا في بيوتهم. طاب نهارك”. هكذا لخص المعلق المعروف في صحيفة “نيويورك تايمز” توماس فريدمان السياسة الأميركية في هذه البلدان الثلاثة. والمعروف ان فريدمان هو من أكثر المقربين من الرئيس باراك أوباما، وهو يزوره في البيت الأبيض بشكل دوري، ما يعني ان مواقف الصحافي الأميركي تعكس الى حد كبير تفكير أوباما نفسه.
وفي المقالة نفسها، كرر فريدمان مواقف كان أدلى بها أوباما حول العراق، في العام 2008، اثناء حملته الرئاسية الأولى. وكتب فريدمان ان الولايات المتحدة تسعى الى رؤية عراق “يتمتع بالحد الأدنى من الاستقرار ولا يهدد أمننا”، مضيفاً: “مَن مِن العراقيين يمكننا أن نساعد؟ الإجابات غير واضحة، وحتى تصبح واضحة، سأكون مرتاباً جداً من التدخل”.
وفريدمان كان أحد أبرز المثقفين الاميركيين الداعمين للحرب في العراق في العام 2003، وهو كان من مؤيدي سياسة “نشر الديموقراطية”، معتبراً أن “دولتين فيهما (سلسلة مطاعم) ماكدونالد لا تذهبان الى مواجهة عسكرية”، حسب ما ورد في أحد كتبه.
لكن فريدمان ما لبث ان تراجع، وصار من مؤيدي الانسحاب من العراق، ومن داعمي أوباما في هذا الشأن، وهو ما يعني انه ، من وجهة نظر الرئيس الأميركي، إذا كانت شخصيات ذات تأثير في الرأي العام الأميركي من امثال فريدمان، غير مقتنعة بالتدخل في العراق ضد “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)، فأوباما نفسه لن يقحم نفسه في أي ضربة من هذا النوع.
في هذه الاثناء، تشير التقارير الواردة من داخل أروقة القرار الأميركي الى ان واشنطن قدمت لرئيس الحكومة العراقي نوري المالكي مجموعة من الشروط المطلوب تنفيذها، قبل ان تتدخل عسكرياً الى جانب قواته ضد متمردي الموصل، الا انه يبدو ان الإدارة الأميركية لا تعتقد ان المالكي يمكن ان يقبل بالشروط المطروحة.
وتفيد التقارير ان واشنطن اشترطت على المالكي البدء بمصالحة سياسية كاملة مع السنة والكرد، وتشكيل حكومة وحدة وطنية معهم، والالتزام بالاتفاقيات السياسية السابقة التي نكث بها رئيس الحكومة العراقي، من قبيل منح السنة وزارات امنية، مثل الداخلية والدفاع، التي حجبها عنهم المالكي، وإعادة وزارة المالية اليهم، واسقاط التهم بحق نائب الرئيس طارق الهاشمي، ومباشرة الحوار معه ومع الزعماء السنة العراقيين.
وتضيف التقارير نفسها أن واشنطن كانت نجحت في إقناع المالكي بوصل ما انقطع مع عشائر الأنبار وقوات الصحوات، وأن الأخيرة ساهمت في استرداد مناطق غربي العراق من أيدي “داعش”، وهو النموذج المطلوب تنفيذه اليوم في الموصل بإعادة الانفتاح على السنة سياسياً.
لكن الترجيحات الأميركية تقول إن المالكي لن يقبل الشروط الأميركية، وأنه سيسعى الى تحقيق فوزٍ عسكري على المتمردين، لإظهار نفسه كمخلص للعراقيين ورجل قوي. وفي نفس الوقت، يستبعد المسؤولون في واشنطن ان يتمكن المالكي من إلحاق أي هزائم عسكرية بخصومه.
هكذا، حركت وزارة الدفاع الأميركية حاملة طائرة “جورج دبليو بوش” من شمال بحر العرب الى جنوب شط العرب لتوجيه رسالة، لا لمتمردي الموصل فحسب، بل للمالكي نفسه، مفادها أن واشنطن جدية في نيتها مساعدته على إلحاق الهزيمة بالمتمردين، على شرط “تنفيذه الإصلاحات السياسية” التي حددتها.
على أن في تحريك حاملة الطائرات استعراضاً سياسياً أكثر منه عسكري، فلواشنطن مقاتلات في قاعدة انجرليك التركية، القريبة جداً من الموصل، وهي لا تحتاج لحاملة الطائرات فعلياً، لكنها تحتاج الى البيان العسكري الذي يوحي بجديتها. ثم ان إمكانية استخدام أوباما لمقاتلات أميركية في توجيه ضربة في الموصل، لا تبدو جدية، لأنها قد تضعه في موقف سياسي حرج داخلياً، فهو لا يمكنه شن ضربة في العراق من دون موافقة الكونغرس، تماماً كما طلب هذه الموافقة الخريف الماضي لتوجيه ضربة مماثلة لقوات الرئيس السوري بشار الأسد على إثر هجوم كيماوي في ضواحي دمشق، في شهر آب/أغسطس الماضي.
أما الموقف الأميركي الفعلي في العراق، ومثله في سوريا، فمبني على اعتقاد أوباما ان لا حلول عسكرية في أي منهما، وان الحلول تقضي بإقامة مصالحات سياسية بين الافرقاء المتحاربين، وبدخول الجهات الإقليمية في هذه المصالحات، ومن قبيل ذلك، جاءت تصريحات وزير الخارجية جون كيري عن إمكانية الحديث مع إيران لإيجاد حلول في العراق.
في الوقت نفسه، يعتقد أوباما ان الخطر الوحيد في العراق وسوريا يكمن في ان تتحول المناطق، في أي منهما، الى مناطق خارجة عن القانون، تسمح للمتطرفين بتجنيد وتدريب مقاتلين يمكنهم شن هجمات داخل أميركا في وقت لاحق، وهو للتعاطي مع هذا الموضوع، يعتقد ان بإمكان أميركا اتخاذ سلسلة إجراءات بوليسية، بالتنسيق مع الحلفاء، لمراقبة هذه التنظيمات ومقاتليها، على صعيد دولي، ومن دون تدخل عسكري أميركي مباشر في هذه المناطق.
الدلائل في العاصمة الأميركية تشير الى ان الولايات المتحدة لن تشن أي ضربة عسكرية، لا في العراق ولا في سوريا، على الأقل حتى تتغير المعطيات القائمة في الشرق الأوسط، أو ربما حتى تتغير الإدارة في واشنطن.
المدن
شرٌ يرفع الظلم؟/ دلال البزري
كثيرون خاضوا في مهمة تعريف ما حصل مؤخراً في العراق: هل هو مؤامرة؟ خدعة؟ خيانة؟ جبروت قوة “داعش” العسكرية؟ أم فخ نصبه طرف اقليمي أو دولي؟ أم ورطة؟ أم لعبة انقلبت على ساحرها؟
ولكنهم لم يتفقوا، كأنهم يتناولون شائعة، مجرد شائعة.
في التعريف، يبدأ التفاوت في فهم واستيعاب وتفسير الحدث الداعشي. فبين المعسكرين المتخاصمين، المتعاطف مع أبطال الحدث والمعادي له، لا بل داخل كل معسكر، الإجابات متناقضة، متلعثمة، تفيد عن الفوضى الذهنية التي تسبّب بها.
وبعد التعريف، يقفز السؤال عن التخطيط: ويأتي الجواب بحسب التعريف، الخاضع بدوره لطبيعة المعسكر الذي ينتمي إليه المجيب. كل من يمكن ان يزعم، وعن حق، بقدرة على الحركة أو التدخل، كل من له “دور” في المنطقة، يكون هو المخطط للحدث. فاذا كان التعريف بأنه مؤامرة، مثلا، يكون الأميركيون أو السعوديون أو الإيرانيون، وخلفهم وكلاؤهم المحليون، وبأجهزة إستخباراتهم… هم المتورطون.
أما إذا كان التعريف بأنه “فخ”، فيكون أيضاً أحد هؤلاء الأطراف قد أوقع خصمه فيه، لكي يكون هناك تدخل يريده هذا الخصم أو ذاك الخ. وكله مرهون بطبيعة الإنحياز السياسي لصاحب الجواب.
حسناً، الآن، إذا كان الموضوع كله مجرد انقلاب سحر على ساحر، فما هي الحفرة التي وقع فيها السحرة؟ ما هي الأضرار التي سوف تلحق بهم؟ إيران هي التي وقعت في الحفرة؟ هي التي بسياستها التوسعية شجعت العصبية السنية العراقية لإحتضان الإسلام الجهادي؟ أم انه عمل تحريضي من السعودية لم تكن تتوقع منه أن يبلغ هذا الحدّ؟
وأكثر ما يثير شهية المفسرين هو السؤال عن “الحق”: الحق على من في حصول هذا الحدث؟ على الأميركيين الذين دمروا الجيش العراقي؟ على الإيرانيين الذين نشروا
الإسلامية السياسية؟ على صدام حسين الذي تأسلم في السنوات العشر الأخيرة من عهده؟ على الخلفاء الراشدين الذين لم يحسنوا اختيار قادتهم؟ على معاوية؟ على الحسين؟ من أين كل هذه الجاذبية للخوض في “الأسباب التاريخية”؟ وكلٌ يختار منها ما يختار، كأنه يقطف ما تيسر من حديقة التاريخ الوارفة، انطلاقا من منظاره السياسي؟ يكاد يغوص في أبعد من هذه التواريخ، فيبحث عن أسباب الحدث الداعشي في قصة آدم وحواء: الأخيرة أكلت التفاحة، فهجم الداعشيون!
والأمر لا يتوقف عند هذا الحدّ. فالإختلاف يدور أيضا حول “المصلحة”: لمصلحة من حصل ما حصل في العراق مؤخراً؟ لمصلحة من أزيلت الحدود رمزياً وعملياً بين دولتين عضوين في الجامعة العربية والأمم المتحدة؟
بين الحساسية المفاجئة للمانعين لحصانة أوطانهم، والتي كانوا أول من خرقها بعدما سخّفها، وبين ابتهاج خصومهم الفاعلين على الأرض من انمحاء حدود استعمارية، رسمها المستعمر الصليبي لإضعاف الخلافة الإسلامية… بين الإثنين هوة في الشكل وإتفاق في مضمون.
وسؤال المعنيين بهذا المحو للحدود، هل من مصلحتهم كل ذلك؟ ثم هل من مصلحتهم، القريبة والبعيدة، لكي يحصلوا عليها، أن تصاب الحيوات والأرزاق ومصائر الأوطان بخراب عميم؟ ألا يحسبون لعدوى الجوار أي حساب؟
والسؤال الوجودي الذي يلاحقنا بأبهج أوجهه الآن هو: هل يمكن ان يأتي خير من هذا الشر؟ هل يمكن للشر ان يحارب الظلم والتمييز؟ هل يمكن لـ”داعش” التي تلغي، بعقوباتها الوحشية منذ بيانها الأول، اضطهاد الأقليات أو الأكثريات؟ هل يمكن للحرب الأهلية والنزوح وتبديد الثروة الوطنية وضرب الحدود الوطنية والعيش تحت حكم أكثر شراسة من الذي سبقه… هل يمكن لكل ذلك أن ينتج تطوراً وازدهاراً واستقراراً وهناء، أو ماء وكهرباء وفرص عمل؟ هل يصحّ أن تسمّى كل هذه بالثورة، ورجالاتها بالثوار؟ على مجرد أساس انهم ينتفضون ضد التمييز الذي لحق بالسنة العراقيين؟ بل هل “داعش” هي “داعش”؟ هي نفسها المنبثقة من “القاعدة”؟ والمعروف بكل الفظاعات المرتبكة في المناطق السورية التي “حررها”؟ هل هي القائدة الفعلية للحدث العراقي؟
ثم، هل كان يمكن تجنّب ما حصل؟ بمعنى آخر، هل الحدث كان حتمياً؟ هل مكتوب على العراق العودة لنقطة الصفر، ومعه المنطقة كلها، لكي يتطهر من آثار الإستعمار وما قبله، فيعود نظيفاً بريئاً من التاريخ، ساذجاً وفقيراً… ونحن كلنا معه؟
كل التساؤلات ممكنة، وكل الإجابات عليها تحمل وجهاً من الحقيقة، حتى لو تناقضت. خذْ مثلا، التنسيق المقبل بين أميركا وإيران لمحاربة إرهاب “داعش”. ها هو سحر آخر ينقلب: فاذا أعطي لهذا التنسيق فرصة للتفيذ، فسوف تُحرم كل الممانعة من رأسمالها الرمزي الوحيد، “المقاومة”، القائم على أولوية محاربة الإمبريالية والصهيونية؛ تنتزع هذا الرأسمال الغالي الفصائل الإسلامية الجهادية. وساعتئذ خذْ على حروب بلا نهاية… أين منها بهلوانيات الممانعين؟ أين منها دمويتها وعبثيتها وانعدام جدواها؟
المدن
ماذا يحصل في العراق ؟/ محمّد علي مقلّد
يقول صديقي أنه قرأ أكثر من مئتي مقالة عن أحداث العراق ولم يعرف حقيقة ما يجري هناك . ذلك أن كل منهج من مناهج التحليل يقول وجها من الحقيقة وتخفى عليه وجوه ، وهذا أمر طبيعي، يشبه فيلسوف الشاعر العباسي أبي نواس ، ” قل لمن يدعي في العلم فلسفة ، عرفت شيئا وغابت عنك أشياء”.
نظرية المؤامرة هي الأكثر هشاشة . لا تستقر فيها الحقيقة على قرار . فمن يقف وراء داعش والمسلحين الذين حرروا الموصل من الجيش العراقي ؟ تركيا ؟ السعودية ودول الخليج ؟ ولو صح ذلك ، فما هو دور إيران ، ولو صح ذلك فما هو دور الولايات المتحدة ؟ وهل يمكن أن تكون متحالفة مع المسلحين ضد النفوذ الإيراني ، أم أنها ستدافع عن النظام العراقي وعن نوري المالكي ، مع ما يستتبعه ذلك من تحالف منطقي مع إيران ؟ ومن أين التمويل والتسليح اللازمين لمثل هذه العملية العسكرية ؟ وهل يمكن ألا تكون أجهزة الاستخبارات التركية أوالإيرانية أوالسورية أوالعراقية على علم بها ، ولماذا لم تستدرك الأمر قبل فوات الأوان ؟ إلى آخر الأسئلة التي لا تجد جوابا لها في التحليل المستند إلى نظرية المؤامرة .( فيما أنا أكتب النص ، ورد خبر يفيد بأن النظام العراقي طلب من الولايات المتحدة مساعدته ضد المسلحين )
نظرية الصراع الطبقي ، على ما أعتقد ، عاجزة بدورها ، عن فك الألغاز .لأن الصراع الدائر الآن في العراق ليس صراعا بين مالكي وسائل الانتاج والطبقة العاملة . مثل هذا قد يكون صحيحا ، ولكن ” في آخر التحليل ” ، فيما نحن الآن لا نزال في أول التحليل .
النظرية القومجية تنطوي ، هي الأخرى ، على كمية هائلة من الحنين إلى أيام خلت وسبقت الغزو الأميركي للعراق ، وعلى كمية موازية من الأحلام التي تستعاد فيها بطولات وهمية ضد الاستعمار والرجعية والصهيونية ( فيما أنا أكتب النص ورد خبر عن إعدام القاضي الذي حاكم صدام حسين وأصدر الحكم عليه ).
ربما تكون محاربة الارهاب أضعف نظريات التحليل لأن داعش والنصرة وحلفاءهما هي تارة من صنع المملكة ودول الخليج أو تركيا ، وتارة من صنع النظامين العراقي والسوري وحليفهما الإيراني ، وتارة هي وريثة القاعدة ، الخ . والإرهاب ، في جميع الحالات فزاعة يستخدمها النظام ليحمي نفسه ويستدرج التضامن معه .
تقوم فرضيتي أن نظرية الاستبداد هي الأكثر تماسكا ، وهي الأكثر إحاطة بالأسئلة المتعاكسة والمتقاطعة . وخلاصة التحليل ، على هديها ، أن ما يجري في العراق اليوم هو انتفاضة في مواجهة نظام الاستبداد وحكم المالكي ، وبهذا المعنى يمكن وصفها بأنها إحدى حلقات الربيع العربي التي بدأت بسقوط الطاغية صدام حسين ، وإن بدا المنسوب الثوري فيها ضعيفا لكونها حصلت بقوة صاعق خارجي تعامل البعض معه كمساعد على إطاحة رأس نظام الاستبداد ، فيما تعامل آخرون معه بصفته احتلالا اجنبيا ، بل ، ويا للهول ، أطلسي امبريالي أميركي . هذا لا يعني إشادة بالعامل الخارجي الذي رأى فيه العراقيون وسيلة ممكنة لا بد منها لإزالة عامل الاستعصاء أمام نهضة عربية بدا من المستحيل ، تضمينها المعنى الوحيد للنهضة ، ألا وهو نقل العالم العربي من أنظمة الاستبداد إلى أنظمة اقترن وجودها بالحضارة الرأسمالية .
الحلقة الأولى هذه نجحت في إزالة جبل الاستبداد العسكري البعثي الكيماوي النووي الذي تجسدت فيه أكثر أسلحة الدمار الشامل فتكا ، كما نجحت في كسر عقدة الخوف التي ربضت على صدور العراقيين ردحا طويلا من الزمن القومجي المتاجر بالقضايا القومية وفلسطين والوحدة العربية ، ما شجع المتضررين من الاستبداد الجديد على مواجهته بسهولة أكثر من ذي قبل . غير أن القوى المشاركة في الانتفاضة هي أيضا تنتمي إلى عصور مختلفة من الاستبداد ، الديني والعرقي والعشائري والتوتاليتاري ، ما سيعقد مصير الانتفاضة ، ويضع العراق أمام مخاطر شتى.
أنظمة الاستبداد ، على اختلاف نسخها ، تضع بلادها أمام خيارين ، إما استمرارها مؤبدة بالوراثة أو بالتعيين أو بالانتخابات المزورة ، إما التهديد بخطر الحرب الأهلية ، وهي لا تتورع أبدا عن الدخول فيها وعن استخدام كل وسائل الشحن المذهبي والطائفي والعشائري ، كما لا تتورع عن استدراج القوى الخارجية والاستقواء بها .
ولن تتوقف مواجهة الاستبداد ، التي اتخذت في بعض بلدان الربيع العربي شكل الحرب الأهلية (سوريا والعراق واليمن ولبنان) إلا إذا كانت البدائل من صنف آخر ، غير ذاك الذي ينتمي إليه المستبدون بأحزابهم وتنظيماتهم وعقولهم وسلوكهم .
استنادا إلى هذا المقياس، تعتبر الحرب الأهلية اللبنانية النموذج الأول لربيع فشل في تحقيق مهماته لأن البدائل عن الاستبداد الطائفي والمذهبي كرست عاهات النظام التحاصصي ، ولأن الثورة على الاستبداد استعانت بأنظمة الاستبداد العربي ما جعل مهمتها شبه مستحيلة .
كل قراءة لأحداث العراق تضمر حلا للأزمة . وإن كانت كل القراءات تجمع على تحميل المسؤولية للمالكي ( ما عدا القراءة المالكية ) ، فإن البدائل المضمرة والمحتملة هي من طبيعة النظام القائم ، لكنها ، بالتأكيد ، لن تكون قادرة على ممارسة الاستبداد بالوتيرة ذاتها وبمستوى العنف ذاته . كل ذلك يحصل ولا تزال القوى اليسارية والعلمانية قاصرة عن قراءة تجربتها السابقة بعين نقدية ، وربما لم تقتنع بعد بأن حل الأزمة العراقية وسائر الأزمات التي تعصف بالمجتمعات العربية لن يكون ممكنا إلا بربيع يمهد لقيام الدولة الديمقراطية ، دولة القانون والمؤسسات والمواطنة .
المدن
طائف عراقي أو التقسيم!/ راجح الخوري
بدا واضحاً ان باراك اوباما يضم صوته الى صوت المعارضة العراقية، وخصوصاً اياد علاوي وبعض القيادات الشيعية، وكذلك الى صوت السعودية في الدعوة الى انهاء حكم نوري المالكي الذي وصفه بأنه مارس ويمارس “سياسة طاردة وليس سياسة جامعة”، وان حل الأزمة يجب ان يتم بعيداً عن التدخل الخارجي وعلى ايدي العراقيين أنفسهم!
عندما يدعو اوباما ايران مباشرة الى “توجيه رسالة تخاطب كل المكونات في العراق” فهذا يعني انه يطالب طهران بإزاحة المالكي رجلها، الذي لم يفشل في التعامل مع هذه المكونات العراقية فحسب، بل مضى بعيداً في سياسات الإقصاء والتهميش والتنكيل بالمناطق السنية وهو ما جعل اميركيين يقولون لمجلة “فورين بوليسي” انه سمم العلاقات بين العراقيين وأطلق الثورة ضده، وقد احتلت “داعش” الارهابية واجهتها الاعلامية بتشجيع اعلامي متعمّد منه ومن ايران، للتعمية على اخطائه والزعم ان ما يحصل عملية ارهابية تشجعها دول خارجية!
في هذا السياق تبدو الاتهامات التي وجهها المالكي الى السعودية “سخيفة ومدعاة للسخرية” كما قال الأمير سعود الفيصل، ذلك ان السعودية تشن حرباً لا هوادة فيها على “القاعدة” و”داعش” والحركات الارهابية الأخرى، وسبق لخادم الحرمين الشريفين ان اصدر أمراً لقمع الارهاب بكل أشكاله سواء في الممارسة او العمل او التحريض او التمويل، كما سبق للمالكي نفسه ان أشاد بهذا القرار!
كان واضحاً ان اوباما يوجّه تحذيراً مبطناً الى ايران التي تقرع طبول التدخل العسكري، من مغبة التدخل في العراق، وهو الموقف الذي حذّرت منه السعودية أيضاً، فقد قال: “ان ايران يمكن ان تضطلع بدور بنّاء اذا وجّهت الرسالة عينها التي وجهناها الى الحكومة العراقية ومفادها ان العراقيين يمكنهم العيش معاً اذا ما جمعوا المكونات السنّية والشيعية والكردية… وانني أرى انه اذا تدخّلت ايران عسكرياً لدعم الشيعة فان الوضع سيتفاقم”.
وعندما يدعو اوباما الى “اختبار المالكي وما اذا كان سيتجاوز الريبة والانقسامات المذهبية العميقة” وتقول هيلاري كلينتون إنه فشل، وترى إليانا روس ليتنين انه كارثة، ويدعوه جون ماكين الى التنحي، فهذا يعني انه صانع الريبة والانقسامات التي فجّرت الوضع!
الأمر اللافت في كلام أوباما اقتراحه عقد مؤتمر لدول الجوار خارج العراق، تحضره السعودية وتركيا وايران والقادة العراقيون، ويضع حلاً سياسياً يؤسس لتشكيل حكومة وحدة وطنية، على غرار “مؤتمر الطائف” الذي انهى الحرب اللبنانية، وبهذا بدا اوباما منحازاً الى الحل السياسي رغم اشارته الى ان استعداد واشنطن للقيام “بعمل عسكري محدد الهدف لا يعني إرسال جنود الى العراق”.
ثمة اجماع متزايد على ضرورة اقصاء المالكي الذي تسببت سياساته بالانفجار، فهل يعقد الطائف العراقي لينحّيه أم يتقسّم العراق؟
النهار
العراق وسوريا: الغزو واحد/ سميح صعب
منذ اجتياح “داعش” للموصل وصعود نجم التنظيم الاصولي في العراق، سارع مسؤولون غربيون حاليون وسابقون الى القاء اللوم في ذلك على عدم حصول تدخل عسكري غربي في سوريا منذ 2011، الامر الذي اتاح للتنظيمات الجهادية التابعة لـ”القاعدة” مثل “جبهة النصرة” او تلك المنشقة عنها مثل “داعش” باكتساب كل هذه القوة والموارد اللازمة للسيطرة والتوسع.
وكان المسؤولون الروس خرجوا في اليوم التالي لسقوط الموصل بنتيجة مفادها ان الغزو الاميركي – البريطاني للعراق عام 2003 هو السبب في تقوية شوكة الجهاديين والتطرف الاسلامي عموماً في المنطقة. ويستند الروس في تحليلهم الى الوقائع التي تلت الغزو من تدمير لمؤسسات الدولة العراقية وتخريب للنسيج الاجتماعي للعراق.
وفي المقابل توصل الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الى نتيجة مفادها ان قرار محاربة الجهاديين في العراق لن يعرف طريقه الى النجاح ما لم يقترن بتعزيز الوضع القتالي لما سماه المعارضة السورية المعتدلة. اما رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير الشريك الاساسي لجورج بوش الابن في غزو العراق، فسارع الى الدفاع عن قرار الحرب في العراق عام 2003 والقاء اللوم في احداث العراق على الغرب الذي لم يقصف سوريا منذ ثلاثة اعوام ، الامر الذي اتاح نمو قوة الجهاديين في سوريا والعراق.
ويتحدث هولاند او بلير او غيرهم من مؤيدي التدخل العسكري الغربي منذ اليوم الاول للأزمة السورية وكأن كل التدخلات العسكرية الغربية نجحت في جلب الاستقرار والامان الى الدول التي حصلت فيها هذه التدخلات، إلا اذا كان الغرب ينظر الى ليبيا على انها قصة نجاح.
واذا كان المسؤولون الروس ذكّروا بالغزو الاميركي – البريطاني للعراق، فإنما فعلوا ذلك كي يدلوا الى النموذج الذي كانت ستنتهي اليه سوريا في حال تدخل الغرب عسكرياً في هذا البلد باعتبار ان التدخل العسكري الغربي لن يزيد الامور في سوريا إلاّ سوءاً على سوء. والغرب وفريق من العرب الذين دعموا عسكرة المعارضة السورية على امل وضع نهاية سريعة للنظام، ساهما من حيث يدريان او لا يدريان في نشر الفوضى التي نمت في ظلالها قوة الجهاديين، تماماً كما كانت الفوضى الناشئة عن تدمير مؤسسات الدولة العراقية بعد غزو 2003، طريق “القاعدة” الى العراق.
في الشأن القومي لا يمكن فصل العراق عن سوريا نظراً الى الترابط الاستراتيجي بين الدولتين بصرف النظر عن الانظمة التي تحكم فيهما. وعندما غزا جورج بوش الابن العراق، فإنه تسبب بالزلزال الذي لا تزال تداعياته تتردد في اصقاع الشرق الاوسط بكامله.
النهار
هل يذهب “حزب الله” إلى العراق؟/ ابراهيم بيرم
أي دور مستقبلي لـ”حزب الله” في الساحة العراقية المشتعلة؟ سؤال طرحه البعض من باب معرفة ما اذا كان الحزب سيذهب الى هناك لنجدة حلفائه على غرار ما فعله في الساحة السورية المجاورة لدرجة انه صار في ميدانها رقماً اساسياً يحسب له ألف حساب، وأثاره البعض الآخر من مدخل التحليل القائم على الربط المحكم بين مكونات مشهد الاقليم المتداخل والساحات المشتعلة فيه بدءاً من لبنان الى سوريا فالعراق.
لم يعد ثمة شك في ان الحزب وسواه من القوى والاطراف المعنيين باتوا يعتمدون نظرية “الاواني المستطرقة” وهم يقرأون المشهد المتداخل بين العراق وسوريا ويذهبون الى خلاصة فحواها ان ثمة تأثيرات متبادلة بين مسار الوضع الميداني والسياسي في الساحتين الى حد القول ان تنظيم “داعش” ما فجرّ الوضع في العراق على هذا النحو الا بغرض التعويض عن الاخفاقات الميدانية الواضحة التي مني بها في الساحة السورية وتراجعه عن كثير من المكاسب السريعة التي حققها قبل نحو ثلاثة اعوام.
وبالطبع ثمة استنتاج آخر يدخل في حسابات دوائر القرار والتحليل لدى الحزب وجوهره ان “الداعشيين” ومن يقف وراءهم ما خاضوا غمار هذه المغامرة المكلفة في الساحة العراقية والتي بلغت حد المقامرة بكامل الرصيد العسكري الا لأنهم أيقنوا امرين:
الاول: ضرورة التشويش على الانتصارات والمكاسب الميدانية والسياسية التي حققها النظام في سوريا على معارضيه.
الثاني: ضرورة الحد من تعاظم مكاسب المحور السوري – الايراني وما يدور في فلكه من قوى لكي يبقى لدى المحور الآخر اوراق قوة يفاوض عبرها لاحقاً، خصوصاً بعدما ايقن ان هناك تفاوضاً جدياً بين واشنطن وطهران ما بدأ الا بقصد الوصول الى نتائج تضع حداً للكباش الحاد الدائر بينهما على اكثر من ساحة منذ اكثر من ثلاثة عقود. وبناء على هذه القراءة الراسخة لدى تلك الدوائر لم يفاجأ الحزب بمبادرة عواصم الخليج الى تحميل رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي مسؤولية ما حصل على قاعدة ظلمه للآخرين وتهميشه للمكون العراقي الآخر، ولم يفاجأ في مسارعة هذه العواصم ومن تبعها من قوى الى اسباغ صفة “الثورة” على التمدد “الداعشي” واغفال الحديث عن الطبيعة المتطرفة والارهابية لهذا التنظيم الصاعد نجمه حالياً وهو “داعش”، مما بدا “مباركة” ضمنية لما اقدم عليه هذا التنظيم في ليلة ليلاء.
لكن ذلك، على بداهته، لا يمنع طرح السؤال عن طبيعة تعامل “حزب الله” مع العنصر المستجد والفاعل ميدانياً وسياسياً في ساحة هي لا شك ساحة صديقة بالأصل للحزب ومحوره.
ثمة ولا ريب كلام متسع عن مجموعة نخبة من مجموعات الحزب ذهبت الى الساحة العراقية قبل ايام قليلة لا بقصد المشاركة في القتال، بل بقصد استطلاع الموقف هناك ودرس اسباب الهزيمة التي مني بها الجيش العراقي وسبل تقديم الدعم وخصوصاً في مجال التدريب لاحقاً.
وبصرف النظر عن دقة هذا الامر وصحته والذي لا يمكن ان نجد نفياً او تأكيداً له من جانب الحزب الذي اعتاد تعمد الغموض في حراكه، فان الثابت ان الحزب لن يتعامل مع احداث الساحة العراقية بالدرجة عينها التي قارب فيها حدث الساحة السورية سابقا لاعتبارات وحسابات عدة ابرزها:
– البعد الجغرافي عن الساحة العراقية خلافاً للساحة السورية التي هي بالنسبة اليه العمق الحيوي التاريخي لمشروعه.
– ان الساحة العراقية هي اقرب جغرافياً وتاريخياً لطهران، وبناء عليه هي اولاً واخيراً في عهدة القيادة الايرانية التي تعرف حق المعرفة شعابها وأدق تفاصيلها.
– لا شك ان ثمة في الحزب من يأخذ على القيادات العراقية قصوراً في استشراف المخاطر وتضييع الوقت في خلافات وحسابات معقدة سمحت للتنظيم الارهابي باستغلال الوقت ومفاجأة هذه القيادات ومعها الجميع.
– الدوائر عينها تعرف ان بغداد تلقت ضربة معنوية كبيرة من خلال فقدانها ما يقدر بنحو ثلث مساحة وسط العراق واقتراب “داعش” من العاصمة، لكن قيادة الحزب على ثقة بأن العراقيين قادرون على استعادة زمام الأمور سريعاً اذا ما حسموا خياراتهم وايقنوا ان انتماءهم الى محور المقاومة الممتد ليس مسألة ترف، بل هو ممر اجباري للمواجهة وللمحافظة على العراق كله ولإعادته الى وضعه الطبيعي.
– ان الحزب على علاقة “ناعمة” بالعراقيين وله بينهم ولا ريب صداقات وعلاقات، ولكنه يعرف ان للعراقيين شخصيتهم المقيمة على فرادة عدم القبول “بأستذة” الآخرين عليهم أو كونهم تابعين لجهة معينة. لذا فالحزب الذي لم ينسَ بعد ردة الفعل السلبية من جانب العراقيين على طرح أمينه العام السيد حسن نصرالله عشية الاجتياح الاميركي للعراق فكرة “طائف عراقي” لتجنب كأس التدخل العسكري الاميركي، لا يمكن وقد تغير واقع الحال بدرجة كبيرة ان يعيد الكرة.
وعموماً فالحزب يعرف صعوبة وضع العراقيين الآن ولكنه مطمئن الى قدرتهم على استعادة ما خسروه معنوياً وميدانياً. لذا فهو ما برح بعيداً كل البعد عن فكرة التدخل المباشر، وهو مع ذلك لا ينفي انه يرصد بدقة مآل الوضع هناك ويعي تماماً ان المسار والمصير لهما تأثير مباشر على وضع الساحتين اللبنانية والسورية.
النهار
هواجس إلحاق لبنان بالمشهد العراقي – السوري؟ عوامل منع الاستباحة الأمنية لا تزال راجحة/ روزانا بومنصف
احدثت التحركات الامنية من اجل مواجهة احتمالات تهديدية للوضع في لبنان برزت لها مؤشرات في مواقع عدة موجة ذعر عميمة عززتها تحذيرات من السفارتين الاميركية والفرنسية لرعاياهما في لبنان بالتزام الحذر في التنقل وحصره بحالات الضرورة فيما عكست مواقف السياسيين مخاوف حقيقية من تداعيات امنية خطيرة على خلفية التطورات الدرامية في العراق. هذه التطورات الامنية فاجأت اللبنانيين من حيث اتساعها وشمولها مناطق عدة على نحو خشي البعض من صحة وحجم المخاطر التي تشكلها هذه التطورات فيما خشي آخرون من طابع حذر استباقي قد تتم المبالغة في مظاهره نتيجة التخوف الحقيقي على الوضع وتفجره. لكن اوساطاً عدة لم تخف ان تكون للدينامية التي طبعت الحركة الامنية لجهة ترجمتها وجود تهديدات حقيقية مجدداً كما حصل في المرحلة التي سبقت تأليف الحكومة الحالية اثار سلبية بالغة على موسم الاصطياف الذي يستعد له لبنان خصوصاً مع بدء الصيف وشهر رمضان.
غالبية الاسئلة التي اثارتها التطورات الامنية تمحورت في ضوء ما حصل حول ما اذا كان لبنان غدا ساحة مواجهة مكملة وتالياً واحدة مع ساحتي العراق وسوريا على صعيد الصراع المذهبي بالتوازي مع كونه ساحة صراع سياسي اقليمياً ومحلياً واذا كان ما قيل ان اقفال الحدود مع سوريا ساهم في وقف التفجيرات لم يشكل سوى استراحة المحارب بالنسبة الى تنظيمات او قوى قد تكون استطاعت ان تستعيد قوتها ونشاطاتها بعض الشيء.
ويبدو هذا السؤال تحديداً اي اذا كان لبنان يكمل المشهد في العراق وسوريا في رأي مراقبين سياسيين مبالغاً به بعض الشيء على رغم وجاهة الاسباب التي تبرره. اذ ان المعادلة التي تحكم الوضع السياسي في لبنان لم تتغير حتى الآن على الاقل على رغم الهزة الأمنية الجديدة التي يمكن ان يعبرها لبنان في ضوء التطورات العراقية والسورية على حد سواء. اذ ان القرار الاقليمي والدولي بالمحافظة على استقرار الوضع في لبنان لا يزال ساري المفعول وفق ما يغلب الاعتقاد وتالياً لا مصلحة لأي من الاطراف المؤثرين والفاعلين بانتقال الحرب المذهبية الى لبنان في المرحلة الراهنة. وهذا لا يعني حكماً بان حوادث امنية ارهابية او اي حوادث تساهم في اضطراب الوضع على وقع ما يحصل في دول الجوار هي أمر يمكن تحصين لبنان ضده على نحو كلي نظراً الى ان من يمكن ان يقوم بهذه الحوادث كرد فعل على اي تطور في العراق او في سوريا لا ينضوي ضرورة تحت سقف القوى التي لا ترغب في اهتزاز الاستقرار اللبناني في هذه المرحلة وتالياً منخرطاً حكما في لعبة الاستقرار السياسي والامني في البلد، بل هو على الارجح ضدها ويعمل من خارجها على اهداف اخرى. ولكن في ضوء هذا الاعتقاد لا يعتقد في الوقت نفسه بوجود قدرة لدى هؤلاء بتسعير الحرب الاهلية مذهبيا في لبنان اذا كان لا قرار بذلك ولا يعتقد ان احداً من الاطراف المنخرطين في الازمة العراقية او السورية قادر على فتح جبهة جديدة في لبنان في الوقت الراهن او لديه مصلحة في ذلك نظرا الى ان تحول لبنان ساحة مكملة للساحتين السورية والعراقية سيكون باهظ الكلفة جدا على نحو غير ممكن احتماله.
كما لا يعتقد في الوقت نفسه وتبعاً لعدم وجود قرار بتسعير الحرب الاهلية في لبنان بوجود بيئة حاضنة تسمح لهؤلاء بان يتخطوا الاطار الذي يتفاعلون فيه الى ما هو ابعد من ذلك على غرار البيئة التي تلقفت ما قامت به الدولة الاسلامية في العراق والشام نتيجة اداء سيئ جداً لرئيس الوزراء نوري المالكي ادى الى تفكيك العراق ودفعه نحو التفتت والانقسام ما شكل ورطة كبيرة لايران باتت تلوم عليها الولايات المتحدة لعدم رغبة هذه الاخيرة في “محاربة الارهاب” كما قالت في ضوء عدم تجاوب الولايات المتحدة مع طلب السلطات العراقية قصف معسكرات داعش في العراق.
ثمة من يضيف عاملاً اخر لاستبعاد استدراج لبنان الى اتون العراق وسوريا هو ان لدى الافرقاء السياسيين في لبنان وعياً كافياً يحول ليس فقط دون توظيف التوتر الامني في اتجاهات قد تؤول الى قتال داخلي بل ان ليس من طرف سياسي مستعد لان يبادل الطرف الاخر اي مواجهة في حال ذهب هذا الاخير اليها.
هذا لا ينفي بطبيعة الحال وجود توتر مذهبي وسياسي يتشظى من العراق وصولا الى لبنان، لكن دون تحوله الى أفعال مهددة للبنان بفعل وجود قرار كبير بذلك لاعتبارات مختلفة لا مجال للدخول فيها وهو قرار يستمر في حماية لبنان حتى اشعار اخر. وقبل ايام قليلة كان ثمة مؤتمر دولي في روما دعما للجيش اللبناني حيث اكد كل ممثلي الدول المشاركة الحرص على استقرار لبنان وتحصينه في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ المنطقة.
هل يمكن ان تشكل التهديدات الامنية المتجددة عاملاً مؤثراً في الدفع نحو تذليل العقد السياسية على صعيد عمل الحكومة تحديداً وصولاً الى الدفع نحو الاتفاق على انجاز الانتخابات الرئاسية؟
هذا ما يأمله كثر في الواقع لكن لا مؤشرات فعلية حتى الان على الاقل وما لم تتطور التهديدات الامنية وتكون قابلة للتوظيف في اتجاه سياسي ضاغط في اتجاهات معينة على ان الروزنامة السياسية في البلد عرضة للتغيير قريبا . فهل تسلك الامور هذا المسار؟
النهار
الجيوش في الصراع المذهبي/ محمد إبرهيم
رغم كل ما قيل عن ديكتاتورية نوري المالكي، فإن المفاجئ كان انكشاف أن العقد الذي انصرم على وصول الشيعة إلى السلطة في العراق لم يوظّف في خدمة تكوين جيش نواته الأساسية المقاتلة مذهبية. فقد انهار الجيش الذي تبيّن أنه مركّب على صورة العملية السياسية المفككة والفاسدة لا على صورة جيوش الأكثريات، أو الأقليات، في المشرق العربي حيث ينقسم الجيش إلى ألوية، مذهبية، مقاتلة مدّخرة للحظات النظام الصعبة، وألوية رسمية يمكن التسامح في تركيبها شرط إبعادها عن القدرات القتالية الفعلية. الجيشان السوري والعراقي (الصدّامي)، استعصيا على التفكيك لهذا الاعتبار بالذات، واقتضى الأمر غزوا أميركيا لكسر احتكار السلطة الذي كان يمارسه صدام باسم السنة. والخطر الأكبر الذي هدّد الجيش السوري هو احتمال التدخل الخارجي الأميركي، لا الميليشيات التي تقاتله.
اليوم يتحدّث المالكي عن تأسيس جيش عراقي جديد، في ظل الدعوة المكشوفة إلى تطويع الشيعة للقتال خوفا من عودة السنة إلى الهيمنة بصيغة أين منها صيغة القبضة الحديد الصدّامية. هذه الدعوة صالحة لخوض حرب أهلية لكنها بعيدة كل البعد عن الحفاظ على شكليات وجود دولة. ولا تستطيع بقية دول المشرق العربي أن تعطي دروسا في كيفية التعامل مع الأقليات فيما هي تقدّم نماذج لا تختلف جوهريا عن الحالتين السورية والعراقية، سواء أكانت الأكثرية (المذهبية) هي الحاكمة أم الأقلية (المذهبية). والفرق الجوهري بين دول المشرق العربي هو في العامل الخارجي، حيث يكون مرّة ضاغطا على التركيبة الداخلية إلى حد تهديد وحدة البلد، ويكون مرّة أخرى داعما لهذه التركيبة رغم أنها لا تستوفي إطلاقا المعايير الدولية للتعامل مع الأقليات، أو مع الأكثريات حين تتيح الظروف التاريخية للأقلية الانفراد بالحكم.
بهذا المعنى يصبح “الربيع” في المشرق العربي مجرد أداة استعملت على ضفتي الانقسام السني – الشيعي، مع تدخل من جانب إيران وتركيا، لحسم الصراع لمصلحة إحدى الضفتين. ولا يغير في الأمر أنه في سوريا تقاتل أقلية لاستعادة هيمنتها فيما تبدأ الأكثرية في العراق قتالها لممارسة هيمنة مكشوفة. فالمسألة، في الحرب المذهبية، تتجاوز منطق الأقلية والأكثرية إلى صراع قوةٍ عارٍ.
ما زالت حدود سايكس – بيكو، التي يستعاد الكلام عليها بوفرة هذه الأيام، مرهونة بغلبة سنية على كياناتها، رغم كل ما يقال من أن “داعش” حطمت هذه الحدود إلى غير رجعة. هذا فيما تبدو نتائج الغلبة الشيعية مدخلا للترحم الرائج اليوم على صانِعَيْها. أما نبذ الصراع المذهبي من أساسه فيبدو في ضمير الغيب.
النهار
السعودية في مرمى أهداف محور إيران/ محمود الريماوي
لم يحتج الأمر إلى اجتياح تنظيم داعش الموصل ومناطق أخرى في محافظة صلاح الدين، بعقوبة (60 كيلومتراً عن بغداد)، وحتى مناطق داخل العاصمة، كي يكيل نوري المالكي اتهامات للرياض بأنها تدعم هذا التنظيم، فقد سبق للمالكي، وفي مناسبات مختلفة، أن شن حملات على الدبلوماسية السعودية، تزامنت مع حملاتٍ مماثلة في الاتجاه نفسه، للحكم في دمشق، وكذلك من طرف حزب الله على الرياض. حتى ليبدو أن هدف طهران في هذه المرحلة هو تطويق الرياض، بما تمثله من ثقل سياسي وروحي و.. نفطي.
هذه الحملات المتّسقة لمحور إيران في المنطقة، تأتي في سياق سياسة إيرانية، تزداد تبلوراً، فحواها ومرماها التقرّب من الغرب (من دون تنازلات جوهرية في الملف النووي)، تحت شعار مكافحة الإرهابيين والتكفيريين، ووضع النزاع مع الاحتلال الإسرائيلي جانباً، والسعي إلى عزل المملكة العربية السعودية، سياسياً ودبلوماسياً (وبدرجة أقل دولة قطر)، في ما يشبه استحضار أجواء 11 سبتمبر/ أيلول 2001 التي تم فيها اتهام 19 سعودياً بتفجير البرجين في مانهاتن، وشُنّت فيها حملات أميركية وغربية على الرياض.
تركيز الحملات على السعودية يفيد طهران، من وجهة نظر مسؤوليها، في عدة أمور:
ــ صرف الأنظار عن ولوغ النظام الإيراني (الحرس الثوري) وميليشياته العراقية واللبنانية في استباحة سورية والتنكيل بشعبها، والإيحاء بأن المعركة تدور مع جماعات تكفيرية تتلقى دعماً مزعوماً من الرياض. وبما يوفر فرصة لتعويم النظام في دمشق وفك العزلة الدولية عنه.
ــ منح حزب الله فرصة للمزيد من الاستقواء في الداخل اللبناني، لفرض ما يسميه هذا الحزب بـ”مرشح قوي”، من دون تحديد طبيعة هذه القوة المفترضة لدى صاحبها، وفي اتجاه يُنتظر استخدامها، والمرشح المقصود هو العماد ميشال عون، رئيس التيار الوطني الحر، المطواع في يد حزب الله، وإشاعة انطباع خلال ذلك بأن أي مرشح يختاره فريق 14 آذار وتيار “المستقبل” بالذات، أو يتم التوافق عليه مع هذا الفريق وهذا التيار، قد يكون مرشحاً “سعودياً” يمالئ التكفيريين أعداء الغرب وأعداء إيران الإسلامية!
ــ صرف الأنظار عن رعاية طهران ميليشيات عراقية ولبنانية، تنقض وجود الدولة في البلدين، وتحوز على مختلف أنواع الأسلحة، وتهدد النسيج الاجتماعي فيهما، وترمي إلى سلب الزعامات السياسية السنية أي ثقل وأي حضور وازن في الحياة العامة اللبنانية والعراقية، واختزال التكفير والإرهاب في مجموعات سنية متطرفة، “ترعاها الرياض”.
” لم تجر مرة واحدة البرهنة على علاقة بين مجموعات متطرفة والرياض التي ما انفكت تخوض حرباً أمنية مفتوحة في الداخل مع هذه المجموعات. هذا من دون استبعاد أن تتمتع بعض هذه المجموعات بدعم فردي من أشخاص خليجيين. وهؤلاء مطاردون من السلطات في بلادهم”
ــ التقليل من مخاطر الملف النووي الإيراني، والتركيز على أن الخطر الوحيد الذي يهدد المنطقة ودولها وشعوبها، في هذه الآونة، يتمثل في مجموعات جهادية متطرفة يمكن لها أن تحوز على أسلحة دمار شامل، ويمتد نفوذها بين مشرق العالم العربي ومغربه، وإلى خارج حدود العالم العربي إلى أفغانستان ومالي والصومال، ويظل امتلاكها خلايا نائمة في دول الغرب أمراً وارداً، وأن ضم إيران، واقعياً، أسوةً بإسرائيل، إلى نادي الكبار النووي، يشكل ضمانة للسلم والاستقرار وإبعاداً لشبح أية مواجهة مع إسرائيل. وفي جميع الأحوال، فإن إقصاء دول الخليج، والسعودية بالذات، عن الملف النووي الإيراني أمر لا بد من استمراره.
ــ محاولة عزل السعودية عن بقية دول الخليج العربية، مع استمرار التقرّب من دول خليجية أخرى: الكويت، سلطنة عمان. علماً أن التعامل الإيراني مع الدول الخليجية فرادى هي سياسة إيرانية ثابتة، لإضعاف مجلس التعاون الخليجي، والتقليل من وزنه الإقليمي، وحتى إنكار وجوده.
ــ هناك بعدئذٍ الملف النفطي، وإيران، كالعراق، منتجة رئيسية وعضو مؤسس في “أوبك”، فإذا ما جرى توافق غربي ـ إيراني على رفع مزيد من العقوبات المفروضة عن طهران، وعزل السعودية بالتدريج، فإن طهران (وتتبعها بغداد)، كفيلة بمراعاة المصالح الغربية النفطية.
لم تجر مرة واحدة البرهنة على علاقة بين مجموعات متطرفة والرياض التي ما انفكت تخوض حرباً أمنية مفتوحة في الداخل مع هذه المجموعات. هذا من دون استبعاد أن تتمتع بعض هذه المجموعات بدعم فردي من أشخاص خليجيين، ولدرجة ينضم معها بعض هؤلاء الأشخاص إلى هذه المجموعات، ويضعون كل ما يملكون في خدمتها، وهؤلاء مطاردون من السلطات في بلادهم. هناك سلفيون في المجتمع السعودي يبثّون فكراً سلفياً ضد “الروافض”، كما أن هناك متشددون قوميون وطائفيون في طهران يبثّون على الملأ، وفي واضحة النهار، فكراً فارسياً وطائفياً ضد ” أتباع يزيد”.
الفوضى الأمنية التي تعيشها سورية والعراق واليمن نتيجة التغوّل الإيراني في هذه الدول العربية، وما يظهر على سلوك مسؤولين إيرانيين من انتشاء وتباهٍ لما أصبحوا يتمتعون به من أذرع طويلة في هذه الدول، مقروناً بحملات مكثفة على الرياض، واستهداف سياسي وإعلامي لها، يكاد يؤشر إلى وجهةٍ قد تأخذها التطورات المرتقبة قبل نهاية العام الجاري. فللسعودية حدود طويلة مع العراق تزيد عن 800 كيلومتر، وحدود أطول مع اليمن الذي يشهد انتشاراً للحوثيين، ذراع إيران، فضلاً عن العلاقات التي تنسجها طهران مع بعض تيارات الحراك الجنوبي. والأهم من ذلك ما تتيحه سيولة انتقال الجماعات والأسلحة والأموال من إمكانات، مع وجود ما لا يحصى من مجموعاتٍ، هنا وهناك، قابلة للاختراق أو التوظيف استخباراتياً، كحال “داعش” الذي نسج معه النظام في دمشق، بمعرفة طهران، علاقة مديدة (قبل أن يضطر النظام لتوجيه أسلحته إلى هذا التنظيم في الرقة، وعلى الحدود مع العراق بعدما خرج هذا التنظيم في العراق عن كل حدود مرسومة له)، والتي يسعها ارتكاب عمليات واستدراج ردود فعل وإيجاد بيئة توتير للسعودية.
قبل أسابيع، كان يجري الحديث عن دعوة سعودية لوزير الخارجية الإيرانية لزيارة الرياض، وقد تم قبولها نصف قبول من طهران. من الواضح في هذه الغضون أن الكلمة العليا في تقرير النفوذ الخارجي الإيراني هي للحرس الثوري والمرجع المرشد، وليست للدبلوماسية أو لرئاسة الجمهورية، فالرئيس حسن روحاني أعرب عن عزم الإيرانيين على الدفاع عن العتبات المقدسة في العراق، كما فعل من قبل السيد حسن نصر الله بإعلان الدفاع عن مقام السيدة زينب في دمشق، وتسخير المقدس لأغراض دنيوية توسعية هو ممّا يحفل به التاريخ البعيد والقريب لمنطقتنا.
العربي الجديد
العراق والطائفية والإرهاب/ عبد النور بن عنتر
يبدو أن المشهد المالي يتكرر في العراق. ففي زمن قياسي، سيطرت جماعات إسلامية مسلحة على ثلثي التراب المالي تقريباً، وهددت باجتياح العاصمة باماكو، ما أدى إلى التدخل العسكري الفرنسي الذي لم يتكفل بأسباب المشكلة، وإنما بنتائجها، لأن الأسباب سياسية بامتياز، ولا يمكن التعامل معها بالقوة العسكرية. وها هي داعش (الفرع العراقي) تستولي على أجزاء من التراب العراقي، وربما تهدد باجتياح بغداد. وعلى الرغم من اختلاف السياقين، المالي والعراقي، فلا جدال في أن الأسباب ذاتها تؤدي إلى النتائج نفسها. فعجز الكيانات السياسية هو سبب ظهور الإرهاب، وتصلّب عوده إلى درجة إلحاقه هزائم كبيرة بما تبقى من الجيش في البلدين. وتكمن المشكلة في التربة الخصبة التي أوجدت الإرهاب، وسمحت بنموه واستفحاله.
لسهولة توظيف فزاعة الإرهاب، محلياً وإقليمياً ودولياً، تجنح كل الأنظمة إلى تضخيم الأمور، ووصم كل حركة احتجاجية بالإرهاب، ما يعفيها من مسؤوليتها، ويسمح لها بالاستمرار في الحكم، وبتزكية ودعم خارجيين. فحالتا مالي والعراق تبيّنان، بوضوح، كيف تركب الجماعات الإرهابية الاحتجاجات السياسية الشرعية. لكن الحقيقة أن الإرهاب يتسلل إلى أجسام هشّة، فقدت جزءاً كبيراً من مناعتها السياسية والاجتماعية، فهو لا يأتي من فراغ، أو ينمو في فراغ، بل يأتي دائماً في مرحلة بلغ فيها الانسداد السياسي، بل والتعفن الأمني، مستويات كبيرة. ومن ثم، فالمشكلة ليست في قوة الجماعات الإرهابية، وإنما في ضعف الكيانات السياسية الذي يشكل تربة خصبة لنمو الإرهاب وتطوره. فالإرهاب، أيضاً، من صنع الأنظمة. فمن جهةٍ، يشكل فشلها السياسي تربة خصبة لنموه وانتشاره، ومن جهة ثانية، فإن وصمها كل احتجاج بالإرهاب يقود إلى عسكرة الانتفاضات السلمية، وإلى خلط الأوراق بين المشروع وغير المشروع. وغايتها، طبعاً، هي نزع أي شرعية عن المحتجين لقمعهم. لكن هذا يقود، في نهاية المطاف، إلى تشدد قطاعات اجتماعية، والتي تحمل السلاح دفاعاً عن النفس.
يعبّد وصم الاحتجاجات الاجتماعية بالإرهاب، واستخدام القوة ضدها، الطريق للإرهابيين المحليين والعابرين للأوطان. فالأنظمة التي تسعى إلى خلط الأوراق، لنزع الشرعية عن الاحتجاجات الاجتماعية، وشرعنة استخدام القوة، تخسر في نهاية المطاف. فمن جهةٍ، يثبت نشاط الحركات الإرهابية فشلها في الحفاظ على الأمن، فداعش دلالة، بحد ذاتها، على فشل حكومة المالكي. ومن جهة ثانية، فإن دفع قطاعات من المحتجين نحو التشدد بقمعهم يخلق حاملاً اجتماعياً للعنف، وربما للإرهاب. وهنا مكمن الخطر، لأن من الصعب القضاء على أي حركةٍ، تستخدم العنف، إذا كانت تستند إلى حامل اجتماعي.
” الإرهاب يتسلّل إلى أجسام هشّة، فقدت جزءاً كبيراً من مناعتها السياسية والاجتماعية، فهو لا يأتي من فراغ، أو ينمو في فراغ، بل يأتي دائماً في مرحلة بلغ فيها الانسداد السياسي، بل والتعفّن الأمني، مستويات كبيرة. ومن ثم، فالمشكلة ليست في قوة الجماعات الإرهابية، وإنما في ضعف الكيانات السياسية الذي يشكل تربة خصبة لنمو الإرهاب وتطوره”
يمكن التمييز بين نوعين من الإرهاب، المحدود والواسع الانتشار. يتمثل الأول الذي يفتقر إلى قاعدة جغرافية، في نشاط جماعاتٍ، محدودة عددياً، تنفذ عمليات انتقائية محدودة بين حين وآخر، ولا تمثل خطراً على بقاء المجموعة الوطنية أو الدولة. فهي خطيرة، لكن ليس بالقدر الذي تضع فيه وجود الدولة على المحك. أما الثاني فيتمتع بقاعدة جغرافية، لاستقراره في مناطق معينة من البلاد، وله من الرجال والسلاح ما يجعله أقرب إلى جيش نظامي، وله القدرة على السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد، بخلق دولة داخل دولة بحدودها وتشريعاتها… النوع الأول أكثر انتشاراً، ونجده في الدول غير الديمقراطية أكثر منه في الدول الديمقراطية. أما النوع الثاني، فنماذجه معدودة، ولا نجده إلا في الدول (غير الديمقراطية) الفاشلة، إن لم نقل المنهارة. وربما أبرز نماذجه حالياً: مالي وسوريا والعراق وأفغانستان والصومال. ويوجد هذا النوع من الإرهاب كلما وجد انقسام حاد داخل المجموعة الوطنية، لأسباب طائفية أو طائفية وعرقية.
وتزداد الصورة تعقيداً حينما تكون الدول المعنية مسرحاً للصراع الإقليمي، كما حال سورية والعراق. وبحكم خطورته الأمنية، لا يمكن للدولة أن تتعايش معه، فالصراع مع الإرهاب الواسع الانتشار صفري. وهناك سبيلان لمواجهته، لا ثالث لهما. يكمن الأول في استخدام القوة العسكرية البحتة (عموماً بواسطة تدخل أجنبي)، وهو حل ظرفي لا غير، لأنه يعالج النتائج لا الأسباب. أما الثاني فيكمن في المعالجة العسكرية والسياسية في الوقت نفسه؛ المعالجة العسكرية بمواجهة الجماعات الإرهابية المسلحة، والسياسية بحرمانها من أي حامل اجتماعي، وذلك بالتعامل السياسي مع الاحتجاجات، لإيجاد صيغة تضمن حقوق جميع المواطنين على أساس المواطنة.
لم تتعامل حكومة المالكي بحنكة سياسيةٍ مع الاحتجاجات السنية في البلاد، ولم تسع إلى إرساء قواعد ديمقراطية حقيقية، تسمح بتحييد النزعة الطائفية بالتعامل مع كل العراقيين على أساس المواطنة الحقة (وليس الانتماء الطائفي)، أي إرساء قواعد دولة المواطنة، لا دولة الطائفية، حائلة دون اتخاذ “داعش” أو غيرها موطئ قدم لها في العراق. بل قامت بالعكس من ذلك. فبدل العمل على الحل السياسي للمشكلة الطائفية في العراق، والتي تهدد كيانه المنكشف، تشن حكومة المالكي منذ مدة “حرباً” على الاحتجاجات السنية في البلاد، بل وتسير على نهج حكومة الأسد في سورية، باستخدامها براميل متفجرة ضد أهل الفلوجة.
قيل إن مَن لا يريد حل مشكلة، عليه أن يشكل لها لجنة، أما اليوم فمَن لا يريد حل مشكلة يصمها بالإرهاب، لأن فزاعة الإرهاب ذريعة فتاكة، توظفها الأنظمة والدول لشرعنة سياساتها، ولنزع المصداقية عمّن تعتبرهم خصوماً. هذا لا يعني أن الإرهاب غير موجود، بل هو حقيقة. لكن، ليس كل خصم إرهابي، وليس كل معارض إرهابي. يسعى النظام العراقي (مثل النظام السوري) إلى تسويق المسألة السياسية على أنها “حرب على الإرهاب” ونزاع طائفي بتقديم طائفة على أنها إرهابية، بينما الأخرى مسالمة. وما زاد الأمور تعقيداً هو توظيف الإشكالية الطائفية الشيعية ـ السنية (على الرغم من أنها لا تصلح للتحليل، كما يتضح من سلوك داعش في سورية) في لعبة إقليميةٍ كبرى، تقودها السعودية وإيران، ومسرحها سورية والعراق، ويقوم فيها السوريون والعراقيون بحروب بالنيابة. سواء اختزلت المسألة في صراعٍ طائفي بين الشيعة والسنّة أو في الإرهاب، فإن ذلك لا يحل مشكلات العراق السياسية. ويبدو حال العراقيين، اليوم، كحال المستجير من الرمضاء بالنار، فهم تخلصوا من التسلطية، ليسقطوا تحت رحمة الطائفية (وما تحمله من تسلطية).
العربي الجديد
هجمة “داعش” أو عصبيّة “التعاون الخليجي”/ أسعد أبو خليل
لم تكن هجمة «داعش» في الحسبان إذ أن إعلام آل سعود وآل ثاني استمرّ على مدى أكثر من عام يزعم ان «داعش» ليس إلا صنيعة النظام السوري والإيراني فقط لتشويه صورة «الثورة» السوريّة (على افتراض أن «الجبهة الإسلاميّة» و«الجيش السوري الحر» و«جبهة النصرة» لا تضفي على «الثورة» تلك إلا بياضاً ناصعاً مثل أفعال مساحيق الغسيل).
ومزاعم معارضة المنفى (أو معارضة التنازع بين النظاميْن القطري والسعودي) تستند إلى فرضيّة أن النظام السوري لا يقاتل «داعش»، لكن عندما يقاتل النظام «داعش» تصرخ أصوات المعارضة الخارجيّة مُجتمعة أن الطائفة السنيّة (برمّتها) تتعرّض للقصف من قبل النظام.
النظام السوري، طبعاً، ليس بعيداً من ألاعيب استخباراتيّة غريبة ومتناقضة – نعرف ذلك في لبنان معرفة وثيقة – لكن من المُستبعد ان حركة تخوض حرباً طائفيّة شعواء ضد طوائف بحالها، وتتلقّى تمويلاً ودعماً من أعداء النظام السوري – تكون أداة بيد نظام تسعى إلى قلبه. لكن من المضيعة للوقت التعاطي بمنطق أو باحترام أخلاقي (مهني) مع إعلام آل سعود وآل ثاني (وتوابعه السوريّة واللبنانيّة) في أي من الشؤون السياسيّة (أو غير السياسيّة). هؤلاء – الأنظمة وأدواتها لا الشعوب – يعيشون في دهاليز قرون بعيدة من حاضرنا.
أما على الصعيد العربي، فيمكن رصد تغطية موضوع «داعش» منذ إطلاق تنظيم «الدولة الإسلاميّة في العراق والشام» في مقالات ليبراليّي آل سعود وآل ثاني وآل مَن استولى مثلهم على مصادر نفط وغاز وكاز من المُستعمِر الذي رعاهم منذ النشأة. هكذا تدرّجت حكاية «داعش» كرونولوجيّاً في سرديّة الإعلام المذكور، وفي بيانات ليبراليّي 14 آذار السوريّة:
1) ليس هناك من تنظيم «داعش». هذه كذبة إعلام الممانعة وذلك لتشويه اسم وصورة «ثورة» ناصعة. كيف يمكن أن يكون هناك تنظيمات إسلاميّة جهاديّة فيما دور الإخوان المسلمين ضعيف جدّاً بوجود سهير الأتاسي (ورفيقة أخرى لها وإن تغيّر اسم الرفيقة بحسب المقال) التي تقود «الثورة» المسلّحة وهي ثورة علمانيّة نسويّة ليبراليّة.
2) هناك تنظيم «داعش» لكنه تنظيم صغير ولا تأثير له بوجود قائدة «الثورة» المُسلّحة العلمانيّة، سهير الأتاسي (مع رفيقة أخرى لها).
3) إن تنظيم «داعش» موجود لكنه صنيعة النظام الإيراني والسوري.
4) «داعش» هو خطر مدلهمّ ولهذا يجب دعم الفصائل المُسلّحة ذات التوّجهات العلمانيّة والليبراليّة، أي تلك التي تتلقّى دعماً من النظاميْن القطري والسعودي.
5) «داعش» هو خطر على المنطقة لأن النظام السعودي قرّر ذلك وبأوامر أميركيّة. إذا كان النظام السعودي قد قرّر ذلك فلا مفرّ من الطاعة الكليّة.
6) إن «داعش» هو تعبير عن الغضبة السنيّة التي تعاني من التجبّر الشيعي الطائفي.
7) هو ليس بـ«داعش» في العراق. إن حزب البعث والعشائر العربيّة هي التي تتحرّك أما تنظيم «داعش» فهو صغير جداً، ولا تتعجبوا لو أن سهير الأتاسي (مع رفيقة لها طبعاً)، التي تقود «الثورة» المُسلّحة في سوريا تقود «ثورة» مجيدة أخرى في العراق.
8) «داعش» هي ليست كما تظنّون وتظنّن. الحقيقة هي ان الطريقة النقشبنديّة – وهي شديدة الاعتدال مثلها مثل الوهابيّة – تتحرّك لكن هناك من حَشر شعارات «داعش» المزيّفة.
تحتاج الفتنة الطائفيّة لتي يرعاها النظام الخليجي إلى مواجهة فعليّة لكن غير طائفيّة
وقع ليبراليّو الإعلام العربي في حيرة من أمرهم. ماذا يقولون أمام شعارات وبيانات «داعش» في العراق. هي «ثورة» بمقياسهم ومعاييرهم لكن الإعلام السعودي والقطري انتظر لساعات وصول الأوامر. قد يُكرّر رضوان السيّد مقولته: إن أي نقد للحركات الجهاديّة الطائفيّة المدعومة من آل سعود هو هجوم على الدين الإسلامي (من يذكر آراء رضوان السيّد قبل عقد من الزمن؟).
لم يكن حدث هجمة «داعش» مثل غيره في المنظور الأميركي. استفاق المحافظون الجدد على فرصة أخرى للحثّ على مزيد من الحروب ومن الغزوات الأميركيّة التي – مرّة أخرى – ستعلّم الأعداء العرب والمسلمين درساً لن ينسوه ما حيوا. يريد هؤلاء إعادة «تحرير» العراق، وفييتنام لو أمكن. مُرّة كانت الهزيمة. السيناتور لندسي غراهام (من أوثق حلفاء السناتور جون ماكين والاثنان في السياسة الخارجيّة على يمين جنكيز خان بقليل) دعا الإدارة الأميركيّة للتعاون مع إيران في التصدّي لخطر «داعش» (والرجل معروف بأنه من أنصار قصف إيران حتى من دون سبب نووي).
الإعلام الخليجي أصيب باضطراب ملحوظ. تأخّر ردّ فعل النظاميْن المُذنبيْن، السعودي والقطري، أكثر من يوم واحد وكان موقفا الحكومتين متطابقين. لاما، مثلهما مثل إعلام الإمبراطوريّة، شخصاً واحداً، هو نوري المالكي. لكن من هو نوري المالكي الذي كان يحظى بالتهليل والتكبير عندما شنّ حملة ضد «جيش المهدي» وصاحت أصوات من الحزبيْن في واشنطن بأن هذا هو مُخلّص العراق؟ وزاد من تقدير الحكم الأميركي للمالكي عندما تصدّى بذراعيه وجوارحه للاعتداء بالنعال على راعيه جورج بوش.
هذا هو حال الاستعمار. لا يستقرّ على قرار لأن الفشل والتعثّر هو مساره ومآله. كان الاستعمار الأميركي في فييتنام يلقي باللوم على هذا الجنرال في جنوب فييتنام أو ذاك، أو كان يقول ان الاستعمار الأميركي سيسود لو ان هناك طاغية فعّال في جنوب البلاد. من انتقد حميد قرضاي في أفغانستان غير الحكومة الأميركيّة؟ هل كان هناك من سمع به في الإعلام قبل ان تختاره أميركا، ثانياً، بعد ان وصل اختياره الأوّل عبد الحقّ، في طائرة أميركيّة من دبيّ (بعد أن حُشيت ملابسه بعشرات الآلاف من الدولارات، كما حُشيت عباءة عبد المجيد الخوئي بعشرات الآلاف من الدولارات) إلى أفغانستان وأعدمته قوى طالبان على شجرة باسقة؟ لكن الحكومة الأميركيّة غير راضية أبداً عن قرضاي لأنه يتذمّر من قتل المدنيّين جرّاء القصف الأميركي في بلاده، كما أنه رفض ان يعطي القوات الأميركيّة مناعة ضد المقاضاة عن جرائم حرب قد ترتكبها. هذا الوقح يريد ان يعيّر القوّات التي انتقته بجرائم حرب؟
وهذا كان حال المالكي. لم يكن أحد قد سمع به خارج نطاق «حزب الدعوة» في المنفى. هو ترك العراق مبكراً ولم يبرز اسمه ولا حتّى بعد غزو العراق. لكن قصّته رُويت في الصحافة الأميركيّة وإن حاولت الأخيرة ان تتناساها في الأيّام الماضية. كان السفير الأميركي الأسبق في العراق زلماي خليل زاد، يبحث عن مُرشّح شيعي لرئاسة الوزراء كي يخلف إبراهيم الجعفري. استقرّ رأي خليل زاد عليه لأنه – كما قيل – ذو سمعة حسنة. الآن تلوم أميركا الشعب العراقي على اختيار المالكي. المالكي نجح فقط… فقط في الموازنة بين ولائه الأميركي وولائه الأيراني. لم تكن أميركا تعترض على ذلك، ولا إيران. لكن هو اليوم وحده مسؤول عن «داعش»، أو هكذا يُقال.
لم تأتِ عقيدة «داعش» من العدم، أو من فراغ. من يقرأ «وثيقة المدينة» التي نشرتها عن حكمها المزمع في الموصل يتبيّن معالم العقيدة الحاكمة في قطر والسعوديّة. هي الوهابيّة التي تنتشر في دسائسها وكراهيّتها وفرقتها وبغضها من خلال الثورة النفطيّة (والغازيّة) ومن خلال مراحل الهبّات الجهاديّة التي بدأت أميركا برعايتها في سنوات الحرب الباردة. الموجة الأولى أتت في الثمانينيات عندما شكّل الثلاثي الأميركي – السعودي – الباكستاني جيشاً من الظلاميّين المتعصّبين لصدّ الشيوعيّين ورعاتهم السوفيات آنذاك.
ولّدت تلك الحملة اسامة بن لادن بقابلة (دوليّة) أميركيّة – سعوديّة مشتركة. الموجة الثانية كانت في الحرب السوريّة. نفذ صبر أميركا بعد ان كانت تنتظر انهيار النظام السوري على طريقة مبارك وبن علي، أي من دون جهد جهيد (وهي كانت متمسّكة بالطاغيتيْن، وهيلاري كلينتون في كتابها الجديد، «اختيارات صعبة»، تعترف بتمسّكها بمبارك). كانت مسألة أيّام فقط، في سوريا: مسؤول أميركي يلي مسؤول يلي وزيرة الخارجيّة آنذاك: بشّار سيرحل بعد أيّام أو أسابيع، على أكثر تقدير. سلمّت أميركا أمرها للحكم القطري والسعودي (وكانا على وئام – مصطنع كالعادة – قبل انتفاضة السيسي). بدأ الإعداد لتشكيل جيوش من الظلاميّين الجهاديّين من أجل ضمان انهيار نظام يترنّح.
لكن إذا كان الاعتراض الليبرالي (العربي) على حزب الله أنه يحمل عقيدة دينيّة غير ليبراليّة، فلماذا كان الصمت المطبق عن «كوكتيل» العقائد الدينيّة المتعصّبة والإرهابيّة والتي تحظى برعاية قطر والسعوديّة، والتي تضخّ دعاية طائفية على مدار الساعة؟ صحيح أنّ حزب الله حمل عقيدة متزمّتة وحاول أن يطبّقها في مناطق نفوذه في الثمانينيات والتسعينيات لكن حزب الله تغيّر في عهدة السيد حسن نصرالله. هو تحوّل، كحزب سياسي، من حزب النخبة السريّة إلى الحزب الجماهيري (الأوّل يسعى لكسب الأعضاء فيما يسعى الثاني لكسب الأصوات في الاقتراع، وفق تصنيف معروف للأحزاب السياسيّة لعالم السياسة الفرنسي، موريس دوفرجيه). أي ان المرونة من ضرورات التحوّل من الصنف الأوّل إلى الثاني. على العكس، بات «حكم» حزب الله يتصف بليبراليّة مائعة. (في التقرير الأخير لـ«مجموعة الأزمات الدوليّة» عن حزب الله – وهو بلا منازع أسوأ ما صدر من تقارير عن تلك المنظمة – تبذل المؤلّفة جهداً لإثبات قمع حزب الله في مناطق نفوذه فلم تجد من دليل إلا عن «شيعيّة» على تويتر تلقّت تعليقات غير لائقة، والمسؤوليّة – حتماً – تقع على كاهل نصرالله لأنه لا يؤدّب كل شيعي لا يحترم آراء ليبراليّي ووهابيّي الشيعة في لبنان وفي انطاكيا). لكن تفتيش جهاز دعاية آل سعود للعثور على نتف من خطب لنصرالله قبل عقود هو دليل أن الحزب ونصرالله لا يستعمل أبداً خطاباً طائفيّاً (من دون أن يعني هذا ان الحزب في تركيبته وعقيدته هو طائفي). ينحو «داعش» كما ينحو منافسوه في عالم التنظيمات الجهاديّة التكفيريّة إلى عالم مُتخيّل غير موجود: عالم يريد ان ينتقل بالمستقبل العربي والإسلامي إلى ماضٍ من صنع التمنّي المُسقط على الماضي. إذا كانت تجربة «الإخوان» في السلطة في مصر وتونس لم تعمّر، فكيف ستكون حال تلك التنظيمات؟ وما الذي تريده قطر والسعوديّة من وراء تفريخ وإنتاج تنظيمات كهذه في العالم العربي، غير المنافسة غير الرياضيّة للاستيلاء على الدين والملك؟ وما قيمة التحالف بين الليبراليّة العربيّة وبين تنظيمات الجهاديّة غير الانخراط في مضارب النفط والغاز نفسها؟
أنشأ الاستعمار الأميركي في العراق نظاماً مفصّلاً على مقاس المصالح الأميركيّة
أنشأ الاستعمار الأميركي في العراق نظاماً مفصّلاً على مقاس المصالح الأميركيّة. لم يكن توحيد العراق في صالح المُستعمر لأن في ذلك اتفاق على مقاومة الاحتلال. شرذم المُحتل (وبنجاح) الشعب العراقي إلى فرق وملل وعصبيّات كان بعضها غابراً، كما أنه أنعش النظام العشائري الذي أرّخ القضاء على الملكيّة في العراق لبداية احتضاره. لم يختلف المُخطّط الأميركي في العراقي عن المُخطط الصهيوني في فلسطين. لكن الشعب الفلسطيني فوّت مبكراً على الاحتلال فرضة التقسيم والشرذمة الطائفيّة (وإن كان زمن صعود الحركات الدينيّة قد أضعف أواصر الوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة كما ان الاحتلال بالتعاون مع السفارات الغربيّة في بلادنا ساهم في تهجير المسيحيّين من الأراضي «المقدّسة»، ومن الأراضي غير المُقدّسة). بدأت المحاصصة في مجلس الحكم الاحتلالي في بغداد عندما توزّعت المناصب والثروات على أسس طائفيّة ومذهبيّة: حتى الحزب الشيوعي العراقي حوّلوه إلى طائفة (غير منصورة). الوصفة الكلاسيكيّة للاحتلال سادت وخفّفت من الغضبة الشعبيّة ومن المقاومة.
لكن ما كان يُعرف بالمرجعيّة الصامتة في إشارة إلى الاستكانة المرجعيّة في ظل حكم صدّام صدحت هذا الأسبوع. المرجعية علي السيستاني، أعلن وأفتى بضرورة التسليح (غير العلماني وغير الوطني) لمواجهة هجمة «داعش». لو أن السيستاني كان قد صدح بالفتاوى في ظل الاحتلال الأميركي لكان لفتواه وبيانه وقع وطنيّ جامع هذه المرّة. لكنه لم يحرّك ساكناً عندما تعرّضت الفلوجة لهجمة أميركيّة وحشيّة لم يسبق لها مثيل في الحروب المعاصرة. على العكس من ذلك، أفتى السيستاني بمهادنة الاحتلال ونصح بالتعاون معه (لما في ذلك «من مصلحة للعراق» كما ردود منه على استفتاءات له). لم يبقَ من مرجعيّات دينيّة لم تتلوّث بالصبغة الطائفيّة. لكن الفتنة بدأت مبكّراً وبإعداد من أنظمة الخليج وأميركا. استشرف نصرالله كما الراحل محمد حسين فضل الله قبل أشهر من غزو العراق ما كان يُعد، وحذّرا من بيروت من فتنة طائفيّة مذهبيّة تحضّر لخدمة المُحتل. لكن لم تحتط المنظمات الشيعيّة الطائفيّة في العراق للأمر، أو أن ذلك لم يكن بمقدورها.
نشطت أنظمة الخليج في استخدام الوسائل الإعلاميّة الأخطبوطيّة في خدمة التحريض المذهبي. قلّل حزب الله من فعاليّة هذا التحريض وظن أن التزام الصمت والتمنّع عن الردّ الطائفي المذهبي كفيل بمنع الفتنة. فشلت خطّة حزب الله وانتشرت الفتنة في كل العالم العربي. قد تكون الفتنة الحاليّة من أنجح ما خاضه آل سعود من حروب في العالم العربي. تحوّل الحزب الذي أذلّ العدوّ الإسرائيلي كما لم يُذلّ في تاريخه إلى مجرّد حزب طائفي شيعي يخدم أجندة فارسيّة: هكذا أرادت أنظمة الخليج ان تخدم العدوّ عبر تقويض دعائم مقاومة حليفتها غير السريّة، إسرائيل. والحزب في تخبّط هذه الأيّام: كيف يمكن مناصرة النظام العراقي الطائفي والمُتحالف مع الاحتلال الأميركي؟ لا يمكن تسويغ مناصرته بشعارات المقاومة ونوري المالكي كان يُعدّ وعن حق من «رجال بوش» في العراق. لم يُسمع صوت لشيعة الاحتلال أثناء الغزو الصهيوني للبناني في 2006. كانت عبارات المالكي أقرب إلى المواقف المائعة للمجموعة الأوروبيّة.
تحتاج الفتنة الطائفيّة التي يرعاها النظام العربي الخليجي الرسمي إلى مواجهة فعليّة لكن غير طائفيّة. قد تكون الفرصة فاتت لأسباب عديدة منها أن إيران وحزب الله لا قدرة لهما على مواجهة علمانيّة. قد يكون الدخول في الفتنة حتميّاً بسبب الإصرار الخليجي. وكلّما امتدّ عمر النظام السوري كلّما استشرس النظام الخليجي لتقويضه بشتّى الوسائل ومن دون الاهتمام بمصلحة الشعب السوري ووحدته وسلامة أراضيه. الأولويّة هي في تنصيب حليف قبلي سعودي في دمشق، وبأي ثمن.
ليست «داعش» جديدة في التاريخ العربي. كان يمكن للعالم العربي ان يتطوّر بصورة أكثر علمانيّة في هذا القرن (كلمة «مدنيّة» ليست إلا ستاراً للغايات الطائفيّة هذه الأيّأم، كأن يطالب مصباح الأحدب – زعيم تيّار «الاعتدال المدني» – سعد الحريري قبل أيّام بالاهتمام بـ«تطلّعات طائفته»). تعبّر التنظيمات الطائفيّة المُنتشرة في العالم العربي عن واقع سياسي راهن أكثر ما هي تعبّر عن واقع تاريخ ديني. هي نتاج لعوامل عديدة منها:
1) نشر العقيدة والفكر الوهّابي بأنظمة متخمة بالعائدات النفطيّة.
2) حثّت أميركا حلفاءها العرب في عقود الحرب الباردة على نشر الفكر الديني الإسلامي المحافظ لمواجهة الشيوعيّة.
3) أدّى انتصار التيّار الديني في إيران بعد الثورة إلى تحفيز الحركات الدينيّة على حساب اليسار والعلمانيّة.
4) إن التحريض على الفتنة المذهبيّة هو سياسة رسميّة لأنظمة الخليج منذ غزو العراق لخدمة المُحتلّ.
5) من البنود السريّة – على الأرجح – للتحالف السعودي ــ الإسرائيلي هو تقويض دعائم مقاومة العدوّ في العالم العربي وبأي طريقة.
6) لا تنتج الحركات الدينيّة إلا حركات دينيّة مقابلة خصوصاً أن اليسار والحركات العلمانيّة ممنوعة من الحركة والنهوض.
لكن المملكة تنفي صلتها بـ«داعش» وأصدرت بياناً رسميّاً باللغة الإنكليزيّة (لغة أهل قريش) تنفي فيه تمويل «داعش»، والإعلام القطري بريء من التهمة أيضاً مع انه لا يشير إلى هجمة «داعش» إلا بصفة «ثورة عشائر العراق»، أي ان أعلام «القاعدة» زُرعت لتحوير الأنظار. ووريث حزب البعث في العراق، الذي تحوّل من قائد مزعوم لحركة قوميّة عربيّة إلى قائد مزعوم للطريقة النقشبنديّة المتحالفة مع آل سعود، يريد ان يقطف ثمار ذيليّته لـ«داعش» (كيف كان عفلق سيردّ؟). مشيخات وإمارات وممالك النفط تعترض على الإقصاء وعلى الطائفيّة: كان تعترض الحكومة الأميركيّة على تدخّل روسيا في شأن جارتها.
لكن موقف حزب الله الذي سيتبلور محفوف بالكثير من المخاطر. الرئيس الإيراني تحدّث عن حماية المقدّسات، وعن حق إيران في حمياتها. ماذا تعني حماية المقدّسات؟ كما تحدّث الحزب من قبل عن حماية «مقام السيّدة زينب» في دمشق. لكن لماذا لا يتحدّث أحد – من السنّة أو من الشيعة – عن ضرورة التدخّل العسكري في فلسطين المحتلّة لحماية المقدّسات الإسلاميّة هناك؟ والحزب الذي تدخّل في سوريا لأسباب سياسيّة غير طائفيّة – على مستوى القرار السياسي لا على مستوى القاعدة (برأيي وبالرغم من خلافي مع التدخّل الذي لا يمكن إنكار نجاحه في حماية لبنان من إرهاب عصابات قطر والسعوديّة وتركيا وإسرائيل القابعة في سوريا) سيجد صعوبة في تسويق تدخّل عسكري ما في العراق.
لا يمكن وصف المالكي بأنه رمز المقاومة أو أنه ممانع أو أنه عدوّ لإسرائيل، أو أن نصرته جزء من المعركة من أجل فلسطين. وقد دافع حزب الله عن موقف السيستاني الذي فتح الباب أمام تطوّع طائفي قد يعيد الحرب الأهليّة التي أشعلتها وأجّجتها أميركا. السيستاني صامت عن احتلال فلسطين ولا يصدر عنه تعبير عن معاناة شعب فلسطين (قد يجد أحدهم ردّاً منه على سؤال رقم 4994 على الإنترنت ويرسله لي ليثبت ان السيستاني لا ينسى فلسطين).
ستمعن أنظمة الخليج في حروبها: الفتنة الطائفيّة وخدمة العدوّ الإسرائيلي هما ذروتا «التعاون الخليجي». لا تتعاون إلا على ذلك. وهجمة «داعش» لا تُردّ بتكتّل طائفي مُضاد يمكن ان يعيد العراق إلى حرب أهليّة لم تنتهِ بعد. وبيانات المرجعيّة ستساهم في أغراض
«داعش» حتى لو لم يرد ذلك. والجمهور العربي بطوائفه مُتحفّر للتعبئة الطائفيّة حتى لو اتته من عرعور يصدح. تعرّى الفرد العربي إلا من قبيلته ومن طائفته. والتدخّل الغربي في صفّ إيران قد يعزّز مواقف آل سعود وتوابعهم وقد يجعل من أنظمة تابعة داعية استقلال وتحرّر.
كم تغيّر العالم العربي في عقود قليلة. لم تف الانتفاضات العربيّة بوعودها. القبيلة والطائفة والشلّة العسكريّة نافذة أكثر من أي يوم مضى. استطاع النظام الناصري وحركات اليسار والقوميّة العربيّة (قبل الاستيلاء عليها من قبل سلطات «البعث») ان يضع أنظمة الخليج في موقع الدفاع الضعيف.كان جلّ ما تطمح إليه تلك الدول ان تحافظ على تماسك العائلة الحاكمة أمام عامل الجذب الناصري. اليوم، نعيش وطأة ودمار هجمة خليجيّة فتنويّة لم نشهد لها مثيلاً من قبل. إن القدرة على ردّ تلك الهجمة يتوقّف على مدى مقاومة الفريق المقابل لجاذبيّة وجماهيريّة الغريزية الطائفيّة. قد نُصاب بالبركان.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)
الأخبار
أنقذوا سورية … فلقد ضاع العراق/ جمال خاشقجي
هل اطلعت أخيراً على خريطة سايكس بيكو الأصلية؟ إنها تضم الموصل إلى سورية الكبرى، وهو ما يحصل حالياً، فهل هو إعادة الأمور إلى نصابها وعودة الأصل إلى الفرع والفرع إلى الأصل؟ هل تذكرون من قال ذلك أول مرة؟
لماذا كانت «المسوّدة» الأولى للخريطة هكذا قبل أن تعدل من مراجع السيدين سايكس وبيكو في لندن وباريس، إلى الحدود الحالية بين سورية والعراق؟ نحتاج مؤرخاً كي يجيب على ذلك، ولكن الدارس البسيط للتاريخ يتذكر أنه ما قامت دولة إسلامية في الموصل إلا وامتدت إلى حلب فبقية الشام، حصل هذا مع الدولة الحمدانية، وبعدها دولة آل زنكي، إذاً الموصل هي الامتداد الطبيعي للشام، والعكس صحيح؟ يبدو ذلك تمريناً ممتعاً في حصة تاريخ، ولكنه في عالم سياسة اليوم كابوس للمنطقة، فالدولة التي نتحدث عنها هي «الدولة الإسلامية في العراق والشام» التي اتفق على تسميتها «داعش»، وأعتقد أنه حان الوقت أن نعطي القوم الاحترام الذي يليق بهم بعد الانتصارات التي حققوها الأسبوع الماضي وفرضوا أمرهم على الجميع، فنسميهم بما يحبون، «الدولة»، حتى مع الاختلاف الشديد معهم والقلق والتوجس اللازم منهم.
«الدولة» تفهم أيضاً في التاريخ، وتحلم بدولة الخلافة وعينها على الشام. يجب ألا تغيب هذه الحقيقة وسط مزاعم بأنها «صنيعة إيرانية» و «متحالفة مع بشار»، فهذه استنتاجات فقط وليست حقائق يجب التسليم بها. نعم، لقد تعاملت «داعش» مع النظامين واستخباراتهما تحت الأرض، ولكن الأحداث الأخيرة تكشف أنه كان تبادل منافع بين طرفين لكل منهما هدف متعارض مع الآخر. لقد كان دوماً لغزاً هائلاً لهذه العلاقة السوداء بين أصوليتين تكره -بل تزدري- كل واحدة منهما الأخرى، لا يمكن تفسيره إلا بتذاكٍ إيراني، وسياسة قصر نظر استراتيجية شريرة، لإشعال فتنة طائفية حيثما نشطت إيران، تبرر بها طائفيتها وتحشيدها شيعة المنطقة بإشعارهم بالتهديد الدائم، فانقلب السحر على الساحر وخرج الشيطان من قمقمه ليهدد طهران ودمشق ويلتهم الأحمق بينهما. من الواضح الآن أن تنظيم «القاعدة» استخدمهما بمقدار ما استخدماه، قامر الجميع، وكسب «القاعدة».
إنقاذ سورية هو بمنعها من السقوط بيد «الدولة»، وهذا بالطبع لا يكون بإنقاذ بشار ونظامه، فهو أصل البلاء الذي أخرج كل هذا الشر، فما هي إلا مسألة وقت وسترسم الحدود بين دولة «داعش»، والعراق الشيعي جنوباً، أما الحدود مع إقليم كردستان، فهي قائمة أصلاً، ولكن ستنتقل مسؤولية مواجهة الأطماع الكردية في كركوك وما حولها من الحكومة المركزية (سابقاً) في بغداد إلى ديوان أمير المؤمنين في مقره السري، وفي النهاية سيتوافق الجميع على حدود ومعابر وإجراءات انتقال، بالطبع لن يوقع اتفاقها في مقر الجامعة العربية بالقاهرة ولكن ستكون من باب الأمر الواقع.
فـ «الدولة» استفادت من أخطائها السابقة، ووسّعت رقعة تحالفاتها، وبعضهم أهل خبرة واستراتيجية من أبناء النظام البعثي القديم، كما أنها لم تعد «تنظيماً» وإنما دولة حقيقية لها موارد نفطية، وبضعة ملايين من السكان مسؤولة عنهم وعن أمنهم ومعيشتهم، ومصانع ومزارع وإنتاج قومي، وبالتالي ستتصرف كدولة وحكومة، بالطبع تختلف عما استقر عليه العالم في تعريف الحكومات وفق معايير العلاقات الدولية السائدة، فهي ترفضها وتنبذها. أتخيل أحدهم يقول لأمير المؤمنين البغدادي وهم على مائدة عشاء في ليل الموصل أو الأنبار: «سمِّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك» سيضحك الجميع، ولكن الرسالة هي التدرج، وتجنب المعارك الخاسرة، وقد بدا ذلك في تحرك «داعش» عندما تقدمت نحو بغداد الأسبوع الماضي ملتفة حول سامراء التي تعلم أنها لا تملك فيها تلك الشعبية والغضب الذي فتح لها أبواب أهالي الموصل والأنبار.
المعارك المقبلة ستكشف مدى نضج «داعش»، والغالب أنها ستتوقف عند أقصى مدى في الجنوب مثلما تفعل الآن مع أكراد الشمال، ترتاح قليلاً، تستفيد من العجز الدولي. الولايات المتحدة بالتأكيد لن تقدم على حرب، فدحر «داعش» لن يكون من دون حرب كاملة، لا تقل عن غزوها العراق أو أفغانستان، وأميركا أوباما لا تريد حروباً مثل هذه، بل حتى ما دون ذلك، وإيران تعلم أن الهدنة مع «القاعدة- داعش» انتهت، وتتذكر الرسالة التي أرسلتها «السلفية الجهادية» عام 1994 على يد رمزي يوسف من لدن خالد شيخ محمد، مؤسس «القاعدة» الحقيقي، عندما فجّر ضريح الإمام الرضا في مشهد، وهو موجود الآن في سجن في الولايات المتحدة في قضية محاولة تفجير مركز التجارة العالمي الأولى، لا بد أن أحداً ما في «القاعدة» أو «داعش» أرسل للإيرانيين قائلاً: تذكروا ما الذي نستطيع أن نفعله وحدودكم مفتوحة لنا شرقاً وغرباً.
المنطقة الرخوة التالية لـ «داعش»، حيث تتوافر فيها بيئة شبيهة بأحوال الموصل والأنبار والرمادي قبل اكتساحها، هي سورية، حيث القهر السني، والقتل اليومي، وإهمال المجتمع الدولي. إنها مكروهة هناك ولكن لها أنصار، والنجاح يجلب مزيداً من الأنصار، والقوة تغيّر القناعات السابقة. لا بد أن «جبهة النصرة» وأميرها الجولاني الأكثر قلقاً الآن، ولكن لا بد أن هناك أرضية مشتركة، تبرر مصالحة ما معهم والجبهة الإسلامية وبقية التنظيمات السلفية. «الجيش الحر» يكاد أن ينتهي، وهجمة «داعش» المقبلة ستنهيه تماماً.
المضادات الجوية التي منعتها الولايات المتحدة عن الثوار السوريين باتت متوافرة لـ «داعش»، ولن يمنعها أحد من نقل بعضها إلى سورية. مثلما استيقظنا قبل أيام على خبر سقوط الموصل، سنصحو قريباً على سقوط حلب وما بعدها وما بعدها بيد «داعش»، هل هو خبر جيد؟ لمن يريد الخلاص من براميل بشار المتفجرة اليومية، ومن إهمال المجتمع الدولي، ويرغب أخيراً في بعض من السلام، فإنه سيقبل بـ «داعش».
أما لمن يقلقه تمدد هذه الدولة الأصولية التي تريد أن تغيّر كل قواعد السياسة بالمنطقة، ويفضل أن يحصرها في دائرتها العراقية الحالية حتى تأكل نفسها، أو حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فالأفضل أن يمضي ويسقط بشار ونظامه ويقيم نظاماً سورياً تعددياً يحتكم إلى دستور وانتخابات.. بيدي لا بيد عمرو.
* إعلامي وكاتب سعودي
الحياة
المأزق العراقي.. ورطة أميركية!/ ويليام فاف
أرسلت الولايات المتحدة تعزيزات أمنية إلى محيط سفارتها ببغداد، تشمل 250 من عناصر «المارينز» وطائرات النقل العسكرية من طراز «أوسبراي». ويذكر أن سفارة الولايات المتحدة بالعراق هي أكبر سفاراتها في العالم، حيث تماثل مساحتها مساحة الفاتيكان، مع حمامات السباحة وحلبات التزلج. وتهدف هذه التعزيزات إلى حماية السفارة من خطر التهديد الموجه لبغداد من قبل قوات «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش).
وقد استولت «داعش» بالفعل على الموصل وجزء كبير من شمال شرق العراق، وتهدف حالياً إلى الاستيلاء على مدينة سامراء التي تضم المزارات الشيعية وبغداد نفسها. بعض منا، ممن شهد طموحات هذه السفارة عند تشييدها، كان لديه هاجس أنه قد ينتهي بها الحال في نهاية المطاف بأن تكون «الكابيتول» (مبنى البرلمان الأميركي) لهذه الخلافة الإسلامية التي يعلنها الآن متشددو «داعش»، والتي كان فقط المصابون بجنون العظمة في واشنطن يتخيلونها.
وقد كان الهدف من إنشاء سفارة بغداد، هو أن تصبح مقراً لحاكم الإمبراطورية الغربية التي كانت في التصور الأميركي– الإسرائيلي، والتي أعلنت في إسرائيل في يونيو من عام 2006 من قبل وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك «كوندوليزا رايس» ورئيس الوزراء الإسرائيلي «إيهود أولمرت».
وقد تزامن هذا الإعلان مع الهجوم الإسرائيلي على لبنان، والتي كان من المتوقع أن تصبح مدخل البحر المتوسط الغربي لـ«الشرق الأوسط الجديد»، الذي أعلنه المسؤولان، والذي يمتد من لبنان وسوريا على البحر المتوسط، ويتخلل الدولة العراقية التي تتتألف من دويلات تابعة للسُنة والشيعة والأكراد، وتتواصل عبر إيران بوسط آسيا، وصولاً إلى «بلوشستان الحرة» بأفغانستان، وباكستان المتحالفة، ومشارف جبال الهمالايا وما وراءها حتى الإمبراطورية الصينية الصاعدة.
إنها حقاً نعمة أن يكون الأمل لا يزال على قيد الحياة، وأن تكون شاباً ومن «المحافظين الجدد» في واشنطن التابعة لبوش وتل أبيب التي تتصدى للعرب، فقد أثبت هجوم يونيو 2006 على لبنان أنها دولة لا يمكن هزيمتها مرة أخرى من قبل حزب الله). أذكر استدعاء لدول «الناتو» لحضور احتفال في شتاء هذا العام في بروكسل، ولعقد مؤتمر صحفي للإحتفال والتصريح بالمزيد عن هذا التوقع الجيوسياسي المحتمل النابع من المثقفين الواهمين الذين أحاطوا بالرئيس القاهر جورج بوش الإبن.
واليوم، وفي واشنطن التي أفاقت من أوهامها، يتشاجر «الجمهوريون» و«الديمقراطيون» حول كيفية الدفاع عن العراق أكثر مما تقدمه قوات «المارينز». ولكن هل يمكن للعمليات الجوية أن تكون حقاً فعالة دون وجود مراقبين على الأرض؟ كما أن حشداً مبعثراً من الأفراد غير النظاميين سريعي الحركة لا يمكن أن يكونوا أهدافاً سهلة.
أما بالنسبة لأولئك الأميركيين، وهم من أبرز الأهداف لهؤلاء الأفراد غير النظاميين لداعش، فيبدو أنه عندما قامت الولايات المتحدة بسحب «قواتها المقاتلة» من العراق، بناء على طلب العراق، لم يستجب الجميع لهذا الطلب. وتفيد التقارير أن حوالي خمسة آلاف شخص يعملون في هذه السفارة الضخمة، وقيل: إن مجموعة تتألف من 500 مقاول من شركة «لوكهيد-مارتن» الأميركية كانوا يعملون في قاعدة «بلال» الجوية، بينما يشير تقرير آخر إلى أن هناك بعثات أميركية مشابهة أو ذات نشاط آخر لا تزال نشطة في مكان ما بالعراق، أو أن بعض الأميركيين قد توجهوا بالفعل إلى الأردن والكويت.
أما بالنسبة للاشتباك السياسي الوشيك في واشنطن، فهو ذلك الذي يثير اهتمام الحلفاء الأوروبيين للولايات المتحدة (إلى جانب الحكومة الإسرائيلية). فهو يدور عما ستفعله الولايات المتحدة حيال حقيقة أن مصلحتها في العراق تتزامن الآن مع مصلحة إيران– فكلاهما يرغب في إنقاذ الحكومة الشيعية لرئيس الوزراء نوري المالكي، وبالنسبة لإيران منع تدمير المزارات الدينية الشيعية بمدينة سامراء.
أقول: إن هذا يثير اهتمام الحلفاء الأوروبيين لأنهم لم يوافقوا أبداً، ولم يفكروا في الواقع بجدية، على العداء الشديد للحكومة الأميركية ومعظم الطبقة السياسية بها لإيران وشعبها. وهم يفهمون، بالطبع، ماذا يعني أن يكون لديهم موظفون يعملون في إحدى سفاراتهم الأجنبية، ويتم اعتقالهم من قبل بعض الطلاب (لترضية الحكومة الثورية بهذه الدولة) لمدة 444 يوما، وفوق كل ذلك وضع خطة إنقاذ خرقاء وغير متقنة، مما يضيف مزيداً من الهوان. (وكل ما كنا نفعله أننا ندعم ببساطة الشاه الديكتاتور في هذه الدولة).
وبالطبع، فإن جميع العاملين في السلك الدبلوماسي يفهمون الضغط المتجدد والمستمر الذي تتعرض له واشنطن من قبل إسرائيل وأصدقائها، الذين يخشون إيران ويريدون تدميرها باعتبارها ثاني أكبر دولة خطيرة في المنطقة. ولكن رغم ذلك– ولكي تبعد أمتك عن أي علاقة خطيرة مع واحدة من أكبر وأهم الدول غير الغربية في العالم، بالإضافة إلى كونها واحدة من أكبر الدول المنتجة للنفط، فإن الأمر يبدو وكأنه حالة عبثية، إنه حتى أسوأ من اضطهاد واشنطن الصبياني والمستأسد، والذي دام نصف قرن لكوبا، أي ينبغي أن تكون تصرفات الولايات المتحدة أكثر نضجاً من ذلك، كما يقول الأوروبيون.
ولكن أن تتعاون واشنطن بأي صورة جدية حول أزمة العراق مع من تُعتبر، من الناحية الموضوعية، شريكتها الاستراتيجية في المنطقة، أي إيران، فإن ذلك سيكون من وجهة نظر إسرائيل «انقلاباً جوهرياً للتحالفات»، حتى وإنْ لم تقل الحكومة الإسرائيلية سوى القليل عن هذا الأمر، (ولكن مؤيديها في الولايات المتحدة سيقولون الكثير!)، فإن «اليمين» الإسرائيلي، وقطاعاً كبيراً من الطبقة السياسية الإسرائيلية ستحكم على الولايات المتحدة باعتبارها صديقاً كاذباً وملتبساً وخطيراً. كما أن إسرائيل ستسقط في المزيد من جنون العظمة أكثر مما تعيش فيه بالفعل. وفي هذه الحالة قد تصبح دولة في غاية الخطورة – بالنسبة لإيران، أو حتى بالنسبة للولايات المتحدة.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون ميديا سيرفس»
الاتحاد
“داعش” والمنطقة العربية ولبنان/ د. نقولا زيدان
لأن حزب الله لم يع في حينه، تلك المخاطر والأهوال المدمرة التي ستجلب إلى لبنان وتستنبت في لبنان نفسه تداعيات جنونية تخرج من تحت السيطرة، تصاعداً من ادعاءات مزعومة في ضرورة نجدة بعض اللبنانيين من سكان تلك القرى التي شاءت اتفاقية سايكس بيكو (1916) أن تقع داخل الأراضي السورية، ولأن حزب الله راح ينادي بضرورة الذود عن المقدسات الشيعية وهي إسلامية لجميع المسلمين على حد سواء في سوريا، اندفع بما أعدّ من مقاتلين للغرق في وحول الحرب السورية ليحقق انتصارات موهومة مجبولة بالروح المذهبية في القصير والقلمون. وقد أجاد حقاً استخدام الشباب الشيعة من أهلنا للدفاع عن النظام الأسدي الدموي الفاشي عندما ألبسه عباءة المقاومة وقدم له صك براءة حيال المجازر المخيفة التي يرتكبها بحق الشعب السوري المصلوب. ها نحن نشهد عندنا في الوطن الصغير مخاوف من طراز جديد: وصول داعش وجلاديها القتلة إلى أرضنا بالذات.
كانت جميع تلك الادعاءات تسقط وتتعرى الواحدة تلو الأخرى، ذلك أن الحقيقة باتت أمام اللبنانيين جميعاً والعرب في كل أقطارهم، أن حزب الله في تورّطه في الحرب السورية كان ينفذ أجندات إيرانية أعلنت النفير المذهبي للدفاع عن نظام بشار الأسد، لأن دمشق هي الطريق المؤدية إلى البحر المتوسط تحقيقاً لأطماع نظام طهران في المنطقة العربية ابتداء ببغداد ومروراً بدمشق وبيروت ووصولاً حتى السودان.
ما داعش سوى ذلك المخلوق البربري المذهبي الذي صنعه النظام الأسدي وحليفة المتواطئ نور المالكي بإشراف النظام الإيراني ليطعن الثورة السورية في الظهر، وينشر الإرهاب الأسود في جميع المناطق التي كانت تسقط بين يديه. لقد أفلت المخلوق الوحشي من تحت سيطرة مبدعيه ومهندسيه ليرتد عليهم ويكتسح في طريقه كل ضفاف الفرات في شرقي سوريا ثم يحوّل الموصل والأنباء ونينوى إلى قاع صفصفاً وصولاً إلى محافظة صلاح الدين. مادة دسمة للدعاية الأسدية وأهدافها الرخيصة فهي في آن معاً أمّنت للنظام الأسدي تلك الانتخابات الرئاسية المهزلة، وشكّلت المسوغ الضروري للغرب في الخوف والهلع من الإرهاب المتستر بالإسلام.
إن إعلان نظام طهران النفير المذهبي العام للدفاع عن نظام نور المالكي كما سبق له أن أعلن ضرورة الدفاع عن نظام بشار الأسد، داعياً للتعبئة العامة المذهبية ليواجه الخطر الداهم الذي تمثله داعش يدخل المنطقة العربية في فصل جديد من فصول التلاعب الأميركي الإيراني الذي انكشفت ملامحه جيداً للعيان، ليس بتسليم العراق إلى النظام الإيراني محمية غنية بالنفظ فحسب، بل عبر دمشق وبغداد بإشعال حرب مذهبي اسلامية ـ اسلامية قد تصل تداعياتها إلى لبنان. فقد اصبح الهم الكبير الذي نواجهه في لبنان الآن كيف نواجه هنا الخطر الداهم المسمى «داعش» اذا تسرب إلى ارضنا فتربة الخصام والاحتقان المذهبي عندنا قد اخصبت كثيرا بعد تورط حزب الله في حربه المسماة مقدسة في سوريا. وقد تنكر حزب الله عملياً لإعلان بعبدا الداعي لتحييد لبنان عن صراعات المنطقة، بل أمعن التورط في الحرب السورية بداعي الدفاع المزعوم عن نظام الممانعة الاسدي الذي هو نفسه الحارس الامين لحدود اسرائيل الشمالية منذ 41 سنة. فكيف يصعق اللبنانيون والسوريون هذه المزاعم؟ أم تراهم يرون في هذا التورط خدمات مجبولة بالدماء لطموحات نظام طهران واطماعه في الاندفاع نحو المتوسط.
هذا والوضع اللبناني في أسوأ حال حيث يعيش لبنان أزمة مخيفة لم يشهد مثيلا لها عبر تاريخه الحديث. فالبلاد بل رئيس والبرلمان عاجز عن انتخاب رئيس جديد. وتنعقد جلساته تباعا دون نتيجة قط. فالتعطيل والفراغ والخواء هو سيد الموقف السياسي والاجتماعي والاقتصادي ـ المالي الآن ـ فالإدارات والقطاعات بل المرافق معطلة، ومصالح المواطنين مصابة في الصميم. وتجتاح البلاد موجة عامة من التحركات المطلبية حيث الكثير منها كان غافلا وفجأة استفاق، وكأن المطلوب اشاعة حالة عامة من التعطيل والفراغ. فكيف بالإمكان تلبية تلك المطالب جميعها، وبصرف النظر عن احقيتها ونحن ان قمنا بذلك نقود لبنان إلى الافلاس. ويحتدم نقاش حاد حول الهدر والفساد والعجز المالي، حيث تشير الاصابع الشجاعة إلى قوى الامر الواقع الممعنة نهبا للمرافق الأساسية ابتداء بالمطار ومروراً بالمرفأ بل وصولا إلى سائر الادارات العامة. ويفطر المواطنون ان يلوذوا بالصمت، وهم يعلمون ان دولة فعلية داخل الدولة تنخر في الجسم اللبناني المشرف على الهلاك. ان تلك الدولة داخل الدولة اللبنانية تلعب دوراً مؤكداً في الهدر والفساد.
ان ازمة وطنية عامة تجتاح لبنان، وهي سياسية اقتصادية مالية معيشية بامتياز. فحزب الله يريد رئيساً للجمهورية يتلقى تعليماته واملاءاته منه هو بالذات. وجميع اللبنانيين يعلمون حق العلم من هو وما هي ملامحه وطموحاته الرئاسية منذ ازمان. الا ان ذلك يبدو مسألة عصية ما دامت هناك قوى سياسية اساسية ما زالت صامدة في مواقعها ترفض بعناد تسليم آخر موقع دستوري لأوامر ونواهي حزب الله حتى ولو تبطنت وتسترت بمزاعم مريبة بالدفاع عن حقوق المسيحيين في حقهم بالرئاسة الاولى التي كفلها دستور الطائف ومهندسو الرئيس الشهيد رفيق الحريري. فلا نداءات بكركي ودعواتها العقلانية لقوى الأمر الواقع بالكف عن التلاعب بحقوق المسيحيين بل الموارنة تحديداً تلقى آذاناً صاغية، ولا مساعي الزعيم الوطني الثاقب الرؤيا وليد جنبلاط يتجاوب معها أولئك الذين يخرجون كل يوم بدعة جديدة لا تهدف في حقيقتها سوى دفع لبنان نحو حالة عامة من التعطيل والشلل والخواء. مادة دسمة وملف مثير لقابلية النظام الإيراني في مفاوضاته مع الرياض بل واشنطن في رسم خريطة جديدة للمنطقة تسعى من ورائها طهران للسيطرة على الشعوب العربية ومقدراتها تكريساً للمرحلة الإيرانية التي تجتاح وتشمل جميع بلدان منطقتنا.
لقد شهد تاريخنا العربي الضارب عميقاً عبر أحقاب زمنية ما زالت ماثلة في ذاكرتنا، محاولات عديدة للسيطرة على العرب، وفرسنتهم (أي إخضاعهم للفرس) وتتريكهم وما هبّ ودبّ من المرتزقة، إلا أن كل تلك الأطماع قد سقطت وبقي انتماؤنا وهويتنا العربية صامدين وستسقط حتماً الآن جميع المحاولات الجديدة المماثلة، كما ستشهد الأيام المقبلة.
المستقبل
حافة الانهيار: العراق يتأرجح بين سلطة توافقية وحرب أهلية/ الحواس تقية
ملخص
خلال أسبوع واحد، تمكَّن عدد من الفصائل المسلحة من السيطرة على الموصل ثاني مدينة في العرق، نحو مليوني ساكن، وجزء كبير من محافظة نينوى، وتكريت ومناطق أخرى من محافظة صلاح الدين، وديالى في الشرق ومناطق في الشمال بالقرب من كركوك؛ فأصبحت كل منطقة العرب السُّنَّة تقريبًا بالعراق خارج سيطرة بغداد، تُضاف إليها مناطق سورية بين حلب والرقة ودير الزور؛ لأنها جزء من المناطق التي خضعت سابقًا لسيطرة الدولة الإسلامية، وكانت عاملاً مهمًّا في نجاح هذا العملية العسكرية؛ لأنها وفَّرت لهم العتاد الثقيل والتمويل.
مثّل هذا التطوُّر تهديدًا لعدَّة قوى؛ فرئيس الوزراء نوري المالكي بات يفتقد القوات المسلحة القادرة على استعادة المناطق التي خرجت من سيطرته، وإيران تخشى من سقوط حلفائها في بغداد، والنظام السوري يخشى من حصول الدولة الإسلامية على موارد إضافية تجعلها قادرة على التمدد في سوريا أكثر؛ وأميركا والقوى الغربية وروسيا والصين تخشى من قيام دولة جهادية بين العراق وسوريا تجذب إليها القوى الجهادية من مختلف بقاع العالم؛ فتوفِّر لهم التدريب والتمويل، وتعيدهم إلى بلدانهم لينفِّذوا عمليات مسلحة.
مقدمة
خلال أسبوع واحد، تمكَّن عدد من الفصائل المسلحة -متشكِّلة من قوات الدولة الإسلامية بالعراق والشام بقيادة أبو بكر البغدادي، وجيش الطريقة النقشبندية بقيادة عزت إبراهيم القائد السابق في الجيش العراقي أثناء حكم صدام حسين، وقوى تابعة للعشائر العربية السنية؛ مثل: مجلس ثوار عشائر العراق- من السيطرة على الموصل ثاني مدينة في العرق، نحو مليوني ساكن، وجزء كبير من محافظة نينوى، وتكريت ومناطق أخرى من محافظة صلاح الدين، وديالى في الشرق ومناطق في الشمال بالقرب من كركوك؛ فأصبحت كل منطقة العرب السُّنَّة تقريبًا بالعراق خارج سيطرة بغداد، تُضاف إليها مناطق سورية بين حلب والرقة ودير الزور؛ لأنها جزء من المناطق التي خضعت سابقًا لسيطرة الدولة الإسلامية، وكانت عاملاً مهمًّا في نجاح هذا العملية العسكرية؛ لأنها وفَّرت لهم العتاد الثقيل والتمويل.
عدَّة عوامل تُفَسِّر انهيار القوات العراقية السريع، ويمكن إجمالها في تناقص القوى الداعمة لرئيس الوزراء المالكي، وتنامي قدرة القوى الرافضة له، فالمالكي خسر مساندة القوتين الشيعيتين الرئيستين؛ وهما: المجلس الإسلامي الأعلى في العراق، وتنظيم مقتدى الصدر؛ لأنه جمع كل السلطات الرئيسية بين يديه؛ فصارت الأجهزة الأمنية جميعها تحت سلطته المباشرة وغير المباشرة، فاتهمه الصدر بالاستبداد وطالب بإزاحته، واتفق مع عمار الحكيم خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة على تشكيل جبهة تتصدَّى لبقاء المالكي في السلطة. وأثَّر هذا الموقف على تماسك القوات المسلحة العراقية؛ لأن عددًا كبيرًا منها يتشكَّل من عناصر كانت تابعة لميلشيات الصدر والحكيم، فباتت تُشكِّك في سلطة المالكي وتتردَّد في تنفيذ أوامره.
كان السخط في جانب العشائر السُّنِّيَّة على المالكي أكبر؛ لأنه تجاهل احتجاجاتهم السلمية؛ التي دامت نحو عام، واتهمهم في النهاية بإيواء الإرهابيين في ساحات الاعتصام، واستعمل القوَّة للقضاء على احتجاجاتهم، فأعلن الحرب على الفلوجة، وقصفها بالطائرات، والبراميل المتفجرة كما يفعل بشار الأسد في سوريا، وأمر باعتقال قيادات سنية مشاركة في الاحتجاجات؛ مثل الوزير رافع العيساوي؛ ويمثل الخيار الأمني مع المحتجين السُّنَّة حلقة في سلسلة من المواقف الإقصائية التي مارسها نوري المالكي نحوهم منذ مدَّة؛ فلقد تنكَّر للوعود التي قطعها الأميركيون للصحوات، الذين يُقدَّر عددهم بنحو 100 ألف مقاتل، فلم يدمجهم في القوات العراقية، وقطع رواتبهم، فلم يترك لهم خيارًا إلا الالتحاق بالقوى المسلحة؛ التي توفِّر لهم الموارد، وتسعى مثلهم إلى إسقاط نوري المالكي.
يُشارك الأكراد القوى السابقة في السعي للإطاحة بالمالكي؛ لأنه لم يفِ بحقهم من المخصَّصات المالية المنصوص عليها في الدستور، وتوعَّد بعقابهم وملاحقتهم قضائيًّا؛ لأنهم اتفقوا مع تركيا على الشروع في الاستثمار في قطاع الطاقة، وظلَّ يُماطل في تسوية وضع المناطق المتنازع عليها بين الجانبين.
تَوَافُق هذه القوى على مطلب الإطاحة بالمالكي جعل هامش مناورته ضيقًا، وفي المقابل اتَّسع هامش مناورة القوى المسلحة التي تسعى للإطاحة به، فاتحدت من جهة تقريبًا كل القوى السنية على خيار السلاح، وأعانهم حياد الأكراد؛ الذين لم يُسارعوا إلى نجدة المالكي؛ بل إنهم حصلوا على منطقة كركوك الغنية بالنفط؛ التي ظلَّ المالكي يُعارض سيطرتهم عليها من قبل، فلم يبق في مواجهتهم إلا قوات عراقية منكسرة المعنويات؛ لأن ولاءاتها متضاربة بين قوى شيعية متصدعة.
تتحكم في اتساع هذا الاجتياح العسكري عدَّة عوامل؛ فهو يتكون من قوى تحصر مطالبها في إطار الإقليم العراقي؛ مثل قوات العشائر، وعناصر الجيش العراقي السابق، وقوى وطنية أخرى قد تكون روحية؛ مثل: أتباع الطريقة النقشبندية، أو قوى سنية مقاومة، ويتكون -أيضًا- من الدولة الإسلامية؛ التي لا تعترف بالإطار الإقليمي، وتسعى إلى إقامة خلافة إسلامية؛ لكنها تحصر توسُّعها في المناطق التي يُسيطر عليها الشيعة، فلم تهاجم الأكراد، وأعطتهم الأمان؛ لأنهم في نظرها سُنَّة، علاوة على أن موارد الدولة الإسلامية محدودة، فعدد قواتها يتراوح بين 10000 إلى 20000 ألف، يتوزعون حسب تقديرات الإيكونوميست التقريبية بين 6000 في العراق ونحو 5000 في سوريا، فهي ليست كافية للسيطرة على مساحة أوسع، ثم إن تركيز الدولة الإسلامية ينصب حاليا على التحكم في طرق الإمداد نحو سوريا والمراكز الحيوية في العراق مثل مصفاة بيجي التي تنتج يوميا نحو 300 ألف برميل من النفط. هذه المحدِّدات تمنع الدولة الإسلامية من مهاجمة الأردن أو الكويت؛ لأنهم من جانب سُنَّة، ومن جانب آخر تخشى أن تُثير عداء العشائر السنية العراقية التي ترتبط بعلاقات حسنة مع السعودية حليف البلدين، ومن جانب ثالث تتشتت جهود الدولة الإسلامية في مناطق شاسعة.
على الرغم من هذه الاعتبارات، مثّل هذا التطوُّر تهديدًا لعدَّة قوى؛ فرئيس الوزراء نوري المالكي بات يفتقد القوات المسلحة القادرة على استعادة المناطق التي خرجت من سيطرته، وبات يخشى على بغداد من السقوط، والقوى الشيعية العراقية باتت تخشى وصول الاجتياح إلى مناطق يسكنها الشيعة أو أماكن مقدسة، وإيران تخشى من سقوط حلفائها في بغداد، وانقطاع الطرق المؤدية إلى سوريا؛ والنظام السوري يخشى من حصول الدولة الإسلامية على موارد إضافية تجعلها قادرة على التمدد في سوريا أكثر؛ وأميركا والقوى الغربية وروسيا والصين تخشى من قيام دولة جهادية بين العراق وسوريا تجذب إليها القوى الجهادية من مختلف بقاع العالم؛ فتوفِّر لهم التدريب والتمويل، وتعيدهم إلى بلدانهم لينفِّذوا عمليات مسلحة.
هناك قوى أخرى ترى هذا التطور يجمع بين الخطر والفرصة؛ فهو يخدم السعودية لأنه يضرب هيمنة إيران على العراق ويقطعها عن سوريا؛ لكن يهددها لأن الدولة الإسلامية تُعَدُّ في نشأتها فرعًا من تنظيم القاعدة؛ الذي يرفض الاعتراف بشرعية النظام السعودي، ونفَّذ عمليات مسلحة بالسعودية عدَّة مرَّات في السابق. وهو يخدم تركيا لأنه يكسر الهيمنة الإيرانية على العراق، ويشكل ضغطًا مستمرًّا على كردستان العراقية وعلى الأكراد السوريين؛ لكن من جانب آخر يمثل تهديدًا؛ فالمسلحون اعتقلوا عددًا من الدبلوماسيين الأتراك بالموصل، وسيؤدي قيام دولة سنية إلى قيام دولة كردية بالعراق تكون سابقة قد يبني عليها أكراد تركيا.
هذه الأطراف ستتعامل مع هذه التطورات بأجندات مختلفة للقضاء على الخطر الذي يداهمها، وإضعاف خصومها، وتعظيم مكاسبها، ويمكن تقسيم استراتيجيات القوى المختلفة إلى ثلاثة سيناريوهات:
الرهان على الرد المسلح للحفاظ على الوضع، أو المشاركة السياسية للسنة في النظام العراق مقابل الحفاظ على وحدة أراضي العراق، ومنح السنة إقليمًا مشابهًا لإقليم كردستان يحظى بحكم ذاتي، أو تقسيم العراق إلى ثلاث دول.
السيناريو الأول: العودة إلى الوضع السابق بالسلاح
يدعم هذا السيناريو رئيس الوزراء نوري المالكي؛ لأن خوف المكون الشيعي من الخطر السني الداهم يجعل كلاًّ من عمار الحكيم ومقتدى الصدر يتخليان مؤقتًا عن مطالبتهما بتنحي نوري المالكي، ويعطيان الأولوية لرصِّ الصفِّ الشيعي، فيظل المالكي رئيسًا الوزراء دون أن يتراجع عن سياساته الإقصائية؛ التي دفعت قطاعات عريضة من السنة إلى التشدد واليأس من جدوى المشاركة السياسية والمراهنة على السلاح، والقتال بجانب الدولة الإسلامية التي قاتلوها سابقًا حين شكَّلُوا الصحوات.
تُوَافِق إيران بشكل عامِّ على هذا السيناريو؛ فسارعت إلى مساندة الحكومة العراقية؛ لكنها لن تستطيع التدخُّل السافر بقواتها؛ لأنها تستفزُّ الدول السنية المجاورة، وتبدو الحكومة العراقية موجودة بفضلها فتستفزّ المشاعر الوطنية العراقية داخل الشيعة العراقيين أنفسهم، وستختار بدلاً من ذلك القيادة من الخلف، والعمل على توحيد الصف الشيعي العراقي؛ فإيران ستصرُّ على زوال هذا الكيان السني الذي تشكَّل في مواجهة الشيعة، وتوعد أحد مكوناته -الدولة الإسلامية- بالقضاء عليهم؛ ولن تقبل بقيام دولة سنية معادية تقطعها عن سوريا وحليفها حزب الله في لبنان؛ لكنها من جهة أخرى قد تضطر إلى إبعاد المالكي؛ لأنه عامل انقسام بين القوى الشيعية، وجعل القوى السنية المعتدلة تتشدَّد وتراهن على العمل المسلح، وتخشى من أن تؤدي دعوة المالكي إلى تشكيل ميلشيات شعبية مسلحة إلى تفاقم الاستقطاب الشيعي السني، فتتحوَّل إلى دولة طائفية تفتقد شرعية التحدث باسم المسلمين جميعًا، فتزداد عزلتها في العالم الإسلامي والمنطقة العربية.
علاوة على هذا الاختلاف، لا يمتلك المالكي حاليًّا القدرة العسكرية على استرداد المناطق المفقودة؛ فمعركة الموصل أظهرت ضعف الجيش العراقي؛ حيث تمكَّن نحو 800 مقاتل من مواجهة 30 ألف مقاتل عراقي، سارعوا إلى الفرار، وتركوا وراءهم عتادهم، فحصل المسلحون على أسلحة ودبابات، وعربات هامفي، ومروحيتين من نوع بلاك هوك، وأخذوا من مصرف الموصل 430 مليون دولار وسبائك ذهبية (1). وتُعَدُّ دعوته إلى تشكيل ميلشيات مسلحة اعترافًا بأن القوات المسلحة النظامية ليست قادرة على صدِّ الهجمات المتوقعات للمسلحين على مناطق حيوية مثل سامراء؛ التي يوجد بها مرقدا الإمامين الهادي والعسكري، أو تلعفر التي يوجد بها نحو 200 ألف شيعي فرَّ كثير منهم حين دخلها المسلحون؛ لكن استجابة القوى الشيعية لدعوة تشكيل ميلشيات سيجعل من جانب آخر المالكي ضعيفًا؛ لأن عددًا مهمًّا من تلك الميلشيات يدين بالولاء لقيادات ترفض بقاء المالكي؛ مثل: منظمة بدر التابعة للحكيم وسرايا السلام التابعة لمقتدى الصدر؛ فالمالكي لن يكون بالضرورة فائزًا في هذا السيناريو؛ لأن إيران والقوى الشيعية قد تزيحه لإعادة ترميم البيت الشيعي.
يعيق نجاح هذه السيناريو الموقف الأميركي؛ الذي يخشى أن تؤدي مساندته للميلشيات الشيعية إلى تهديد مصالحه في العالم السني، وأن يكون شريكًا في حرب أهلية تقضي على أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين بالمناطق السنية؛ فتثير رفض الرأي العام الأميركي، ولن يكون بعدها راعيًا لأي مصالحة تُعيد تشكيل النظام السياسي العراقي، ويخشى الأميركيون من أن يساعد تسليحهم للمالكي بالمروحيات على استعمالها لاحقًا في إخضاع كردستان، ولعلهم أيضًا لا يثقون في أن العمل العسكري قد يجدي؛ فلقد هاجم المالكي منطقة الفلوجة منذ نهاية عام 2013 إلى اليوم بالطائرات والمدفعية؛ لكنه لم ينجح في إخضاعها. وسيجد الأميركيون مصلحتهم في حلٍّ سياسي يقوم على إدماج حقيقي للسنة في النظام السياسي العراق، ويتلخص تقريبًا في الشروط الثلاثة التي وضعتها هيلاري كلينتون -المرشحة الديمقراطية المحتملة للانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة- للتدخل الأميركي؛ وهي: تشكيل حكومة تضمُّ الجميع، تشكيل جيش يمثِّل مختلف المكونات، والتخلِّي عن سياسة الإقصاء التي انتهجها المالكي. وستضطر الولايات المتحدة إلى الاستعانة بحلفائها في المنطقة لتسوية الأوضاع بالعراق؛ لأنها منشغلة بتركيز قواتها بالمحيط الهادي، ومساعدة حلفائها الأوروبيين في أوكرانيا، وستعتمد على دولتين رئيستين؛ هما: السعودية، وقطر؛ لأنهما تتأثَّران بالأوضاع العراقية، وتمتلكان أدوات التأثير في مجريات الأوضاع هناك.
والمحصلة أن السعي إلى استعادة الوضع السابق بالميلشيات المسلحة سيؤدي إلى حرب أهلية طائفية ستزعزع المنطقة، وتجعل العراق دولة أخرى فاشلة تجذب الجهاديين من المتشددين السنة والشيعة للتقاتل، فتفر أعداد كبيرة من العراقيين إلى دول الجوار، حيث ظهرت بوادر ذلك في فرار نحو نصف مليون من سكان الموصل إلى كردستان عقب سقوط مدينتهم بيد المسلحين، فيعمَّ الاضطراب المنطقة.
السيناريو الثاني: المشاركة والفيدرالية
تدعم السعودية خيار التشارك في السلطة من أجل الحفاظ على وحدة العراق، فدعا مجلس الوزراء السعودي إلى تشكيل حكومة وفاق وطني عراقية تتخلَّى عن سياسة الإقصاء التي مارسها نوري المالكي، فتثق القوى السنية المعتدلة من جديد في جدوى الحلِّ السياسي فتتخلَّى عن السلاح، وتبتعد عن الدولة الإسلامية التي تريد تقسيم العراق، وقد تشارك في وقت لاحق في إخراج الدولة الإسلامية من العراق؛ كما فعلت الصحوات من قبل. ويتوافق الموقف القطري مع الموقف السعودي في اعتبار المالكي المسؤول عن تردِّي الأوضاع؛ أي أن إزالته والتخلِّي عن سياسة الإقصاء سيكونان الحلَّ المناسب للأزمة العراقية، ويحقق هذا الخيار مصلحة تركيا؛ التي تريد عراقًا موحَّدًا ولو بحكومة ضعيفة؛ حتى لا يؤدي تقسيمه إلى تحوُّل إقليم كردستان إلى دولة مستقلَّة.
تمتلك السعودية ورقة مهمَّة لتسهيل تحقيق هذا السيناريو؛ وهي علاقتها المميزة بالعشائر السنية العراقية التي تشارك في القتال حاليًّا بجانب الدولة الإسلامية؛ لكن هذه القبائل السنية تتواجد -أيضًا- في أحزاب تتخوَّف منها السعودية؛ لأنها تنتمي إلى الإخوان المسلمين؛ مثل: الحزب الإسلامي العراقي، الذي انحدر منه طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية العراقية؛ لكن المالكي اتهمه بالإرهاب؛ فاضطر إلى مغادرة العراق، وستحتاج السعودية إلى قطر التي تمتلك علاقات مميزة بهذه القوى لتشكيل توافق سني يرضى بالمشاركة في الحكومة العراقية مقابل انفصاله عن الدولة الإسلامية، فتحقق الدولتان هدف إزاحة المالكي، والتأثير مستقبلاً في الحكومة العراقية من أجل تقييد النفوذ الإيراني.
يمكن أن تشارك إيران في هذا السيناريو؛ لأن خيار العمل المسلح لاسترداد المناطق السنية لا تمتلك الحكومة العراقية موارده الكافية، وقد ينزلق خيار تشكيل ميلشيات مسلحة إلى حرب طائفية تقضي على أي توافق سياسي في المستقبل؛ فتجد إيران أن الأفضل دعم خيار المشاركة السياسية للسنة؛ إلا أن نجاح هذا الخيار يحتاج إلى توافق القوى الإقليمية، وعلى رأسها توافق إيران والسعودية؛ لكن البلدان لم يتواصلا مع بعضهما منذ مدَّة طويلة، وتقف عدَّة عقبات في الطريق التقارب بينهما، فيمكن أن تكون قطر عامل تقريب وتسهيل للتواصل بينهما.
قد يتحوَّل خيار المشاركة إلى خيار الفيدرالية، فيكون تقاسم السلطة أكبر بين المركز ببغداد والمناطق السنية، ويسند هذا الخيار الدستوري العراقي الذي ينص على جوازه، وتتبنَّاه حكومة إقليم كردستان؛ التي تُحَمِّل سياسة المالكي الإقصائية سيطرة المسلحين على مناطق واسعة من العراق، ويمكن أن تُفَضِّل السعودية وقطر وتركيا هذا الخيار؛ لأنه من مصلحة السعودية وقطر قيام إقليم سني محاذٍ لسوريا؛ فيعزل بشكل كبير نظام الأسد عن الدعم العراقي الإيراني. وتُشَارِكهما تركيا جدوى هذا الخيار؛ لأنه يمنع كردستان من التحوُّل إلى دولة مستقلة.
يعتمد نجاح هذا السيناريو على تعاون سعودي قطري، يُوَسِّع نفوذهما بعد ذلك في سوريا.
السيناريو الثالث: التقسيم
تدعم هذا الخيار الدولة الإسلامية التي أعلن زعيمها أبو بكر البغدادي أن هدفه إقامة خلافة إسلامية، تكون منطقة العراق والشام مركزها الرئيسي، ثم تتوسع إلى باقي المناطق الإسلامية، وتقضي في طريقها على الشيعة؛ لكن القوى المسلحة العراقية المتحالفة معه لا تتقاسم الهدف نفسه؛ فجيش الطريقة النقشبندية يتشكَّل من عناصر من الجيش العراق السابق ومن صوفية، ويجعل هدفه تحرير العراق من النفوذ الإيراني بعد أن دحر القوات الأميركية، فتنحصر أجندته في الاستيلاء على السلطة داخل إقليم العراق.
وتندرج كذلك مطالب العشائر في إنهاء الإقصاء الذي تمارسه عليهم الحكومة العراقية، ويرفضون تقسيم العراق، ولا يسعون إلى بسط سيطرتهم خارج حدود بلدهم. والواضح أن الجماعات السنية المسلحة تختلف في أجندتها السياسية، ولا يجمعها حاليًّا إلا السخط على الحكومة العراقية، وقد تتضارب مصالحهم إذا وجد طرفٌ منهم أن الأطراف الأخرى تمنعه من تحقيق أهدافه؛ فالعشائر العراقية أقرب إلى القبول بالمشاركة السياسية؛ لأنها كانت ممثلة من قبل فيها، وشاركت في تكوين الصحوات التي قاتلت القاعدة سابقًا؛ لكن مشاركة جيش الطريقة النقشبندية أصعب؛ لأنه يشترط إزالة آثار الاحتلال؛ بما فيها العملية السياسية التي أوصلت قوى شيعية حليفة لإيران إلى السلطة، أما الدولة الإسلامية فترفض نهائيًّا شرعية الحكومة العراقية والدولة العراقية، وتبتهج بنجاحها في إزالة الحدود بين العراق وسوريا؛ لأنه -برأييها- إنهاء لاتفاقية سايكس- بيكو التي قسَّمت العالم العربي بين القوتين البريطانية والفرنسية.
بالطبع يصبُّ خيار التقسيم في مصلحة إقليم كردستان؛ لأنه يحقِّق حلمه في الحصول على الاستقلال التام؛ لكنه يخشى من الردِّ التركي الرافض لهذا الخيار؛ حتى لا يؤدي إلى تشكيل نواة قد تجذب إليها المنطقة الكردية بتركيا، وتدعم إيران خيار رفض التقسيم؛ لأنه خطر على عراقيين شيعة متواجدين بمناطق سنية، وقد يجذب استقلال كردستان نحو المنطقة الكردية بإيران، وتشارك السعودية وقطر وأميركا والصين وروسيا هذا الرفض؛ لأنه يُهَدِّد من جانب الحدود القائمة، وسيسمح بقيام دولة يُشارك في قيادتها جهاديون سيجذبون القوى الجهادية إليهم؛ وقد يُشَكِّلُون سابقة تنتقل إلى دول أخرى.
الخاتمة
يبدو في مختلف السيناريوهات أن القوى التي ستُشَكِّل الأوضاع تَعتبر المالكي عقبة في طريق الحلِّ؛ إما لأنه في الحلِّ العسكري يعيق تشكل وفاق شيعي، أو يعيق تعاونًا كرديًّا، أو يمنع في الحل السياسي توسيع المشاركة السنية، ويُثير سخط حكومة كردستان، فتُرَجِّح هذه الاتجاهات رحيل المالكي، فيقلُّ عدد الداعين إلى الحلِّ العسكري، وتزداد حظوظ الداعين إلى حلٍّ سياسي، على رأسهم السعودية وقطر؛ لأن مخاطره وتكلفته أقل، ومنافعه تشمل الجميع بما فيها إقليم كردستان، ولا تتضرَّر منه إلا الدولة الإسلامية؛ التي ستعمل على إفشاله؛ لكنها ستفتقد الحاضنة الاجتماعية بالعراق والدعم الدولي بالخارج.
وكما كان الوضع في سوريا سببًا مباشرًا في نجاح الدولة الإسلامية في عملها العسكري بالعراق؛ فإن مختلف القوى الخارجية المؤثرة في سوريا -بما فيها إيران- ستستنتج أن استقرار الأوضاع في العراق يحتاج إلى تسوية للأزمة السورية حتى لا تجد القوى الجهادية حاضنة اجتماعية تستند عليها، فتتغير النظرة الإيرانية التي كانت تعتقد أن الدولة الإسلامية بسوريا تخدم بشكل غير مباشر نظام بشار الأسد؛ لأنها تجعل اتهامه للثوار بانتمائهم للقاعدة يجد قبولاً متزايد في الرأي العام الخارجي، علاوة على أن الدولة الإسلامية تقاتل في الأساس المعارضة السورية المسلحة، فتنهكها وتعيقها عن تركيز ضرباتها على نظام الأسد؛ لكن بمشاركة الدولة الإسلامية في السيطرة على المناطق السنية بالعراق باتت إيران ترى في التنظيم خطرًا داهمًا على مصالحها؛ هذا التطوُّر في العراق سيُقَرِّب وجهات نظر مختَلَف القوى الدولية نحو تسوية في سوريا، يكون هدفها الرئيس منع الدولة الإسلامية من أن تكون الفائز الأكبر في الصراعات الجارية بالمنطقة العربية.
__________________________________
الحواس تقية – باحث بمركز الجزيرة للدراسات
هل تفوز القاعدة باستعارة المالكي أوراق لعب الأسد؟
الشرق الأوسط ليس غريباً عن نظريات المؤامرة، خاصة واحدة تداولتها وسائل الإعلام العربية (في شكليها التقليدي وعبر وسائل التواصل الاجتماعي) خلال الأشهر القليلة الماضية، تمحورت حول أنه، وعلى العكس ما قد يظهر بأن كلاً من بشار الأسد والجماعة المنشقة عن القاعدة، المعروفة باسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” أو “داعش”، متعاونان سوياً، لإلغاء مصداقية الانشقاقات المعتدلة المنبثقة عن المعارضة السورية، ولإعطاء وصف “الإرهابيين” على جميع الثوار.
ولكن لا يوجد دليل صريح على وجود تعاون بين الطرفين، رغم أن “داعش” في سوريا باعت نفطاً للنظام السوري، بعد سيطرتها على عدد من حقول النفط والغاز الطبيعي، وفقاً لما أشار إليه مسؤولون أمريكيون نقلاً عن صحيفة “بوسطن غلوب.”
كما أنه وثق عد تركيز قوات الأسد قتالها في المناطق الخاضعة لسيطرة “داعش” مثل الرقة في شمال سوريا، وركزت قتالها عوضاً عن ذلك في المناطق التي خضعت لسيطرة الجيش السوري الحر، ولسيطرة مجموعات إسلامية أخرى أقل تشدداً في مدن مثل حمص.
وفي الوقت ذاته، بدا تنظيم “داعش” مهتماً أكثر بقتال جماعات معارضة أخرى، من ضمنها “الجيش السوري الحر”، و”جبهة النصرة” التابعة لتنظيم “القاعدة”، أكثر من اهتمامها بمقاتلة قوات الأسد.
في العراق، يبدو أن رئيس الوزراء، نوري المالكي، يعمل على استعارة صفحة من كتاب قوانين اللعب الخاص بالأسد، إذ أن الاقتحام السريع لثاني أكبر مدن العراق “الموصل”، صدم المجتمع الدولي، وخلق حالة من الذعر حول اقتراب القاعدة من تأسيس دولة “الخلافة” الموعودة، على مساحة واسعة بين العراق وسوريا، ولكن الانهيار السريع لقوات الأمن العراقية في المدينة وبأماكن أخرى، دعا البعض إلى الشك في وجود خطأ في اللعبة.
ففي الوقت الذي أدى فيه العنف الناجم عن النظام السوري إلى تشدد بعض عناصر المعارضة والسماح للقاعدة بتأسيس تشكيلة جهادية مع بعض السنة من سوريا، ومن عدد من بلدان العالم الإسلامي، كما أن المالكي قام باللجوء إلى تكتيكات نجمت عن تهميش الأقلية السنية، ولجوء بعض أفرادها إلى التشدد.
صراخ “الإرهابيين” لفت الانتباه إلى رفض المجتمع الدولي الدخول في مواجهة بسوريا لإيقاف الحملة التي يشنها الأسد، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من 100 ألف شخص، ولجوء ونزوح الملايين، ويبقى رؤية نداء البوق الذي أطلقه المالكي، إن كان سيجبر المجتمع الدولي، وخاصةً الولايات المتحدة، للتدخل في “معركة العراق.”
بعض المحللين الذين يكسبون رزقهم من دراسة القاعدة حذروا، ومنذ بداية يناير/ كانون الثاني 2012، من أن سوريا يمكنها أن تتحول إلى أفغانستان أخرى، والآن أصبحت بالفعل الوجهة المفضلة للميليشيات الإسلامية من حول العالم، من بينهم المئات من الغرب، وسمحت لتنظيم القاعدة بإعادة رسم اسمها بالمنطقة، ومنح عناصرها دفعة إيجابية كبيرة.
ورغم كل ذلك، فإن قلة اهتمام الأسد و”داعش” في القتال وجهاً لوجه، أثار انتباه البعض.
إذ يحكي عدد من السعوديين الذين شاركوا في القتال ضد القوات الموالية للأسد في سوريا، عن تجاربهم، بعد أن سلموا أنفسهم للسلطات السعودية، ناصحين الشباب السعوديين بعدم السفر إلى سوريا، وعدم الانضمام إلى “داعش”، وأنهم في حال انضمامهم سيواجهون عدواً “مجهولاً”، أو سعوديين آخرين انضموا لـ”جماعات جهادية” أخرى.
ومع أواسط عام 2013، انشق صدع كبير بين “داعش” و”جبهة النصرة”، مما دعا زعيم القاعدة، أيمن الظواهري، إلى نفي أي صلة لـ”داعش” بجماعته.
وفي رد قوي، اتهمت “داعش” الظواهري بكونه المصدر الأساسي للخلاف بين المجاهدين، بل وأشارت أيضاً إلى أن سلفها “القاعدة في العراق”، لم تقم بأي عمليات على الأراضي الإيرانية، بأوامر من الظواهري.
وهذه فكرة أخرى تم تداولها لمدة أعوام أيضاً، أشارت إلى وجود نوع من التفاهم بين تنظيم القاعدة وإيران، بحجة عدم تنفيذ التنظيم لأي عمليات في الأراضي الإيرانية، رغم نقده الطائفي اللاذع وهجماته المعتادة ضد شيعة العراق.
وقد كان المالكي عنصراً أساسياً في عدم القيام بجهد كاف لضم الأقلية السنية بالعراق في عملية “بناء الأمة”، والتي حاولت الدولة تبنيها منذ الإطاحة بالرئيس الراحل، صدام حسين، عام 2003، وهنالك تهم موجهة لحكومته بالفساد والمحسوبية، من بينها الرتب العسكرية، والعديدون اتهموا المالكي بترويجه لحلفائه الشيعة، وتهميش منافسيه من السنة والأكراد.
وقد بذل قادة القبائل السنية جهداً للدخول في هذه العملية، من خلال الترويج لما أسموه بحركة “الصحوة” عام 2008، والتي نجم عنها تقليل العنف في الدولة، وإنكار للقاعدة على مدى واسع، لكن المالكي رفض دمج ما يقرب من 90 ألف عنصر قبلي في قواته الأمنية، على عكس وعوده.
كما أن المالكي كان يقوم، في بعض الأحيان، بتوظيف مفردات طائفية خلال وصفه للمعارضة السنية في وسط العراق وشماله، ومثل الأسد، استعمل كلمة “الإرهابيين” في وصفه للسنة، الذين بدأوا بالتظاهر ضد نظامه في أواخر عام 2012، وكما احتوت بعض المحافظات مثل الأنبار على عناصر متشددة مرتبطة بـ “داعش”، أيضاً كان الحال مع أفراد القبائل والبعثيين السابقين.
وفي الوقت الذي ربط فيه المراقبون حول العالم، وبالأخص في الغرب، أحداث الأسبوع الماضي والهجوم الذي أدارته “داعش”، إلا أن العديد من القادة السنة في العراق يؤكدون أن “التمرد” مكون من تحالف أوسع، وأن “داعش” تعتبر عنصراً واحداً منه.
هنالك دلائل على أن القوات العراقية ببساطة لم تقم بالدفاع عن الموصل، والتي تتميز بتحصين مركز أكثر من غيرها من المدن، ورغم صعوبة تأكيد ما حدث، قامت وسائل الإعلام العربية ببث قصص، مقتبسة تصريحات لمسؤولين في الجيش العراقي، قالوا إنهم “أمروا” بالانسحاب من مواقعهم في الموصل.
عشرات الفيديوهات التي ظهر فيها مقاتلو “داعش” خلال قتالهم في الموصل وتكريت وغيرها من المناطق، تشير إلى أن أعدادهم كانت محدودة وأنهم لم يملكوا أسلحة بكم كبير، وكنتيجة لذلك فإن انسحاب القوات الحكومية من مراكزها في الموصل، نتج عنه حصول “داعش” على أسلحة ومعدات قتالية ثقيلة، قد يكون من بينها دبابات ومروحيات، وهنالك تقارير تشير إلى أن مقاتليها سرقوا 400 مليون دولار أمريكي من بنوك الموصل.
كما كشف مؤخراً أن المالكي كان يطالب أمريكا، اعتباراً من بداية هذا العام، بالقيام بهجمات جوية على المناطق السنية، التي وقعت الآن تحت سيطرة “داعش” وغيرها من الميلشيات المسلحة، وقد طالب بذلك بعد وقوع اشتباكات عنيفة مع القوات الموالية لحكومته، تلت حركة تظاهر سنية.
هنالك القليل من الشك بأن العنف الذي مارسه الأسد، قام بإنعاش القاعدة، وأن سياسة المالكي لرسم الحياة داخل العراق، يمكنها أن تحول “داعش” إلى ما يمكن وصفه بـ”أخطر تنظيم منبثق عن القاعدة في التاريخ”، وسيكون من الحكمة إن قام المجتمع الدولي، وبالأخص أمريكا، باتخاذ الإجراءات الاحترازية ذاتها، التي اتبعتها في سوريا، وأن توظفها في العراق.
كاتب المقال: فهد ناظر هو الخبير في شؤون الإرهاب بمؤسسة “JTG” ومحلل سياسي سابق في السفارة السعودية بالعاصمة الأمريكية، واشنطن، ظهرت كتاباته في كل من ” The New York Times” و “CNN” و”Foreign Policy” و “Yale Global Online” و “Al monitor”، تابعوا حسابه على تويتر. (المقال الوارد يعبر عن رأي الكاتب وحده، ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر CNN)
“معركة كبرى” يا أبا تمام/ مشرق عباس
لماذا تهدمُ «الثورة» تمثال «أبي تمام»؟ لماذا تنشر ثورة لعشائر ومقاومين إعلانات في شوارع الموصل حول النقاب المسموح لنساء المدينة بارتدائه؟ لماذا تقطع أيادي مخالفين؟ لماذا تحتل منازل مسيحيين؟ لماذا تعدم ثورة جنوداً مستسلمين، بكل هذه البشاعة؟ لماذا هناك أفغان وبريطانيون وتونسيون ونيجيريون وشيشان في مقدمة ثورة عراقية؟
ليس عليك أن تسأل. هذا النوع من الأسئلة يمثل تشكيكاً يستدعي تخوينك، رجمك، أو قتلك، نحن في «معركة مصيرية كبرى» ومَنْ ليس معنا فهو ضدنا، عليك أن تردد من دون توقف مثلنا تماماً: «ليس هناك داعش… إنها ثورة فقط».
في الجبهة الأخرى، حيث ترتفع الأهازيج الوطنية، ويشحذ الجميع أسلحتهم وألسنتهم، يمكن ببساطة ملاحظة «عصائب أهل الحق» و «كتائب أبو الفضل» بأزيائهم المميزة وعناوين مجموعاتهم، يسيطرون على الشارع ويشاركون في المعارك، ويرفعون فتوى السيد السيستاني مبرراً.
ولكن، ألم تتحدث الفتوى عن «دفاع كفائي»؟ ألم تشترط أن يكون التطوع في نطاق الأجهزة الأمنية حصراً؟ ومن ثم لماذا يحاسب صغار الضباط على هزيمة الموصل، ولا يحاسب قائدهم الأعلى؟ لماذا يتم تحويل القضية برمتها إلى استنفار طائفة ضد أخرى؟ لماذا الإصرار على هدم الدولة؟
ليس هذا وقت الأسئلة. أنت إما متآمر، وإما خائن، وإما متخاذل. وفي كل الأحوال أنت «داعشي»… نحن في معركة المصير وعليك أن تردد مثلنا تماماً: «ليس ثمة ميليشيات… إنه جيش عراقي فقط».
عندما تقرع الطبول، لن يكون في الإمكان إلا التماهي مع الجموع الغاضبة، التصفيق معها، وارتداء أزياء الكاكي والتلويح بالكلاشنيكوف. هذه عادة عراقية قديمة، فللحرب جاذبية لم تفقد بريقها يوماً، وفي الصدور أحقاد لم يسعَ أحدٌ إلى ترطيبها، وفي التاريخ الممتد حتى اللحظة موارد دائمة لتبرير القتل.
للسني مظالم عديدة، فهو يشعر بأنه مواطن مع وقف التنفيذ، وتهمة «داعش» مشرّعة في وجهه من أبسط جندي استُقدِم من الناصرية لحماية الموصل، إلى القائد العام للقوات المسلحة.
يمكن له خسارة حياته برصاصة، أو خسارة حريته خلف قضبان السجون، حيث التعذيب والاغتصاب، وانتهاك بقايا إنسانيته.
يرد مَنْ مرّ بمحنة السجن بغضب على مَنْ يطلب منه التسامح، أو من يلومه على الارتماء في أحضان «داعش»: «ماذا أفعل مع شرفي المنتهك؟»
للشيعي مظالم أخرى، فقد أخاه، زوجته، أو أطفاله، بتفجير انتحاري، يلتحق بالجيش ليفرغ غضبه على أي معتقل جديد ويحمله المسؤولية، وأحياناً يفجر آلامه بحق قرية، أو مدينة كاملة كالموصل.
لم يترك السنيُ الشيعيَ يجذر تجربة حكم العراق بعد قرون من تعرضه للقمع والتخوين والإذلال، ولم يسع الشيعي إلى إنهاء جنون الإذلال والقمع عندما كان بمقدوره ذلك.
ينقطع الحوار منذ زمن، ينقطع فلا تبقى منه سوى آثار مجاملات سياسية، وشعارات حول الوحدة الوطنية، ومدنيين، ليبراليين وعلمانيين، معزولين ومتهمين من الجانبين، ما زالوا يعتقدون بأن هناك مساحة أمل.
في نهاية 2012 كان السنّة العراقيون أنتجوا «لحظتهم»، تلك اللحظة الخطرة التي قرروا فيها أنهم «سنة» وعليهم الدفاع عن وجودهم سواء في ظل العراق أو حتى على أنقاضه.
فهم الجميع تلك اللحظة، فهمها مقتدى الصدر وعمار الحكيم ومسعود بارزاني وجلال طالباني، وفهمها مثقفون وكتاب، وفهمها المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، بل إن تنظيماً لا يعترف بحدود وطنية، ويمتهن القتل للسنة والشيعة معاً كـ»داعش»، فهم تلك اللحظة السنية وتعامل معها بذكاء، وانسل بجلد آخر للحديث عن استعداده للدفاع عن الطائفة التي لا تشبهه ولا تنتمي إليه ولا ينتمي إليها.
ولكن، وسط كل هذا الفهم لطبيعة التظاهرات السنية، والبيئة التي قادت إليها، والحلول التي يجب أن تطرح لتدارك أخطارها، بدا أن رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي الوحيد الذي لم يفهم، فهو في أحسن الأحوال اعتبرها «تكتيكات ومؤامرات ضده» وفي أسوا الأحوال «مؤامرة خارجية».
ليس من المنطقي ألاّ يفهم المالكي، فافتراض أنه لم يكن يعلم أن اللحظة التي شيّد فيها السنّة خيمهم على أطراف صحراء الأنبار، ستقود بعد حين إلى تشييد حدود سنّية بقوة سلاحهم أو حتى سلاح «داعش». أمر في غاية الغرابة، تماماً كغرابة ألاّ يفهم رجل محنك في قيادة الأزمات كقاسم سليماني.
لن يحاسب المالكي لأنه لم يفهم، بل يحاسب ضباط لأن جنود الجيش العراقي هربوا من الموصل وتكريت والفلوجة وكركوك، فالأولوية هي لاستعادة هذه المدن، وحينها لكل حادث حديث. ولكن، ماذا اذا نجح الجيش في استعادة الموصل غداً؟ من يضمن انه لن يفقدها بعد غد؟ لا ضمانة، فالموصل نسخة في غاية الوضوح للمآلات السورية.
لن يجدي نفعاً البحث عن حلول الأمس لمعالجة أزمات اليوم.
«داعش» البربري الذي فَهِمَ، موجود اليوم في قلب الموصل التاريخية، يمتهنها، ويجذر قوانينه في أزقتها، يهدم تمثال أبي تمام وعثمان الموصلي، وينتهك أسرار أشور، ويحاول أن يلبسها رداء قرية من عصور ما قبل التاريخ.
«داعش» موجودٌ، لأن بغداد فشلت في إنقاذ الموصل، فشلت قبل 10 سنوات، وما زالت تفشل.
الحياة
الفوضى في دولتي العراق والشام/ عبد الرحمن الراشد
عندما بدأت الثورة السورية كانت تقديرات الكثيرين أنها لن يحول عليها الحول؛ إما أن يقمعها النظام مبكرا فيخمدها، أو تنتشر وتقضي على النظام. بدايتها كانت بسيطة، اعتقال بضعة أطفال في مدينة درعا، كتبوا على جدران الحي ضد النظام في 26 فبراير (شباط). وسريعا ما اتسع حريقها لتشتعل مظاهرات الاحتجاج وتنتقل إلى دمشق، وحمص، وحماه، وكل شبر في سوريا. عمليا نجح الرئيس بشار الأسد في أن يرتهن البلاد، وورط الجميع في حرب نيابة عنه. وكذلك الأزمة في العراق، بدأت في الرمادي، وسريعا ما وصلت إلى الموصل، ولا تزال في بدايتها. أطرافها معدودة ومطالبها محدودة: سنة محتجون من عشائر وعسكريين سابقين، يستغل ثورتهم تنظيم «داعش» الإرهابي. فإن طالت الاحتجاجات والمواجهات لأشهر أخرى، فإنها مع الوقت ستتعقد وتكبر، وسيشارك فيها طباخون أجانب كثر، ويصبح من الصعب التنبؤ في أي اتجاه ومتى ستحسم. لهذا، إن لم يستطع اللاعبون الأساسيون اليوم محاصرتها فسيجدون أنفسهم غدا رقما صغيرا على الطاولة. رئيس وزراء العراق نوري المالكي راغب في إطالة الأزمة، لأنها تطيل عمره في الحكم. إنه يقلد تماما حاكم سوريا.
تنظيم «داعش» لم يخطئ قراءة المستقبل عندما سمى نفسه بـ«دولة العراق والشام». فقد انصهر البلدان في أزمة شبه واحدة، وأجزاء من حدودهما انهارت تحت هجمات التنظيم المتطرف، وقوات الحدود الحكومية فرت من مراكزها، وأصبحت سوريا والعراق لأول مرة منذ مائة عام أرضا توحدها الفوضى. «عصائب الحق»، وغيرها من الميليشيات العراقية الشيعية المتطرفة، تعود من سوريا إلى العراق، تريد حماية مناطقها، تاركة نظام بشار الأسد لمصيره.. ومثلها دخل مقاتلو «داعش»، متطرفو السنة، العراق قادمين من سوريا، عابرين المراكز الحدودية المفتوحة، لدعم رفاقهم في غرب العراق.
الفوضى تتسع في بلدي العراق والشام، وتجبر الدول الكبرى والإقليمية على التدخل، في وقت يخيم فيه العجز على القوى العراقية، التي نستبعد أن تفعل البرلمان الجديد في موعده لعقد جلسته، فيختار الرئيس ونائبيه، ثم يعقد جلسته الثانية فيختار رئيس الحكومة. الأمر بات مستبعدا لأن المالكي جعل الوضع صعبا على حلفائه أيضا، يهدد الجميع بأنه المنتصر انتخابيا والمطلوب شعبيا، لقمع الانتفاضة.
ودون حسم الحكومة الجديدة التي حث على تشكيلها المرجع الشيعي الأعلى آية الله السيستاني، يصبح الوضع قابلا للتحول إلى حالة حرب أهلية طويلة الزمن. فالأزمة تنشب في وقت تنتهي فيه حكومة نوري المالكي، والحكومة اليوم هي مشكلة شيعية بالدرجة الأولى. هم من يستطيعون تطويق الأزمة، بعدم تركها في يد المالكي، الذي يخطط منذ زمن للبقاء في الحكم أربع سنوات أخرى، وإن استمر فهو لن يقضي على المحتجين السنة، بل الأرجح سيقضي على منافسيه الشيعة، ويحكم البلاد بصورة عسكرية. وسيقود طول أمد النزاع إلى صراعات شيعية شيعية، وسنية سنية، كما نرى الاقتتال متعدد الجبهات في سوريا بين الجيش الحر وجبهة النصرة و«داعش»، ونظام الأسد وحلفائه.
الشرق الأوسط
مأزق إيران مع “داعش”/ خالد الدخيل
مهما قيل عن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، فقد أصاب نجاحاً كبيراً في تحقيق ثلاثة أمور لم تكن مطروحة من قبل، أولها وأقلها أهمية أنه قضى على المستقبل السياسي لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي رجل طهران وواشنطن في الوقت نفسه. الآن بات خروج المالكي على رغم أنه الفائز الأكبر في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، شرطاً لإخراج العراق من مأزقه الحالي، إن كان هناك ثمة مخرج، وربما أن هذا ما أفقد المالكي رشده ودفعه للإفصاح عن رؤية طائفية للأحداث وللمكون الآخر من الشعب الذي يفترض أنه يمثله في البرلمان والحكومة، إذ ألقى خطاباً أخذ به العراقيين إلى أكثر من 1400 عام إلى الوراء، معلناً أن ما يحدث الآن استمرار لما كان يحدث، وأنه «مواجهة بين أنصار يزيد وأنصار الحسين». وتساءل البعض إن كان المالكي يتكلم هنا باعتباره رئيساً لحكومة وطنية، أم رئيساً لحسينية في النجف؟
الأمر الثاني أن «داعش» أرغم الرئيس الأميركي على مراجعة موقفه الراسخ بعدم التدخل في أحداث المنطقة، إذ لا يزال أوباما متمسكاً بعدم وضع جنود أميركيين على الأرض في العراق، لكن الأحداث ربما تضطره لاحقاً إلى ذلك. حتى الآن أرسل 300 من المستشارين العسكريين للمساعدة في السيطرة على الوضع، وتقدر صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية أن هذا الرقم ربما يرتفع إلى 600. أصبح موقف واشنطن رهينة لأحداث أطلق شرارتها «داعش»، ووضع سياسة الإدارة الأميركية هدفاً لموجة انتقادات حادة داخل النظام السياسي وفي الإعلام الأميركي لم تتوقف، بل تتصاعد مع تصاعد هذه الأحداث.
الأمر الثالث والأهم الذي فرضه «داعش»، أنه وضع إيران أمام خيار كانت دائماً تتفاداه بكل الوسائل، وهو التدخل العسكري المباشر والمعلن في العراق وسورية معاً، إذ ترتكز السياسة الإيرانية في توسيع دورها ونفوذها في المنطقة على قوى الشيعة العرب المتحالفين معها، وذلك إدراكاً منها لخطورة تدخل مباشر في البلدان العربية على خلفية حساسيات تاريخية وقومية ومذهبية حاضرة لدى الإيرانيين، كما لدى الطرف الآخر.
في سورية مثلاً حيث الغالبية السنية الكبيرة، وغياب مكون سياسي شيعي مهم، وجدت إيران في حكم عائلة الأسد حليفاً ثميناً يملك دولة أمنية قوية. كان هذا واضحاً قبل الثورة، واتضح أكثر بعدها. عائلة الأسد وحلفاؤها السوريون هم من يباشر عملياً تحقيق ما تريده إيران، وهو منع وصول الغالبية إلى الحكم. تريد عائلة الأسد البقاء في الحكم بأي ثمن، بما في ذلك ارتكاب المجازر وجرائم الحرب ضد الشعب السوري. تعتقد إيران أنها بذلك تكسب سياسياً من دون تدخل مباشر، لكن أثبتت أحداث الثورة أن عائلة الأسد مع حلفائها المحليين غير قادرة على تحقيق المهمة من دون دعم خارجي، وهو ما اضطر إيران إلى إرسال مقاتلين من الشيعة العرب، ومن أبرزهم مقاتلو «حزب الله» اللبناني، ولواء «أبو الفضل العباس»، و»عصائب أهل الحق»، وهذا فرض بدوره دعماً مالياً وبمعدات عسكرية، وخبراء من «الحرس الثوري»، وإن بشكل غير معلن، وتحت أغطية رسمية مختلفة.
في العراق لم تكن هناك ثورة، كان هناك نظام محاصصة طائفي تم فرضه بتفاهم أميركي – إيراني، وطبقة سياسية عراقية جاءت إلى الحكم تحت ظلال هذا التفاهم وفي إطار الاحتلال الأميركي. مأزق العراق حالياً يعكس رثاثة الطبقة السياسية الجديدة، فالقوى الشيعية تعتقد أنها كانت تخضع لهيمنة السنّة، وبدلاً من أن تأخذ ببديل ديموقراطي تعددي وتداول سلمي للسلطة، اختارت ما يرقى إلى نوع من الثأر من الماضي، كما تراه هي على الأقل، وهو أن دورها جاء لتستأثر بالحكم على حساب القوى السنية، إلا أنها لا تستطيع تحقيق ذلك من دون دعم إيراني. مرة أخرى سنحت لإيران فرصة تحقيق ما تريده من خلال قوى عربية داخلية، وتفسير ذلك واضح، وهو أن إيران نجحت في إقناع حلفائها بأنها دولة الشيعة في المنطقة، وأن ازدياد نفوذها يعدل ميزان القوى في هذه المنطقة لمصلحة هذه الدولة، الأمر الذي لا يصب في مصلحة حماية حقوق هؤلاء الحلفاء فقط، بل يحقق لهم السيطرة داخل بلدانهم، وهي رؤية تعبّر عن غباء سياسي تغطيه أدخنة الصراعات المحتدمة.
بعد سقوط الموصل تغير المشهد. فجأة برزت قوة «داعش» وحلفائه من العشائر السنية الثائرة، والجيش العراقي السابق. ما زاد الأمر سوءاً أن سقوط الموصل أسقط معه حليف إيران الأهم، المالكي و«ائتلاف دولة القانون» الذي يترأسه، وقسم القوى الشيعية، غالبية السنّة ترفض «داعش» من حيث المبدأ، لكن هذه الغالبية مكشوفة سياسياً. الأميركيون أقرب إلى الأكراد والشيعة. إيران عدوتهم، وتعمل على إقصائهم وتهميشهم، وتدعم المد الطائفي في بلادهم، وفي الجوار الدول العربية لا توفر لهم غطاء ولا دعماً في مقابل ما يحصل عليه خصومهم من دعم إيراني وأميركي، الأكراد منشغلون بتأسيس دولتهم، وجاءت الأحداث الأخيرة لتؤكد لهم أن خياراتهم ليست في بغداد ولا في طهران، وإنما في أربيل وكركوك. كان أمل المالكي ومعه طهران أن تتولى واشنطن وقف زخم الأحداث، ولجم تقدم «داعش» والعشائر بضربات جوية، لكن واشنطن تبدو مترددة، إذ بدأت تدرك أن المالكي ومن ورائه طهران، هو سبب المشكلة، ولعل أفضل من صور الرؤية الأميركية للأحداث هو الجنرال جي غارنر، أول من تولى مسؤولية إعادة إعمار العراق بعد الاحتلال. في حديث لافت لـ«سي أن أن» اعتبر غارنر أن «داعش» مشكلة إيران، قبل أن تكون مشكلة أميركا، وإيران كما يقول لديها سلاح جو، ويتساءل لماذا لا تتولى ضرب «داعش»؟ ثم يضيف إلى ذلك كلاماً أميركياً غير مسبوق، وهو أن المالكي عميل إيراني يريد منا ضرب «داعش»، ليجير المكاسب السياسية بعد ذلك لنفسه ولرعاته في طهران. جنرال أميركي آخر هو ديفيد بترايوس الذي تولى قيادة القوات الأميركية في العراق ما بين 2006 و2008، حذر من تحويل سلاح الجو الأميركي في هذه الظروف، إلى سلاح بجانب الشيعة ضد السنّة في العراق.
الأحداث وضعت إيران مباشرة أمام الحال العراقية. سقوط الموصل يعني أن حلفاءها لم يعد بمقدورهم مواجهة الموقف وحدهم. هل تتدخل بشكل مباشر ومعلن؟ تدخلها سيحول تقسيم العراق من أمر واقع إلى حال رسمية، وهذا من ناحية يخدم مصلحتها، لكن تدخلها المباشر سيقلب اللعبة عليها، وسيضاعف من استنزافها، وهو استنزاف لا يزال مستمراً في سورية. الأسوأ أن تقسيم العراق سيعزلها جغرافياً عن سورية. فكيف ستتصرف؟ لا تزال إيران تلتزم الصمت، والتحركات الخفية. الإجابة عن هذا السؤال أحد المؤشرات التي ستحدد وجهة الأحداث في العراق.
* أكاديمي وكاتب سعودي
الحياة
سفاح الإرهاب و«الدول» الملّية… وَلّد غزوة الأنبار/ وضاح شرارة
ألهبت غزوة «الدولة الاسلامية في العراق والشام» شمالَ الغرب العراقي، واستيلاؤها في يوم وليلة على مدن عواصم مفترضة مثل الموصل والحويجة وسامراء وتكريت، وهي كانت ترابط في ضواحي الفلوجة والرمادي وبعض أحيائهما الداخلية منذ أشهر على كيلومترات قليلة من بغداد- ألهبت المخيلات والاهواء البلدانية (الجغرافية) الاستراتيجية الهاجعة أو اليقظة. وبعثت أحلاماً ورؤى عريضة عرض المدى والوطن العربيين. فوسع حلف المخيلات والاهواء والاحلام والرؤى التحرر من سايكس- بيكو، وأثقال الرجلين والامبراطوريتين البغيضة التي أناخت على التاريخ، وقيدت اضطرابه ومده وجزره وحصرتها في قمقم بلدان دول قطرية مزعومة. فأرغم العربي السوري (أو السوري العربي) على القول «سوريا»، وقصر مدلول قوله على 194 ألف كلم هزيلة، وإسقاط الأمداء الواسعة المتصلة من طوروس شمالاً الى زغروس شرقاً والبحر غرباً وما قدر الله جنوباً، الى الكويت وسوق الشيوخ إذا شئتم، أو حائل أو تبوك، والى العقبة غرباً وما بعد سوريا الجنوبية الى سيناء كلها، بين خليج العقبة وبين البحر الاحمر.
ولكن الهذيان «الجيوسياسي»، أو بعضه، لا يفتأ يعرب عن بعض الحقائق. وهذه الحقائق لا تتعلق بالوقائع. وحقيقتها هي الأحلام والرؤى والاماني والرغبات التي تنضح بها نفوس أصحاب الخطط الاستراتيجية العظيمة التي تقدم الإلماع الى بعضها المشرقي، وهي الاصداء التي ترددها الوقائع والحوادث المشهودة في نفوسهم وعلى ألسنتهم. فعشية الهجوم على الموصل واكتساح نينوى وصلاح الدين وشمال الانبار، أسر بشار حافظ الاسد، مستودع سر أبيه وروحِه، الى «صحافي» من أهل المجالس والأمانات، أن الغلو في «فبركات صور طائفية» يسأل عنها صور الاعلام، وأبرزها صور «هجمة التكفيريين والارهابيين على المعتدلين من أهل السنة وأهل الصوفية العريقة» («الاخبار» الصادرة ببيروت، 11 حزيران). ويعقب هذا الكلام المرمز- وهو يفيد بأن ثمة أهلي سنة: أهلاً يحاورهم «الدفاع الشعبي» أو العلوي و»المسيحي» بعد حصارهم سنتين وآخر «وهابياً» لا يحاوَر- على «إشارات تغيير» ترسلها «أميركا والغرب، بعد ان «صار الارهابي في عقر دارهم: ثمة أميركي فجر نفسه على الاراضي السورية، وثمة فرنسي من اصل مغاربي قتل يهوداً في كنيس في بروكسيل».
ويكاد يكون تقرير الوقائع المفترض مفتاحاً يفتح شفرة تعاطي الرئيس السوري المثلث الولايات (مع) الحوادث وتأويله لها: لا تغير أميركا وأوروبا سياستها العدوانية بالسليقة والفطرة في شأن سوريا و»خيار المقاومة» الواحد إلا إذا مسّها مس «القاعدة» وإرهابها؛ وغداة سقوط 230 الف قتيل واعتقال 258260 معتقلاً وفقد 99440 مفقوداً (عن «مركز دراسات الجمهورية الديموقراطية») «ثمة» أميركي مسلم واحد، عداً ونقداً، قتل نفسه في عقر دار سوريا، ولكن الرئيس المثلث يرى انه في عقر «دارهم»، و»ثمة» فرنسي واحد عائد من سوريا، حيث لم يبق ثمة يهود، قتل يهوديين اثنين يلمح إعلام الاخوانيين الى انهما عميلا «الموساد» شأن رهائن الخليل، ببروكسيل. وهذه قرائن مروعة ومخيفة جداً على «المركزية الغربية»: قتيلان اسلاميان يقومان عدل أو نظير أو كفء الآلاف المؤلفة من «المحليين الوطنيين»، على ما كانت دوائر الاول الاستعمارية والاستشراقية تسميهم. ولكنه ثمن لا غنى عنه في سبيل صيرورة الارهاب في «عقر دارهم»، وحملهم على ان «يبدأوا يرسلون إشارات تغيير» في عبارة الرجل الفصيحة. ويستشرف الرئيس «الجديد» مدة ولاية ثالثة (7 سنين قحط،على عددها في رؤيا فرعون التي فسرها يوسف بن اسرائيل)، وربما رابعة، يستثمر فيها بدء الاشارات، ويحولها ذهباً استخبارياً صافياً، ومساعدات وهبات اقتصادية، وأحلافاً إقليمية متوسطية، ودعوات الى استعراضات عسكرية…
والحق أن بين العشائر وبين المنظمات الجهادية، الارهابية وغير الارهابية، نزاع حاد وعصي على الحسم: فغالباً ما تتهم المنظمات «الجهادية» العشائر وشيوخها بالهوى العصبي والميل الى «القوة» المركزية الوطنية أو المحتلة، وتعالج الهوى والميل، بالاغتيالات. وتنزع المنظمات المقاتلة الى «توحيد» الشطور العشائرية بالقوة واللين؛ على ما حصل أخيراً في درعا نفسها. وانقلاب الكتائب السورية المقاتلة من «الجيش الحر»، وغيره من التشكيلات «المعتدلة» الى كتائب اسلامية، ليس مرده الى المساعدات، على اصنافها، وحدها، وبعضه يعود الى غلبة المنزع العصبي المفتِّت على جنود «جيش عقائدي» قتل فيهم مَلَكة الرأي والحكم السياسيين والفرديين.
ومَشَت «الدولة الاسلامية» المزعومة، وقبلها «جبهة النصرة» التي أطلقت اجهزة الرئيس المثلث قادتها من سجونها الخاصة، في الشمال الشرقي وأطرافه المركبة سكاناً والمتنازعة، بين تركيا المتذبذبة وبين العراق المتناحر والممزق. وطيلة سنة ونصف السنة، وسع أجهزة «الجمهورية العربية السورية» رشوة عشائر شرق حلب، أو شيوخها، بالسيارات ورزم أوراق المئة دولار، وحالت بينها وبين الانضمام المتعثر الى المعارضة و»حركاتها». ووقعت معركة حلب، في صيف 2012، حين قصَّرت الرشوة عن المدد والدوام، ونافستها رشى أخرى مصدرها مواطن بعض الاحلاف الاصلية في حائل والجزيرة العراقية، وانهار ولاء القوات المسلحة، وانفجر الخلاف التركي الاسدي على نحو يصعب رأبه. والى القوم العشائري، توسلت سياسة أجهزة «الدولة» السورية بكرد غرب كردستان السوري. وهم أو معظمهم أنصار «العمال الكردستاني» الاوجلاني الذي آواه الجهاز الاسدي بدمشق، وعلى الاخص في البقاع اللبناني قبل ان يضطر الى إخلائه بالحسنى على قول صالح مسلم، وتركه طريدة بيد الامن التركي والموساد الاسرائيلي، غداة اتفاق أضنة في 1998 وإذعان الحكم العربي السوري الى بنودها المهينة (قياساً على عروبة الجهاز الحاكم الهوامية والخطابية). وعادت الاجهزة فاستردت «بعض» الكردستاني غداة القطيعة التركية. ونزلت قوات الجيش «العربي» واستخباراته للكرد «الغربيين» عن سيطرة مرقعة ومتناثرة على بعض المواقع في بلادهم. وأحجمت المعارضات السورية، السياسية والعسكرية، عن استمالة الكرد، والاقرار لهم بحقوق اتحادية، شخصية وادارية، ووطنية سياسية، برهنت التجارب والاختبارات على ضرورتها. فأقام الكرد، حيث سرح «الدولة الاسلامية» و»النصرة» وغلبة القوم العشائري، والحوار التركي والعراقي، على ترجيح بين هذه الجماعات والقوى.
صيف 2013
وأبلت «الدولة» المزعومة في قتال الجماعات التي تناوئ أجهزة النظام أو تتحفظ عنها، من غير أن تطلق يدها في التمكين (في رطانة «الجهاديين»). وهي اتفق تألقها المفاجئ في صيف 2013، سنة بعد تألق «النصرة» وبعد مباشرة «حسم» استعادة حلب، مع انتشار عدوى الانهيارات العسكرية، واشتداد عود «النصرة» والتمهيد لـ»حرب» القلمون الحزب اللهية والعباسية، وظهور حاجة أردوغان «الغازي» الى مهادنة «الكردستاني» إبان ذر الخلاف مع حليفه «الامام» عبدالله غولن والخشية (الأسدية) من تقارب أنقرة والكردستاني. وفي صيف 2013، نجح الهروب الكبير، الهوليوودي، من أبوغريب، سجن المالكي الحصين والحصيف. وقضت الحصافة المالكية بسجن 1200-1300 من اشرس ارهابيي «القاعدة في بلاد ما بين النهرين» (و»دولتها الاسلامية») وحليفها البعثي، عزت الدوري والنقشبندية المتصوفة على الطريقة البكتاشية وجيش الانكشارية في ذروة قوته، في سجن واحد. وهذا دعوة صريحة الى الهرب الواحد والمجتمع. وأدى تضافر هذه العوامل والحوادث، من غير الزعم ان «يدا خفية» واحدة ضفرتها الى بعض في هذا الوقت، الى بروز الطيف الارهابي «الجهادي»، واحتمال خلافته الارهاب الاستراتيجي النظامي، حقيقة لا يمارى في جوازها الواقعي. وهذه الحقيقة، وهي من انجاز سياسة متعمدة انتهجها بشار الاسد وناضل في سبيلها وفرضها على بعض مخالفيه في الحلقة الضيقة حوله، قادت الجنرال ديمبسي، قائد الاركان الاميركي، الى اشارته على الرئيس اوباما المتردد في الشطر الثاني من صيف 2013، في اعقاب قصف بشار الكيمائي الغوطة الشرقية، بترك قصف المرافق السورية لأن تحطيمها يعني حتماً انهيار «الدولة» الاسدية في الشام وأيلولة الخلافة، على المقدار نفسه من الحتم، الى الجماعات الارهابية و»الجهادية» المتألقة.
وكان نوري المالكي يكابد، منذ أواخر 2011 وانسحاب القوات الاميركية، وتغلغل النفوذ الايراني في أوصال الدولة والمجتمع العراقيين، وهذا ما يكنى عنه اختصاراً باسم قاسم سليماني وفيلق القدس- مشكلة معقدة، قياساً على «عالم» السياسة الذي يتقلب هذا الصنف من السياسيين العرب والمسلمين بين أظهره. فهو تقدم على أقرانه الشيعة في 2006 جزاء قبوله نهجاً اميركياً قضى بالتخلص من «المتطرفين» الشيعة، وأنصار طهران وحرسها وباسيجها، بالقوة و»الصولة»، على لفظة اختارها المالكي شعاراً لحملته على «جيش المهدي». ونظير هذا الصنيع، على المقلب السني، استقطبت القوات الاميركية «الصحوات» على «جيوش الفاروق»، وقصمت بها ظهر الخلايلة الزرقاوي وحلفائه البعثيين والنقشبندية الذين كانت الاراضي السورية في أيام العز الاسدية ملاذهم وخطوطهم الخلفية.
وعلى الوجهين، قصَّر المالكي ولم يحرز زعامة أو رئاسة شيعية غير مدافعة، على نحو ما لم يحرز زعامة «عراقوية»، على ما كان يقال في الضباط غير العروبيين حتى 1963 ومقتل عبد الكريم قاسم على السنة و»أبناء العشائر»، وبالأحرى الكرد. وهو اتقى، بالتنصل من هؤلاء والتضييق عليهم، تهمة تملقهم، والسير في معاملتهم على خطى الاميركيين. فاحتاج الى تأليب السنة عليه في سبيل توحيد الشيعة وراءه. ولم يكن السنة، سياسيين و»أبناء عشائر» ومشايخ عشائر ومشايخ معممين أو علماء وجماعات «جهادية»، متماسكين منذ انخراطهم السياسي في 2009. وغلبت المهادنة على سياسييهم وجمهورهم وناشطيهم، على ما لا يرغب المالكي. وعندما بادر الجمهور السني في الرمادي والحويجة، مطلع 2013، الى التجمهر والاعتصام السلميين، وطالب بالوظائف والتعويض عن نتائج الانشقاق عن «الجهاديين» والعفو عن شطر من الاهل سبق تورطه في الارهاب، وبحصة من عوائد الدولة وريوعها وتوزيعها الاستثمارات والمناصب والعمولات السخية، انتهز المالكي الفرصة. وأراد شق الجمهور، فـ»صال» على شطر منه في الحويجة، وأوقع مئات القتلى في صفوفه، وطارد قياداته السياسية الاهلية والدينية، وحمل بعضها على الهرب وسجن بعضاً آخر، وأبقى في الاعتقال بعضاً ثالثاً، وصادر الوزراء السنة والشيعة من غير انصاره على صلاحياتهم. فرمى عمداً في احضان «الجهاديين» جزءاً من الجمهور السني. وبدا هؤلاء، «الجهاديون»، «ملاذ أبناء العشائر والمحامين عنهم وعن «أعراضهم»، على ما تسرع الجماعات الاسلامية أو جماعات المسلمين الى القول في كل مرة يجنح الخلاف الى التفاقم. ومن استمالهم من هذا الجمهور ماطلهم ما وعدهم به، وأثار الشبهات حولهم وعرَّض بهم، وجعلهم عبرة لسواهم من الذين قد يتبعونهم الى موالاة الرجل.
الحاجز المائع
فتجدد خلط السنة عموماً، و»أبناء العشائر» على الاخص، بالجماعات «الجهادية» المسلحة والمنظمة، والوثيقة الصلة بالمتبرعين والدعاة والجماعات المناوئة للدول والمتطوعين الاسلاميين أجهزة الاستخبارات التي كانت عوناً لها حين كانت تقاتل الاميركيين والشيعة معاً (وهي أقامت على ارهاب هؤلاء بعد جلاء الاولين). والاجهزة السورية تتصدر المساندين والمُلجئين لقاء «عمولة» سياسية وعسكرية وفي بعض الاحيان مادية. وكان عسيراً على عموم أهل السنة في العراق أن يرفعوا حاجزاً صفيقاً بينهم ، أو بين سوادهم وجمهورهم وبين جماعات منهم، اسلامية محلية واسلامية أجنبية وعراقية قومية وبعثية، اضطلعت بالشطر الاكبر من قتال الاميركيين وحلفائهم، وكان لها الدور الاول في تكبيدهم الخسائر التي قادتهم الى الانسحاب. وحين انسلخ الجمهور، وتبعه السياسيون، من مساندة ارهاب «إخوانهم» وتنصلوا من مواطأتهم- وهؤلاء، على شاكلة الخلايلة الزرقاوي، أثخنوا فيهم وفي أهلهم مقدار ما أثخنوا في عدوهم الاهلي «الصفوي» و»الرافضي»- وأتاحوا بعض الاستقرار للعراق، ومهدوا الطريق الى الجلاء الاميركي، لم يبادر الجمهور الشيعي الى مصالحة وطنية عامة، ولم يقطع الطريق على تغلغل الارهاب في الجمهور السني. وانقسم طاقمهم على نفسه. فبقيت نوايا مقتدى الصدر وعزائمه التوحيدية أسيرة أهواء عامية وثأرية مذهبية عجز الصدر عن كبحها بعد أن غذاها، وعوَّل عليها. وانكفأ المجلس الاعلى الى دور ملحق بطهران، بعد أن خسر في أعوام قليلة جيلين من قياداته المجربة. واعتصمت المرجعية بالنصح المتعالي والمشورة اللفظية، وبعض المراجع أشد غلواً مذهبياً وحرفياً من كثرة المقلدين. وفتوى الجهاد الكفائي، في انتظار الجهاد العيني، قرينة ربما على فشو ولاية الفقيه في عروق عصبية متخشبة.
فخلت الساحة للحليفين الاقليمين المتكاتفين والمنقسمين في شأن العراق وعليه، سوريا وإيران. ونفوذ السلطتين والطاقمين في البلد الذي يجر أثقال عقود من التسلط البعثي والحروب الداخلية والخارجية ينهض على ركائز مختلفة ومتضاربة، وينزع الى غايات يصعب التوفيق بينها. فطهران الخمينية تحمل العراق على شطرين متضادين: شطر شيعي خالص وتابع ومنتزع من دائرته التاريخية والجغرافية و»محرر» منها، وشطر سني مناوئ ومتسلط على الشطر «الصديق» والمنقاد (والشطر الكردي شوكة في الحلق قد لا تقتلع أبداً). وتعزو طهران الخلاف الداخلي الى منازعة اقليمية، وهي ترى حلَّها في بسط سيطرتها العسكرية الساحقة، على ما يحسب حرسيوها وآياتها على اقاليم الغرب العربي، ويصدع بها الشمال التركي والشرق الأسيوي ومعسكرات ما كان استكباراً ظالماً. وسوريا «العروبة» جزء من الغرب ومن التغريبة الملحمية. ونفوذها في المحافظات السنية مصدره البعيد عروبة عرقية وبلدانية (جغرافية) صحراوية، ومصدره القريب إيواؤها مقاومة الاحتلال الاميركي لذي مكَّن الامر لسيطرة الشيعة على بغداد، وحماية بعض الجماعات المقاتلة وتيسير معاملاتها المالية وانتقال المتطوعين العرب والاجانب الى ألويتها.
ويدخل هذا في سياسة جمع الاوراق التي تنتهجها «العصابة» في سياستها الاقليمية. فالنفوذ المكتسب في الجماعات والمنظمات و»الشخصيات»، في ظروف الحرب والفوضى وانقلاب الجبهات والتجارات المتفرقة، سُلّم الضباط والقيادات الى الاستعمالات المزدوجة والمثلثة، والى تحول الادوار ولبوس أصحاب الاقنعة غير المتوقعة. وعلى هذا فلا شك في حيازة الاجهزة الاسدية نفوذاً قوياً في قيادات «الدولة الاسلامية» على جبهتي الحدود العراقية السورية، من مقاتلين «جهاديين» ومساجين سابقين محررين وضباط صداميين. ونفوذ الاجهزة في المجالس العسكرية، العشائرية و»الجهادية» المختلطة، وفي متصوفة النقشبندية العرب والكرد، لا يرقى اليه شك. ويبدو انهيار القوات العراقية في نينوى (الموصل) وصلاح الدين (تكريت)، وتسليم الضباط والرتباء الامر والسلاح الى المهاجمين، أثراً من آثار هذا النفوذ وأوجهه وأقنعته الكثيرة. فلماذا يقاتل الضباط والرتباء «إخوة» لهم، قربتهم اليهم العصبيات القديمة الغالبة والمغلوبة، وسياسة الادارة المتسلطة الجديدة، والمظلومية الواقعة عليهم، والاعتصامات المغدورة…؟ وهذا لا يجهله الغزاة، وتعلمه أجهزة الاسد المثلث بعلم عميق، واختبره الجيش العراقي و»ثوار العشائر» أو «أبناؤها» طيلة نصف السنة المنصرم في ضواحي الفلوجة والرمادي. وكلهم يعرف أن كرد العراق لن يتخطوا حدود كردستان الى ما وراء الارض المتنازعة، ولن يقاتلوا عن طاقم حاكم ينكر عليهم حقوقاً سياسية واقليمية وعوائد يرونها ثمناً زهيداً لما ألحقه فيهم العراق العربي والموحد من كوارث وآلام.
وعليه، جاز افتراض ان الغزوة الانبارية تؤجج الخلافات في اوساط المعارضات السورية، وقد تقوّي «الدولة الاسلامية» موقتاً قبل أن تستنفد قواها وقوى من يقاتلها. وفي الاحوال كلها، تدمغ الغزوة الجماعة «الجهادية» المتصدرة على بعض جبهات سوريا الطرفية والداخلية بدمغة الارهاب الاقليمي، وتحقق «نبوءة» بشار الاسد وتوقعه تفشي «التكفيريين الوهابيين» في المشرق العربي كله، وطلبه «تغيير» معاملته. وتحقق من وجه آخر، تهمة جمهور سنة العراق وسياسييهم بمواطأة «الجهاديين» والمؤامرة على وحدة العراق وسلطته المشروعة والمنتخبة لتوها وجيشه «الغالي». وتجدد وصمهم بالولاء «الاميركي»، وتمحو دورهم في إجلاء الاحتلال، واطفاء الاضطراب الاهلي. وتمنح سياسة نوري المالكي، في صيغتها الحرسية السليمانية، مسوغاً داهماً، وتحلق حوله معظم خصومه الشيعة وجمهورهم الذهبي المتطرف، وتفض عنه الجمهور السني الذي تحتضنه اجهزة «العصابة»، ويفزع بعضه الى رعاية اقليمية قريبة وموصوفة. وتدعو القوى الدولية الغربية الى النصيحة بالصبر على المالكي، على رغم تعنته وانفراده. فتجني سياسة جمع الاوراق «السورية» موقعاً عراقياً تفاوض منه دول الجوار المعنية، وفيها ايران نفسها، القوى الدولية. وتجني طهران الحرسية تعاظم احتياج الوزير الاول والنافذ الى بركتها، وتطويعها خصومه ومنافسيه والمتحفظين عنه، لقاء انقياده الى خصوماتها الاقليمية والدولية الكثيرة والمتجددة. فإذا لم ينفجر هكذا عراق- وما قد يحول دون انفجاره تجديد نظام اقليمي ودولي تنخرط في تعريفه القوى الدولية كلها، الناشئة والعريقة والعائدة، ويحول دون تداعيات ثقيلة على دوائر الجوار الواسعة- استقرت وحدته الركيكة على صيغة ائتلافية ضعيفة تقوي سيطرة الاطراف الراعية على الاقاليم الثلاثة واقوامها وشعوبها، وتبعد احتمال دولة متماسكة على حوض النفط الاعظم وعقدة الحدود بين عوالم «اضداد»: الفرس والعرب، الفرس والترك، الترك والعرب، المشرق العربي المتوسطي وشبه جزيرة العرب، السنة والشيعة، المشيخات والانظمة «العامية»، دائرة سكن كثيف ودائرة سكن مبعثرة، وشعوب وقبائل لا تميل الى التعارف مقدار ميلها الى التقاتل.
[ نص المقالة الكامل على مدونة الكاتب:
http://waddah-charara.blogspot.com/
المستقبل
إذاً… هنا الموصل، هنا “داعش”/ حازم الامين
في تفسيرنا لـ «داعش»، بعد زلزال الموصل، نميل دائماً إلى تفادي الإشارة إلى أن هذا التنظيم الإرهابي خاطب بـ «إنجازه» الجديد ضائقة وجدانية تشتغل في كثير من النفوس. فهو إلى جانب ما يبثه من رعب في البيئة التي نشأ فيها، تمكن حيث لم يتمكن غيره، وهو أمر ليس بسيطاً في ظل تفشي الخيبة والإحباط.
هو تنظيم «المتوحشين» في السلفية الجهادية، وهذه ليست نقيصة بحسبه، لا بل وجد لـ «التوحش» فقهاً صرف عبره مشاهد القتل التي التقطتها كاميراته الحديثة وبثتها بصفتها علامة تفوق التنظيم. أراد أن يقول للعراقيين وللسوريين إن التنظيم لن يرأف بهم، وإن الخوف منه هو ما يجب أن يحكم علاقتهم به. صوّر لهم شباناً يحفرون قبر أبيهم قبل أن يُنفّذ بهم حكم الموت. وصور أيضاً أطفالاً يشهدون على إعدامات. ولهذه الصور وظيفة واحدة هي الدرس الذي يجب أن يتعلمه الجميع، وهو أن العيش في ظل «داعش» مجاورة للموت وتآلف معه.
ولكن، ليس هذا وحده ما خلفه «داعش» في نفوس أهل البادية من الأنبار العراقية وصولاً إلى الرقة السورية. فـ «داعش» بشع في البؤر التي يحكمها مباشرة، ولكن ما أن تبتعد خطوة عنها حتى يبدأ الكلام عن «الفعالية». العشائر العراقية المناوئة للمالكي معجبة بـ «داعش» بالمقدار ذاته الذي تخاف منه، وشبان كثيرون في هلالنا المشرقي غير الخصيب أذهلهم تمكن التنظيم من المالكي، والذهول هنا لا يخلو من إعجاب. وإذا كانت عراقية «داعش» حرمته مناصرين سوريين فتحول خلال سيطرته على الرقة إلى قوة احتلال، فإن «النصر» في الموصل وفي الأنبار جعل يُغذي في «المهزوم السوري» حاجة لـ «نصر» مشابه.
«داعش» ليس تنظيماً شعبياً اليوم، لكنه من دون شك حجز مكانه في الخريطة الشعورية المشرقية. قد لا يدوم ذلك كثيراً، ذاك أن الأفق لا يتسع لهذا «التوحش»، ثم إنه تنظيم عديم القدرة على التحول من الفعل الإجرامي والإرهابي إلى الفعل السياسي والأهلي. لكن البادية العراقية وامتدادها السوري والحواضر المدينية التي تتخللها بعيدة من السياسة هذه الأيام، ولا أفق لعلاقات أهلية غير نزاعية في المدى المنظور. هذا ما كشفه أصلاً الصعود الصاروخي للتنظيم. فقد كان الأخير نائماً في البادية ويُعد العدة لحملته مستعيناً بطائفية نوري المالكي وبفساد إدارته، ومستعيناً أيضاً بالقابلية العشائرية، وموظفاً «البعث» والجيش العراقي السابق، وكل هذا بعيداً من أعين الجميع.
وإذا كان «داعش» هو الولادة الثالثة لـ «القاعدة» (الأولى في أفغانستان على يد بن لادن والثانية في العراق على يد الزرقاوي)، فإنه هذه المرة، وخلافاً لسابقتيها، يستمد قوة مستجدة من عصبية محلية وأهلية شديدة الالتباس لكنها واضحة في تركيبته. هي شيء من «العراقية» المتداعية. «البعث» والعشائر والجيش العراقي السابق، وهؤلاء ليسوا أناساً أو قيماً إنما مشاعر وغضب جاء فقه «التوحش» ليصوغ لها أفقاً ومجرى ووظيفة.
لكن عراقية «داعش» تُضيق عليه في سورية. هذا تماماً ما جعل «جبهة النصرة» تتقدم عليه هناك. ليس تأجيل «النصرة» تنفيذ «الحدود» إلى ما بعد سقوط النظام هو ما جعلها أكثر قبولاً لدى السوريين، انما سوريتها (الملتبسة أيضاً): الأمير السوري والعلاقة بالبيئة المحلية وبالكتائب المقاتلة، بينما لم تُشرك «داعش» في إدارة مدينة الرقة التي تحكمها سورياً واحداً. القيادة هناك عراقية أيضاً، وضباط الجيش العراقي المنحل هم قادة الصف الأول فيها.
لكن «النصر» في الموصل أحدث صدمة في بيئة التنظيمين الشقيقين. مشايخ السلفية الجهادية الذين كانوا أعلنوا انحيازهم الى «النصرة» ودانوا غلواء «داعش» بدأوا يعيدون حساباتهم. أعجبتهم «فاعلية» التنظيم، وبدأت الحكايات عن «فطنة» أبو بكر البغدادي ودهائه وحنكته تظهر على مواقعهم الإلكترونية. وتحولت فجأة «عراقية» الرجل إلى جوهر جاذب للسلفية الجهادية العالمية بعدما كانت إقليمية طاردة لها. وبما أن الجميع يتحرك اليوم في البادية، وعلى تخوم صحراء الأنبار، فإن مد عراقية أبي بكر إلى بر الشام وإلى صحراء شرق الأردن ليس أمراً عسيراً، لا سيما أن الدول لم تُنتج فروقاً كبيرة بين أفخاذ العشائر على طرفي الحدود.
ثمة فراغ هائل في هذه الصحراء، فراغ أتاح للبغدادي أن ينام سنوات هناك. حصل هذا بينما كان الأميركيون يُفككون احتلالهم، وبينما كانت الحكومة العراقية تُدير ظهرها لهذه الصحراء المترامية، والعشائر تُكابد هزائمها المتتالية. وحصل ما يُشبه تلك الحروب القديمة التي تتفاجأ فيها الجيوش بعديد بعضها بعضاً. كتلة بشرية تخرج فجأة من خلف الكُثبان الصحراوية وتتوجه إلى الموصل. لا أحد يعرف عنها شيئاً سوى أنها «داعش»، ذلك التنظيم الإرهابي المتوحش الذي كان نائماً في الصحراء. هل تذكرون كيف ظهرت «طالبان»؟ ثمة شيء يشبه تلك المفاجأة. في الشكل على الأقل، وفي بعض المضمون. الهوية العرقية البشتونية وقد ركبت «الخلافة» رأسها، تشبه الى حد بعيد الخليط العشائري والبعثي الذي امتزج بـ «جهادية» ضباط سابقين في الجيش العراقي.
أبو عمر البغدادي، الرجل الغامض الذي لم تُعرف له صورة ولا صوت، قاتل جيشاً غير مرحب به في الأبنار وفي الموصل، وبينما كان جل جنود ذلك الجيش «غرباء»، ضم جيش البغدادي ضباطاً من الدليم ليسوا غرباء. هذه المعادلة الفجة والواقعية يجب ألا تغيب عن تفسير ما جرى في شمال العراق وفي غربه. «داعش» ليس تنظيماً غريباً على ما نزعم. لم يخرج فجأة من الصحراء، كما أنه ليس وليد مؤامرة فقط. عناصر الوهن التي أنتجته صارت واضحة اليوم، و «السلفية الجهادية» ليست سوى مظهره الخارجي. لقد أنضجت هذه السلفية عناصر «توحش» سابقة على وجودها. عُقم عميق وجوهري، وشَبَه مخيف عابر للحدود. في الموصل عشائر تُبايع «داعش»، وفي الرقة أيضاً، ولـ «البعث» يد على ضفتي الحدود، وفي العاصمتين البعيدتين حكومتان طائفيتان وفاسدتان ودول كبيرة في الجوار تدير حروباً خارج حدودها. إذاً هنا الموصل، هنا «داعش».
الحياة