مقالات لكتاب عرب تناولت جنيف 2
توافق المكرهين: استراتيجيات تجنب الفشل في سوريا
مركز الجزيرة للدراسات
ملخص
لم تحقق الجولة الأولى من مفاوضات جنيف2 تقدمًا يُذكر، لا على الصعيد الإنساني ولا على صعيد القضايا السياسية؛ فالنظام السوري الذي ذهب إلى جنيف مُكرهًا بفعل الضغوط الروسية التي مورست عليه وحتى لا يظهر كمن يرفض الحل السلمي، بدا متصلبًا أكثر من أي وقت مضى، وهو يرى أن المشهدين السياسي الإقليمي والميداني أصبحا أفضل مما كانا عليه عندما جرت الدعوة إلى عقد المؤتمر. لكن الركون إلى فكرة أن الأمور تسير لصالحه، قد تكون وهمًا خادعًا؛ فالوضع الإنساني الكارثي بدأ يهدد أيضًا بتغير المزاج الدولي مع اتضاح أن مسار جنيف في غياب أدوات ضغط حقيقية لن يكون أكثر من مجرد تمرين عبثي. استنتاج عززه إعلان الأميركيين عن بدء تزويدهم المعارضة السورية بأسلحة خفيفة؛ وهو أمر يحدث للمرة الأولى منذ اندلاع الأزمة؛ ما يؤشر إلى احتمال التصعيد ميدانيًا للمساعدة في تحريك الوضع على طاولة المفاوضات خلال الفترة القادمة؛ فالقول باستحالة الحل العسكري قد لا يستقيم في غياب أي أفق للحل السياسي.
مقدمة
كما كان متوقعًا، انتهت الجولة الأولى من مفاوضات جنيف2 بين ممثلي النظام السوري ومعارضته دون نتائج حاسمة. ورغم أن الوسيط الأممي الأخضر الإبراهيمي تمكن بمساعدة أميركية-روسية من تجاوز بعض العقبات البروتوكولية والإجرائية من قبيل جمع الوفدين في قاعة واحدة والحصول على موافقة وفد النظام على مناقشة بيان جنيف واحد، باعتباره أساس المفاوضات، إلا أن تقدمًا جوهريًا لم يتحقق سواء على صعيد القضايا الإنسانية، من قبيل فك الحصار أو فتح ممرات آمنة للمناطق المحاصرة، أو على صعيد القضايا السياسية الأكثر تعقيدًا من قبيل مناقشة موضوع هيئة الحكم الانتقالي التي تعد جوهر بيان جنيف واحد.
تحاول هذه الورقة الوقوف على الأسباب التي حالت -ويُتوقع أن تستمر في الحيلولة- دون تحقيق تقدم جوهري في مفاوضات جنيف، كما تتطرق إلى القضايا التي تشكّل جوهر الخلاف بين أطراف الأزمة، وصولاً إلى توقع مآلات وآفاق الحل السياسي المأمول دوليًا في سورية.
الطريق إلى جنيف 2
في السابع من مايو/أيار 2013، أعلن وزير الخارجية الأميركي جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف من موسكو عن اتفاق على عقد مؤتمر دولي جديد لحل الأزمة السورية يستند إلى إعلان جنيف1 الذي جرى التوصل إليه في 30 يونيو/حزيران 2012، ونص في جوهره، من بين نقاط عديدة، على تشكيل هيئة حكم انتقالية تتمتع بكامل الصلاحيات التنفيذية كخطوة لا غنى عنها لوقف الحرب والانتقال بسورية إلى نظام حكم ديمقراطي. لكن عقبات كثيرة حالت دون انعقاد المؤتمر في الموعد الذي حدده الوزيران وهو نهاية شهر مايو/أيار 2013؛ إذ ظل مصير ومستقبل الرئيس بشار الأسد ومسألة تمثيل المعارضة المنقسمة تحول دون إمكانية عقده. (1) لكن تنامي المخاوف من تزايد نفوذ المتطرفين في أوساط المعارضة السورية، واحتمال انتقال تأثيرات المسألة السورية إلى دول الجوار، أدّيا إلى مضاعفة الجهود لعقد المؤتمر. كما شكّل الاتفاق الأميركي-الروسي على نزع الكيماوي السوري حافزًا للدفع باتجاه حل سياسي لأنه عبّر من جهة عن قدرة الطرفين على التعاون لتسهيل بلوغ تسوية إذا توافرت لديهما الإرادة، وأدى من جهة أخرى إلى تصعيد الضغوط الإقليمية والدولية لعدم الاكتفاء باتفاق الكيماوي بل التركيز على جوهر الصراع ووقف الاقتتال. (2) لكن فترة الأشهر الثمانية التي فصلت بين الاتفاق على عقد المؤتمر وتاريخ انعقاده شهدت حدوث متغيرات كثيرة ميدانية وسياسية، وكان لها بالغ الأثر على مسار عملية التفاوض في جولة جنيف2 الأولى.
المشهد الميداني
كانت موازين القوى على الأرض مع مطلع العام 2013 تميل لغير صالح النظام، بعد أن فقد مناطق واسعة في الشمال والشرق، وشكّل استيلاء فصائل المعارضة على الرقة في مارس/آذار 2013 ضربة كبيرة للنظام باعتبارها أول مركز محافظة يخرج عن سيطرته؛ إذ دأب النظام منذ انتقال الثورة إلى طورها المسلح على التمسك بعواصم المحافظات في مقابل ترك الأرياف حتى لا تستنزف جهده العسكري في جنباتها الواسعة. كما مَثَّل استيلاء فصائل المعارضة على معظم مناطق الغوطة الشرقية والأحياء الجنوبية لريف دمشق فضلاً عن بعض أجزاء الريف الغربي في داريا والمعضمية تهديدًا حقيقيًا للعاصمة. لذلك عندما طرح الأميركان والروس فكرة المؤتمر الدولي الجديد في مايو/أيار 2013 كان وضع النظام الميداني ضعيفًا ومرتبكًا، ولم يكن له ولحلفائه بالتالي مصلحة حقيقية في الذهاب إلى أي تسوية في مثل هذه الظروف. لذلك وبمجرد الإعلان عن الاتفاق، بدأ النظام وحلفاؤه بالعمل حثيثًا على تغيير الوقائع على الأرض حتى يمكنه الذهاب إلى المؤتمر بوضع أقوى.
ورغم أن دعم إيران وحزب الله للنظام السوري لم يكن خافيًا منذ بداية الثورة، إلا أن هذا الدعم خرج إلى العلن وبطريقة مباشرة فقط بعد اتفاق موسكو؛ إذ أعلنت إيران أنها لن تسمح بسقوط النظام. (3) وعلى الأثر أرسل حزب الله المئات من عناصره للمشاركة في استعادة مناطق حيوية في حمص، وخاصة في منطقة القصير. كما تمكن النظام بمساعدة ميليشيات طائفية عراقية، انتظمت تحت أسماء مثل: “لواء أبو الفضل العباس”، من تحقيق اختراقات عسكرية في مناطق مختلفة من ريف دمشق خاصة في الأحياء الجنوبية، وفك الحصار عن معسكري وادي الضيف والحامدية في ريف إدلب، والاستيلاء على بلدة خناصر الاستراتيجية الواقعة على الطريق الدولي إلى حلب، وتمكن من إعادة فتح طريق دمشق-حمص الاستراتيجي بعد أن استعاد السيطرة على بلدة قارة في القلمون. هذا التدخل من قبل حلفاء النظام، وإن لم يؤد إلى تغيير استراتيجي في معادلة الصراع على الأرض، إلا أنه غيّر من تفاصيل المشهد الميداني، وعزز من قدرة النظام على الصمود والانتقال إلى مرحلة المبادرة في الهجوم.
في المقابل، ارتبك وضع فصائل المعارضة ميدانيًا، وكان لانقساماتها وانقسامات حلفائها الإقليميين، وعدم حماسة الأميركيين لتقديم دعم عسكري لها، أكبر الأثر في كبح جماح تقدمها؛ فرغم إجماع إدارته على ضرورة تسليح المعارضة “المعتدلة”، رفض الرئيس باراك أوباما المقترح وظل موقفه مترددًا حتى عندما خرق النظام السوري الخطوط الحمراء واستخدم الكيماوي ضد شعبه في الغوطتين في أغسطس/آب 2013. (4)
ومع ضعف الموقف الدولي والإقليمي من الخروقات التي يرتكبها النظام بحق المدنيين، زادت النزعات المتشددة في أوساط المعارضة السورية، إلى أن ظهر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام والذي كان إعلانه في إبريل/نيسان 2013 من جملة الأسباب التي دعت الأميركان والروس إلى المبادرة لإطلاق فكرة جنيف2، والاتفاق على احتواء نفوذ المتشددين، والتشديد على مكافحة الإرهاب.
شكّل ظهور تنظيم الدولة الإسلامية وتمدده تهديدًا فعليًا لمسيرة الثورة السورية؛ إذ بدأ يطرد فصائل المعارضة، بما فيها ذات التوجهات السلفية، من المناطق التي فقدها النظام ويعلن إنشاء الدولة الإسلامية ويفرض على الناس سلوكيات وتصرفات تتناسب ومعتقداته. استغل النظام الوضع للتأكيد على روايته الأولى أنه إنما يواجه تنظيمات تكفيرية، إرهابية، وأن على العالم، خاصة الغربي، مساعدته باعتباره نظامًا علمانيًا وحاميًا للأقليات الدينية، بدلاً من السعي إلى الإطاحة به. إلا أن مبادرة فصائل المعارضة سواء كانت إسلامية أو علمانية إلى إعلان الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية في الثالث من يناير/كانون الثاني 2014، أفقد النظام هذه الورقة، رغم أنه استفاد من ناحية أخرى من اقتتال المعارضين له؛ إذ أدى ذلك إلى إضعاف فصائل المعارضة التي سقط في صفوفها المئات خلال المعارك مع تنظيم الدولة الإسلامية؛ ما حدا بالنظام إلى محاولة استعادة المبادرة الميدانية في بعض المناطق، خاصة في حلب، فحقق تقدمًا حول مطارها الدولي كما استعاد أحياء فيها مثل النقارين والشيخ سعيد والتي كان داعش انسحب منها. (5)
بالمحصلة، عندما عُقد جنيف2 كان وضع النظام ميدانيًا قد تحسن نتيجة تدخل حلفائه والاقتتال في صفوف المعارضة، وقد استغل النظام ذلك ليطالب بتعديل بيان جنيف1 لأن الحالة الميدانية كانت قد تغيرت مقارنة بما كانت عليه عندما جرى التوصل إلى الاتفاق في 30 يونيو/حزيران 2012. (6)
المشهد السياسي
بالتوازي مع تحسن وضع النظام ميدانيًا، بدأ المشهد الإقليمي يتبدل أيضًا؛ إذ أخذ رئيس الحكومة التركية يعاني مشاكل داخلية كبيرة، كما أخذت الأزمة السورية تنعكس على تركيا أمنيًا، سواء عبر تفجيرات مثل تلك التي حصلت في الريحانية في شهر مايو/أيار 2013، أو هجمات قام بها تنظيم الدولة الإسلامية ضد مراكز حدودية تركية واستلزمت ردًا. (7) من جهة أخرى، بدا أردوغان، عقب اتفاق النووي الإيراني، وكأنه يستبق تقاربًا أميركيًا-إيرانيًا وشيكًا، بمحاولة استعادة دفء العلاقات التي توترت بسبب الأزمة السورية مع طهران، فدعا خلال زيارته الأخيرة لها إلى إنشاء مجلس يجمع حكومتي البلدين، وإلى التعاون «في شكل بنّاء» لمكافحة الإرهاب. (8) واستتباعًا، بدأ النظام السوري يأمل بأن ينعكس هذا التقارب تغيرًا في موقف أنقرة منه، كما أخذ يروج لذلك حلفاؤه. (9)
أما في مصر، فقد جرى الانقلاب على الرئيس محمد مرسي، وبدا العسكر أقل تعاطفًا تجاه الثورة السورية، فيما اعتبر البعض أن الأسد هو الرابح الأكبر من انقضاض القادة العسكريين على السلطة في مصر. (10)
وفي الوقت الذي كان يسوء فيه وضع خصوم النظام إقليميًا، كانت إيران تحقق مكاسب سياسية في المقابل. وقد لعب انتخاب حسن روحاني لمنصب الرئاسة دورًا مهمًا في الحيلولة دون توجيه واشنطن ضربة عسكرية للنظام السوري عقب استخدامه السلاح الكيماوي في شهر أغسطس/آب 2013؛ إذ ساهمت إيران بالتعاون مع روسيا -ومستفيدة من رغبة الرئيس باراك أوباما في تجنب الانجرار إلى تدخل عسكري جديد في المنطقة، والإضرار بفرص التقارب مع حكومة روحاني- في إخراج اتفاق الكيماوي إلى حيز النور. وقد ساهم الاتفاق في إعادة تأهيل النظام باعتباره طرفًا في اتفاقية دولية نص عليها قرار مجلس الأمن رقم 2118. كما عزز التوصل إلى اتفاق حول البرنامج النووي الإيراني في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2013 من اتجاه إدارة أوباما إلى بناء علاقة تفاهم مع إيران بدلاً من محاولة إضعافها عبر المساعدة في الإطاحة بالأسد. كما بدأ الأميركيون، من جهة أخرى، يجدون في احتواء نفوذ التيارات الجهادية في سورية عاملًا إضافيًا مشتركًا يمكن بالبناء عليه تحقيق مزيد من التقارب مع الإيرانيين. (11) ومن هنا أيضًا كانت موافقتهم على تسليم حكومة نوري المالكي طائرات أباتشي الهجومية للمساعدة في القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية الناشط في سورية والعراق. (12)
هكذا بدت صورة المشهد الإقليمي عندما التئم مؤتمر جنيف2 في مدينة مونترو السويسرية صباح يوم 22 يناير/كانون الثاني 2014، وكان له -مثل التغير في الوضع الميداني- بالغ الأثر على مسيرة التفاوض التي لم تنته إلى نتيجة هامة في أسبوعها الأول، لكن تغير الوضعين الميداني والسياسي لم يكن العامل الوحيد، وإن كان الأبرز، في فشل التوصل إلى نتائج، بل لعبت بالمثل عناصر ظرفية أخرى وأبرزها غياب إيران عن المؤتمر، وضعف انخراط الراعيين، دورًا مهمًا في ذلك.
لعبة الرعاة
كانت إيران الغائب الأكبر في مؤتمر جنيف2، وقد أثارت الدعوة التي وجهها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون لطهران، قبل أن يسحبها، جدلاً كبيرًا كاد يطيح بفرص عقد المؤتمر؛ إذ أصرت المعارضة السورية ومعها واشنطن وباريس على رفض حضور إيران ما لم تعلن التزامها بمقررات جنيف1 ؛ وهو ما اعتبرته الحكومة الإيرانية شرطًا مسبقًا لا تستطيع قبوله.
وتُعد إيران الحليف الأكبر للنظام السوري وأهم رعاته، فإذا كانت روسيا تؤمّن دعمًا دبلوماسيًا وسياسيًا للنظام على الساحة الدولية وخاصة في مجلس الأمن، فإن الدور الإيراني يعد أكثر أهمية، لأنه منخرط، حسب تقارير عديدة، بشكل مباشر بالصراع الدائر على الأرض من خلال الدعم اللوجستي الذي يجري تقديمه سواء عبر إيفاد قوات من ميليشيات حليفة في العراق ولبنان للقتال إلى جانب النظام السوري، أو عبر الخبرات التي يقدمها جيش المستشارين الإيرانيين الموجودين في سوريا أو الدعم المادي وشحنات الأسلحة التي يجري إرسالها لتعزيز موقف النظام والحيلولة دون انهياره. كل هذا يجعل إيران اللاعب الإقليمي الأبرز في الصراع السوري وصاحبة النفوذ الأكبر على النظام، وقد أدى غيابها عن جنيف2، رغم الاعتراف بأهمية دورها، إلى عدم توقع الكثير من المؤتمر. وتنظر إيران إلى الصراع السوري باعتباره مسألة تخص أمنها القومي وجزءًا من معركتها لإنجاز بناء مشروع نفوذها الإقليمي الذي بدأ في لبنان في ثمانينيات القرن العشرين ثم حصل على دفعة قوية بعد احتلال العراق والإطاحة بنظام حكم الرئيس صدام حسين. ومن نافل القول التأكيد على أن حل الصراع السوري لن يتم بمعزل عن إرادة إقليمية ركائزها الأساسية توافق إيراني-سعودي-تركي-قطري، وبمباركة أميركية-روسية مشتركة.
من ناحية أخرى، أدى ترك الطرفين السوريين للتفاوض -بوساطة المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي- في غياب الراعيين: الأميركي والروسي إلى نشوء ما يشبه حوار الطرشان؛ فبمجرد انتهاء احتفالية افتتاح المؤتمر، غادر مسؤولو الملف السوري في الخارجية الروسية غينادي غاتيلوف وميخائيل بوغدانوف مع وزير الخارجية سيرغي لافروف إلى موسكو؛ ما أدى إلى غياب الضغوطات الكافية على وفد النظام لإظهار الجدية في العملية التفاوضية. (13) من جهة ثانية، ورغم ارتفاع نبرة الخطاب الأميركي ضد النظام السوري أثناء وبعد جلسة جنيف الافتتاحية، إلا أن التسريبات عن حوار سري أميركي-روسي-إيراني حول سورية في مدينة برن السويسرية يجري بالتوازي مع مفاوضات جنيف، أدت إلى تغذية الشكوك لدى المعارضة السورية في أن المفاوضات الجدية ربما تجري في مكان آخر بعيدًا عنهم، وأن الأميركيين الذين رفضوا حضور إيران لجنيف يبدو مهتمين أكثر بالحديث معها ولكن سرًا.
لهذه الأسباب لم تحقق الجولة الأولى من مفاوضات جنيف2 تقدمًا يُذكر، لا على الصعيد الإنساني ولا على صعيد القضايا السياسية؛ فالنظام السوري الذي ذهب إلى جنيف مُكرهًا بفعل الضغوط الروسية التي مورست عليه وحتى لا يظهر كمن يرفض الحل السلمي، بدا متصلبًا أكثر من أي وقت مضى، وهو يرى أن المشهدين السياسي الإقليمي والميداني أصبحا أفضل مما كانا عليه عندما جرت الدعوة إلى عقد المؤتمر. لكن الركون إلى فكرة أن الأمور تسير لصالحه، قد تكون وهمًا خادعًا؛ ففي ظل الأوضاع الإنسانية الكارثية وفي ظل استمراره في قصف المدن والتجمعات السكنية بالبراميل المحشوة بالمتفجرات، فشل النظام في جنيف في تسويق روايته عن “مكافحة الإرهاب”، التي “يقودها” الرئيس بشار الأسد. (14) الوضع الإنساني الكارثي بدأ يهدد أيضًا بتغير المزاج الدولي مع اتضاح أن مسار جنيف في غياب أدوات ضغط حقيقية لن يكون أكثر من مجرد تمرين عبثي. استنتاج عززه إعلان الأميركيين عن بدء تزويدهم المعارضة السورية بأسلحة خفيفة؛ وهو أمر يحدث للمرة الأولى منذ اندلاع الأزمة؛ ما يؤشر إلى احتمال التصعيد ميدانيًا للمساعدة في تحريك الوضع على طاولة المفاوضات خلال الفترة القادمة؛ فالقول باستحالة الحل العسكري قد لا يستقيم في غياب أي أفق للحل السياسي. (15)
أفق التوافق
بناء عليه، أخذ يتضح وبشكل متزايد أن اللاعبين الأساسيين في الأزمة السورية مهتمون باحتواء أية تداعيات يمكن أن تنتج عن فشل خيار التسوية، وهذا موقف واشنطن، كما أن بعضهم مهتم من جهة أخرى بالدخول في مساومات أوسع يشكل الاتفاق في سورية مدخلاً لها، وهذا موقف طهران، في حين يركز آخرون على الحفاظ على وتكريس المكاسب التي حققوها في المسألة السورية، وهذا موقف موسكو؛ فروسيا التي منحتها القضية السورية فرصة الحصول على التعامل بندية مع واشنطن وذلك لأول مرة منذ نهاية الحرب الباردة، سوف تطمح إلى تكريس هذا المكسب خاصة بعد أن برهنت على قدرتها على اجتراح تسويات وفرضها كما فعلت في اتفاق الكيماوي. ويعتقد الرئيس بوتين أنه بإجباره النظام المتمنع عن حضور جنيف2 قد بلغ ذروة تأثيره في الأزمة السورية، وأن سلوك النظام الرافض لتسوية، تؤدي إلى الحفاظ على مؤسسات الدولة التي تعني موسكو أكثر من غيرها -أي الجيش والأمن- وتحد من تنامي نفوذ المتطرفين، يهدد مكتسبات روسيا التي جرى بناؤها على مدى ثلاث سنوات. وبالنسبة للروس هناك استحقاقات قادمة قد تشكّل فرصة لتأمين مدخل لحل الأزمة بدلاً من الاستمرار في إدارتها واحتوائها، أهمها انتهاء ولاية بشار الأسد الثانية في 17 يوليو/تموز القادم. وقد يشكّل هذا الاستحقاق مدخلاً لتعاون أميركي-روسي، قد تنضم إليه إيران إذا سارت مفاوضات ملفها النووي بشكل جيد، وتوفرت لديها حوافز للمساعدة في حل الأزمة السورية.
وتعمل روسيا باتجاه الحل المتوقع إنضاجه بحلول انتخابات الرئاسة السورية على مستويين: يشمل الأول توسيع تمثيل المعارضة بما يؤدي إلى زيادة ثقل الجانب المحسوب عليها وتخفيض سقف المطالب التي طرحها الائتلاف (الذي تعتبره موسكو الجسم الأكثر تطرفًا في المعارضة بسبب موقفه من النظام ورؤيته للحل). أما على مستوى النظام فيبدو أن الروس بدأوا توًّا رحلة البحث عن شخصيات، عسكرية خاصة، يمكن أن تكون جزءًا من الهيئة الانتقالية التي نصّ عليها جنيف1. وفي هذا السياق، تتركز الجهود الروسية على تمكين الأقليات، سواء من النظام أو المعارضة، من الحصول على حصة وازنة في هذه الهيئة. كما يعمل الروس على استقطاب عدد من كبار الضباط المنشقين باعتبار أنهم أكثر علمانية وأقرب إلى المدرسة العسكرية الروسية بحكم خدمتهم الطويلة في الجيش السوري، مقارنة بالفصائل العسكرية التي تشكّلت خلال الثورة، وذلك لتكوين المجلس العسكري المزمع إنشاؤه بالتوازي مع الهيئة الانتقالية.
ورغم استمرار الخلافات حول بعض التفاصيل المهمة، إلا أن الأميركيين يشاركون بقوة في هذه المساعي، وبدأت تبرز مؤشرات تفاهم مشترك في اتفاق باريس في 13 يناير/كانون الثاني 2014 بين جون كيري وسيرغي لافروف، وكذلك في رسالة الدعوة إلى «جنيف2»؛ حيث اقترح الأميركيون على موسكو أسماء بعض الشخصيات السورية المرشحة لتكون ضمن هيئة الحكم الانتقالي، وحاولوا صوغ «خريطة طريق» لتنفيذ كل بند من بنود جنيف1 مع الدخول في تفاصيل هيكلية هيئة الحكم الانتقالي والمجلس العسكري والعلاقة بينهما. (16) ولإنجاح هذه المساعي يدرك الروس أنه لابد من دفع بشار الأسد إلى الخروج من المشهد، وتشكّل الانتخابات القادمة، الفرصة الأمثل لذلك. (17)
وفق المنظور نفسه، قد تساعد المفاوضات بشأن سورية إيران في خدمة طموحاتها؛ فبعد أن نجحت في استئناف علاقة حذرة مع واشنطن، يبدو أن لدى طهران مصلحة كبيرة في استعادة مكانتها في المجتمع الدولي، وإذا ما أخذنا هذه الأولوية في الاعتبار، فإن ثمّة حاجة إلى قدر من الاعتدال الإيراني بشأن القضية السورية في مقابل إشراكها في الجهود الدولية الخاصة بحل الأزمة، وهناك بعض المؤشرات على أن إيران قد تكون أقل تصلبًا مما يبدو في القضية السورية. لقد ساهمت إيران في إقناع النظام السوري بالتخلي عن ترسانته الكيماوية لتجنيبه ضربة عسكرية، بعد أن كانت استأت بشكل علني من استخدامها. وبحسب الأمين العام للأمم المتحدة فقد وافقت إيران على بيان جنيف1، خلال اجتماعه مع وزير الخارجية محمد جواد ظريف، وبناء عليه وجّه إليها الدعوة لحضور جنيف2، (18) لكن طهران تراجعت بعد ذلك ما أدى إلى سحب الدعوة، ثم جاءت تصريحات الوزير ظريف في دافوس عندما دعا إلى انسحاب جميع المقاتلين الأجانب من سورية بما فيهم حزب الله، ليشكّل مؤشرًا جديدًا على رغبة حكومة الرئيس روحاني في أن تكون جزءًا من المناقشات الإقليمية والدولية حول الأزمة السورية. (19) هذه الرسائل والمعطيات هي التي دعت الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان للتوجه إلى طهران ضمن وفد مجموعة “الحكماء” الذي يضم أيضًا الأخضر الإبراهيمي الذي يرعى المفاوضات في جنيف بين النظام والمعارضة السورية. (20)
والحاصل أن عددًا من الاتجاهات سيدفع إلى استمرار عملية المباحثات التي انطلقت مع جنيف2؛ فهناك من جهة تصميم دولي لأول مرة على مبدأ الشراكة السياسية لحل الأزمة السورية، ثم إن فشل هذا الخيار سيجرّ الوضع إلى مسارات في غاية السوء، يتصف جميعها باستمرار الاضطراب وتصاعد الحركات المتشددة، وتفاقم الاستقطابات الطائفية بالمنطقة، وهي مسارات تجعل قدرة الروس والأميركيين أضعف مع مرور الوقت على التأثير في مجريات الوضع السوري.
_____________________________
المصادر
1- “موسكو وواشنطن تتفقان على عقد مؤتمر دولي حول سورية قد يتم هذا الشهر”، روسيا اليوم، 7 مايو/أيار 2013، الرابط http://arabic.rt.com/news/614994/
2- مارك بيريني، الحرب السورية في ثلاث عواصم، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 29 أكتوبر/تشرين الأول، 2013، الرابط، http://www.carnegie-mec.org/2013/10/29/الحرب-السورية-في-ثلاث-عواصم/grgr
3- انظر: رجل دين إيراني يصف سوريا بالمحافظة الإيرانية الـ35″، العربية نت، 15 فبراير/شباط 2013، الرابط: http://www.alarabiya.net/articles/2013/02/15/266468.html
4- Michael R. Gordon and Mark Landler, “Backstage Glimpses of Clinton as Dogged Diplomat, Win or Lose,” The New York Times, February 2, 2013, at: http://www.nytimes.com/2013/02/03/us/politics/in-behind-scene-blows-and-triumphs-sense-of-clinton-future.html?pagewanted=all&_r=0
5- “الدولة الإسلامية تهدد بوقف قتالها للنظام السوري”، الجزيرة نت، 5 يناير/كانون الثاني 2014، على الرابط: http://aljazeera.net/news/pages/d21186fe-2756-4161-a849-8373260022f7
6- تصريحات منسوبة لبثينة شعبان عضو الوفد المفاوض عن النظام في جنيف ومستشارة الرئيس الأسد للشؤون الاعلامية والسياسية، نقلتها صحيفة الحياة: “إن جنيف ليس قرآنًا أو إنجيلاً، وإنه صدر في يونيو/حزيران 2012 بينما الوضع على الأرض تغير الآن؛ لذلك يتعين أن تتغير المواقف وفقًا لما يقتضيه الواقع”، انظر، “ثاني أيام جنيف ـ 2: تعثّر المحادثات الإنسانية وانفراج بسيط بشأن حمص”، الحياة، 26 يناير/كانون الثاني 2014، الرابط: http://alhayat.com/Details/596923
7- غارة جوية تركية على قافلة لـ”داعش” شمال سورية، الحياة، 29 يناير/كانون الثاني 2014، الرابط: http://alhayat.com/Details/597947
8- “أردوغان يريد «حكومة مشتركة» وخامنئي يشدد على استثمار “طاقات هائلة”، الحياة، 30 يناير/كانون الثاني 2014، على الرابط: http://alhayat.com/Details/598024
9- هل طلب أردوغان من القيادة الإيرانية الوساطة مع الأسد؟ وكالة أنباء فارس، 1فبراير/شباط 2014، الرابط: http://arabic.farsnews.com/newstext.aspx?nn=9211110184
10- إسرائيل والأسد الرابح الأكبر من أحداث مصر، الحياة، 14 يوليو/تموز 2014، الرابط http://alhayat.com/Details/532267
11- U.S. and Iran Face Common Enemies in Mideast Strife, the New York Times, January 6, 2014, http://www.nytimes.com/2014/01/07/world/middleeast/iran-offers-military-aid-but-not-troops-to-iraq.html?nl=todaysheadlines&emc=edit_th_20140107&_r=0
12- أميركا تمضي قدمًا في بيع طائرات هليوكوبتر هجومية للعراق، الحياة، 27 يناير/كانون الثاني 2014، الرابط: http://alhayat.com/Details/597309
13- دول غربية تلجأ إلى موسكو للضغط على دمشق: فصل المساعدات الإنسانية عن وقف النار، الحياة، 30 يناير/كانون الثاني 2014، http://alhayat.com/Details/597931
14- الوفد الرسمي السوري يقول إنه تقدم ببيان لمكافحة “الإرهاب” والائتلاف المعارض رفضه، الحياة، 30 يناير/كانون الثاني 2014، http://alhayat.com/Details/598155
15- Congress secretly approves U.S. weapons flow to ‘moderate’ Syrian rebels, Reuters, 27 January, 2014, http://www.reuters.com/article/2014/01/27/us-usa-syria-rebels-idUSBREA0Q1S320140127
16- اقتراح سوري مدعوم روسيًا: انتخابات رئاسية برقابة دولية خلال 3 أشهر، الحياة، 20 يناير/كانون الثاني 2014، http://alhayat.com/Details/594656
17- واشنطن تطلب من موسكو “عدم ترشح الأسد”، الحياة، 27 يناير/كانون الثاني 2014، http://alhayat.com/Details/596954
18- المعارضة السورية تهدد بمقاطعة جنيف2 إذا شاركت فيه إيران… ولافروف يحذر من أن غيابها سيكون “خطأً لا يغتفر”، القدس العربي، 20 يناير/كانون الثاني 2014، الرابط http://www.alquds.co.uk/?p=125423
19- ظريف يدعو إلى انسحاب المقاتلين الأجانب من سورية، الحياة، 25 يناير/كانون الثاني 2014، http://alhayat.com/Details/596254
20- “نصف خطوة” في بداية مفاوضات النظام و”الائتلاف”، 26 يناير/كانون الثاني 2014، الرابط: http://alhayat.com/Details/596649
مؤتمر جنيف 2: بانتظار الجولة الثانية، ماذا تحقّق في الأولى؟
وحدة تحليل السياسات في المركز
بعد مفاوضات استمرت تسعة أيام، انتهت الجولة الأولى من مؤتمر جنيف 2 من دون تحقيق نتائج مهمة في مسار التسوية السياسيّة للأزمة السوريّة. وحتى الجولة الثانية من المفاوضات التي أعلن الوسيط الدولي والعربي الأخضر الإبراهيمي عن انعقادها في 10 شباط/ فبراير 2014، تبدو غير مؤكدة بعد أن “ربط” وفد النظام مشاركته بقرار الرئيس السوري بشار الأسد. ومع اختتام الجولة الأولى، بدأت التقييمات والتساؤلات بشأن حقيقة النتائج التي تحققت، وهل أصابت المعارضة أم أخطأت في المشاركة؟ وهل استغل النظام المؤتمر للتصعيد ميدانيًا؟ وهل ثمّة تغيير في الموقف الروسي بعد الإعلان عن زيارة يقوم بها وفد الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوريّة إلى موسكو في 4 شباط/ فبراير 2014؟
انخفاض سقف التوقعات
في ظل الاستقطاب والفجوة العميقة التي تفصل بين النظام السوري والمعارضة وانعدام أي نقطة لقاء بينهما، لم يكن لدى أي من الأطراف التي حضرت مؤتمر جنيف 2 أي أوهام بشأن ما يمكن أن يتحقق خلال الجولة الأولى. ففيما اكتفت الأمم المتحدة والدول الراعية للمؤتمر بمحاولة كسر الجليد وجمع الطرفين في قاعة واحدة وجعل بيان جنيف 1 الأساس لعملية التفاوض، حاول طرفا الصراع من جهتهما تحقيق مكاسب إعلامية ودبلوماسية في ظل العجز عن تحقيق اختراق على صعيد القضايا السياسية، وحتى الإنسانية.
موقف النظام
استبق النظام السوري المؤتمر بإعلان تحفّظه عن نص الدعوة الرسميّة بذريعة أنها لا تلبي “تطلعات” الشعب السوريّ، داعيًا إلى التركيز على “محاربة الإرهاب”. فالنظام لم يكن متحمسًا لانعقاد مؤتمر جنيف 2 وبخاصة أنّ غرضه “تشكيل هيئة حكم انتقاليّة كاملة الصلاحيات”. ويبدو أنّ ترحيبه في وقت سابق ببيان جنيف 1 وموافقته على حضور جنيف 2 من دون شروط، كان لتجنب إحراج حلفائه الروس، وإظهار المعارضة وداعميها بوصفهم “عائقًا” أمام التسوية السياسيّة. ولمّا تأكّد انعقاد المؤتمر، سعى النظام لحرفه عن مساره مستفيدًا من الدعم الروسي، ومن تحسّن وضعه الميداني خلال النصف الثاني من عام 2013، وكذلك من رفض إيران الاعتراف ببيان جنيف 1. كما وظّف النظام قبول الدول الداعمة للمعارضة بفصل المسار السياسيّ عن العسكريّ الميدانيّ خلال المفاوضات لمصلحته، فاستمر في قصف حلب، وحاول التقدّم في المدينة وفي محيط مطارها، مستفيدًا من انسحاب تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” من بعض الجبهات، وتفرغه لقتال كتائب المعارضة. كما حاول الانتقام من مدينة داريا لرفضها شروط الهدنة التي اقترحها (على غرار ما جرى في المعضمية وبرزة) وبسبب صمود مقاتليها، ولا سيما بعد إسقاطهم مروحيّة حربيّة، وإفشالهم الحملة العسكريّة التي بدأها النظام ضدها مؤخرًا. أما حمص القديمة، فقد جدّد النظام قصف أحيائها للتنصل من موافقته في جنيف على إدخال 12 شاحنة من المساعدات الإنسانية، وتأمين خروج آمن للنساء والأطفال. وقد بلغ عدد القتلى خلال أيام الجولة الأولى 602 شخصًا، وذلك بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان. ويعني هذا أنّ معدّل القتل بقي على حاله كما كان قبل المؤتمر، ما يؤكد على نقطة الفصل بين ما يجري على الأرض وبين مجريات العملية التفاوضية، وكأنّ المفاوضات تقع خارج الزمن الذي يعيشه السوريون تحت القصف.
وانطلاقًا من حرية العمل ميدانيًا التي تَحَصَّلَ عليها كأمر واقع في ظل اللامبالاة الدولية الفعلية، سعى النظام لقلب أولويات المؤتمر؛ فرفض الاعتراف بمرجعيته، وقدّم ورقة أخرى كي تشكّل مرجعيّة بديلة[1]. لكنه عاد – تحت ضغط روسي – فقَبِلَ بيان جنيف 1، على الرغم من أنه اشترط مناقشته بالترتيب، قبل الانتقال إلى البند التاسع المتعلق بهيئة الحكم الانتقالي. كان هدف النظام واضحًا وهو إطالة أمد التفاوض، وحرف مساره نحو ما يسمى “مكافحة الإرهاب” وإغراقه بالتفاصيل، وهو نهج نجح فيه خلال تعامله مع المبادرات السابقة، وذلك في تقليدٍ لأسلوب التفاوض الإسرائيلي في تجزئة الملفات والفصل بينها، مع فارق جوهري يتمثل في التجاهل الدولي الكامل لوحشيته وتدميره المدن بالبراميل المتفجِّرة[2]. ومن المعروف أنّ إسرائيل تعتبر “الإرهاب” قضية قائمة بذاتها وترفض ربطها بمسبباتها، وتشترط أولًا وقفه ومكافحته قبل الحديث في أي شأن سياسي. هكذا تسمي إسرائيل مقاومة الاحتلال “إرهابًا” لا علاقة له بالاحتلال، وهكذا يسمي النظام السوري العمل المسلّح المشتّت ضده “إرهابًا”، علمًا بأنّ السلاح لم يُرفع في وجهه إلا بعد ثورة سلمية دامت أكثر من عام، وتعرّضت لكل أشكال القمع وأعلى درجات العنف.
وفي جانب آخر، اعتبر النظام المؤتمر احتفاليّة إعلاميّة توفِّر له فرصة التواصل مع وسائل الإعلام والرأي العام الغربي. واهتم وفده بعقد المؤتمرات الصحفية (3 إلى 4 مؤتمرات يوميًا) أكثر من اهتمامه بحضور جلسات التفاوض. كما اصطحب وفدًا ضخمًا ضم نحو 50 إعلاميًا، ملؤوا قاعات المؤتمر الصحفية حتى يبدو الأمر بأنهم طرف ثالث يسألون أسئلة ودودة، وهم في الواقع لم يكونوا غير صحافيي النظام الذين لا يختلفون كثيرًا في التعاطي مع الأزمة عن موظفي مخابراته.
موقف المعارضة
نتيجة ضغوط دوليّة ووعود أميركيّة بإعادة النظر في تسليح المعارضة “المعتدلة”، شارك الائتلاف في جنيف 2 من دون توقّع نتائج سريعة أو كبيرة. وفي ضوء ذلك، سعى الائتلاف الوطني لتحقيق أهداف مرحليّة تتمثل في إعادة تكريس نفسه كممثل “مدني” للثورة السوريّة، و”تعرية” النظام أمام الرأي العام بصفته طرفًا غير جاد في طلب التسوية، فضلًا عن وحشيته ولاإنسانية في التعامل مع المدنيين من أبناء شعبه.
وبخلاف التوقعات، وعلى الرغم من قلة التحضير والخبرة، كان أداء وفد المعارضة السياسي والتقني مقبولًا قياسًا بالتجارب السابقة، ما أكسبه تأييدًا شعبيًا وزخمًا دوليًا، لكنه يحتاج إلى أن يُترجم ذلك إلى نتائج ملموسة على الصعيدين الإنساني والسياسي. وفي العموم، يمكن القول إنّ المعارضة نجحت في أمور وأخفقت في أخرى؛ فقد نجح وفد المعارضة في منع تشتيت المفاوضات، والتأكيد على مرجعية التفاوض وإجبار النظام على الاعتراف بجنيف 1. لكنه، من جهة أخرى، وبخلاف وفد النظام، لم يعر اهتمامًا كبيرًا للتواصل مع وسائل الإعلام الغربية، بل ركّز على وسائل الإعلام العربية، في حين كان يتعين عليه أن يستثمر وجوده في جنيف لمخاطبة الرأي العام الغربي بشكل مدروس. وعلى الرغم من التحسّن في الأداء وعدم تسجيل إشكالات حقيقية، فإنّ أداء المتحدثين باسمه اتسم بالارتجالية والافتقار إلى الخبرة في مخاطبة الرأي العام؛ إذ أصرّ السياسيون أن يؤدوا أيضًا دور الناطقين الإعلاميين، في حين غاب الناطقون المهنيون عن الوفد.
الأطراف الراعية
كان عقد المؤتمر في موعده المحدد بحضور دولي واسع يمثل الهدف الرئيس للدول الراعية (أميركا وروسيا) وكذلك الأمم المتحدة. فقد كان اقتناع هذه الأطراف يتمثل في أنّ الأزمة السوريّة بتعقيداتها وتشعباتها لا يمكن “حلها” أو تحقيق اختراق كبير في تسويتها من الجولة الأولى أو حتى في المدى المنظور. لذلك، غادر الوفدان الروسي والأميركي مكان انعقاد المؤتمر، ولم يتدخلا في مسار التفاوض وجلساته إلا عندما تعقّدت الأمور برفض النظام بيان جنيف 1، وتزايد احتمال انسحاب أحد الطرفين أو كليهما من المؤتمر، فاضطر الوفد الروسي إلى العودة من موسكو، والتدخل لإقناع وفد النظام بقبول جنيف 1 والموافقة على مناقشة الهيئة الانتقاليّة، لكن سرعان ما تبدّى من سلوك وفد النظام وتصريحاته أنّ هذه الموافقات لم تتعدَ الجانب الشكلي، وجاءت لتلافي إحراج النظام لحلفائه.
أين تمضي الأزمة من هنا؟
يشكّل انعقاد مؤتمر جنيف 2 بداية لانطلاق مسار تفاوضيّ يمثل “الطريق الوحيد” المتفق عليه حتى الآن لحل الأزمة السوريّة في ظل عدم وجود بدائل أخرى كالتدخل العسكريّ أو تفكك النظام أو هزيمة المعارضة. لذلك، فإنّ الأطراف الراعية سوف تصرّ على استمراره حتى إن لم يحقق نتائج سريعة، لأنّ توقفه والاعتراف بفشله يعني اتخاذ قرارات لا أحد يريد اتخاذها. وبناء عليه، يمكن أن يفيد جنيف 2 في تحقيق إحدى الغايتين:
أولًا، حل الأزمة: يمثل حل الأزمة السوريّة هدف عددٍ كبيرٍ من الأطراف حتى لو كانت فرص تحقيقه ضئيلة؛ فثمة قوى دولية وإقليمية جادة في رغبتها في إنهاء النزاع، لأنّ تداعياته لا تقتصر على الجانب الإنسانيّ داخليًا، بل أصبح نزاعًا إقليميًا تتصارع فيه قوى عدة لتعزيز نفوذها وحمايّة مصالحها. ونتيجة للتنوع الإثنيّ والدينيّ في المشرق العربيّ، فقد تلبّس الصراع السوريّ بلبوس طائفيّ، وصار يظهر في بعض صوره – بحكم الاصطفافات الإقليمية – كأنه صراع سنيّ – شيعي. إنّ استمرار الصراع قد يؤدي إلى انفجار إقليميّ ذي انعكاسات على النظام الدولي؛ فقد يؤدي إلى تفتيت المنطقة، وإعادة رسم خارطتها الجغرافيّة. وانطلاقًا من ذلك، قد تجد القوى الدوليّة في جنيف 2 فرصةً لإنهاء الصراع، وتجنّب احتمالات تصعيد غير محسوبة.
ثانيًا، إدارة الأزمة: قد يشكّل جنيف 2 مدخلًا لحل الأزمة، لكنه قد يشكّل أيضًا أحد أدوات “إدارتها” إذا تعذَّر الحل. وهنا مكمن الخطر؛ فإدارة الأزمة تعني استمراريّة الصراع، ولكن مع “حصره” في نطاقه الجغرافيّ، لتبقى المصالح الحيويّة للقوى الكبرى أو حلفائها بمنأى عنه، كما يساعدها ذلك في عدم تحمّل أعبائه؛ متذرعة بوجود مسار سياسي تفاوضيّ يجمع أطراف الأزمة. ومن ثمّ، يكون دور هذه القوى حثّ الأطراف على التفاوض، وتقديم المبادرات، وعقد الاجتماعات الدوريّة من دون “حسم”، في مشهدٍ يكرر سيناريو المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية. إنّ هذا الاحتمال له فرصه ومبرراته في ظل سياسة إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما الخارجية القائمة على الانكفاء عن التدخل المباشر طالما لا يشكّل الصراع تهديدًا مباشرًا للأمن القومي للولايات المتحدة، وما تصريحات مسؤوليها، كالسفير روبرت فورد الذي أبلغ وفد الائتلاف بأنّ “مسار جنيف 2 شاق وطويل وقد يستغرق عامًا لتحقيق نتائج جدية”[3]، إلا مؤشر على أنّ الأمور قد تذهب إلى هذا الاتجاه. من جهة أخرى، يتوافق هذا الاحتمال مع رؤية إسرائيل للصراع السوريّ، ورغبتها في استدامته لتدمير قدرات سوريّة. أما إيران، فترى في سوريّة “معركة وجوديّة” لا يمكن أن تخسرها. وتعتقد روسيا أن لديها القدرة على التعامل مع تطورات الصراع السوري واحتمالاته ما دام محصورًا في الداخل عبر مداخل مختلفة مثل “حماية الأقليات”. بناء على ذلك، لا يُتوقَّع أن يلمس وفد الائتلاف تقدمًا في الموقف الروسي خلال زيارته موسكو، بل على العكس، يبدو أنّ روسيا متجهة نحو خلق مزيد من الإرباك بتوجيه دعوات منفصلة لهيئات وشخصيات من المعارضة، للإيحاء بأنها تتواصل مع مختلف الأطراف، تزامنًا مع دعواتها الأخيرة إلى إعادة تشكيل وفد المعارضة إلى مفاوضات جنيف ليشمل شخصيات من معارضة الداخل. إنّ روسيا ترغب في إثارة نقاش بشأن ضرورة توسيع وفد المعارضة لكي تنتقل الضغوط الدولية من النظام إلى المعارضة من جهة، ولخلق خلافات داخل الوفد في الجولة الثانية من جهة أخرى.
في ظل هذا المشهد، ومن أجل تحقيق نتائج أفضل خلال الجولات القادمة، يتعين على المعارضة السوريّة أن تستمر في التركيز على أن يكون هدف التفاوض الرئيس هو تشكيل هيئة انتقاليّة كاملة الصلاحيات، والمطالبة بتحديد جدول زمنيّ للمفاوضات والمرحلة الانتقاليّة. وبشكل متزامن، يتعين ترتيب البيت الداخليّ ضمن الائتلاف وإصلاحه، بما في ذلك دعوة المنسحبين بعد انتخابات الائتلاف الداخلية الأخيرة للعودة، وزيادة التنسيق مع القوى العسكريّة والمدنيّة في الداخل بما يسهم في تجاوز غياب الإجماع داخل هيئات المعارضة بشأن المشاركة في المؤتمر، وبما يعزّز موقف الائتلاف وحضوره في جولات التفاوض المقبلة؛ فعلى الرغم من جلوس الوفود إلى طاولة المفاوضات، لم تتولد حتى الآن آليات ضغط حقيقية سوى الوضع الميداني. لذلك، لا ينبغي أن تنشغل المعارضة كثيرًا بتركيبة وفدها ومستوى الكفاءات والخبرات التي يتمتع بها، أو أي تكتيكات تفاوضية عالية يمكن أن يستخدمها، فلن يؤدي هذا إلى تغيير في موقفي روسيا والنظام في هذه المرحلة. إنّ المطلوب الآن هو الإصرار على الموقف المتعلق بآلية الانتقال من النظام الحالي إلى نظام ديمقراطي تعددي، وشرح جرائم النظام قبل الثورة وبعدها بصدقية عالية ووثائق مؤكدة. وفي هذه النقطة تحديدًا، يجب أن يحسِّن الائتلاف أداءه في التعاطي مع وسائل الإعلام، ولا سيما الإعلام الغربي حتى يتمكّن من إيصال الرسالة المطلوبة خلال الجولات القادمة. أخيرًا، من المهم – بالتوازي مع العملية التفاوضية – الاستمرار في العمل على تعزيز وضع حكومة الائتلاف كمؤسسة تنفيذية، وترتيب وضع الائتلاف كبرلمان للشعب السوري، وبذل الجهد كله على الأرض بالتنسيق مع الدول الداعمة للثورة لانتهاج بدائل أخرى في حال فشل مؤتمر جنيف 2 في تحقيق أهدافه أو في حال تعثّر مساره.
[1] تضمنت ورقة النظام خمس نقاط: 1) احترام سيادة سورية، 2) عدم جواز التنازل عن أي جزء منها والعمل على استعادة أراضيها المغتصبة كافة، 3) رفض أي شكل من أشكال التدخل والإملاء الخارجي وأن يقرر السوريون بأنفسهم مستقبل بلادهم، 4) رفض الإرهاب، 5) وقف التحريض الإعلامي. انظر: “النظام يقدم ورقة لقلب أولويات «جنيف 2»”، الحياة، 28 كانون الثاني/ يناير 2014:
http://alhayat.com/Details/597250
[2] لمعرفة شكل البرميل المتفجّر، وطريقة صنعه، وأثره التدميريّ، انظر: “سيرة ذاتية لبراميل بشار الأسد”، زمان الوصل، 25/12/2013، على الرابط:
http://www.zamanalwsl.net/news/44714.html
[3] مقابلة مع أحد أعضاء الوفد المفاوض، وقد أكد هذا الأمر ميشيل كيلو في مقابلته مع قناة الجزيرة في 29 كانون الثاني/ يناير 2014، في برنامج لقاء اليوم.
وحدة تحليل السياسات في المركز
تتكوّن وحدة تحليل السّياسات في المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات من مجموعة من الباحثين الذين يعملون بشكلٍ جماعيّ، ويلتقون دوريًّا، لتدارس المواضيع السياسيّة والإستراتيجيّة الرّاهنة ذات الأهميّة العالية، ومناقشتها، ورصدها، ومتابعة تطوّراتها، وتوقّع تأثيراتها المحتملة. تعمل الوحدة تحت إشراف الدكتور عزمي بشارة، وبتوجيهه، ويقوم باحث بتنسيق الاجتماعات والمواضيع والموادّ المقترحة للنّقاش. يكلّف باحث أو أكثر بصياغة ورقة، ويقدمها لتخضع للمناقشة في جلسة، ثمّ يعاد تحريرها في ضوء الملاحظات التي يبديها أعضاء فريق الوحدة. وتخضع قبل نشرها على الموقع الإلكتروني كورقة “تقدير موقف” أو ورقة “تحليل سياسات” لمراجعةٍ أخيرة.
أبعدوا المدنيين عن هذه المجزرة/ الياس حرفوش
مدينة حمص، التي يصفها الثوار السوريون بأنها عاصمة ثورتهم، يمكنها أن تكون أيضاً مدخلاً إلى مشروع إنساني لإنقاذ المدنيين من جحيم الصراع الدائر في بلادهم، بعد أن أصبح هؤلاء المدنيون الوقود الفعلي لهذا الصراع.
وبصرف النظر عن مزاعم النظام بمحاربة «الإرهابيين»، ومطالب المعارضة بإبعاد بشار الأسد عن الرئاسة وتشكيل هيئة انتقالية تتولى الحكم، فإن مصير المدنيين يجب أن يبقى الأكثر مدعاة للأسى. لقد كانت صور المدنيين الذين شاهدنا عملية إجلائهم من حمص صوراً بليغة ومعبرة عن حجم المأساة التي تصيب آلافَ -إن لم يكن ملايينَ- المدنيين الذين تحاصرهم نيران الطرفين، من دون أي أمل في مخرج أو نهاية قريبة لهذه الحرب المفتوحة.
هؤلاء المدنيون المحاصرون، من الجانبين، تحولوا رهائن في يد القوى التي تسيطر على مناطقهم، وتُخضعهم لإرادتها، وتستخدمهم ورقة في حساباتها ومناوراتها على الحصص السياسية.
الشيوخ الجائعون الذين كانوا يحلمون بقطعة خبز على مدى سنة ونصف، والأطفال الذين يفتقرون إلى أبسط ظروف التدفئة والتغذية، والنساء اللواتي يعانين من البحث عما يطعمن أولادهن، أو عن لباس يقي أجسادهم النحيلة من البرد، كل هؤلاء يجب أن يكون الاهتمام بمصيرهم وبأوضاعهم أكثر إلحاحاً اليوم من همّ المرحلة الانتقالية أو من عملية البحث عن مستقبل أفضل لما يطلق عليه «سورية الجديدة»، ذلك انه لن يكون هناك معنى لقيام «سورية الجديدة» هذه من دون سوريين يبقون على قيد الحياة للعيش فيها، ولن يكون هناك معنى لها أيضاً في ظل المصير الذي يهدد جيلاً كاملاً من أطفالها وشبانها أصبحوا مشردين في الشوارع، ومحرومين من فرص الحصول على حد أدنى من الدراسة، كما أن بعضهم مرغم على حمل السلاح كوسيلة للارتزاق أو خضوعاً لمشيئة من يتحكمون بهم.
ومع الفشل الذي ينتظر المفاوضات التي بدأت أمس في جنيف والهادفة إلى التوصل لحل سياسي، يصبح المشروع الإنساني لإنقاذ حياة المدنيين المحاصرين في حمص وفي كل مكان آخر، أمراً يجب أن يحتل الأولوية بالنسبة إلى المنظمات الدولية، وكذلك بالنسبة إلى طرفي الصراع، الحكم والمعارضة. والرهان يجب أن يكون هنا على ما تبقى من حسّ بشري عند الطرفين، ليسمح بإتاحة الفرص لوصول المساعدات الغذائية والطبية، التي أصبحت أكثر من ملحّة، ولإخراج العجزة والمرضى من مناطق القتال، ولو اقتضى الأمر تأمين ملاجئ لهم خارج الأراضي السورية.
لقد بلغت أرقام الضحايا في هذه المجزرة المفتوحة حداً مخيفاً وفادحاً. خلال ثلاث سنوات من القتل سقط ما لا يقل عن 130 ألف شخص، وربما بلغ العدد 150 ألفاً، ووصل عدد المهجرين الذين تم إبعادهم قسراً عن بيوتهم داخل سورية إلى 9 ملايين شخص. هؤلاء انتقلوا إلى مناطق يعتبرونها آمنة، لأنهم يشعرون أنهم يقيمون بين «أهلهم»، أي بين من ينتمون إلى طائفتهم. وبالتأكيد لن يعودوا إلى مناطقهم السابقة، مما يعزز خريطة التقسيم الطائفي التي باتت أكثر وضوحاً. أما عدد الذين لجأوا إلى دول الجوار، فإنه يقارب 3 ملايين شخص، أي أننا نتحدث عما يقارب نصف السوريين اصبحوا اليوم خارج المناطق التي كانوا يقيمون فيها عندما بدأت الثورة السورية على النظام في شهر آذار (مارس) 2011.
يوظف كل من النظام والمعارضة هذه الأرقام لمصلحته. النظام يعتبر أن استمرار القتل هو نتيجة الحرب التي يضطر لخوضها ضد من يسميهم «الإرهابيين» و «التكفيريين»، أي أنه يمارس قتل السوريين لإنقاذهم من هذا المصير الأسود الذي يتربص بهم! أما المعارضة، فتعتبر أن القتل والتشريد والتهجير هي نتيجة للسياسة الظالمة التي يرتكبها النظام، والتي تهدف إلى تركيع السوريين ودفعهم إلى القبول بما يعرضه عليهم كثمن لوقف أعمال القتل هذه.
في كل الحالات، بات من الملح أن يوضع مصير المدنيين كبند أول في أي تفاوض يجري حول الأزمة السورية، خصوصاً أن أي حل سريع وسياسي لهذه الأزمة ليس في الأفق. وإذا كانت الثورة السورية قد بدأت انتفاضة سلمية من الشعب على نظامه، فإنها تحولت اليوم بفعل تصعيد آلة القتل من قبل النظام، وبفعل تشتت المعارضة وعجزها عن الحسم، إلى حرب مفتوحة، وقودها الفعلي هم المدنيون. هؤلاء يجب إخراجهم من ساحة الصراع، كي لا يحصد القتل المفتوح إلا… المقاتلين.
الحياة
حوار الطرشان في “جنيف 2″/ عرفان نظام الدين *
في انتظار الجولة الثانية من المفاوضات، فإنه يمكن تأكيد صحّة التوقعات القائلة إن مؤتمر «جنيف 2» للسلام في سورية سيتحول مع الأيام إلى مسرحية خطابية تتبادل فيها الوفود الاتهامات وتعلن فيه المواقف المعروفة في حوار طرشان علني وصولاً إلى «حوار طرشان» رسمي وسري متبادل بين الطرفين، أي النظام السوري والمعارضة المتمثلة بالائتلاف الوطني، وصفه البعض بأنه منازلة في عرض الشروط القصوى لعل الأيام تخفف من استحالتها.
وقد قيل الكثير عن الجولة الأولى منذ الجلسة الافتتاحية وتوابعها حتى اليوم الأخير، وسجل كل فريق أهدافاً في مرمى الفرقاء الآخرين فيما بدا الشرخ يزداد اتساعاً بين المواقف السورية أولاً ثم المواقف الدولية المنقسمة إلى محورين.
وأخشى ما أخشاه أن تلحق الجولة الثانية بالجولة الأولى الفاشلة، ومن بعدها جولات من المفاوضات العبثية والجولات المكوكية لساعي البريد، أو «البوسطجي»، الأخضر الابراهيمي ممثل الأمم المتحدة، وأن تدفن القضية وهي في مهدها وتتحول المفاوضات إلى حكاية «إبريق الزيت» أو إلى مضيعة للوقت. وهذا ما يتوقعه الكثيرون وسط أحاديث عن توافق أميركي- روسي على تجديد الضغوط على الوفدين.
فماذا استفاد السوريون من مشاركة 45 وفداً يمثلون دولاً قريبة وبعيدة، معنية وغير معنية، وبعض المنظمات الدولية فيما الدمار يتعمق والمعارك تتواصل والدم يسفك والنزوح يتزايد والآهات تتصاعد والآلام تزداد حدة والدموع تختلط بالدم الزكي ليتحول إلى شلال يدمغ البشرية بعار ما بعده عار بعد 3 سنوات على حرب ليس في الأفق أية بادرة أمل بتوقفها، وأزمة ظلام ليس في نهاية نفقه بصيص من نور.
كل ما يمكن أن يقال في المؤتمر بعد أن أخذ استراحة قد تطول هو أن المشاركة الدولية الكثيفة تمثل اعتراف العالم كله بوجود مأساة تراجيدية مرعبة، وأن من الضروري إيجاد حل عاجل لإنهائها لأن استمرارها سيحولها إلى بركان يلقي بحممه في كل مكان وسيوصل شرر نارها إلى دول الجوار ثم إلى المنطقة والعالم بأسره.
هذا الاعتراف المتأخر هو الإيجابية الوحيدة فيما الدلائل كلها لا تبشر بخير في عمل جدي لدرجة أن راعي المؤتمر الثاني سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي خفّف من اندفاعة الأمل بالتأكيد أن المفاوضات صعبة وهي لن تكون سهلة ونتائجها لن تكون سريعة.
هذا الكلام وجيز، لكن دلالاته كبيرة، ما يعني أن المؤتمر كان مجرد بداية لطريق طويل وصعب مزروع بحقول الألغام وأن المأساة ستستمر إلى أجل غير مسمى مع كل ما تحمله من قتل ودمار ونزيف ونزوح، فيما ينظر البعض إلى نصف الكأس الملآن بالقول إن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة، وقد حصلت، وأن الخطوات الكبيرة تحتاج إلى خطوات صغيرة تمهد الطريق لجهد أكبر.
ولكن السؤال الكبير والملحّ المنبعث من متابعة أيام وليالي المؤتمر ومن بعده المفاوضات في غرف مغلقة ثم وجهاً لوجه هو إلى متى ستستمر الحرب؟ وإلى أين ستتجه سورية؟ وهل يمكن حسم الأمور من دون تعديل في موازين القوى أو تطور كبير في الميدان أو حتى بضغط دولي ينتهي بالتوافق على تدخل أجنبي وسط حديث عن التمهيد لإنشاء قوات لحفظ السلام ترسل إلى سورية خلال الأشهر القليلة المقبلة؟
في انتظار جلاء الأمور، لا يبدو أن أي فريق قادر على الإجابة عن السؤال وسط الجدل البيزنطي حول «جنس الملائكة» في المرحلة الانتقالية وكيف سيتم تشكيلها طالما أن الأطراف المعنية مختلفة في الأعماق على المبادئ لا على التفاصيل.
ففي الجانب الدولي، بدا واضحاً أن راعيي المؤتمر، أي روسيا وأميركا، يختلفان في الرأي حول المفهوم الأساسي الذي بنيت عليه الدعوة إلى مؤتمر «جنيف 2»، وهو القبول بمبادئ «جنيف 1» ومنها قضية الهيئة الحكومية في المرحلة الانتقالية والصلاحيات الكاملة التي ستمنح لها.
فالروس يعتبرون أن الحديث عن تنحي الرئيس الأسد غير وارد وأن موضوع المرحلة الانتقالية يترك للسوريين ليتفاوضوا في شأنه، وهذا ما يعبر عن الموقف السوري في شكل أو في آخر وتتفق معه إيران وبعض الدول. فيما يؤكد الأميركيون أن لا مكان للرئيس السوري في المرحلة الانتقالية وأن البحث يتركز حول تفاصيل الانتقال ويتفق معهم إقليمياً اللاعب التركي ومعه المملكة العربية السعودية ودول عربية عدة والدول الأوروبية في شكل عام.
ولكن الأهم من كل ذلك أن الجلسات العلنية ثم الجلسات السرية والرحلات المكوكية أكدت عمق الخلافات بين الوفدين المعنيين. فوفد النظام يؤكد الخطوط الحمر وهي: لا لتنحي الرئيس ولا بحث في هذا الأمر ولا قبول بتغيير النظام ولا للاعتراف بالائتلاف الوطني السوري كممثل شرعي وحيد للمعارضة. كما أن الوفد أكد أن المفاوضات بين السوريين يجب أن تتم على الأرض السورية، لا في مونترو ولا في جنيف. فيما وفد المعارضة كان واضحاً في أنه جاء إلى المؤتمر، على رغم الضغوط التي تعرض لها، وعلى رغم انسحاب بعض أعضائه لكي يبحث في أمر واحد، وهو تشكيل هيئة حكومية للمرحلة الانتقالية لا يكون فيها للرئيس الأسد أي دور وأي سلطة.
من هنا، يبرز عمق الخلاف وصعوبة إيجاد حل وسط في هذه المرحلة، إلا إذا حدثت مفاجأة كبرى ساعدت في تغيير المواقف وتليين التصلب، خصوصاً أن هذا الخلاف ليس الوحيد بين أطراف المؤتمر بل يبرز خلاف آخر مهم حول الأولويات، ففيما يطرح البعض بنداً وحيداً لا سابق له ولا لاحق، وهو الهيئة الانتقالية، تطرح دول أخرى بينها دول أوروبية حلولاً مرحلية تضع سلّماً للأولويات ومنها وقف إطلاق النار، فك الحصار عن المدن، إيصال المساعدات الإنسانية، إطلاق المساجين والمعتقلين والإفراج عن المختطفين والتمهيد لعودة من يرغب من اللاجئين والنازحين كبادرة حسن نية وإثبات لجدية الاتجاه نحو حل شامل.
وهنا يكمن خلاف آخر حول مثل هذا الحل، فالوفد السوري يؤكد أن أي نتيجة للمؤتمر وأي اتفاق محتمل في المفاوضات يجب أن يطرح على استفتاء شعبي في سورية، ما يزيد في تعقيد الحل ويطيل أمده، لأن أي استفتاء يحتاج إلى وقت طويل لإنجازه. كما أن تشعب الميادين وتعدد القوى التي تسيطر عليها يجعلان من الاستفتاء أمراً مستبعداً إن لم يكن مستحيلاً.
أما العقدة المحرجة والصعبة، فتتمثل في قضية القوى المتطرفة، ولا سيما «داعش» المنتمية إلى «القاعدة» وكيفية القضاء عليها بعد أن زادت من حجم المأساة وجعلت الحل الشامل شبه مستحيل ودفعت العالم إلى الخوف من نتائج تمددها في حال لم تتضافر القوى للقضاء عليها وطردها من الأراضي السورية.
وهذه القراءة الأولية لمؤتمر جنيف ومفاوضات الجولة الأولى تؤكد حجم العقد والصعوبات في ظل حوار طرشان عنوانه الأول عدم اعتراف النظام بالمعارضة وبصورة خاصة بأحقية تمثيل الائتلاف الوطني لأطياف المعارضة، فيما لا يعترف الائتلاف بالنظام وأحقيته بالتفاوض ويطالب بتنحيته ومحاكمته.
وهذا كله سيزيد من حالة التشاؤم لدى مختلف الأطراف بخاصة بعد أن استمعنا إلى تصعيد في لغة التخاطب بين الدول العربية وامتعاض إيران من سحب الدعوة الموجهة إليها بسبب رفضها الالتزام بمبادئ «جنيف 1»، ما يوحي بأنها في صدد التصعيد في سورية ولبنان وغيرهما من خلال تأكيدها أن «جنيف 2» سينتهي إلى الفشل بسبب عدم مشاركتها في الحل، بعد أن اتهمت بأنها جزء من المشكلة وليست طرفاً في الحل.
هذا مع الاعتراف بأن ما من أحد كان يتوقع أن يتم إظهار عصا سحرية تحل الأزمة بطرفة عين أو بسحر ساحر. فهذه الحرب، كما قالت ممثلة الاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون، لا مثيل لها في التاريخ. كما أن المؤتمر نفسه على رغم السلبيات والانتقادات والاعتراف بعدم القدرة على الحل ليس له مثيل في التاريخ من حيث الحضور والمشاركة والاهتمام. والأهم من كل ذلك أن «الوقت هو أهم عامل» بالنسبة إلى مأساة الشعب السوري، وهو ما لم يحترمه أحد أو يكترث لمعاناته أو يضع جدولاً زمنياً لخطوات الحل والتصميم على المتابعة والضغط لتنفيذ كل ما يتفق عليه.
فما جرى بالنسبة إلى إيصال المساعدات الى المحاصرين في حمص وغيرها وما قيل عن الممرات الإنسانية والخطوات الصغيرة الأخرى، كان بداية طريق طويلة وليس نهاية الأزمة. وكل ما يقال غير ذلك عبارة عن ذر الرماد في العيون لأن الذي يده في الماء ليس كالذي يده في النار، والذي «يأكل القتلة» كما يقول المثل السوري، ليس كالذي «يعد العصي»… فالنهاية لم يحن أوانها بعد إلا إذا وقع حدث ما يقلب الموازين، وإلا فإن المفاوضات ستكون «صعبة وطويلة وليست سريعة» كما قال لافروف!
وهذا ما انتهت إليه المبارزات الخطابية في أسبوع كان يفترض أن يكون أسبوع أمل للسوريين والعرب، لكن الجرح ما زال مفتوحاً ينزف دماً زكياً وغالياً… ولا نتيجة لحوار الطرشان إلا بأمل هو أن لكل أزمة نهاية مهما طالت، ولتكن البداية في جلوس الأطراف على مائدة واحدة. وهذا ليس كافياً. فلننتظر لنرى ما ستؤول إليه مفاوضات الجولة الثانية مع أن بورصة الآمال متدنية جداً.
* كاتب عربي
الحياة
الطريق إلى جنيف تمر بطهران و… كييف!/ جورج سمعان
تبدأ اليوم الجولة الثانية من مؤتمر «جنيف 2» في أجواء لا توحي بأنها ستكون بخلاف سابقتها التي لم تحقق أية نتائج. وما تحقق على الصعيد الإنساني في حمص يكاد لا يذكر قياساً على معاناة آلاف المحاصرين والمشردين الذين لا يتسنى لهيئات الإغاثة الإقليمية والدولية الوصول إليهــــم. ولم تكن هذه الخطوة الصغيرة وليدة تفـــاهم بين وفد النظام ووفد المعارضة. بل ولـــيدة تفاهم بين دمشق والأمم المتحدة. ولـــم تكن لترى النـــور لولا تدخل روسيا التي ارتأت مواجهة الضغوط الدولية وتحرك بعض أعضاء مجـــلس الأمن لصياغة قرار يدين النظام. وأعلنت رفــــضها ولوحت بالفيتو: ليس مطلوباً الآن مطالبة النظام بفتح المعابر في المناطق المحاصرة، وإيصال المساعدات إلى المحاصرين، ووقف استخدام الأسلحة الثقــــيلة (وجلّها روسي) بما فيها البراميل المتــــــفجرة والصواريخ البالستية… ودعوة الجميع إلى وقف انتهاكات حقوق الإنسان.
لا تريد روسيا عودة الملف السوري إلى مجلس الأمن. تريد البقاء في جنيف. في نيويورك تتشابك المصالح والمواقف بين الدول الـ 15 الأعضاء في المجلس. ولا تريد مزيداً من الإحراج بعدما استخدمت حق النقض ثلاث مرات حتى الآن لمنع قرارات خاصة بالأزمة السورية. بينما توفر لها المدينة السويسرية مساحة أوسع للحركة والمناورة والمقايضة، خصوصاً إذا كانت تفاوض المعارضة في مكان آخر على مستقبل وجودها العسكري ومصالحها السياسية والاقتصادية والتجارية في سورية بعد رحيل النظام. ولذلك تصر على توسيع وفد المعارضة المفاوض لأنها ترى إلى ضمانات «الائتلاف الوطني» وحده في هذا المجال غير كافية. وتفاوض روسيا أو بالأحرى تشتبك مع الولايات المتحدة وأوروبا في قضايا كثيرة قد يكون على رأسها اليوم مستقبل الوضع في أوكرانيا، حديقتها الخلفية والجزء الأساس تاريخياً من أمنها القومي. وقد لا يكون آخرها المخاوف التي تنتابها من الزحف الصيني إلى آسيا الوسطى، حديقتها الأخرى التي لا تزال تحوي أعداداً من مواطنيها وتشكل رصيداً اقتصادياً وسوقاً تجارية واسعة. فضلاً عن القلق من تقدم الحوار بين واشنطن وطهران التي شرعت أبوابها ليس للوفد الفرنسي الكبير أخيراً بل لشركات ورجال أعمال من كل حدب وصوب. وهي تدرك أن هذه الورقة التي طالما قايضت بها أميركا وأوروبا، وكادت أن تحتكرها طوال عقد من الصراع على الملف النووي، قد تصبح جزءاً من تاريخ مضى، إذا نجحت المفاوضات بين إيران والدول الست الكبرى.
لا يعني هذا أن لا دور لمجلس الأمن في تسوية الأزمة السورية. سيكون بالتأكيد المحطة الأخيرة. انطلق القطار «جنيف 2» ولم ينطلق. أي أن المتصارعين صعدوا عربة التسوية السياسية الخيار الوحيد المتاح، وإن كانت أوهام الحسم العسكري لا تزال تراودهم. وسيكون عليهم أن ينتظروا طويلاً، شهوراً وشهوراً حتى بلوغ غاياتهم. السنوات الثلاث الدامية ليست كافية حتى الآن لإنضاج الحل. أو أن عناصر الحل تتجاوز الظروف والمعطيات الداخلية. اللبنانيون استهلكوا سنوات حتى وصلوا إلى «اتفاق الطائف»، نظراً إلى ارتباط أزمتهم وحروبهم بأزمات وصراعات أخرى إقليمية ودولية. ومثلهم انتظر البوسنيون لأسباب مشابهة سنوات لبلوغ «اتفاق دايتون». وواضح اليوم أن قطار «جنيف 2» لا يسير وحده على السكة. هناك ملف تفكيك الترسانة الكيماوية. وهناك المفاوضات الخاصة بالملف النووي الإيراني. ويمكن أيضاً إضافة مجريات المحكمة الدولية التي انطلقت في لاهاي وتتطلب وقتاً مثل كل الملفات الأخرى.
النظام السوري تنازل عن مخزونه الكيماوي الذي طالما تغنى به سلاحاً يحقق نوعاً من توازن الرعب مع إسرائيل. لكنـه كسب في المقابل وقتاً إضافياً من المقــــرر أن ينتهي في آخر حزيران (يونيو) المقبل، أي قبل شهر من الموعد المفترض للانتخابات الرئاسية. وهو ذهب إلى المؤتمر الدولي مرغماً لأنه يدرك ان لا مفــــر من رأسه والحلقة المحيطة ثمناً لأي تسوية. لذلك يحاول جاهداً كسب مزيد من الوقـــت، سواء بالمماطلة في تنفيذ تعهداته الخـــاصة بنقل سلاحه الفتاك إلى ميناء اللاذقية تمهيداً لتدميرها في البحر، أو بالمـــناورة في مفاوضاته مع المعارضة هرباً من استحقاق قيام «هيئة الحكم الانتقالي»، كما نصت مقررات «جنيف 1» والدعوة التي وجهها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلى المدعوين إلى «جنيف 2».
وما ساعد دمشق ويساعدها في لعبة الوقت عوامل وظروف خارجية. هناك أولاً وأساساً موقف روسيا. لقد تفاهمت مع الولايات المتحدة على وجوب تفكيك الترسانة النووية خوفاً من انتقالها إلى أيدي الحركات الإرهابية، وتهدئة لمخاوف إسرائيل وحماية لأمنها أولاً وأخيراً. ولم يكن على النظام سوى الرضوخ. وتفاهمت معها علــــى إطــلاق قطار التسوية السياسية. لكن هذا التـــفاهم لم يحدد المحطة التالية. أي أن البلدين لم يلتقيا بعد على صورة النظام المقبل في ســـورية. أبدتا حتى الآن حرصاً مشتركاً على عــــدم انهيار مؤسسات الدولة. وحرصاً علــــى منـــع سقوط النظام في ظـــل انتشار الحركات المتشددة وتحول ســـورية قبلة للمتطرفين من كل مكان. وبعيداً من الملف السوري ليس هناك ما يشير الى أن واشنـــطن وموسكو تتقــــدمان إلى تفاهمات شامــــلة في كثير من الملفات. بل أظـــهرت الأزمـــــة المستفحلة في أوكرانيا أن الـــولايات المتحدة وشركاءها الأوروبيين لم يتوقفوا عن طرق أبواب الأسوار والفضاءات الأمنية والسياسية للإتحاد الروسي.
وما ساعد دمشق ويساعدها أيضاً أن إيران الغائبة عن المؤتمر الدولي وفرت له كل أسباب البقاء والصمود، بفضل مساعداتها عدة وعــــديداً من حلفائها في لبنان والعــــراق وأماكن أخرى. ولم يجافِ الحــقيقة وزير الخارجية الإيراني محمد جـــواد ظريف عندما أبلغ نظيره الأميركي جـــون كيري في لقائهما أخيراً في ميونيخ أن «لا سلطة» له لمناقشة النزاع السوري. هذا الملف في يد المرشد و «الحرس الثوري». أبعد من ذلك، ألم يحذر المسؤولون الإيرانيون وبعض حلفائهم من أن استبعاد الجــمهورية الإسلامية عن جنيف خطأ جسيم وستكون له عواقب؟ ولا يتأخر خصوم طهران في تعداد «عواقب كثيرة»: حضر الوزير ظريف إلى بيروت عشية «جنيف 2» وانطلقت على الأثر موجة من التفاؤل. خرج اللبنانيون من خلف متاريسهم وصعدوا إلى قطار تأليف الحكومة كأنما تآلفت قلوبهم فجأة… لكن الوقت لم يمهلهم. لم تدعَ إيران إلى جنيف. وبالتالي لا لزوم لتحريك قطار الرئيس المكلف تمام سلام. وليس ما يستدعي أن يقدم «حزب الله» تنازلات مجانية. فلا النظام هُزم في دمشق. ولا تملك لاهاي قوة عسكرية لجره إلى محكمتها.
ويشير الخصوم أيضاً إلى ما يجري في الساحة اليمنية: ما كاد مؤتمر الحوار أن يقر «وثيقته النهائية التي انتهت بتحويل البلاد دولة اتحادية واتجهت إلى تحديد الأقاليم حتى اندفع الحوثيون في كل اتجاه، ومن الشمال نحو صنعاء خصوصاً. ولم يهدأ «الحراك الجنوبي» أيضاً. وكلا الحراكين يفاقمان قلق دول الخليج، خصوصاً المملكة العربية السعودية التي لا يمكن في نهاية المطاف أن تتحمل مثل هذا الطوق الذي يلتف حول شبه الجزيرة من العراق إلى سورية ولبنان. وهو ما يزيد في إشعال التوتر المذهبي. ويشير الخصوم أيضاً إلى ما يجري في العراق الذي يسرع الخطى نحو تجديد حربه الأهلية التي نجح في طي صفحتها نهاية العقد الماضي، وربما نحو تأجيل انتخاباته العامة التي اقترب موعدها ويستحيل إجراؤها في ظل الوضع الأمني والصراع السياسي المتفاقم.
في الواقع هناك عوامل أخرى تطيل عمر الأزمة، وتطيل تالياً عمر النظام لعل أولها ارتباط الملف السوري بملفات كثيرة في مقدمها الملف النووي الإيراني، وصراع الجمهورية الإسلامية مع دول الجوار الخليجي، وتنافسها مع تركيا على رغم ما يربط بينهما في المجال الاقتصادي والتجاري والنفطي. والحوار الأميركي- الإيراني ومستقبل دور طهران وحجمه، خصوصاً في المنطقة العربية التي لا تزال تزخر بالتطورات والمفاجآت اليومية، من شمال أفريقيا إلى العراق. وبين العوامل أن الحروب الأهلية التي تحل العصبيات الطائفية والمذهبية والقبلية محل العصبيات الوطنية والسياسية تستعصي على الحلول الديبلوماسية التقليدية، وتهدد المجتمعات والدولة برمتها بالتفكك والانحلال. والأمثلة كثيرة في العالم العربي: من ليبيا التي تتنازعها القبائل، إلى السودان الذي لم تتوقف أزماته بعد انقسامه الى شطرين. إلى اليمن الذي قد لا ترضي بعض أهله «الصيغة الاتحادية». إلى العراق الذي لن يكتفي بكردستان بل ينتظر مآل الأزمة السورية، تماماً كما ينتظر لبنان.
إلى كل هذه العوامل ربما كانت الكلمة الفصل بيد روسيا. ما لم يتبدل موقفها لاستعجال التسوية في سورية لن تعرف السياسة طريقها إلى العراق ولبنان وبلدان ومناطق أخرى. ليس هذا تقليلاً من تأثير إيران ودورها المؤثر والفاعل في دمشق. لكن وقوف طهران وحدها في مواجهة المجتمع الدولي إذا تحولت موسكو لن يكون سهلاً. ألا يكفي التفاهم الأميركي – الروسي على تدمير الترسانة الكيماوية السورية مثالاً وخير دليل!
الحياة
الابراهيمي وطرد فلسطين من الملف السوري
رأي القدس
يكتسي إعلان ناصر القدوة استقالته من منصبه كنائب للمبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي قبل أيام دلالات رمزيّة تفوق أهمّية الخبر نفسه، فالقدوة الذي شغل مناصب فلسطينية عليا أهمها عمله كوزير للخارجية خلال العامين 2005-2006 وشغل قبلها منصب المراقب الدائم لفلسطين في الأمم المتحدة بين 1991 و2005 يعتبر واحداً من أهم الدبلوماسيين الفلسطينيين، وحنكته الدبلوماسية ترجّح أن استقالته ما كانت لتتمّ لولا ضغوط سياسية كبيرة عليه.
نشاط القدوة كنائب للأخضر الإبراهيمي كان، عملياً، تثبيتاً للحضور الفلسطيني المهم في الملفّ السوري، كما كان يضيف أيضاً نوعاً من التوازن ضمن الوجود المؤثّر لدولتين أقرب للنظام السوري: مصر، التي يمثلها الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي، والجزائر، التي يمثلها الأخضر الإبراهيمي، وأحمد بن حلّي، نائب الأمين العامة للجامعة.
ما رشح من أنباء الاستقالة أن الطرف الضاغط باتجاهها كان النظام السوري، الذي اعتبر القدوة أقرب للمعارضة منه للنظام، وهو ما يمكن ترجمته، حسب هذا المنطق، أن الإبراهيمي هو أقرب للنظام منه للمعارضة!
يقول المطلعون أيضاً أن الإبراهيمي لم يحبّذ توظيف القدوة لعلاقاته العربية والعالمية لخلق توازنات ايجابية في الملف السوريّ، وأنه (الابراهيمي) كان مشاركاً في الضغط عليه للخروج من منصبه.
هل يمكن اعتبار خروج القدوة، إخراجاً للدبلوماسي الفلسطيني المرموق من التأثير في الشأن السوري فحسب أم هو محاولة لإقصاء التأثير الفلسطيني، عموماً، عن الملفّ السوري؟
يحمل إخراج القدوة من الغرفة الضيّقة للقرار الأممي والعربي دلالات أكبر من ‘الاستقالة’، بحيث تمكن قراءته بالتوازي مع الترتيبات الحاصلة في المنطقة العربية، وأهم خطوطها العامة بالنسبة للاعبين العالميين والاقليميين الكبار: مواجهة مدّ الثورات العربية، واستغلال الحراك الكبير الحاصل لتصفية القضيّة الفلسطينية.
يعرف اللاعبون الكبار، أو بعض دوائر القرار لديهم على الأقل، أن منهج معارضة التاريخ وإعادة تدوير الأزمات سيفاقم الأوضاع في المنطقة ولن يحلّها، وسيكون أول أعراض دخول الشعوب العربية في طريق مسدود هو تزايد الإحتجاج العدميّ المتمثل بحركات السلفيّة المسلّحة.
بعد عقود من البروباغاندا القومجية للنظام السوري عن فلسطين والممانعة، تحوّلت فلسطين من ورقة يستخدمها النظام لتدعيم اسسه الأمنية وللتحكم بالقرار الفلسطيني، إلى فاعليّة قادرة على التأثير في المعادلة السورية، وتمثّل ذلك في ابتعاد حركة حماس عن النظام السوري، ومواقف الحركة الاسلامية الفلسطينية داخل حدود 1948 المؤيدة للثورة السورية، وفاعلية الدبلوماسية الرسمية الفلسطينية لحكومة محمود عباس عربياً وعالمياً.
استناد النضال الفلسطيني على الثورات العربية أعطى الفلسطينيين أملاً كبيراً بامكانيات زحزحة رتاج الباب الثقيل لاسرائيل، لكن استعادة الثورة المضادة للمبادرة في مصر وصمود النظام السوري المحميّ روسياً وإيرانياً أغلق الباب من جديد ووضع الفلسطينيين في زاوية صعبة.
… وهو ما ينطبق أيضاً على استناد السوريين على تعاطف ونضال الفلسطينيين معهم، داخل وخارج سوريا، والذي يتأثّر، بالضرورة، إيجاباً أو سلباً بمجريات الوضع الفلسطيني.
أصاب تأسيس دولة اسرائيل التي حلّت مكان فلسطين عام 1948 منطقة الشام التاريخية بجرح جغرافي خطير مما خلق خللاً عضوياً في كل البلدان القريبة منه، وانضافت عليه تقسيمات سايكس بيكو لتركّب دولاً هجينة حائرة في معناها وضيّقة في مبناها، من نهر الأردن الذي تحوّل مملكة، إلى جبل لبنان الى أصبح محميّة جمهورية فرنسية باسم لبنان، وصولاً الى سوريا، التي تم تركيب تسمية يونانية لبلاد آشور (اسوريا) عليها.
على مبدأ الأواني المستطرقة، يسيل أي علاج لهذا الجرح في أية بقعة من هذه المنطقة المكسّرة إلى المناطق المجاورة، فيحييها أو يمرضها، سواء رغبنا بذلك أم لم نرغب، ومحاولة شطب إحداها هو كسر للتوازن لا يلبث التاريخ والطبيعة أن يردّا عليه بالتأكيد.
القدس العربي
الأسد.. ومزيد من المراوغة/ طارق الحميد
أقل ما يمكن قوله عن جولة المحادثات الثانية في جنيف بين المعارضة السورية والنظام، إنها جولة جديدة من مراوغات الأسد الذي لم يلتزم بشيء، ومنذ اندلاع الثورة، وحتى الآن، فكل ما يفعله النظام الأسدي هو شراء المزيد من الوقت، وتعقيد الأمور أكثر.
إلى اللحظة، ورغم كل التصريحات الدبلوماسية، فإن آلة القتل الأسدية مستمرة، وكذلك معاناة السوريين؛ فلا البراميل الحارقة توقفت، ولا الحصار والتجويع توقفا، كما لم يسلم الأسد ترسانته الكيماوية.. كل ما يفعله الأسد هو المراوغة ومن ملف إلى آخر. والحق أن المجتمع الدولي، وقبلهم الروس، يشاركون الأسد في هذه المراوغة، والواضح، وكما قيل مرات عدة من قبل، أن الجميع، وليس الأسد وحده، يحاولون شراء الوقت من أجل الوصول إلى موعد استحقاق الانتخابات الرئاسية في سوريا ليبدأ التفاوض الجدي على رحيل الأسد، وليس سقوط النظام، ويبدو أنه حتى الوفد الممثل للأسد يسعون في قرارة أنفسهم لذلك، خصوصا أنهم لا يحملون صلاحيات تذكر، ولكنهم قد يفكرون في ذلك، أي شراء الوقت حتى موعد الانتخابات، لضمان سلامتهم وسلامة عوائلهم، لكن هل انتظار موعد الانتخابات الرئاسية في سوريا عملية مضمونة العواقب؟
الإجابة: بالطبع لا، فمثلما أن الأسد لم يلتزم بتسليم ترسانته الكيماوية بعذر «الأوضاع الأمنية»، فمن المتوقع أن يعلن الأسد في حال جرى الضغط عليه لعدم الترشح في الانتخابات المقبلة، عن تأجيل الانتخابات الرئاسية وبسبب «الأوضاع الأمنية»، وهذا أمر وارد تماما، بل مرجح، وهنا لا يمكن القول بأن الأسد حينها سيكون قد خاطر بإضعاف موقفه أمام حلفائه، فمن يقتل ما يزيد على 130 ألفا من السوريين، لا يكترث بأي حال من الأحوال بالشرعية، أو القوانين، ولا يشعر بالطبع بحرج داخلي أو خارجي، فآخر ما يفكر فيه القاتل هو القانون، وهذا حال الأسد اليوم. ولذا، فإن كل ما يفعله الأسد هو عملية شراء مزيد من الوقت على أمل الانتصار عسكريا، أو التسبب في انهيار الائتلاف السوري على أثر فشل المفاوضات الجارية في جنيف.
ومن هنا، فإن كل ما يحدث في مفاوضات جنيف ما هو إلا مراوغة أسدية، ومفاوضات محكوم عليها بالفشل، مما يقول لنا إن الانتظار الدولي، وحالة اللامبالاة هذه من شأنها أن تقود الأزمة السورية إلى تعقيدات أكثر، فالانتظار إلى الانتخابات الرئاسية السورية المقبلة أمر لا يخطط له النظام الأسدي وحده، بل والروس، وإيران، وحزب الله، ولكل طرف منهم دوافع مختلفة، وأدوات مختلفة كذلك، وقد رأينا، مثلا، كيف أن إيران لم تتوان عن استخدام «القاعدة» في سوريا، مما يعني أن القادم أسوأ بكثير في حال قرر المجتمع الدولي الانتظار حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة، والسكوت عن مراوغات الأسد هذه، فحينها، وكما ذكرنا، هناك إيران، وحزب الله، و«القاعدة»، والأسلحة الكيماوية التي بحوزة الأسد، فهل هناك خطر أكبر من هذا؟!
الشرق الأوسط
أهي مفاوضات حقاً؟/ د. وحيد عبد المجيد
هل يتحول «جنيف-2» إلى ساحة للتفاوض من أجل التفاوض وفقاً للطريقة التي يجيدها النظام السوري؟ وهل هذا هو خيار المجتمع الدولي لإسكات ما بقي فيه من ضمير بعد عجزه عن وقف أكبر مأساة إنسانية في العالم الراهن؟ وإلى أي حد يستطيع المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي إقناع نفسه بما أعلنه تقييماً للجولة الأولى التي انتهت يوم الجمعة قبل الماضي، وهو أن «التقدم بطيء جداً، لكن الجانبين انخرطا بأسلوب مقبول»، وأن ما حدث «بداية يمكن البناء عليها»؟
هذه، وغيرها، أسئلة مثارة لدى كل من يعنيه مصير سوريا وشعبها في الوقت الذي استؤنفت فيه «المفاوضات» ضمن جولة ثانية أمس الأول. فقد انتهت الجولة الأولى بدون أي تقدم في موضوع المؤتمر والقضايا التي يتضمنها، سياسية وإنسانية على حد سواء، الأمر الذي يصعب في ظله فهم حديث الإبراهيمي عن حدوث «تقدم بطيء جداً» ووجود «بداية يمكن البناء عليها».
والأرجح أنه، وغيره ممن يحاولون إقناع أنفسهم والعالم بأن نظام الأسد ذهب إلى مونترو وجنيف للتفاوض، يعوّلون على مجرد جلوس وفد هذا النظام بالقرب من وفد الائتلاف الوطني السوري المعارض في غرفة واحدة. فقد كرر الإبراهيمي مرات كلامه عن أهمية جلوس الوفدين في غرفة واحدة، رغم أنهما تحدثا إلى بعضهما البعض من خلاله وليس بشكل مباشر. وخلص في تقييمه للجولة الأولى إلى أنهما «اعتادا الجلوس قرب بعضهما البعض في غرفة واحدة»، حيث يجلس هو في الوسط بينهما بعد أن يدخل كل منهما من باب مختلف إلى القاعة رقم 16 بمبنى الأمم المتحدة في جنيف.
ومُهم بطبيعة الحال قبول الوفدين أن يجلسا في غرفة واحدة، حتى إذا لم يتبادلا الكلام بشكل مباشر، لما يعنيه ذلك من اعتراف ضمني ببعضهما البعض بخلاف ما حدث مثلا في مفاوضات الهدنة العربية الإسرائيلية عام 1949 حين كانت الوفود تجلس في غرف مختلفة بل في طوابق متباينة ولا تلتقي أبداً.
وليست هناك مبالغة في هذه المقارنة لأن العداء بين النظام السوري والمعارضة الآن لا يقل حدة عن مثله بين العرب وإسرائيل عام 1949، بل يزيد. كما أن عدد ضحايا قمع النظام السوري أكبر بكثير، سواء من حيث القتلى والمصابين أو اللاجئين. هذا فضلا عن أن نظام الأسد ظل ينكر وجود معارضة سياسية ويتهم قادتها وكوادرها بأنهم إما خونة ومأجورون أو إرهابيون وتكفيريون.
لذلك لا يخلو من أهمية جلوس الوفدين في غرفة واحدة، حتى إذا كانت الطاولة التي تشبه حرف «يو» باللغة الإنجليزية، صُممت بطريقة تفصل أكثر مما تصل بينهما. لكن هذا التقدم الإجرائي ليس هدفاً في ذاته، بل وسيلة. فإذا لم تؤد الوسيلة إلى تحقيق تقدم موضوعي أي باتجاه تحقيق الهدف، وهو التوصل إلى حل سياسي للأزمة على أساس بيان «جنيف-1» الصادر في 30 يونيو 2012، تفقد قيمتها وتصير عديمة الجدوى.
لذلك يصبح السؤال المحوري هو: لماذا ذهب وفد النظام السوري إلى جنيف وجلس مع وفد الائتلاف الوطني في غرفة واحدة؟ فالإجابة على هذا السؤال هي التي تحدد مدى وجود أفق لمؤتمر «جنيف-2» من عدمه، وما إذا كان الجلوس على طاولة واحدة في الغرفة نفسها يعني بالضرورة إجراء مفاوضات حتى إذا تبادل الوفدان الحديث مباشرة بعد ذلك وليس عبر الإبراهيمي.
والحال أن المعطيات التي أحاطت الترتيب لعقد «جنيف-2» جعلت مشاركة النظام السوري فيه ضرورية لثلاثة أسباب، ليس من بينها استعداده للتوصل إلى حل سياسي على أساس «جنيف-1». أولها الضغط الذي مارسته روسيا عليه بالتوازي مع استخدام الولايات المتحدة نفوذها على الائتلاف الوطني السوري، في إطار اتجاه الدولتين الكبيرتين إلى إعادة ترتيب التوازن الدولي في منطقة الشرق الأوسط ودور كل منهما فيها. وثانيها محاولة تحسين صورته على المستوى الدولي وتحويل «جنيف-2» إلى منصة يُطلق منها قذائف إعلامية في الوقت الذي تواصلت قذائفه المدفعية والصاروخية وبراميل باروده في مناطق عدة بسوريا. أما السبب الثالث فهو شعوره بالثقة أخيراً نتيجة التغير الذي حدث في ميزان القوى على الأرض لمصلحته منذ منتصف العام الماضي. وقد استغل وفد النظام بالفعل وجود وسائل الإعلام العالمية في مقر المؤتمر لترويج خطابه الذي يصر على تجاهل جوهر الأزمة واختزال الصراع في سوريا وعليها إلى معركة ضد الإرهاب، سعياً لكسب تعاطف الرأي العام الذي تحسب حكومات الدول الغربية حسابه.
وكان واضحاً في تشكيل الوفد السوري الرسمي برئاسة وزير الخارجية أنه ليس وفداً للحوار من أجل حل أزمة داخلية، بل للقيام بحملة علاقات عامة على المستوى الدولي. لذلك بذل قصارى جهده لرفع قضية مواجهة الإرهاب إلى صدارة المشهد رغم أنه جاء –رسمياً– وفق خطاب دعوة يتضمن أن بيان «جنيف-1» بكل مشتملاته (بما فيها تشكيل هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة) هو المرجع الذي يُعقد على أساسه مؤتمر «جنيف-2».
وهكذا ذهب وفد النظام السوري لكسب الوقت وإعطاء انطباع بأنه يتجاوب مع الجهود الدولية إلى أن يحين موعد «الانتخابات» الرئاسية القادمة التي ستبدأ إجراءاتها في مايو المقبل قبل شهرين على انتهاء ولاية الأسد في يوليو. فإذا حل موعد هذا الاستحقاق في غياب تقدم موضوعي باتجاه الاتفاق على تشكيل هيئة حكم انتقالية، ستُجرى انتخابات شكلية محسومة سلفاً في ظل هيمنة أجهزة النظام عليها في محاولة لتجديد شرعيته.
والأرجح أن الوفد السوري سينتهج استراتيجية «تفاوضية» قريبة من تلك التي استخدمها نظيره في مفاوضاته مع إسرائيل عقب مؤتمر مدريد 1991. فقد اعتمد المفاوضون السوريون في تلك المفاوضات على تبديد الوقت عبر إثارة قضايا فرعية وتفريع كل منها إلى عدد من المسائل الأصغر وإغراق الإسرائيليين في فيض من الوثائق الورقية والصوتية التي تتناول تاريخ الصراع العربي الصهيوني في مجمله منذ 1948.
وسيلجأ الوفد السوري في هذا السياق إلى التلاعب بجدول الأعمال والهرب من قضية الحل السياسي إلى المسائل الإنسانية وإقحام موضوع الإرهاب في كل منهما، بينما يواصل النظام غاراته القاتلة التي لم تتوقف طول الجولة الأولى.
وهكذا فرغم استمرار «مشهد» المفاوضات الذي يوحي باهتمام دولي فائق بوضع حد لمأساة الشعب السوري، يبدو أن هذه المأساة مرشحة للاستمرار إلى أجل غير معلوم.
الاتحاد
دم سورية بين «جنيفين» ولبنان تحت المظلة الدولية وأميركا قد لا تهنأ باستقرارها/ سام منسّى *
متابعة ما تعرضه القنوات التلفزيونية من سورية لمشاهد القصف المدفعي، لا سيما إلقاء البراميل المتفجرة وما تخلفه من ضحايا ودمار، والمشاهد التي لا تقل فظاعة للسكان المحاصرين، باتت تشبه إلى حد بعيد ما سبق وعرض ويعرض من صور الحروب في الصومال أو رواندا وغيرها في القارة الأفريقية.
الانطباع الفوري الذي تولده هذه الصور هو أن النموذج الصومالي لم يعد بعيداً عن أن يتكرر في جوارنا. لطالما راهن اللبنانيون، أو على الأقل قسم كبير منهم، على أن لبنان محصن من هذه المآسي بسبب الرعاية الدولية التي لن تسمح بتدهور الأوضاع فيه إلى ما وصلت إليه الجارة سورية، على رغم أن بلادهم كانت مسرحاً لحرب أهلية طاحنة على مدى سنوات ولا تزال كامنة إلى حد كبير. لا بد لهؤلاء من إعادة النظر في شأن ما يعتقد أنه مظلة دولية تحمي لبنان.
ما الذي يدفع إلى تناول هذا الموضوع اليوم؟ الإجابة هي تسارع الانزلاق إلى هاوية الحرب الدائرة في سورية، لا سيما في ظل وتيرة التفجيرات غير المسبوقة في لبنان، حتى مقارنة مع أصعب أيام الحرب الأهلية.
واستعادة مسار الجولة الأولى من مؤتمر جنيف 2 تبرر هذه الصورة السوداوية عن مسار الحرب في سورية من جهة، ومخاطر انتقالها إلى لبنان من جهة أخرى والتي تهدد مقولة المظلة التي تحمي لبنان من الوصول إلى ما وصلت إليه سورية.
افضل من توقع فشل جولة جنيف كان وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في مستهل كلمته أمام المؤتمر عندما طلب من الأمين العام قبل إلقاء كلمته المقررة أن يطلب من وفد النظام السوري الموافقة على الهيئة الانتقالية بعد إعلان المعارضة بلسان رئيس الائتلاف أحمد الجربا موافقته عليها.
الأمير سعود كرر الطلب من الأمين العام وعندما لم يرد لا سلباً ولا إيجاباً قال له الوزير الفيصل: «دعني أقرأ ورقتي»، ناعياً المؤتمر ونتائجه ودور الأمم المتحدة وفاضحاً العجز الأممي وأداء المنظمة الدولية أمام المأساة السورية. كما غمز من قناة الدول الغربية بحيث أنهم أيضاً متغافلون أو متواطئون أمام هول هذه المأساة.
وباعتراف مساعد الأمين العام جيفري فيلتمان الصريح كما الأخضر الإبراهيمي المضمر بأن المؤتمر فشل حتى في تأمين مساعدات إنسانية عاجلة للسوريين المحاصرين، وهذا أقل ما يمكن توقعه من مؤتمر يسعى إلى حل أزمة بهذا المستوى من الخطورة. كيف إذاً لو توقعنا من هذا المؤتمر السعي إلى وقف إطلاق النار حتى تتمكن الأطراف من التفاوض بشكل بناء؟
الجولة الأولى من المؤتمر تستدعي أكثر من ملاحظة. الأولى أنها أتاحت مساحة لحفلة علاقات عامة أفاد منها النظام أمنتها له أكثر من جهة لا سيما الغربية منها، وسمحت له بالظهور على الشاشات (سي أن أن وسكاي و بي بي سي وغيرها) عشرات المرات ليطل على الغرب بلغة لم تعد مستعملة إلا في كوريا الشمالية. حتى كوبا والصين تخلتا عن مقولاته ومفرداته وأسلوبه في الخطابة.
الملاحظة الثانية هي تجاهل غريب، يعجز المراقب أن يجد له تفسيراً، للوثائق التي ظهّرت التعذيب والجرائم المرتكبة في سجون النظام والتي وحتى لو بالغت في تضخيم الأرقام، تبقى إعدادها بالآلاف والصور تحاكي مجازر بول بوت في كمبوديا ومعتقلات ألمانيا النازية.
اللافت أيضاً أن كلاً من الدول الغربية والنظام يلتقيان على خطر الإرهاب والإرهابيين. النظام يسعى إلى بعث ما سبق له واتقنه، أعني تسويق وظيفته القديمة – الجديدة للغرب أنه يكافح الإرهاب والتشدد الديني الجهادي في الوقت الذي يعرف الغرب بعامة وواشنطن بخاصة، دور سورية منذ أكثر من أربعين سنة في رعاية تفريخ منظمات إرهابية تحت مسميات وطنية تارة وجهادية أطواراً أخرى عانت من ويلاتها أميركا إبان وجودها في العراق منذ 2003 وحتى انسحابها منه كما عانت منها المنطقة بعامة ولبنان بخاصة زمن الهيمنة السورية، جراء مسلسل الخطف والاغتيالات وحجز الرهائن، بحيث أن وصف إرهاب الدولة هو الأكثر التصاقاً وتعبيراً عن هذه الممارسات.
الملاحظة الثالثة التي ظهّرتها الجولة الأولى هي إصرار الدول التي لا تعترف بشرعية نظام الأسد على التفاوض معه. غالبية الدول الأربعين المشاركة في جنيف 2 تعلن أن لا شرعية للنظام وتدعوه منذ سنتين على الأقل للرحيل، وفي الوقت ذاته تبقيه إلى طاولة التفاوض وتصر عليه أن يتعاون في تسليم السلاح الكيماوي الذي يبدو أنه يخل بالاتفاق في شأنه ولم يدمر منه بحسب التقارير إلا خمسة في المئة.
في هذا السياق، ينبغي التذكير أن النظام سبق أن كشف أن استخبارات دول غربية أجرت اتصالات معه، وأعلن الوزير المعلم أن واشنطن طلبت لقاء مسؤولين في النظام ما لبثت أن كذبته، بما يؤكده، وذكرت أنها سعت للتواصل مع موظفين! السؤال الذي يبعث على الحيرة، ما هدف واشنطن من التواصل مع النظام الذي وبحسب تصريحات المسؤولين الأميركيين ينبغي أن يرحل وفاقد للشرعية؟
الملاحظة الرابعة هي التغاضي التام والصمت المطبق عن نظام يقصف شعبه منذ أشهر بالبراميل المتفجرة ولا من يحرك ساكناً.
الملاحظة الخامسة وهي بمثابة أحجية مضمون جنيف 1. ما هي حقيقة الموقف الروسي من مضمون آلية السلطة الانتقالية وما تفسير واشنطن لها؟ هل هما على تفاهم أم على تباين؟ لا سيما عندما يعلن وزير الخارجية الأميركي جون كيري في تصريح من بورصة التصريحات المتناقضة والمبهمة التي يدلي بها أن لا مكان للأسد في السلطة الانتقالية.
جراء استعراض مشاهد الجولة الأولى من جنيف 2 ما المنتظر من الجولة الثانية إذا لم تغير واشنطن أداءها إزاء الحرب في سورية؟
طبعاً، القارئ يسأل: هل جنيف 2 يتوقف على واشنطن وحدها؟ وهل يمكن البناء على التغيير في الخطاب الأميركي تجاه سورية في الأيام الأخيرة لا سيما تصريحات الوزير كيري إبان مؤتمر الأمن في ميونيخ وبعده؟
الإجابة على هذه التساؤلات ينبغي أن تأتي من واشنطن. إنما قد يصيب المراقب إذا اعتبر أن التغيير المنشود في مواقف واشنطن يصعب تحقيقه قبل تلمّس نتائج المفاوضات مع إيران حول ملفها النووي، حيث يظهر أن أمامه عقبات كثيرة لسنا هنا بصدد مقاربتها.
وإذا أخذنا جرعة تفاؤل نادرة في سياسات منطقة الشرق الأوسط وسارت المفاوضات نحو تفاهمات أو تسويات دائمة بعد ستة أشهر أو سنة أو أكثر، هل تغضب واشنطن طهران وتستفزها في الساحة السورية خلال هذه الفترة؟
تصعب الإجابة بنعم، بل المرجح استمرار النزيف السوري جراء أولوية الملف النووي في سياسة واشنطن. لماذا؟ لأنه من الصعب بل المستحيل تعويم النظام وإعادة تطبيع علاقاته مع دول العالم إذا تمكن من هزيمة المعارضة. كما في الوقت نفسه يصعب على المعارضة أن تسقط النظام إذا استمرت وتيرة التسليح على ما هي عليه على رغم الكلام الأميركي في شأن تسليح المعارضة المعتدلة.
تبقى قضية تمدد الحركات المتشددة في سورية وخارج الحدود وما سوف تسفر عنه من تداعيات تتجاوز التوقعات، لا سيما اثر هذا التمدد على مستقبل التسوية العتيدة للأزمة السورية إضافة إلى الآثار الاجتماعية على المجتمع السوري نتيجة حجم وطبيعة العنف الذي يعيشه، سواء من ممارسات النظام أو هذه المنظمات.
أصبح تكرار أهمية الدور الأميركي في تسوية النزاع في سورية ممجوجاً ومملاً، إنما للأسف هو النافذة الوحيدة القادرة على إعادة الأمور إلى نصابها من خلال إصرار واشنطن الواضح والفعال على تشكيل سلطة انتقالية ذات صلاحيات كاملة من جهة، ومعالجة دولية متوازية لوجود المنظمات المتشددة على الساحة السورية من جهة أخرى.
واشنطن قادرة إذا ما تخلت عن سياسة ازدواجية المعايير والتي عبر عنها الرئيس الأميركي أوباما بتعابير القانوني البارع بقوله إن واشنطن تقارب تداعيات «الربيع العربي» وبالتالي أزمات المنطقة كل أزمة أو مشكلة على حدة!
هذه السياسة، التي سمحت للرئيس الأميركي وإدارته بالهرب من المواجهة حتى في السياسة. المواجهة المطلوبة من الدولة الأقوى في العالم.
لا أحد يستطيع إلا أن يعترف أن أميركا هي الأكثر استقراراً في هذه المرحلة وعلى أكثر من صعيد، أمنياً وسياسياً واقتصادياً، مقارنة بالاتحاد الأوروبي والصين ولا سيما روسيا، التي تعاني وعلى عكس الولايات المتحدة من مشاكل عدة اقتصادية واجتماعية، مضافاً إليها اليوم الأزمة السياسية الحادة لدى الجار الأقرب والأكثر أهمية أوكرانيا.
سياسة الهروب التي يعتمدها الرئيس الأميركي قد تكون ناجحة في المدى القصير إنما عاجلاً أم آجلاً سوف يترتب عليها ديون يجب تسديدها في المستقبل بكلفة أكبر مما لو بادرت واشنطن إلى مواجهتها وتسديدها اليوم.
* إعلامي لبناني
الحياة
الصيغة واضحة: «وقف القتال» يستلزم “حكومة انتقالية”/ عبدالوهاب بدرخان *
لا يريد النظام السوري إعطاء أي رصيد لمفاوضات جنيف، فعندما لاح في الجولة الأولى ما يوحي بأن «اتفاقاً» حصل على إجلاء المدنيين من حمص وإدخال المساعدات الإغاثية اليها، أبدى ليلاً موافقته وفي الصباح أحبط العملية. ثم عاد بعد أيام فوافق لكن على طريقته، أي باتفاق بين محافظ المدينة وممثلي الأمم المتحدة، وعندما بدأ التنفيذ بادر «شبيحة» ما تسمّى بـ «لجان الدفاع الشعبي» الى خرق الهدنة والقصف على قافلة المساعدات. كان ذلك تحذيراً للأطراف الدولية بشأن نمط التعامل الذي يجب أن تتوقعه، ما لم يكن هناك ضغط على المعارضة كي تتعامل مباشرة مع النظام وبشروطه. وفي أماكن عدة كداريا والمعضمية وبرزة وحرستا واليرموك تعمّدت شروط تخفيف الحصار اذلال المواطنين، وفي احدى الحالات جرت تصفية المدنيين الذين خرجوا من المعضمية. وحتى بالنسبة الى حمص بلغت سياسة التجويع حدّ التساؤل لمَن المساعدات اذا كان المدنيون سيغادرون، فيما يكثر الحديث الآن عن هجوم شديد على حمص، بعد الجولة الثانية من التفاوض، طالما أن من بقي فيها هم المقاتلون.
ولماذا التصعيد؟ أولاً، للضغط على المفاوضات نفسها، بالأحرى على وفد المعارضة لحمله على مغادرة جنيف. ثانياً، لأن هذا هو منهج التفاوض الذي تبنّاه النظام. وثالثاً، لأنه عازم على استكمال خطط الحسم العسكري بالاعتماد على الايرانيين و «حزب الله» و «داعش» والميليشيات العراقية، فيتابع التقدّم في جبال القلمون وصولاً الى حمص، ويشنّ هجمات كبيرة في الغوطتين، ومثلها في جبهة حلب التي يريد أن يستعيدها اذ يعتقد أنها باتت هشّة وأن إمطارها بالبراميل المتفجّرة أنهك دفاعاتها. في الأيام الأخيرة كان المقاتلون داخل حلب يتلقون قصفاً من مدافع قوات النظام جنوبي المدينة بالتزامن مع قصف من مدافع «داعش» شماليّها، فيما كانت المروحيّات ترمي براميلها. أكثر من 2500 قتيل منذ عشية افتتاح «جنيف 2» والمفاوضات لم تهتدِ الى نقطة عملية تبدأ منها، على رغم أن البداية الطبيعية والمنطقية أن يُصار الى إلزام الطرفين بحدٍّ أدنى من التهدئة، تعزيزاً للمفاوضات. ولا يحتاج النظام الى ذرائع للتصعيد، فهو يكرر معزوفة «ضرورة أن توقف الدول دعمها للمجموعات الارهابية»، وهو هنا لا يقصد «داعش» بل مقاتلي المعارضة. أما الدعم الايراني – الروسي – العراقي الذي يتلقّاه فيبرره بأنه دعمٌ لـ «الدولة» التي لا يزال يمثّلها. لكن أي دولة هذه التي تستخدم ترسانتها وتستقدم المزيد لتدمير مدنها، وأي نظام هذا الذي يعتقد أنه يستطيع الاستمرار مع كل هذا التقتيل والتدمير والتهجير؟
قبيل الجولة الثانية من المفاوضات، لبّى رئيس «الائتلاف» أخيراً هذه الزيارة المرتقبة لموسكو. ولم يُعرف لماذا وجّه سيرغي لافروف دعوته الى أحمد الجربا اذا كان يريد أن يُسمعه المزيد من الشيء الروسي نفسه، المتكرر منذ ثلاثة أعوام، حتى أنه لم يبدِ أي اهتمام بالجانب الانساني للمأساة السورية طالما أنه لا يستطيع أن يطرح أفكاراً جديدة متقدمة لإنهاء الأزمة. وصف أحد أعضاء وفد المعارضة ما سمعه من كلام لافروف بأنه كان «أسوأ من خطاب وليد المعلم (في افتتاح المؤتمر في مونترو)». وقال آخر كان شارك في زيارة سابقة لموسكو، أيام «المجلس الوطني»، أنه لم يتوقّع تغييراً في الموقف الروسي، لكنه اعتقد أن بدء المفاوضات مناسبة لكلام روسي أكثر اتزاناً وتطلّعاً الى المستقبل، فإذا بالمعارضة أمام الجدار المغلق ذاته وقد ضاعف إمعانه في الانحياز الى نظام بشار الاسد.
افتتحت الجولة الثانية من المفاوضات على جدول أعمال من أربع نقاط اقترحها الوسيط الاخضر الابراهيمي واستمدّها من بيان «جنيف 1». وللوهلة الأولى شعرت المعارضة بأن روسيا استطاعت الضغط لتغيير الأجندة، خصوصاً أن أولى النقاط صار «وقف القتال» وليس «تشكيل هيئة حكم انتقالي» التي تليها. لكن شروح الابراهيمي أكدت تلازم المسألتين، وأن مستقبل العملية السياسية يتوقف على اعلان واضح منذ البداية بأن لدى الطرفين ارادة سياسية كاملة وقوية للتعامل مع هاتين القضيتين. وتعاملت المعارضة مع هذا التغيير ببراغماتية متمسكة بضرورة نقل السلطة في مختلف الأحوال، فيما واصل النظام إصراره على حصر البحث بـ «محاربة الارهاب». ولذلك دافعٌ معروف، اذ يدرك النظام أن وضع ملف «وقف القتال» أو «وقف العنف» على الطاولة سيدخل المفاوضات في متاهة بالغة التعقيد لا يمكن التوصل فيها الى نتائج حقيقية، خصوصاً أنه صاحب خبرة مزمنة في الالتفاف على قرارات وقف النار، لكن الهدف من إصراره عليه هو تجنّب أي بحث تحت عنوان «حكم انتقالي» كونه يشكّل بداية اعتراف بإنهاء حكم الاسد. وكانت تجارب سابقة لـ «وقف العنف» فشلت بسبب عدم استعداد النظام وعدم قدرته على تقديم تنازلات سياسية. فتلك كانت العقدة التي اصطدمت بها المبادرة العربية (2011) ومحاولة كوفي انان (2012)، وها هي تعود الى الظهور في جنيف، ولتعيد كل تفاوض الى نقطة الصفر.
هنا تقفز التفاهمات الاميركية – الروسية الى الأذهان، وإحدى وظائف مفاوضات جنيف توضيح معالم الاتفاق والاختلاف بين الدولتين الكبريين. ذاك أن ثمة اقتناعاً دولياً بالحاجة الى «كيان سياسي – عسكري» مشترك بين النظام والمعارضة ليتولّى الإشراف على ترتيبات «وقف العنف»، وما يجب أن يواكبها من اجراءات للبناء على نتائجها. لا يبدو أن تفاهمات راعيي مؤتمر جنيف بلغت حسم هذا الخيار بعد، وليس مؤكداً أنهما سيبتّان الأمر طوعاً حتى لو شعرا بأن المفاوضات متعثّرة وتحتاج الى معطى جديد لاستنهاض حيويتها. الأرجح أنهما متفقان على الشكل وليس على التفاصيل، فموسكو لا تزال ترى دوراً رئيساً للنظام ولا تتصوّر نجاح أي حل لا يتولّى قيادته، وواشنطن منفتحة على أي صيغة مرنة بالنسبة الى الاسد، لكن ليس أبعد من نهاية ولايته.
لكن نقطة الضعف في التصوّر الروسي أنه يوافق علناً على مبدأ «نقل السلطة» وهو يعرف أن النظام يرفضه رفضاً قاطعاً، كما أنه يشير باستمرار الى الارهاب ومخاطره، إلا أنه يتجاهل الوقائع والحقائق التي تظهر علاقة وثيقة بين تنظيم «داعش» والنظامين السوري والايراني.
من مؤشرات القلق على مصير مفاوضات جنيف أن الدول الغربية تحاول العودة الى اختبار روسيا والضغط عليها، من خلال مشروع قرار لمجلس الأمن بإلزام النظام بإدخال المساعدات الانسانية. اذ إن تجارب حمص ومناطق اخرى نقضت توافقاً ضمنياً على أن يكون الانفراج الإغاثي من اجراءات بناء الثقة بين الطرفين المتفاوضين، وكانت روسيا أيدت هذه الخطوة محبّذةً إبقاءها في اطار التفاوض، غير أن فشلها فرض العودة الى مجلس الأمن. لا شيء يمنع الروس من استخدام «الفيتو» مجدداً لأن تمرير أي قرار، ولو لدوافع انسانية، قد يجرّ الى قرارات اخرى. لم تتأكّد الدول المعنية بعد من أن التمييز بين موقفي روسيا والنظام السوري ليس واقعياً.
في نهاية الجولة الثانية للتفاوض تلوح الضرورة لتدخل الراعيين الاميركي والروسي، فالابراهيمي اتخذ خطوة بحصر نقاط البحث، ومن بينها أيضاً نقطتا «ادارة استمرار مؤسسات الدولة» و «الحوار الوطني والمصالحة»، وبعد عرض خلاصاته على الدولتين سيتعيّن عليهما تحديد خطواتهما اللاحقة حيال طرفي التفاوض. لكن من شأنهما أيضاً الإقرار بما اذا كانت «تفاهماتهما» فاعلة أم تتطلّب اشراك أطراف اخرى. فمن جهة، لا يمكن أن يصبح هدف «وقف القتال» جدياً إلا بوجود إلزام دولي وبتشكيل قوات للفصل والمراقبة، ومن جهة اخرى لا بدّ للقوى الدولية من أن تبلور «صفقة» عملية لتقاسم السلطة وتطرحها على الطرفين. هذا يفترض اقتناعاً روسياً بأن اللعبة شارفت على نهايتها، لكن موسكو تراهن، مثلها مثل النظام.
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة
مسدس الجعفري في رأس الابرهيمي/ راجح الخوري
“لا استطيع ان افرض على اشخاص أجندة لا يريدونها. كيف يمكن ان توجه مسدساً الى رؤوسهم؟ هذا بلدهم ومسؤوليتهم كبيرة”. هذا ما قاله الاخضر الابرهيمي في ما بدا انهياراً نهائياً لمؤتمر جنيف ونهاية مذلّة لمهمته المستحيلة.
جاء ذلك بعدما وضع بشار الجعفري مسدساً في رأس الابرهيمي، لأنه اقترح مخرجاً لتفعيل المفاوضات بأن تبدأ بمناقشة موضوع “الارهاب” كما يصرّ وفد النظام، بالتوازي مع موضوع “الانتقال السياسي” كما يصرّ وفد المعارضة، وخصوصاً ان دعوة بان كي – مون الى المؤتمر نصت صراحة على محورية “الانتقال السياسي”!
اجتماع الابرهيمي غداً مع ويندي شيرمان وغينادي غاتيلوف لن يقدم او يؤخر لأن موسكو لا ترفض البحث في الانتقال السياسي فحسب، بل تعارض حتى ان ينظر مجلس الامن في الممرات الانسانية، وهو ما يبقيها راعية امينة للمذبحة، ولأن واشنطن تكتفي بمراقبة تخبط الروس في الوحول الدموية السورية، ولا تجد مبرراً حتى لمحاسبة النظام على الاخلال بروزنامة تسليم الكيميائي!
واذا كان الابرهيمي أتحفنا بالقول ان لديه اطناناً من الصبر، فليس لدى الشعب السوري المذبوح اي ذرة اضافية من الصبر تحت سماء تمطره بالبراميل المتفجرة، ولهذا عندما يتوجه الى الامم المتحدة ليرفع تقريره سواء الى بان كي – مون او الى مجلس الامن، عليه ان يكون صريحاً واميناً في وصف ما يراه العالم بالعين المجردة، منذ افتتح وليد المعلم المفاوضات بترهيب المستر بان، الى اصطدامه مع الجعفري الذي اتهمه بالانحياز لأنه حاول انتشال المفاوضات باقتراح التوازي بين البحث في الارهاب والانتقال السياسي.
اصرار وفد النظام على التراتبية في مناقشة بيان “جنيف 1″، تحول تزويراً فظاً لمحتواه، فالبند الاول ينص حرفياً: “يجب على جميع الاطراف ان تلتزم مجدداً بوقف دائم للعنف المسلح بكل اشكاله وبتنفيذ خطة النقاط الست فوراً وبدون انتظار اجراءات من الاطراف الاخرى…”، لكن وفد النظام الذي دمّر سوريا وقتل ما يقرب من مئتي الف وشرّد الملايين، يتجاهل واجبه في وقف هذا العنف ويريد ان تبدأ المعارضة بالأمر، مستخدماً كلمة “الارهاب” بدلاً من “العنف” في محاولة واضحة للايحاء بان ليس في سوريا معارضة بل هناك ارهاب وارهابيون، فقد كان من المضحك المبكي ان يقول الجعفري بعد فيصل المقداد ان وفد الائتلاف يرفض مناقشة موضوع الارهاب!
ليس على الابرهيمي الاكتفاء بالبكاء على كتفي بان كي – مون، قبل ان ينضم الى جوقة الفاشلين المصدومين وآخرهم كوفي انان، بل عليه ان يقول كلاماً اميناً وصادقاً عن النظام، الذي لا يكتفي بقتل شعبه بل يقتل كل محاولة لوقف القتل وبرعاية بغيضة من الروس، تريح الاميركيين الراقصين على قبور السوريين!
النهار
أطنان الإبراهيمي… صبراً/ زهير قصيباتي
لا يبالغ الأخضر الإبراهيمي إذا قال انه قادر على التعايش مع «جنيف50» أو «جنيف 60» من جولات التفاوض بين السلطة السورية و «الائتلاف الوطني». فالمبعوث الدولي- العربي يُطمْئِن الأميركيين والروس إلى أنه هيّأ نفسه لمهمة طويلة، ولن يخيِّب أملهم بمنع امتداد الحريق السوري الهائل إلى خرائط تترنح على وقع مواجهات صاخبة.
صبر الإبراهيمي بـ «الأطنان»، كأطنان الترسانة الكيماوية التي حاول النظام السوري التلكؤ في تسليمها، لعل مجريات الحرب تتبدّل، فيحتفظ ببعض غاز الخردل أو السارين، ليحمي نفسه بعد إخماد الثورة… ويناور مع الغرب مجدداً بورقة الجبهة الهادئة مع إسرائيل. صبر النظام أيضاً حبلُهُ طويل ولو التفَّ على أعناق آلافٍ آخرين، فيما يظن أن ورقة التنظيمات والفصائل «الإرهابية» العابرة للحدود، ستبقى رابحة حتى الفصل الأخير، والرهان لديه هو على نفاد صبر الغرب، إذا سجّلت دمشق انتصاراً «كاسحاً» على المعارضين.
عملياً، يمشي مؤتمر «جنيف2» بلا قدمين، كسيحاً حوّله صخب النظام الى ميدان ملاكمة، لمجرد كسره «الحصار السياسي والإعلامي». وفده ووفد المعارضة، كلٌّ يغنّي على ليلاه، فيتدرّب الإبراهيمي على مزيد من الصبر، ويواصل النظام التدرُّب على مزيد من الخراب واستئصال السوريين بالبراميل المتفجّرة. وهل مصادفة أن تتساقط البراميل مع بدء كل جولة «إعلامية» في جنيف، وتتدرّج عنفاً وإبادة حتى ختامها؟
يمشي «جنيف2» كسيحاً، لم يباغت النظام بالتحرك في مجلس الأمن لإصدار قرار في شأن تسهيل تَلقّي المحاصَرين في سورية إغاثة تقيهم الموت جوعاً إن لم تُبِدْهُم البراميل والصواريخ. فمشروع القرار الجديد فرصة أخرى لاختبار صمود الروس في جبهة «الممانعة»، وعدم تخلّيهم عن تقديم مظلة حماية لتمديد عمر النظام السوري، على الأقل حتى موعد انتخابات الرئاسة في الصيف. ولا شيء لديهم يستدعي الخجل من ورقة «الفيتو» ولو للمرة الرابعة، بذريعة الفخ الذي ينصبه الغرب في مشروع القرار، ليبرر به لاحقاً تدخّلاً عسكرياً.
وأما الرهان على المؤتمر الوزاري الروسي- الخليجي المرتقب في الكويت، وإمكانات تبديله حسابات الكرملين وحضانته نظاماً بلا شعب يحيك الأساطير دفاعاً عن أمن الشرق والغرب من أَكَلَة الأكباد والقلوب… ذاك الرهان أقرب إلى تمنّيات ما زالت موسكو تثبت أنها من المحظورات في سياسة استعادة هيبتها العالمية.
ولا يُقلق روسيا بالطبع توافق الشراكة الأميركية- الفرنسية المتجددة، إذ لا يتعدى خط الحل السياسي، فيما تلتزم واشنطن خفض الضجيج حول «لا شرعية» بقاء النظام السوري، أو استحالة اعتبار الرئيس بشار الأسد شريكاً في الحل أو جزءاً منه. وقد يكون الطارئ في احتفالية قمة الرئيسين الأميركي باراك أوباما والفرنسي فرنسوا هولاند، الإطلالة من ميدان الحرب السورية وبوابة «جنيف2» على نافذة لبنان الذي يخشى هولاند انزلاقه الى حرب أهلية، تحت وطأة شظايا القتال وراء الحدود.
جنيف أبعد بكثير من إشكالية البيضة والدجاجة، وأيهما أولاً، «حل وطني» لمكافحة «الإرهاب» في سورية أم تشكيل هيئة الحكم الانتقالية، أم توازيهما على مسار الإبراهيمي؟ فلا معارضة بلا ثورة، ولا ثورة في مفهوم النظام بل «إرهاب». قد يكون صحيحاً أن تفاؤل المبعوث الدولي- العربي بصبره، بالأطنان، ولكن أي تدخل يطلبه من الروس والأميركيين اليوم يقوى على إقناع وفد الحكومة السورية بتبديل أولويات أعلن مسبقاً أنها خط أحمر؟
صحيح كذلك ان مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية جيمس كلابر لم يخطئ بوصفه الحرب في سورية بأنها كارثة، لكنه يُدهِش السوريين جميعاً، خصوصاً المحاصَرين تحت وابل البراميل السود وأمام هول المجاعة «الوطنية»، إذ يستنتج أن من مفاعيل الكارثة «شراً مستطيراً»! فأي شرور أقسى من إبادة تحت الخراب، وإذلال المحاصَرين ليكفّروا كل المعارضة، ويكفروا بالتغيير؟
على المسار الأميركي ذاته، يجتهد كلابر الذي أحصى 150 جماعة مسلحة تقاتل في سورية، و7500 مقاتل أجنبي من 50 بلداً، بعضهم حتماً ينتمي الى «القاعدة»، ولا بد أن يفكّر بضرب أميركا وأوروبا. فالأولوية إذاً منع هذه الضربة، ولو اقتضى ذلك تبديل أولويات المعارضة، خطوة خطوة.
وأما تلويحها بوقف التفاوض، فدونه الضغوط الأميركية- الأوروبية، لذلك لا بد من جنيف مهما طال صبر الإبراهيمي، بالأطنان، كأطنان براميل الإبادة.
الحيياة
سوريا: من أزمة إقليمية ودولية إلى عملية تفاوضية/ د. بشير موسى نافع
انتهت جولة التفاوض الأولى بين وفد نظام دمشق ووفد قوى المعارضة والثورة السورية بلا نتائج تذكر على المستوى السياسي، ونتائج متواضعة على المستوى الإنساني. في بيانه للرأي العام، لم يخف عراب مباحثات جنيف 2 وأكثر الدبلوماسيين الدوليين حماسة لها، الأخضر الإبراهيمي، ضآلة النتائج، مؤكداً على أن مجرد جلوس الطرفين إلى مائدة تفاوض واحدة كان إنجازاً لا يستهان به.
على الأرض، يواصل النظام قصفه البربري للمناطق التي يسيطر عليها الثوار، موقعاً خسائر فادحة بالمدنيين من مواطني شعبه، ويستمر نزيف اللاجئين السوريين إلى دول الجوار. على الساحة الدولية، ثمة شعور مبالغ فيه بالإنجاز، بعد أن نجحت الضغوط الروسية والامريكية في إطلاق المفاوضات بين الطرفين. الخطر الآن، يتعلق باحتمال أن يغرق الإئتلاف الوطني السوري، الجهة الرئيسية الممثلة للمعارضة والثورة السورية، في مناخ تفاوض لا نهاية له، وينسى واجباته الأولية والأساسية في قيادة الشعب وثورته، وتوفير المقدرات الضرورية لاستمرار الثورة وصمود الشعب. أما الخطر الأكبر، وقد انطلقت جولة المفاوضات الثانية، أن تصبح ‘العملية’، عملية التفاوض، بديلاً عن مواجهة العرب، والمسلمين، والعالم، لمسؤولياتهم، ووضع نهاية للمأساة السورية اليومية.
لم يكن التصميم الامريكي الروسي على عقد جنيف 2 غريباً أو استثنائياً. كلا الدولتين الكبريين وجدا منذ اتفاق جنيف 1 بين لافروف والسيدة كلينتون في صيف 2012 أن الثورة السورية وضعتهما في مأزق، وأن عليهما إيجاد مخرج ما من هذا المأزق.
وقفت روسيا من البداية إلى جانب نظام الأسد، آخر حلفاء موسكو الخلص في المشرق العربي، والذي وفر لها قاعدة بحرية على المتوسط، أحيت شعور الدولة العظمى وقدرتها على التواجد في البحار الدافئة.
ولكن وقوف روسيا إلى جانب الأسد، ساهم في تشويه صورة روسيا في العالم العربي، سيما في أعين الشعوب العربية، التي لم تبتلع إطروحة المؤامرة الغربية على سورية، ولا اقتنعت بروايات دمشق المبكرة حول التطرف الإسلامي.
في الشارع العربي، كما في الأوساط الروسية الليبرالية، بل وحتى في بعض دوائر صنع القرار الروسي، لم يكن ثمة خلاف حول أن الثورة السورية جزء لا يتجزأ من حركة تحرر عربية من الاستبداد والفساد والقمع. ولكن الحرج الروسي لم يولد من حجم العنف وسياسات القمع البربري التي اعتمدها النظام، فإدارة بوتين لم تتورع عن اتباع السياسات والوسائل نفسها في الشيشان. جاء الحرج من عجز النظام السوري عن حسم المعركة سريعاً وإخماد حركة الشعب وثورته. وللتخلص من هذا الحرج، تبنت موسكو مقولة عدم الحرص على شخص الأسد، بل على الشعب السوري، وأنها تسعى لانتقال شرعي وقانوني للحكم، وليس الحفاظ على النظام. وهذا، بالطبع، ليس صحيحاً، ولا معبراً عن حقيقة السياسة الروسية، ولم يكن صحيحاً ولا معبراً في أي وقت مضى من سنوات الثورة السورية الثلاث. اتفاق جنيف الأول، ثم التوكيد عليه في موسكو العام الماضي، خلال لقاء كيري – لافروف، مثل مخرجاً مناسباً للحرج الروسي، بل ومخرجاً مثالياً وأخلاقياً. كيف لا وهو الداعي إلى تسوية سياسية بين أطراف الصراع، من خلال تفاوض مباشر بينها.
الولايات المتحدة كانت هي أيضاً في حرج. والحقيقة، وبالرغم من ردود فعل حلفاء واشنطن العرب الغاضبة من الموقف الامريكي في سوريا، فإن مقاربة إدارة أوباما لم تتغير بأي صورة ملموسة منذ اندلاع الثورة في آذار/ مارس 2011. بخلاف التدخل الامريكي الخجول والمتردد في ليبيا، أوضحت واشنطن أن ليس في نيتها التدخل بصورة فعالة في سوريا، حتى بعد أن خرج مئات الألوف من السوريين يطالبون بالتدخل الدولي. وبتصاعد معدلات القمع الذي مارسته قوات النظام ضد الشعب، وتحول الثورة تدريجياً إلى مقاومة مسلحة للنظام وأجهزته، ومن ثم تزايد الأدلة على تدخلات إيرانية ومن قوات حزب الله، لم تظهر في وشنطن أية مؤشرات على لعب دور مباشر في الأزمة. لم يعارض الامريكيون الدور الذي أخذت تركيا والسعودية وقطر في لعبه منذ ربيع 2012، ولكنها ضغطت بقوة من أجل أن لا يتسلم الثوار السوريون سلاحاً نوعياً أو بكميات كبيرة، بحجة وجود جماعات إرهابية وذات ارتباط بالقاعدة في معسكر الثوار. ولكن واشنطن، أيضاً، كانت تستشعر الحرج. أولاً، لأن الثورة السورية سرعان ما تطورت إلى نوع من الأزمة الإقليمية والدولية؛ وثانياً، لحجم المأساة الإنسانية التي ترتبت على سياسات القمع الوحشي والعقاب الجماعي التي تبنتها قوات النظام وأجهزته؛ وثالثاً، لأن الأحداث أخذت في تجاوز المحاذير التي أعلنها الرئيس الامريكي وإدارته، الواحد منها تلو الآخر. في جنيف 1، كما في إعلان موسكو بعد ذلك بعام، وجدت الولايات المتحدة وسيلة لتقول للعالم ولحلفائها أنها تقوم بشيء ما، وأنها تعمل بالفعل لانتقال الحكم في سورية من خلال التفاوض، لا الحرب، التي لم تتصور واشنطن يوماً أن تكون طرفاً فيها.
في الواقع، لا الإئتلاف الوطني السوري ولا القوى الإقليمية الرئيسية، ولا حتى النظام في دمشق، كان متحمساً لمباحثات جنيف. انتابت الإئتلاف الوطني الشكوك في مصداقية الراعيين الدوليين للمباحثات، وجدية إدارة أوباما، في العمل على انتقال فعلي وكامل للسلطة في سورية. في لحظات ما، سيما بعد توقيع اتفاق جنيف بين إيران ومجموعة 5 + 1 حول الملف النووي الإيراني، سادت في أوساط الإئتلاف الوطني قناعة بأن مباحثات جنيف ليست سوى محاولة لإيجاد تسوية، تبقي النظام في موقعه، وتخلص القوى الكبرى وما يعرف بالمجتمع الدولي من الشعور بالذنب وتأنيب الضمير. النظام، من جهته، لم يكن أقل خشية. فبالرغم من الدعم الروسي المستمر، وبلا انقطاع، منذ اندلاع الثورة، خشيت أوساط النظام من صفقة روسية – أمريكية، تضعه في مأزق حقيقي أثناء المباحثات، وتجبره على الاختيار بين الموافقة على التخلي عن الحكم والسلطة أو الظهور بمظهر من يعصف بالإجماع الدولي. وبالرغم من أن إيران، حليف النظام اللصيق، شاركت دمشق المخاوف ذاتها؛ كانت لإيران أسبابها الخاصة في عدم الحماس لجنيف، بعد أن اعترضت أغلب الدول العربية المعنية، وعدد من الدول الغربية، على وجودها على طاولة المفوضات. من جهة أخرى، أيدت تركيا والسعودية وقطر مشروع المباحثات، لرغبتها في عدم الظهور بمظهر من يعرقل الجهود الدولية للتوصل إلى تسوية بين أطراف الصراع، ولكن أياً منها لم يعلق آمالاً كبيرة على جنيف، ليس فقط لادراكها بأن موقف النظام وحلفائه في روسيا وإيران لم يتغير قيد أنملة، بل أيضاً لليأس المتزايد من جدية الموقف الامريكي.
بكلمة أخرى، ما جعل مباحثات جنيف ممكنة كان عجز الأطراف كافة عن إيجاد بديل، وليس الإيمان الحقيقي بأن المباحثات هي النهج الأفضل لإيجاد حل لأزمة الصراع المتفاقمة على سوريا، والمأساة الإنسانية التي ولدت من هذا الصراع.
باتساع نطاق المواجهة المسلحة ورفض قطاعات متزايدة من الشعب، لم يعد النظام قادراً على كسب الحرب، حتى مع الدعم الهائل الذي تلقاه من حلفائه في إيران وحزب الله. ولكن هذا الدعم للنظام، إضافة للقيود التي وضعت على تسلح الثوار، والانقسامات في صفوفهم، التي تطورت إلى اشتباكات دموية بفعل الدور الذي تقوم به دولة العراق والشام الإسلامية، دفع الثوار إلى التراجع، وأضعف قدرتهم على الحسم خلال 2013، التي افتتحت بتقدم كبير لهم على كافة الجبهات. كما وجدت القوى الدولية، سيما روسيا والولايات المتحدة، نفسها عاجزة، أو غير راغبة، عن تغيير موازين الصراع لصالح النظام أو الثورة.
بيد أن الصورة التي ولدتها جولة المباحثات الأولى لا تدعو للتفاؤل. منع موقف الإئتلاف الصلب، والدعم العربي لهذا الموقف، إيران من التواجد واكتساب دور الطرف في الحل. وحقق وفد الإئتلاف الاعتراف به كممثل للشعب، وأجبر النظام على الجلوس معه على قدم المساواة. كما تحقق إنجاز صغير في المباحثات حول الملف الإنساني. ولكن لا شيء آخر تم إنجازه في الجولة الأولى. وإن لم تبدأ الجولة الثانية المفاوضات حول هيئة الحكم الانتقالية، ستكون جنيف الثانية في طريقها لحائط مسدود.
الخوف الآن أن تتحول المباحثات، كما حدث في مباحثات السلام الفلسطيني ذ الإسرائيلي من قبل، إلى مجرد عملية (process)، تنسى معها حقيقة ما يجري بالفعل على الأرض السورية، ويصبح الحرص، بالتالي، على استمرار العملية أهم بكثير من الحرص على وضع نهاية للأزمة وللوضع السياسي الشاذ في سوريا. ثمة ثورة شعبية كبرى شهدتها سوريا، ونظام لم يتورع منذ اليوم الأول للثورة عن ارتكاب أبشع الجرائم ضد شعبه، بما في ذلك استخدام السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة على رؤوس المدنيين وعلى أحياء المدن. خلال ثلاث سنوات، عمل النظام، وبصورة منهجية، على تدمير مقدرات سوريا، مدنها وبلداتها، وسبل الحياة الأولية لشعبها. قتل النظام عشرات الآلاف، واعتقل وعذب وقتل تحت التعذيب أعداداً قد لا يعرف أحد حقيقتها. مثل هذا النظام لا يجب أن يستمر في حكم سوريا.
هل يمكن أن تحقق مباحثات جنيف مثل هذا الهدف؟ الواضح، في ظل موازين القوى الحالية، أنها لن تستطيع. ثمة حاجة ضرورية لوضع نهاية لحال الانقسام والصراعات الداخلية في صفوف الثوار، وأن تصبح كل قوى الثورة المسلحة شريكة في الائتلاف الوطني، وأن تبذل جهود سياسية وعسكرية لتغيير الوضع على أرض المعركة.
بمعنى، أن يشعر النظام وحلفاؤه أن خارطة الصراع لا ترسم لصالحه، وأن لا مناص من التفاوض حول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حياة سوريا وشعبها. بذلك فقط يمكن أن يعلق بعض الأمل على مباحثات جنيف، البعض القليل، ليس إلا.
‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
القدس العربي
سجل الحروب..وأفق الأزمة السورية/ حسام مطر
هل دخلت الحرب السورية مرحلة التسوية بعد انعقاد مؤتمر «جنيف 2»؟ هناك فرضية شائعة بأن هذه الحرب لن تنتهي قريباً وأن زمن التسوية لم يحن بعد, العودة للأرقام المستخلصة من تاريخ الحروب الأهلية يمكن أن تحدد قوة هذه الفرضية.
تستخدم باربرا والتر (تشرين الأول 2013) أربعة معايير لتوقع فشل التسوية السورية حالياً. الأول هو أن متوسط أمد الحروب الأهلية منذ العام 1945 هو عشر سنوات, الثاني وجود علاقة طردية بين عدد القوى المتحاربة وطول أمد الحرب, وفي سوريا اليوم إضافة للقوى النظامية أكثر من 13 فصيلاً أساسياً، ثالثاً إن غالبية الحروب الأهلية تنتهي بالغلبة وليس التسوية (40 في المئة لمصلحة الحكومة, 35 في المئة لمصلحة المعارضة), والغلبة الحاسمة متعذرة اليوم في سوريا، إلا أن بيتر فالنستين يشير الى أن التسويات السلمية للحروب الأهلية تزايدت منذ العام 1989 بشكل ملحوظ. وأخيراً فإن نجاح مفاوضات التسوية يرتبط عادةً بتوفر شرطين, الأول تقسيم القوة السياسية بين اللاعبين بناء على موازين الميدان، وهو ما يرفضه أطراف الصراع في سوريا حتى اللحظة. وثانياً وجود طرف ثالث راغب وقادر على ضمان تطبيق التسوية وسلامة المتحاربين أثناء التطبيق (تُعرف بمعضلة الأمن), وحالياً هذا الطرف غير متوفر في الحرب السورية. يضيف ماكس فيشر (تشرين الأول 2013) أسباباً أخرى لذات الفرضية منها مدى تدخل القوى الخارجية, وهو متحقق بقوة في الحرب السورية بما يؤمن موارد دائمة للقوى الداخلية المستنزفة لتستمر في القتال.
عامل آخر يساهم في إطالة أمد الحرب, وهو العامل الإثني او ما يُعرف بـ”حروب الهوية”, الذي يبرز بدرجات متفاوتة ومتزايدة في الحرب السورية لا سيما من ناحية مذهبية. ويشير جايمس فيرون بناء على تحليل كمّي مقارن للحروب الأهلية بين العامين 1945 ـ 1999 الى أن وجود العنصر الإثني يطيل أمد الحرب بـ 70 في المئة عن سواها من الحروب. إلا أن جون بورتون (1987) يحاجج أن المسائل المرتبطة بالهوية يمكن حلها بشكل أسهل من تلك المرتبطة بالمسائل السياسية ـ الاقتصادية, إذ أن مسائل الهوية غالباً ما تحتوي على نقاط رمزية يمكن حلها بشكل غير مكلف. أما روي ليكليدير فتوصل الى نتائج متداخلة بعدما قسم العينة التي يدرسها من الحروب الأهلية (91 حرباً 96 في المئة منها “حروب الهوية”). وتوصل الى أن “حروب الهوية” لا تدوم أكثر من الحروب الأخرى, إذ أن فقط خمسة في المئة من “حروب الهوية” دامت أكثر من عشر سنوات في مقابل 15 في المئة من الحروب الأخرى. كما يتساوى نوعا الحرب تقريباً في نسب الوصول الى تسوية, 26 في المئة في “حروب الهوية” و20 في المئة في الحروب الأخرى.
لكن لماذا تفشل التسويات في الحروب الأهلية؟ تشير باربرا والتر (1990) الى فشل 53 في المئة من عمليات التسوية والمفاوضات الرسمية في الحروب الأهلية التي وقعت بين العامين 1940 -1990, وأرجعت ذلك الى مجموعتين أساسيتين من الأسباب: المجموعة الأولى تستند الى أن المتقاتلين “لا يريدون” التوصل لتسوية برغم دخولهم المفاوضات, وإنما يكون قبولهم التفاوض لأسباب مختلفة: الضغط من رعاتهم الخارجيين, لإرضاء الضغوط الشعبية المرهقة من الحرب, وكسب الوقت لتعزيز قدراتهم العسكرية، أو لتحسين سمعتهم “كمعتدلين” في أوساط الرأي العام الداخلي والدولي. المجموعة الثانية, تستند الى أن المتحاربين “لا يمكنهم” التوصل لتسوية لأسباب عدة: صعوبة قسمة نقاط الخلاف كمسألة الشرعية (بعكس الحروب الأهلية “الانفصالية” حيث يسعى أحد أطراف الحرب لنزع استقلالية حيز جغرافي من الدولة), والقيمة العالية لكسب الحرب إذ أن الفائز سيسيطر على كامل الدولة ومقدراتها مما يشجع الاطراف على المغامرة والمخاطرة وتحمل أعباء عالية, وأخيراً بسبب عدم القدرة على التراجع عن الوعود والشعارات التي أطلقها القادة للجماهير. حتى اللحظة تبدو هذه الأسباب (لا سيما مسألة الشرعية) حاضرة بقوة في الحرب السورية ومتوزعة بين كل الأطراف المشاركة.
لكن حتى في حال حصول التسوية, ما هي فرص تجدد الحرب؟ يعتقد كثيرون ان إيقاف الحرب الأهلية بالتسوية افضل من ترك الحرب تأخذ فرصتها لتحديد المنتصر. إلا ان روي ليكليدير يقدم طرحاً معاكساً بالاستناد الى ما يعرف “بفرضية واغنر”, ومفادها أن خيار التسوية في الحروب الأهلية يؤدي الى ترتيبات سياسية لتقاسم السلطة وخلق فيتوات متبادلة ما يعيق إعادة بناء مؤسسات فعالة وينتج بنية وطنية ضعيفة وذلك بعكس لو انتهت الحرب بانتصار طرف وإحكام سيطرته على السلطة بمفرده. ولذلك وبحسب دراسة ليكليدير فإن 50 في المئة من الحروب التي انتهت بتسوية عادت واندلعت مجدداً في مقابل 15 في المئة للحروب التي انتهت بنصر.
في المحصلة يبدو أن الحرب السورية تحوي جملة من العناصر التي في الأغلب تؤدي الى إطالة أمد الحرب. ولكن بالنظر الى الديناميكية الخارجية بالتحديد بين الروس والأميركيين بالإضافة لتمكن الجيش السوري بمساندة حلفائه الخارجيين من كسر حالة المراوحة الميدانية نسبياً, فإن المرتقب هو “تبريد” الحرب السورية. وقد أشار بيتر فالنستين (2002) إلى أن بعض الحروب انتهت بانتصار الحكومة عبر تثبيت سيطرتها على المناطق الأساسية. أي انتصار “أمر واقع” ولكن من دون اعتراف المعارضة بذلك, فيستمر الصراع ولكن بمستوى عنف منخفض وعدد ضحايا محدود جداً, إلى حين نضوج شروط التسوية. ألا يبدو ذلك الأكثر تحققاً في المدى المنظور للحالة السورية؟
السفير
سوريا والمسؤولية العالمية/ عبد الرحمن الراشد
في جنيف يتفاوض الجميع بلا شهية ولا أمل. جاء فريق النظام فقط لتخريب المؤتمر الذي هدفه إزاحة رئيسه بشار الأسد وإقامة حكم انتقالي. ستخفق المفاوضات لأنه لا يوجد ضغط حقيقي يمارس على حكومة دمشق للقبول بالحل السياسي، كما لا يوجد دعم عسكري يسقطها إن رفضت.
الإخفاق في التعامل بجدية، تحديدا من قبل الولايات المتحدة، مع الأزمة السورية، جعلها جهنم تهدد العالم بأعظم من جهنم أفغانستان. فقد شاهدت كميات هائلة من الصور لأطفال، وصغار الشباب، يتم تدريبهم من قبل تنظيمي «داعش» و«النصرة»، في المناطق الخاضعة لسيطرتهما. هذا إلى جانب آلاف المقاتلين الذين تم تجنيدهم من سوريين وأجانب جاءوا على وقع الظلم الرهيب للشعب السوري. إن إهمال الحل في سوريا هو السبب، لأنه منح الإرهابيين الوقت الكافي والمكان الحر خلال ثلاثة أعوام.
لقد نجحت إيران وحزب الله في تخريب سوريا، وتحويلها إلى بلد مدمر يكاد يكون مستحيلا إعادة بنائه، وأوقعا ظلما مروعا بحق غالبية الشعب السوري الذي عاش سنوات من التقتيل والتشريد والترهيب والآن التجويع. هل بعد هذا الظلم نستغرب لماذا ينضم الشباب إلى «القاعدة»؟
على الذين يعتقدون أن سوريا مزرعة فجل، لأنها لا تنتج نفطا، أن يقلقوا كثيرا لأنها أصبحت مزرعة للإرهاب في العالم ستجعل هذه المنطقة والعالم جحيما لسنوات مقبلة. النظامان الإيراني والسوري دفعا بـ«القاعدة» لتخريب الوضع في سوريا وتخويف الغرب من استبدال نظام الأسد، ونجحا في ذلك، لكن هذه هي النتيجة، بلد مدمر ومزرعة عالمية لتفريخ الإرهابيين.
مفاوضات جنيف تمثل مخرجا مهما للجميع، إخراج الأسد وإقامة حكم انتقالي يستوعب بعض مؤسسات النظام الحالي، وبعض رجاله غير المتورطين في دماء السوريين، وتقديم حماية للأقليات، وتأمين دعم النظام الجديد. دون استغلال فرصة إطار جنيف التي تتم تحت علم الأمم المتحدة، ستبقى الحرب مفتوحة، وستتسع الفوضى، وستنتقل إلى العراق ولبنان وربما تركيا.
الشرق الأوسط
هل يمنع الروس جنيف من الانهيار؟/ راجح الخوري
وصل غينادي غاتيلوف مبكراً الى جنيف لسببين، اولاً لإنتشال وفد النظام من التخبط والانكشاف بسبب ادائه الترهيبي وتلطيه وراء موضوع الارهاب لنسف المؤتمر وتحميل المعارضة المسؤولية، وثانياً لمحاولة تحسين الصورة الروسية السيئة بسبب حماية النظام وتبرير مذابحه وحتى معارضة الممرات الانسانية، وهو ما دفع جون كيري الى “توجيه رسالة شديدة اللهجة الى سيرغي لافروف” على ما اعلن باراك اوباما.
فيصل المقداد بدا محرجاً عندما وقف امام الصحافيين ليلحس بيانه الكاذب، الذي كان قد ادلى به قبل ساعات، عندما قال ان “وفد الائتلاف رفض البحث في موضوع الارهاب”، ثم اضطر الى ان يعلن موافقة النظام على اقتراح المعارضة الداعي الى طرد المقاتلين الاجانب من البلاد، بما يثبت ان الوثيقة التي قدمها وفد الائتلاف تدعو الى طرد الارهابيين الذين دخلوا الى القتال في سوريا!
غاتيلوف الذي التقى المعلم والابرهيمي واحمد الجربا، دعا صراحة الى تعويم اقتراح التوازي في بحث النقاط، بعدما أصر وفد النظام على البدء بموضوع “الارهاب” زاعماً ان المعارضة ترفض الامر لانها ارهابية، بينما تمسك وفد المعارضة ببحث موضوع “الانتقال السياسي” وفق ما تضمنته دعوة بان كي – مون الى المؤتمر.
مفاجأة غاتيلوف انه قال: “لا ضرورة للفصل بين البنود بل الخوض في اكثر من محور وبحث كل المسائل الملحّة، وهي محاربة الارهاب وإيصال المساعدات الانسانية والبحث في المستقبل السياسي لسوريا”. هذا كلام روسي جديد، فقبل ساعات كنا نقرأ تصريح لافروف الذي وصف القرار المتعلق بالممرات الآمنة بأنه “معزول عن الواقع”، بينما كان اوباما يخاطب الروس بالقول “ان الاولوية هي لحماية ارواح السوريين ومن غير المقبول استمرار سياسة التجويع. ليس في وسعكم القول انكم تشعرون بقلق على سلامة الشعب السوري في الوقت الذي يموت جوعاً”!
هل تنطوي اشارة غاتيلوف الى مستقبل سوريا السياسي على تسليم ضمني بحتمية التغيير. فقبل ساعات كان لافروف يسعى لترسيخ بقاء بشار الاسد، مسقطاً موضوع “الانتقال السياسي” ومذكّراً بقمة الثمانية الكبار في دبلن، التي دعت الى شراكة بين النظام والمعارضة لمكافحة الارهاب، فهل هناك ما يشجع على الاعتقاد بوجود رغبة روسية مستجدة لمنع جنيف من الانهيار، انطلاقاً من التوافق على اقتراح المعارضة “طرد المقاتلين الاجانب من البلاد”؟
الامر ليس مشجعاً لأن المقاتلين الاجانب يقاتلون ضد النظام ومع النظام، وهذه عقدة كبيرة، لذا تبدو شهادة مدير الاستخبارات جيمس كلابر امام الكونغرس اكثر واقعية: “انها كارثة رهيبة، تسعة ملايين لاجئ واكثر من ١٣٤ الف قتيل، هذه كارثة تنذر بشر مستطير”!
لكن الروس والاميركيين شركاء مضاربين للنظام في صنعها ورعايتها!
النهار
مفاوضات جنيف باتت مملة والنظام السوري في موقع افضل/ عبد الباري عطوان
المفاوضات السورية الجارية حاليا في جنيف بين وفدي الحكومة والمعارضة باتت مملة مكررة لا جديد فيها على الاطلاق، في وقت يتواصل سقوط الضحايا الابرياء في جبهات القتال المختلفة على طول سورية وعرضها.
الخلاف هو على السلطة، وكرسي الحكم، فالنظام يعتبر هذا الكرسي حقا شرعيا له والمعارضة ترى عكس ذلك، وتريد انتزاعه عبر المفاوضات بعد ان عجزت، وبعد ثلاث سنوات من القتال الشرس، من تحقيق هذا الهدف عبر البندقية.
نختلف مع معظم الآراء التي تقول ان مؤتمر جنيف بشقيه الاول والثاني قد فشلا في التوصل الى حل للازمة، مثلما قال السيد نبيل العربي امين عام الجامعة العربية اليوم امام المجلس الاقتصادي العربي، لان الهدف لم يكن مطلقا الوصول الى هذا الهدف، وانما جمع الطرفين تحت سقف واحد، وكسر الجليد، وبما يؤدي الى اعتراف متبادل، وهذا ما تحقق حتى الآن.
دعونا نعترف بأن النظام السوري لم يرسل وفده من اجل التفاوض على تسليم السلطة، والائتلاف لا يمثل الا نفسه واقل من ثلث اعضائه فقط، ومن يعتقد غير ذلك يغالط نفسه، خاصة ان هذا النظام بات متأكدا ان الوقت يعمل لصالحه وانه بدأ مسيرة الخروج من عنق الزجاجة للاسباب التالية:
***
*اولا: قوات الجيش العربي السوري التابعة للنظام تحقق مكاسب متسارعة في ميادين القتال، وخاصة في منطقة الجملون الاستراتيجية، ولا نستبعد ان نسمع في ايام قليلة انباء دخولها مدينة يبرود البوابة الرئيسية الى مدينة عرسال الاستراتيجية التي تتحكم بالممر الرئيسي مع لبنان، مضافا الى ذلك ان الانشقاقات في صفوف هذا الجيش توقفت تقريبا، ومن انشق لم يفد المعارضة كثيرا، فماذا فعل مناف طلاس مثلا؟ وهل تذكرون الضجة الكبرى التي رافقت انشقاقه وصورته كما لو انه نابليون العصر الحديث؟
*ثانيا: الانقسامات الحادة بين فصائل المعارضة المسلحة، والاسلامية منها على وجه الخصوص، وتحولها الى صدامات دموية الامر الذي حرف انظارها عن الهدف التي جاءت الى سورية من اجله اي محاربة النظام واسقاطه، واستغلال النظام لبعض اخطائها وتطبيقاتها للشريعة الاسلامية مثل الجلد وقطع الرؤوس لتنفير الناس منها في هجوم اعلامي مضاد.
*ثالثا: اتساع دائرة اليأس في اوساط السوريين من حدوث تغيير ديمقراطي وشيك في بلادهم، بعد ان تأكد لهم ان الثورة التي ايدوها وراهنوا عليها كثيرا كاداة للتغيير والاصلاح، تحولت الى قتال مسلح، وان معظم الفصائل المقاتلة لا تريد دولة مدنية، وانما اسلامية، تطبق فيها الشريعة الاسلامية تطبيقا متشددا، وهذا لا يروق لنسبة كبيرة من السوريين، وان كان يروق لنسبة كبيرة منهم ربما مماثلة ايضا في المقابل من مؤيدي المشروع الاسلامي.
*رابعا: اتساع دائرة نظرية المؤامرة في اوساط الراي العام العربي التي تقول ان هناك مؤامرة تقف خلفها جهات غربية تتلخص في تفجير الثورات لتفتيت الوطن العربي، وتدمير جيوشه وقدراته العسكرية وبما يخدم اسرائيل وهيمنتها على المنطقة كقوة اقليمية عظمى في نهاية المطاف، ويضربون مثلا بالفوضى الدائرة في ليبيا واليمن والعراق والانقسام المتفاقم في مصر.
*خامسا: عودة مئات الالآف من اللاجئين السوريين الى بلادهم، خاصة من الاردن يأسا واحباطا من شح الدعم العربي لهم، والظروف المعيشية السيئة التي يعيشون في ظلها، ففي الوقت الذي ترصد فيه دول عربية خليجية (قطر والسعودية) المليارات لدعم المعارضة المسلحة لا تقدم لهم غير الفتات وتغلق ابوابها في وجوههم، وتحرمهم من فرص العمل ونسبة كبيرة منهم من الكفاءات العلمية والتقنية العالية.
*سادسا: حدوث تغيير في موقف الاعلام العربي وادائه، فمحطة “الجزيرة” باتت اقل اهتماما وتحريضا في تغطيتها للملف السوري، لان السعودية قلصت من دور قطر وحجمته، واحتلت المقعد الامامي القيادي ولان اولوياتها اي “الجزيرة” انقلبت، وباتت تركز اكثر على مصر، وتحرض ضد المشير عبد الفتاح السيسي وحكمه العسكري ولمصلحة الاخوان المسلمين وعودتهم الى الحكم، بينما تعطي غريمتها “العربية” اهتماما معاكسا اي لدعم النظام في مصر، وتقليص جرعة تحريضها ضد النظام في سورية، حسب توجهات البوصلة الرسمية السعودية.
*سابعا: المراجعة الجذرية التي تجريها المملكة العربية السعودية لنظرتها وسياساتها تجاه الازمة السورية، وتجريمها للجهاد واسكاتها جيش العلماء والدعاة المحرضين عليه، ودعوتها لابنائها المجاهدين بالعودة الى بلادهم فورا ومواجهة السجن لسنوات، وسحب الملف السوري من الامير بندر بن سلطان الذي يتبنى الحل العسكري بقوة، ودعم “الجماعات الجهادية” بالتالي، وتسليمه اي الملف الى الامير سعود الفيصل وزير الخارجية والامير محمد بن نايف وزير الداخلية المقرب كثيرا من واشنطن.
*ثامنا: نجاح النظام، وبدعم من روسيا، وشبه موافقة امريكية، على قضية “الارهاب” واعطائها الاولوية في محادثات جنيف مما يعني انه يقدم نفسه كضحية هذا “الارهاب” مثل الغرب، وان معارضيه في معظمهم من الجماعات “الارهابية”، وهذا ما يفسر تقدم روسيا بمشروع قرار الى مجلس الامن لادانة الارهاب، وهي خطوة ذكية جدا لان العالم الغربي الذي يدعي شن حررب ضد الارهاب وكلفته آلاف المليارات لا يستطيع استخدام “الفيتو” ضد مشروع لادانة هذا الارهاب.
***
الوفد السوري الرسمي المفاوض سيظل يلعب على عنصر الوقت، وتحويل القضية السورية الى قضية انسانية وليس قضية سياسية وتغيير ديمقراطي، والتركيز على بنود جنيف الاول التي تطالب بوقف اطلاق النار ورفع الحصار، ودخول قوافل الاغاثة الى المحاصرين والبناء على تجربة مدينة حمص في هذا الاطار، وتأجيل مسألة هيئة الحكم الانتقالي الى المراحل الاخيرة.
السيد وليد المعلم وزير الخارجية ورئيس وفد النظام في مفاوضات جنيف سيحزم حقائبه الجمعة، ويعود واعضاء وفده الى دمشق وهو في قمة النشوة، لان الاستراتيجية التفاوضية نجحت تماما في عدم تقديم اي تنازل، صغيرا كان ام كبيرا، تاركا السيد الاخضر الابراهيمي يشد شعره، وهو كثيف على اي حال، ويصرخ مستنجدا بالدولتين العظميين للتدخل وانقاذ المفاوضات من الانهيار.
المفاوضات ستنهار حتما عاجلا ام آجلا، لان اي من الوفدين المفاوضيين لا يملك التفويض لتقديم تنازلات ولا يزيد دوره عن دور ساعي البريد وباتت مفاوضات جنيف تطبيقا للقول الشهير “اسمع جعجعة ولا ارى طحنا”.
النهاية شبه المتوقعة وربما النهائية لعملية المفاوضات في جنيف ليس اقامة هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة مثلما يريد الائتلاف ووفده، وانما حكومة وحدة وطنية ببعض الصلاحيات في افضل الاحوال، تضم بعض “المستوزرين” في صفوف المعارضة، وما اكثرهم، تحت مظلة النظام، وبدعم روسي امريكي وعربي ايضا، والرحمة للمئتي الف شهيد الذين سقطوا حتى الآن في سورية.
الم تكن هذه هي نهاية الحرب الاهلية المماثلة تقريبا في الجزائر، والاخرى التي اندلعت في الشيشان؟ نقولها للتذكير فقط ونأمل ان نكون مخطئين.
الرأي الأردنية
قراءة في الصراع السوري/ فهد الفانك
إذا كان لا يوجد حل عسكري للصراع الدائر في سوريا كما يؤكد الجميع. وإذا كان لا يوجد حل سياسي لهذا الصراع كما يدل فشل مؤتمر جنيف، فمعنى ذلك أنه لا يوجد حل للصراع الدائر في سوريا بين الدولة والثوار من داخل سوريا وخارجها.
مؤتمـر جنيف خدم النظام السوري بإضفاء قدر أكبر من الشرعية عليه، فهو يتصرف كدولة في حين يتصرف خصومه كهيئة إعلامية تحاول أن تمثل منظمات مسلحة تقف في وجه الدولة.
مؤتمر جنيف يقف بين مطلبين الأول تطرحه المعارضة وهو تنحية الرئيس بشار الأسد لصالح حكومة انتقالية يشارك فيها النظام والثوار بالتوافق، والثاني يطرحه الوفد الرسمي وهو محاربة الإرهاب طالما أن هناك اعترافاً دولياً بأن الجبهة الإسلامية وجبهة النصرة ودولة العراق والشام كلها منظمات إرهابية.
إسقاط النظام أم إسقاط الإرهاب، تلك هي الحلول التي لا تلتقي.
تقول مصادر الاستطلاع الأميركية أن النظام يحقق مكاسب على الأرض، وبالتالي فإنه يفضل سياسة شراء الوقت، وأن أميركا لا تستطيع تزويد (المعارضة) بسلاح نوعي خوفاً من وصوله إلى أيدي الإرهابيين كما حدث فعلاً.
وتكشف الصحافة الأوروبية عن وجود ضباط مخابرات من الدول الأوروبية في دمشق لتنسيق عملية محاربة الإرهابيين مع الحكومة السورية لأن عددأً كبيرأً جدأً من الإرهابيين يحملون جنسيات أوروبية، وسيعودون إلى أوروبا بعد أن حصلوا على التدريب الإرهابي والنشاط الدموي.
يبدو أن الائتلاف الوطني المقيم في اسطنبول ويمثل الطرف الثاني في مؤتمر جنيف، ليس أكثر من كيان سياسي هش، لا يستطيع دخول سوريا حتى في المناطق الواقعة تحت سيطرة المسلحين، وبالتالي ليس له وزن حقيقي في موازين القوة، وتصريحاته الصاخبة تناسب بعض الفضائيات التحريضية ولكنها لا تلزم المنظمات المسلحة.
الوسيط الدولي الأخضر الإبراهيمي انتهى مفعولة وانتهت مهمته بالفشل منذ زمن، ولكنه لم يعترف بالواقع، وفضل أن يستمر وسيطأً إلى ما لا نهاية، خلافاً لكوفي عنان الذي سبقه وقـدّم برنامجاً من ست نقاط لإنهاء الصراع ما زالت تشكل الأساس لأي اتفاق مستقبلي، ولكنه انسحب بهدوء عندما لم ينجح في تحقيق الاختراق. فماذا قدم الإبراهيمي وماذا حقق؟ ولماذا يستمر في مجهود عبثي
الرأي الكويتية
لا يوجد سوى القهوة والشاي في جنيف 2/ أمل عبد العزيز الهزاني
جنيف2 نجح حتى الآن في أمر واحد وهو تعزيز الشرعية الدولية لنظام بشار الأسد. النظام ظهر على شاشات التلفزة مفاوضا عنيدا ومراوغا كالثعلب، مدعوما بالقوى الأكثر نفوذا على الساحة؛ سياسيا بالروس وعسكريا بإيران. جنيف أو نيويورك أو موسكو أو كوكب المريخ، ما دامت الولايات المتحدة لم تغير من موقفها في الإبقاء على كفتي الميزان متساويتين بين النظام والجيش الحر، فلا تغيير حقيقيا ينتظر من هذه الاجتماعات التي أشغلت وسائل الإعلام في ملاحقة أخبارها، والوسيط الدولي كمتعهد الحفلات يطمئن على راحة ضيوف الطاولتين، في وقت لم يتوقف فيه القصف والتجويع والتهجير لحظة واحدة.
إنما الحقيقة المرة التي لا بد من الاعتراف بها أنه وللمرة الأولى يمكن أن نتوافق مع موقف وفد النظام بضرورة مكافحة الإرهاب كأولوية، قبل الحديث عن أي أمر آخر. الأسد نجح في تبديل أولويات الثوار من تحرير السوريين من النظام القمعي إلى تحريرهم من جماعات إرهابية فتح لهم بشار الأسد الحدود السورية ومكنهم من مواقعهم ليحلوا مكانه في مقاومة الثوار، ويحققوا نجاحات في الاستيلاء على مناطق استراتيجية، لذلك كلما هم أحمد الجربا بالحديث عن هيئة انتقالية بادره وليد المعلم بمكافحة الإرهاب أولا. الأسد يعلم أنه لن يعود الرئيس السوري كما كان سابقا، لكنه كالضرس المؤلم، اقتلاعه والخلاص منه يمر بأوجاع لا تنسى. لا توجد حالة شبيهة بالوضع السوري اليوم، لا أفغانستان ولا الصومال ولا البوسنة. سوريا أمست مغناطيسا لتجار السلاح والانتحاريين لأكثر من سبيل، من آسيا وأوروبا وأفريقيا، قدموا إلى سوريا ليس تحت جنح الظلام، ولا في غفلة من الرأي العام الدولي، بل تحت مرأى من استخبارات القوى العظمى؛ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والروس.
واشنطن مثل موسكو، انتهازية، وجدت في الأزمة السورية فرصة للخلاص من مشكلاتها العالقة، ظلت تلوح بالتدخل العسكري في سوريا، بغية ابتزاز الأسد ليسلمها سلاحه الكيماوي حتى فعل، وماطلت في الحسم بتعليق المساعدات العسكرية النوعية للجيش الحر لإطالة أمد الحرب، لتستنزف الموارد المالية لإيران، فتضطرها صاغرة لعقد صفقة ينتهي من خلالها مشروعها النووي، وقد حدث لها ذلك. أضف إلى ذلك أن واشنطن وضعت الفأس في رقبة الصنم «حزب الله»، وهو الآن يترنح ما بين جثث عناصره في معاركه ضد الجيش الحر، وما بين اختراق تحصينات مقراته في الضاحية الجنوبية، التي أصبحت مستباحة ومكشوفة بلا حول ولا قوة من الحزب، الذي ذهبت ريحه بين الضاحية في لبنان وسباق الضاحية في سوريا. فمن كان يصدق أن مناطق حزب الله تخترق للدرجة التي يقتل فيها مسؤولون إيرانيون الواحد تلو الآخر، في عجز كامل من الحزب عن حمايتهم.
هذه نجاحات كبيرة لم تحلم بها الإدارة الأميركية في هذا الوقت الوجيز، وإن جاءت بأثمان غالية ليس ضمنها حماية حقوق الإنسان السوري، وإنما تمكن جماعات إرهابية من التوغل في الأراضي السورية والعراقية تلقي بتهديداتها على الأردن وتركيا والخليج.
من المهم ألا ننسى في هذا المقام التذكير بأن إدارة أوباما انسحبت من العراق، مع علمها بأنه دولة موبوءة بتنظيم القاعدة وفروعه من التنظيمات التي خلفها الغزو الأميركي، ولم تكتف بالهرب من «القاعدة»، بل وفرضت على العراقيين رئيس حكومة يعد أحد أكبر الشخصيات الطائفية وأكثرهم تهيئة للزج بالعراق في أتون حرب شوارع لا منتهية. أي إن واشنطن في الواقع غير مكترثة بالإبقاء على الحالة السورية كما هي اليوم؛ أطراف متصارعة ينهكها الاقتتال في نهاية المطاف ليخرج كل منها ضعيفا غير قادر على بناء دولة قوية مجاورة لإسرائيل.
لا يوجد ما يدعو للتفاؤل في الحالة السورية سوى الأمل في صفقة ترعاها الولايات المتحدة مع دول الخليج، التي تتربص ببعضها «داعش» و«جبهة النصرة» كما جاهرت بذلك عناصرهما المسلحة. في غياب دافع يضطر الولايات المتحدة للتحرك لترجيح كفة الميزان، سيكون من الصعب أن نرى حسما لصالح الثوار أو نهاية قريبة لمآسي السوريين أو استقرارا في المنطقة.
الشرق الأوسط
سوريا بين المراجعة والاعتذار!/ طارق الحميد
انتهت جولة المحادثات الثانية في جنيف بين نظام الأسد والمعارضة دون تحقيق تقدم يذكر، مما دفع المبعوث الأممي لسوريا الأخضر الإبراهيمي للاعتذار للشعب السوري، ودفع واشنطن كذلك للإعلان عن مراجعة لسياساتها تجاه الأزمة السورية، والبحث في خيارات جديدة، بطلب من الرئيس أوباما!
وكل ذلك يقول إن الأزمة السورية قد عادت إلى المربع الأول، سياسيا، وإن الأسد قد نجح بمساعدة روسية في إضاعة الوقت، والتلاعب بالمجتمع الدولي دون إنجاز أي اتفاق، حيث لم يتم إيقاف آلة القتل الأسدية بسوريا، ولا رفع المعاناة عن المحاصرين، ولا تدمير الأسلحة الكيماوية بالمواعيد المتفق عليها دوليا. ولذا فعندما تعلن واشنطن عن بحث الرئيس الأميركي لمراجعة حول سوريا، والبحث عن خيارات جديدة، فهذا يعني إقرارا أميركيًّا بأن الأزمة السورية تعود للمربع الأول، ويعني أن الرئيس أوباما يريد زيارة المنطقة، وتحديدا السعودية الشهر المقبل، وبين يديه رؤية جديدة، وخيارات مقنعة، خصوصا أن جميع الخيارات الأميركية المترددة تجاه سوريا قد فشلت.
وما يؤكد فشل الخيارات الأميركية التسريبات الجديدة الواردة من واشنطن حول رؤية الإدارة الأميركية للتعامل مع الأزمة السورية الآن، ومن تلك التسريبات ما نقلته وكالة رويترز عن مسؤولين كبار أطلعوا الصحافيين على محادثات أوباما مع العاهل الأردني الذي يزور أميركا الآن، والتقى الرئيس أوباما، حيث تقول التسريبات الأميركية إن جميع البدائل مطروحة الآن حول الملف السوري باستثناء تدخل قوات أميركية. وبحسب ما نقلته رويترز فإن من ضمن الخيارات المطروحة إمكانية تسليح المعارضة السورية، مع قول أحد المسؤولين الأميركيين بأن هذه الخطوة «لن تتخذ إلا إذا كانت ستساعد في دفع العملية نحو حل سياسي»، مضيفا أنه «من المؤكد أن المساعدة في تحسين موقف المعارضة السورية والضغط على النظام السوري جزء من الحسابات الكلية».
وهذه التصريحات بحد ذاتها تؤكد ما قيل مرارا عن عدم وجود خطة حقيقية من قبل إدارة أوباما للتعامل مع الأزمة السورية، ليس اليوم، بل منذ انطلاق الثورة السورية. فالمتابع للأزمة هناك منذ انطلاقها، وتعامل إدارة أوباما معها، يلمس أن تلك الأزمة لا تحتل الأولوية القصوى لدى الإدارة الأميركية التي لم تظهر جدية حقيقية في التعامل مع جرائم الأسد، ورغم كل التصريحات الأميركية الأخيرة عن أن ما يحدث في سوريا يشكل خطرا حقيقيا على الأمن الأميركي، فقد عادت الأزمة السورية الآن للمربع الأول سياسيا، وها نحن نسمع عن خيارات أميركية جديدة تجاه سوريا، وهو الأمر الذي من المؤكد أنه لن يقلق الأسد، وحلفاءه، خصوصا أن اللغة الأميركية تجاه الأسد لا تزال تظهر التردد، والعجز، وهو ما سيسر الأسد بالطبع الذي لا يفهم إلا لغة القوة، والأفعال، وليس التصريحات المترددة التي تمنحه مزيدا من الوقت لمواصلة ارتكاب جرائمه، والبحث عن خطط للهروب إلى الأمام بمساعدة روسية – إيرانية.
الشرق الأوسط