مقالات لكتاب عرب تناولت حزب الله
هل يتغير “حزب الله”؟/ حازم صاغية
حين وافق «حزب الله» اللبناني على الصيغة الحكومية المعروفة بـ8- 8- 8 استغرب كثيرون، خصوصاً بعدما ذهب الحزب بعيداً في إدانتها وفي تمسّكه بصيغة 9- 9- 6 التي تلبّي معظم رغباته الآنية. وهذا لا يعني أنّ موافقته انتصار مدوٍّ لجماعة 14 آذار، الشيء الذي يفسّر اعتراض «القوّات اللبنانيّة» على الصيغة المقتَرحة واعتبار أنها لا تفي بالغرض، ولا تضمن انسحاب مقاتلي «حزب الله» من سوريا.
لكنْ يبقى من اللافت تراجع «حزب الله» الأخير، وما إذا كان لتراجع كهذا أن يفتتح تراجعات أخرى على الطريق؟
هنا، لا بأس في العودة إلى الظروف التي لازمت نشأة الحزب كما لازمت مراكمته للقوة، ومن ثم قياس تلك الظروف بالظروف الراهنة التي يعيشها لبنان والمنطقة.
ففي أوائل الثمانينيات، حين ولد الحزب، كانت الثورة الإيرانيّة في عزّها، وهي منذ أيامها الأولى انخرطت في مواجهة رأسية مع الولايات المتحدة استهلها احتلال سفارتها في طهران. أما اليوم، فأغلب الظن أن تكون إيران في غير هذا الوارد. فهي تحاور «الشيطان الأكبر» في الموضوع النوويّ، ويُرجح، وفقاً لما ذكره وزير الخارجية الأميركي جون كيري، أن يمتد الحوار إلى مسائل إقليمية في عدادها «حزب الله».
أما إذا صحت توقعات البعض من أن التحول الإيراني سيفضي إلى صِدام بين «براغماتيي» النظام و«متطرفيه»، وربما إلى تقويض النظام ذاته، فهذا ما يلغي مرة وإلى الأبد إمكان الاعتماد على إيران كمصدر مالي وتسليحي وإيديولوجي لـ«حزب الله».
كذلك ففي أوائل الثمانينيات، كان النظام السوري طرفاً قوياً متماسكاً. صحيحٌ أنه مني بضربة موجعة إثر اجتياح الإسرائيليين للبنان في 1982. إلا أنه نجح في ترميم نفوذه اللبناني عبر أدوات محلية كان أبرزها «حزب الله». بعد ذاك، ولا سيما مع توقيع اتفاق الطائف، استعاد النظام السوري وزنه وتأثيره اللذين وظفهما لأغراض عدة من أهمها تعزيز الحزب وتقويته.
أما الآن فتحول النظام المذكور عبئاً على الحزب الحليف الذي اضطر إلى إرسال مقاتليه إلى سوريا دفاعاً عن نظام الأسد الذي يتهاوى.
إلى ذلك، أحرز الحزب، بعد الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من جنوب لبنان في 2000، ثمّ بعد حرب يوليو (تموز) 2006، درجة غير مسبوقة من التأييد في العواصم والمدن العربية والسنية، وصارت صور أمينه العام حسن نصر الله تعلق على الجدران في عمّان والقاهرة وتونس. لكن إذا كان مقتل رفيق الحريري في 2005 بدأ يطرح بعض الشكوك في ما خص الحماسة للحزب، فإن اجتياحه بيروت في 2008 عزز تلك الشكوك كثيراً. وقد حُسم الأمر تماماً لغير صالح الحزب مع تدخله في سوريا الذي اعتُبر عملاً فئوياً وطائفياً، ووقوفاً إلى جانب نظام يقتل شعبه.
هكذا، وفي غضون سنوات قليلة، نزعت الأكثريات العريضة في العالم العربي يافطة المقاومة عن «حزب الله» وباتت لا ترى فيه إلا حزباً طائفياً معادياً. وكان ما يفاقم هذا الشعور اتساع رقعة المواجهات الطائفية من لبنان إلى العراق مروراً بسوريا.
والتحول هذا يتبدى على نحو أشد حدة وكلفة في لبنان نفسه، خصوصاً إذا حسبنا أن مئات آلاف السوريين السنة قد انتقلوا إليه. فكيف وأن هؤلاء أضافوا جرحهم الناجم عن تهجير ساهم فيه «حزب الله» إلى جرح السنة اللبنانيين الذي لم يتوقف عن النزف منذ اغتيال الحريري؟
كذلك ففي أوائل الثمانينيات كان شعار مقاتلة إسرائيل لا يزال يملك بعض الحرارة، كما كانت هناك أراض لبنانية معتبرة في يد الاحتلال الإسرائيلي. وهذا ما أعطى الحزب الذريعة التي بالغ في استخدامها، كما أضعف حجة المطالبين بنزع سلاحه مثله في ذلك مثل سائر المليشيات. إلا أننا في تلك الغضون شهدنا تطورات بالغة الأهمية لغير صالح المزاعم الصادرة عن «حزب الله». فالسلام المصري- الإسرائيلي تكرس وصار موضع إجماع بين القوى السياسية المصرية. وبدورهم توصل الفلسطينيون إلى سلام مع الدولة العبرية في 1993، وبعد عام واحد توصل الأردنيون إلى اتفاق سلام آخر معها. وإذا صح أن صعوبات كثيرة لا تزال تحف بالعلاقة الفلسطينية – الإسرائيلية، فالصحيح أيضاً أن العنف بات مستبعداً جداً كوسيلة للتغلب على تلك الصعوبات. وما الوضع الراهن لحركة «حماس» في قطاع غزة سوى البرهان الساطع على ذلك. أما سوريا، فترافق كلامها النضالي والممانع مع امتناعها عن إطلاق أية طلقة على إسرائيل منذ توقيعها اتفاق فض القوات في 1974. والحال أن لبنان نفسه شهد الانسحاب الإسرائيلي من أرضه في 2000، بحيث ظلت في يد الإسرائيليين مزارع شبعا التي رفض النظام السوري الإقرار بلبنانيتها، والتي تبقى في جميع الحالات قابلة للتحكيم والحل السياسيين. والأنكى من ذلك أن «حزب الله» نفسه توقف عن كل مقاومة منذ صدور القرار 1701 في 2006، وصار جهده الرئيسي منصباً على الداخلين اللبناني ثم السوري. وهذا ما يقطع كل شك في ما خص طابعه المليشياوي الذي ينبغي أن يُلزمه بكل ما أُلزمت به المليشيات اللبنانية من تسليم سلاحها مع اتفاق الطائف.
هكذا باتت الجبهات العسكرية المفتوحة مع إسرائيل شيئاً من الماضي الذي يزداد ابتعاداً وبرودة. فحينما انفجرت الثورات العربية، خصوصاً منها السورية، تبين أن الهموم المحلية للمواطنين العرب لم تترك إلا حيزاً بالغ الضآلة للشأن الإسرائيلي.
فوق هذا، وفي الحسابات اللبنانية البحتة، يجوز كثيراً الشك في أن يتقبل الشيعة، إلى ما لا نهاية، تقديم الأضاحي في سوريا فيما الانتصار مستحيل. وهذا علماً بأن تاريخ الالتفاف الشيعي حول «حزب الله» هو تاريخ قناعتهم بأنهم يحرزون الانتصارات ويراكمونها. كذلك يُشك كثير في أن يمضي المسيحيون المؤيدون لميشال عون في دفاعهم عن الحزب الذي يتزايد تدخله المكلف في سوريا، كما يتعاظم فرزه لطائفته عن باقي اللبنانيين اجتماعياً وثقافياً.
ألا تشي هذه التحولات، والتحولات المحتملة، بأن «حزب الله» سيضطر إلى الاختيار، عاجلاً أم آجلاً، بين التغيّر والتحول حزباً سياسياً وبين الموت؟
الاتحاد
ما يُخيف في الوحدة الشيعيّة/ حـازم صـاغيـّة
ثمّة وجهة نظر قديمة نسبيّاً تقول إنّ الفارق بين الطائفيّة المفضية إلى حرب أهليّة والطائفيّة التي تتعايش مع السياسة يكمن في العلاقات داخل كلٍّ من الطوائف. فالطائفة التي ينتظمها التوحّد المرصوص تذهب، بالضرورة، إلى الحرب، فيما الطائفة التي يشقّها الانقسام، وتتعدّد رؤوسها، تَقبل السياسة وتُقبل عليها.
والحال أنّ اللحظات الوفاقيّة في لبنان تساند هذا التقدير وتدعمه. ذاك أنّ المسيحيّين، في تلك الغضون، انقسموا بين دستوريّين وكتلويّين، ثمّ بين شهابيّين وشمعونيّين. ودائماً كانت الزعامة الشماليّة – الزغرتاويّة تتمايز عن مثيلاتها في الجبل أو تشاغب عليها. كذلك انقسم السنّة بين زعماء المدن المتحفّظين عن رئاسة الجمهوريّة المارونيّة وزملائهم الريفيّين الذين تحالف معظمهم معها. وكثيراً ما انقسمت الزعامة البيروتيّة السنّيّة نفسها بين صائب سلام وعبد الله اليافي، فضلاً عن التنازع بين بيروت وطرابلس ممثّلةً برشيد كرامي.
والشيء ذاته يقال في الشيعة الذين تجاوزوا سواهم في تعدّديّتهم الداخليّة، فأقامت في جوار الزعامة الأسعديّة، الأقوى والأشدّ رسوخاً، زعامات آل عسيران والزين والخليل، فيما قابلتها الزعامة البقاعيّة التي غالباً ما شغلها صبري حمادة. وحتّى داخل الطائفة الدرزيّة المعروفة بالتلاحم، عاش التنافس طويلاً بين مركزين زعاميّين شغل أحدهما كمال جنبلاط والآخر مجيد إرسلان.
بطبيعة الحال أطاحت الحروب البادئة في 1975 هذه المعادلة، فظهرت المحاولات المتتالية لتوحيد الطوائف وراء قيادة واحدة وقائد أوحد. وهذا ما بدأه، عند الموارنة، بشير الجميّل في أواخر السبعينات، إلاّ أنّ مسعاه اصطدم بقوى مارونيّة جدّيّة في عدادها ريمون إدّه وسليمان فرنجيّة وداني شمعون، فضلاً عن وجوه مسيحيّة معتبرة كألبير مخيبر. ولا يزال المسيحيّون موزّعين بين زعامات يتصدّرها ميشال عون وسمير جعجع.
وبدوره لم يستطع رفيق الحريري، على رغم تأسيسه المركزيّة السياسيّة السنّيّة، أن يزيح رؤساء حكومات سابقين كسليم الحصّ وعمر كرامي، ناهيك عن معارضين له أقلّ وزناً بعضهم، كآل سعد، في مدينة صيدا نفسها. وما بدأ مع الحريري الأب تفاقم مع الحريري الابن الذي انشقّ عنه مفتي الجمهوريّة نفسه، وخالفه نجيب ميقاتي، فيما راحت تتناسل القوى الشلليّة والتكفيريّة في “الشارع السنّيّ”.
الاستثناء الصغير لهذه القاعدة، وهو استثناء يؤكّدها، كان وليد جنبلاط الذي نجح، في الثمانينات، في توحيد الطائفة الدرزيّة فترافق ذلك مع مأساة حرب الجبل. لكنّ الاستثناء الأكبر الذي يؤكّدها أيضاً، فيمثّله حزب الله. ذاك أنّ المحاولة التي بدأها موسى الصدر والتفّت حولها أكثريّة شيعيّة لم ترق إلى إجماع إلاّ مع حزب الله. صحيحٌ أنّ الأخير انخرط في مواجهات واسعة وضارية مع حركة أمل الشيعيّة في النصف الثاني من الثمانينات.
إلاّ أنّ النتيجة التي ترتّبت على تلك المواجهات استتباع الأولى للثانية وإلحاقها بها. هكذا لم يبق سوى أفراد شجعان، مثقّفين أو سياسيّين أو مهنيّين، يجرأون على نقد حزب وحّد الطائفة، جنوباً وبقاعاً، وراءه.
وهذا تطوّر قاتل لإمكان السياسة، بل لإمكان لبنان نفسه، سيّما وأنّ حزب الله، فضلاً عن كونه تنظيماً دينيّاً وطائفيّاً، قوّة عسكريّة وعقائديّة مموّلة من خارج دورة الاقتصاد اللبنانيّ.
فإن كان التوحيد هذا قد حصل بالقوّة ففي الأمر مصيبة. وإن كان قد حصل بالقناعة أو بالخوف أو بالخدمات، كانت المصيبة أعظم. والراهن أنّه توحيد تضافرت الأسباب المذكورة كلّها لإنتاجه، ولكي تُظهر بالتالي عمقه واتّساعه وخطورته. فكيف وقد جاءت الحرب السوريّة تكشف أنّ توحيده إنّما تعدّى أبناء الطائفة في لبنان إلى أبنائها وأبناء عمومتهم في سوريّا، وربّما العراق؟
موقع لبنان ناو
المنازعات لبنانية، والقتلة والانتحاريون كذلك/ حازم الأمين
ثمة علاقة دموية بين طرفي النزاع السياسي في لبنان. يجب الاعتراف بهذه الحقيقة. فقد دُفع النزاع في العقد الأخير الى مستوى من العنف لم يعد ينفع معه نكران حقيقة أن التفجيرات صارت متبادلة. صحيح أن من يقف وراءها قد لا يكون طرفاً مباشراً في النزاع، لكن للتفجير والاغتيال وظيفة سياسية من دون شك.
أدى تكرر الاغتيالات الى مغادرة زعيم «14 آذار» سعد الحريري لبنان. وأدت مباشرة «القاعدة» تفجيراتها في معاقل «حزب الله» الى حال من الخوف والذهول وتصدع صورة الحزب كـ «قوة لا تقهر» لدى جمهوره. لنتائج التفجيرات في الحالين وظيفة سياسية. «حزب الله» يترنح، والحريري مُبعد، إذاً لماذا علينا ألا نقول إن الوقائع الأمنية تُغذي النزاع السياسي.
والحال أن معادلة الاستهداف لا تُنتج إلا غرائز دفاعية اذا لم تجد قناة تصريف سياسي أو قانوني. فـ «7 أيار» 2008، اليوم الذي قرر فيه «حزب الله» نقل هيبته الأمنية من مستواها الضمني والمُغفل الى مستوى معلن، تم امتصاص نتائجه في وجدان الضحايا عبر انتخابات 2009 النيابية، فُهزم التحالف الذي يتزعمه الحزب، وعالج البيارتة جرحهم النرجسي ببعض المُسكنات السياسية. وربما كانت الانتخابات النيابية الأخيرة المحطة السياسية الوحيدة التي أتيح فيها لخصوم الحزب تحويل ظلامتهم الى سياسة. فبعدها جاء يوم القمصان السود وشكّل «حزب الله» حكومته عنوة، مخلّفاً ألماً ومرارات، وأقفل باب السياسة. ومرة أخرى لم تجد المرارة قناة تصريف فراحت تتوطن في النفوس.
من يتقصى حال الانتحاريين اللبنانيين الذين نفذوا هجمات دموية في الأشهر الثلاثة الأخيرة، سيجد أنهم الأبناء المشوهون لهذه المرارة. «السلفية الجهادية» عارض طارئ وبراني. إنهم أبناء النزاع السياسي والطائفي اللبناني. قتيبة الصاطم الذي يُرجح أن يكون منفذ عملية حارة حريك، من وادي خالد التي لا أثر فيها لمشايخ «السلفية الجهادية». المساجد هناك باردة بسبب ندرة المصلّين، ولا صورة في القرى ولا شعار يؤشران الى نفوذ المشايخ الجدد. معين أبو ظهر الذي نفذ عملية تفجير السفارة الإيرانية يبدو أنه «جديد نعمة» على هذا الصعيد، وليست صورته على شاطئ صيدا سوى صدى لهذه الحقيقة.
النزاع الأهلي هو المعطى الجوهري لهذه التفجيرات، وليست السلفية الجهادية ولا الخُمينية الأمنية سوى صورة خارجية له. فجمهور «حزب الله» في لبنان لا يطيق أن يُحكم بنظام ولاية الفقيه، والسنّة اللبنانيون يعرفون أن التكفيريين سيباشرون قتلهم هم قبل أن يُنجزوا مهمة قتل الشيعة. والجماعتان مندفعتان معاً الى النزاع تتقدمهما الكتائب الاسلامية.
والحال أن العراق أنتج نموذجاً للسياسة يبدو أننا في صدد استيراده: السياسة على وقع التفجيرات والدماء والجثث. العملية السياسية تنطوي على استدخال للعنف على رغم أنها تُنكره وتُدينه، وأطرافها قد لا يكونون ضالعين به مباشرة، لكنه جزء من الحسابات التي يُجرونها في منافستهم خصومهم. قد يســـتهدف تفجير البرلمان العراقي الذي يرأسه أسامة النجيفي، وتكون حياة الأخير في خطر، لكن التفجير يجيء في سياق نزاعي يُمكّن النجيفي من القول إن لا حل للوضع الأمني سوى بإشراك السنّة في العملية السياسية. وعندما يُباشر خصوم نوري المالكي الشيعة اغتيال أئمة مساجد سنّية في بغداد، سيكون رد المالكي أن لا أحد يحمي هؤلاء الأئمة سوى رئيس حكومة شيعي قوي. العملية السياسية تتحرك وفق هذا المنطق، والتنازلات تجرى على وقع عنف لا تشترك فيه الأطراف في شكل مباشر، وإذا اشتركوا فعلى نحو غير معلن على الاطلاق.
في لبنان باشرت الأطراف نوعاً من هذا المسار. بشائره الأولى حكومة الـ «8 8 8» التي وافق عليها «حزب الله» في أعقاب متفجرة الضاحية الجنوبية، بعد أن كان متمسكاً بحكومة الـ «9 9 6». هذا مؤشر صغير وهش، لا سيما أنه ما زال غير ممكن في ظل الخلاف على البيان الوزاري، لكنه وفي ظل استنساخ العنف يُعطي مؤشراً الى وجهةٍ يبدو أننا نحث الخطى باتجاهها.
لكن يجب أن نلاحظ أن التسوية لم تتحقق في العراق على رغم الدماء الكثيرة التي أريقت، ولبنان يبدو أضيق من معادلة الدماء والسياسة هذه. فـ «حزب الله» يُمكنه أن يتنازل في الحكومة، لكن لا يُمكنه أن ينسحب من القتال في سورية، وزعامة آل الحريري تتصدع يوماً بعد يوم في ظل العنف والعنف المضاد، وإمكان إجراء تسوية يبدو اليوم مستحيلاً.
واذا اعتمدنا المؤشر العراقي بوصلة، فإن الوقائع العراقية الدامية بين الأعوام 2007 و2009 أنتجت انتخابات نيابية فاز فيها السنّة العرب (أقل من 20 في المئة من السكان) بلائحة يرأسها الشيعي اياد علاوي بـ91 مقعداً على لائحة نوري المالكي التي فازت بـ90 مقعداً، ثم عاد الأخير وانقلب على النتائج مُحدثاً أزمة دستورية وفارضاً نفسه رئيس حكومة لولاية ثانية. وجرى في لبنان ما يُشبه ذلك عندما أقصى «حزب الله» بقوة السلاح الطرف الفائز في الانتخابات النيابية. والواقعتان العراقية واللبنانية أسستا لعنف جاءت الحرب في سورية لتفتحه على آفاق جديدة.
ليست «السلفية الجهادية» طرفاً في كل هذه المعطيات. انها وسيلة القتل فقط، وهي لم تجد لنفسها مكاناً في تجارب سياسية واجتماعية تنطوي على قدر من المنازعات غير العنفية. في الأردن مثلاً، تبدو هذه السلفية أشد عراقة ورسوخاً في الكثير من البيئات، وليست الأجهزة الأمنية فقط من يكبح نشاطها هناك، لكن الحد الأدنى من ضبط المنازعات السياسية والاجتماعية يوفر بيئة عمل نموذجية للأجهزة الأمنية خلال تصديها لهذه الجماعات. ففي بداية 2005 كانت استطلاعات الرأي تعطي أرقاماً مخجلة في المملكة لجهة مشاعر الأردنيين الايجابية حيال أبو مصعب الزرقاوي، وفي نهاية العام نفسه أقدم الأخير على تفجير ثلاثة فنادق في عمان، فانخفضت مؤشرات الاستطلاعات الى مستويات غير مسبوقة.
إذاً، التفجيرات في لبنان ليست سوى قناع لنزاع الأطراف، وهو أمر مستجد. فقد كان العنف مقتصراً على متلقٍ واحد، وما كان من الممكن بقاء الوضع على ما هو عليه. «السلفية الجهادية» كانت مجرد جواب، وهي جواب أعمى على عنف غير أعمى.
الحياة
حزب الله» و «التوافقية» اللبنانية المترنّحة/ زياد ماجد *
منذ دستور 1926، ثم ميثاق الاستقلال الوطني العام 1943 والتشريعات التي تلته، اعتمد لبنان «الفلسفة التوافقية» في مؤسسات حكمه. وقد قامت الفلسفة هذه على أساس اقتسام السلطة بين ممثّلي الطوائف، وإقامة التحالفات السياسية العريضة واعتماد دوائر انتخابية تومّن التمثيل الأهلي المتنوّع في البرلمان، وتطبيق مبدأ الكوتا (عرفاً ثم قانوناً) في المناصب الوزارية والإدارية، إضافة الى إيثار «الإجماعات الوطنية» على «الحكم بالأكثريّة» في ما خصّ القرارات الكبرى المتّصلة بأوضاع البلاد وخياراتها الخارجية الاستراتيجية. وقد ساعدت خصائص النخب السياسية وارتباط مصالحها الاقتصادية والخدماتية بالاستقرار والاستعداد للبحث الدائم عن التسويات على توفير ظروف نجاح نسبي لـ «التوافقية» طيلة عقود. كما ساعد تفتّت التمثيل الطائفي ترابياً وتشكّل الزعامات على أسس محلّية (في المدن كما في الأرياف) على تجنّب الانقسامات العمودية عند نشوء اللوائح الانتخابية أو نشوب الصراعات السياسية.
غير أن صلاحيّات رئيس الجمهورية (الماروني) الطاغية على صلاحيّات رئيس الحكومة (السنّي) كما جمود الحصص الطائفية على رغم التبدّلات الديموغرافية أثارت مع الوقت توتّرات ومطالبات بتعديلات في الأحجام والمهمات والصلاحيّات. وجاءَ الانقسام الداخلي اللبناني حول الموقف من الناصرية الصاعدة في النصف الثاني من الخمسينات، كما حول العلاقة بحلف بغداد، ليفجّر الأوضاع جاعلاً التقاطع بين التوتّر الداخلي نتيجة الأوزان الطائفية داخل المؤسّسات والقسمة السياسية تجاه الخارج سمةً ستتحوّل بعد سنوات الى أبرز سمات الأحوال اللبنانية.
وعلى رغم انتخاب فؤاد شهاب العام 1958 وفق معادلة «اللاغالب واللامغلوب» وعلى أساس التسوويّة المنبعثة من النظام التوافقي (ومن الاتفاق الأميركي- المصري)، وعلى رغم إجراءات شهاب الإصلاحية والتحديثية لمؤسسات الدولة وخدماتها في أكثر من مجال، إلاّ أن استمرار الخلاف الداخلي ربطاً بأحجام «ممثّلي» الطوائف وأوزانهم، والتقاءه بالخلاف حول الشؤون الخارجية التي اتّخذت من المقاومة الفلسطينية المسلّحة انطلاقاً من لبنان عنواناً جديداً لها، أعادا التأزّم والتوتّر الى المشهد اللبناني في أواخر الستينات. وبدا هذه المرّة أن التوافقية – التسوَويّة التي ظلّت الى حدّ بعيد مهيمنة على الثقافة السياسية دخلت طور التراجع نتيجة صعود اليسار على حساب السياسيّين التقليديّين المسلمين واستقوائه بالحضور الفلسطيني المسلّح لفرض تغيير النظام من جهة، وتصلّب اليمين المسيحي ورفضه الإصلاح أو التغيير واستعداده للتحالف مع النظام السوري ومع إسرائيل لمواجهة خصومه من جهة ثانية. وتراجعت بالتالي إمكانات التسويات في حقبة شهدت تحوّلات اجتماعية واقتصادية هامة، واندلعت الحرب العام 1975 وتعاقبت القوى الداخلية والمؤثّرات الخارجية فيها، وتبدّلت التحالفات، وفشل مختلف محاولات وقفها حتى أواخر الثمانينات، حين صاغ من تبقّى من نوّابِ آخر برلمان منتخَب (قُبَيل الحرب) «اتّفاق الطائف» وقوامه عودتان الى التوافقية: واحدة في تحديد «نهائية الكيان» مقابل «عروبته» (عوَض «وجهه العربي»)، والثانية في استعادة صيغة الحكم نفسها (المعتمَدة منذ 1926)، وتكريسها بعد إعادة توزيع الصلاحيات على المركزَين الرئيسيّين فيها، رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة.
بهذا، أعاد «الطائف» الى التوافقية الاعتبار نظرياً، ولَو أنه جعل التحكيم بين الشركاء فيها مفتوحاً على تدخّل الأوصياء الخارجيّين، أو الوصيّ السوري الأوحد (المفوّض عربياً وأميركياً بالأمر عقب حرب الخليج الثانية العام 1991). لكنّ مسار الأمور بعد ذلك، وتحديداً من لحظة سنّ قانون الانتخاب العام 1992، بدا مُقبلاً على طعنٍ بالتوافقية وإخراجٍ لركيزة سياسية – طائفية رئيسيّة من الحُكم، عبر إقصاء القوى السياسية المسيحية الواسعة الشعبية وتصميم دوائر انتخابية تدفعها الى المقاطعة أو تحاصرها وتحدّ من قدرتها على النجاح.
وترافق الأمر مع نزوع شهده البلد للمرّة الأولى نحو أحادية التمثيل ضمن الطائفتين، السنّية مع الظاهرة الحريرية، والشيعيّة مع الثنائي «أمل» – «حزب الله». وتكرّست مع حصصهما داخل المؤسسات اللبنانية اختصاصات سياسية لكلّ منهما. فاختصّت الحريرية بالاقتصاد وإعادة الإعمار وبعض العلاقات الدولية، في حين اختصّ الثنائي الشيعي بالكثير من التعيينات الإدارية والتعويضات وبقرار قتال إسرائيل وِفق إيقاع حلفه السوري – الإيراني. أما المسيحيون بقواهم الرئيسية ففُرض عليهم اختصاص المعارضة والمقاطعة (أي العمل السياسي من خارج «الدولة»). ولم يتبدّل في المعطى المذكور شيء مع وصول قائد الجيش إميل لحود الى رئاسة الجمهورية، ولَو أن لحود قرّر مواجهة الحريرية لأسباب سورية (ارتبطت بتسلّم بشار الأسد الملف اللبناني من أبيه العام 1998 ومحاولته الإتيان بطاقم سياسي من أصدقائه) وبهدف بناء مشروعية شعبية ترى في مواجهته رئيس الحكومة استرجاعاً لصلاحيّات الرئاسة «القويّة». ولم تختلف بعد تحرير الجنوب العام 2000 المعادلة كثيراً، إذ بقيت القسمة السنّية- الشيعية بأدوار طرفيها المتناقضة طاغية. لكن الأمر سمح بإطلاق ديناميّات جديدة في البلاد، أسّست للمواجهة اللاحقة بين القوى السياسية المسيحية، ومعها القوّة الدرزية الأولى وقوى علمانية، انضمّت الحريرية الى جبهتها العام 2004 لمواجهة طغيان النظام السوري، ممّا أدّى الى اغتيال الحريري نفسه ثم الى الانتفاضة الشعبية اللبنانية الكبرى، المدعومة دولياً، ضد الهيمنة السورية في آذار (مارس) 2005. وأفضت المواجهة الى إخراج النظام السوري من لبنان بعد 29 عاماً على دخوله.
على أن ما جرى بعد 2005، أظهر أن التبدّلات التي أسّست الحرب لها ثم كرّستها الممارسات السياسية والتحوّلات الديموغرافية بعد انتهاء الحرب، إنْ في تركيبة السلطة وخصائص نخبها أو في الاستقطابات داخل الطوائف وحدّتها، لم تكن موقّتة ولا مرهونة بالحقبة السورية. فالحريرية ظلّت عصبية جامعة للأكثرية السنيّة المُصابة باغتيال زعيمها، و «الشيعية السياسية» تماسكت بعد الخروج السوري الذي كان عرّاب صعودها، واستفادت من السلاح الذي سبق ووفّره لها «اختصاصها الحربي»، واستفادت أيضاً من مزاج مسيحيّ عام (مثّله تيار ميشال عون) مال إليها لفترة باعتبارها ملاذاً واستقواءً على السنّة الحريريّين وما «انتزعوه» من صلاحيّات وأدوارٍ كان بعضها حكراً على المسيحيّين قبل الحرب.
هكذا، بدا أن طوراً جديداً من العلاقة بالفلسفة «التوافقية» قد نشأ، وفيه معطيات أتاحت التطوّرات اختبارها، وصار من الجائز اليوم استخلاص بعض العبر منها.
العبرة الأولى أن القسمة السياسية – المذهبية السنيّة- الشيعية التي يستقطب كلّ من جناحيها جزءاً من المسيحيّين لم تعد تسمح باستمرار الصيغة التوافقية على ما كانت عليه، بخاصة أن قدرة رئاسة الجمهورية (المارونية) على التحكيم أو إدارة اللعبة السياسية بين رئاسة الحكومة (السنّية) ورئاسة المجلس النيابي (الشيعية) صارت صعبة ومقيّدة باعتبارات دستورية وأُخرى ناجمة عن توازنات القوى.
العبرة الثانية أن حدّة الاستقطاب داخل الطائفتين السنيّة والشيعيّة تجعل الصدام بين الكتلتين أمراً قائماً لا يمكن التعويل على تحالفات أفقيّة (تخترق الاصطفافين) للجمه أو للحدّ منه.
العبرة الثالثة أن خصائص القيادة السياسية الشيعية مستجدّة في السياق اللبناني. فصعود «حزب الله» الطامح الى لعب دور داخلي يشبه دور النظام السوري أيام سيطرته، أي الإشراف الأمني وتقسيم الاختصاصات على القوى السياسية وحصر مهماتها ببعض جوانب الاقتصاد والعلاقات بالغرب والإدارة مقابل ترك المسألة «الحربية» والتموضع الإقليمي وقفاً عليه، هذا الصعود، يعدّل الكثير من جوانب «التوافقية». إذ فيه قسر يحصّنه ثقل عسكري وتنظيمي أقوى من «الدولة» نفسها. وفيه بعد أيديولوجي هو الأوّل في التاريخ اللبناني في اقترانه بالطائفية، وهو يجعل الدينَ عنصرَ هويّة سياسية وأفقَ مشروع «جهادي» يتخطّى الطائفية وشبكات ولائها وزبائنيّتها المعهودة. كما أنّه يرتبط بالجمهورية الإسلامية الإيرانية عضويّاً ومن منطلق عقائدي وعسكري، على نحو يختلف عن ارتباطات خصمه «تيّار المستقبل» بحلفائه الخارجيّين (السعودية تحديداً)، حيث العلاقة وثيقة لكنها غير إيديولوجية، ويختلف أيضاً عن ارتباطات جميع قوى الحرب الأهلية سابقاً بعرّابيها أو مموّليها الخارجيّين. وهذا البُعد الأخير في العلاقة بالخارج هو من مَقاتل «الفلسفة التوافقية» إذ يجعلها عرضة لصراعات تتخطّى حقل عملها التسوَوي المُفترض وتُطيح قدرتها على احتواء التوتّرات مؤسّساتياً.
العبرة الرابعة أن ترسانة سلاح «حزب الله»، التي كانت معلَم «الاختصاص» الشيعي في وجه إسرائيل، صارت جزءاً من آليات الضغط التي يستخدمها الحزب داخلياً. فبعد أيار (مايو) 2008 وكانون الثاني (يناير) 2011 واستخدام السلاح مباشرة في بيروت وجبل لبنان أو التلويح به لتعديل التوازنات الداخلية وإسقاط الحكومة وفرض الأمر الواقع، لم يعد من الممكن الحديث عن «توافقية» سياسية، ولَو عرجاء.
والعبرة الخامسة أن سلاح «حزب الله» منذ انــــخراطه في حرب جديدة صيف 2012، وهي حرب نظام الأسد على أكثرية الشعب السوري، صار شديد التأثير في الطائــــفة السنيّة نفسها. فهو مدعاة إضعاف تدريـــجـــي لخصومه الحريريّين «المعتدلين» مقابل تعزيز ردود أفعال لدى مجموعات ترى في التطرّف المذهبي والبحث عن التسليح المضاد سبيلاً للردّ عليه وإحقاق توازن الــرعب معه. وهو استجلاب للصراع السوري الى الأرض اللبنانية مع ما يعنيه الأمر من مضاعفات واحتمالات أهوال لا يمكن لبنان تحمّلها. وما التطوّرات خلال الأشهر الماضية إلاّ دليل على هذا المستجد، الذي قد يجعل استمرارُه لبنانَ برمّته، وليس نظامه السياسي فحسب، ركاماً أو حطاماً.
هكذا، تسير الأمور منذ سنوات نحو أفول للنظام التوافقي المترنّح، من دون بحث عن بدائل له. وهكذا أيضاً يجرى دفع لبنان نحو سيناريو فوضى سياسية وأمنية لا كوابح لها. وحتى لو تشكّلت حكومة جــديدة في الأيام المقبلة، لن يكون في مقـــدورها إعادة إحياء التوافقية. فالخيارات الـخارجية يفرضها «حزب الله» بالسلاح، بعيداً من الدولة ومؤسّساتها وما يُفترض بالتسوويّة والإجماعات الوطنية أن توفّره. ومُستلزمات الأخيرة لم تعد شرطاً للعلاقات الداخلية وصناعة أولويّاتها. ولا يبدو أن شيئاً سيتغيّر في المستقبل القريب إلا إذا كان نتيجة أوضاع إقليمية، ليس اللبنانيّون في أي حال من المقرّرين في مساراتها…
* كاتب لبناني.
الحياة
كيف سيخرج حزب الله من الصراع في سورية؟
دخول مقاتلي الحزب إلى سورية كان حاسماً لبقاء نظام الأسد
عضو بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية: قرار إرسال قوات التنظيم إلى سورية يمثل نقطة تحول
الحزب يدير خلايا إرهابية في أوروبا وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية
التنظيم أكثر مجموعة إرهابية تقدماً في العالم وقاسم سليماني يدير العمليات في سورية
بقلم جوناثان ماسترز وزاكري لوب: (مجلس العلاقات الخارجية الامريكية)
تعريب: نبيل زلف
في دراسة جديدة موجزة نشرتها مجلة «مجلس العلاقات الخارجية الامريكية»، سلط جوناثان ماسترز نائب رئيس تحرير المجلة لبرنامج تجديد المبادرة الامريكية وزميله الكاتب المشارك زاكري لوب الضوء، ليس فقط على دور حزب الله في السياسة اللبنانية بل وعلى جوانب عدة اخرى ذات صلة تناولا فيها: بداياته، قيادته، بنيته التنظيمية، اماكن نشاطه ومناطق عملياته. فيما يلي ما جاء في هذه الدراسة.
حزب الله حزب سياسي اسلامي شيعي يمتلك ميلشيا مسلحة وتعتبره الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي منظمة ارهابية، ولدى الحزب بفضل الدعم الكبير الذي يحظى به من سورية وايران جهاز امني متقدم ومنظمة سياسية بالاضافة لشبكة واسعة من الخدمات الاجتماعية في لبنان، مما دفع البعض لوصفه بانه «دولة داخل دولة»، غير ان الحزب اصبح بعد اعلانه ان سبب وجوده هو مقاومة اسرائيل وتورط الغرب في المنطقة، وكيلا حقيقيا للسياسة الخارجية الايرانية وتمكن من كسب بعض التأييد بذلك من خارج قاعدته الشيعية.
الا ان تورطه المتزايد في الحرب الاهلية السورية دفع حتى بعض مؤيديه في دوائره الانتخابية للنفور منه، وأثار وفقا لبعض التقارير، ردودا انتقامية في بيروت من جانب انصار الثوار السوريين، كما تعتبره الحكومة الامريكية وحلفاؤها الاوروبيون تهديدا ارهابيا عالميا وخطرا يهدد ايضا استقرار الشرق الاوسط.
ما هي بدايات حزب الله؟
برز حزب الله خلال الحرب الاهلية اللبنانية التي استمرت 15 سنة (1990-1975) في اعقاب الغزو الاسرائيلي للبنان وما تلاه من احتلال عام 1982.
بالطبع كان هدف هذا الغزو في ذلك الوقت ابعاد الميليشيات الفلسطينية المسلحة عن الجنوب اللبناني الذي كانت تعمل فيه الا انه دفع فصيلا من الشيعة الغاضبين لحمل السلاح ايضا على طريقة النظام الديني في ايران.
وتمكنت هذه الحركة التي مثلت في ذلك الوقت بدايات الحزب، من الحصول على الدعم المالي الذي كانت بحاجة له من حرس ايران الثوري الذي وفر لها التدريب ايضا، وما ان حل اكتوبر عام 1983 حتى عززت هذه المجموعة صورتها كرائدة للمقاومة الشيعية حينما شنت هجمات انتحارية على السفارة الامريكية وثكنات مشاة البحرية الامريكية في بيروت مما ادى لقتل 258 امريكيا.
بعد شهر من ذلك، سحب الرئيس رونالد ريغان وحدات مشاة البحرية تلك التي كانت قد نشرها في لبنان كجزء من قوة متعددة الجنسيات لحفظ السلام في هذا البلد.
وفي عام 1985 اصدر الحزب بيانه التأسيسي الرسمي الذي تعهد في منهاجه بولائه لآية الله روح الله الخميني، والعمل لإقامة نظام اسلامي، ودعا لطرد الولايات المتحدة، فرنسا واسرائيل من الاراضي اللبنانية بالاضافة لتدمير الدولة الاسرائيلية ايضا، وفيما يلي بعض ما جاء في بيان الحزب الرسمي: «اننا نؤكد من خلال قتالنا ضد اسرائيل ان الكيان الصهيوني معتد منذ انشائه وانه قائم على اراض تم انتزاعها من مالكيها على حساب حقوق الشعب المسلم لذا، لن ينتهي نضالنا الا عندما تتم ازالة هذا الكيان، ونحن لا نعترف بأي معاهدة معه ولا بوقف لإطلاق النار ولا باتفاقيات السلام، سواء كانت منفصلة او مع اطراف اخرى».
ما شكل قيادة حزب الله وبنيته التنظيمية؟
قائد حزب الله هو امينه العام الذي يختاره مجلس للشورى مؤلف من سبعة اعضاء ويشرف بدوره على خمسة مجالس فرعية هي: المجلس السياسي، المجلس الجهادي، مجلس البرلمان، المجلس التنفيذي والمجلس القضائي.
وكان حسن نصر الله قد قاد حزب الله كأمين عام له منذ عام 1992 بعد ان قتلت اسرائيل عباس الموسوي الذي كان من مؤسسي المجموعة، كما كان نصر الله سابقا عضوا في الدعوة الاسلامية المجموعة الميلشياوية التي اتبعت تعاليم رجل الدين العراقي البارز باقر الصدر، ومن الاعضاء الكبار الآخرين في حزب الله نعيم قاسم الذي يعتبرالرجل الثاني في القيادة وحسن الخليل كبير مستشاري نصر الله السياسيين.
بيد ان عماد فايز مغنية كان بنظر الكثيرين من المتخصصين بالمنظمات الارهابية العقل المدبر لحزب الله لشؤون العمليات الارهابية على مستوى العالم، ولذا كان اسمه مدرجا على العديد من قوائم المطلوبين للولايات المتحدة ودول اخرى.
انضم مغنية لحزب الله منذ ايامه الاولى ثم سرعان ما وصل لمنصب رفيع فيه بعد ذلك الا ان تفجير سيارته في دمشق عام 2008 ادى لمقتله ليحوله الحزب بعد ذلك الى اسطورة كقائد عسكري تاريخي.
بالطبع اتهم مسؤولو الحزب اسرائيل بالوقوف وراء ذلك التفجير، لكن الحكومة الاسرائيلية انكرت ضلوعها فيه.
التمويل
من المعروف ان ايران تزود حزب الله بما يصل الى 200 مليون دولار سنويا، وفقا لما ذكره ماثيو ليفين، عضو معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى خلال اجتماع عقده مجلس العلاقات الخارجية في اكتوبر 2013. وهذا مبلغ كبير اذا اخذنا بعين الاعتبار الضائقة الاقتصادية التي تعيشها ايران نتيجة للعقوبات الدولية المفروضة عليها.
ما الأماكن التي ينشط فيها حزب الله؟
تتمثل قاعدة الحزب في لبنان في المناطق التي يهيمن عليها الشيعة ومنها: اجزاء من بيروت، جنوب لبنان ووادي البقاع الذي هو منطقة زراعية مهمة كانت قد انسحبت اسرائيل منها عام 2000 بعد سنوات من الصراع مع ميليشيا الحزب.
بيد ان هذا الانسحاب لم يؤد الى استتباب الامن والهدوء في منطقة الحدود لان الحزب استمر يقصف على نحو متقطع القوات الاسرائيلية في مزارع شبعا الحدودية المتنازع عليها ليندلع بعد ذلك صراع استمر شهرا في صيف 2006 وجه الحزب خلاله آلاف القذائف نحو الاراضي الاسرائيلية، كما استخدم ايضا سلاحا مضادا للسفن زوده به الايرانيون على الارجح، واثار دهشة العديد من قادة اسرائيل وعلى الرغم من ان هذه المعركة الطويلة الحقت دمارا رهيبا وخسائر فادحة بلبنان، الا انها عززت صورة الحزب كأداة للمقاومة بعد ان نجحت الامم المتحدة في رعاية قرار رسمي لوقف اطلاق النار في شهر اغسطس من تلك السنة.
غير ان هذه المعركة الكبرى لم تكن الاخيرة فقد تعهد نصر الله علنا في منتصف عام 2013 باستخدام قواته من اجل المحافظة على بقاء نظام بشار الاسد حليف الحزب الوثيق منذ وقت طويل وقال في خطاب متلفز: «هذه المعركة معركتنا واعدكم بالانتصار فيها».
ويعلق بعض المحللين الغربيين على هذا بالقول ان دخول مقاتلي الحزب الاراضي السورية كان حاسما بالفعل لبقاء الاسد حتى الآن، فقد ساعد الآلاف من مقاتلي الحزب القوات السورية في ذلك الوقت على استرجاع بلدة القصير الاستراتيجية بعد استيلاء الثوار السوريين عليها، كما عملت قوات الحزب بعد ذلك لتأمين طرق الامدادات على طول الحدود اللبنانية الى داخل وادي البقاع، ويعرب المحللون من اعتقادهم ان ايران والحزب يستخدمون الآن آلاف المقاتلين لدعم نظام الاسد في مختلف مناطق سورية.
يقول روبرت دانن عضو مجلس العلاقات الامريكية: ان قرار ارسال مثل هذه القوات الى سورية يمثل نقطة تحول رئيسية لان الحزب يترك بذلك جنوب لبنان مكشوفا لاسرائيل.
وهذا ما يجعل الكثيرين من الشيعة اللبنانيين في حالة قلق من ان يكون الحزب قد تخلى عن التزامه بلبنان من اجل تحالف اكبر مع سورية وايران.
غير ان وجود قوات حزب الله في سورية لم يحل دون قيام اسرائيل بشن ضربات جوية عدة على سورية لتدمير شحنات من الاسلحة المتقدمة قبل وصولها للحزب في لبنان، اذ كانت الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي قد اتهما قوات القدس التي هي وحدة النخبة في حرس ايران الثوري، بتأمين اسناد مادي، ليس فقط للحزب بل وللقوات السورية ايضا، ويعتقد المسؤولون الاسرائيليون بدورهم ان قائد قوات القدس قاسم سليماني هو الذي يرتب العمليات من مقر مخصص له في دمشق.
ما هي مناطق عمليات حزب الله الاخرى؟
تعتقد الولايات المتحدة التي صنفت حزب الله منظمة ارهابية اجنبية في اكتوبر 1997 انه يدير خلايا ارهابية في: اوروبا، افريقيا، آسيا، وامريكا اللاتينية. ووصفت ادارة اوباما حزب الله عام 2010 بانه المجموعة الارهابية الاكثر تقدما وحرفية في العالم، ويقول تقييم اصدرته وزارة الخارجية الامريكية في 2013 ان نشاط الحزب وصل بفضل الرعاية الايرانية حدودا غير مسبوقة منذ فترة عقد التسعينيات منذ شهد العالم عددا من العمليات الارهابية الرئيسية التي نسبها المحللون السياسيون له او للمجموعات المرتبطة به على الرغم من انكاره التورط فيها ومنها:
< الهجمات الانتحارية التي استهدفت منشآت امريكية في بيروت عام 1983.
< اختطاف الطائرة الامريكية «تي.دبليو.ايه – 847» 1986.
< تفجير سيارة مفخخة امام السفارة الاسرائيلية عام 1992 وتفجير مركز الجالية اليهودية في الارجنتين في 1994.
< تفجير ابراج مجمع الخبر في المملكة العربية السعودية في 1996.
< اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري 2005.
< تفجير حافلة ركاب تنقل سائحين اسرائيليين في بلغاريا 2012.
ومنذ عام 2012 تم اعتقال عدد ممن يوصفون بعملاء حزب الله في نيجيريا، تايلاند وقبرص التي ادانت احدى محاكمها رجلا سويديا لبناني الاصل لضلوعه في هجمات عدة على اهداف اسرائيلية.
لكن على الرغم من انكار الحزب هذه الهجمات صنف الاتحاد الاوروبي جناحه المسلح في يوليو 2013 منظمة ارهابية وذلك بعد نقاش مطول بين اعضائه لان بعض الحكومات خشيت من ان تؤدي مثل هذه الخطوة الى ضرر في العلاقات مع لبنان وزيادة حالة عدم الاستقرار في الشرق الاوسط.
ما دور حزب الله في السياسة اللبنانية؟
من المعروف ان الاتفاق الوطني اللبناني الموقع عام 1943 يقضي بان يكون رئيس الحكومة مسلما سنيا، ورئيس الجمهورية مسيحيا موارنيا، وان يكون رئيس البرلمان شيعيا، ومن الواضح ان هذا التوزيع مصمم ليتناسب مع المجموعات الدينية الرئيسية في لبنان لان التعايش فيما بينها يتطلب منذ وقت طويل توازنا دقيقا.
ولم ينضم حزب الله للعملية السياسية هذه الا في مطلع عقد التسعينيات بعد اتفاق الطائف الذي رعته المملكة العربية السعودية وسورية، وعالج بعض التحديات ذات الجذور الطائفية لينهي بذلك حربا اهلية استمرت 15 سنة.
بيد ان ذلك الاتفاق سمح للحزب بالاحتفاظ بسلاحه، وابقى القوات السورية في لبنان من اجل حفظ السلام لتسحب سورية هذه القوات تدريجيا عام 2005 بينما انهت اسرائيل احتلالها للجنوب اللبناني في 2000.
الانتخابات
تمكن حزب الله من الفوز بـ8 مقاعد من اصل 128 عندما خاض الانتخابات الوطنية لاول مرة عام 1992 الا ان قوته السياسية اخذت تزداد بشكل ملحوظ منذ مايو 2008 بعد ان حصل على حق النقض عمليا داخل الحكومة بفضل ما يعرف بـ«اتفاق الدوحة» الذي ساعد في وضع حد للازمة السياسية التي استمرت 18 شهرا لينتهي الامر بعد ذلك باجتياح الحزب الجزء العربي من بيروت.
وبعد شهر واحد من فوز الحزب بـ10 مقاعد برلمانية في انتخابات عام 2009، جدد زعيمه نصر الله بيان الحزب الرسمي ليتلاءم مع الديموقراطية، وعلق بعض المحللين على ذلك بالقول: حتى حزب الله اضطر لتعديل رسالته الدينية الاصولية لتتلاءم مع الثقافة التعددية التي تستوعب الحداثة والاتجاهات الدينية معا، ولا شك ان مثل هذه الخطوة تطلبت تحولا تدريجيا عن جذور الحزب الخمينية الى نهج وطني اسلامي عصري اكثر.
غير ان نصر الله كرر مرة اخرى في 2009 رفض الحزب لدولة اسرائيل بالقول: «هذا الموقف ثابت دائم ونهائي ولا يحتمل اي تراجع او تسوية حتى ولو اعترف العالم كله باسرائيل».
على اي حال استمر حزب الله في السنوات القليلة الماضية في لعب دور مهم في السياسة اللبنانية تمكن من خلاله في 2011 من اسقاط حكومة سعد الحريري الذي تدعمه المملكة العربية السعودية.
لكن على الرغم من موافقة الحزب على تولي نجيب ميقاتي رئاسة الحكومة بعد ذلك الا انه ارغم ميقاتي على ترك منصبه لتنهار هذه الحكومة في مارس 2013 في نزاع حول قوات الامن اللبناني ويجد لبنان نفسه بالتالي بلا حكومة.
ويبدو ان كل هذا لم يكن كافيا لزيادة الازمة تعقيدا، فقد اعلنت «كتلة المستقبل» المنافسة للحزب في نوفمبر الماضي انها لن تشكل اية حكومة اخرى ما لم يسحب الحزب مقاتليه من سورية.
ورد نصر الله على هذا الموقف بالقول ان هذا «شرط مستحيل» ليدخل لبنان بهذا مرحلة بالغة التعقيد، خاصة ان بيروت اخذت تتحول على ما يبدو الى ساحة من ساحات الحزب الاهلية الدائرة الآن في سورية، فقد قوبل انخراط حزب الله في الصراع السوري بهجمات انتقامية من جانب الميليشيات السنية التي تحارب نظام الاسد والتي هددت بشن هجمات في بيروت طالما بقي مقاتلو الحزب يعملون في سورية.
من الواضح ان حزب الله وصل اليوم الى مرحلة حاسمة في تطوره السياسي.
اذ يثير تورطه الاخير في سورية السؤال المهم التالي: هل الحزب منظمة وطنية لبنانية ام مجموعة مهتمة اكثر بحماية مصالح الشيعة في الشرق الاوسط؟
يقول دانن: اعتقد ان الحرب في سورية، ووضع ايران في المنطقة في المستقبل سوف يحددان مصير حزب الله، فإما سيخرج من الحرب السورية قويا واكثر قدرة على القيام بدور بارز في السياسة اللبنانية، او انه سيصبح بعدها ضعيفا مشوه السمعة ودون قاعدة شعبية قوية حتى بين طائفته الشيعية في لبنان.
الوطن الكويتية