صفحات العالم

مقالات لكتاب عرب تناولت “داعش”

 

2014 عام «داعش» و… الخلل الذي أصاب العالم/ حازم الأمين

سنختتم عامنا، 2014، من دون أن نُقدم لأنفسنا تفسيراً لذلك الطوفان الذي سميناه رغماً عنه «داعش»، والذي أطلق هو على نفسه اسم «دولة الخلافة».

نعم كان 2014 عام الطوفان الذي أطاح السدود والحدود الرخوة بين الدول والكيانات. عام اهتزاز سايكس بيكو، تلك المعاهدة التي لطالما لاحت لنا بصفتها ذروة المؤامرة على عروبتنا وعلى إسلامنا، لكن أحداً منا لم يجرؤ على المس بها، فجاء «داعش» وأطاحها، لنعود ونكتشف أن ذلك الوعي الشقي بحاضرنا إنما يمكن أن ينبعث ويتحول وحشاً يأكلنا، وأن يكشف لنا أن غير الداعشيين منا هم فقط أولئك الذين قبلوا بسايكس بيكو.

صحيح أن «داعش» ليس ابننا وحدنا، لكن، والحق يُقال، أن لنا فيه أكثر مما لغيرنا، فمثلما لا يُمكن لعروبي أن يتنصل من إغراء إلغاء حدود الكيانات المصطنعة، وهي مصطنعة فعلاً، لا يمكن لإسلامي أن يواجه «الخلافة»، أي خلافة كانت. فـ«داعش» في النهاية يُمسك بالمانيفستو نفسه، ذاك الذي أفضى بالإخوان المسلمين إلى التوجه إلى باكستان لتحرير فلسطين، وقبلهم دفع عبد الناصر لإرسال جيشه إلى اليمن، وبعدهم حزب الله الذي توجه إلى سورية مُلغياً الحدود اللبنانية السورية. وكم يبدو غير مذهل أن يُراكم خطاب «رفض الكيانات المصطنعة» الذي اشتغل لعقود وعقود نتيجة تشبه «داعش»، ففي داخل كل واحد منا ميل لاحتقار «وطنه» الجديد، ورغبة في تجاوزه، وهو شرط نفسي تلبيه دولة الخلافة على نحو لم يلبه أحد.

لقد أذهلنا تدفق «داعش» على المدن العراقية والسورية، وهو ذهول منافق، ذاك أن «داعش» كان يقيم في هذه المدن منذ سنوات، ويُشارك في إدارتها، وكل ما فعله في 2014 هو أنه أعلن نفسه سيداً عليها. العالم كله منافق، والعالم كله كان شاهداً على تلك الولادة. وكل ما فعله أيضاً أنه واجه العالم بحقيقته، فقال للأميركيين: هذا ما تُخبئه دولتكم وحكومتكم عنكم، وقال للعرب والمسلمين: ها أنذا أشبهكم على نحو ما تُشبهون أنفسكم، وقال للأوروبيين إن من بينكم من أغريه أكثر مما تُغرونه. أنا ابن العالم وابن مآلاته الكثيرة، وابن حداثته وتقدمه.

نعم «داعش» وُلد عـــراقياً، لكنه الآن مخلــوق عالمي. وُلد في سجــن بوقـــا العـــراقي الذي كان يُديره الأميركيون. هناك تحول أبو بكـــر البغـــدادي مـــن مُجوّد عـــادي إلى قائد للتنــظيم. ومـــن هناك انتقل الرجل بصحبة ضباط البعث المفرج عنهـم إلى صحراء الأنبار حيث أقام في ضيافة العشائر التي اضطهدها نوري المالكي وانتقل منها إلى الموصل وديالى.

لكن «داعش» اليوم لم يعد عراقياً. هو كل شيء. هو تونسي مثلما هو بريطاني وشيشاني، وهذه الهويات غير المُطلقة تُشبه، وان على نحو سلبي ومأسوي، الهوية المتقلبة للمواطن العالمي. فذباح «داعش» اللبناني خالد شروف قدم إلى العراق من استراليا، ونجم التنظيم البريطاني جون كان مغني راب، ومثل هؤلاء آلاف هم نواة التنظيم ونجومه، فيما فيالقه العشائرية تبقى ضعيفة الالتحام ببنيته وقابلة للانفصال عنه ما إن تحين ساعتـــه. أما الضباط البعثيون، فلهم حساباتهم المختلفة وضغائنهم الناجمة عن مسارات أخرى.

قد يبــــدو مستحيلاً تفسير ما جـــرى. هو مستحيل على قدر ما هو بديهي. فيقول الطبيب النفسي عن ذلك البريطاني «جهادي جون» الذي أقـــدم على ذبح الرهينة الأميـــركي جيمس فولي، إنه لا يشك بأن جون يعاني من مرض معروف من أعراضه الانفصال عن آلام الآخرين، وانعـــــدام القدرة على معرفة أن للآخرين مشــاعـر، وأنهم يتألمون مثلما هو يتألــم. لكن المريض الإنكليزي «جهادي جون» هز العالم بفعلته، وهو نفسه من أقــدم علـــى ذبح 22 ضابطاً سورياً أسرهم «داعش» في الرقة. فهل يصــــح أن نقول إن العـــالم كــله ترنح تحت تأثير أعراض مرض رجــــل واحد؟ هنا تكمن قوة «داعش»، أي في قدرتها علــــى توظيف مرض، قد يكون تافهاً، في صورة يمكن لها أن تهـــز العالم. وقد تبدو مقاومة «داعش» في أن يتصدى العالم لهـــذا المرض، وهذا أمر مستحيل. وبهذا المعنى يمكن أن تشغــل «داعش» العالم بما لا وقت لديه له، وأن تدفعه إلى مــراجعـــة بديهيات كان تجاوزها في سياق تقدمه. فها هي دول أوروبية عدة تعيد مراجعة قوانينها بما يضمن لها التحصن من «داعش». مئتا هولندي عادوا من القتال مع «داعش» لا يطاولهم القانون الهولندي الراهن، فيما تدرس بريطانيا قانوناً لسحب الجنسية من مواطنين التحقوا بالتنظيم، وهذا مخالف جوهرياً لمعنى المواطنة وتراجع عن قيم التقدم.

«داعش» بهذا المعنى أشعر العالم أنه بالغ في الانقياد وراء التقدم، وأن التنظيم سبقه للاستثمار الدموي في هذا التقدم. يجب العودة إلى الوراء قليلاً، هذا ما يتهيأ العالم للإتيان به. وربما امتد ذلك ليتجاوز القوانين الحديثة، فإجادة التنظيم الاستثمار في وسائل التقدم التكنولوجي مستفيداً من «ديموقراطية» تدفق المعلومات ربما دفع العالم لإعادة النظر بسهولة إتاحتها.

لكن الغريب فعلاً أن العالم لا يبدو أنه بصدد إلحاق هزيمة بالتنظيم المتوحش. لا بل ثمة مؤشرات للقبول بشيء ما حدده «داعش». ويبدو أن الأخير هو من يقاوم رغبة العالم بقبوله، إذ أن التنظيم شعر أن هناك مساحة حقيقية لهذا الجنون ولهذا الموت، وهو لم يتمدد بعد عليها كلها. ويشعر أيضاً أن وراء القصور في الحرب عليه عجزاً حقيقياً يجب أن يستثمره. الصعوبات الهائلة التي تواجه العملية السياسية في العراق وراءها قبول باحتمال أن يكون «داعش» بديلاً حقيقياً، والتحالف الدولي الباهت والركيك أيضاً، وقبول العالم ببشار الأسد وبنظامه ضرب من القبول بـ«داعش».

لكـــن يبقــــى أن همّ العالم منصب اليوم على مرضاه الأفراد، أولئك الذيــــن يكشفون عن أن «داعش» حكــــايات كثيرة وليس حكاية واحدة. وبما أننا لا نملك ناصـــــية هذه الحكايات الكثيرة فسنبقى غير قادرين على تفسير هذا الخلل غير المنطقي الذي أصاب العالم.

الحياة

 

 

 

المعنويّات في مواجهة “داعش”!/ حازم صاغية

يقول فصل قديم من تاريخ العالم الإسلاميّ إنّه في العام 1222، وإبّان الطور التوسّعيّ لجنكيز خان، تمرّدت على سلطانه مدينة عظمى يومذاك هي حيرات التركيّة (الأفغانيّة في زمن لاحق).

وثأراً من أهل حيرات، قام القائد المغوليّ على رأس جيشه بذبح سكّان المدينة وإبادتهم، ولم يكن عددهم يومذاك ليقلّ عن مليون ونصف مليون من السكّان. هذا الحدث المهول تأدّى عنه ذعر غير مسبوق ألمّ بالمناطق التي تقع إلى الغرب من مدينة حيرات والتي هبطت معنويّات سكّانها إلى ما دون الحضيض. هكذا، وبعد عامين فحسب، بات في وسع المغول، بجيش لا يزيد تعداده عن ثلاثة آلاف جنديّ، غزو مساحة ضخمة تضمّ اليوم إيران والعراق الحديثين وإخضاع أهلها (هـ. هـ. هوورث، تاريخ المغول، الجزء الأوّل، 1876، ص ص 91 و97).

والحال أنّ “تنظيم الدولة الإسلاميّة” (داعش) يحمل اليوم على التذكير بواقعة كتلك، لا من حيث الأعداد طبعاً، بل من حيث الذعر الذي يلازم مسيرة التنظيم المذكور وانتشار قوّاته.

فمنذ احتلال “داعش” مدينة الموصل، حيث انهار الجيش العراقيّ بسرعة صاروخيّة، تتوالى صور النزوح الجماعيّ اليائس من مناطق سيطرة “داعش”، فضلاً عن صور الفظاعة تنكيلاً وقطعاً للرؤوس، أو سبياً وبيعاً للنساء، ممّا يدبّ الرعب في أوصال الناظر والسامع. وإذ يتبدّى أنّ تحرير مدينة صغيرة ككوباني (عين العرب) الكرديّة – السوريّة، من “داعش”، يستغرق كلّ هذا الوقت والجهد والتضحيات، تتلاحق التصريحات الرسميّة لكبار المسؤولين الأمريكيّين والغربيّين وفحواها أنّ الحرب على “تنظيم الدولة” ستكون طويلة جدّاً وبالغة الكلفة. وفي هذه الغضون يظهر صحافيّ ألمانيّ يقول إنّه تسلّل إلى العالم الداعشيّ وعاش فيه، واصفاً قوّة التنظيم كما لو أنّه دولة عظمى لا تُقهر.

كائناً ما كان الأمر، فإنّ هذا البُعد النفسيّ، الذي تستثمر فيه “داعش” بطاقةٍ إشهاريّة لافتة، يحضّ على التأمّل في مناعة الجماعات التي يستهدفها ذاك التنظيم وفي معنويّاتها. وللأسف فإنّ الأوضاع هنا لا تشجّع على الثقة أو التفاؤل.

أمّا المصدران الأساسيّان لتوقّع الأسوأ فهما:

أوّلاً، العيش المديد لتلك الجماعات المعنيّة في ظلّ أنظمة مستبدّة، في سوريّا البعثيّة كما في العراق البعثيّ سابقاً. ذاك أنّ الاستبداد المديد هذا إنّما عمل على تفتيت الروابط الاجتماعيّة بوصفه وسيلة الأنظمة كي تمكّن قبضتها على أطراف مفتّتة ومبعثرة لا يجمع جامع بينها. وفي الوقت ذاته، عمل البعثان الحاكمان على الحول دون ظهور الفرد الحرّ الواثق الذي يقاتل في سبيل حياة أفضل وحرّيّة أكثر.

أمّا المصدر الثاني فهو التردّي الهائل للأنسجة الوطنيّة، حيث تقيم مخاوف الأقلّيّات من الأكثريّات، ومن واحدتها الأخرى. وإذا صحّ أنّ نظامي الأسد وصدّام حسين كانت لهما اليد الطولى في إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه، إلاّ أنّ التذرّر والتفسّخ الاجتماعيّين سابقان عليهما، يستندان إلى أسباب اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة تعود إلى ما قبل المرحلة الكولونياليّة.

وواقع كهذا يُتحفنا بعدد من اللوحات المؤلمة. فهناك قابليّة الطوائف غير المسلمة للذعر والفرار. وهناك أيضاً، وهو ما نشهد في العراق، العجز والفساد اللذان يشوبان التصدّي الطائفيّ لـ “داعش”، بحيث يفشل كسب السكّان الذين يخافون من “المحرِّرين” ذوي اللون الطائفيّ الآخر أكثر ممّا يخافون “داعش” التي تشاطرهم لونهم الطائفيّ. وهذا فضلاً عن أنّ معركة الأكراد السوريّين في كوباني تبقى إلى حدّ بعيد معركة كرديّة حصراً.

وليس من المبالغة القول، والحال على ما هي عليه، إنّ عوامل كهذه لا تؤسّس معنويّات مرتفعة أو مناعة مطلوبة في وجه ذاك التنظيم الشرير

 

 

 

لماذا تدعم أنقرة «داعش»؟

تعرّف انقرة غراهام فولر بانه احد عناصر الاستخبارات الأميركية، لكنه باحث له تحليلات صائبة في ما يتعلق بتركيا والشرق الأوسط اللذين يعرفهما عن كثب.

وفي احد تحليلاته الأخيرة كان متوازناً للغاية في تشخيص العلاقة بين تركيا و»داعش». يقوم فولر بداية بتحليل لـ»حزب العدالة والتنمية». حزب (الرئيس رجب طيب) اردوغان يأتي من التقليد الإسلامي لتركيا. «العدالة والتنمية» ربما هو الحزب الأكثر اعتدالاً وواقعية وفائدة، وربما نجاحاً، من بين الأحزاب الإسلامية في العالم الإسلامي.

يمكن مقارنة «حزب العدالة والتنمية» بحركة «الإخوان المسلمين» الضخمة، لكنه أكثر منها تقدماً وكفاءة، وفي السياسة أكثر خبرة. أردوغان وجانب من «العدالة والتنمية» ينظران إلى «الإخوان» على أنها الأكثر وعداً في العالم العربي من بين الحركات الإسلامية، لأنها منفتحة على طروحات الديموقراطية والعولمة والتسامح والحوار. وبسبب تعاطف اردوغان معها فقد اختلف مع (الرئيس المصري عبد الفتاح) السيسي الذي سحقها، ومع السعودية التي أعلنتها منظمة إرهابية.

على الرغم من أن تنظيم «داعش» هو في قمة العناصر المتطرفة في التيار الإسلامي والنزعة الإسلامية، غير أن اردوغان و «حزب العدالة والتنمية» غضا النظر عن «داعش» في الحرب في سوريا بسبب انه يريد خلع (الرئيس بشار) الأسد. فما هو السبب الذي حدا بأردوغان لكي يحوّل مسألة إسقاط الأسد إلى قضية دم شخصية؟

تبعاً لفولر يوجد عاملان: الأول هو علاقة الماضي الشخصية له مع الأسد، والثاني هو العامل الكردي.

العلاقة بالأسد

لقد تعاطى اردوغان مع الأسد، على امتداد عشر سنوات، كما لو أنه «الأخ الأكبر» لحل المشكلات الداخلية والخارجية لسوريا، وفي موضوع تطوير العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. وما إن عصفت رياح الربيع العربي حتى كان اردوغان مصراً جداً على أن يقدم الأسد تنازلات للمعارضة في مواضيع الحقوق الديموقراطية. لكن الأسد لم يُصغِ إليه. هنا رأى اردوغان أن تطلُّعه ليكون زعيماً مؤثراً في الشرق الأوسط وفي سوريا قد ألقيت عليه الظلال، وأصيب بخيبة أمل عميقة. ومن أجل إسقاط النظام في سوريا في فترة قصيرة لجأ إلى اعتماد كل الوسائل لتحقيق هذا الهدف.

لكن نظام الأسد قاوم حتى الآن وصمد، بسبب انه يستند لجذور مؤسسية من جهة ولخوف الآخرين من حلول المتطرفين الدينيين بدلاً منه في السلطة من جهة أخرى. لكن أردوغان لم يتخلّ عن قراره. وهذا خلق هوة مع كل من مصر والسعودية ولبنان وإيران. إن عدم اتخاذ تركيا موقفاً معادياً لـ «داعش» ومن القوى الراديكالية الأخرى ليس لأنها إسلامية بل لأنها ضد الأسد.

العامل الكردي

لقد كانت حكومة اردوغان الأكثر جرأة بين الحكومات التركية في مسألة تطوير الحوار مع «حزب العمال الكردستاني» والاعتراف بالواقع الكردي. لكن وهي تقوم بذلك فإنها أصبحت قلقة من تصاعد نفوذ الحالة الكردية في الشرق الأوسط.

لقد استفاد أكراد سوريا من الحرب في سوريا وشكلوا مع «الكردستاني» منطقة نفوذ جديدة إلى الجنوب من تركيا، وحملوا إمكانية تغيير الخريطة المعروفة لتركيا. وهذا الواقع جعل الحكومة التركية أكثر إصراراً على إسقاط نظام الأسد. بل لتقطع الطريق أمام هذا التطور المحتمل (الأكراد) بدأت أنقرة تنظر إلى التنظيمات المتطرفة، مثل «داعش»، على أنها «أهون الشرين».

يرى فولر أيضاً أن تركيا، بقيادة اردوغان، قد ابتعدت منذ وقت طويل عن أن تكون حليفاً ينفذ ما تمليه عليه الولايات المتحدة، ورأت في نفسها قوة إقليمية وعالمية. وباتت الدولتان تنظران إلى القضايا العالمية بشكل مختلف. والآن فإن تضييق الهوة بينهما تبدو صعبة للغاية.

دوغو ارغيل ــ «بوغون»

الحياة

 

 

 

“داعش” إرهاب خالص أم مشروع سلطة؟/ سعد كيوان

منذ نهاية عام 2010، وعلى مدى أكثر من سنتين، شكلت مفاجأة الثورات والانتفاضات الشعبية التي اجتاحت تونس ومصر وليبيا واليمن، وأخيرا سورية، الشغل الشاغل للعرب وللعالم. انتفاضات أطاحت أهم الأنظمة وأعتاها قمعاً واستبداداً، منذ بداية السبعينيات، من معمر القذافي إلى حسني مبارك، ومن بشار الأسد إلى علي عبد الله صالح وزين العابدين بن علي. فرحة عارمة وتفاؤل بالمستقبل عمّا المنطقة، بعد نحو نصف قرن من الظلم والاستغلال وكمّ الأفواه باسم التحرر والاستقلال ومحاربة الاستعمار والامبريالية، وغيرها من شعارات برّاقة، وظّفت، بديماغوجية وشعبوية، كالوحدة والاشتراكية والقومية والعروبة، استغلالاً لقضية شعب فلسطين المقهور. حتى إنه لم تكن هناك من فسحة، ولو بسيطة، للحق في التعبير التزاماً بمقولة “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، والمعركة هي مع العدو الصهيوني إسرائيل المغتصب الأرض والشعب الفلسطيني. وها قد مضى على هذا الشعار أكثر من نصف قرن، وما زال الشعب الفلسطيني يرزح تحت نير الاحتلال الاسرائيلي.

أقل من شهر من الحراك الشعبي كان كافياً لهروب بن علي (23 عاماً في السلطة)، وأقل من ثلاثة أسابيع أجبرت مبارك (30 عاماً) على الاستقالة، تبعها ثمانية أشهر من المواجهات الدموية المسلحة أنهت حكم القذافي المطلق (42 عاماً)، ثم سنة من الصمود الشعبي العنيد في شوارع صنعاء اضطرت صالح (34 سنة) إلى مغادرة السلطة، فيما دخلت انتفاضة الشعب السوري على نظام الأسد الأب والابن (44 سنة) في نفق دموي مظلم، لا يزال الخروج منه مجهولاً. انتفاضات شعبية عفوية، بعضها خاطف وبعضها متوسط المدى، تمكنت من دكّ أعتى الديكتاتوريات القومية والعسكرية في القرن العشرين.

ولكن، بقدر ما كان انهيار هذه الأنظمة سريعاً، بقدر ما كان سريعاً أيضا ضياع، إن لم نقل فشل، بعض هذه الثورات، وانزلاقها إلى أتون تدميري قاتل لجذوة التمرد، وللأمل بسلوك طريق التغيير. صحيح أن التغيير لا يحصل بشحطة قلم، وصحيح أن الثورات عملية تراكمية تدوم عشرات السنين (الثورة الفرنسية)، ولكن أسباب التيه في الانتفاضات الليبية واليمنية والسورية كثيرة ومتشعبة ومتداخلة، لا مجال للخوض فيها هنا، إلا أن ما يعنينا هو الضياع والفراغ الذي حدث لمساراتها، ودفع بالمتضررين (وبقانون الطبيعة) إلى “ملء الفراغ”، وتحديداً في سورية والعراق. وسارع ما سمي “محور الممانعة” إلى حشد ما يملك من طاقات وتأثير سياسي ومذهبي وعسكري وجغرافي ولوجستي وتعبوي ونفسي، وإلى استعمال كل الأساليب المتوفرة بهدف إيجاد بدائل على الأرض، من أجل إجهاض الثورات وتأليب الناس عليها.

وكان الظهور “المفاجىء” لـ”داعش” من الساحة السورية، إثر إطلاق بشار الأسد سراح إسلاميين من سجونه، وزجهم في مواجهة الانتفاضة الشعبية السلمية. وأثبت هذا التنظيم عملياً أن لا علاقة له بـ”القاعدة”، لا يشاركها لا رؤيتها ولا أهدافها، ولا حتى أساليبها. أشهر خطاباً دينياً أصولياً متزمتاً، وبدأ على الفور عنفياً، دموياً، همجياً ومتوحشأً، يقطع رؤوساً لكي يفرض وجوده وسطوته على الأرض. وراح يجند مناصرين في مناطق سيطرة المعارضة على اعتبار أنه فصيل منها، وأخذ يتقدم شمالاً باتجاه الحدود التركية والعراقية، ولم يقاتل يوماً جيش النظام. سيطر على محافظة الرقة السورية وأقام فيها إمارته الاسلامية. ومع الوقت، توسع وتمدد في شمال العراق، وفي المحافظات السنّية تحديداً، رافعاً رايات الجهاد، ومعلناً “دولة الخلافة”، ومنصباً البغدادي “أميراً للمؤمنين”.

لم يقاتل “داعش” صانعه النظام السوري، لكنه قاتل في العراق سلطة نوري المالكي، الإيراني الولاء. كبر وتوسع واشتد ساعده، مستفيداً أولاً من المناخ الثوري الذي ولدته الانتفاضات، بما فيها التي قامت بوجه المالكي في الأنبار. واستفاد ثانياً من عوامل ومعطيات ومصالح إقليمية ودولية، متداخلة ومتضاربة ومعقدة، أميركية كانت أم تركية أم خليجية، رأت فيه، على الأرجح، عنصراً من عناصر مواجهة مشروع “محور الممانعة” الإيراني-العراقي-السوري-الحزبللاوي وروسيا من ورائه، بعد أن تقاعست عن تقديم دعم فعلي للمعارضة السورية.

قاتل “داعش” وتوسع، وأصبح مشروعاً قائماً بذاته، عنوانه ووسائله و”عدة شغله” دينية إسلامية متطرفة. وهو يسعى، كما هو ظاهر، إلى ترسيخ وجوده، وتعزيز سلطته في المناطق التي يسيطر عليها، وخصوصاً في العراق. فهو تمركز في الأنبار، ولم يعد يتطلع إلى بغداد، ولم يعد مكترثاً على ما يبدو لمزيد من التوسع، وإنما مهتم بتنظيم وإدارة شؤون الناس في “أراضي دولة الخلافة”. وهو يمارس العنف من أجل إرهاب الناس، وإحكام قبضته في مناطق نفوذه، أي يستعمل الإرهاب وسيلة للسلطة، ويستعمله بشكل استعراضي، ويسّوقه إعلامياً، بكثير من الاثارة والضوضاء. ولشدة اهتمامه بالسلطة، لا يوجد، على سبيل المثال، أي أثر لفلسطين وإسرائيل في خطابه السياسي.

بهذا المعنى، ليس “داعش” تنظيماً إرهابياً بالمعنى التقليدي، أو الحرفي، للكلمة، ولا يمارس إرهابا على طريقة “القاعدة”، وإرهابه ليس “مجانياً”. هو بات يملك جيشاً فعلياً، تقدره دوائر غربية بعشرات الألوف، ويملك أسلحة وآليات ومعدات ثقيلة، وتمتد سلطته على رقعة جغرافية موزعة بين أراضي دولتين. ويؤكد باراك أوباما، معززاً برأي قائد الجيوش الأميركية، مارتن ديمبسي، أن هزيمة “داعش” تتطلب ثلاث سنوات على الأقل. هذا إذا سلمنا جدلاً أن الغارات الجوية بمفردها كفيلة بالقضاء على هذا التنظيم.

العربي الجديد

 

 

 

 

الساروت يبايع «تنظيم الدولة»… هل تتجه فصائل الثورة السورية نحو “التدعش”/ وائل عصام

من استغرب انضمام الساروت أحد رموز الثورة السورية لـ»تنظيم الدولة» هو ببساطة لم يستوعب بعد متغيرات المرحلة الحالية في النزاع مع النظام، ولا يريد إدراك سنن الصراعات في هذه المنطقة.

لا يمكن لمجموعات مسلحة متفرقة متناحرة في مناطق المعارضة مشروعها يعتمد على عدد من القرى أو أجزاء من محافظة، ان تواجه نظاما اقليميا طائفيا منضبط القيادة، ويملك رؤية واضحة لمشروعه ولهوية أنصاره من طهران حتى بغداد فدمشق فبيروت وصولا نحو صنعاء. كذلك فإن المنضوين في «تنظيم الدولة» من المجموعات السورية والعراقية، يرون أن تشكيل حلف سني مقاتل محدد الهوية وممتد من العراق حتى سوريا هو فقط ما سيمكنهم من مواجهة حلف «العدو المشترك»، حلف يلغي حدودا أسهمت في الاستفراد بثوار سوريا السنة، تماما كما فعل النظام الذي يواجهـــهم بجبـــهة كسرت حدود ايران لتصل لبنان، هذه الرؤية التي بنى عليها «تنظــــيم الدولة» مشروعه بتحالف سنة العراق وسوريا، هو ما اخفقت به بقية المجموعات الاسلامية والثورية العراقية والسورية، التي بالكاد تستطيع توحيد نفسها في اطار محافظة او اثنتين.

لذلك تحول «تنظيم الدولة» اليوم لما يشبه تحالفا لمجموعات مسلحة سنية محلية، ممتدة من قرى شرق العراق في بعقوبة الى غرب سوريا في ريف حلب.. فلا يمكن لتنظيم أن يحكم السيطرة على هذه المساحة الهائلة جغرافيا من دون تحالفات محلية في كل قرية ومن كل عشيرة، وهذا بالفعل ما نراه في القيادات المحلية لتنظيم الدولة. وفي سوريا مثلا «تنظــــيم الدولــــة» في دير الزور والرقة مكون من عشائر تحالفت مع التنظيم وقاتلت معه عشائر تحالفت مع التنظيمات الاخرى كـ»النصرة» التنظيم الشقيق للدولة.

وفي ريف حلب انضوى الكثير من ابناء القرى في التنظيم وباتوا قيادات فاعلة عسكريا وحتى اعلاميا، أما القلمون فاكبر فصائل الجيش الحر اعلنت مبايعة تنظيم الدولة قبل اسابيع. وفي حمص عاصمة الثورة فان احد اكبر فصائلها «الفاروق الاسلامي» بايع تنظيم الدولة بمعظم كتائبه، تماما كما فعل الساروت وكتيبته، ومن قبلهم عشيرة النعيمي التي ينتمي لها الساروت، التي يقاتل عدد كبير من ابنائها في تنظيم الدولة بريف حمص.

وكما ان طبيعة بناء التنظيمات تقتضي الاعتماد على العصب العشائرية، فان «تنظيم الدولة» يضم عددا كبيرا من ابناء العشائر من ريف حمص وحماة وصولا لعشائر الرقة والحسكة ودير الزور وجرابلس ومنبج بريف حلب، ويدرك التنظيم مدى اهمية الاعتماد على عصبة العشائر، خاصة البدوية منها، كالنعيمات عشيرة الساروت، التي يقاتل ابناؤها بشراسة وغلظة قد لا تتوفر لابناء المدن والحواضر كحلب، التي يميل ابناؤها كأي مدينة تجارية للمسايسة اكثر من ابناء الريف والعشائر.

لذلك نجد «تنظيم الدولة» كثيرا ما ينتصر بابناء العشائر وكثيرا ما يهزم منهم! كما يحصل اليوم في بعض مناطق الانبار كالرمادي وحــــديثة، وكما حصل سابقا عندما واجه اكبر تحد من قبل عشائر الشعيطات وقبلهم الشحيل، ولم يتمكن من الانتصار عليهم الا بدعم عشائر قوية من المنطقة نفسها، بل ومن العشيرة نفسها، كما حصل مع عامر الرفدان قائد تنظيم الدولة في الهجوم على «النصرة» وعشائر الشحيل، وهو نفسه ابن الشحيل وابن النصرة سابقا.

للحرب رجالها.. وهم قد لا يصلحون للحكم.. فبذل النفس والجلد والغلظة هو ما يستلزم المحاربين، خاصة في صراع دموي كالذي يشهده العراق وسوريا.

كما ان رفض «تنظيم الدولة» وشقيقه المتمرد «جبهة النصرة» لأي علاقة او تمويل خارجي من دول عربية، حتى إن أيدت الثورة السورية، بدا اليوم مقنعا للكثيرين من ثوار سوريا حتى المعتدلين منهم، خصوصا بعد ان قامت بعض هذه الدول بالانضمام لحلف دولي لمحاربة إرهاب السنة وتركت إرهاب خصومهم الشيعة والعلويين يحظى برعاية انظمة طهران ودمشق وبغداد.

وفي سوريا لم يمكن الدعم الاقليمي الهائل لفصائل الجيش الحر وبعض الفصائل الاسلامية السلفية المعتدلة ماليا وتسليحيا، وإن لم يشتمل على سلاح نوعي لم يمكنها للآن من تحقيق كيان متمــــاسك ينجـــح في مواجهة النظام المسيطر على كل مراكز المحافظات عدا الرقة، وفي المقابل تمكنت «القاعـــدة» بنسخـــتيها «النصرة» و»تنظيم الدولة» من تشكيل أقوى الكيانات المسلحة الفاعلة ضد النظام، رغم ان «القاعدة» لم تتلق اي تمويل او دعم من اي دولة، واقتصر دعمها على بعض مناصريها الافراد والملاحقين هم أيضا تحت تهم تمويل الإرهاب، واعتمد «تنظيم الدولة» و»النصرة» بشكل اساسي على تمويل ذاتي من سيطرتهم على آبار النفط والمؤسسات الانتاجية في سوريا والعراق.

وبعيدا عن العقلية الرومانسية في التعاطي مع الثورات.. فإن النزاع الأهلي في سوريا اظهر توحشا هائلا من قبل النظام وحلفه الايراني، فكان أن افرز السنة في سوريا توحشا مضادا في المقابل.. وهذا من سنن الصراعات الاهلية، خاصة بعد فشل كل الانظمة العربية الرسمية السنية في حمايتهم من الابادة، وبدت عاجزة الا عن محاربة «دواعش» السنة على عكس ايران ونظامها الاقليمي الذي يدعم «دواعشه»، بل انه يمنع المساس بأي من ميليشياته الطائفية في العراق وسوريا ولبنان واليمن ويرفض حتى وصفهم بالارهاب.

ورغم ذلك فان توحش تنظيمات السنة المتطرفة يبدو اقل كثيرا مقارنة بهمجية ميليشيات نظامي بغداد ودمشق، وحتى في الغابة لا يمكن مساواة الوحش الصغير بالوحوش الكبيرة.

ادبيات وشاعرية بعــــض انصـــار الثـــورة الرومانسية الهلامية لا تنسجم مع طــــبول الحروب الطائفية والاهلية، التي تحبر كل طرف على تحديد هويته و»عصبته» اذا اراد البقاء قبل حتى ان يفكر بالصمود ومن ثم الانتصار.

غير ذلك فان الحديث المزخم بشعارات انشائية قد تبدو وطنية، ولكن لا علاقة لها بجوهر النزاع، غالبا ما يؤدي بصاحبه الى الاحباط ليسلك طريق السويد او المانيا حيث يبدأ بالتعرف على الوطن الجديد.

وبينما يأتي بعض انصار «تنظيم الدولة» من غير السوريين والعراقيين من السويد والمانيا ليموتوا في ارض الخلافة التي يؤمنون بها.. فانهم يبدون ممتلئين عقائديا بما يعتبرونه مقدسا (سواء كانوا على حق او باطل او مغسولي الدماغ )، ورغم انهم لا يشكلون سوى نسبة العشرة في المئة من مجموع المنضوين في «تنظيم الدولة» من سنة العراق وسوريا وآخرهم الساروت، الا انهم يذكرونا كيف تحولت الاوطان الى مجرد اسماء جغرافيا في حرب لا صوت يعلو فيها فوق صوت الطائفة. ٭كاتب فلسطيني

القدس العربي

 

 

 

هزيمة «داعش» لن تغير من الأمر شيئاً!/ خالد الدخيل

تقول التجربة إن الحروب الأميركية قد تكون أكبر مصادر الخطر على حلفاء أميركا. هذه حقيقة، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية. يعرف الكوريون والفيتناميون والأفغان ذلك جيداً. الآن هناك حرب جديدة على تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش)، مضى عليها أكثر من خمسة أشهر، ولم يتضح شيء في شأنها بعد. لا أحد يعرف شيئاً عن هدفها الاستراتيجي، ولا إن كانت حرباً على «داعش»؟ أم على الإرهاب؟ والمربك في ذلك أنه من الممكن جداً هزيمة هذا التنظيم، خصوصاً أمام تحالف يضم أكثر من 30 دولة بقيادة أميركا. فهذا تنظيم معادٍ للجميع تقريباً: للعرب، وللغرب. ومعادٍ لغالبية المسلمين سنّة وشيعة، وللمسيحيين، والإزيديين، وغيرهم، الأمر الذي يجعل أو يفترض أن يجعل مهمة تقليص وجوده ودوره وصولاً إلى تدميره، كما يقول الرئيس الأميركي أوباما، في متناول اليد. لكن تجربة الحرب على «القاعدة» تؤشر إلى أن الأمر ليس بالسهولة التي قد تبدو عليها. فبعد أكثر من 13 عاماً لا يزال تنظيم «القاعدة» نشطاً في اليمن، والعراق، وسورية، والمغرب العربي. ضعف تنظيماً وإمكانات، لكنه ضعف لم يؤذن بنهاية التنظيم، ونهاية الإرهاب. على العكس، تبيّن الآن أن ضعف «القاعدة» كان إيذاناً بموجة إرهابية جديدة أعتى وأكثر خطورة.

يأتي تنظيم «داعش» على رأس هذه الموجة، وهي موجة دشنت أكبر وأخطر حرب أهلية على أسس مذهبية في التاريخ الحديث للمنطقة العربية. أميركا هي المسؤول الأول عن إطلاق هذه الموجة، لأنها بدأت من العراق تحت الاحتلال الأميركي. آنذاك سلمت واشنطن الحكم ومسؤولية إعادة بناء الدولة ليس للعراقيين كمواطنين، وإنما للقوى الشيعية التي تعاونت معها في الاجتياح كمعارضة للنظام السابق. وبالتوازي مع ذلك سمحت وبشكل لافت بتنامي النفوذ الإيراني داخل مؤسسات الدولة الوليدة. ووصل الأمر إلى أن النفوذ الأميركي يتراجع أحياناً أمام النفوذ الإيراني. واتضح ذلك في حال رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. كانت إدارة أوباما تفضّل إياد علاوي لرئاسة الحكومة بعد فوزه في انتخابات 2010. لكن علاوي بالنسبة إلى طهران خط أحمر، لذلك كان من نوادر التقاليد الأميركية في السياسة الخارجية أن تذعن، وهي الدولة المحتلة، لخيار تولي المالكي رئاسة الحكومة على رغم خسارته الانتخابات، وعلى رغم أنه خيار إيران، الدولة التي ليست لها علاقات ديبلوماسية مع واشنطن، بل هي في حال عداء معها.

هنا تكمن خطورة السياسة الأميركية. وهذا واضح في أن إدارة أوباما الحالية بعد انسحابها من العراق ترهن سياستها في المنطقة، وتحديداً في العراق وسورية والخليج العربي، بالاتفاق النووي مع طهران، وما يمكن أن يفضي إليه من تفاهمات إقليمية معها. في السياق نفسه، يتعامل أوباما مع الحرب على الإرهاب في المنطقة، وعلى «داعش» تحديداً، انطلاقاً من الارتهان نفسه، أي أنه لا يريد أن يلزم نفسه بخطة واضحة الأهداف في هذه الحرب قبل أن تتضح معالم مستقبل علاقته مع إيران. الأكثر من ذلك أن التحالف الدولي ضد «داعش» سمح لإيران بالمشاركة في هذه الحرب، من دون أن تكون عضواً رسمياً في التحالف، لكنها عملياً وبمشاركتها عضو فيه (انظر صحيفة الـ«نيويورك تايمز»، 3 كانون الأول / ديسمبر الجاري). وإذا أخذنا الاختلافات بين أميركا وحلفائها العرب حول العراق وسورية وإيران، أمكن القول بأن التحالف ضد «داعش» يتشكل عملياً من دول لا يجمع بينها إلا أمر واحد، وهو هزيمة «داعش». ما عدا ذلك تبدو صورة الوضع غامضة إلى حد الإرباك. وهنا مكمن الخطر. على خلفية ذلك، لم يعد من الممكن وضع خطة أو استراتيجية واضحة تكون الحرب على «داعش» جزءاً منها، وتكون هزيمة هذا التنظيم أحد أهدافها وليست هدفها الوحيد. لذلك ظلت هذه الحرب وقد مضى عليها أكثر من خمسة أشهر الآن غامضة، وتثير الكثير من الأسئلة التي لا يجد أحد جواباً عليها. مثلاً، ما هو الهدف من هزيمة «داعش»؟ سيقال أن هزيمة «داعش» هزيمة للإرهاب. لكن هذا يختزل الإرهاب في تنظيم واحد. ثم إن مثال تنظيم «القاعدة» وما آلت إليه الحرب عليه يقول عكس ذلك. ضَعُف تنظيم «القاعدة»، ولم ينهزم الإرهاب ولم يضعف، بل تفاقم. الآن إلى جانب «القاعدة» هناك مئات، بل ربما آلاف الميليشيات الإرهابية. السؤال الثاني: ماذا بعد هزيمة «داعش»؟ ما الذي ينبغي فعله بعد ذلك؟ بعبارة أخرى، ما هو الهدف التالي لهزيمة «داعش»؟ لا أحد يعرف إجابة على هذا السؤال. ما هي علاقة «داعش» وظاهرة الإرهاب في العراق تحديداً بالاجتياح الأميركي لهذا البلد، وبالدور الإيراني في هذا الاجتياح، وبالطريقة التي تمت بها عملية إعادة بناء الدولة العراقية بعد تدميرها على يد الاحتلال؟ ثم ما هي علاقة الإرهاب الذي بدأ في العراق بالحرب الأهلية في سورية؟ تفضّل إدارة أوباما الفصل بين الحالين، وهي تعرف أنهما غير قابلتين للفصل. يكفي أن إيران و«داعش» وأخواته، والميليشيات الشيعية عامل مشترك بين ما يجري في العراق، وما يجري في سورية. لكن كيف يمكن تفادي هذا التخبط من دون خطة، ومن دون استراتيجية؟ سؤال ثالث: لماذا يسمح بمشاركة ميليشيات شيعية عراقية وغيرها في الحرب على «داعش»؟ هذا يؤجج الشحن الطائفي، ويزيد أوار حرب طائفية يراد إخمادها. ثم إن السماح بمشاركة هذه الميليشيات يضع شبهة لا حاجة لأحد بها، وهي أن الحرب على «داعش» هي أيضاً حرب على فريق مذهبي بعينه من فرق الإرهاب. وهذا ما تتردد أصداؤه الآن في المنطقة، ويمثل خطورة على الجميع. والسماح بمشاركة ميليشيات هي في الواقع إرهابية يجعل منها عملياً حليفاً لدول تحارب الإرهاب في المنطقة.

بقاء هذه الأسئلة من دون إجابات يؤكد المؤكد، وهو أنه ليست هناك خطة، أو استراتيجية لمحاربة الإرهاب، بما في ذلك «داعش». كما ذكرت هزيمة «داعش» ممكنة جداً، لكنها لن تكون نهاية للمشكلة، بل قد تؤدي إلى استئناف جديد لها. ما لم تكن الحرب على الإرهاب حرباً عليه كمفهوم، وسلوك، وقيم وسياسات، وتنظيمات، فإنها ستكون من الحروب التي تلد إحداها الأخرى. وتاريخ حروب أميركا لا يطمئن كثيراً. نجحت في عاصفة الصحراء لتحرير الكويت، وفي كوسوفو إلى حد ما. لكنها فشلت في كوريا، وفيتنام، وأفغانستان، والعراق. وأهم ما يميز حروب واشنطن الفاشلة أنها كانت من دون استراتيجية واضحة. وافتقار الحرب على «داعش» لخطة واضحة هو ما سمح لإيران بأن تكون طرفاً مشاركاً فيها، وهي الدولة الطائفية، التي تنشئ وتتبنى ظاهرة الميليشيات الإرهابية كأداة لدورها الإقليمي في المنطقة. تمثل مشاركة إيران أحد العوائق الآن أمام وضع خطط سياسية وفكرية وتربوية ضد الإرهاب كمفهوم، وكظاهرة تهدد الجميع. ولأن الإرهاب في مرحلته الحالية ينطلق من الطائفية، وإيران لا تستطيع محاربة الطائفية لأن نظامها السياسي تأسس عليها، وتعتاش منها في سياستها الإقليمية، فكيف يمكن وضع خطة في هذه الحال؟ المدهش أن الدول العربية المشاركة في التحالف قبلت أولاً بحرب من دون خطة واضحة بمراحلها وأهدافها، وقبلت ثانياً، أو لم تعترض على مشاركة إيران في هذه الحرب وفقاً لأجندتها هي، وليس أجندة أحد آخر. هل يعني هذا ضرورة مقاطعة إيران؟ ليس بالضرورة. لو كانت للتحالف استراتيجية واضحة مشتركة، لكانت مشاركة إيران في إطار هذه الاستراتيجية، وليس خارجها. لكن ليس هذا ما تريده واشنطن الآن. وكثير مما لم ترده واشنطن في حروبها السابقة تسبب في إرباكها، وإرباك حلفائها، وأخيراً تسبب بفشل حروبها السابقة. هل سيكون هذا مآل الحرب الحالية على «داعش»؟ إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، لا ينبغي استبعاد ذلك.

* أكاديمي وكاتب سعودي

الحياة

 

 

 

 

“داعش” وأصول الحرب التي يراد لها أن تمتد لعقود/ محمد قواص

إذا ما استبسلت أدبيات العروبيين في لعن حدود سايكس – بيكو بصفتها حواجز مصطنعة في قلب «الأمة الواحدة»، فإن ما هو مصطنعٌ ولّد حقيقة صارت طبيعية في تاريخ وثقافة وإنتروبولوجيا الشعوب والبلدان والأنظمة الحاكمة التي ترعرعت في ظل تقسيمات ما بعد الحرب العالمية الأولى. في ذلك أن سايكس بيكو، كمنهج وخرائط، يدافعُ عن نفسه هذه الأيام ضد أي مجازفة للعبث في أصوله أو مراجعة ثوابته. وفي ذلك أن أهل المنطقة عاجزون، وحتى إشعار آخر، عن إنتاج بدائل تضمن ذلك التعايش النسبي الذي ران على المنطقة بين مكونات ولغات وشعوب وطوائف وطرق عيش وتفكير.

وإذا ما كانت هندسة الخرائط وتوزيعُ مواطن النفوذ جرت بين الكيانين القويين في العالم بعد هزيمة الدولة العثمانية وسلطنتها، فإن للقوى الإقليمية الحالية القول الفصل والسابق على إرادات باريس ولندن وواشنطن وبكين وموسكو.

تجري إدارة المخاض الإقليمي الحالي داخل المنطقة نفسها، فيما تواكب واشنطن وحلفاؤها يوميات الصراع على نحو سالب لا يبدو أنه يقدّم أو يؤخر في تحديد مسارات المنطقة ومصيرها.

يمثّل الميدانان العراقي والسوري قمّة الورش الناشطة لفرض الأمر الواقع الجديد للمنطقة. بات واضحاً أن الحروبَ تدورُ في قلب حدائق النفوذ الإيرانية، وأن طهران متمسّكة باختراقاتها المنجزة، لا تلين في التخلي عما أصبح ليس فقط جزءاً أساسياً من أمن إيران الإستراتيجي، بل من صلب أصول بقاء نظامها السياسي برمته. وفي ذلك الصراع يختلطُ الجيو استراتيجي بالعقائدي، ويتزاحمُ التقاطع بين طهران والرياض وأنقرة والقاهرة ولا تغيب تل أبيب. وفي ذلك الصراع يحدّد اللاعبون المحليون أصول اللعب وقواعده، فيما يبدو أن الخارجَ ينتظر انتهاء المباريات لمباركة النتائج والتأقلم معها.

ضمن ذلك المشهد لا يبدو داعش نشازاً خارج العزف، بل يلعبُ من ضمن الورش القائمة، ويبدو أنه ضرورة من ضرورات الجراحات الراهنة. وبغض النظر عن التفصيل اللوجيستي لتعملق تنظيم أبو بكر البغدادي، فإن الظاهرةَ الداعشية تروّجُ وفق شروط الاختلال في علاقة إيران ببقية دول المنطقة، كما في علاقة السنّة بالشيعة في كل المنطقة العربية وامتداداتها الشرقية في باكستان وأفغانستان وما بعدهما.

في كلام الساسة الدوليين كما الإقليميين عن أن الصراع ضد «داعش» قد يستمرُ عقوداً قناعة جوانية أن ديمومة البعبع السنيّ متّصلة بديمومة ذلك الشيعي، وبأن «داعش» السنّة لا يختلف في وظيفته عن «داعش» الشيعة، وبأن المظلومية السنّية المسؤولة عن ولادة «داعش»، ترث مظلومية شيعية ولّدت «داعش» الشيعة في أشكاله وأجسامه التي عرفناها وما زلنا نعايشها في العراق وسورية ولبنان وأصقاع أخرى (اليمن مثلاً).

ثم إن «داعش» ليس ظاهرة عرضية مستوردة، بل هو في عقيدته وشخوصه نتاج ثقافة تغرف فيضها من قدم الزمان، كما أنها تتغذى من صراعات المنطقة الراهنة ومن الحاجة إليها كواحدة من تعبيرات اللاتوازن الذي بات جلياً منذ احتلال العراق عام 2003.

وفيما اندفعت العواصم العربية لحسم أمر عدائها لتنظيم البغدادي اتساقاً مع موقفها القديم – الجديد في مكافحة الإرهاب، بدا أن العالم مُستنفرٌ لمكافحة الإرهاب بنسخته السنّية، متعايشٌ مع الجماعات الشيعية المسلحة التي تحرّكها طهران، ما أثار ريبة رسمية وشعبية من مآلات الجهد الدولي في انتقائية أهدافه ولبس مآربه.

في تمديد المفاوضات الدولية الإيرانية حول الملف النووي ما يُفهمُ منه مراعاة لأجندات طهران، وتفهمٌ لصعوبات داخلية في إيران تؤخر إبرام اتفاق نهائي مع العالم. يخيّل للمراقب أن المجتمعَ الدولي يتركُ لإيران حرية كاملة للتصرف في المنطقة، لعل في ذلك ما يعززُ مواقعَ طهران الإقليمية، ويجعلها أكثر مرونة في التعاطي مع المقاربات الدولية في شأن برنامجها النووي. ويخيّل للمراقب أن عجزَ العالم عن استيعاب ظاهرة «داعش»، كما عجزه عن توفير خطط رادعة ناجعة، يجعله ضعيفاً أمام مغريات إيران في هذا الصدد، على رغم مما تخصّبه هذه المغريات من احتقان مذهبي ينفخُ رياحاً في أشرعة تنظيم البغدادي.

يتحفظُ الأتراك عن المشاركة في الجهد العسكري ضد «داعش» بالإيقاعات التي تريدها واشنطن. لا شيء في المنطق البديهي للعلاقات الخارجية والإستراتيجية يحثُ أنقرة على القضاء على من يعتبرُ عنصراً خصماً للنفوذ الإيراني، ويذهب ضمنياً مذهب أردوغان وصحبه في ما هو معلن من مواقف إزاء سورية والعراق. في المقابل تتحركُ طهران و»داعشيها» الشيعة باتجاهات تتسقُ مع مزاج الحلف الدولي الواسع لمكافحة «داعش» البغدادي. يفترضُ إعلان البنتاغون عن مشاركة طائرات إيرانية في قصف مواقع داعشية داخل العراق، قبول الشراكة بين واشنطن وطهران في تدبير أمور العراق من جديد على النحو الذي كان معمولاً به في موسم إسقاط نظام صدام حسين.

يؤكدُ البيان الختامي لقمة مجلس التعاون الخليجي الأخيرة في الدوحة ثبات الخلاف والتناقض مع السياسات الإيرانية في المنطقة. بهذا المعنى لا منطق في تعايش إيران وعديد من دول المنطقة في معسكر واحد لمكافحة «داعش»، خصوصاً أن «داعش» هي نتاج مباشر لسلوكات إيران الإقليمية. ثم إن التناقضَ الخليجي الإيراني في مقاربة شأنَيّ العراق (على رغم تقدم علاقات الرياض وبغداد) وسورية (على رغم تكرار الرياض التمسك بالحل والتسوية) يجعلان من «داعش» مسألة قد يجوز فيها إعمال وجهات النظر، بغضّ النظر عن ظلامية خطب التنظيم ودموية دعاياته.

على ذلك تبدو الحرب ضد «داعش» قضية حيوية تهدّد نفوذ إيران، وأن كل جهد إقليمي ودولي لإضعاف تنظيم البغدادي يوفّر دعماً لطهران وصوناً لنظامها، فيما لا يرتاح أهلُ المنطقة أتراكاً وعرباً إلى حقيقة أن تصب مشاركتهم داخل الحلف الدولي في تدعيم نظام يخاصمونه وينافسونه النفوذ.

في الدفاع عن سايكس – بيكو أو في ورش تعديله سيبقى تنظيم «داعش» أداة في صلب الصراع لا مكان لاندثاره إلا في تسوية شاملة ترضي كل الأطراف. وربما في استحالة ذلك وفق الظروف الراهنة ما يفسّر من قدّر زمن الحرب بعشر سنوات أو من توقّعها ممتدة لعقود ثلاثة مقبلة.

الحياة

 

 

 

عن علوش والنصرة وداعش/ ماجد كيالي

قال زهران علوش، قائد ما يسمى “جيش الإسلام”، وهو احدى الجماعات العسكرية “الإسلامية” في سوريا، في خطاب له، في أحد مساجد مدينة دوما (قرب دمشق)، وهو يرتدي ملابس عسكرية، أنه يكفر بالديموقراطية وأن “الإسلام هو الحل الوحيد”. وهذا الكلام يتقاطع مع تصريح سابق لأبي محمد الجولاني، زعيم “جبهة النصرة” قال فيه: “نحن كمسلمين لا نؤمن بأحزاب سياسية ولا بانتخابات برلمانية… سبيلنا الى تحكيم الشريعة هو الجهاد في سبيل الله”. (“الحياة”، 22/7/2013).

المشكلة أن علوش في هذا القول لا يضع نفسه، فقط، في تعارض مع تطلعات السوريين في التحرر من الاستبداد، أو مع الاتجاهات العلمانية، وإنما هو يضع نفسه في تعارض حتى مع الاتجاهات الإسلامية التي لا ترى مايراه.

فهذه جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، مثلا، كانت أكدت في وثيقة “العهد والميثاق”، التي أصدرتها (مطلع العام 2012)، أنها ملتزمة بإقامة “دولة مدنية… ديموقراطية تعددية تداولية… تقوم على دستور مدنيّ… يتساوى فيها المواطنون جميعاً، على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم” (النص منشور في موقع الجماعة على الانترنت). يأتي ضمن ذلك مواقف قيادة حركة النهضة التونسية، فبحسب الشيخ راشد الغنوشي، رئيس الحركة فإنه “لا تعارض بين الاسلام والديموقراطية، والاسلاميون يقفون في مقدمة القوى المدافعة عن حق الاختلاف والتنوع الثقافي والتعددية السياسية، وحرية الضمير، وحقوق المرأة، وكل القيم الكونية التي تؤسّس مجتمع الحرية والعدالة والتنمية. (“الشروق” المصرية، 27/2/2014) اما نائبه الشيخ عبد الفتاح مورو فقد دعا صراحة إلى مراجعة شعار: “الإسلام هو الحل”، باعتبار ان لا معنى له، لأن الناس تريد الحرية والعدل والحياة الأفضل، وأن هذا هو جوهر الإسلام، (برنامج “شاهد على العصر”، “الجزيرة”، 19/3/2014). بل إن “الملتقى الإسلامي الفكري، الذي عقد في أواسط شهر تشرين الثاني (2014)، في العاصمة الماليزية كوالامبور، وشارك فيه عدد من قادة الحركات الإسلامية ومفكرون إسلاميون، تلاقى مع دعوة مورو بشأن مراجعة شعار “الإسلام هو الحل”، وطرح فكرة الدولة المدنية والديموقراطية، وهو ملتقى ترأسه الرئيس الماليزي السابق مهاتير محمد.

يستنتج من ذلك أن الجماعات الإسلامية المسلحة، أي التي تتوسل العنف، والطائفية (سنية او شيعية)، تجد نفسها في خندق معاد للديموقراطية، والدولة، والمواطنة المتساوية، وأن الفروقات بينها وبين تنظيمات من مثل “جبهة النصرة” او “داعش”، على الأرجح، هي في الطريقة، والأسلوب، وليست في المنهج؛ هذا أولاً. أما الاستنتاج الثاني، فمفاده أن المشكلة مع هذه الجماعات لا تتعلق بكونها دينية، او تتغطى بالدين، وإنما في كونها جماعات تتوسل التكفير والعنف، وإشاعة الكراهية في المجتمعات، ناهيك ان طريقها يبرر الاستبداد، أو يعيد انتاجه.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى