صفحات مميزة

مقالات لكتاب عرب تناولت “داعش”

 

 

“الداعشيون الأوروبيون” بعد “الأفغان العرب”!/ الياس حرفوش
منذ انهيار تنظيم «القاعدة» في افغانستان الذي كان يسيطر على معظم المناطق الحدودية المتاخمة لباكستان، بالتعاون مع حركة «طالبان»، لم يتمكن أي تنظيم اسلامي راديكالي من الحصول على مساحة جغرافية تسمح له بالحركة كما يفعل اليوم تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام» (داعش) في المناطق الحدودية بين سورية والعراق. لقد وصل هذا التنظيم الى حد السيطرة شبه الكاملة على محافظات ومدن كبرى في هذين البلدين، مثل الحسكة ودير الزور في سورية، والرمادي وسامراء والموصل في العراق. كما اكدت تطورات الايام الاخيرة قدرته على التحرك في هذه المناطق بحرّية ومن دون خوف من العواقب.
ومثلما شكّلت «القاعدة» مصدر قلق اقليمي ودولي لأسباب أمنية واستراتيجية، هكذا تحولت «داعش» الى همّ مستفحل للجوار وللعالم. آلاف المقاتلين يتركون اليوم بلداناً غربية آمنة كان يفترض انهم لجأوا اليها مع أهلهم وعائلاتهم لكسب الرزق وتحسين مستوى العيش، ليذهبوا لـ «الجهاد» الى جانب «داعش»، أسوة بما فعل أقران لهم قبل عقدين من الزمن، عندما كانوا يتركون ايضاً ارزاقهم واماكن عيشهم ليلتحقوا بقيادة اسامة بن لادن. وكما اتسعت المخاوف آنذاك من عودة هؤلاء الى الدول العربية والغربية التي انطلقوا منها، لمتابعة «جهادهم» فيها، وحملوا لقب «الافغان العرب»، يضيق الاعلام الغربي هذه الايام وكذلك تصريحات المسؤولين الامنيين بالتحذيرات من مخاطر عودة من يقاتلون الى جانب «داعش» الى دول مثل بريطانيا وفرنسا والمانيا، والمخاوف مما يمكن ان يتركبوه من أعمال تهدد الامن الداخلي لهذه الدول، حتى يمكن ان نسميهم «الداعشيين الاوروبيين».
انهيار الدولة ونظام الحكم في افغانستان أنعش حركة «طالبان» وسهّل سيطرة «القاعدة» على المشهد الافغاني والدولي. واليوم يسهم انهيار الدولة ونظام الحكم في كل من سورية والعراق في انتعاش الفكر الاسلامي المتطرف، ممثلاً بابو بكر البغدادي. لقد بلغ تطرف البغدادي حداً أصبح معه حتى ايمن الظواهري، خليفة بن لادن، يشكو منه!
لا تقاتل «داعش» اليوم احتلالاً غربياً في سورية والعراق كما كان يزعم بن لادن في حربه ضد الوجود الغربي في المنطقة. انها تقاتل بشراسة ووحشية أهل البلدين وابرياءهما. تحتجز الطلاب في جامعاتهم بتهمة انهم يتلقون العلم. تهدد الطالبات بتلقينهن «درساً لن تنسوه»، اذا ذهبن الى المدرسة. تأمر أهالي الجنود الملتحقين بالجيش العراقي بحفر قبورهم بأيديهم قبل دفنهم فيها. تهاجم المساجد لتغذية الحرب المذهبية (التي لا ينقصها الوقود اصلاً) كما فعلت في سامراء في الاسبوع الماضي بالهجوم على مرقد الإمامين علي الهادي والحسن العسكري. لا تتردد في قطع رؤوس أسراها ونشر الصور والافلام على «يوتيوب» لتعزيز المخاوف واثارة الرعب في المناطق التي اصبحت تحت امرتها.
«القاعدة» اعتاش في حربه مع جورج بوش الابن على شعار: من ليس معنا فهو ضدنا. و»داعش» يستفيد اليوم من الحرب التي يخوضها السوريون ضد حكم بشار الاسد والعراقيون ضد هيمنة نوري المالكي وسوء ادارته. الاسد يفضل توسيع رقعة عمل «داعش» على الارض السورية بدل التفاهم مع «الجيش السوري الحر» والمعارضة المعتدلة على مخرج للازمة. يستغرب كريستوف اياد مراسل صحيفة «الموند» الفرنسية في تحقيق عن شخصية ابو بكر البغدادي كيف أن الاسد الذي يأمر بسجن وتعذيب أي معارض، مهما كان هامشياً، لم يتردد في اطلاق عدد كبير من قيادات التنظيمات الاسلامية المتطرفة من سجونه مع بدء الانتفاضة ضده في ربيع العام 2011. وتفسير اياد لهذا «الكَرَم الأسدي» أن اطلاق الارهابيين ساهم في تغذية الطابع المذهبي للحرب، لأن النظام يعرف طبيعة الافكار التي يحملها هؤلاء ويثق في قدرتهم على خدمة النظرية التي اطلقها منذ البداية: انه يواجه ارهابيين في سورية لا معارضين.
اما في العراق، فقد ساعد تهميش القيادات السنّية المعتدلة وحرمانها من حقها التمثيلي في العمل السياسي، في تغذية النزعات المتطرفة والمذهبية في هذا الشارع. لقد خدم هذا الفراغ تنظيم «داعش» الذي يحاول الايحاء، في مناطق سيطرته، أنه الصوت الوحيد القادر على الدفاع عن الظلامة اللاحقة بأهل السنّة، فيما هم منه براء، ولا حيلة لهم لا مع نوري المالكي ولا مع «داعش».
الحياة
ديناصور في “جيش النصرة”/ موسى برهومة
الذين كانوا يقصّرون العجائبَ على «رجب» حينما كانوا يرددون: «من يعش رجباً يرَ عجباً»، مضطرون الآن أن يغيّروا أقوالهم، ولو مرغمين، لأن أشُهر العرب وأيامهم أضحت كلها رجباً! وما كان ينتسب إلى عالم «الفانتازيا» صار واقعاً عيانياً، ولزم، تبعاً لذلك، أن يُعاد تعريف الفانتازيا من جديد، وقد استبصر هذه الفاجعة مبكراً الروائي الأردني الراحل مؤنس الرزّار، حينما ردّ، قبل عشرين عاماً، على سؤال صحافي لكاتب هذه السطور، قائلاً إن من يتأمل واقع العرب، ويرصد أحوالهم وحركيتهم وممارساتهم وأفعالهم رصداً توثيقياً حرفياً، فإنه سيكون إزاء معمار فانتازي مهول!
ولم يكن في جعبة الرزّاز آنذاك، ما لدى سكان هذه القنطرة العربية الراهنة من وقائع متلاحقة أقالت العقل، وعطّلت المنطق، ودجّنت المخيلة. ويكفي المراقب «المحتفظ ببقية عقل» أن يشاهد نشرة أخبار على إحدى الفضائيات ليوم واحد، أو أقل، ليفقد تلك «البقية»، ولعله سيفقدها، بالتحديد، حين يسمع أن بشار الأسد فاز بانتخابات حرة ونزيهة، وأن السيسي خاض معركة انتخابية صعبة مع خصمه «العنيد» حمدين صباحي، وأن الأخير شكا من تزوير، لكن لسان حاله كان «المسامح كريم»، أو «لسه الدنيا بخير»! وأما إن رأى ذلك المراقب «المحتفظ ببقية عقل» السيد حسن نصرالله وهو يرغي ويزبد ويحض على القتال إلى جانب الأسد، رمز المقاومة والممانعة، فإنه (أي المراقب) سيفرك عينيه ليتأكد من أن هذا الذي على الشاشة هو نفسه الذي أتخمنا خطابات عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، وأن البنادق لن تصوّب إلا باتجاه إسرائيل؟!
والمصيبة أن هذه الوقائع وسواها أصابت الدهشة لدى الناس في مقتل، حتى أضحى سماع خبر عن ديناصور يقاتل مع جماعة «داعش» أو في «جيش النصرة» أمراً قابلاً للتصديق، فمن يشاهد قائداً عسكرياً منشقاً يقصف مدناً بالطائرات، ويهاجم ثكنات الجيش الرسمي في بلاده، يمكنه أن يصدّق نبأ الديناصور.
وإزاء هذه البانوراما الفسيفسائية العصية على الفهم، تشعّ تلك الصرخة التي أطلقها المتنبي قبل ألف عام: «ذو العقل يشقى في النعيم بعقله… وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم»، وكأنما العقل الذي دشّن الفتوحات، ونقل الإنسان من عتمة الكهوف، إلى شمس النور والمعرفة، عاد مرة أخرى إلى دفع الإنسان إلى كهفه، وإن كان الكهف هذه المرة، مكيّفاً ومخدوماً بـ «الواي فاي» والتكنولوجيا الحديثة التي أنتجها الغرب الفاجر الذي تتعين محاربته وتقويض دار الكفر التي يرتع في كنفها!
وإن كان ثمة بصيص أمل، أو منفعة يجنيها المرء من هذا الاضطراب العميق، فأن يعيش، كما قال أرسطو، بلا توقعات، لأن من يفعل ذلك وفق الفيلسوف اليوناني، هم المحظوظون الذين هم في منأى عن الشعور بالإحباط.
وأما دعاة السوريالية، والفن التجريدي، والكتابة المفارقة للوقائع، والراغبون في إنتاج العجائبية والواقعية السحرية، فإن الأحوال العربية تزوّدهم بمعين لا ينضب، فما عليهم إلا أن يحملوا كاميراتهم وأوراقهم، وأن يكتبوا بأقلام الرصاص، أو بالرصاص الحي، إن شاؤوا، ملاحم العرب، وانتحارهم التاريخي، وشهقة الإنسان الاحتجاجية الأخيرة في مواجهة الضوضاء والعبث، وانعدام اليقين!
الحياة

 

“باقية وتتمدد”/حسام عيتاني
بعد انتفاضة أهالي ريفي إدلب وحلب على تنظيم “الدولة الاسلامية في العراق والشام – داعش” أواخر العام الماضي، رفع التنظيم شعار “باقية وتتمدد” للقول أن دولته تمكنت من استيعاب وطأة طردها من مناطق واسعة وعادت إلى توسيع رقعة سيطرتها.
ومنذ أشهر تدور معارك في مناطق الأنبار في العراق تتبدل فيها الأطراف المتصارعة تبدلاً يبدو للوهلة الأولى محيراً. أهالي المحافظة يقاتلون قوات الجيش والأمن العراقية التابعة لرئيس الوزراء نوري المالكي. وهذه تقاتل مسلحي “داعش”. ولا يندر أن تقع مواجهات بين “داعش” وأبناء العشائر المحليين.
ويدعو إلى الاستغراب الشديد سقوط الموصل، ثالث مدن العراق من ناحية عدد السكان، بتلك السهولة بيد مسلحين يبدون قليلي العدد وسيئي التسليح والتدريب.
وتشير المعلومات الصحافية إلى أن الجيش العراقي ترك كمية كبيرة من العتاد في أرض المعركة وعشرات الآليات العسكرية وحُكي عن وجود مبلغ نقدي كبير في فرع المصرف العراقي المركزي في الموصل. هذا إلى جانب إخراج المسلحين أكثر من ألفي سجين ما يذكر بفضيحة تهريب المعتقلين من سجنين عراقيين لإرسالهم للقتال في سوريا في أغسطس (آب) من العام الماضي.
وتبدو الموصل ومحافظة نينوى ناهيك عن الأنبار وعن صلاح الدين التي توجه إليها مسلحو “داعش” “ليتمددوا” فيها على ما يوحي شعارهم، لقمة أكبر بكثير من معدة تنظيم أياً يكن حجمه وعديده. وتعزز السيطرة على محطات البث الفضائية والمباني العامة وفرار قوات الجيش بعد معارك متقطعة بوجود تواطؤ ضمني على تسليم المدينة إلى “داعش” لأهداف عدة.
من جهة، يوفر تسليم “داعش” مناطق واسعة تسكنها الأقلية السنية مخرجاً من المطالب المرفوعة منذ انتفاضة الأنبار قبل عامين بالمشاركة السياسية ووقف التمييز على أساس طائفي والتي رفض المالكي التعامل معها وأرسل قواته لقمعها. فيتحول التنظيم المنشق عن “القاعدة” قوة أمر واقع يمثل المناطق السنية وأهلها. ونظراً إلى الطبيعة المغلقة لـ”داعش” والتي لم يعرف عنها أي قدرة على ممارسة العمل السياسي او الرغبة فيها، يكون المالكي وأنصاره قد أوصدوا الباب أمام أي مفاوضات ذات محتوى سياسي ونقلوا الصراع إلى الحيز العسكري المحض وهو ما يخدم في نهاية المطاف الوجهة التي سلكها رئيس الوزراء العراقي في تعامله مع الفلوجة وعشائر الأنبار.
ومن جهة ثانية، يُحبط المالكي كل المساعي الرامية إلى منعه من تولي رئاسة الحكومة لفترة ثالثة بعد النتائج غير الحاسمة التي حصل عليها في الانتخابات التشريعية آخر أبريل (نيسان) الماضي. صحيح أن المالكي ما زال المرشح “التوافقي” –إذا جاز التعبير- لإيران والولايات المتحدة، لكن الصحيح أكثر أن اعتراضات عميقة عليه يرفعها ممثلون كثر من “البيت الشيعي” في تياري الصدر والحكيم. وبتصعيده حدة القتال ضد “داعش” والعشائر ووسط الخسائر الفادحة لمدن عراقية كبرى، يمكن للمالكي تحويل الأنظار بسهولة عن أزمة تشكيل الحكومة والدعوة إلى تركيز الجهود والأنظار على الخطر الآتي من التنظيم المتشدد.
غني عن البيان أن الحضور الإيراني القوي في العراق واختراق طهران وأجهزتها القوى السياسية العراقية من الباب إلى المحراب. ومعروف أنها القوة الإقليمية الوحيدة القادرة على دفع الأمور في العراق في الاتجاه الذي يلائمها منذ إلحاقها الهزيمة بالقوات الأمريكية وانسحاب هذه في 2011. بكلمات ثانية، يصعب التصديق أن نفوذاً بشدة واتساع النفوذ الإيراني في العراق تفوته خطوات في أهمية سقوط الموصل وتقدم مسلحي “داعش” إلى محافظة صلاح الدين التي تقع بغداد على طرفها الجنوبي. وتبدو موضع شك كبير رغبة التنظيم في الاحتفاظ بالموصل والتسبب بموجهة تهجير ضخمة في اتجاه إقليم كردستان الذي ألمح مسؤولوه علناً إلى رغبتهم في التدخل العسكري في نينوى وعزوا عدم تحركهم إلى رفض الحكومة المركزية في بغداد إرسال قوات كردية إلى الموصل. وملعوم أن وحدات من البشمركة انتشرت فترة طويلة في بغداد أثناء الاحتلال الأمريكي بعد ضمها إلى تشكيلات الجيش العراقي واعتبارها جزءاً منه.
هكذا تظهر قطع الأحجية ويتساوق مسار الآحداث في العراق في الشهور القليلة الماضية مع ما يجري في سوريا منذ مطلع 2013 ودخول “داعش” بقوة إلى الساحة السورية ونشرها الخراب في الثورة هناك. ورغم إعلان العداء لنظام بشار الأسد، لم يشارك التنظيم في أية معركة ضده ولم تتوقف الأدلة عن وجود تنسيق ولو غير مباشر بين “دولتي” بشار الأسد وأبو بكر البغدادي، ضمن استراتيجية أعرض تستند إلى العوامل العشائرية والطائفية وإلى إنهاك المجتمعات العربية.
موقع 24
مخاتلة («داعش»… ربيع عربي جديد)!/ جاسر الجاسر
حين سقط نظام تونس في أولى هبات الربيع العربي، كانت المفاجأة أنه النظام الأشرس أمنياً في المنطقة، ما يعني أن الصورة مزيفة، وأن النظام من الداخل هش ومتآكل كلياً، فكانت الانطلاقة التي شملت بلداناً كثيرة.
الآن ينتصر الإرهاب وتشتد عزيمته بعد نجاحات «داعش» في العراق، وتوالي سيطرته على المدن العراقية وهرب القوات أمامه، في مشهد مؤلم وموجع لحكومة ثبت أنها من ورق.
يكشف هذا الهجوم أن كثيراً من الأنظمة لا تتجاوز حال «الظاهرة الصوتية»، فحكومة المالكي التي لا تتحدث سوى عن محاربة الإرهاب منذ أعوام، وتجمع لها الأسلحة والدعم، هربت حين أطل الملثمون على الموصل، وسلمت لهم المدينة والسلاح، وكأن الغزاة هم التتار، وليسوا مئات من «الداعشيين»، فهل يعقل هذا؟ هل العدد فعلاً محدود أم أن الجيش غائب ومفكك؟ هل البلد متعددة وليست واحدة؟ أين تبخرت مشاهد النجيفي وهو يتجول مسلحاً مستعيداً مشاهد صدام حسين وجعجعة إعلامه؟ هل سينشئ «داعش» دولته فعلاً ويتوسع في مناطق نفوذه؟ هل ستنجح الحكومة في طرد هذا التنظيم، وهي التي لم تحرك ساكناً لمجابهة سيطرة «داعش» على مدن وقرى مختلفة لا تزال تخضع له؟
إن دلالة هذه الحادثة بعيداً عن نتائجها اللاحقة، هي زيادة جرأة الجماعات الإرهابية على الدول في المنطقة وليس العراق وحده، وزيادة المنضمين إليها والمتحمسين لها، فـ«داعش» نجح للمرة الأولى في كسر صورة العمل الإرهابي القائم على تفجيرات متفرقة واغتيالات فردية، ليرسم ملامح قوة ميدانية تفرض حضورها، وتبرهن أن حلم الدولة ليس مستحيلاً ببركة العراق وحسن إدارته للمشكلة.
سترتفع وتيرة الإرهاب، وتتشجع الجماعات الأخرى على القيام بخطوات مشابهة، لتثبت أنها ليست أقل وأدنى من «داعش»، خصوصاً أن سقوط الموصل يفتح الشهية لتجارب مشابهة، إذ أدركوا أن معنى الدولة والجيش ليس إلا صوراً سرابية لا تدركها ولا تصل إليك.
رد الفعل الرسمي في التعامل مع احتلال الموصل يحرض «داعش» على التقدم إلى مدن أخرى، استناداً إلى حال الذعر التي عمّت والارتباك في التصريحات، وخلع عباءة الدولة والعودة إلى تكتلات العشائر لعلها تعالج الخطأ وتوقف مسيرة الإرهاب.
العراق يدخل منطقة سوداء لانشغاله برفع الوتيرة الطائفية وتعميق حال الانقسام المجتمعي، ما يؤدي إلى تحالف بعض المدن والتكوينات مع «داعش»، إذ لن يصيبها ضرر أكثر مما تعيشه، كما أن هذا التحالف سيكون ورقة في الصراع والتجاذب القائمين.
العراق ليس واحداً، وهو ما برهنته المدن والمحافظات التي أصبحت تتعاطى مع الوضع على أنها كيانات مستقلة معنية بذاتها، ومعتمدة على قدرتها الخاصة مثل ما فعل محافظ «صلاح الدين»، الذي فتح باب التطوع لعودة العسكريين القدامى استعداداً لطلائع «داعش»، التي ربما تصلهم قبل أن تكتمل المهمة ويتم الاستعداد.
بضع مئات من الملثمين أرهبوا الحكومة بأكملها، فسارعت إلى طلب العون الدولي لإنقاذ الموصل، وهو أمر لن يتحقق إلا بعودة القوات الأميركية إلى العراق مرة أخرى، معلنة فشلها في مقاومة «داعش»، ما يدشن لمرحلة جديدة من الربيع العربي تكون الجماعات الإرهابية محورها والقائمة عليها، لتؤسس جيلاً ثانياً يعتمد القتل والتخريب والتفجير، وإذا لم تتحرك الحكومة العراقية فإن أراضيها ستكون محطة جاذبة لكل إرهابي، وخطراً على كل جيرانها.
لن يبقى «داعش» طويلاً في الموصل، لكنه حين يُطرد خارجاً سيأخذ معه هيبة الدولة، ويترك خلفه مساحة رحبة للفوضى والانشقاق وتعدد القوى الخارجة على الدولة والمتمردة عليها، فهو دخل الغرفة السرية وكشف أن قوتها الغامضة مجرد خواء وادعاء.
هل ستكون الموصل بوابة الوحدة العراقية أم العلامة الأخيرة لضياعها؟
الحياة
“داعش” وفضيحة الموصل/ غسان شربل
سقوط محافظة نينوى في يد «داعش» ليس انتكاسة عابرة للجيش العراقي. إنه فضيحة كاملة ومدوية للجيش والحكومة. كلام رئيس الوزراء نوري المالكي عن «خديعة» و»مؤامرة» لا يقلل من خطورة ما حدث. إعلانه عن تشكيل جيش رديف من المتطوعين يحمل أيضاً خطر تجديد شباب الميليشيات. ما كانت الموصل لتُستباح على يد «داعش» لو كان العراق يعيش في ظل حكومة توفر تمثيلاً طبيعياً للمكونات. ما كانت لتُستباح لو كانت العلاقات الشيعية – السنية طبيعية أو شبه طبيعية ولو كانت العلاقات بين بغداد وأربيل كما ينبغي أن تكون. وما يصدق على الموصل يصدق على أنحاء أخرى يسكنها المكون نفسه.
ذهبت إلى الموعد فوجدت الرجل يتابع الأنباء الواردة من الموصل. وشاءت الصدفة أن يكون الرجل معنياً، بحكم موقعه، باختراق «داعش» والاستعداد لمواجهتها.
قال إن الوضع في المنطقة شديد الخطورة وإن «داعش» هي الملف الأخطر. سألته أن يوضح هذه الخطورة فأجاب:
– «داعش» جيش صغير فعال عابر للحدود لا يؤمن بالدول القائمة ولا بالتعايش بين مكوناتها. وهذا يعني أن دخوله إلى هذه الدولة أو تلك يعني الحرب الأهلية والحرب المذهبية والفتك بالأقليات.
– تضم «داعش» مقاتلين أشداء متطرفين أخضعوا لدورات تدريب فعلية وتم غسل أدمغتهم بطريقة مخيفة واعترف معتقلون من أفرادها بأنهم كانوا يتسابقون على تنفيذ العمليات الانتحارية.
– يملك التنظيم أسلحة حديثة. استخدم في هجوم الموصل مثلاً صواريخ أوكرانية مضادة للدبابات من طراز «سكيف» شديدة الفعالية وهي بالمناسبة غير مطروحة في السوق السوداء ما يرسم علامات استفهام حول تمكن التنظيم من الحصول عليها.
– تصل مداخيل التنظيم في العراق إلى ما يقارب 50 مليون دولار شهرياً بفعل إتاوات وضرائب وتبرعات ومداخيل بوسائل مختلفة. ووجود مثل هذا المبلغ في عهدة التنظيم يعطيه قدرة عالية على الاستمرار في القتال.
– أتاح عمق الانقسام المذهبي للتنظيم استقطاب عناصر كان يفترض ألا ينجح في الوصول إليها وهي فئة خريجي الجامعات والمهندسين.
– الأخطر هو جاذبية «داعش» للمقاتلين الأجانب الوافدين من الغرب وأماكن أخرى ما يوفر للتنظيم خبرات لم يكن يمتلكها. الملفت أن معظم المقاتلين الأجانب في سورية يعملون في صفوف «داعش» التي يزيد عدد عناصرها على أربعة الآف في حين تضم «جبهة النصرة» التابعة لـ»القاعدة» نحو عشرة الآف مقاتل أكثريتهم الساحقة من السوريين.
– لا مبالغة في القول إن «داعش» التي ألغت الحدود بين العراق وسورية لبناء إمارة عابرة للحدود تشكل خطراً جدياً على المنطقة والعالم. وخير دليل المشاورات التي تجريها الدول الأوروبية والغربية استعداداً لمواجهة مشكلة «العائدين من سورية».
– يعزز وجود «داعش» ظاهرة الجيوش الصغيرة الجوالة. لا بد من الالتفات إلى أن «حزب الله» يقاتل في سورية وكذلك «عصائب أهل الحق» العراقية.
– تزايد الجيوش الجوالة في العراق وسورية واليمن يضاعف احتمالات الغرق في حرب مذهبية إقليمية مدمرة.
– كشفت معركة الموصل وقبلها معركة الفلوجة هشاشة الجيش العراقي. أما في سورية فإن جيشها لا يزال يفضل حتى الآن سكب حممه على المناطق الخاضعة لكتائب «الجيش الحر» متناسياً معاقل «داعش» والمتشددين.
رسم المتحدث صورة مقلقة قاتمة. توقع أنهاراً من الدم ما لم تدرك دول المنطقة الهاوية التي تندفع إليها. سألته إذا كان ممكناً احتواء خطر «داعش» وكيف فأجاب:
«في العراق لا بد من قيام حكومة وحدة وطنية فعلية تمنح السنة صفة الشريك الفعلي وهي مهمة لم يعد الرئيس نوري المالكي قادراً على الاضطلاع بها. لا بد لإيران الحريصة على وحدة البيت الشيعي العراقي من تسهيل مهمة العثور على بديل للمالكي. هذه الحكومة ستكون قادرة على الإفادة من قدرات الجيش العراقي وقوات إقليم كردستان فضلاً عن استقطاب العشائر».
تستعد «الدولة الإسلامية» لـ»غزوات أخرى». يستعد المالكي لاستعادة نينوى بالسلاح وتحريرها من «الأوباش». ما هو المقصود بـ»الجيش الرديف»؟ من أين يأتي؟ وكيف سينظر إليه السنة والأكراد على رغم رفضهما لـ»داعش»؟ يحتاج العراق إلى تسوية تاريخية تنقذ العملية السياسية وتوقف لعبة الكمائن والاستيلاء على الدولة وانتزاع المناطق. يمكن تحويل «فضيحة الموصل» إلى فرصة للإنقاذ بدلاً من تحويلها إلى مدخل لفتح أبواب الجحيم على مصراعيها.
الحياة

 

إلى متى يقاتل “حزب الله” في سوريا؟/ رندة حيدر
هذا هو السؤال الذي يطرحه كل لبناني عندما يقرأ كلمة رئيس أركان الجيش الإسرائيلي اللفتنانت جنرال بني غانتس أمام مؤتمر هرتسليا الـ14 التي قال فيها إن الحرب في سوريا قد تستمر 10 سنين، ولدى متابعته ما يجري على الحدود العراقية – السورية بعد إقدام “داعش” على السيطرة على الموصل وازالة الحدود مع المناطق التي تسيطر عليها في سوريا تحضيراً لاعلان قيام دولته الإسلامية.
بعد أكثر من سنة من مشاركة “حزب الله” في الحرب السورية، لا تلوح في الافق مؤشرات لنهاية هذه الحرب. وعلى رغم كل التحليلات المتفائلة لحلفاء سوريا بعد انتخاب بشار الأسد لولاية جديدة، فإن أحداً لم يجرؤ على القول إن هذا الانتخاب هو مؤشر لقرب انتهاء الحرب الأهلية. بالطبع، في رأي المعارضين ان اعادة انتخاب الأسد ستؤدي الى استمرار الصراع الى ما لا نهاية له. وفي رأي الوسيط الدولي الأخضر الإبرهيمي ان سوريا تحولت “دولة فاشلة”. أما في رأي رئيس الأركان الإسرائيلي غانتس فإن المنظومة السياسية في سوريا تتهاوى مثل “برج من ورق”، وجميع الاطراف الاقليميين والدوليين لم يعودوا يتوقعون نهاية سياسية للأزمة وخصوصاً بعد اعلان الرئيس الأسد قبل يومين الموت الرسمي لمؤتمر جنيف 2.
كل هذا يحتم على قادة “حزب الله” اعادة درس التبريرات الدينية والسياسية والاستراتيجية لمشاركتهم في القتال في سوريا، وذلك في ظل المتغيرات المتسارعة التي تطرأ في كل ساعة على خريطة التحالفات والعداوات بين التنظيمات المتقاتلة داخل سوريا من جهة، وفي ضوء التحول الدراماتيكي للصراع السني – الشيعي في العراق، وبعد التفكك السريع للجيش العراقي، وبدء الكلام على احتمال اعلان دولة إسلامية متشددة في المناطق التي يسيطر عليها “داعش” في كل من العراق وسوريا.
مما لا شك فيه ان توسيع “داعش” رقعة سيطرته على أراض عراقية جديدة، وتعزيز قبضته على مزيد من الاراضي داخل سوريا، يشكل من أمور أخرى أكبر تهديد للتحالف القائم بين إيران ونظام بشار الأسد في سوريا و”حزب الله” في لبنان منذ بدء الحرب الاهلية السورية. من هنا إسراع إيران وسوريا الى اعلان دعمهما لحكومة نوري المالكي وتعبيرهما عن استعدادهما لتقديم العون العسكري له. فهل معنى هذا أن “حزب الله” الذي لديه، استناداً الى غانتس، “قدرة هائلة وتسليح أفضل من بعض جيوش العالم”، قد يشارك في مرحلة لاحقه في مقاتلة “داعش” بصفته جزءاً من المحور الإيراني – السوري؟ والى متى يظل الحزب متورطاً في قتال أهلي مذهبي دموي معرّض لمزيد من التعقيد يوماً بعد يوم؟!
النهار

 

مَنْ الخائن في الموصل؟/ زهير قصيباتي
«الجيش الحر» في سورية والنظام السوري ونظام نوري المالكي وحّدتهم ظاهراً المواجهة مع «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش). كل التقديرات المرتبطة بـ «عمالة» هذه «الدولة» لإيران، تتهاوى نظرياً، بمجرد إعلان المالكي تعبئة عامة للعراقيين لمواجهة خصم بدأ يرسم خريطة «دولته» بتغيير خريطتي سورية والعراق.
سقطت حدود دولة ممزّقة بالحرب والانتخابات، وسقطت حدود بلاد الرافدين، بمجرد «تبخّر» الجيوش العراقية وهرب قياداتها من الموصل. لـ «داعش» الآن القدرة على خوض حروب الحدود الجوّالة، بعدما سقطت في قبضتها ترسانة أسلحة كلّفت الدولة العراقية البلايين، فكيف إذا أُسقِطت حقول نفط وأُحرقت أخرى؟… ألا تذكّر معركة سقوط الموصل اللغز، بلغز سقوط بغداد في قبضة الأميركيين، وانهيار كل دفاعاتها فجأة عام 2003؟
ويكبر اللغز باستحضار تهديدات المالكي ووعيده ليل نهار بضرب كل «القاعدة» وما انشق عنها وما تفرّع، معتمداً على سطوته قائداً أعلى للقوات المسلحة، فإذا به يبدو الآن مستنجداً بالأكراد الذين نالوا، على مراحل أيضاً، نصيباً من غضب رئيس الوزراء المتهم بطمعه بكرسي أبديّ على رأس الحكومة… وأي حكومة يكون فيها الرأس والقلب والوسط ويوزع الأطراف على الحلفاء، لأنها «دولة قانون».
وإن كانت غالبية صحف العراق، نعت المؤسسة العسكرية بعد صدمة سقوط الموصل أمام جحافل «داعش» التي تضم مئات المقاتلين في مواجهة جيش جرّار وقوى أمن قوامها مليون عنصر، فالواقعة التي تجسّد كارثة لا بد أن تقلب حسابات بدت راسخة على مدى سنوات. وأبسطها أن حليف إيران، القائد الأعلى للقوات المسلحة لن يمكنه الرهان على ولائها لكسر شوكة «القاعدة» ولا المسلحين في العشائر السنّية التي اجتهد طويلاً في استعدائها بعدما استخدمها لمصلحة نظامه تحت ستار قتال «القاعدة»، خصوصاً في الأنبار.
لكن هذه المعادلة لا تستقيم أيضاً مع حديث عراقيين علناً عن خيانة ارتُكِبت في الموصل، وعن هرب القادة من الميدان، لتدخل «داعش» بهدوء، بل ان بعض مَنْ نزحوا إلى أربيل يروي حكاية ذاك الهدوء المريب الذي لم تعكّره رصاصة!
عانت «داعش» في المواجهات السورية مع «جبهة النصرة»، لكنها دخلت آمنة إلى قلب الموصل! حتى محافظ نينوى انضم الى أصحاب مقولة المؤامرة و «تضليل» قادة الجيش قائدهم الأول، المالكي. وفي بغداد من يخشى سيناريو يتعدى الموصل وتمدد «الدولة الإسلامية في العراق والشام» إلى محافظة كركوك، مثيراً تساؤلات حول إخلاء عناصر الجيش الساحة وكل نقطة في مناطق السنّة لمصلحة «داعش». وماذا لو سحب المالكي قواته من الأنبار للتمترس في مناطق الشيعة ومحيط بغداد فقط؟ هل يبدأ إذاً فصل حاسم في خريطة التقسيم؟ مَنْ يحرِّك «داعش» ويموّلها، سؤال قديم، جديده: مَنْ يمنحها ضمانات بألاّ تتعرض لحرب جويّة؟
خبر جيد للعراقيين أن يدافع الأكراد عن وحدة العراق بعدما حشرهم المالكي في زاوية الانفصال مرات، لكن المريب أن هناك مَنْ لا يستبعد مخططاً خبيثاً يكمن وراء تمكين السنّة بـ «دولة داعش»، تمهيداً لانفصال الشيعة في مناطقهم، والأكراد في كردستانهم… دويلة سنّية تقتطع ايضاً من سورية الحسكة والرقة ودير الزور، في مقابل «سورية علوية» ضمانتها إيران الشيعية.
فلنستمع إلى المالكي مجدداً، ووعيده، هو يطلب من البرلمان إعلان حال طوارئ لمواجهة الكارثة، وعقد النواب قد يلتئم اليوم، لكنه في كل الأحوال لم يعطل زحف «داعش» في كركوك.
أي جيش؟ يتقهقر سريعاً، أم «يتآمر» على قائده ويخونه؟ أي برلمان وائتلافات كلّفت العراقيين أنهاراً من الدم، ولم تصل بعد إلى بر المؤسسات؟
الأكيد أن بلاد الرافدين انزلقت الى المجزرة الكبرى المستمرة في سورية منذ 2011. ما على أميركا إلاّ أن تحذر من خطر «داعش» و «جهادييها»… ما على المالكي إلاّ أن يسأل إيران عن الحل.
لعله يشبه ما قدّمه «الحرس الثوري» في سورية.
الحياة

 

لماذا انهار جيش المالكي؟ / حسان حيدر
كأن التاريخ يعيد نفسه. فقبل احد عشر عاماً ونيف، تفاجأ العالم بالانهيار السريع لجيش صدام حسين امام القوات الاميركية الغازية، وقيل يومها ان الخيانات والرشاوى والفساد ومساوئ الحكم والحصار الخانق الذي امتد لأكثر من عقد، كانت وراء تهاوي ما كان يوماً واحداً من اقوى الجيوش العربية واكبرها عديداً واكثرها خبرة، لكن الأكيد ايضاً ان الجنود العراقيين لم يكونوا مستعدين لتكرار الهزيمة المذلة التي لحقت بهم عندما اخرجوا من الكويت، ولا ان يموتوا دفاعاً عن حكم لا يأبه كثيراً لمصيرهم، ففضلوا الانكفاء امام عدو يفوقهم قوة نارية بمئات الاضعاف ويتقدمهم تقنياً بعقود كثيرة.
غير ان الحكم الجديد في «العراق الجديد» الذي ولد من رحم الغزو الاميركي أكد ويؤكد انه ديموقراطي منتخب وليس ديكتاتورياً، ويتمتع بتأييد غالبية العراقيين وباعتراف العالم ودعمه، فلماذا اذاً انهار جيش نوري المالكي امام قوات «داعش» في الموصل ويكاد ينهار في صلاح الدين وكركوك، اذا كان أنشئ على أساس عقيدة مختلفة ويخضع لنظام سياسي مختلف؟
الجواب يكمن بالتأكيد في مفهوم المالكي للحكم وكيفية ادارة تحالفاته، وقبل كل ذلك فهمه لطبيعة التركيبة السياسية والطائفية لبلده. فهو اعتبر عندما عاد من ايران بحماية اميركية انه انتصر ليس على نظام صدام بل على السنّة العراقيين، وبدأ لذلك عملية انتقامية طويلة وثابتة قامت على تهميش «أعدائه» حتى بين الشيعة، وإبعاد بعضهم قسراً عن البلاد، وحصر السلطة به وبالمتحالفين معه، وعندما بدأ التململ لدى السنّة لم يجد سوى التنكيل رداً والسلاح وسيلة لمواجهة مطالبهم. وعندما بدأت مناطق ذات غالبية سنّية في التمرد على النظام العام، حاصرها وأبقاها تحت التهديد باجتياحها.
ثم لم يلبث ان بدأ لعبة «المتطرفين والمعتدلين»، معتبراً كل من يعارضه «ارهابياً» و «تكفيرياً»، وشجع بعض المتشددين على البروز ليبرر لجوءه الى القوة. وبعد ذلك اختار ان يسمح لهم بالسيطرة على بعض المناطق ليخير سكانها بين حكمه وتطرفهم، قائلاً لمعارضيه السياسيين ان «القاعدة» هي البديل الوحيد منه، وان عليهم ان يتحملوا «امارة اسلامية» اذا كانوا يرفضون «ديموقراطيته». ثم كرر خطأ الاميركيين الذين حلوا الجيش العراقي عندما قرر حل «الصحوات»، فوحد بذلك السنّة، معتدلين ومتطرفين، ضد نظامه.
وعندما انتشر جيشه في المناطق السنية لمواجهة «داعش» بدا كأنه قوة احتلال اكثر منه جيشاً وطنياً، ذلك ان انتشاره كان تعبيراً عن الغلبة وليس عن الحياد. وتأكد ذلك في فرار جنوده وضباطه الذين تصرفوا كأن هذه المناطق لا تعنيهم او انها ليست عراقية.
وقد لا يدوم الانتصار العسكري الذي حققه «الداعشيون» طويلاً حتى لو تقدموا نحو مناطق اخرى. وهم اعطوا مؤشراً الى عدم رغبتهم في البقاء طويلاً في المناطق التي احتلوها عندما نقلوا على الفور المعدات التي استولوا عليها من الجيش العراقي الى داخل الاراضي السورية، وتحديداً الى محافظة الرقة. لكن «الحملة المنسقة» التي دعت اليها واشنطن لمواجهتهم لا تبدو ممكنة في الواقع لأنه ليس بامكان الاميركيين التدخل المباشر سوى عبر سلاح الطيران، وهو امر مستبعد، فيما لا ينوي الاكراد زج قواتهم في غير الدفاع عن اقليمهم. اما قوات الجيش العراقي فتحتاج الى وقت غير قصير لاعادة تنظيم نفسها.
وسواء بقي «داعش» او انسحب، فإن ما حصل يكشف هشاشة الحكم القائم في بغداد ويفضح خطل اسلوبه في ادارة البلاد وفي التعامل مع باقي المكونات، ويؤكد عجزه عن اقناع العراقيين بوطنيته ونزاهته.
الحياة
المغول الجُدد/ هشام ملحم
يوم الاثنين أعلنت مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الاوسط آن باترسون في الدوحة، خلال منتدى اميركا والعالم الاسلامي الذي نظمته مؤسسة بروكينغز للابحاث، ان الولايات المتحدة ستبذل كل ما في وسعها بالتعاون مع حلفائها لاحتواء ومن ثم دحر الخطر الذي تمثله ” الدولة الاسلامية في العراق والشام ” (داعش) التي تسعى الى “ايجاد دولة ارهابية في غرب العراق وشرق سوريا”. يوم الثلثاء، صعقت واشنطن ومعها العالم عندما اجتاح داعش الموصل، ثانية كبرى المدن العراقية، وألحقت بذلك هزيمة ضخمة بحكومة نوري المالكي في بغداد التي كانت واشنطن قد عجلت في الاسابيع الاخيرة في عملية تسليمها انظمة عسكرية جديدة تشمل مروحيات وطائرات من طراز “ف 16″ وغيرها لاحتواء الخطر المتنامي لـ”داعش”.
سقوط الموصل، أكان موقتاً أم لا، سيكون تحولاً مفصلياً في مسيرة العراق في مرحلة ما بعد الغزو الاميركي، لانه كشف هشاشة العراق كدولة موحدة، وضعف التركيبة السياسية في بغداد، واخفاق الدعم العسكري الاميركي للجيش العراقي وخصوصاً في مجال التدريب والتنسيق العملاني، كما يتبين من الانهيار السريع للدفاعات العراقية في المدينة وهروب الجنود بعد تخليهم عن عتادهم.
سقوط الموصل أخطر بكثير من احتلال “داعش” للفلوجة والرمادي، وهما مدينتان أصغر نسبياً وتقطنهما اكثرية سنية عربية. في المقابل، الموصل مدينة يسكنها نحو مليون ونصف مليون شخص ذوي خلفيات اثنية ودينية مختلفة.
وسقوط الموصل يبرز من جديد ظاهرة ضعف الدولة العربية كدولة-أمة Nation state وهذا ما نراه في العراق واليمن وسوريا ولبنان وليبيا. في مقابل هذه الظاهرة، ثمة ظاهرة بروز الجماعات الفاعلة خارج اطار الدولة Non-state actors مثل “داعش” و”حزب الله”. ونرى ان “داعش” تنشط عسكريا في العراق وسوريا، وتسعى الى بناء قواعد في اليمن. والتدخل العسكري لـ”حزب الله” في سوريا، بدعم كبير من ايران، ساهم كثيراً في انقاذ نظام الاسد من الانهيار. وهذه المرة الاولى يساهم فريق لا يمثل دولة مثل حزب الله في انقاذ نظام يفترض ان يحكم دولة عدد سكانها يصل الى 23 مليون نسمة.
حدث مثير بالفعل ان تسقط مدينة بحجم الموصل في ايدي جماعة جهادية ظلامية تكفيرية مثل “داعش” تمارس ذبح وصلب كل من يخالفها وتحلم باحياء الخلافة الاسلامية بمفهوم بدائي. التعامل الوحشي لـ”داعش” مع المسلمين الذين لا يتصرفون بالطريقة التي تمليها، واضطهادها لغير المسلمين كما نرى في الرقة وغيرها، يذكّر بالظلامية التي كانت تزور هذه المنطقة (أو تنبثق منها) بين حين وآخر. الحرائق التي شبت في الموصل والرعب الذي عمّ سكانها يؤشر لمجيء المغول الجدد.
النهار

 

الحدث “الداعشي” ينقضّ على جميع الدول سيناريوات قاتمة قد تفرز وقائع خطيرة/ روزانا بومنصف
سرقت التطورات الدرامية في العراق الأضواء من سوريا مع انتقال مسرح الاحداث الى سيطرة تنظيم داعش على مدينة الموصل واطاحة الحدود مع مناطق سورية يسيطر عليها التنظيم في ظل انهيار مأسوي للسلطة العراقية على نحو يوحد المشهد في مسرح واحد في كل من سوريا والعراق على غرار مراحل تاريخية مختلفة لكن مع فارق ان التدهور الامني المخيف في العراق قد يستنفر جهداً دولياً واقليمياً من اجل منع استفحاله. حتى في لبنان الغارق حتى اذنيه في خلافاته السياسية التي تتفشى اجتماعياً وتربوياً، بدت هذه التطورات العراقية مقلقة جداً من حيث انها يمكن ان تنقل ما يحصل في المنطقة من صراع سياسي ومذهبي الى مستوى مختلف تماماً يمكن ان يؤدي الى تدهور اكبر في المنطقة على وقع اتساع خشبة مسرح التقاتل الاقليمي الى مساحة العراق وسوريا معا وعدم اقتصاره على سوريا وحدها خصوصا بعد اعلان رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي انه ينوي تسليح سرايا مقاتلة لمواجهة تقدم تنظيم داعش ما يفتح الباب على تنظيم ميليشيات تواجه اخرى ويهدد اكثر السلطة في بغداد من جهة، ويمكن ان يفتح الحرب الاهلية من جهة اخرى. ففيما كانت الامور معقولة الى حد ما وان مقلقة مع تصاعد تنظيم داعش في سوريا نظراً الى بقاء الجزء الأساسي من نشاطه في سوريا وان امتد الى العراق في بعض مظاهره، فإن الوضع المستجد يشكل تحدياً كبيراً لمجموعة واسعة من الدول بدءاً من الولايات المتحدة الاميركية. اذ هي استثمرت الكثير في العراق بشرياً ومادياً بعد اطاحة صدام حسين في حين تبدو مصالحها في المنطقة انطلاقاً من العراق مهددة مع انتقال الارهاب الذي حاربته في افغانستان الى مناطق اوسع واكثر رحابة في ظل تطورات سياسية مؤثرة وتفشيه على نحو مرضي اكثر بكثير مما كان عليه قبل اعوام. كما ان ثمة الكثير على المحك بالنسبة الى الدول المجاورة وفي مقدمها ايران الراعية الاساسية لنظام حكم نوري المالكي والذي يتحمل بسوء ادارته وحكمه خلال ولايتي رئاسته للحكومة العراقية نشوء خلل مخيف في العراق على مستوى عدم قدرته على اقامة توازن سياسي ومذهبي بل اذكاء الحساسيات المذهبية بحيث يعتقد كثر انه قد يكون السبب في ما حصل اكثر من تأثير التطورات السورية في الجوار العراقي على رغم التفاعل بين البلدين الجارين. وكانت ثمة مواقف لمسؤولين اميركيين في الساعات الاخيرة حملوا فيها المالكي مسؤولية ما جرى كما مسؤولية معالجة الوضع واستيعاب القبائل والعشائر السنية من اجل وأد الحرب الاهلية على رغم ابداء واشنطن استعدادها للمساعدة في هذا الاطار بعدما طاولتها التطورات الميدانية مباشرة ان لجهة سيطرة المسلحين على اعتدة قدمتها الولايات المتحدة الى الجيش العراقي او على صعيد استسلام الجيش العراقي وانسحابه امام تقدم المسلحين او تخليه عن مراكزه وحتى هربه ما يشكل خيبة امل واسعة في ظل الاعتقاد بأن ثمة جيشا متماسكا وقادرا في العراق، فيما يتجه العراق على ضوء ما حصل الى تكريس وضعه كدولة فاشلة اخرى في المنطقة. يضاف الى ذلك ان الولايات المتحدة على عتبة تنظيم انسحابها من افغانستان فيما تتسع قاعدة الارهاب الاصولي الديني. لكن من غير المتوقع ابداً في ضوء سياسة الرئيس باراك اوباما عودة الاميركيين للتدخل ميدانياً من اجل انقاذ الوضع. فيما استنفرت تركيا التي كانت تستقبل الرئيس الايراني حسن روحاني وتعلن النية للعمل معه على مواجهة الارهاب مع تسجيل تنظيم داعش سيطرته على الموصل، فاستدعى رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان اجتماعا طارئا لقياداته السياسية والامنية من اجل مناقشة الوضع في الموصل على ضوء خطف 48 مواطنا تركيا فيها. ولا يقل التحدي بالنسبة الى ايران التي وفيما حصدت قبل ايام قليلة انتصارا كبيرا عبر تأمين استمرار الرئيس بشار الاسد في موقعه على رغم الانتفاضة ضد حكمه المستمرة منذ ثلاث سنوات، تواجه اهتزازا كبيرا في العراق الذي كان يعتبر مضمونا وثابتا في المعادلة المؤدية الى سوريا ومنها الى لبنان على رغم استمرار العمليات الارهابية فيه. والدول الغربية التي تجتمع لمناقشة دفق الجهاديين الى سوريا وسبل مواجهة عودتهم الى المجتمعات الغربية باتت بدورها امام تحد مختلف اكثر عمقا وخطورة واتساعا.
لا تزال الامور مشوشة على مستوى تقدير الوضع العراقي خصوصاً ان التطورات لم تنته بعد وهي لا تزال في طور تدرجي قد يتصاعد. لكن في الحدود التي حصلت فيها حتى الآن، فان رد الفعل الاولي من جانب مراقبين ديبلوماسيين رسم سيناريوات قاتمة استناداً الى المعطيات المتوافرة. فخطورة هذه التطورات ربما تستدعي اجتماعات دولية واقليمية طارئة وفق ما لا يستبعد هؤلاء لمواجهة توسيع تنظيم داعش سيطرته ونفوذه في المدن العراقية، وهو أمر سيكون موضع متابعة وفق ما يقول بعض المراقبين الى درجة احتمال رفعه الى مجلس الامن باعتبار ان الوضع العراقي مختلف عن الوضع السوري ولو ان تنظيم داعش يشكل عاملاً مشتركاً ميدانياً في كل من العراق وسوريا. قلة من هؤلاء يعتقدون بقدرة المالكي على الامساك بزمام الأمور ومعالجتها على نحو يوقف المد الاستنزافي للدولة في العراق لكن الخشية الكبرى من وضع استنزافي يطول جنباً الى جنب من سوريا الى العراق والعكس صحيح بحيث قد يفرز وقائع سياسية وديموغرافية خطيرة في المنطقة ومشاكل اكبر.
النهار
بن لادن يسير على قدميه.. في الشام والعراق/ نصري الصايغ
في 5/5/2011 قال باراك أوباما: «بن لادن مات ولن يسير مرة أخرى على الأرض». صح. لكن أتباعه يسيرون. ورثته ينتشرون. سلالته القاعدية تزحف في كل الاتجاهات. نصف العراق تحت أقدام خلفاء بن لادن. شمال شرق سوريا مرتع لقواته. آبار النفط رصيد لا ينضب لـ «فتوحات» «داعش». حدود الدولة (دولتهم في العراق والشام) حتى الأمس فقط، تساوي سبعة أضعاف مساحة لبنان. تمتد، حتى الأمس فقط، من حلب وجرابلس إلى الحسكة والرقة، إلى تخوم دير الزور والبوكمال، إلى نينوى الكبرى ومحافظة صلاح الدين حتى الفلوجة الواقعة على تخوم العاصمة بغداد… المدن تسقط أمام غزوة «داعش» كورق الخريف، الموصل، عقدة المطامع الغربية والإقليمية والمحلية، سقطت بلمح أيام ثلاثة. «جيش العراق العظيم»، هرول هارباً. هذا «فتح» ينتسب إلى بن لادن.
«لن يسير بن لادن مرة أخرى على الأرض». غلط. ها هو يسير علناً. لم يعد في مخبأ. خرج من مغاور طورا بورا وجبال أفغانستان وملاجئ باكستان. انه في نيجيريا. «باكوحرام» إليه تنتسب. من فكره تنهل. من تكفيره تستوحي. تكتسح يوما بعد يوم أرضا جديدة، مطبقة تعاليم محمد يوسف أحد تلامذة بن لادن وأيمن الظواهري. يوسف هذا قتل، ولكنه ما زال يسير على قدميه ويتقدم بقيادة خليفته أبو بكر شيكو. إمارته من حدود التشاد إلى حدود النيجر وحدود الكاميرون. يسيطر بنسب متفاوتة على إقليم بورنو ومدن كثيرة، منها مايدوغري وشيبوك (حيث اختطف 200 تلميذة ترتاد مدارس غير إسلامية، وهدد ببيعهن). شمال نيجيريا الشرقي تحت سلطة «باكو حرام»، ومنها تنطلق لتنفذ هجماتها ضد المدنيين والعسكريين. انهم أشد تعصباً وفتكاً من بن لادن وأركانه المنتشرين في مالي وجنوب غرب الجزائر، و«أنصار الشريعة» في تونس، وعصابات «القاعدة» في انحاء ليبيا، حيث استحوذت على ترسانة القذافي.
«لن يسير بن لادن مرة أخرى على الأرض»… فضيحة، تكاد الأرض العربية تصبح ممنوعة علينا، نحن المواطنين المؤمنين بالحياة والحرية والجمال. والخ… مما حلمنا به ذات قرن. القاعدة تبيع عقيدة الموت وتبشر المؤمنين بفضائل القتل، وتنجح وتفوز.
«داعش»، لم تعد تنظيماً. صارت دولة تتمدد، لاغية الحدود (حدود سايكس بيكو) وحدود الطبيعة. لا وطن لها. لا حدود تقف أمامها. لديها عقيدة دينية وايديولوجية حديدية، وكفاءة العنف في إقناع البائسين والمعدمين والطفار والفقراء والخلاصيين، بأن الموت امتياز، وأن الشهادة مكسب وأن قتال الكفار نيل للجائزة الإلهية في النعيم. «حربهم المقدسة»، ليست ضد المسيحيين واليهود والبيض والشيعة «الروافض». انهم أعداء كل من ليس معهم ومثلهم ومنتظم في صفوفهم. فلا يتورعون عن قتال المسلمين السنة وقتلهم وإخراجهم من ديارهم عنوة وغصباً واغتصاباً.
مات بن لادن، ولكن «القاعدة» لم تمت. الأميركيون يظنون أن إسقاط الرأس، يقطع أوصال الجسد. غلط، بن لادن ليس أول من قتل ولا هو الأخير. سلسلة طويلة من الأسماء سبقته أو لحقت به. من المؤسسين والمنظرين إلى هذه اللحظة، لم تتوقف الإعدامات والاغتيالات. حسن البنا اغتيل في شباط 1949. سيد قطب أعدم في آب 1966. صالح سرِّية الفلسطيني اعدم في العام 1975، الشيخ عبد الله عزام، الزعيم الروحي لـ «الأفغان العرب»، والملهم الرئيسي لأسامة بن لادن وتنظيم «القاعدة»، اغتيل في العام 1989 في باكستان، أبو مصعب السوري (الحلبي) قبع زماناً في السجون الأميركية، ويعتبر من الأركان المؤسسين لتنظيم «القاعدة». خالد الشيخ محمد اعتقل في باكستان واقتيد إلى أميركا. أبو حفص المصري، أحد مؤسسي «القاعدة» الأوائل، قتله الأميركيون في شباط 2001. مصطفى أبو اليزيد، اغتيل بواسطة صاروخ أميركي في أيار 2010. أبو مصعب الزرقاوي قتل في غارة أميركية في بعقوبة (العراق) في حزيران 2006… رؤوس كثيرة قتلت، ولا يزال أتباعها يتكاثرون ويسيرون على وجه الأرض…
متى يفهم العالم، أن القوة العسكرية وحدها ليست حلاً. تنظيم «داعش» ليس حالة عسكرية مستولدة من نص ديني. هناك إصرار على التعامل مع هذه «القوة الفتاكة»، بقوة أشد فتكاً… نتائج هذه المعارك أفضت إلى فوز «القاعدة» ميدانياً، وانتشارها جغرافياً وبلوغ تهديدها، مشرقاً بكامله. ها هو العالم يستيقظ بعد سقوط الموصل، على شرق أوسط «قاعدي». يا للهول!
هل فات الأوان؟ ربما! ومع ذلك، لا مفر من استعادة الأسئلة الأولى: لماذا ابتليت هذه المنطقة بالمنظمات التكفيرية؟ من المسؤول عن بذرتها الأولى ومنشأها الأول؟ هل المشكلة في النص الديني وتأويلاته أم في الواقع السياسي ـ الاجتماعي ـ الاقتصادي؟
بعض الظن ليس إثما، بل هو الطريق إلى الصح. لم يولد الإسلام السياسي من النص، بل من أرض الواقع. ولم يولد الاسلام الجهادي من متون الآيات واجتهاداتها. الظلم وانسداد الأفق وانعدام الأمل، سبب أول. الطغيان والاحتلال والاستيطان والاستعمار، سبب أول. الاستبداد والفساد والاقصاء، سبب أول. التمييز الاقتصادي النيوليبرالي، الشقيق الأكبر للاستغلال الرأسمالي، سبب أول. انعدام التنمية وحرمان المحرومين من فرص العدالة الاجتماعية، سبب أول. أحزمة البؤس المكتظة بالبؤساء والمنبوذين الذين يشاهدون من بعيد نعيم المحظوظين والفاسدين والمفسدين والظالمين، هو سبب أول.
كل هذه الأسباب، هي سبب أول. ولد الاسلام السياسي رداً على، وليس اجتهاداً من. الواقع السياسي الاجتماعي القاسي هو «الوحي» الأول. الظلم والاستبداد وانعدام الحلول، بالتي هي أحسن، هي النص الأول.
لم يبدأ الاسلام السياسي من ترف تأملي. التأمل يفضي إلى المزيد من الاستمتاع الروحي. البحث عن جواب لحالة البؤس الإنساني، إما يكون من عناصر الواقع، أو من عناصر ما فوق الواقع: الدين، الفكر، الايديولوجيا. اللجوء إلى مبدأ «الحاكمية»، كان منفذاً للخروج على «الحاكمية» المدنية الظالمة والمستهترة التابعة للغرب. المودودي قرن هذه النظرة بالعنف. أسس لجيل من الإسلاميين، أفضى إلى إسلام تكفيري عنفي مدمر… الفارق بين العنف الثوري والعنف الديني هو في الوسائل والغايات، لا في الأسباب.
نموذج «باكو حرام» فصيح جداً. نيجيريا أكبر دولة في القارة الافريقية، تعوم على نفط غزير، وأراض ثرية بالخضرة، ومساحة جغرافية تؤهلها لأن تكون دولة متقدمة وحديثة بجدارة.
بلد الثروة هذا، هو بلد الإفقار للفقراء والإثراء للأثرياء. حيث «باكو حرام»، بؤس لا يوصف. ظلم وإهمال وقمع بدرجات مسعورة. السلطات في نيجيريا تخون شعبها كل يوم. «مجموعة الأزمات الدولية» تحدد الأسباب: «النفط يسيل تحت أقدام المسؤولين وأعوانهم. لم تتحسن نوعية حياة النيجيريين… إنهم ضحايا النعمة النفطية. النفط مسؤول عن تعميم أوسع قاعدة للفساد. يشترك فيها قادة محليون، مع مصارف وشركات عالمية عملاقة. الزراعة، عمود الاقتصاد النيجيري قبل اندلاع النفط، تعيش على حافة الانهيار. هذا الظلم، دفع الفقراء في مناطق الشمال، إلى الانتظام بجمعيات حاضنة، إثنياً ولغوياً ودينياً. الجمعيات الدينية في الشمال النيجيري مدعومة من الوهابية السعودية، عقيدة ومالاً.
«باكو حرام»، هي من نتاج هذا الواقع. انتسابهم لبن لادن، دلهم عليه البؤس الذي توفره سياسات الظلم والاضطهاد والافقار… «باكو حرام» هي الملجأ الخلاصي، الذي يتربى فيه النيجيري على الكراهية والحقد ورغبة بالاستئصال، عبر شيطنة كل من ليس يشبهه ومن ليس مثله. السلطة كلها حرام والمجتمع جاهلي والفكر كفر و«الكتاب حرام».
الاثم المادي هو السبب الأول والمحرض الأول، لارتكاب اثم التكفير العدمي، الذي يستمد من الحرف الديني، بعد قتل روحه، قوة محاربة الظلم بظلم أشد. بربريتان تتنافسان وتتصارعان، واحدة محظية دوليا، والثانية محظية شعبوياً.
لنترك نيجيريا في قارتها. لنسأل عن وجوه الشبه الكثيرة بينها وبيننا. لديها أسباب لنشأة «باكو حرام»، وهي إحدى التنظيمات الأكثر جنوناً وانحرافاً. أليس لدينا عشرات الأسباب لنشوء «القاعدة» وشقيقاتها؟ لا يكفي ان نقول ما تأكد بالوثائق، بأن غاسيار وانبرغر أول منظري الجهاد في أفغانستان. انه كذلك. استعان ببيئة دينية حاضنة للوهابية، كي يقاتل بها السوفيات. الوهابية، ليست محمد عبد الوهاب وحده. وحيداً، ما كان باستطاعته أن يبيع أفكاره. حاول في المرحلة الأولى نشر معتقده وفشل. فتش عن حليف قوي فوجده في سعود أمير الدرعية والاحساء، فأصغى إليه مستفيداً من عقيدته في بناء وتوسيع قاعدة سلطته. زواج الايديولوجيا والسلطة مفيد للسلطة أولاً. الايديولوجيا تصير ملحقاً بالسلطة فقط. وهكذا صار. السعودية، بسلطتها، ليست وهابية سلوكاً. ولكنها تخضع مجتمعها بالوهابية. ومن هذا المزج يمكن تفسير القول: «الظواهري هو النسخة الوهابية المصرية لبن لادن الذي يمثل الوهابية السعودية». الطامة الكبرى أن الإرهاب هذا، محتضن وموظف ومشرعن ومعقدن وممول، من دولة تغذيه بالعقيدة والنفط. وهي حليف قوي لدولة تترأس الدعوة للحرب على الارهاب.
كيف كانت أوضاع أفغانستان؟ ومن فجر المجتمع الأفغاني؟ من استدرج السوفيات فوقعوا في «الفخ الفيتنامي» الذي وقع فيه الأميركيون؟ من عاث تقطيعاً لأوصال بلاد من أعراق متعددة، تعايشت أزمنة؟ من فتّت أفغانستان وسلّمها لأمراء الحرب، ولأمراء الجهاد المستورد من بلدان شتى، بحجة الدفاع عن الله والدين في مواجهة الإلحاد والكفر؟ أي كذب بل أية جريمة فظيعة ارتكبت؟ الإسلام براء مما فعلوه به ونكلوا بواسطته ببلاد كانت درّة آسيوية بهية؟ هل نحن على الطريق إلى النموذج الأفغاني؟
العراق، ما كان به نظام استبدادي، علماني بانتهازية، وحدوي بقطرية مزايدة، حزبي بعسكريتاري، تبرع لخوض حروب أمراء الخليج ضد إيران. ولما تخلّى عنه «الأخوة العرب» حاول أن يسطو على الكويت، كل الكويت، وكان ما كان: حرب فحصار فبؤس فجوع فقهر وإذلال وموت. وكل ذلك محصّن بنظام استبدادي فاسد، فوق طاقة أي بشري على احتماله… اسقط العراق بحجة كاذبة. هي أفظع جرائم أميركا في القرن الواحد والعشرين. حُلّ جيشه وفكك شعبه… وها هي «القاعدة» أحد نتاجات هذه الانهيارات. بعض قادة «داعش» كانوا ضباطا في جيش النظام والبعث.
سوريا، ما كان بها؟ نظام وحدوي علماني اشتراكي تقدمي، لم يمارس منه غير التسلط الفظ، منحته الممانعة ودعمه للمقاومة، حماية، سقطت مع طلائع الربيع العربي. داعش المستوردة وجدت أرضاً مناسبة ففتحتها.
الشبه النيجيري قائم مع سوريا. فساد وعسكرة وأمن وتخريب وانعدام للحرية وفقدان للتنمية، وانفتاح حازت فيه طبقة رجال الأعمال المقربين، قصب الإثراء غير المشروع. مناطق فقيرة افقرت، بلا حرية ولا عدالة ولا ديموقراطية.
أمس استفاق العالم على دولة «داعش» في العراق والشام. استنفرت أميركا صوتها. الغرب رفع عقيرته. أركان العراق تهتز. اعلان نفير شامل لمقاومة «داعش». سوريا منهكة، لا حول ولا. مصر تخوض حرب إلغاء «الاخوان» ومعارك «القاعدة» في سيناء.
العالم، لم يشهد بعد مثيلاً لما حصل في العراق وسوريا. ولا يبدو أنه يملك غير السلاح لقتالها، من بعيد، تاركاً العراق وسوريا لمصيرهما… مصير لا يبشر بنهاية سريعة وحسم مضمون.
إننا على مقربة من العدم العربي. هذا ما صنعته حروب أميركا فينا. هذا ما صنعته اسرائيل في فلسطين. هذا ما صنعه الاستبداد العربي. هذا ما صنعته الوهابية السعودية المصدّرة إلى… هذا زمن الردة التام… والله حرام.
السفير
العراق… انفجار طائفي يطيح «دولة المالكي»؟
يشهد العراق تطورات متسارعة تنذر بعواقب كارثية قد لاتقف عند حدوده الآخذة في التلاشي، بعد ان انفجرت المنظومة الامنية الطائفية في وجه الحكومة ورئيسها نوري المالكي، وهو ما كنا حذرنا منه اكثر من مرة في هذا المكان.
لقد دخل العراق نفقا مظلما لا يكاد احد يعرف له نهاية، واصبح بقاؤه كدولة «شبه موحدة» محل تساؤلات، بعد انهيار الجيش وهروب قياداته في عدد من المدن، واعتراف المالكي نفسه بالحاجة الى بناء «جيش رديف من المتطوعين»، ما يعني صب الزيت على النار واعطاء ضوء اخضر لحرب اهلية لا يمكن توقع نتائجها، بالنظر الى الانتشار الواسع للاسلحة وخاصة بين العشائر، ناهيك عن التنظيمات والميليشيات الطائفية.
ويبدو واضحا ان قوات تحالف من التنظيمات السنية المسلحة التي تجمعها الرغبة في اطاحة المالكي ستحصد مكاسب اضافية وسهلة في المناطق ذات الاغلبية السنية، فيما ستنحصر سيطرة الحكومة على المناطق الشيعية، ما يعني عمليا تقسيما «على الهوية الطائفية» للعراق.
لقد فشل المالكي الذي أصر على الاحتفاظ بقيادة الاجهزة الامنية في بناء جيش حقيقي له عقيدة وطنية واضحة، على أسس من الكفاءة والاحتراف والاخلاص. وكانت النتيجة «ميليشيات شبه عسكرية وشبه منقسمة» تنخر فيها الطائفية والفساد والاختراقات من تنظيمات ارهابية ومتطرفة.
وما كان لهكذا منظومة او دولة طائفية ان تستمر طويلا، في ظل ممارسات الحكومة الطائفية التي تصر على معاقبة مكون اساسي في البلاد، بدعوى محاربة الارهاب، وهو حق يراد به باطل.
الا ان سقوط هذه النظام الطائفي قد يكلف الدولة العراقية وجودها نفسه.
وللانصاف فان العراق لم يتعاف ابدا منذ قرر الاحتلال الامريكي ان يحل الجيش العراقي التاريخي ارضاء لرغبات اسرائيل واحقادها، ما أدى الى انهيار الدولة.
اما الشعب العراقي فانه يجد نفسه اليوم محاصرا بين سندان تنظيمات ارهابية او متطرفة مسلحة ، ومطرقة ميليشيات طائفية يرعاها رئيس الوزراء العراقي شخصيا.
لقد اصبح من المثير للسخرية ان يتحدث البعض في ظل هذه الظروف عن «حكومة مركزية» او «رئيس وزراء» بعد ان اصبح العراق مستباحا امام تنظيمات الارهاب والتطرف المحلية والاقليمية، ونموذجا مثاليا للدولة الفاشلة كما تصفها كتب العلوم السياسية.
وبينما تحول مئات الآلاف من العراقيين الى نازحين وضحايا للجوع والتشرد والاهانة في بلادهم خلال اليومين الماضيين فقط، يتضح الحجم المتوقع للمأساة الانسانية الجديدة التي تنتظر هذا البلد الذي عانى مايكفي من اهوال وحروب وحصار وعقوبات على مدى العقود الثلاثة الاخيرة.
ومع هذا الانفجار الطائفي في العراق، لن يكون ممكنا استبعاد ان تمتد نيران الحرب الجديدة لتحرق اثواب دول مجاورة تعاني توترات طائفية مكتومة او معلنة، وهو ما ينذر بسيناريو كارثي يعيد رسم الخريطة الاقليمية جغرافيا واستراتيجيا.
وبكلمات اخرى فان «فتوحات داعش» خلقت واقعا جيوسياسيا جديدا في المنطقة بعد نشوء «دولة جديدة» مترامية الاطراف تمتد من الرقة الى صلاح الدين، وتملك ترسانة ضخمة من الاسلحة وابارا نفطية ومطارات وطائرات، وتقوم على نهج تكفيري متطرف ولن يتورع عن الدخول في مواجهات مع دول او جماعات سنية اخرى، ناهيك عن الشيعية او المسيحية عندما يرى نفسه قادرا على ذلك. وليس مستبعدا ان تتحول هذه الدولة الجديدة الى «جنة آمنة» اومنطقة جذب لتنظيمات ارهابية دولية اخرى.
وهذه وصفة مثالية لسنوات طويلة من النزاعات الايديولوجية المسلحة التي تهدد نمط «الدولة القطرية» لمصلحة «دولة التنظيم».
واخيرا فان كل هذه الجرائم التي ارتكبتها حكومة المالكي الطائفية لايمكن ان تمر دون ان يحاكمها عليها الشعب العراقي، وان طال الأمد.
القدس العربي
داعش.. وصناعة التاريخ/ ساطع نور الدين
هل تقوم “داعش” بسد فراغ القوة والسياسة في وسط العراق، ام انها تؤسس لتحول استراتيجي في خريطة العالم الاسلامي؟
الثابت الوحيد حتى الان من كل ما يجري في الغرب والشمال العراقيين هو ان التواطوء ظاهر وعلني بين ذلك التنظيم وبين السلطة العراقية واجهزتها العسكرية والامنية التي تفر هاربة من زحف مقاتلي “داعش” في محافظات الانبار ونينوى وصلاح الدين، وتترك خلفها، مواطنين مستائين، ومؤسسات رسمية مفرغة، ومنشآت نفطية مشرعة.. وشبهة تقسيم مذهبي جديد للكيان العراقي.
هو بالتحديد ما حصل في سوريا العام الماضي عندما افسح النظام السوري المجال للتنظيم لكي ينفذ انقلابه الدموي في البيئات التي خرجت عن سلطة الدولة والتحقت بصفوف المعارضة السورية. وهو ما أسفر عن حملة دموية ضد المعارضين السوريين من الجيش الحر وبقية فصائل المعارضة راح ضحيتها المئات من المعارضين، قبل ان يتم طرد “داعش” في مطلع هذا العام من غالبية مناطق الشمال والوسط السوريين الى الشرق، نحو الحدود العراقية.
الغزوة الحالية التي يشنها “داعش” هي على الاغلب نتيجة تلك النكسة السورية التي مني بها، وبعدما استنفدت حملته السورية أغراضها حيث لم يجد بيئة حاضنة ومؤاتية لاستكمال مشروعه، من جهة، ولم يستطع ان يخدم خطاب النظام المكرر عن ان بديله الوحيد في دمشق هو “القاعدة”.. بينما هو لا يزال يتمتع بغالبية 88 بالمئة من الناخبين السوريين، حسب نتائج آخر عرس ديموقراطي اعلنت الاسبوع الماضي ، وقابلها الداعشيون بالاستحسان، او بالسكوت.
التوجه شرقا قد لا يكون نهاية المطاف السوري بالنسبة الى “داعش”، لكنه محاولة لفتح أفق جديد- قديم لمعركته، وبالتالي لدولته الاسلامية الموعودة في قلب الهلال الخصيب، لا سيما وان البيئة العراقية، السنية خاصة التي تعاني من اضطهاد شديد وتصفية متلاحقة لدورها وشراكتها في العملية السياسية، كانت جاهزة لاستقبال ذلك الضيف الثقيل، وهو ما ظهر في بعض انحاء الموصل وقبلها في الفلوجة وغيرهما من الحواضر العراقية التي دخلها الداعشيون مؤخرا من دون مقاومة ولا قتال.. واستقبلوا بصفتهم عنصر توازن مع السلطة الشيعية. وهو ما جرى بالفعل في معظم الانحاء السورية التي سيطر عليها التنظيم، وصارت محمية تماما من غارات النظام وصواريخه ودباباته.
لا بد من الاعتراف بان “داعش” لم يعد فرعا او شبكة من تنظيم “القاعدة”، بل هو الان بمثابة جيش مصغر قادر على تحريك قواته المقدرة بعشرات الالاف من المسلحين في جغرافيا شاسعة، وقاسية، وعلى السيطرة على بيئات اجتماعية ومراكز اقتصادية ونفطية مهمة، وعلى التحكم بحدود دولية تمتد على مئات الكيلومترات، ولا تقتصر على تلك الفاصلة بين سوريا والعراق، بل ثمة ما يوحي بان الهدف المقبل للتنظيم هو بلوغ الحدود مع ايران.. وهو ما يستكمل الحرب الافغانية المفتوحة ، والتي ستتخذ اشكالا جديدة مع الانسحاب الاميركي في نهاية العام الحالي.
لم يعد سرا الكلام عن ان زعيم “داعش” ابو بكر البغدادي ينفذ الان انقلاباً على زعيم ” القاعدة” ايمن الظواهري المختبىء في الكهوف الافغانية، والذي تقدم به العمر، وتجاوزته التجربة، وفشل في قيادة شبكات التنظيم وخلاياه، او حتى في توحيدها، وفي توجيه معركتها المستجدة في منطقة الهلال الخصيب. وثمة من يقول ان الانقلاب نجح فعلا، وأحيل خليفة اسامة بن لادن الى التقاعد والنسيان، من قبل الجيل الجديد من القاعديين، الذي يعتبر ان قيام دولة الخلافة أقرب من اي وقت مضى، وعلى اي بقعة من ارض المسلمين.
هي أضغاث أحلام ربما. لن تجد سندا لا في بيئاتها، ولا في محيطها.. ولا طبعا في آبار النفط القريبة التي قد تكون سبباً اضافيا في تحطيم ذلك المشروع التاريخي، الذي يسد فراغاً مؤقتاً، لكنه لا يصنع التاريخ.
المدن

 
دولة البغدادي.. بين العراق والشام/ سلمان عربي
الرسم الجديد لحدود سايكس بيكو التاريخية يجري في وقت يجلس فيه الأميركيون والإيرانيون للمرة الأولى علناً في جنيف
يُذكّر الانسحاب السلس للجيش العراقي من محافظة نينوى، بواقعة أخرى مماثلة حدثت عندما انسحبت القوات السورية، من محافظة الرقة في أذار/ مارس 2013. في الحالتين، تركت مناطق واسعة، في الدولتين المتجاورتين، لمجموعات إسلامية متطرفة، ضعيفة نسبياً، ما لبثت أن رسخت وجودها فيها.
في سوريا، قامت مجموعات من أحرار الشام وجبهة النصرة، بالاستيلاء على الرقة، بعد معارك بسيطة مع بعض الجيوب للنظام، كفرع المخابرات الجوية والأمن السياسي ومعسكر الهجانة. وجود النصرة وأحرار الشام لم يعمّر طويلاً في المحافظة، حيث سرعان ما تدفق مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وأخرجوا بقية الكتائب المسلحة منها في كانون الثاني/يناير 2014.
داعش طُردت لاحقاً من مناطق واسعة في إدلب وحلب السورية، مكتفية بتأسيس دولتها في الرقة، ومنها مدت نفوذها منذ شباط/فبراير 2014 باتجاه محافظة دير الزور الحدودية السورية، والمحاذية لمحافظتي الأنبار ونينوى العراقيتين.
بدورها، كانت محافظة الأنبار تعاني خللاً أمنياً كارثياً بعد استيلاء المقاتلين الإسلاميين، ومنهم داعش على مساحات واسعة منها. ومدينة الفلوجة في الأنبار سقطت بيد داعش، وبتزامن مع محافظة الرقة في سورية، منذ كانون ثاني/يناير 2014. الفوضى التي أعقبها حصار الجيش العراقي للفلوجة وقصفها، لم تهدأ إلا مع الانتخابات العراقية النيابية في أيار/ مايو 2014. لكن ذلك لم يغير الوقائع على الأرض، فالتنظيم المنشق عن القاعدة، بزعامة أبو بكر البغدادي، سيطر على معظم محافظة الأنبار، وبدأ محاولات وصلها مع دير الزور والرقة.
انسحاب الجيش العراقي، في الأيام الماضية من محافظة نينوى، من دون خوض معارك حقيقية، وتسليمه مدينة الموصل لبضع مئات من مقاتلي داعش، يندرج في السياق نفسه؛ رسم خريطة مؤقتة لسوريا والعراق. بحيث تتمركز بينهما، الدولة الإسلامية في العراق والشام.
من جهتها، لم تتأخر دولة البغدادي في العمل، وباشرت إزالة السواتر الترابية والأسلاك الشائكة بين البلدين. وذلك في مسعى لتكريس دولتها الخاصة، ضمن مناطق صحراوية، ذات أغلبية سكانية سنية. لا يعني ذلك بأن الحدود كانت مغلقة من قبل، فقوافل داعش المسلحة كانت تنعم بتنقل آمن بين البلدين منذ منتصف العام 2013.
دولة العراق والشام “السنية”، في الوسط، ستكون محاصرة بوجود كردي في الشمال، وشيعي في الشرق، و”سوريا المفيدة” للنظام السوري في الجنوب والغرب. وقد يساعدها هذا التموضع ضمن الجغرافيا السياسية الراهنة، على تشكيل بؤرة جديدة، مشابهة لوضع أفغانستان-طالبان. ويرشحها لاستقطاب المتشددين من حول العالم، وحصرهم في دولتهم-الأمة، التي ستعيد إحياء الماضي المتخيل للزمن الإسلامي الأول. وفي الوقت نفسه، ستعيد انتاج الهيمنة الإيرانية على القسم الأكبر المتبقي من سورية والعراق، عبر وكلائها المحليين؛ المالكي والأسد، في ما يشبه دولة العراق والشام “الشيعية”.
الرسم الجديد لحدود سايكس بيكو التاريخية، يجري في وقت يجلس فيه الأميركيون والإيرانيون للمرة الأولى علناً في جنيف. وقد يفضي ذلك إلى تثبيت الوضع الراهن، والتسليم بدور إيران الإقليمي كقوة صاعدة. وربما سيطيل ذلك أمد الاستنزاف للمنطقة، في جولات أخرى من الحروب المتنقلة، مما قد يساهم في تشكيل المزيد من الدويلات الصغيرة على أسس عرقية وطائفية.

 

هل تستولي «داعش» على بغداد أيضا؟/ عبد الرحمن الراشد
هذا السؤال كتبته قبل أيام ثم تراجعت. خشيت أن يظن البعض أنه محض إثارة، لكن بعدما أكلت «داعش» الموصل، ثاني مدن العراق الأكبر سكانا، في نصف يوم فقط، أصبح السؤال مشروعا، على من ستزحف «داعش»؟ بغداد قد تكون الهدف.
ولا بد أن صدام حسين، رئيس العراق السابق، وأسامة بن لادن زعيم «القاعدة» القتيل، يضحكان في قبريهما، يسخران من نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي، المشهور بصلفه وغروره!
سقطت الموصل، وبقية مدن محافظة نينوى. وقبلها، سقطت مناطق واسعة من محافظة الأنبار، ومحافظة صلاح الدين على الطريق. كل ذلك تم في ظرف زمني قياسي، فاجأ العالم، وأخافه. وصارت «داعش» الإرهابية، المنسلخة عن «القاعدة»، تحقق أكبر انتصارات للتنظيم منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 على نيويورك وواشنطن، تعبر حدود الدول، وتقطع أنابيب البترول، وتستولي على المدن واحدة تلوى الأخرى!
لا تستهينوا بهذه الجماعات المتوحشة سريعة الحركة، التي استولت على مخازن السلاح وأموال البنوك، فهي قد تتسلق قريبا أسوار العاصمة بغداد نفسها، حيث لا يحميها إلا القيادات نفسها التي هزمت في الأنبار ونينوى!
هزائم الجيش يلام عليها المالكي، رئيس الوزراء العراقي المنتهية صلاحية حكومته، الذي تعهد قبل ثلاثة أشهر بأنه سيقضي على «القاعدة» في الأنبار خلال أسبوعين. هل خذله قادته العسكريون أو هو تخاذل في الدفاع عن المحافظتين، كما يتهمه خصومه، من قبيل تصفية الحسابات السياسية؟ أمر ليس بالمستبعد، فالمالكي هو الذي حل قوات عشائر الصحوات التي قاتلت «القاعدة»، وذلك بعد انسحاب القوات الأميركية، فقط لأنهم سنة! النتيجة أن تنظيمات «داعش» عادت واستولت على المحافظتين.
وبكل أسف، أمعن المالكي في تصفية خلافاته السياسية بحجة القتال ضد الإرهاب، دون أن يحارب المنظمات الإرهابية فعلا. وسار على هذا الأسلوب معظم سنوات حكمه الماضية، وكل من اختلف معه وصمه بالإرهاب، فيضطره للهروب من البلاد أو الخضوع له. النتيجة أنه عندما حانت المعركة، منيت قواته بهزائم متلاحقة في الأشهر الماضية، لأنه رفض مصالحة القوى السياسية هناك، وتخلى عن العشائر التي حاربت «القاعدة»، فأصبح الجيش يقاتل كقوة أجنبية على تراب بلاده.
وقبل أيام قليلة، غير المالكي لغته، ووجه نداء يدعو إلى «تضافر الجهود لمكافحة الإرهاب وتضييق الخناق عليه». دعوته جاءت عقب مقابلته ممثل الأمم المتحدة في العراق نيكولاي ملادينوف. وأعلن أن «العزم منعقد على فتح الباب أمام كل من يرغب في مقارعة الإرهاب، وتجاوز الخلافات مهما كان موقفه السياسي». كلامه إيجابي ويختلف عن لغته السابقة، لكن مشكلته أن لا مصداقية لتصريحاته.
وسواء بقي في منصبه رئيس وزراء أم لا، فإن المعركة ضد تنظيمات الإرهاب ستكون طويلة ومؤلمة. وعليه أن يعالج غضب القوى المدنية والعسكرية والعشائر في الأنبار ونينوى منه. من دون تعاونهم، سيفشل في الحرب على «داعش»، التي ستصله في بغداد. لقد ترك المالكي «القاعدة» تبيض في الأنبار ظنا أنها ستؤذي خصومه، ولم يستوعب حجم الخطر الذي يشكله الإرهاب. وقد تدخل الأميركيون منذ شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي عندما انتبهوا إلى أن الغول يكبر بشكل يهدد محافظات العراق كلها، وأن الإرهابيين يجهزون قواهم وينوون الهجوم على بغداد!
نبهوه إلى الخطر، وأنهم رصدوا تنامي قوة «القاعدة» في الأنبار. ودعما له، انطلقت عمليات متابعة أميركية من الأردن نشطت في سماء المحافظة العراقية، مستخدمة أيضا في ذلك طائرات الدرون. كما قدموا له الكثير من المعلومات والاستشارات، إلا أنه فشل في إجراء المصالحة السياسية، وفشلت قواته في حربها بالأنبار.
هل المالكي ضحية مستشاريه؟ كما يقول بعض وزرائه، إنهم الذين هونوا من الخطر، وشجعوه على الزج بالجيش دون دعم محلي من أهالي المحافظات التي استوطنتها «القاعدة». وسواء كانوا مستشاريه الفاسدين أم قناعاته وجهله وصلفه، يبقى هو المسؤول مسؤولية كاملة عن الفشل الأمني والفوضى العارمة والخطر الذي يهدد البلاد.
الشرق الأوسط

 

“ربيع داعشي” في العراق وسوريا/ فؤاد أبو حجلة
لم يفاجئني نجاح تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا “داعش” في إحكام السيطرة على الموصل ومعظم مناطق محافظة نينوى العراقية، ولن يفاجئني نجاح هذا التنظيم في السيطرة على مدن عراقية أخرى وتحقيق نجاحات عسكرية كبيرة في مناطق سورية أيضاً، ذلك لأن “داعش” تتمتع بقدرات تنظيمية وتسليحية كبيرة ولأنها، وهذا هو الأهم، تعمل في بيئة حاضنة ومنحازة لها في مواجهة بدائل تبدو أكثر سوءاً وقسوة.
في وسط وغرب العراق، حيث الأغلبية السنية، يعاني أهل الأنبار ونينوى منذ الاحتلال الأمريكي للعراق تمييزاً طائفياً بشعاً وتهميشاً متعمداً واستهدافاً مقصوداً من قبل الحكم الطائفي الذي يتغطى في بغداد بعباءة أمنية أمريكية وعباءة مذهبية إيرانية ويبطش بأهل السنة وينكل بهم.
ولعل هذه المعاناة هي ما يدفع العراقيين في الموصل والفلوجة وكركوك إلى القبول بـ “داعش”، ولو مؤقتاً، للخلاص من قمع “حزب الدعوة” والقوى الشيعية المتطرفة المشاركة في الائتلاف الحاكم برعاية أمريكية – إيرانية، تجسد فيها واشنطن وطهران تقاسماً وظيفياً في الحفاظ على خراب العراق.

وكذلك الأمر في سوريا حيث تعاني المناطق الشرقية والجنوبية في البلاد من تمييز متعمد من قبل النظام المتكئ على ولاء الطائفة والمتحالف مع قوى طائفية في الداخل والخارج والذي يستظل أيضاً بالخيمة الإيرانية.
لن يطول بقاء “داعش” في الموصل، ولن يتحقق مشروع الدولة السنية في أجزاء من العراق وسوريا وذلك لاعتبارات سياسية دولية وإقليمية كثيرة، واعتبارات داخلية تحول دون قبول العراقيين والسوريين بحكم تنظيم ظلامي يعود بالبلاد والعباد إلى زمن ما قبل الكهرباء.
لكن تحقيق التنظيم لهذه الانتصارات الميدانية يحمل دلالات خطيرة تعيدنا إلى سطو التنظيمات الدينية، وتحديداً جماعة الإخوان المسلمين على ثورات الربيع العربي، وحرف هذه الثورات عن مسارها السياسي والاجتماعي وإعادة توجيهها لخدمة المشروع التقسيمي الأمريكي القائم على إضعاف الهويات الوطنية للشعوب الثائرة.
ربما يكون تنظيم “داعش” نبتاً شيطانياً لكنه ليس كائناً مجهول النسب، فالدولة الاسلامية في العراق وسوريا وجبهة النصرة وجيش محمد وأنصار بيت المقدس وقبل ذلك مجموعات السلفية الجهادية كلها تنظيمات خرجت من أطر وخلايا الإخوان المسلمين وبعض الجماعات السلفية التي استوطنت في المناطق الفقيرة والمهمشة في المجتمعات العربية واستثمرت في الفقر والجهل والتخلف واستفادت، في تعزيز خطابها الدعوي والسياسي، من وجود أنظمة رجعية فاسدة منفتحة على الغرب بشروطه التبعية.
وقد كان ظهور هذه الجماعات في السنوات السابقة مناسباً لأنظمة الحكم البائدة التي أرادت أن تكون معارضاتها من هذا النوع، اعتقاداً منها أن هذه الجماعات لا تستطيع الوصول إلى الحكم لافتقارها إلى القبول الدولي والإقليمي. ولم تكن تلك الأنظمة تعرف أن “الإخوان” والسلفيين وحتى بعض التنظيمات الجهادية تشترك معها في المرجعية الأمريكية وتتنافس معها على الحظوة بمساحة أكبر في الملعب الأمريكي!
تبين ذلك بوضوح في التجربة المصرية التي استقامت بعد اعوجاج، واستعاد المصريون ثورتهم المسروقة وهوية الدولة التي كان “الإخوان” يعملون على تزييفها.
نتابع ما يجري في العراق وسوريا، ونتوقع تدخلاً إيرانياً عسكرياً وتدخلاً أمريكياً استخبارياً لتغيير الوضع القائم في الوسط والغرب، لكننا نثق في أن هزيمة “داعش” في الموصل لا تعني العودة إلى ما قبل “داعش”.

 

 

حرب سوريا في العراق/ كريستوفر ر. هِل
إن كل من يشك في الارتباط الوثيق بين الحربين في العراق وسوريا ما عليه إلا أن ينظر إلى الدور الذي يلعبه تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام التابع لتنظيم القاعدة، والذي يتدفق مقاتلوه عبر الحدود السورية إلى محافظة الأنبار في العراق.
وإذا لم يتم التعامل مع هذا الأمر بكل عناية فإن التطورات في العراق وسوريا قد تفضي إلى تحويل خريطة الشرق الأوسط، والحضّ على المزيد من الصراعات في السنوات المقبلة.
إن ما يحدث في الأنبار ليس أقل من كفاح من أجل وجود العراق في حدوده الحالية، وبقدر ما يشعر المسلمون السُّنّة في العراق بالخشية والقلق على مستقبلهم، فإن الأغلبية الشيعية التي تشرف الآن على الاقتراح غير المختبر لإقامة دولة عربية بقيادة حكومة شيعية، لديهم أيضا من الأسباب ما يدعوهم إلى الخشية والقلق.
الواقع أنه حتى المصابين بجنون الشك والعظمة لديهم أعداء، ففي حين كان من الواجب على رئيس الوزراء نوري المالكي أن يكرس المزيد من الجهد للتفاوض وبحث الحلول الوسط مع الطائفة السُّنّية بدلا من تضييق الخناق على قادتها وأنشطتها، فإنه رغم هذا يواجه مهمة شاقة تتمثل في توطيد الدولة العراقية التي يقودها الشيعة في غياب أي حليف طبيعي لها في بقية العالم العربي.
والواقع أن الطائفة السُّنّية التي تناضل الآن ضد تنظيم القاعدة من جانب والدولة الشيعية من الجانب الآخر، لم تبد أي اهتمام بمساعدة المالكي في توطيد النظام السياسي الجديد في العراق.
تتلخص إستراتيجية تنظيم القاعدة في العراق في التعامل بقسوة مع أولئك الذين يعتبرونه تنظيما سُنّيا متعاونا مع الحكومة المركزية التي يقودها الشيعة في بغداد، ثم التعامل مع الحكومة ذاتها، وهي إستراتيجية وحشية ولكن يبدو أنها فعّالة.
وقد بدأت بالفعل نقاط التفتيش الشرطية والعسكرية تبدو وكأنها معابر حدودية، حيث تعمل في الأساس على قطع الأنبار التي يهيمن عليها السنّة عن بقية العراق.
وفي حين يجري تعزيز تلك الحواجز الداخلية، فإن عبور الحدود الفعلية مع الأجزاء التي يهيمن عليها السنّة في سوريا يصبح أكثر سهولة يوما بعد يوم.
لا شك أن الناخبين العراقيين بوسعهم أن يجدوا قائدا أفضل من المالكي لتوجيه البلاد عبر هذه الأوقات العصيبة، ولعلهم يفعلون مع اقتراب الانتخابات العامة في الثلاثين من أبريل/نيسان.
ولكنه ليس من الواضح على الإطلاق أن السُنّة العراقيين على استعداد لتقبل أي قيادة شيعية، فربما يمقتون المالكي، ولكن طائفتهم لم تعرب قط عن استعدادها لدعم قائد شيعي آخر يمثل القوة السياسية الشيعية بقدر من المصداقية.
وبالنسبة لغير المطلعين، فإن الجهود التي بُذِلَت عام 2010 لتوحيد السُنّة تحت راية تحالف الحركة الوطنية العراقية (عراقية) مع “الشيعة العلمانية” في القيادة، بدت وكأنها خطوة واعدة نحو سياسات ما بعد الطائفية، ولكن لم ينخدع بهذا من العراقيين سوى قِلة قليلة.
فلم يفكر قادة تحالف “عراقية” الشيعة قط في إدارة حملات انتخابية في جنوب العراق، حيث يعيش أغلب الشيعة، وباستثناء قِلة من المثقفين المنتمين إلى الشيعة العلمانية في بغداد، فإن تحالف عراقية لم ينجح قط في اكتساب دعم شيعي كبير.
بل على العكس من ذلك، استقبل العديد من الشيعة تحالف عراقية باعتباره جهدا مكشوفا لدحر مكاسب الشيعة واستعادة الحكم السُنّي. والسُنّة في نهاية المطاف ليسوا أكثر علمانية من الشيعة، ولكنهم ببساطة لديهم مصلحة في تقليص أهمية الهوية الطائفية التي تحكم عليهم بوضع الأقلية.
كثيرا ما يوصف الصراع الدموي في سوريا باعتباره حربا إيرانية، ومحاولة للإبقاء على الأغلبية السُنّية في سوريا تحت السيطرة وبناء القوة والمهابة في مختلف أنحاء بلاد الشام.
وعلى نحو مماثل، يندد العراقيون السُنّة بالنفوذ الإيراني على الحكومة العراقية، والذي أصبح الآن أعظم من أي وقت مضى في القرون الأخيرة.
ولكن الشيعة في العراق هم عراقيون وعرب أولا ثم شيعة ثانيا، وليس من المستغرب أنهم يريدون إقامة علاقة أفضل مع إيران مقارنة بعلاقة صدّام حسين بها.
والواقع أن الأمر برمته كان متوقعا، فقد تبدي الولايات المتحدة وغيرها الغضب إزاء العلاقات الوثيقة بين العراق وإيران، ولكن وقت التفكير في مثل هذا الأمر كان قبل الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003.
ونظرا لقوة الشيعة العراقيين وتركزهم الإقليمي، فيتعين على السُنّة والمجتمعات الكردية وأي حكومة عراقية ناجحة أن تعمل على إيجاد السبل لحكم البلاد من خلال التوافق بين كل الطوائف، وهذه مهمة المالكي، وسوف تكون مهمة رئيس الوزراء المقبل أيضا.
ولكنه في ظل المناخ الحالي، من الصعوبة بمكان أن نتصور أن تعيين وزير سُنّي إضافي من شأنه أن يوقف تلك الموجة من التفجيرات الانتحارية التي ينفذها تنظيم القاعدة، وهي الجماعة التي لا يُعرَف عنها التفاوض على صفقات لتقاسم السلطة.
ومن غير المرجح أن تنجح سوريا أو العراق في حل مشاكلها بمفردها، فقد خلف رحيل القوات العسكرية الأميركية من العراق -خاصة تلك القوات التي ساعدت في تهدئة الأوضاع في الأنبار- مواجهة تحديات ثقيلة دائما. ولكن الولايات المتحدة لابد أن تشارك سياسيا بقوة في دعم الحكومة المركزية، وأن تحصر انتقاداتها للمالكي في القنوات الخاصة، وإنها لعلامة إيجابية أن يستمر نائب الرئيس جو بايدن في التواصل مع المالكي.
يحتاج العراق وسوريا -رغم هذا- إلى مساعدات خارجية أكثر من تلك التي يتلقاها البلدان، وكان الدبلوماسيون المصريون يلعبون الدور الأكثر أهمية في المنطقة في كثير من الأحيان، ولكن مصر الآن مشغولة بهمومها في الداخل وسوف تظل كذلك لسنوات قادمة.
وقد حاولت تركيا الاضطلاع بدور نشط ولكن جهودها لم تكن تستقبل دوما استقبالا حسنا بين العرب. ومن ناحية أخرى، لا يبدو أن المملكة العربية السعودية راغبة في التوسط بين الشيعة والسُنّة أو حتى بين الحركات السُنّية المتنافسة.
الواقع أن عملية جنيف بشأن سوريا هي النهج الصحيح، وينبغي للولايات المتحدة بشكل خاص أن تضع نصب عينيها أن النجاح في التوصل إلى ترتيب لتقاسم السلطة في سوريا قد يكون الوسيلة الأفضل لخلق الحيز اللازم للسماح للحكومة المركزية في العراق بتقديم الإشارات المناسبة للسُنّة بعد طول انتظار.
ومن المرجح أن يؤدي التقدم نحو نظام سياسي مستقل في أي من الدولتين إلى تقدم مماثل في الأخرى.
الجزيرة نت

 

حين ينهار العراق/ غسان شربل
كأننا أبناء الجزء الملعون من الكرة الأرضية. يلتفت العالم إلى البرازيل. ينشغل ثلاثة أرباع سكان الأرض بالمونديال. يذهبون في إجازة مع «الساحرة المستديرة». يشترون القمصان ويعلقون الأعلام على الشرفات. يتسمرون أمام الشاشات. يسألون عن نيمار البرازيلي. وليونيل ميسي الأرجنتيني. وكريستيانو رونالدو البرتغالي. تهتز الشباك فتطوف الصور العالم. ينشغل المحللون في تقويم التسديدات. وركلات الترجيح. وأعنف ما يمكن أن يحصل بطاقة صفراء تتحول حمراء.
كأننا أبناء الجزء الملعون من العالم. يلتفت العالم إلى البرازيل ونبقى غارقين في هاويتنا. نتابع التسديدات الدموية لـ «داعش» و «أبو بكر البغدادي». واهتزاز شباك نوري المالكي وانهيار فريقه. ينشغل العالم بحروب مخملية تنتهي بكأس. ونتابع نحن انحدارنا من جحيم إلى جحيم. خرائطنا تتفكك على وقع عصبياتنا العمياء وأعلامنا مبللة بالكراهية والدم. ينهمكون بتكريم الفائزين وننهمك بمواكب التشييع وأمواج اللاجئين.
لنترك المونديال لأهله. للشعوب الطبيعية التي تعيش في دول طبيعية. لدينا مهمات أكثر إلحاحاً. مباراة قاتلة على أرض العراق نتائجها تتخطى حدود أراضيه. ما جرى في الأيام الماضية ليس بسيطاً. إنه انهيار كامل للقوات المسلحة العراقية. أكاد أقول إنه انهيار كامل للعراق. من يصدق أن «داعش» استولت فجأة على ألف آلية ومدافع وصواريخ وكميات هائلة من الذخيرة. وإن صاحب القرار في الموصل حالياً ضابط سابق في جيش صدام. وإن سيد المدينة الجديد يعرف بوجود نصف بليون دولار في فرع البنك المركزي فيها. حدث ما كان يصعب تخيله أو تصديقه.
هاتفت أصدقاء في العراق. للمرة الأولى منذ سنوات أشعر بخوفهم الشديد. على العاصمة. وما تبقى من التعايش ووحدة العراق. تكرر تعبير «الانهيار الكامل» في وصفهم التطورات. استوقفني قول سياسي بينهم إن إنقاذ العراق من الخارج متعذر. وإن الغارات الأميركية على «داعش» لن تحل المشكلة، هذا إذا حصلت. وإن إيران تدرك تماماً مخاطر أي تورط عسكري مباشر لقواتها. والأمر نفسه بالنسبة إلى تركيا. قال السياسي إن الوقت ينفد بسرعة رهيبة. وإن وقف التدهور لا بد أن يبدأ باستقالة المالكي لإفساح المجال أمام حكومة وحدة وطنية تضمن الدفاع عن بغداد نفسها ومنع وقوع مذبحة كبرى فيها وحولها. حكومة تشرع فوراً في إعادة تنظيم القوات المسلحة وتتعاون مع قوات إقليم كردستان وأبناء المناطق التي استبيحت على يد «داعش» وحلفائها. ولفت إلى ما سماه «حقائق جديدة على الأرض في المناطق السنية وكذلك في كركوك التي باتت وللمرة الأولى في عهدة قوات البيشمركة وحدها».
قال السياسي إن خطورة الوضع لا تسمح بانتظار تبلور صفقة أميركية- إيرانية تضطلع طهران بموجبها بدور في مكافحة الإرهاب من بغداد إلى بيروت مروراً بدمشق. لاحظ أن ظروف مثل هذه الصفقة لم تنضج بعد، ذلك أنها لا بد أن تشمل عدم تهديد أمن إسرائيل. وهذا يعني تغييراً كبيراً في مبرر قيام هلال الممانعة وقاموسه.
أكد السياسي أن التأخر في الرد على الانهيار الذي حصل سيعني إعادة إطلاق الحرب الأهلية. وسيعني تصاعد التسابق بين المكونات على تقاسم أراضي العراق وثرواته. وتحقيق ذلك متعذر من دون مجازر وتهجير واستكمال عمليات الفرز المذهبي. ثم من قال إن تمزيق العراق سيقتصر عليه بعدما فقدت التركيبة السورية حصانتها وتصدعت وعاد التفكك اللبناني إلى الواجهة؟
من حق سيرغي لافروف أن يسخر من النتائج الكارثية للغزو الأميركي للعراق. ولا مبالغة في قوله «إن وحدة العراق مهددة». لكن من الصعب القول إن دم العراق موجود على أصابع السياسة الأميركية وحدها. هذا الدم موجود على أصابع كثيرين داخل العراق وخارجه. يخطئ لافروف حين يتحدث كأنه رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر. التأخر في وقف الحرب في سورية سبب رئيسي للانهيار الحاصل في العراق. ومن يدري، فقد يأتي غداً من يذكر لافروف بأن أصابعه ليست بريئة من دم المنطقة.
ينشغل العالم باستقبال المونديال وننشغل نحن في وداع العراق الذي عرفناه واعتقدنا ذات يوم أنه عصي على الانهيار والانقسام. حين ينهار العراق على دول المنطقة أن تتحسس أطرافها.
الحياة

 

“إنجازات داعش” في العراق وسورية هدية للمفاوض الإيراني؟/ راغدة درغام
قبل بضعة أسابيع، أرسل مقرّبون من رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلى واشنطن رسالة طلب إغاثة فحواها أن الوقت حان لإيجاد وسيلة لإخراج المالكي من الحكم بلياقة وإلاّ فإن بقاءه سيؤدي إلى حرب أهلية دموية في العراق تنتهي بالتقسيم، إن لم يكن بالشرذمة، يُسفر عنها إنماء فظيع للتطرّف الإسلامي والصراع المذهبي المدمّر. واشنطن، كعادتها في زمن الرئيس باراك أوباما، أخذت وقتها للتمعن في التفكير البطيء لتزن انعكاسات أي خطوة تتخذها في العراق أو سورية على مفاوضاتها النووية مع إيران. اليوم وقد بدأ انهيار الجيش العراقي في الموصل بعد سقوط محافظة نينوى في يد «داعش»، حان لواشنطن بدء التفكير الجدي في الخيارات المتاحة قبل فوات الأوان. أولى تلك الخطوات يجب أن تبدأ بالتفاهم ثنائياً مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية على ضرورة ترحيل نوري المالكي إلى دولة مجاورة صديقة لطهران لعلها مثلاً تكون عُمان، هذا إذا كانت واشنطن تريد حقاً إنقاذ العراق من التشرذم. أما إذا كانت الخطة أساساً تهدف إلى تقسيم العراق ووضع جنوبه في العهدة الإيرانية كجزء من خريطة التفاهمات الإقليمية، فإن تمكين تنظيم «داعش» من النمو كجيش صغير متحرك عبر الحدود العراقية– السورية، هو جزء من تلك الخطة.
ما حدث هذا الأسبوع في العراق مروع، إذ إن هذا هو الانهيار الثاني للجيش العراقي، يذكّر بانهياره الأول على أيادي الرئيس السابق صدّام حسين عندما تركه مهزوماً على الطرقات من دون أن يُعلِمه انه خسر المعركة.
انهيار الجيش العراقي في عهد المالكي لم يأتِ من فراغ، فرئيس الوزراء أتى إلى بغداد من طهران بحماية أميركية زعمت أن نشر الديموقراطية كان الهدف من غزوها واحتلالها العراق. خروج القوات الأميركية من العراق لم يكن ممكناً بدون نجاح استراتيجية ديفيد بيترايوس المعروفة بـ «الصحوات»، والتي اتخذ فيها القبائل السنّية شريكاً له في محاربة التطرّف الذي تتبناه «القاعدة» ومشتقاتها.
نوري المالكي افترض أن الحماية الأميركية له والتمسك الإيراني به يشكلان دعماً لديكتاتوريته في وجه كل من عارضه، زاعماً أنه يحمي أولاً الشيعة وثانياً العراق. واقع الأمر أنه بات يقدّم شيعة العراق والعراق نفسه ذخيرة للحروب السائبة وللخطط اللئيمة، أميركية كانت أو إيرانية أو «داعشية» أن تتبع كل من وراء هذا التنظيم الإرهابي.
حان لنوري المالكي أن يرحل، فهو خسر القاعدة الشعبية التي تشكل نسيج وحدة العراق، وهو اليوم يستجدي التطوّع من الناس الاعتياديين للتعويض عن انسحاب الجيش العراقي من المعارك. إنه بذلك يزيد من تفكيك الجيش العراقي، عمداً فَعل ذلك أو سهواً.
المشكلة تكمن في أن طهران تملك قرار بقاء نوري المالكي في السلطة أو خروجه منها، وإيران متمسكة به حتى الآن.
الدول الغربية تزعم أنها بدأت تتناقش مع إيران في أدوارها الإقليمية الممتدة من العراق إلى سورية (ولبنان) إلى اليمن. إيران لن تتخلى عن العراق، فهو يشكل لها فوزاً قدمته الولايات المتحدة في عهد جورج دبليو بوش أثناء حربه على الإرهاب في العراق. تلك الحرب نسفت العراق كلياً من المعادلة الاستراتيجية مع كل من إيران وإسرائيل وحيّدته كلياً في موازين القوى الإقليمية، فالعراق كان هدية أميركية غالية لكل من إيران وإسرائيل، وتركيا أيضاً، عندما تم تدجينه وسحبه من المعادلات الاستراتيجية.
إيران لن تكتفي بإزالة خطر العراق الاستراتيجي عليها كما مثّلَه صدام حسين، إنها مصرّة على تدجين العراق في الحظيرة الإيرانية، وهي ترى أن نوري المالكي يضمن لها ما تريد ولا تود الاستغناء عنه طوعاً، فإذا كان الخيار لها بين عراق موحّد بلا نفوذ لها عبر المالكي وبين عراق ممزق، فهي تفضل عراق ممزّقاً ومقسّماً لها على جنوبه هيمنةٌ دائمة ووسيلة لتطبيق ذلك الحزام -أو الهلال- الشيعي، كما سماه المحافظون الجدد في عهد جورج دبليو بوش، الممتد من شرق السعودية إلى العراق وإيران وجزء من سورية ولبنان إلى إسرائيل، ففكرتهم قامت على ضرورة تقسيم الأراضي العربية كجزء من إزالة الدول العربية من المعادلة الاستراتيجية مع إسرائيل، وقامت أيضاً على تطوير فكرة التهادنية التاريخية بين الفرس واليهود لاحتواء الهيمنة السنّية وإلحاق الهزيمة بالتطرف السني الذي قام بإرهاب 2001. ما حدث في الحرب السورية للسنوات الثلاث الماضية دخل في تلك الحسابات، كما بات واضحاً اليوم، كما أصبح جلياً أن طهران جزء من ذلك التفكير وترى أن النظام في دمشق هو الضمانة لها سورياً ولن تسمح بسقوطه إلا مُرغمة.
قد يكون اليمن هو الساحة الوحيدة للتنازلات والمساومات بين الدول الغربية –بالذات الولايات المتحدة– وبين إيران التي تلعب دوراً هناك، فاليمن أقل أهمية لطهران من العراق وسورية، وهو قابل للأخذ والعطاء، بالذات في إطار تقارب سعودي – إيراني، بل إن هناك في المعسكر الذي يضم إيران وسورية ولبنان والعراق من يقول –مبرراً احتفاظ إيران بالعراق وسورية ولبنان– إن مساحة المساومة هي إعطاء السعودي تنازلات في اليمن وفي البحرين.
إدارة أوباما تستخدم الطائرات بلا طيار drones في اليمن لمحاربة «القاعدة» ومشتقاتها. هذه الحرب تقتل قيادات وزعماء «القاعدة» وليس جيوش «القاعدة» ومشتقاتها، وهي لا تؤثر على قواعد «القاعدة»، ولذلك الانتصارات فيها وهمية، وكذلك الانتصارات المزعومة في حروب العراق وسورية ضد «القاعدة» أو «جبهة النصرة» أو «داعش» أو غيرها، انما هي عابرة وذات ردود فعل عكسية، وهذا يُطبَّق أيضاً بالدرجة نفسها على المجنّدين في الجيوش المتحركة والممولين لها من المتطرفين السُنَّة والشيعة على السواء، أفراداً كانوا أو حكومات أو تنظيمات أو عائلات أو ميليشيات أو شركات، فالفاعل العربي في تمزيق العراق وسورية ولبنان –مهما كانت جبهته ومزاعمه وتبريراته– إنما هو عميل للإرهاب وأداة في خطط تمزيق المنطقة العربية.
الولايات المتحدة ليست بريئة من هذه الخطط، بل هي –في أذهان الكثيرين– الطرف الذي يصنع التطرّف ويشجعه، سنّياً كان أو شيعياً، من أجل تقسيم المنطقة العربية، كما أنه ينصب إيران مهيمناً عليها بشراكة إسرائيلية.
الأكراد أدركوا أن الخريطة الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط قد تكون الفرصة المنتظرة لمستقبل كردستان، ولذلك انقلبت معادلات العداء التقليدية مع تركيا بالذات، وصعدت الاعتبارات النفطية إلى سلم الأولويات لاجتذاب ولاء الغرب ودعمه الطموحات الكردية.
فبينما «داعش»، بعشوائيتها وأيديولوجيتها المدمرة وجهلها الفظيع، تمتد من دير الزور إلى حدود كردستان لتسجّل انتصاراتها البائسة، تتحرك القوى الإقليمية والدولية لاستغلال الأوضاع لصالحها، وفيما «حزب الله» يعتقد أنه قوي يُؤخَذ به أميركياً، وليس فقط إيرانياً أو عراقياً وسورياً، يبقى مساهماً عابراً في الانتصارات الوهمية، لأنه في الواقع فاعل في المصلحة الإيرانية كما تصوّرها المحافظون الجدد، بمدّها الإسرائيلي على الحساب العربي قطعاً.
جميع الجيوش المتحركة عبر الحدود تتصوّر نفسها صانعة التاريخ الجديد بانقلاب على حدود سايكس– بيكو. إنها جيوش تحطيم الحدود وإلغائها، ولا أحد -حسبما يبدو- يقف في وجهها مهما تظاهرت دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) بالهلع ومهما صدر عن الأمم المتحدة من بيانات القلق، والمخيف هو أن تكون هناك قوى دولية داعمة لقيام الجيوش المتطرفة المتحركة بعبور الحدود لاستخدامها في حروب الاستنزاف وتفكيك الجيوش التقليدية لتنفّذ التقسيم الذي يتربص بالمنطقة العربية.
«داعش» ليست أبداً الرد على خطط تمزيق المنطقة العربية وإعلاء اليد الإيرانية عليها، بل هي حقاً أداة في تلك الخطط، إن أدركت ذلك أو كانت ساذجة أمامه. «داعش» تحطّم العرب وتحطّم أيضاً الاعتدال السنّي، لأنها جزء من مشروع خطير انساقت إليه طوعاً أو صدفة. كل من يمد العون إلى «داعش» وأمثالها، من «جبهة النصرة» إلى تنظيمات وميليشيات سلفية أو مهووسة سلفياً، إنما هو مساهم مباشر في انهيار سورية والعراق معاً مهما بدا له أنه ينجح في صنع التاريخ.
العراق اليوم على حافة الانهيار إلى حرب أهلية وتقسيم، إن لم يكن التشرذم، ولا أحد سيخرج منتصراً في الحرب العراقية الآتية، باستثناء طرف واحد ربما، هو كردستان.
الهرولة الأميركية من العراق في أعقاب حرب كلّفت التريليونات ومئات آلاف الأرواح، ما زالت تشكل لغزاً صعب فهمه. التفسير المقنع الوحيد هو -ربما- اكتشاف الولايات المتحدة ضخامة مخزونها النفطي الذي يغنيها عن نفط العراق وكامل النفط العربي، والتفسير الآخر هو أن الصناعات العسكرية الأميركية ربما امتحنت منتوجاتها الجديدة في العراق فاكتفت. النتيجة أن الولايات المتحدة هجرت العراق وتركته عرضة لمن يريد بعدما شنَّت حربها على الإرهاب في المدن العراقية كي تعفي المدن الأميركية من تلك الحرب.
السؤال الآن هو: كيف ستتباحث إدارة أوباما مع إيران في شأن العراق بعدما هزمت «داعش» الجيش العراقي وأجبرته على الانسحاب من الموصل؟ وما هي جدية الاستراتيجية الغربية في المفاوضات مع إيران في شأن سورية؟ بكلام آخر، هل تأتي «إنجازات» جبهة «داعش» في العراق وسورية كهدية ثمينة للمفاوض الإيراني ليعرض نفسه الشريك الجدي للغرب في القضاء على التطرف السلفي؟ الأرجح نعم.
نوري المالكي لمّح إلى أنه بات جاهزاً للسماح للطيران الأميركي أن يقصف مواقع «القاعدة» داخل العراق، وواشنطن اتخذت قرار إرسال الأسلحة الجديدة لمحاربة الإرهاب في العراق…
تركيا دعت إلى اجتماع طارئ لحلف «الناتو» بعدما خطفت لها «داعش» 48 مواطناً، إضافة إلى 28 آخرين، وقد تجد تركيا في «داعش» فرصة لها لتعميق توغلها عسكرياً في شمال العراق، مع أنها اليوم أكثر تقبلاً من أي وقت مضى لإقامة دولة كردستان.
إيران قد تكون مرتاحة لهدية «داعش» لها في إطار المفاوضات مع الغرب، لكن «داعش» تبقى شوكة في الخصر الإيراني بشقيه العراقي والسوري، فلن يكون سهلاً على إيران إلحاق الهزيمة بـ «داعش»، بغض النظر إن حاولت ذلك مباشرة أو عبر حليفها «حزب الله». بل إن إيكال مهمة محاربة «داعش» إلى «حزب الله» قد تؤدي إلى الإنهاك المتبادل والاستنزاف الثنائي لهما معاً، وقد تكون هذه موسيقى عذبة في قلوب الأميركيين.
الحياة

 

وظيفة «داعش» السورية والإيرانية/ وليد شقير
في هذا الخضم من الذعر المبرر والمفهوم، إزاء سيطرة تنظيم «داعش» على محافظة نينوى والموصل في العراق وتهيئه للتوجه نحو بغداد، وفتحه الحدود بين بلاد الرافدين وبلاد الشام، يطرح بعض الذين ينظرون إلى هذه «الفضيحة» و «المؤامرة» التي سمحت لمسلحي هذا التنظيم المغالي في تطرفه، بتسلم تلك المناطق الشاسعة من الجيش العراقي، الأسئلة عما إذا كان الأمر يأتي في سياق واحد لسياسة القوى الإقليمية الحاضنة لـ «داعش» ولـ «الإرهاب» تحت الطاولة، والذي يدعي النظام السوري وحليفه الإيراني، فوق الطاولة، أنهما يقاتلانه في سورية، لصرف الأنظار عن جرائم وأد ثورة الشعب السوري منذ عام 2011.
مع خطورة ما حصل، يستعيد هؤلاء السياق الذي أدى إلى بروز التنظيم في سورية وقبلها في العراق.
تطلبت حاجة طهران ودمشق وبغداد نوري المالكي إلى تقدم أولوية محاربة الإرهاب، على إيجاد حل سياسي للأزمة السورية، الإفراج عن سجناء أصوليين متطرفين منذ عام 2012 من سجن تدمر في سورية وتهريب عدد كبير منهم من سجن أبو غريب في العراق، فتجمعوا في بلاد الشام وسلّم النظام محافظة الرقة وبعض مناطق دير الزور لمسلحيهم فسيطروا على آبار نفطٍ سورية وتقاسموا عائداتها بالتراضي مع النظام وعاثوا تقتيلاً وقمعاً للسكان في مناطق جلها سنّية، وعبثوا بأماكن عبادة مسيحية، وفتحوا جبهات مع «الجيش السوري الحر» والمعارضة المعتدلة، ومع «جبهة النصرة» التي تقاتل النظام، وتسببوا بسقوط قتلى من الميليشيات المعارضة بمقدار ما تسببت به ميليشياته. ولم تفد التقارير عن معركة ذات مغزى خاضوها ضد جيش الأسد. وكانت براميل الجيش السوري المتفجرة تسقط على مواقع «الجيش الحر» وغيره وتستثني مواقع «داعش» ولو كانت على بعد مئات الأمتار. ووفر التنظيم حجة قوية للنظام وحليفه الإيراني بأن الأولوية لمحاربة الإرهاب على الحل في «جنيف – 2»، ونجح في جر الغرب إلى الامتناع عن التسليح النوعي للمعارضة، مخافة وقوع السلاح بأيدي المتطرفين. وتلاقى ذلك مع المصالح الأميركية بأن يتجمع «القاعديون» في الحلبة السورية في حرب الاستنزاف التي تروق لإدارة باراك أوباما. وبالمقدار نفسه برر صعود «داعش»، استنفار إيران الميليشيات الشيعية التي ترعاها في العراق وأفغانستان ولبنان لتدخل المعركة في بلاد الشام، واعتماد الحدود المفتوحة من جانب «حزب الله» في لبنان وبين العراق وسورية في سياق الساحة المفتوحة الممتدة من طهران إلى جنوب لبنان.
وفي العراق سمحت الحدود المفتوحة مع سورية لـ «داعش» بأن يصبح طرفاً رئيسياً في الحرب بين جيش المالكي وبين المحتجين على تفرده في الحكم، في الرمادي والفلوجة والأنبار عموماً، ووفر له الحجة نفسها بأنه يحارب الإرهاب لا المنتفضين على سياسته الموصومة بالفئوية وبتسليم البلد للنفوذ الإيراني، فاختلط الأمر بين مواجهته التنظيم، والعشائر والقوى السياسية المعارضة، فمنشأ التنظيم كان خليطاً من الأصوليين وضباط جيش صدام حسين الذين أبعدهم حل القوات المسلحة من جانب بول بريمر، والذين استفادوا من الدعم السوري في تشكيل خلايا المقاومة للاحتلال الأميركي بعد عام 2003، والذين يمسك النظام بخيط التواصل معهم ويتبادل الخدمات وإياهم.
هل أفلت «الوحش» من أيدي دمشق وطهران بفتحه جبهات في العمق العراقي وتهديده أمن الجيران؟
طارحو الأسئلة عما إذا كان التطور العسكري الذي استنفر مجلس الأمن والدول الكبرى كلها والعواصم الإقليمية يأتي في السياق الذي استولد «داعش» وغيره، يذهبون إلى أسئلة أخرى: ماذا يضير طهران ودمشق أن يعبث التنظيم بالمناطق السنّية المنتفضة على المالكي ونفوذ إيران، مثلما يعبث بها في سورية ويشاغل معارضي النظام الفعليين و «المعتدلين»؟ ألا يفسح التطور الخطير في المجال لطهران بأن تتدخل أكثر في بلاد الرافدين تحت عنوان محاربة الإرهاب الذي يقلق المجتمع الدولي والإقليم على ما قال الرئيس حسن روحاني أمس من أن بلاده ستكافح العنف والإرهاب في العراق؟ وهل لما حصل وظيفة التغطية على التعثر في مفاوضات 5 + 1 على الملف النووي وطلب طهران تمديدها عن تاريخها المقرر في 20 تموز (يوليو) المقبل؟
وإذا صحت فرضية أن «الوحش» أفلت من حاضنيه، فإن العارفين بطبيعة «داعش» يرون أنه غير قادر على الثبات في المناطق الواسعة التي احتلها، وأن تكتيكات مقاتليه تقوم على المشاغلة والكر والفر لا على البقاء، وأن مجتمعاتها لن تتعايش معه. فهل «وظيفة» دخول التنظيم إليها إسكات الرافضين عودة المالكي إلى رئاسة الحكومة بعد انتخابات 30 نيسان (أبريل) الماضي، باستدراج القيادات الشيعية التي تعترض عليه، مثل القيادات السنّية، إلى التسليم به، أم أن ما حصل مناسبة لتسوية مع هؤلاء على شخصية أخرى، مثلما حصل في لبنان تحت عنوان انضمام هؤلاء المعارضين إلى محاربة الإرهاب الذي تنامى نتيجة سياسة طهران، فيساهمون بتحمل قسط من المواجهة معه؟
الحياة

 

فواتير متأخرة/ حسام عيتاني
تتضاءل أهمية مشاركة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) في ما يجري في العراق أمام هول المتغيرات التي تنذر الأحداث بها، وتتراجع بالقدر ذاته مقولات التدخلات الخارجية، الإيرانية خصوصاً، مقابل ما يشير إليه الواقع العراقي من خطر داهم.
شهيرة هي مقولة الكاتب السوري الراحل ياسين الحافظ عن أن حرب 1967 جلب فيها الجنود العرب هزيمتهم من داخل مجتمعاتهم إلى الجبهات ولم يحملوها من هذه إلى داخل بلادهم ومجتمعاتهم. كانت الهزيمة هي التجلي الأعلى للفشل العربي الشامل في بناء الدولة والمجتمع والتنمية وغياب الحريات والفساد المعمم.
تمكن اليوم قراءة ما قاله الحافظ في ضوء جديد. بعد ثلاثة أعوام من الانسحاب الأميركي من العراق، وبعد أحد عشر عاماً من سقوط نظام صدام حسين، أخفق العراقيون في التوافق على حد أدنى من القواسم التي تجمع مكوناتهم العرقية والطائفية والسياسية. انهار الوهم الأميركي الذي روج له جورج دبليو بوش عن «بناء الأمم» وتكرار التجربتين اليابانية والألمانية في العراق وأفغانستان. وجاءت سلسلة من الحكومات التي تحركها دوافع عصبوية وثأرية ويقودها أشخاص متواضعو الكفاءات آثروا مصالح الحزب والطائفة على بذل أي جهد لتوسيع القواعد السياسية للنظام الجديد.
وعلى رغم صعوبة استبعاد العامل الخارجي في منطقة تتداخل فيها وتتضافر مصالح شديدة التناقض، تبدو فضيحة هزيمة الجيش العراقي أمام مسلحي «داعش» واتساع المناطق التي سيطر عليها هؤلاء، إعلاناً عما يتجاوز التلاعب الإقليمي وحتى دور العشائر والقبائل السنّية المنتفضة على احتكار الشيعة للسلطة والموارد.
وإذا كان ما يجري في نينوى والموصل وكركوك وتكريت يذكّر بهزيمة 1967 من جهة سرعة التخلي عن القتال والفرار أمام العدو، من جهة، فإنه يقول إن عشرات الألوف من الجنود العراقيين الذين خلعوا بزاتهم الرسمية وألقوا السلاح، لم يكونوا ينظرون إلى المناطق التي انسحبوا منها على أنها «الوطن» الذي ينتمون إليه أو تعنيهم حمايته بأي شكل كان. كانوا غرباء على أرض غريبة لا تربطهم بها وبأهلها أي صلات، ما سهل عليهم تركها والفرار إلى مناطق ليست أقل عداء هي تلك التي يسيطر عليها البشمركة الأكراد.
يمكن هنا الحديث عن نهاية «سايكس– بيكو» وكل الاتفاقيات التي أعقبتها ورسمت بواسطتها خرائط المنطقة. ويجوز التكهن بدور إيراني لاحتواء الحراك السنّي المناهض للمالكي، بيد أن ذلك لا يتناقض مع حقيقة انهيار الدولة العراقية بعد نظيرتها السورية، وتفككهما إلى مناطق خارجة عن كل سيطرة أو نظام حكم من الأصناف التي عرفها المشرق العربي في الأعوام المئة الماضية.
ربما بات علينا توقع أشكال حكم جديدة تتلاءم مع النتائج التي جرّها فشل بناء الدولة العربية. أشكال تأخذ في الاعتبار النفوذ الذي لا يضاهى للدين والعشيرة في بيئة تزداد انغلاقاً وعزلة عن عالم لا يبالي بمآسيها. بهذا المعنى تكون «الدولة الإسلامية في العراق والشام» هي الرد الذي أفرزته مجتمعات مأزومة على حصار وتهميش وتهديد بدأ قبل مئة عام. ويشي ذلك بأن فشل الثورات العربية في الوصول إلى عمق وجذر التناقضات السياسية والاجتماعية قد انعكس نهوضاً لقوى لا تختلف في الجوهر عن أنظمة الاستبداد السابقة.
وها نحن نشهد جابي التاريخ الذي لا يرحم ولا يغفل يعود مطالباً بفواتيره المتأخرة.
الحياة

تقسيم العراق… والمنطقة؟/ راجح الخوري
قبل عشرة ايام وصل الى الحكومة العراقية تقرير استخباري غربي مستعجل يحذّر من ان تنظيم “داعش” يستعد للانقضاض على نينوى. مثل هذه التقارير تذهب فوراً الى مكتب رئيس الوزراء نوري المالكي، الذي يختصر الدولة في شخصه، فهو وزير الداخلية ووزير الدفاع ووزير الدولة لشؤون الأمن القومي، وهو المشرف على المخابرات وعلى جهاز مكافحة الإرهاب وكل الفروع الأمنية.
قبل اربعة اعوام اعلن الناطق باسم الحكومة علي الدباغ ان عدد القوات العراقية وصل الى ٧٠٠ الف، ٢٥٠ الفاً في الجيش و٤٥٠ الفاً في الشرطة، وان الانفاق العسكري تجاوز 20 مليار دولار، وقبل اشهر قيل ان عدد القوات وصل الى مليون.
في ٢٢ نيسان الماضي اعلنت واشنطن عن تقديم متطلبات طارئة لمعركة الأنبار هي ١٤ مليون قذيفة وسبعة آلاف نوع من الاسلحة بينها صواريخ “هيل فاير”، وأنها ستسلم العراق ٢٤ طائرة “اباتشي” ومقاتلات “ف ١٦”، وانها زوّدته خرائط تفصيلية عن اماكن وجود عناصر “داعش”، وقد تسلّمه طائرات “الدرون” لدعمه في معركة يجب ان نتذكر ان تنظيمات “الصحوات” القبائلية سبق لها ان انتصرت فيها، لكن الحكومة حلّتها لدوافع قيل انها مذهبية!
في ١١ ايار الماضي اجرى قائد القوات المركزية الوسطى الجنرال لويد اوستن ووفد من الضباط الاميركيين الكبار محادثات مع المالكي أشاد بنتيجتها بالخطة المتّبعة لتحرير الفلوجة، بينما اعلن المالكي انه وجّه ضربة قاصمة للإرهابيين من “القاعدة” و”داعش” ومن يتعاون معهم!
في خلال ٢٤ ساعة اجتاحت “داعش” نينوى وتكريت والموصل، وبدا الجيش العراقي المليوني وكأنه من ورق او من كرتون لونته أوهام المالكي، الذي اختصر الدولة بشخصه وخاصم القيادات السنية والكردية وقسم الصف الشيعي الى درجة ان اية الله السيستاني دعا الى التصويت ضده في الانتخابات.
اول من امس وقف المالكي ليعلن عن انهيار الجيش العراقي وهو ما يسميه انتكاسة، ويقول انه حصلت مؤامرة وخدعة، وليدعو من دون ان يرف له جفن، الى تشكيل جيش من المتطوعين في المحافظات، قائلاً نحن في مأمن بينما بدت الصورة امام العالم كله تقريباً انهياراً مريعاً للدولة العراقية.
المحيّر جداً انه جرى تسليم نينوى من دون قتال واستولت “داعش” على مخازن السلاح والآليات وبينها طائرات هليكوبتر وبدأت نقل الذخائر لدعم معركتها في سوريا، على خلفية ان دولة الخلافة ستمتد من نينوى الى حلب.
والمحيّر اكثر ان جيش العراق مليون و”داعش” عشرات الآلاف، وان المالكي رجل ايران ويحظى بدعمها وحمايتها وبدعم اميركا، لهذا يكون المرء غبياً جداً ليصدق قصة المؤامرة والخدعة، حين يرى ان ما يجري هو بداية تنفيذ “دومينو” التقسيم في المنطقة… والآتي اعظم!
النهار

 

أين أميركا وأين إيران من تمدّد داعش؟ سيناريو عسكري – سياسي لاحتواء فشل المالكي/ روزانا بومنصف
بدا بالنسبة الى مراقبين للتطورات في العراق ان الوضع في المنطقة من العراق الى سوريا وسائر دول المنطقة التي تشهد توترات على خلفية مذهبية لا يمكن ان ينتظر انتهاء المفاوضات الاميركية الايرانية او مفاوضات الدول الخمس الكبرى زائد المانيا مع ايران حول ملفها النووي في الوقت الذي تسعى فيه ايران الى تسجيل امر واقع تفاوض عليه لاحقا بعد الانتهاء من مفاوضاتها الدولية وحين لا تكون تركت شيئا يمكن التفاوض عليه سوى النذر القليل. فهذا البعد للامور بدأ يفرض نفسه في ما بعد صدمة الساعات الاولى لتفكك الجيش العراقي وهربه امام تقدم تنظيم داعش في مدن عراقية اساسية مع عدم امكان تجاهل مشهد الوفد الايراني المفاوض حول الملف النووي يتنقل من مفاوضات مع الاميركيين الى اخرى مع الروس وسائر الدول الكبرى اعضاء مجموعة الخمس زائد واحد. فهل لهذا صلة فعلا في تفجر الوضع العراقي على نحو صادم لدول عدة؟
على رغم الالتباس السياسي والاعلامي في تحديد من يقف وراء داعش ومن يدعمها في ظل اتهامات المنتسبين الى المحور الايراني السوري بان التنظيم مدعوم خليجيا في مقابل اقتناع شائع عن ولادة هذا التنظيم من رحم السجون السورية والسجناء الذين اطلقهم الرئيس السوري من اجل اضعاف المعارضة وتغيير وجه الازمة في سوريا من ثورة ضد حكمه الى حرب على الارهاب والارهابيين وتعاون الاسد مع المالكي، فإن العنصر الخلافي في سياسة المالكي وتفكيكه للعراق سياسيا جنبا الى جنب مع الاحباط السني العميم في العراق برز في تفسير ما حدث اكثر بكثير من واقع قدرة تنظيم من بضعة الاف من المسلحين على السيطرة على مدن كبيرة. ولذلك مع مشهد مفاوضات ثنائية كانت تجري تزامنا في جنيف علنا بين وفدين من الولايات المتحدة وايران تمهيدا لوضع خريطة الطريق لاتفاق نهائي على الملف النووي لا ينبغي بالنسبة الى المراقبين توقع اسقاط هذا العنصر من الاعتبار ايضا. اذ يعتبر هؤلاء انه، وان كان عنوان ما حصل في العراق يقف وراءه تنظيم داعش المصنف ارهابيا على اللائحة الاميركية، فإنه يجب النظر الى ما حصل من زاوية عدم اهمال ان يكتسب ذلك شكل ثورة اهل السنة على اهمالهم وابعادهم في العراق انطلاقا من ان هذا التنظيم الذي كان رفضه ابناء الطائفة السنية وجد بيئة حاضنة ساعدته على الاستيلاء على مدن عراقية اساسية وعلى منابع النفط ايضا فيما استسلم الجيش العراقي امامه، كما استسلم جيش صدام حسين في مدة قياسية ايضا قبل 11 عاما امام الجيش الاميركي.
يحمل هؤلاء المراقبون مسؤولية ما جرى في الدرجة الاولى الى الولايات المتحدة بارتباك سياستها ازاء كل من العراق وسوريا على حد سواء. ففيما تمنع الرئيس الاميركي باراك اوباما طيلة ثلاث سنوات من عمر الازمة السورية عن تسليح المعارضة المعتدلة وتقويتها ضد النظام السوري متخوفا من وقوع اسلحة فتاكة بين يدي المتطرفين، فإنه وجد فجأة الاسلحة الاميركية الفتاكة التي قدمتها الولايات المتحدة للجيش العراقي في ايدي تنظيم داعش على نحو اثار ارتباكا في دوائر القرار في العاصمة الاميركية عكسته مواقف النواب ووسائل الاعلام. وفيما تركت الولايات المتحدة لايران الهامش واسعا من اجل ادارة الوضع العراقي على نحو غير مباشر، فإنها لم تضغط على نوري المالكي فيما كان الرئيس اوباما يستقبله في واشنطن او فيما كانت الادارة الاميركية تقرر ارسال المزيد من الاسلحة الى العراق من اجل استيعاب كل المكونات العراقية بدلا من استفزازها وتطويقها. كما ان المواقف الانتقادية القوية لسياسة اوباما في سوريا من جانب مسؤولين كبار عملوا معه او الى جانبه كما هي الحال بالنسبة الى وزيرة الخارجية الاميركية سابقا هيلاري كلينتون والسفير الاميركي سابقا لدى دمشق روبرت فورد تشكل عنصرا قويا في اعتبار المراقبين المعنيين ان واشنطن مسؤولة عن بقاء سياسة المالكي في العراق كما هي وعلى ترك الامور في سوريا الى مصير مماثل للعراق في اهمال للمكون السني المعتدل وترك ايران تعمم نفوذها عبر تثبيت المالكي كما تثبيت بشار الاسد من دون اي رد فعل اميركي يطاول ايران او يحد من طموحها في مقابل الحساسية والتوتر الكبيرين اللذين تثيرهما ايران ان في العراق او في سوريا وذلك بذريعة رغبة الولايات المتحدة الوصول الى اتفاق ينهي الملف النووي الايراني وينهي طموح ايران الى اكتساب القنبلة النووية في اقرب وقت ممكن.
اي سيناريو للمرحلة المقبلة اذا؟ وكيف يمكن ان تساهم واشنطن في انقاذ مصالحها المهددة في العراق؟
ثمة دفع سياسي واعلامي لاستيعاب سريع لوضع العراق وايجاد حل له من خلال عمل عسكري اميركي يمنع تمدد داعش وذلك على وقع تعاون اقوى يتوقعه كثر مع ايران على خلفية انقاذ مصالحهما المشتركة في العراق في الدرجة الاولى ومنع هذا التطور من تهديد مصالحهما في المنطقة ايضا. ويرفق ذلك باقتراحات الدفع في اتجاه حكومة وحدة وطنية حقيقية وليس كما فعل المالكي سابقا مع ترجيح ضرورة وحتمية الاستغناء عنه الى جانب اجراء مصالحات وارضاء المكون السني في العراق واعادة الاعتبار اليه التفافا على توسع سيطرة داعش جنبا الى جنب مع توجيه ضربات عسكرية لمواقع سيطرة هذا التنظيم. فهل يمتد ذلك الى لجم تمدد هذا التنظيم في سوريا ايضا؟
النهار

 

سورنة العراق/ د. عبدالوهاب الأفندي
(1) اضطررت أمس الأول للتدخل، وهو أمر نادراً ما أفعله، عبر تويتر للتعليق على مداخلة للواء في الجيش البريطاني قدم تحليلاً على راديو 4 في الـ«بي بي سي» حول الوضع في العراق اختتم فيه القول بأن الديمقراطية لا تصلح للعرب، وإنما يصلحهم حكم دكتاتوري قوي. رددت بجملة واحدة كما تسمح تويتر: يبدي المتدخل جهلاً مؤسفاً بأن الكارثة الحالية سببها تحديداً وجود أنظمة دكتاتورية مدعومة خارجياً مثل نظامي المالكي والأسد.
(2)
إنها حقاً مأساة أن نشهد سياسياً مثل نوري المالكي، كان قد بنى تاريخه السياسي على محاربة الدكتاتورية في العراق، ينهي حياته السياسية بتكرار ممارسة دكتاتورية أسوأ، وفي تحالف مع البعث السوري ذي السجل الذي يخجل صدام. صحيح أن المالكي كان حتى وهو يدعي محاربة الدكتاتورية، يعيش ويعمل في كنف الدكتاتورية السورية والدكتاتورية الإيرانية، وما يزال متحالفاً مع نظامي الطغيان هناك ضد شعوبهما. وهو ما يقدح في أي مزاعم ديمقراطية لمثله. ولكن كان المرتجى أن يكون تعلم شيئاً من مآلات الطغاة، وهو الذي تولى شنق صدام.
(3)
هناك رد قديم على من يزعم أن الشعوب لا يمكن أن تحكم إلا بالقمع، تقدم به الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه على من أوصى به. فقد كتب إليه عامله علي خراسان الجراح بن عبد الله يستأذنه في استخدام القمع مع أهل خراسان لأنهم «قوم ساءت رعيتهم، وإنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط». فجاء رد عمر حاسماً صادقاً: «أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم، وأنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فقد كذبت. بل يصلحهم العدل والحق، فابسط ذلك فيهم والسلام».
واليوم نسمع المالكي، بعد أن فشل في بسط الحق والعدل، يستأذن البرلمان في استخدام «السيف والسوط» (إعلان حالة الطوارئ)، كأنه لم يتعلم ولا يتعلم.
(4)
لا يحتاج المرء أن يكون من المنجمين وقراء الطالع ليتنبأ بمصير أمثال نظام المالكي، وقبله أنظمة الأسد والقذافي ونظام مبارك-السيسي. ولكن حتى من توقع لهذه الأنظمة سوء الخاتمة صعق بالسرعة التي انهارت بها مؤسساتها القمعية. فقد مر زمان لم يكن أحد يتخيل فيه مجرد خروج مظاهرة في ليبيا القذافي أو سوريا الأسدين. ولكن المدهش أن المتظاهرين في بنغازي هجموا على معسكرات الجيش وهم عزل، ففر الجنود تاركين أسلحتهم كما فعل جنود المالكي في الموصل وما بعد الموصل.
نفس الشيء وقع في سوريا التي وقع ستون بالمائة منها في يد المعارضة في وجود جيش كان يزعم أنه يهدد إسرائيل، ولكن جنوده أدمنوا الفرار حتى أصبحت تدافع عنهم ميليشيات لبنانية-عراقية!
(5)
المؤسف في كل هذا أن كل من المالكي والأسد كان يمكن أن يستمر في حكم بلاده بدون كثير مشاكل لو أنه حكم العقل، وأعطى مواطنيه بعض حقوقهم، ولم يختر الطغيان والتجبر.
ولكن صغار الرجال لا يستطيعون الوقوف إلا في صف الأقزام، ولا يطيقون مقام الكبار من أمثال مانديلا وعمر بن عبدالعزيز ممن لم يحتاجوا إلى تصغير الآخرين حتى يكبروا.
(6)
بدأ الكثيرون يتحدثون عن «انهيار» الدولة العراقية. وحقيقة ان الانهيار لم يبدأ بالنسبة لكثير من العراقيين بدخول المتشددين إلى الموصل وبقية مدن العراق، وإنما عند دخول داعش الأخرى، أي جنود المالكي، إلى نفس تلك المدن والاعتداء على المعتصمين السلميين. وكما هو الحال عند إخوانهم في سوريا، أثبت هؤلاء الجنود أنهم أسود على المسالمين، نعام إذا واجهتهم جماعة ضعيفة التسليح. وهكذا الأنظمة الاستبدادية وأنصارها: أصوات عالية، وتجبر على الضعفاء، ثم فرار إذا سقط صاروخ أمريكي أو إسرائيلي، أو حتى لو وصلت حفنة من المسلحين.
(7)
«سورنة» العراق أيضاً بدأت عندما «استأسد» المالكي و «تصدم»، وأصبح يتصرف كحاكم بأمره.
وستكتمل الصورة كما هو متوقع عندما يبدأ تهديم المدن على رؤوس أهلها، وتدمير ما بقي من العراق وتشريد سكانه. ثم يأتي تحول النظام وجيشه إلى مجرد ميليشيا، واكتمال سيناريو الدولة الفاشلة على طريقة الصومال وسيراليون.
(8)
ليس هناك فشل أكبر من أن نشهد دولة مثل العراق، هي بحكم الموارد الطبيعية والبشرية من أغنى دول العالم، يتلقى سكانها المعونات والإغاثة من جهات أجنبية، ويعيش مئات الآلاف من مواطنيها التشرد والعوز والحاجة. ولكن رئيس الوزراء المالكي لا يدعو إلى نفرة لإنقاذ مواطنيه ومد يد العون لهم، وإنما خرج علينا بفرمان حرب يدعو المواطنين لمحاربة بعضهم بعضاً، ويعد بتوجيه كل الموارد للحرب وشراء الأسلحة. وليس هناك سقوط أخلاقي وسياسي شر من مثل هذا السقوط. ولكن: « ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً».
د. عبدالوهاب الأفندي
القدس العربي

 

 

دولة “داعش” النفطية تنذر بتغيير خريطة الشرق الأوسط/ موناليزا فريحة
بين المناطق التي يسيطر عليها في سوريا ومكاسبه المتزايدة في العراق منذ الثلثاء، تمكن تنظيم “الدولة الاسلامية في العراق والشام” (داعش) من السيطرة على مساحة متصلة من الاراضي تمتد من الضواحي الغربية لحلب السورية حتى بلدات في شرق العراق تقع على مسافة ساعتين من الحدود الايرانية، وسامراء على مسافة لا تبعد سوى مئة كيلومتر من العاصمة العراقية بغداد. فهل بدأت تظهر معالم دولة جديدة نفطية عابرة للحدود في الشرق الاوسط؟
تمضي “الدولة الاسلامية” في رسم حدود دولتها الموعودة، آملة في تحقيق حلمها باقامة خلافة اسلامية تمتد من المتوسط الى جبال زغروس في ايران، ومحولة أبو بكر البغدادي، أخطر رجل في العالم بالنسبة الى مجلة “تايم” وبن لادن الجديد بالنسبة الى صحيفة “الموند”، الجهادي الاقوى بلا منازع في العالم.
فبسرعة قياسية مفاجئة، تقدم مسلحو “داعش” من الموصل التي احتلوها الاثنين في اتجاه تكريت، عاصمة محافظة صلاح الدين، ومسقط الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، ومنها الى بيجي ومصافي النفط فيها، في ظل مقاومة شبه معدومة من الجيش العراقي الذي خلع افراده بزاتهم النظامية والقوا اسلحتهم وغادروا مراكزهم. وبحلول الاربعاء، كان المسلحون يقاتلون القوات العراقية في أبو غريب وزيدان غرب بغداد، في ما يعكس قدرة التنظيم على التحرك على جبهات عدة. وتتحدث تقارير عن هجومين لـ”داعش” على مدينة سامراء حيث تجمع عدد كبير من القوات العراقية المنسحبة من الموصل.
ولم يتضح الا الاربعاء حجم الهزيمة التي لحقت بالجيش العراقي في الموصل، ثانية كبرى المدن العراقية، وذلك عندما بدأ المقاتلون يسيّرون دوريات في المدينة ويدعون الناس الى العودة الى اعمالهم وحياتهم الطبيعية. وأقرت بغداد بأن المقاتلين سلبوا القاعدة الرئيسية للجيش في المدينة اسلحتها، وأطلقوا مئات السجناء ووضعوا يدهم على الارجح على 480 مليون دولار من مصارفها.
ونسبت صحيفة “الغارديان” البريطانية الى مسؤولين عراقيين ان كتيبتين من الجيش العراقي في الموصل تعدان 30 الف رجل تقريبا استسلمتا وتركتا مواقعهما امام هجوم شنه نحو 800 مقاتل من “داعش”.
مؤشر مهم
وفي تقرير مفصل ومرفق بخرائط، عرض معهد دراسات الحرب، وهي مؤسسة ابحاث اميركية، التطورات الميدانية في العراق بدءا بتحركات “داعش” قبل سيطرته على الموصل، الى حين وصوله الى مسافة 100 كيلومتر من بغداد.
وجاء في التقرير ان عمليات “داعش” حول سامراء في هذه المرحلة من الهجوم ستشكل مؤشرا مهماً لنيات التنظيم وحجم قدراته. فإذا كان ينوي مواصلة هجومه الخاطف في اتجاه بغداد، سيكون عليه على الارجح السيطرة على هذه المدينة التي تضم مزارات شيعية، حفاظا على الزخم والقوة. لكن سامراء بذاتها مهمة جدا، ذلك ان تدمير تنظيم “القاعدة” عام 2006 ضريح العسكريين فيها اشعل حربا اهلية في البلاد سقط فيها آلاف القتلى. لذلك، يتوقع ان يحاول رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي تجنيب البلاد مثل ذلك السيناريو من طريق حشد مزيد من القوات فيها.
ويبدو حتى الآن أن “داعش” ينفّذ هجوماً محكماً، أكثر منه تقدماً فوضوياً نتيجة انهيار الجيش العراقي في الموصل. ويتوقع مراقبون عسكريون هجمات جديدة للتنظيم في الساعات الـ96 المقبلة من أجل ضعضعة الجيش العراقي والتشويش عليه. ومع أن المقاتلين المتشددين بدأوا يواجهون مقاومة أكبر في تقدمهم جنوباً حيث يتمتع الشيعة بحضور أكبر، تختلف التوقعات لقدرة بغداد المحصنة والتي تعد غالبية شيعية وعديداً كبيراً من قوات النخبة، على صد هجوم لـ”داعش” بسهولة.
ولكن نظراً الى أن الهجوم هو الأوسع يشنه هؤلاء المقاتلون في العراق، ثمة من لا يستبعد أني قع هذا التنظيم ضحية نجاحه العسكري السريع الذي فاجأه هو قبل سواه، كما يمكن أن تتشتت قواته، الامر الذي يفقده القدرة على التصدي لهجمات مضادة محتملة من قوات أو عشائر عراقية أو حتى من مواطنين عراقيين، على غرار ما يحصل في الرقة، القاعدة السورية الأساسية لـ”داعش”.
الثابت حتى الآن أن الهجوم حرّك الخلايا النائمة لـ”داعش” في المناطق التي سيطر عليها وأن جماعات مسلحة ومسؤولين محليين تضامنوا معه. لذلك، يصعب تقدير حجم القوة المنخرطة في الهجوم وتركيبتها بدقة.
فاستناداً الى “معهد دراسات الحرب”، هاجم “داعش” الموصل بـ150 آلية مجهزة بأسلحة وما يراوح بين 500 و800 مقاتل. الا أنهم لم يؤكد ما اذا كانت أفراد من هذه القوة هم الذين انتقلوا الى بيجي وتكريت أو أن قوات منفصلة كانت قريبة من تلك المناطق تحركت للسيطرة عليها تباعاً. ويتساءل عن مدى تعاون البعثيين السابقين بقيادة عزة ابرهيم الدوري و”جيش رجال الطريقة النقشبندية” الناشطين في الموصل وتكريت مع “داعش”.
وفي تحليل منفصل، يقول المعهد إن المقاتلين الذين يتقدمون من الشمال قد يتواصلون مع آخرين ينشطون في محيط بغداد ليشكلوا تهديداً حقيقياً للعاصمة.
الساعات المقبلة
في أي حال، من شأن التطورات في الساعات الـ 24 المقبلة أن تحدد ما إذا كان “داعش” سيواصل هجومه بالوتيرة نفسها أم أنه سيأخذ استراحة لإعادة تجميع قواته والتقاط أنفاسه.
أما في سوريا حيث بدأ “داعش” قصة نجاحه، فقد أزال التنظيم جزءاً من الحدود بين العراق وسوريا حيث يسيطر على الرقة ومناطق أخرى. وقال ناشطون في موقع “تويتر” إن المقاتلين عرضوا في دير الزور سيارات “همفي” أميركية الصنع استولوا عليها من الجيش العراقي.
… حتى الآن، قوّضت المكاسب الاخيرة لـ”داعش” والانكفاء السريع للجيش العراقي ادعاءات واشنطن أنها أنشأت جيشاً قوياً وموحداً في العراق بعد أكثر من عقد من التدريب. وأياً تكن الجهات التي تقف وراء الزخم المفاجئ لهذا التنظيم، فمن شأن هذا الهجوم الواسع أن يبعث بهزات ارتدادية في أرجاء الشرق الأوسط وربما دفع دولاً بينها عداوات الى رص صفوفها في مواجهة ما سمي “ربيع الجهاديين”.
النهار

 

العراق على طريق سوريا/ عبد الرحمن الراشد
الموضوع في العراق ازداد تعقيدا، مع هذا ليس صعبا فهم الوضع في العراق من خلال متابعة ما يجري في الجارة سوريا. فالبلدان في حال انتقال سياسي مغمس بالدم، الفارق أن العراق سبق في المعاناة والفراغ الأمني وانعدام الوزن السياسي. ولا يزال الوضع غير محسوم في البلدين، وكلا النظامين يخوض معارك بقاء حاسمة، في ساحة متشرذمة إلى قوى مختلفة، ومتشابهة في البلدين. «القاعدة»، ووصيفاتها، والميليشيات الشيعية في العراق، تقابلها العلوية في سوريا، وقوات النظامين المنهكة، والدعم الأجنبي العسكري واللوجستي.
في أرض النهرين تتشابه الجغرافيا، يمتد نهرا دجلة والفرات موازيين لامتداد العشائر، ويلتقي على أرض ما بين النهرين التاريخ والقدر. وليس مصادفة أن نظامين بعثيين حكما العراق وسوريا بالأسلوب العسكري القمعي نفسه، ثم دبت عدوى الفوضى بعد سقوط الأول، وانتقلت إلى الثاني.
العراق هو الحدث المتطور اليوم. وحتى ندرسه، فلننظر إلى التطورات الأخيرة من خلال تقسيم العراق إلى ثلاثة ملاعب سياسية عسكرية؛ مناطق مضطربة في الشمال والغرب، ومناطق مهددة أو متورطة، حيث مركز الحكم في بغداد ومحيطها، ومناطق هادئة لكنها قلقة، مثل الجنوب وكردستان.
ثلاث محافظات كبيرة، الأنبار ونينوى وصلاح الدين، فيها تمرد واسع على الدولة، أنهى سلطة بغداد بشكل شبه كامل. وهذا التمرد، الذي يقوده «داعش»، وهو التنظيم الأعظم وحشية وشجاعة في العالم. وتسير خلفه مجاميع مسلحة متمردة من أهالي المنطقة، غاضبة مستعدة للقتال إلى جانب فريق يقاتل الحكومة وممثلي النظام. تقريبا، السيناريو السوري نفسه؛ ففي بدايات ظهور «داعش» و«جبهة النصرة» تحالف معهما الجيش الحر المعارض لنظام الأسد، ليكتشف الثوار السوريون أن أهداف تنظيمي القاعدة هذين مختلفة عن أهدافهم، بل أصبحا عدوين لا يقلان خطرا عن قوات نظام الأسد، لهذا نشب الاقتتال بينهم.
المتمردون المسلحون في محافظة نينوى، وقبلها الأنبار، عددهم هائل جدا، إلى جانب بضعة آلاف من «داعش». الأكثرية جنود نظاميون سابقون من زمن صدام. هذا الكوكتيل المسلح قادر على تأليف قوة ضخمة تهدد العاصمة بغداد، لكن الأرجح أنها ستنتهي بالمصير نفسه الذي مر به الثوار السوريون. سيتقاتل المتحالفون، المتمردون المسلحون، والعشائريون المساندون لهم، مع هذه الجماعات الإرهابية. سيتكرر سيناريو الأنبار، عندما تحالفت عشائر الأنبار مع القوات الأميركية ضد «القاعدة»، بعد أن أصبحت تهددهم، وتنوي الاستيطان في مناطقهم، وحكمهم من خلال أمرائها وفقهائها.
حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي في ورطة، رغم أنها متواطئة مع «داعش»، من خلال تعمدها الانسحاب السريع وترك مدينة الموصل تسقط بلا قتال. فهي من جانب، تريد معاقبة خصومها، مثل الزعيم الموصلي أسامة النجيفي، بترك مناطقهم فريسة للفوضى والإرهاب. ومن جانب آخر، تخشى الحكومة أن ينتقل الخطر إلى مناطق نفوذها، مثل بغداد. ومن الطبيعي أن هذا الغول سيكبر وسيهدد الجميع. ولهذا كان مثيرا للاستغراب، والاستنكار، عندما طلب المالكي منحه حق إعلان حالة الطوارئ. فعليا، لا يحتاجه، لأنه يحكم منذ زمن بنظام مشابه للطوارئ. يدير العراق فرديا؛ هو وزير الدفاع ووزير الداخلية وقائد القوات المسلحة والاستخبارات والمالية، ويشرف على القضاء! وبالتالي، لا يحتاج لإعلان الطوارئ إلا ربما لغرض واحد؛ البقاء في الحكم فترة طويلة، بتأجيل اختيار رئيس وزراء بديل له.
فالمالكي شخصية ديكتاتورية، متشبث بالحكم، وقد ضج منه حلفاؤه قبل خصومه، والتقت القوى الشيعية التي سبق أن اختارته قبل أربع سنوات، تطالب بعدم التجديد له هذه المرة. إلا أنه مستعد لإحراق العراق، إن كان ذلك يمكّنه من البقاء، بحجة الأمن والطوارئ. تقريبا، سلوك بشار الأسد نفسه، حاكم سوريا الذي أحرق البلد من أجل البقاء، رافضا كل عروض التصالح التي لا تمنحه الحكم.
سقوط الموصل يؤذن بمرحلة ثالثة من تاريخ العراق الجديد، بعد سقوط صدام، وخروج الأميركيين. فإن بقيت المعارك في مناطقها الحالية، حينها ربما يولد حل سياسي يجمع بين الفرقاء المختلفين، وينهي التمرد. الاحتمال الثاني أن تتسع دائرة العنف نحو الشمال الكردي والوسط حيث معقل النظام، ويتسبب سقوط الموصل في حرب أهلية شاملة مرعبة.
الشرق الأوسط

 
هوّةٌ بين “النصر” والكراهية/ دلال البزري
الممانعون يسبحون اليوم في بحر تناقضاتهم:
ينعمون بتحول السياسة الخارجية الأميركية من العدوانية والهيمنة المطلقتين، إلى الإنسحاب والإنكفاء والفشل وتجنّب خوض الحروب والصراعات . فيطلقون آيات الشكر والتبريك لقواهم القاهرة التي سحقت هذه الإمبريالية الآفلة، يعتدّون بقوتهم التي حقّقت هذا السحق، يضخمونها، يستعجلونها، لزوم معاركهم المحلية، يطلقون الخطب الهادرة والتحليلات العميقة، وكلها تؤكد على إن النصر على الإمبريالية أتى لا ريب، ها هو يتحقق الآن، يتجسد، في إنسحابات وتصريحات وتوجهات، هي خاتمة هزيمتها في المنطقة، وهزيمة سياستهم “الحقوق-إنسانية”، التي بانت انها ليست سوى فقاعات فارغة، وجبن وتخاذل وغباء… إلى آخر الأوصاف الحميدة التي باتوا يجدونها في الإمبريالية الأميركية. أوصاف سمحت لهم بأن ينتصروا على خصومهم غير الممانعين، وآخر تعبيرات هذا الانتصار، الإنتخابات التعددية التنافسية التي أبقت بشار على قلب الجمهورية سوريا، أو التصريح الذي بات أشهر من نار على علم، لوزير الخارجية الأميركية جون كيري، الداعي “حزب الله” إلى المشاركة في الحل بسوريا على القدم نفسه من إيران وروسيا. بل يذهب أحد محللي الممانعة الكبار إلى تفنيد هذا التصريح الأخير لكيري بغية تأكيد صحته، بتعداد الأسباب “العقلانية” التي سمحت لموقفه هذا أن يرى النور؛ منها مثلا “تبدل جوهر السياسة الأميركية”… هذا من جهة.
ولكن ممانعينا، من جهة أخرى، بعد هذا التمتّع بانتصاراتهم، والتبجّح بقوتهم العاتية التي هزمت إرادة الهيمنة الأميركية، لهم موقف “نظري” تجاه هذه الهيمنة، ما زال على الحالة الأولى التي وجدت فيها، بكل الفظاظة والصلافة التي عرفت بها منذ خمسة عقود، أو ستة. ما زالت هي الإمبريالية نفسها، بالجبروت نفسه، بالعدوانية المطلقة الشاملة المتدخلة في أبسط تفاصيل حيوات الشعوب المقهورة، الفارضة مشاريعها من شرق أوسط كبير إلى جديد إلى “مبدع بفوضويته”.
وهذه نظرة هي قبل كل شيء إرث قديم، رافعة قامت عليها كل المشاريع السياسية “الاستقلالية”، كل التطلعات العادلة، كل القضايا المقدسة. إرث حب كراهية أميركا، الذي منح كل هذه الطاقة التحررية للشعوب بوجه إمبريالية عاتية. هذا الحب لكراهية أميركا لم يعفِ أحداً من بيننا؛ لم يُحرم أحد من هذا الإرث؛ لا الأكثر علما أو ذكاء أو إخلاصا أو معرفة. ولكنه الآن صار إرثاً بائتاً: لأن الإمبريالية الأميركية لم تعد هي نفسها، كما كانت في شبابها، كما كانت يوم أطلقنا العنان لكراهيتنا لها. ولأن هذه الكراهية هي وجه من وجوه الإبقاء على الإستبداد، أو الإستعمار “الوطني”، بأشكاله وتنوعاته؛ ولأنها تسمح بحياة طويلة للصفاقة والغلاظة الممانعة تجاه غير الممانعين من أبناء جلدتهم؛ ولأنها تحرمنا من خلق الأدوات المفهومية أو الفكرية التي تسمح لنا بمقاربة الإمبرياليات الأخرى، الدولية منها والإقليمية، الكبيرة والمتوسطة؛ تحرمنا من فهم أطماع روسيا ومتابعة التوسع البطيء للصين في بحرها الشمالي، أو وصولها إلى إقامة قناة السلفادور في أميركا الوسطى، في عقر دار أميركا… إلى ما هنالك؛ ولأن وظيفة إبقاء شعلة هذه الكراهية حية هي مثل الذخيرة العسكرية التي سوف تطلق في حال لم تنجح مساعي القائد الفعلي لمسيرتنا، أي إيران، بمواجهة المفاوض الأميركي في حال تعثر الإتفاق معه حول سلاحها النووي… لأنها تعمينا عما يحصل حولنا، وتلبسنا ثوب التناقض الحاد بين الانتصار على هذه الإمبريالية وبين معاملتها “نظرياً” وكأنها في ذروة سطوتها.
في الآونة الأخيرة، تنطّح أحدهم لتفسير الأزمة الأوكرانية من منطلقات “جيو-ستراتيجية”، فكتب في مقدمة “نظرية” لهذا التفسير ما نعرفه كلنا عن الإمبريالية الأميركية الشريرة، وختمها بالقول إنها الآن، أي هذه الإمبريالية، ما زالت على شرّها، لأنها في تراجعها وانكفاءها، لم تؤمن “البدائل” اللازمة لهيمنتها الآفلة!
شعلة الكراهية الدائمة لأميركا في قلب هذا “المحلّل الإستراتيجي”، التي لا تعكرها فرحته ب”الهزيمة” الأميركية، خطفت نظره عن مطامح الإمبرياليات البازغة، فجعلته مفوَّتا عن عصره. مثله مثل “حزب التحرير الإسلامي” الذي تأسس في نهاية الحرب العالمية الثانية، على يد أشخاص نشأوا على كراهية الإستعمار البريطاني. فصاغوا كل نظريتهم عن الخلافة الإسلامية بناء على إستمرار هيمنة الإستعمار البريطاني، من دون الإنتباه إلى أن إمبريالية أخرى كانت، في هذه الأثناء، تشقّ طريقها نحو الهيمنة العالمية…
أحزاب مفوّتة، معطوفة على محلِّلين مفوّتين، ترسم ملامح أمة مفوَّتة… فاتها زمنها وهي في خضم سكرتها بـ”إنتصارها” القائم على تغير جنسية المهيمنين على مصيرها وثقافتهم.
ملحق: هل تثبت غزوة “داعش” الاخيرة في شمال العراق إن الإمبريالية الأميركية تحاول أن ترسخ وجودها في المنطقة؟ وانها لن تفلح…؟
المدن
هكذا يستقوي “داعش”/ الياس حرفوش
هذا ليس فقط زمن تغيير الخرائط في الشرق الأوسط. إنه أيضاً زمن تغيير الشعوب وإعادة كتابة الهويات. تأملوا مشاهد قوافل النازحين من قراهم ومدنهم عبر الحدود، من الموصل باتجاه الإقليم الكردي. من حمص والقلمون باتجاه مناطق عكار والبقاع في لبنان. من حلب وإدلب باتجاه الأراضي التركية. ملايين البشر يتركون بيوتهم وأرزاقهم ويهربون إلى المجهول. يهربون من حكوماتهم ومن الظلم والقمع ومن الصواريخ والبراميل التي تهبط عليهم كل يوم، من حكومات جائرة اختارت أن تتمكّن في الحكم بدل أن تعمل على رخاء الناس وحريتهم وحقهم في العيش الكريم.
نحن نتحدث هنا عن دولتين تحديداً وعن نظامين يتحملان القدر الأكبر من المسؤولية عن هذه المآسي لو كان هناك من يحاسب. إنهما نظاما نوري المالكي وبشار الأسد. ليس قليلاً أن يترحّم أهل العراق على ديفيد بترايوس الذي عرف كيف يتعامل معهم وكيف يجنبهم الحرب الأهلية، في الوقت الذي لا يرى نوري المالكي في أهل بلده، بمن فيهم نائب رئيس الجمهورية، سوى مجموعة من الإرهابيين لا يستحقون سوى الموت، أو السجن في أيام الرحمة. ليس قليلاً أن يستنجد السوريون بالأميركي لإنقاذهم من رئيسهم الذي لا يرى فيهم سوى مجموعة من الجراثيم لا بد من تجفيف منابعها ليتسنى له البقاء في الحكم.
ويسألونك بعد ذلك: من أين أتى «داعش»؟ وكيف يعيش هذا التنظيم الإرهابي المتطرف في بلاد لم تعرف التطرف أصلاً، بل كانت مهداً لأفضل ما قدّم العرب من حضارة للعالم في الزمنين الأموي والعباسي، رحمهما الله. أليس من المفارقات أن سورية والعراق لم ينحدرا إلى الهاوية التي هما فيها الآن إلا في ظل هذا الحكم الطائفي الذي يتحكم برقاب الناس في البلدين من كل الطوائف؟ أليس من المفارقات أن لبنان، الذي كان مضرب مثل بحرّيته وقيمه في المنطقة، لم ينحدر إلى ما هو فيه اليوم إلا عندما تحكم بقراره الوطني واستقوى على مؤسساته مجموعة من الطائفيين والطارئين على العمل السياسي، لا يستقوون إلا بسلاح الخارج وأمواله، ولا يبيعون الناس سوى بضاعة الاغتيال والتخوين والعمالة لكل من يخالفهم الرأي أو يعترض على أسلوبهم في تدمير البلد وهدم ما تبقى فيه من مؤسسات؟
ها هي المشكلة هنا وليست في مكان آخر. وإذا كان «داعش» يستقوي ويتقدم، فإنه يستقوي ويتقدم بفضل هذه الأنظمة الطائفية. الخدمة مشتركة بين الجانبين. الأنظمة التي نتحدث عنها لها مصلحة في تصوير أهل السنّة كلهم على أنهم إرهابيون وأتباع لـ «داعش»، في الوقت الذي لا تقوم جيوشها بأي جهد لوقف زحفهم أو لقطع الطريق على خطابهم المذهبي، الذي يتغذى من التمييز المذهبي الذي تمارسه تلك الأنظمة. قوات بشار الأسد تتعاون مع «داعش» في سورية وتقصف كل طائر يطير في السماء باستثناء مواقع التنظيم الإرهابي. وفي العراق تنسحب قوات نوري المالكي بسرعة البرق من مواقعها التي يفترض أن تحميها في الفلوجة ثم في الموصل لتتيح لـ «داعش» التقدم، ولتعلن بعد ذلك، هي ومن وراءها: ها هو «داعش» يتحدث باسم السنّة الذين يحتضنونه.
أما «داعش»، فله مصلحة هو أيضاً في استثمار الفراغ السياسي والأمني لمصلحة مشروعه الطائفي والإرهابي، وهو يعلم كما الجميع أنه مشروع لا مستقبل له، خصوصاً أنه مشروع مرفوض بالدرجة الأولى من قبل البيئة التي يسمونها «حاضنة» للتنظيم. وإذا كان «داعش» يخدم أي هدف في هذه المرحلة، فهو من خلال قدرته على تفكيك دول المنطقة وتهجير شعوبها وتصوير السنّة من الذين يدعي «داعش» الحديث باسمهم، أنهم جميعاً على خطه ويدعمون خطابه الطائفي.
ولكم أن تحللوا بعد ذلك من الذي أنشأ «داعش» ومن يموّله وأي أغراض يخدم هذا التنظيم الإرهابي.
الحياة

 
الأزمة العراقية إذ تهدد بإشعال المنطقة برمتها/ زياد العسلي
لبنادق تنظيمي «حزب الله» و «داعش» قدرة تجاوزت ايقاع القتل والتدمير لتضيف إلى نفسها صفة محو خطوط خريطة سايكس بيكو في الشرق الاوسط.
عبور «حزب الله» الحدود اللبنانية – السورية بحرية دفاعاً عن نظام بشار الأسد يجري من دون أي رادع دولي، وبتداعيات قادت الى تفاقم الصراع واتساع ضريبة التهجير. هذا التدخل السافر مهّد أيضاً لتعاظم دور «داعش» الذي عبرت امكاناته الحدود العراقية – السورية، ما مكّنه أخيراً من فرض سيطرته على ثاني اكبر مدينة عراقية وهي الموصل، ثم أتبعها بتكريت وبعض المناطق في كركوك وسامراء، ناهيك عن الفلوجة. وهو يهدد التنظيم باجتياح بغداد والنجف وكربلاء.
ويحصل كل هذا في ظل ترهل عراقي رسمي وهشاشة في التصدي لهذا الخطر الذي يهدد باشعال حرب سنية – شيعية على مستوى الاقليم تستمر لعقود بين ايران وحلفائها من جهة والدول السنّية وحلفائها من جهة ثانية.
في كل الاحوال، فإن حجم المخاطر يتجاوز امكانات الاطراف العراقية على حلها وحدها. ولأن المتنازعين يسندون ظهورهم على جدران حلفائهم الكبار في المنطقة، ايران مع القوى الشيعية، والدول العربية السنّية الكبرى مع القوى السنّية، فلا مهرب من أن تقول هذه القوى كلمتها وتلعب دورها الحاسم في الازمة.
أنه مفترق طرق، وتقع على عاتق هذه القوى الاقليمية الكبرى مسؤولية تاريخية للاختيار، إما تجنب الصراع الطائفي واحتواء الازمة، أو تصعيدها وإشعال المنطقة.
بإمكانها إذا ارادت أن تقوم بدورها في التقريب بين هذه الاطراف وجمعها على مصلحة الوطن والمواطن، ولمواجهة خطر «داعش» الذي يهدد المنطقة بأكملها، ولردع القوى الشيعية المتطرفة التي تدفع باتجاه تهميش السنّة.
من دون توافق اقليمي لمصلحة انهاء الازمة السياسية العراقية، فإن سياسات التهميش هذه ستتواصل، ما يوفر بيئة حاضنة لـ «داعش» ولغيرها من التنظيمات الارهابية بحجة الدفاع عن مصالح السنّة.
حان الوقت، وبعد اكثر من عشر سنوات من الاقتتال والتدمير، للاعتراف بأن العراقيين غير قادرين وحدهم على انهاء هذه الخلافات، سواء لانها انعكاس لملفات اقليمية اكبر، أو لكونها مرتبطة بتعقيدات اقليمية مزمنة.
وتقع على المجتمع الدولي مسؤولية مماثلة. في سورية كانت أصوات عديدة تردد ان لا مصلحة اميركية بالتدخل، وهؤلاء مهدوا السبيل لخلق الأزمة العراقية الحالية. فليس مقبولاً اتباع سياسة «النأي بالنفس» ذاتها التي دمرت سورية وحولتها إلى كانتونات متحاربة.
في سورية تمركزت وانتعشت «داعش» وغيرها، وأصبحت ترى في نفسها دولة عابرة للحدود العراقية السورية، وهي تزحف الآن باتجاه بغداد. وكما حذر الكثيرون من تمدد خطر هذه التنظيمات على دول الجوار السوري، يصح التحذير نفسه من انها لو نجحت بنقل معاركها الى بغداد فلن تكون دول جوار العراق بمنأى من خطر هذا التيار. ولنا ان نتوقع ان يكون لها رد فعل ملموس يتناسب مع التحدي الاستراتيجي الذي تحمله مثل هذه التطورات.
وتنقل التقارير تصريحات من قادة كويتيين وآخرين من دول الخليج يعربون فيها عن قلقهم من الفلتان والتفتت اللذين يهددان العراق والمنطقة.
ستتجاوز تداعيات الانفجار العراقي، مضافاً الى نظيره السوري، حيز الإقليم لتطاول البعد الدولي ايضاً. لذا لا ينبغي ان ينتظر العالم الى ان يرى ترجمة هذه الأزمة على أسعار النفط والاقتصاد العالمي قبل ان يأخذ بزمام المبادرة. المنطقة قابلة للاشتعال وهي تشتعل فعلاً.
السعي التركي لرفع الامر الى مستوى حلف الناتو بعد اختطاف ديبلوماسييها في الموصل خطوة في الاتجاه الصحيح. ولكن ينبغي استحضار مزيد من الاهتمام الدولي متجاوزاً حد التصريحات والمواقف الخطابية.
خصوصية الموقف العراقي، فضلاً عن السوري، هي انه يمثل الساحة الأمثل المؤهلة لأن تشهد اندلاع الاحتراب الطائفي السنّي – الشيعي على مستوى الإقليم وعموم المنطقة. في هذه الساحة لا غيرها ستتم تصفية الملفات السياسية والاقتصادية بمحركات مذهبية وأيديولوجية. وفي هذه الساحة لا غير يتعين تركيز الجهد الإقليمي والدولي لاعطاب هذه المحركات وإيقاف دائرة الدم المحكمة.
من مصلحة الجميع، عراقياً واقليمياً ودولياً، لعب الدور المناسب لحل المعضلة العراقية واستغلال فرصة مرحلة ما بعد الانتخابات وتشكيل الحكومة الجديدة لاصلاح العملية السياسية وبناء نظام سياسي قادر على استيعاب كل الاطراف التي لها مصلحة ببقاء العراق موحداً ومستقراً. ولا يستقيم ايقاف الاجتياح «الداعشي» الاهوج الا بتثبيت دعائم نظام عراقي جديد يحترم القيم والمبادئ الانسانية.
لا وقت للمغامرات والمناورات، هذه ازمة قادرة على عبور الحدود، وكما طحنت الحرب العراقية – الايرانية في الثمانينات مئات الآلاف من البشر، سيكون لاي معركة طائفية اقليمية ابعاد اكثر تدميراً من الماضي واطول اجلاً ايضاً.
* رئيس منظمة فريق العمل الاميركي من أجل فلسطين
الحياة

 

كثير من الجهل مفيد/ مصطفى زين
لم تعد الحروب المتفجرة في العالم العربي، خصوصاً في سورية والعراق، مجرد مخطط أو مؤامرة للتقسيم على أساس سياسي مذهبي. بل أصبحت واقعاً يفرض أيديولوجيته على الجغرافيا. من أجل ذلك شكلت جيوش كبيرة. ومن أجل ذلك تلوذ دول كثيرة بالصمت عما يجري في العراق، وتشترك في القتال في بلاد الشام. وليس تنظيم «داعش» أو «جبهة النصرة» الموضوعتان رياء على لوائح الإرهاب سوى التعبير الظاهر والأكثر فجاجة عن هذا الانقسام. فما لا يستطيع قوله السياسيون والمسؤولون يقوله الناطقون باسم الجماعات المسلحة. تصريحات العدناني لا تعبر عن فكر «داعش» وحده، بل عن أيديولوجيا خرقاء متجذرة في التاريخ لم تستطع كل عمليات التحديث والتمدين محوها لأن الحداثة لم تطاول سوى الشوارع والناطحات، بينما بقيت العصبيات القبلية والمذهبية، بالمعنى الخلدوني للكلمة، كما كانت، قبل الإسلام وبعده، وإلا كيف نفسر وجود حواضن شعبية وحكومية رسمية لتنظيمات إرهابية. تنظيمات ليس لديها اي رؤية للحكم سوى ما تعلمته على ايدي مدرسين أميين يعيشون في ماض لا يعرفون عنه شيئاً سوى بعض ما حفظوه من «تعاليم» سياسية مبنية على تواريخ الفتن الكبرى، بما فيها من تزوير وتشويه وجهل.
في تصريحاته عما يدور في العراق ذهب العدناني إلى أن «داعش» ستحرر بغداد، ممن ولماذا؟ وما مشروعه أو رؤياه للخلافة؟ وهل يعرف، مثلاً، أن عاصمة العباسيين كانت في مرحلة ما مثالاً للتعايش والانفتاح على كل المذاهب والتيارات، وأنها أسست للحداثة الأوروبية بما أنتجته من فكر وفلسفة وعلوم في شتى المجالات؟ أم أن هذا لا يعنيه؟
هذا الجهل المطبق للإسلام الحضاري، والتمسك بالجانب المظلم واستعادته في القرن الواحد والعشرين، يقابله وعي حديث للسياسة في الجانب الآخر من العالم. في الولايات المتحدة والغرب عموماً ينظرون إلى المسألة على ضوء المفاهيم السياسية والاجتماعية، ويخططون لتوجيه الأحداث بما يخدم مصالحهم. التقسيم هو العنوان الرئيسي لهذه المصالح فوحدة بلاد الشام والعراق، على أسس معاصرة وحديثة تصيبهم بالهلع لأنها تغير كل الخريطة السياسية بدءاً من دمشق وانتهاء بموسكو، وانطلاقاً من بغداد إلى شواطىء الأطلسي في المغرب. التجارب التاريخية الإسلامية تؤكد ذلك. يكفي أن نستعيد التجربتين الأموية والعباسية، كي نبقى في الأجواء الإسلامية، أو فلننظر إلى التجربة العثمانية. لم يستطع العثمانيون التمدد والانتشار في العالم إلا بعد إخضاعهم سورية والعراق.
ليس لـ «داعش» ولا لـ «النصرة» علاقة بالإستراتيجيات الكبرى. إستراتيجيات الإسلام السياسي عموماً قائمة على فهم طائفي ماضوي للتاريخ والجغرافيا، بينما الدول الحديثة ترى إلى بلادنا كتلة جيوسياسية واحدة. لذا لا يهمها إن كان الإرهاب منتشراً فيها أو ساعياً إلى تقسيم هذه الكتلة، وتعاطيها مع الإرهاب ينطلق من هذا الفهم. ردود فعلها على ما حصل ويحصل في سورية ليست في المستوى المطلوب إنسانياً. بل هي تعمق الانقسام وتدعم الساعين إليه بالسلاح والعتاد والتدريب. وتحتضن المستوى السياسي للإرهاب لتوهمنا أنها تسعى إلى نشر الديموقراطية في ربوع «الربيع العربي».
أخطر ما واجهه الغرب وفي السابق، كان التقارب العراقي السوري، فسعى منذ أيام الزعيمين البعثيين (هنا المفارقة) صدام حسين وحافظ الأسد، وقبل ذلك بكثير، إلى تعميق الخلاف بين الدولتين على أسس طائفية. والآن يرى ما يحدث في البلدين خدمة كبيرة لمصالحه فتحرك «داعش» الأخير يؤسس لدويلة تمتد من حلب إلى الموصل، تقابلها دويلات أخرى هي عبارة عن جزر مذهبية طائفية متناحرة. ولا بأس إذا نفذ هذا الهدف على إراقة الدماء، بل هذا هو المطلوب، فالسيوف التي تقطع الرقاب تقسم الجغرافيا أيضاً.
كثير من الجهل والقتل يفيدان الغرب.
الحياة

 

خوف إسرائيلي من الانعكاسات الاستراتيجية لسيطرة “داعش”/ رندة حيدر
كان لسيطرة “داعش” على مدينة الموصل العراقية وقع الصاعقة في الاوساط الإسرائيلية، وسط اجماع المعلقين الإسرائيليين على ان التوسع الجغرافي لهذا التنظيم الإسلامي المتشدد المنبثق من “القاعدة” يشكل خطراً حقيقياً على امن إسرائيل، ويهدد الى حد كبير استقرار الأردن الذي له اهمية كبيرة بالنسبة الى إسرائيل، ومن شأنه أن ينعكس على الحرب الاهلية في سوريا والوضع القائم في هضبة الجولان، وان يفتح الباب على مصراعيه امام مرحلة جديدة في تاريخ الشرق الأوسط.
حرب خليج ثالثة
ففي صحيفة “يديعوت أحرونوت” وصف بن درور يماني ما حصل في العراق بأنه “حرب الخليج الثالثة” واعتبر أن التطورات الاخيرة هناك تحتم على إسرائيل اعادة التفكير في الشرق الأوسط الجديد الذي بدأ يتبلور امام ناظريها، وخصوصاً في ظل نشوء كيان سياسي جديد في العراق اخطر بكثر من الكيان الفلسطيني الموحد. وأبدى الكاتب تخوفه الكبير من توسع الكيان الجديد نحو الأردن، ولاحظ انه للمرة الأولى تبرز مصلحة مشتركة تجمع بين “حزب الله” والأردن والعراق وإسرائيل ألا وهي وقف تقدم “داعش”.
وفي صحيفة “هآرتس” رأى المعلق عاموس هرئيل ان التطورات الاخيرة في العراق أوجدت مصلحة مشتركة بين الأميركيين والإيرانيين هي التصدي لخطر “داعش”، وكتب: “آخر شيء يمكن ان ترغب فيه إيران على حدودها الغربية هو دولة شريعة سنية تابعة لمدرسة بن لادن، كذلك ليس للولايات المتحدة اي مصلحة في ذلك”. واعتبر الكاتب انه على إسرائيل تركيز جهودها حالياً على ثلاث نقاط اساسية: تعزيز قوة الأردن والمساهمة في صمود العائلة المالكة؛ الاستعداد لمواجهة مفاجآت غير متوقعة بسبب التطور السريع للاحداث مثل حصول هجمات لفصائل “القاعدة” في منطقة هضبة الجولان عليها، وعلى رغم أن هذه الفصائل مشغولة بالقتال ضد الأسد و”حزب الله”؛ أما النقطة الثالثة فتتعلق بطبيعة الترتيبات الأمنية التي يتركها وراءهم الأميركيون. فانهيار الجيش العراقي هو الحادثة الثانية من نوعها لقوات عربية دربها وسلحها الأميركيون في السنوات الاخيرة. فقد سبق ذلك انهيار القوات الامنية للسلطة الفلسطينية في حزيران 2007 وفرارها من غزة تحت وطأة الهجوم الذي شنته “حماس”.
تقاطع مصالح
وفي مقالة عنوانها “الانعكاسات الاستراتيجية لانهيار العراق” صادرة عن “معهد دراسات الأمن القومي”، توقف عوديد عيران ويوآل غوزنسكي امام التقاطع المثير للمصالح الذي أوجدته سيطرة “داعش” على وسط العراق، فكتبا: “من الامور المثيرة للسخرية ان جميع الدول المجاورة للعراق تجد نفسها ضمن حلف غير رسمي، ولكل دولة اسبابها ومخاوفها. فإيران تتخوف من سقوط مدن شيعية مهمة في يد الدولة الإسلامية مثل النجف وكربلاء، وتركيا تخاف من تسلل العناصر الإسلامية المتشددة من سوريا الى اراضيها، والأردن الذي يغرق في أزمة النازحين السوريين، يخاف على حدوده مع العراق القريبة من مناطق سيطرة الدولة الإسلامية، وكذلك دول الخليج”. ويتساءل كاتبا المقالة عن احتمال ان يكون الأميركيون والإيرانيون قد تطرقوا الى موضوع العراق في المحادثات الثنائية التي جرت بينهما، وعن احتمال نشوء تعاون أميركي- إيراني في اي مسعى أميركي للتدخل في العراق وكبح تقدم “داعش” ليستنتجا ان “مشاركة إيران غير ممكنة من دون التطرق الى دورها في سوريا وتعاونها مع حزب الله. والتعاون مع إيران في العراق مرتبط بمشاكل كثيرة”.
وتخلص المقالة الى ان “لإسرائيل مصلحة كبيرة في محاربة تمركز الدولة الإسلامية في أي منطقة من الشرق الأوسط حتى لو كان هذا التنظيم لا يوجه عملياته ضد إسرائيل إلا ان توسعه الجغرافي يشكل خطراً أمنياً عليها”. كما يلفت الكاتبان الانتباه الى انعكاسات سيطرة “داعش” فترة طويلة على المناطق النفطية في العراق وتأثير ذلك على اسعار النفط مستقبلاً.
وفي رأي عدد لا يستهان به من المعلقين الإسرائيليين ان انهيار الجيش العراقي وتفكك الدولة هما الدرجة الاولى دليل على الفشل الأميركي الذريع في العراق وفي التعامل مع مشاكل الشرق الأوسط بصورة عامة، وفي رأيهم ان هذا يؤكد صواب المواقف الإسرائيلية المتشددة الرافضة لحل الدولتين لشعبين الذي ترعاه الولايات المتحدة.
النهار

 
هل تستجير أميركا برمضاء إيران؟/ الياس الديري
قد يضطر الواحد منا إلى أن يقرص يده وساقه، ويفرفك عينيه مراراً، ليصدِّق أنه ليس في حُلم أو كابوس. وما يشاهده على الفضائيّات والأرضيّات عن انتصارات “داعش” وقيام “الدولة الإسلاميّة في العراق والشام” هو حقيقي وواقعي بكل تفاصيله، لا من صُنع الأوهام أو الشائعات.
صحيح أنه يكاد يكون أغرب من الخيال، ومما قرأناه في كتب التاريخ وسِيَر قُدامى الأبطال، إلا أنه قد حصل على أرض العراق وسوريا. وفي أقل من يوم وليلة. وقد هزّ العالم عبر البحار وعبر الصحارى. وليس مستغرباً أو مستبعداً أن يقلب العالم العربي وتركيبات دُوَله رأساً على عقب.
إنه الحدث الأكبر والأخطر منذ أعاصير “الربيع العربي” الذي قد يأخذ الدنيا العربيّة إلى “خريف عربي” أشدّ وقْعاً وتعقيداً مما شهدته مصر سابقاً، ومما تشهده ليبيا وسوريا حالياً، ومعهما اليمن السعيد.
كل التوقّعات والاستنتاجات والتحليلات تبدو الآن مستعجلة، وكمن يغمّس لقمته خارج الصحن. فأياً تكن النتائج والعواقب والأهداف، وأياً يكن دور إيران أو تركيا وسواهما، فإن العالم العربي الذي نعرفه دخل أول من أمس “عصر داعش” ودولتها. وبات في عُهْدة المجهول، حتى ولو لم تبسط “داعش” سيطرتها ونفوذها إلا على بعض العراق وبعض سوريا.
فمن الآن وصاعداً بات كل شيء مختلفاً، مثلما أصبح كل مُستبعد وارداً وممكناً. على الأقل،كتب انتصار “داعش” الجديد وإنجازها العسكري بداية مرحلة عربيّة غامضة الملامح والمصير والاتجاه، وإن يكن من المتوقّع جداً التصدّي بضراوة وشراسة، سواء لـ”داعش” أو لـ”الدولة”، وخصوصاً بعد عودة مصر من “غربتها” القسريّة، وعدم سكوت العالم العربي، أو اكتفائه بالاستنكار وتشديد الإجراءات الأمنيّة.
و”العلامة الدوليّة الفارقة” التي رسمها الرئيس باراك أوباما بكلامه الذي لا يختلف عن غسل اليدين، لا تشجّع على انتظار أي إجراءات أميركية دوليّة لمواجهة “داعش” ودولتها.
أيّ ضمانٍ هو هذا الذي يراهن عليه أوباما، والجيوش الأميركيّة لا تزال تلملم أذيال الخيبة والخوف من “غطستها” الرهيبة التي قادها إليها نزق الرئيس السابق جورج دبليو بوش؟
إذاً، مَنْ هي الدولة القادرة على مواجهة الواقع الجديد؟
هل أصبحت المنطقة كلها في انتظار قرار تاريخي من إيران آية الله علي خامنئي… نيابة عن أميركا والعرب؟ وهل تستجير واشنطن من رمضاء “داعش” بنار طهران؟
هذه الأسئلة، وغيرها الكثير، قد لا يكون من الممكن الآن الحصول على إجابات عنها. سوى إنه لا بدّ من التوقّف أمام كلام الرئيس حسن روحاني: لن نقف مكتوفين، ولن نتسامح مع الإرهاب.

النهار
العراق: الانهيار عسكري وسياسي!/ راجح الخوري
الإنهيار السياسي يسابق الإنهيار العسكري في العراق، ومن الواضح ان هذه الاحداث الكارثية هي نتيجة ما جنته سياسات نوري المالكي الاستئثارية، بعدما اختصر الدولة في شخصه فنسف أسس الوحدة الوطنية وعمّق الشعور المذهبي وأثار الضغائن والاحقاد.
عندما تساقطت صواريخ “داعش” امس على مطار بغداد، كان مجلس النواب قد اجتمع للتو بدعوة من المالكي الذي طالب باعلان حال الطوارئ القصوى في البلاد، لكن “ائتلاف متحدون” بزعامة اسامة النجيفي والتيار الصدري رفض الطوارئ في عموم البلاد وأيّده في المحافظات الساخنة.
الى هذا الحد وصلت خصومات المالكي وعداواته، لكن الوجه الآخر الكارثي ان العراق مع الإنهيار الدراماتيكي للجيش يدخل اليوم الفراغ الدستوري (على الطريقة اللبنانية تقريباً) بانتهاء ولاية مجلس النواب ومعها ولايتا رئاستي الحكومة والجمهورية، وهذا يعني ان الحاجة ملحّة الى عملية إنقاذ طارئة للوضع السياسي المهترئ، الذي يفترض ان يتخذ القرارات اللازمة لمعالجة الوضع الامني المتدهور مع تقدم “داعش” نحو مناطق جديدة ومع استمرار الانهيار المريع لقطاعات الجيش!
ملامح الكارثة تجلّت اساساً في كلمة المالكي الى العراقيين بعد سقوط نينوى والموصل، عندما وقف ودعا الى تشكيل جيش رديف من الاهالي والمتطوعين لمواجهة ما سمّاه “المؤامرة والخيانة”، ولكأن تشكيل الجيوش ممكن مع الزحف المثير والناس يهربون من بطش الارهابيين على ما حصل في الموصل.
الكارثي ايضاً ان المستوى السياسي في البلاد فشل في اتخاذ قرارات مهمة لمواجهة الإنهيار، فقد انتهى الاجتماع الذي دعا اليه رئيس التحالف الشيعي ابرهيم الجعفري وجميع القادة العراقيين بمن فيهم المالكي نفسه ورئيس البرلمان اسامة النجيفي، باصدار بيان ضعيف أكّد “ضرورة المحافظة على الوحدة الوطنية ورصّ الصفوف ومواجهة الارهاب الوحشي بكل شجاعة والتفاعل مع ما تعرضت له مدينة الموصل العزيزة والاسراع في الاغاثة وتعزيز الامن”!
بدا هذا الموقف تافهاً مقارنة بالبيان الذي اصدره اياد علاوي الذي عبّر عن الصدمة من انكسار الجيش امام الارهابيين، محملاً المالكي المسؤولية بالقول: “لقد وقع المحظور الذي طالما نبّهت اليه غالبية القوى الوطنية الشريفة من عدم زج الجيش في الصراعات السياسية الضيقة، ومن التخبط في ادارة الحكومة وممارسة سياسات تقوم على الحزبية والطائفية الضيقة وتسييس المؤسسة العسكرية والامنية”.
ولأن العراق على شفير الهاوية دعا علاوي الى تشكيل حكومة إنقاذ وطني واصلاح المؤسسات العسكرية والامنية، مرشحاً لرئاستها رئيس المؤتمر الوطني احمد الجلبي، الذي كان منخرطاً في سلسلة من المفاوضات المحمومة مع القيادات الشيعية، كما دعا الى ضرورة وقف القصف العشوائي على المدنيين في سياق الرد على “داعش” بما يخدم الارهابيين اكثر مما يخدم الدولة!
النهار

 

“داعش” ورسائل الاعتراض الإقليمي/ سميح صعب
من الاهمية بمكان قراءة توسيع رقعة تنظيم “الدولة الاسلامية في العراق والشام” (داعش) في سياقات مجمل الاحداث والتطورات المتسارعة في المنطقة. من المأزق الذي وصلت اليه المعارضة السورية سياسياً وعسكرياً واعادة انتخاب الرئيس بشار الاسد لولاية ثالثة والميل الى الحسم لمصلحة النظام، الى الرد على التقارب الاميركي – الايراني الذي قطع اشواطاً على طريق التوصل الى اتفاق على البرنامج النووي الايراني وما يترتب على ذلك من احتمالات تطبيع العلاقات الاميركية – الايرانية بما يوجد واقعاً جيوسياسياً جديداً في الشرق الاوسط، الى عدم الحماسة الايرانية لتلبية دعوة الرياض الى بدء “التفاوض” على الملفات الساخنة في المنطقة.
هذه هي السياقات الاستراتيجية التي يأتي زحف “داعش” فيها على المدن العراقية. ويستفيد من تصاعد حدة الاحتقان السني – الشيعي في المنطقة ليصور نفسه في مقدم المدافعين عن السنة في العراق وسوريا وسائر المنطقة. ومن هنا يدخل التنظيم الجهادي على خط اللعبة الاقليمية بصفته القوة الاولى التي تقف في وجه النظامين العراقي والسوري و”حزب الله”. واذا ما نُظر الى “الدولة الاسلامية” التي تقيم حدودها بين المحافظات السورية الشمالية والشمالية الشرقية امتداداً الى محافظات الوسط العراقي، فإن حدود “داعش” تكسر المحور الايراني – العراقي -السوري – “حزب الله”. ولم تكن إزالة مقاتلي “داعش” للحدود بين محافظتي نينوى العراقية والحسكة السورية إلا دلالة رمزية على ما يعتزم التنظيم المتشدد فعله لتوطيد اركان “دولته”.
ولكن ان يصل “داعش” الى القوة العسكرية التي وصل اليها فذلك كان مستحيلاً لولا الحرب في سوريا. فالحرب السورية هي التي غذت التنظيم عقائدياً وتنظيمياً ومادياً وأتاحت له التمدد مجدداً في العراق بعد انحسار واضح في الاعوام التي سبقت نشوب الفوضى في سوريا تحت مسمى المطالبة بالتغيير واستسهال بعض الدول الاقليمية ولا سيما منها الخليجية التهليل لحصول هذا التغيير، لذلك وقفت الى جانب كل من اطلق النار على الدولة السورية ومؤسساتها علّ ذلك يوصل الى هدف اسقاط الاسد.
وكانت النتيجة المباشرة للنفخ في الحرب السورية سواء من الغرب أم من العرب هي الاخفاق في اسقاط الاسد أولا. وفي خضم حملتهم العمياء لاسقاط الاسد عمموا الفوضى في سوريا وعززوا التنظيمات الجهادية بما فيها تلك الموالية لـ”القاعدة” مثل “جبهة النصرة” او “داعش” المنشقة عنها كي يحولوا دون تمكن الاسد من اعادة بسط سيطرته على كامل سوريا. وهذا ما تحسبه اميركا والعرب انتصاراً لهم.
أما الذي كانت واشنطن أو العرب يرفضون الاصغاء اليه فهو ان مغامرتهم في سوريا لن تسفر عن أفضل من المغامرة الاميركية في العراق وافغانستان وانتاج نوع جديد من التطرف أعتى بكثير مما عرفه الشرق الاوسط والعالم حتى الآن.
النهار

 
“داعش” وأوباما/ محمد إبرهيم
الوضع الدولي الذي كان استقرّ عند معادلة التعطيل المتبادل في الأزمة السورية انقلب بين ليلة وضحاها في المكان غير المتوقع، العراق. كانت روسيا تعطل مجلس الأمن وأميركا تعطل التدخل المباشر وغير المباشر، فتوجّهت سوريا نحو الحرب الأهلية الطويلة الأمد. وكان الوضع مزعجا لحلفاء المعارضة السورية الإقليميين لكنه لم يكن مزعجا لإدارة أوباما التي قدمت فلسفة كاملة قوامها أن التدخل لا أساس له إذا لم يكن الأمن القومي الأميركي مهددا. أما أسئلة من الذي دعم “داعش” إلى حد أنها أصبحت قادرة على إسقاط العراق، ومن الذي ساهم في توقيت ضربتها، فتبقى بلا جواب لأن عالم “داعش” غامض، والتخمينات هي أقصى ما يمكن في قراءة تحركاتها.
مجلس الأمن ليس معطّلا في مواجهة الحالة العراقية، إذ لا صوت فيه يمكن أن يشكك، علنا، في ضرورة إدانة تمدد “داعش”، ولا يستطيع أن يواجه أي مشروع يقدم تغطية لتدخل “الراغبين”. لكن من هم هؤلاء الراغبون؟ أوباما الذي “يدرس كل الخيارات”، والذي يعلن أنها كلها متاحة، فَقَدَ بلمح البصر كل الذرائع التي تجعله يطبق إستراتيجيبا الانسحاب، مقابل استراتيجيا التدخل التي عرف بها سلفه جورج بوش. فالتدخل مغطّى من مجلس الأمن، وهو مطلوب من السلطة الشرعية، وبين الولايات المتحدة والعراق ذكريات وتوظيفات لا يمكن إهمالها.
لكن السؤال يُطرح لمصلحة من سيتدخل أوباما فعلا؟ عندما حصل غزو العراق عام 2003 كان قلب المعادلة المذهبية بين السنة والشيعة في ضمير المستقبل، وفي انتظار أن تتبدد كل أوهام الديموقراطية العربية التي كان يُنتظر أن تخلف استبداد صدام. أما اليوم فإن التدخل الأميركي، أيا يكن شكله ومستواه، وبعد انهيار الجيش العراقي ودعوة المالكي إلى تشكيل جيش شعبي رديف، أي بكلام أوضح وأبسط تشكيل الميليشيا الشيعية القادرة على وقف زحف الميليشيا السنية التي تكتسب كل يوم اتباعا جددا وبما يتجاوز “داعش” نفسها، هذا التدخل الأميركي هو انخراط مباشر في الصراع المذهبي المفتوح على مصراعيه من الحدود الإيرانية إلى شواطئ المتوسط.
وعلى هذا الصعيد سيبدو الانخراط الأميركي أقرب إلى إثارة السخرية. فبينما يبحث أوباما عن طريقة لدعم الميليشيات السنية في سوريا، يخطط لضربها في العراق، فأي إستراتيجيا هي هذه ؟ وعكس ما يعتقد الرئيس- الأميركي فإنه لم يتخلص من إرث بوش الذي يجعل أميركا تقاتل في سوريا ضد إيران وتقاتل في العراق بالتحالف معها، فيما المطلوب هو تدخل دولي يضع حدا للنزاع المذهبي في المنطقة. إلا إذا اقتنعنا بالنظرية التي تقول إن هذا النزاع هو الاستراتيجيا الأميركية بعينها.
النهار

 

أرض السواد../ سليمان تقي الدين
أياً كانت الجهات الخارجية التي ساهمت في تكوين حركة «داعش» أو أعطتها اليوم إشارة الانطلاق لاجتياح جزء مهم من جغرافية العراق أو سوريا، فهذه الحركات أو سواها لا تتشكّل فقط بقرار ولا تعمل في فراغ. محنة العراق عمرها عقود، ولا سيما تداعيات الاحتلال في العقد الأخير الذي بدأ بحل الجيش وخطة «اجتثاث البعث» وإدارة مشروع سياسي للغلبة بأدوات متخلّفة وعنيفة وتدخلات خارجية مباشرة.
تدمير العراق دولة وكياناً ومكوّنات بشرية ومادية كان مهمة معلنة لقوات الاحتلال، وتركه نهباً لجهات الخارج الإقليمية وللحركات الطائفية المسلحة. المسؤوليات معروفة من نظام صدام حسين إلى أنظمة الخليج العربي التي شاركت في احتلال العراق، إلى إيران التي تواطأت مع إدارة الاحتلال، إلى الأميركي الذي دمّر ونهب وأشاع الفوضى المنظمة.
لم يسقط نظام العراق ومن بعد دولة العراق بسبب «ثورة ملتبسة» بل باحتلال خارجي مباشر. ومع ذلك اصطف النظام العربي المتهالك والمتهاوي وكل عدته وأدواته لمباركة هذا الحدث التاريخي، ولم تتبصر الحركات السياسية والأحزاب والنخب الثقافية أبعاد هذا الحدث. على مدى عشر سنوات وقبلها كذلك ظلت المأساة العراقية «مسكوتاً عنها» وتحيط بها الأفكار والمواقف الغامضة. حتى الذين يتحدثون عن «تحرير العراق» من الاحتلال الأميركي، أو يزعمون هزيمة المشروع الأميركي انطلاقاً من العراق لا يتفوّهون بكلمة واحدة عن طبقة هذا التحرير وقواه وأطرافه وأبطاله ونتائجه.
لقد تمّ عزل العراق ذهنياً عن مدار السياسة العربية ولم يعد أحد يفكّر فيه وفي قضاياه ومشكلاته وجرى التسليم بأمر واقع قسم العراق بين عرب وكرد وسنة وشيعة وبين حركات طائفية مسلحة عبثت بمنجزاته التاريخية ومكوّناته الإنسانية والحضارية وجعلت منه ساحة لغنائم دول الجوار ولتجارب نماذج من حركات الإسلام السياسي غارقة في المصالح الطائفية وفي التبعية للخارج.
عندما انفجرت الأزمة السورية كنا أمام مشهد لديه الكثير من المشتركات مع النموذج العراقي. وكنا فعلاً أمام القوى الفاعلة في الداخل والخارج نفسها وأمام المسؤوليات وتوزعها نفسهما. وأعادت كل الأطراف التجربة من خلال سياسات «انتهازية» أو استثمارات وتعهدات ومقاولات على حساب الدولة والكيان والشعب وصارت الحروب الأهلية والمجازر والتدمير المنهجي والتدخلات الخارجية ثقافة «تحريرية» جديدة ولو كانت جميعها تصب في خانة «الاحتلال الفعلي لسوريا» بأشكال جديدة من الاحتلال. صحيح أن «المعارضة السورية» لم تكن على مستوى التحديات ولا على مستوى حركة تغيير سياسي لا ثوري ولا إصلاحي، لكنها كانت بنت الواقع السوري الداخلي قبل أن تلحق بالخارج ويلتحق بها ويجري إغراقها بجحافل المسلحين ممن بات يُعرف «بالمشروع الإسلامي العالمي» الوثيق الارتباط بمراكز قرار دولية. وفي كل مكان كانت الفوضى المسلحة، أو العنف المسلح الذي يبادر إليه النظام من دون القدرة على الحسم وإعادة السيطرة هو المدخل الطبيعي لانهيار الحدود الخارجية واندلاع أو استقطاب كل ظاهرات «الحركات المتشددة» أو «الإرهابية».
ما يجري الآن في بلاد الشام والعراق ليس ظاهرة من الخوارق والمعجزات بل هو ابن تاريخ قريب معيش على مدى سنوات من سياسات «الفطش والبطش» وسوء الرؤية والتقدير وخطأ الممارسة الذي طبع الفعل العربي بكل أطيافه وأطرافه. لقد تم إغراق الساحات العربية بطوفان من العشوائية ومن الاستدراج والتلقائية بعيداً عن أي تفكير عقلاني أو تقدير سياسي لا ينطلق من أولوية العنف في النظر إلى المشكلات وحلولها. وتحكم في سلوك العرب، كل العرب، وكل الحركات ذات الجذر القبلي والعصبوي والتحزبي والمخزون الإيديولوجي الديني أو المدني الذي أصاب بالتعمية كل من شارك في هذا الانهيار الكبير وهذا الركام وهذا الغبار والدم.
هل فات زمن المراجعة والتفكير والحساب أمام خرائط جغرافية وسياسية ترسم خارج منطق التاريخ وخارج تطلعات الشعوب وتراثها ومكتسباتها؟ أم أن هذه اللحظة التي تنتشر فيها النيران تدعو أصحاب الشأن والحل والربط أن يعالجوا ما بقي من أرض غير محروقة ومن بينها لبنان إذا كان لهؤلاء اعتراف بأنه شأن مستقل لوجود إنساني حر؟
السفير
“داعش” تنشط في بيئة طائفية خصبة/ محمود الريماوي
راجت، في الأسابيع القليلة الماضية، تسريبات عن تنظيم دولة العراق والشام الإسلامية “داعش”، أنه في صدد توسيع نشاطه، ورقعة وجوده في لبنان والأردن. والتفسير، الذي شاع، حينها، أن التنظيم لقي ضربة موجعة له في محافظة الأنبار في العراق، مما ضيق عليه الخناق، وضاقت رقعة وجوده في سورية، وتكاد تقتصر على الرقة ودير الزور، بعد استنزافه في معارك بينه وبين الجيش الحر وجبهة النصرة. خلافاً لهذه التسريبات، لم يشهد البلدان الحدوديان مع سورية، الأردن ولبنان، تطورات تذكر على صعيد تسلل عناصر هذا التنظيم، أو تحرك خلايا نائمة مفترضة، في الأسابيع الثلاثة الماضية، ويبدو أن تكتيك صرف الأنظار عن الخطط الفعلية حقق نجاحاً.
التحرك الأخير لـ “داعش” في الموصل، ثاني أكبر مدن العراق شكل مفاجأة ثقيلة، ليس لمن يراقبون الوضع من خارج الحدود فقط، بل للعراقيين أنفسهم أيضاً، بمن فيهم حكومة نوري المالكي المستمرة في أداء أعمالها بعد إجراء الانتخابات. وقد تحدثت ردود الفعل الأولى، نهار الأربعاء الماضي، 11 يونيو/حزيران الجاري، عن انهيار شامل لقبضة النظام وقواه الأمنية في المدينة، وحالات فرار قيادات عسكرية، ودعوات علنية لمحاكمة هؤلاء. وتحدث محافظ نينوى، إثيل النجيفي، عن “قيادات عسكرية تعمل خارج نطاق الدولة”. لم يعط ممثل الدولة في هذه المحافظة، التي تضم احتياطات النفط العراقي، مزيداً من الإيضاحات بشأن “العمل خارج نطاق الدولة”. لكن، يُشتمّ من حديث المسؤول الرفيع أن ثمة فساداً أمنياً ومؤسساتياً ينخر جسم الدولة العراقية، تنشأ معه مؤسسات ومرافق أمنية موازية لقوى الجيش والشرطة العراقية، أو أنها تضع قَدماً هنا وقَدماً هناك. وفي هذه الحال، تتقدم الولاءات الفئوية والذاتية على الولاء للوطن والدولة، ويسهل، في الأثناء، التنصل من أداء الواجبات الوطنية العامة، وافتقاد الدافعية للتضحية.
” من أجل محاربة (داعش)، والانتصار على مشروعها الظلامي، وكل بُقَع الظلام الأخرى، يجدر بالحكم في العراق طرح الرؤى الطائفية جانباً، وهذا يتطلب الانتقال من المناشدات في هذا الصدد، إلى اقتراح مشاريع قوانين تحظر نشوء تياراتٍ وتنظيماتٍ طائفية، كمنصة انطلاق لمشروع وطني جامع يرسي أسس بناء دولة حديثة”
تحدث المسؤول نفسه عن تنظيمات مسلحة أخرى، تقف إلى جانب “داعش”. ولوحظ أن الأنباء الأولى عن تطورات الموصل، ظهيرة الأربعاء، نُسبت إلى “مجاهدين بقيادة عزت الدوري”، نائب صدام حسين، في عودة إلى صاحب هذا الاسم، الذي لم تنجح السلطات في تعقبه طوال عشرة أعوام، وارتبط اسمه في السنوات الأولى بـ “المقاومة العراقية “ضد القوات الأميركية. وتشير عودة ظهور اسم الدوري إلى فشل أمني وسياسي مريع، وغياب مشروع وطني يجمع الديمقراطيين، يمتلك خطاباً عابراً للطوائف والمناطق والعشائر، ويترك أثره على مسيرة الحكم وأدائه، وينزع عن العنف أية وظيفة أو مشروعية سياسية مزعومة.
ليس معروفاً مدى العلاقة القائمة بين ما تبقى من حزب البعث العراقي، الذي يقوده الدوري، و”داعش”. لكن، معروفٌ أن ثمة بيئة في العراق جعلت من التواصل بين زعامات حزبية ومحلية من جهة، وتنظيمات طائفية من جهة ثانية، أمراً واقعاً في العشرية الماضية، وقد لوحظ في الانتخابات البرلمانية وجود عشرة تنظيمات طائفية، هي بمثابة رديف وداعم لتيار المالكي “ائتلاف دولة القانون”، كما استرعى الانتباه أن المالكي دعا إلى تشكيل حكومة أغلبية “سياسية” وبرلمانية، على غرار ما يحدث في دولٍ ديمقراطية، حين تتشكل الحكومات، وفقاً لنتائج الانتخابات، وبديلاً لما سُمي بالمحاصصة. ومآل هذه الدعوة، في ظروف العراق، هو تشكيل حكومة أغلبية ذات لون طائفي واحد، مع ترك هامش ضئيل للمكونات الأخرى، ومن موقع التابع. وليس بعيداً عن العراق، في سورية، فإن التحالف بين “البعث” السوري وتنظيمات طائفية أمر قائم في المواجهات المسلحة الجارية، ومؤدى ذلك أن “البعث” في البلدين يقيم صلاتٍ وثيقة مع مجموعات طائفية، فيما لا يُخفي من ينهض بمسؤولية اجتثاث الحزب المذكور، في العراق، صلاته الوثيقة، أيضاً، بالبعث في الدولة الجارة! وفي أجواء هذا العبث التدميري، لا يعود مفاجئاً أن تنتعش حركة أصولية ظلامية مثل “داعش”، بل وتجد حلفاء لها، فيما لا يُقدّم مناوئوها بديلاً أفضل.
هذا مع الأخذ في الاعتبار اشتداد التنافس، منذ شهور، بين تنظيمات تشكل روافد لـ “القاعدة” وأذرعاً لها، منها خصوصاً النزاع المفتوح بين “داعش” وجبهة النصرة، والذي يجتذب إليه عناصر منظمات إسلامية، ليست ذات هوية مرجعية واضحة. وهكذا، تثأر “داعش”، في تحركها الصاعق الأخير، لـ”نفسها” أمام اهتزاز صورتها، وحيال الضربات، التي تلقتها في الفلوجة والأنبار، من دون أن تعبأ هذه الحركة، بطبيعة الحال، بحق العراقيين، الذي لا يُنازع، في تقرير مصيرهم بأنفسهم، من دون أي تدخل خارجي لمجموعاتٍ أو دول، علاوة على واقع التعددية الاجتماعية والثقافية، الذي صمد قروناً، وأصبح يسم هوية العراقيين وبلاد الرافدين بميسمه، والذي لا يحق لأحد، خصوصاً من خارج العراق العبث به، أو القفز عنه. بينما يقع على العراقيين عبء الدفاع الجليل عن هذا الإرث الحضاري، ضد أي استهداف له من الخارج أو الداخل.
لقد ظل الحديث يتواتر عن مكافحة الإرهاب في ولايتي نوري المالكي، لكن واقع الحال يفيد بأن الإرهاب يتفشى، ويختلط بنزاع أهلي، ويتغذّى بانشطار اجتماعي ومناطقي (النزاع والانشطار حلّا محل التنوع والتعددية)، ناهيك عن افتقاد تراكم الخبرات في مكافحة الإرهاب، إلا بصورة موضعية ومتقطعة، هنا وهناك. والأسوأ غياب منظور سياسي وطني لمحاربة الإرهاب، ينطلق من بناء قوى ومؤسسات أمنية، تقوم على أسس مهنية ووطنية، كما من التعريف البسيط للإرهاب، باعتباره عنفاً يتوسل استهداف المدنيين والمرافق والممتلكات المدنية لغايات بسط السطوة السياسية، ويمنع، تبعاً لذلك، الدولة من القيام بواجباتها في حماية المدنيين، بتشديد الحملات على المراكز الأمنية وأفراد الأمن، أياً من كان يمارس هذا الإرهاب، أو يحرّض عليه، وأيّا كانوا ضحاياه.
من أجل محاربة “داعش”، والانتصار على مشروعها الظلامي، وكل بُقَع الظلام الأخرى، يجدر بالحكم في العراق طرح الرؤى الطائفية جانباً، وهذا يتطلب الانتقال من المناشدات في هذا الصدد، إلى اقتراح مشاريع قوانين تحظر نشوء تياراتٍ وتنظيماتٍ طائفية، كمنصة انطلاق لمشروع وطني جامع يرسي أسس بناء دولة حديثة. لكن الطائفيين، أَياً كانوا، ليسوا مؤهلين للوقوف ضد هذا الوباء، وأفضل من يتصدّى له هم الوطنيون الديمقراطيون، والمستنيرون والمعتدلون، والشرائح الاجتماعية العريضة المتضررة. العراق ينادي هؤلاء.
العربي الجديد
السياسة “المرتبكة” لأوباما: رمي المسؤولية على العراقيين/ ابتسام عازم
وجّه الرئيس الأميركي باراك أوباما، يوم امس، ولليوم الثاني على التوالي، خطاباً إلى الأميركيين حول العراق. وفيما نفت الإدارة الأميركية، أنها ستتدخل في العراق عبر إرسال قوات عسكرية، طُرحت تساؤلات حول حجم ونوع التدخل الذي يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة للتجاوب مع طلب حكومة نوري المالكي بدعمها.
لقد تميز خطاب أوباما، يوم الخميس، بشيء من الحماسة، بينما بدا خطاب الجمعة متأنياً أكثر (ولعلّه جاء متراجعاً) في حماسته، غير أنه أبقى السيناريوهات مفتوحة بخصوص الخطوات الأميركية المتوقعة حيال العراق. تفاعل الرئيس الأميركي في خطابه الأخير مع عدة محاور رئيسية، تأتي بعضها للتعامل مع ردود الفعل الأميركية الداخلية، وأخرى خارجية إزاء سياسته تجاه التطورات الأخيرة في العراق خصوصاً، والشرق الأوسط عموماً.

ويتعلق أحد هذه المحاور الرئيسية بالانتقادات التي يواجهها أوباما، داخل الكونغرس، بسبب سياسته في العراق. ومن بين المنتقدين أعضاء في حزبه “الديمقراطي”، ولكن بشكل خاص من صقور الحزب “الجمهوري”. ويرى المنتقدون أن ما يشهده العراق من صعود لتنظيم “دولة الإسلام في العراق والشام” (داعش)، ما هو إلا نتيجة لسياسة أميركية فاشلة في العراق صمم فيها أوباما على الانسحاب من دون أن تكون حكومة المالكي جاهزة لذلك سياسياً أو عسكرياً.
وتُرجم جزء من هذه المواقف في الجدل الذي شهده الكونغرس الأميركي في الأيام الأخيرة. أبرز تلك الأصوات المنتقدة كان للسيناتور الجمهوري البارز جون ماكين، الذي طالب أوباما بإقالة مستشاريه للأمن القومي، لأن إدارته قررت الانسحاب الكامل من العراق وعدم الاستجابة لمطالب حكومة المالكي، قبل سنتين، بإبقاء عدد من القوات الأميركية في البلاد. وربطت الإدارة الأميركية، في حينها، الموافقة على طلب المالكي بموافقة من البرلمان العراقي على ذلك.
وذهب ماكين إلى المطالبة بإعادة الجنرال المتقاعد ديفيد بترايوس إلى العراق للمساعدة في التعامل مع الوضع الحالي. وقال إن “المالكي يثق ببترايوس”. وأدار الأخير الحرب على العراق وأفغانستان، ثم عُين بعد تقاعده مديراً لوكالة “الاستخبارات المركزية” (سي آي أي) لكنه استقال في عام 2012، بسبب فضيحة طالت علاقته بكاتبة سيرته الذاتية. وكان ماكين، حذراً بشأن المطالبة بعودة قوات عسكرية على الأرض؛ فهو يدرك جيداً، أن الرأي العام الأميركي لا يزال في غالبيته ضد تحرك من هذا النوع، وأن أوباما، بنى جزءاً من استراتيجيته للفوز بالانتخابات السابقة على مبدأ سحب القوات الأميركية من العراق وأفغانستان. وطالب ماكين بتقديم دعم لوجستي ومروحيات قتالية من طراز “آباتشي”، وتدريب القوات العراقية على استخدامها والتحرك في هذا المجال بصورة سريعة.
ولم يكن ماكين وحيداً في التصريحات اللاذعة والمنتقدة لسياسة أوباما، إذ انتقد رئيس مجلس النواب (الجمهوري) جون بويينر، سياسة أوباما في العراق، بقوله إن “أوباما، ينعم بالقيلولة في الوقت الذي بات فيه الإرهابيون على بعد 100 ميل من بغداد”. ودعا الإدارة الأميركية إلى زيادة المساعدات الفنية للعراق.
وعلت في الحزب “الجمهوري” أصوات أخرى تبدو أقل حدة في انتقادها لسياسة الرئيس أوباما، آخذة بعين الاعتبار الرأي العام الأميركي الذي لا يريد العودة إلى العراق، وخصوصاً أن الانتخابات البرلمانية النصفية على الأبواب، وأي مواقف غير شعبية في هذا الصدد ستؤثر على نتائجها في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وبدت هذه الأصوات أقرب إلى سياسة أوباما، بحيث قال السيناتور الجمهوري، بوك ميكون، إنه “كان عندهم (أي العراقيين) فرصة وإمكانية للاستفادة من وجودنا، نحن خسرنا الكثير من الدماء والأموال وأعطيناهم فرصة وهم لم يرغبوا بتوقيع اتفاق لبقائنا، والآن يريدوننا”.
من جهته، حاول أوباما، في خطاب، الجمعة، الرد على كل هذه الأصوات المنتقدة لسياسته، وإن كان بصورة غير مباشرة، عن طريق تحميل الجهات العراقية وحكومة المالكي، والخلافات الطائفية الداخلية مسؤولية ما يحدث. وقال “استثمرنا الكثير من المال والتدريب في القوات الأمنية العراقية. إن ترك الجنود العراقيين مقراتهم ومن دون أن يقاتلوا مجموعة من الإرهابين لا يتفوقون عليهم في العدد لهو مؤشر على تدهور في المعنويات”. وأضاف أن أحد العوامل وراء الوضع الحالي هو “عدم رغبة العراقيين في الاستفادة من المساعدة التي أرادت أميركا تقديمها”.
ويواجه أوباما انتقادات أخرى من حزبه لعدم ضغطه على المالكي، بعد انسحاب القوات الأميركية، كي تكون حكومته جامعة لكل أطياف العراقيين. وأفاد بعض المحللين السياسيين بأن أوباما، لم يضغط منذ الانسحاب حتى اليوم بما فيه الكفاية على المالكي، حتى عندما بدا واضحاً أن أولى الخطوات التي اتخذها الأخير بعد انسحاب قوات الاحتلال هي ملاحقة خصومه السياسيين وفي مقدّمتهم إياد علاوي. كما أن الإدارة الأميركية التي اتسم احتلالها للعراق بالفساد وهدر الأموال، ليس فقط من قبل الحكومات العراقية بل من قبل قوات الاحتلال، لم تفعل ما فيه الكفاية عند خروجها للضغط على المالكي، في سبيل مكافحة الفساد السياسي والإداري للبلاد.
واعتبر أوباما أن تهديدات (داعش) مشكلة إقليمية أيضاً، وقال إن على “جيران العراق أن يتحملوا المسؤولية في الحد من تقدم قوى الإرهاب في المنطقة وسيطرتها على أماكن واسعة، ودعم بعض الدول لهذه القوى”. وهكذا، تملّص أوباما من اللوم والمسؤولية عن تدهور الأوضاع التي تتحمل الولايات المتحدة وسياستها جزءاً كبيراً منها، بتفكيك مؤسسات الدولة الأساسية في العراق من دون بناء دولة أو نظام مستقر.
ولعل ما قاله مندوب روسيا في مجلس الأمن الدولي فيتالي تشوركين، يوم الخميس، في مؤتمر صحفي عقده بعد جلسة لمجلس الأمن الدولي لمناقشة الوضع في العراق، يلخص السبب الرئيسي الذي أدت تطوراته وتشعباته إلى وصول الوضع إلى ما هو عليه في العراق، حين قال إن “مهمة مجلس الأمن لم تكتمل في العراق”. وأوضح أن “ما يحدث في البلاد اليوم، أبعاده متعلقة بعام 2003، فما حدث في حينه لم يكن فقط إسقاط حكم ديكتاتور”. وأشار إلى أنه “تمت محاولة تغيير بنية الدولة العراقية، وهذه المحاولات أظهرت فشلها”.

 

العراق يحترق مجددا/ ساطع نور الدين
انها الفتنة المذهبية الكبرى. وليس لها توصيف آخر. تعريفها المحدد الذي لا يقبل الشك، هو انها انتفاضة سنية على حكم شيعي، في البلد الذي كان عبر التاريخ الاسلامي خط اشتباك دائم بين اتباع المذهبين، اللذين كان تعايشهما صعبا حتى في ظل الغزوات الاجنبية المتلاحقة، وكانت مذابحهما محيرة حتى للمحتلين الآتين من الشرق او من الغرب، والذين ما تركوا يوما تلك الارض إلا لانها ممسوسة.
يمكن إلصاق الكثير من الخلفيات والابعاد الراهنة على تلك الفتنة، لكنها كلها لا تموه اللغة التي يتحدث بها اليوم سنة العراق وشيعته على حد سواء، ولا تخفي السيوف والخناجر التي استلها الجانبان من كتب التاريخ ونصوصه، وشرعا في استخدامها بشكل وحشي مروع، يمكن ان ينتهي الى واحدة من اكبر المذابح التي عرفتها البشرية.. فقط لانه ليس هناك محتل اجنبي، عثماني او بريطاني او اميركي، يمكن ان يفصل بينهما على نحو ما جرى في القرن الحالي او الماضي او الذي سبقه. والتاريخ شاهد.
ليس هناك سند قوي لاي كلام عن ان تلك الفتنة، التي يبدو انها ستكون الأخطر على مر العصور، ناجمة عن تغذية خارجية للصراع. ثمة رياح دينية تهب على العالم الاسلامي منذ عقود، وها هي تبلغ الان نتيجتها الطبيعية.. قعرها الحتمي.وليس لها بيئة أخصب من العراق وسنته وشيعته واجدى من خوض ذلك الاختبار الاخير، وتسوية ذلك الخلاف القديم حول مجريات موقعة الجمل غير المحسومة، وآفاق ذلك النزاع المقيم حول أحقية الخلافة ووراثتها.
لا يمكن لتلك الفتنة ان تتصل اتصالا وثيقا باي صراع خارجي، اقليمي او دولي. ليس هناك في واشنطن او موسكو قراءات او ولاءات سنية او شيعية تسمح على سبيل المثال بربط المذبحة الدائرة الان في العراق بالازمة في اوكرانيا، او حتى بالمفاوضات النووية مع ايران، او ربما بمعركة الخلافة في السعودية. لعل العراقيين فقط ينتهزون الان فرصة انشغال العالم المحيط بهم بمشكلاته الخاصة لكي يصفوا حساباتهم التاريخية. ثمة استفادة عراقية لا شك فيها من تشجيع سعودي وايراني، ومن عداء ثنائي متبادل لم يسبق له مثيل في منطقة الخليج. أما ان ينسب التمرد العراقي السني اليوم الى قرار الرياض وحده، او ان يعزى صلف الحكم الشيعي الى قرار طهران وحده، فهو تقليل من شأن العراقيين ومن شقاقهم ومن قدرهم.
المؤكد ان اجراس الانذار قرعت اليوم في العاصمتين السعودية والايرانية، واعلنت حالة التعبئة القصوى، ولن يكون من المستبعد ابدا ان يتصاعد حشد القوات وارسال المقاتلين وتوجيه الاسلحة وتحويل الاموال الى تلك الجبهة المستعرة، التي تشكل مختبرا حاسما لموازين القوى الاسلامية والعربية، ويمكن في اي وقت ان تتحول الى اشتباكات على حدود السعودية وايران، او ربما بينهما مباشرة.. ويكون الاميركيون وسطاء وسعاة خير بين البلدين اللذين يحظيان بقدر متساو من الاحترام والتقدير الاميركي.
ثبت بما لا يدع مجالا للشك ان “داعش” ليست سوى واجهة، او مظلة لحالة شعبية سنية واسعة ومتنوعة حملت السلاح ضد الحاكم الأخرق في بغداد، وقررت بكامل وعيها ان تسير خلف شعارات وسياسات وممارسات ترجع الى زمن الفراق الاسلامي الاول. تحت هذه المظلة يقاتل اليوم بعثيون وليبراليون وصوفيون واسلاميون، يعتبرون ان عاصمة العراق سلبت منهم وآن الاوان لاستعادتها.
وثبت بما لا يدع مجالا للشك ايضا ان نوري المالكي ليس سوى رمز لظاهرة شيعية شعبية واسعة النطاق تنشد الثأر المؤجل منذ واقعة كربلاء، وترى ان الفرصة قد حانت لتصفية ذلك الحساب القديم، وغيره من الحسابات التاريخية المعلقة، لكي لا يتكرر السبي، ولا تتجدد الفاجعة: لا بديل سوى القتال حتى الرمق الاخير.. ولا مجال سوى الاتكاء على الحليف الايراني الوثيق، وربما لاحقا على الغارات الجوية الاميركية من دون طيار.
ثمة عراقيون، سنة وشيعة، يقفون اليوم في الوسط، لكنهم لا يشكلون غالبية صامتة، بل اقلية مذعورة، يمكن ان تكون الضحية الاولى لذلك التوتر المذهبي الذي لا سابق له.
العراق يحترق مرة أخرى.. ولا من يطفىء النار.
المدن

 
العراق.. مرحبا بكم في جهنم/ عبد الرحمن الراشد
لا أبالغ أبدا، عندما أقول إننا أمام وضع آخر جديد، أكثر خطورة من سوريا وليبيا واليمن. هنا في العراق كل أشكال الجنون، والمجانين الذين فقدوا عقولهم وفكوا من عقالهم. هذا يحدث في الوقت الذي لم يستوعب بعد الرئيس الأميركي خطورة الوضع في المنطقة كلها، وأن كل يوم يمر يزداد صعوبة وكلفة عليه غدا. والآن، في العراق، توشك حرب جديدة أن تبدأ، بل بدأت في ثلاث محافظات. يسمع التحريض على القتال على أعلى مستوياته، فالمرجعية الشيعية تناشد أتباعها، وهم بالملايين، الدفاع عن المقدسات. ومفتي السنة، وهم بالملايين، يطالب بدعم الثوار. والحكومة، ممثلة بنوري المالكي، رئيس الوزراء المنتهية صلاحيته، في حالة انتشاء وهو يرى فرصته في البقاء في السلطة تزداد، وعلى اتصال بالنظام الإيراني. وإيران تزداد حماسا للتوسع وتسلم السلطة باسم دعم الشيعة!
أصبحت الحرب الأهلية أقرب اليوم من أي يوم مضى منذ إسقاط نظام صدام حسين. وبات التعامل الإقليمي والدولي العاجل ضرورة لكبح الحرب الأهلية.
ووسط المشاعر الغاضبة يتطلب منا الأمر أن نستوعب الثوابت والمتغيرات، وأن نعرف الحقائق ونفرقها عن الخرافات، ونضع نصب أعيننا كل الاحتمالات، لأشهر وربما سنوات.
طبعا للأزمة جذور سبقت سقوط الموصل، ثانية مدن العراق، وسبقتها مواجهات الأنبار منذ ستة أشهر. بل يمكن أن نرجعها إلى عشر سنوات مضت، عام الغزو الأميركي، أو عشرين سنة غزو صدام الكويت، أو ثلاثين سنة، في الحرب مع إيران، أو قبلها عندما اعتلى الحكم في إيران رجل دين أعلن فورا حكما دينيا طائفيا، وهدد جيرانه بتصدير ثورته، أو عندما عزل صدام رئيسه حسن البكر ليؤذن بحكم حديدي مرعب في العراق. ويمكن أن نرجع بعيدا جدا، أربعة عشر قرنا، عندما اقتتل الصحابة على الحكم. اغتيل أولا الخليفة عثمان، ثم قتل الخليفة علي بعده بخمس سنوات، ليتغير تاريخ المسلمين منذ ذلك اليوم!
عند الحديث عن جذور الأزمة يمكن أن ننتقي أي عام ونبني عليه الدفاع المناسب، وفق النظرية السياسية التي نريدها. إنما هذا لا يلغي الحقيقة الأهم، وهي أن الأزمة دائما هي بنت يومها، والمسؤولية تقع على المنخرطين فيها اليوم، مهما كانت الدوافع والمبررات.
وفي هذه الأزمة، لا شك أبدا، أن المالكي مسؤول مسؤولية كاملة عنها، كما يقع اللوم على الرئيس أوباما الذي يملك القدرة للضغط على رئيس وزراء العراق لتبني مشروع سياسي تصالحي تنخرط فيه القوى العراقية المتعددة، ولم يفعل. فالمالكي هيمن على السلطة مستغلا الحماية الأميركية، وأقصى أيضا حلفاءه من الشيعة، وانفرد بكل القرارات. مارس عملية إقصاء وإيذاء لنحو ثلث سكان العراق، السنة العرب، وبالتالي لا يمكن لهذه الحالة إلا أن تنجب العصيان المستمر، الذي يهدد استقرار كل العراق، وكيان الدولة. وفي نفس الوقت لا يجوز للسنة العرب السكوت عن جماعات مجرمة ومطلوبة دوليا، تستغل مظلمتهم وتنبري للدفاع عن قضاياهم، تتصدرها داعش و«القاعدة». فهي تهدد، بخلاف ما يقوله المغفلون والملفقون، الدول السنية بالدرجة الأولى، وها هي تركيا تطالب بتدخل الناتو بعد استيلاء داعش على قنصليتها وخطف نحو خمسين من دبلوماسييها ومواطنيها. زوروا مواقع داعش العراقية لتجدوها نسخة طبق الأصل عن داعش السورية التي نجحت في ضرب الثورة السورية، وخدمة نظام الأسد. خطابها نفس خطاب شقيقاتها التي هددت أمن السعودية ومصر والأردن، والآن تعيث في اليمن فسادا.
هل المنتفضون داعش، أم البعثيون، أم العشائر؟
أكمل الحديث غدا.
الشرق الأوسط

 
المنتفضون.. «داعش» أم بعثيون أم العشائر؟/ عبد الرحمن الراشد
في مطلع عام 2012، دار جدل حول مستجدات الثورة السورية، «داعش» و«جبهة النصرة». البعض كان ينفي وجودهما، والأغلبية كانت تظن أن التنظيمين من القوى الوطنية السورية بلغة إسلامية وأن لا علاقة لهما بـ«القاعدة» الإرهابية. وهناك من قائل بأنها جماعات مشبوهة، وستعمل إلى جانب النظام الذي سبق وموّل مثلها في العراق ولبنان. واستمر الجدل لأكثر من نصف عام، ليتضح للجميع أنها «قاعدة»، وأنها خدمت النظام السوري سياسيا بتخويف الإثنيات السورية، واستعداء القوى الدولية، وقاتلت الجيش الحر في كل أرض قام بتحريرها. وسبق أن فعلتها «القاعدة» بقيادة الزرقاوي في العراق، فخلطت قضيتها مع القوى الوطنية.
مفتي السنة في العراق خطا خطوة متقدمة، عندما وصف صراحة «داعش» بأنها جماعة إرهابية، وبرأ المقاتلين البعثيين وقدامى العسكريين والعشائريين. والحقيقة، لم يعد هناك بعث ولا بعثيون منذ حرب الكويت، فهي أسماء قديمة، تعبر اليوم فقط عن تجمع السنة العراقيين الغاضبين.
وسبق أن اكتشف هذه الحقيقة الجنرال بتريوس عندما وجد أن تصنيف السنة عفّى عليه الزمن لأن الأوضاع السياسية تغيرت، وبناء عليه غير سياسته وتعاون مع عشائر الأنبار، فصارت حليفته وقاتلت «القاعدة»، كما أقنع عددا من سياسيي السنة المعارضين بالعودة لبغداد.
أما الأزمة الحالية فقد بدأت باعتصامات سلمية في الأنبار في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، استباقا للانتخابات البرلمانية. حينها أعلن المعتصمون عن 17 مطلبا، معظمها عدلية تطالب بإطلاق سراح المتهمين ووقف عمليات الإعدام وإنهاء الملاحقات. مطالب وجدت كثيرين يتفهمونها، بمن فيهم قادة من الشيعة مثل مقتدى الصدر وعمار الحكيم. وبدل أن يفاوضهم المالكي، أو يدعهم في شأنهم وخيامهم، قام بحماقته المشهور بها، وكسر خلية النحل. أرسل قوة كبيرة، اعتقلت أحمد العلواني، وهو نائب برلماني منتخب ومن عشيرة كبيرة، وقتلت أخاه، في خرق صريح للدستور والأنظمة، والرجل لا يزال معتقلا إلى اليوم. لتشتعل الأنبار إلى اليوم.
ماذا عن تهمة «داعش» و«القاعدة»؟ الحقيقة أنهما تنظيمان موجودان في المحافظة، اختبآ منذ أن دحرتهما عشائر الصحوات السنية. وقصتها فصل مهم في تاريخ الحرب الماضية، فقد شكل عبد الستار أبو ريشة تحالف العشائر السنية العربية، وأسس مجلس إنقاذ الأنبار، وفي سنة واحدة فقط قضى على تنظيم «القاعدة» الذي كان قد استوطن المحافظة السنية لسنوات وعجزت عنه القوات الأميركية. إنما نجحت «القاعدة» في اغتياله، عام 2007. واستمر تحالف العشائر حتى سلم الأميركيون السلطات للمالكي، الذي قام، لأسباب طائفية، بوقف الدعم الحكومي للآلاف من الذين انخرطوا في التحالف وأصبحوا جزءا من الجيش العراقي! في هذا الفراغ ولدت «داعش» من جديد، تحالفت مع متمردين وعشائر مسلحة وانخرطت في مواجهات مع قوات المالكي، وبدل التفاوض مع العشائر قامت بتدمير الفلوجة، وتهجير عشرات الآلاف. مع هذا فشلت في قمع «داعش» والعشائر، وخرجت أسراب النحل بعد أن استثارها المالكي تلاحق قواته في كل مكان تستطيع الوصول إليه!
وفي يوم الأربعاء الماضي استيقظ العراقيون على سقوط الموصل وبقية مدن محافظة نينوى، واليوم الذي بعده سقطت تكريت ومعظم محافظة صلاح الدين، والآن هناك مجاميع على أطراف العاصمة بغداد، نفسها.
القوى المنتفضة، من عسكريين سابقين وعشائر، هي الأغلبية، وفي الوقت نفسه «داعش» موجودة أيضا، وستكون – لاحقا – عبئا على الثوار العراقيين، وحليفا أكيدا لقوات المالكي. وهذا يذكرنا بما يحدث في سوريا، حيث يوجد ثلاثة لاعبين أساسيين؛ قوات الأسد وحلفاؤه الإيرانيون، والجيش الحر وحلفاؤه، وثالثهم الإرهابيون من «جبهة النصرة» و«داعش». والعراق سيكون كذلك.
ووجود «داعش» لن يغير من حقائق الأمور الكبرى في الصراع في العراق. ثلث السكان يعاقبهم النظام لأسباب طائفية وانتهازية سياسية، ومن الطبيعي أن يثوروا ضده، وسيستمرون ضده كعشائر ومسلحين آخرين. وهنا تعلم تنظيم القاعدة على التسلل حيث يوجد مجتمع غاضب، وفراغ سياسي كبير، كما فعل في أفغانستان وسوريا. لكن لنتذكر أن «القاعدة» وتنظيماتها لا تلتقي مع تطلعات الغاضبين من أهالي العراق، بل تعتبرهم، مثل النظام، خارجين على الملة دينيا.
ويزيد سوءا وخطرا على «داعش» و«القاعدة»، نوري المالكي، فهو شخص سيئ مستعد لارتكاب المجازر للبقاء في الحكم، مثل الرئيس السوري بشار الأسد. ومن أجل استقرار العراق لا بد من الخلاص من المالكي و«القاعدة».
أكمل الحديث غدا: إيران والتدخل في العراق.
الشرق الأوسط

 

أميركا وعجز العرب أسقطا الموصل/ خالد الدخيل
سيبقى السؤال لماذا سقطت الموصل بسهولة وسرعة أرسلتا موجات ذعر لم تتوقف ارتداداتها في كل أرجاء العالم؟ حتى أوباما بدا مأخوذاً بهول المفاجأة وهو يتحدث من البيت الأبيض بعد يوم من الحدث. لماذا سقطت ثاني أكبر مدينة عراقية في يد تنظيم صغير يقال إنه ليس إرهابياً وحسب، بل من أقسى التنظيمات الإرهابية وأشدها تطرفاً؟ أهل الموصل الذين تركوا المدينة بعد سقوطها ينظرون إلى الموضوع من زاوية أخرى. قالوا على لسان البعض لـ «بي بي سي» البريطانية و «سي إن إن» الأميركية، إنهم لم يهربوا خوفاً من «داعش»، بل خوفاً من قصف طيران جيش المالكي. في ذاكرة هؤلاء صور ما يفعله طيران جيش الأسد في المدن السورية. على الرئيس الأميركي أن يسجل هذه الملاحظة في دفتر ملاحظاته اليومية، وأن يتأمل فيها قليلاً قبل أن يرسل طائراته، بطيار أو من دون طيار، إلى سماء العراق.
هناك سؤال آخر بدأ يردده الأميركيون: كيف انهار جيش صرفنا عليه أكثر من 25 بليون دولار تسليحاً وتدريباً، لنكتشف أنه غير مستعد للقتال؟ لماذا انهار بهذه السرعة وسلّم عتاده لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)؟ هناك شبه إجماع على أن أفراد «داعش» الذين دخلوا الموصل لا يتجاوز عددهم الألف، ما يعني أن 30 ألفاً – هم تعداد الجيش العراقي – انهاروا أمام عدد صغير من مقاتلي التنظيم. خلع أفراد الجيش بزاتهم العسكرية وبساطيرهم ورموها على الأرض، سلموا المدينة طواعية وهربوا منها… لماذا؟ هذا سؤال لا بد من أنه يشغل أوباما وفريقه الأمني الذي يتمسك بنوري المالكي. الأهم في هذا السؤال جانبه الأيديولوجي والسياسي وليس جانبه العسكري. لم يسلّم هؤلاء الجنود والضباط المدينة خوفاً وجبناً من القتال، هذا آخر شيء يمكن أن يتهم به العراقيون. سلّموا المدينة على الأرجح لأنهم لم يكن لديهم قضية يدافعون عنها. شعروا في اللحظة الحرجة أنهم يدافعون عن شيء لا يعرفونه، أو يعرفونه ولا يؤمنون به. وهذا يؤشر إلى فجوة سياسية وأيديولوجية كبيرة بين القيادة وقواتها المسلحة. لهذا السبب لجأ نوري المالكي إلى تكتيك استثارة الحس الطائفي لدى المكون الشيعي للشعب العراقي، ومناداته بتكوين جيش رديف، أي ميليشيات شعبية، ثم حصل على دعم المرجع الشيعي الشيخ علي السيستاني، الذي دعا العراقيين (الشيعة) إلى الدفاع عن العراق أمام الهجمة السنّية. وتواترت الأخبار عن دخول عناصر من «الحرس الثوري» الإيراني لدعم المالكي والإسهام في تأسيس الميليشيات الجديدة وتدريبها. المالكي قد يتهور ويدفع العراق إلى حرب أهلية شاملة.
عبّر أوباما عن خيبة أمله في بلايين الدولارات التي صرفتها بلاده لتسليح الجيش العراقي وتدريبه، الذي كما يقول ليس مستعداً لمحاربة الإرهابيين. الأرجح أن الجيش العراقي يعرف العراق جيداً، ويدرك أن الطائفية جذر الإرهاب وغطاؤه في الوقت نفسه. ينطوي تصريح أوباما هذا على رسالة ملغومة، وهي أن ما يفعله الأسد بالشعب السوري هو المحاربة الصحيحة للإرهاب.
أحداث العراق الأخيرة تؤكد المؤكد، وهو أنها على صلة وثيقة بما يحدث في سورية، وأن سياسة أوباما تجاه العراق وسورية فشلت بأسوأ مما حصل لسلفه جورج بوش. الفشل في العراق أقنع أوباما بالسياسة التي يتبناها في سورية. وجاء فشله في الأخيرة ليرتد على العراق، ما يؤكد فشله في الحالتين. ينام أوباما في فراش المسألة العراقية نفسه مع كل من المالكي في بغداد والقيادة الإيرانية في طهران. يفضل بقاء المالكي لولاية ثالثة، وكأن العراق يعاني من عقم سياسي. يريد أن يتفاهم مع إيران، وفي الوقت نفسه يريد محاربة الإرهاب. كيف يستقيم ذلك؟ إيران تحدد هويتها الطائفية بنصوص دستورية، وتدعم وتدرب ميليشيات طائفية تنتشر من العراق حتى لبنان مروراً باليمن وسورية. والمالكي اعترف أخيراً بأنه يعمل منذ ثمانية أعوام بأجندة طائفية، وتحت نفوذ إيراني يتبنى الأجندة نفسها. ما هو الفارق بين الطائفية والإرهاب؟ الطائفية عقيدة، والإرهاب سلوك سياسي، وبالتالي مثلها في ذلك مثل العنصرية، الطائفية هي الجذر العقدي للإرهاب. كيف يمكن الجمع بين محاربة هذا الإرهاب، والتعايش مع أساسه الأيديولوجي في عقل واحد وسياسة واحدة؟ أن تحارب إرهاب «القاعدة» و «داعش» مفهوم، لكن أن تتعايش مع الصورة المقابلة للإرهاب نفسه لدى الطرف الآخر، فيعني أنك إما ساذج أو مرتبك أو أفّاق.
النتيجة المدهشة لذلك أن أوباما يدعم المالكي في مواجهة «داعش» في العراق، ويعادي بشار الأسد، أو هكذا يبدو، أمام «داعش» نفسه في سورية! يتفق مع إيران في العراق، ويختلف معها في سورية، أو هكذا يبدو. هل هناك فارق بين «داعش» هنا و«داعش» هناك؟ وهل هناك فارق بين إيران في العراق، وأخرى في سورية؟ الأجندة الإيرانية واحدة في كلا البلدين، وهي معلنة وتستند إلى مبدأ تحالف الأقليات في المنطقة. وهذا المبدأ تحديداً هو ما يجمع القيادتين العراقية والسورية في تحالف واحد مع إيران. العراق وسورية منذ الغزو الأميركي للأولى، يمثلان معاً مسألة سياسية واحدة. على رغم ذلك يصر الرئيس الأميركي على التمسك بسياستين متمايزتين لكل منهما، أو هكذا يبدو. في العراق يغض الطرف عن السياسات الطائفية لحكومة المالكي، ويشترك مع طهران في دعم بقائه في الحكم منذ العام 2006. في سورية يرفض أوباما الأسد ونظامه، ثم يغض الطرف عن الدعم الكبير الذي تقدمه له إيران وروسيا. ويغض الطرف عن الميليشيات الشيعية في العراق وسورية. لا يرى إلا «داعش» وأخواتها. يتكامل مع ذلك أن أوباما لا يعبأ – ولأكثر من ثلاثة أعوام الآن – بالجرائم الموصولة التي يرتكبها النظام السوري في حق شعبه، بل يرفض دعم المعارضة لتحقيق شيء من التوازن أمام الآلة العسكرية لهذا النظام. بعبارة أخرى، ينام أوباما مع القيادة الإيرانية على السرير العراقي، وعلى السرير السوري أيضاً. هل هذه ازدواجية معايير؟ أم لعبة غبية؟ أم ارتباك في السياسة؟ هل هي سياستان حقاً؟ أم سياسة واحدة؟
مهما يكن… فشل أوباما في سورية، ويمتد فشله الآن إلى العراق. كان يصف حرب بوش في العراق بأنها حرب غبية، كانت كذلك. وكسب من ورائها السباق الرئاسي. الآن هل يجرؤ أوباما على مواجهة حقيقة أن سياسة إدارته تجاه العراق وسورية لا تقل غباء ولا تدميراً عن سياسة سلفه؟ إذا استمرت هذه السياسة فسيتعمق فشلها. سيكسب «داعش» و «القاعدة» و «جبهة النصرة»، ستكسب المزيد من الدعم والتعاطف والمال والمقاتلين. لا يمكنك إقناع أحد على وجه هذه البسيطة بالتخلي عن حقوقه وهويته وتاريخه وأرضه بذريعة الإرهاب. هذا بحد ذاته مطلب إرهابي. والمحزن أن رئيساً مثل أوباما يعتبر جورج واشنطن وتوماس جيفرسون وإبراهام لينكولن مرجعيته السياسية والأخلاقية، وجاء إلى البيت الأبيض تتويجاً للتحول الحضاري والديموقراطي لأميركا، المحزن أن هذا الرئيس يتبنى سياسة تجاه المنطقة تنتصر للطائفية في جانب، وتحاربها في الجانب الآخر من تاريخ هذه المنطقة.
يتكامل مع سياسة أوباما العجز أو الانكفاء العربي أمام ما يحصل. ولأن الحرب التي تدور رحاها في بلاد الرافدين والشام حرب طائفية، فإن ظهور تنظيمات مثل «داعش» أو «جبهة النصرة»، وقبل ذلك «القاعدة» التنظيم الأم، هو نتيجة طبيعية لسياسة أوباما وللعجز العربي. فالسنّة يجدون أنفسهم من دون نصير ومن دون غطاء في العراق وسورية. ومعنى ذلك واضح. لا يجوز أن تسكت لأكثر من ثلاثة أعوام على دك المدن، وقتل الناس بكل أنواع الأسلحة بما في ذلك الكيماوي في سورية، وتهجيرهم بالملايين، ثم تنتفض لسقوط مدينة واحدة في العراق. ولا يحق لك أن تغض الطرف عن مقاتلين وميليشيات ترسلهم إيران إلى العراق وسورية، ثم تستنفر لأن «داعش» وأخواتها تتنقل بين العراق وسورية أيضاً. هي مسألة واحدة وحرب واحدة، وتتطلب حلاً واحداً يبدأ من سورية وينتهي في العراق. لن يسمح العراقيون ولا السوريون ولا شعوب المنطقة لأوباما بأن يجعل منهم وقوداً لتفاهم يسعى إليه مع إيران.
* اكاديمي وكاتب سعودي
الحياة

 

العراق.. ومأزق المشروع الإيراني/ طارق الحميد
إذا كان هناك من قراءة أولية لتداعيات ما يحدث في العراق، من سقوط الموصل وغيرها، فهو فشل المشروع الإيراني المزعوم في المنطقة، وخصوصا الذي تروج له طهران حاليا في مفاوضاتها مع الغرب حول قدرتها على لعب دور إيجابي في إعادة الاستقرار للمنطقة.
اليوم نجد حليف إيران الرئيس بشار الأسد مسجونا بين جدران أربعة في دمشق، وتقاتل إيران ورجالها السوريين دفاعا عنه. وفي مصر سقط مشروع الإخوان المسلمين وفقدت إيران سريعا حليفا آخر بعد أن رفع الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد علامة النصر في مصر. كما فشل المشروع الإيراني في البحرين. وإقليميا سقطت أسطورة النموذج الإردوغاني، وعلاقة إيران – تركيا الآن هي علاقة المضطر لا الأقوياء. وفي غزة لجأت حماس إلى الرئيس محمود عباس لتنطوي تحت مظلة السلطة الفلسطينية تجنبا لتبعات ما يدور في المنطقة. وفي ليبيا انقلب السحر على الساحر. وفي اليمن ينتفض الجيش الآن ضد «القاعدة» والحوثيين، وبدعم دولي.
يحدث كل ذلك وإيران منهمكة بمفاوضات دولية مع أميركا والغرب جزء منها يبحث الدور الإيراني في المنطقة، وما يمكن أن تقدمه طهران فيها، إلا أن أحداث العراق الجارية، والتي قد تعصف بنوري المالكي، خصوصا إذا استمر الرئيس أوباما على موقفه الرافض للتدخل العسكري في العراق، وتمسكه بموقفه المحق بأن السياسات الخاطئة للمالكي وبعض من القيادات العراقية قد أدت إلى ما أدت إليه، فإن من شأن ذلك أن يعقد المشروع الإيراني بالمنطقة أكثر، ويسقط أسطورة المقدرة الإيرانية على إعادة الاستقرار للمنطقة، وأبسط دليل على سقوط هذه الأسطورة هو قول مسؤول إيراني لرويترز إن طهران قد تكون مستعدة للتعاون مع واشنطن في التصدي لمسلحي الدولة الإسلامية في العراق والشام!
وهذا يعني ببساطة أن إيران هي من تحث أميركا الآن على التدخل العسكري في المنطقة، وأنها، إيران، غير قادرة على السيطرة كما كانت تدعي، بل هي في حرب استنزاف حقيقية. والارتباك الإيراني لا يقف عند هذا الحد، حيث يقول الرئيس الإيراني: «علينا كلنا مواجهة الجماعات الإرهابية قولا وفعلا»، مضيفا في رد على سؤال حول إمكانية تعاون طهران وواشنطن للتصدي لتقدم المسلحين السنة بالعراق أنه «يمكن أن نفكر في ذلك إذا بدأت أميركا في مواجهة الجماعات الإرهابية في العراق وفي أماكن أخرى»! وهذه التصريحات الإيرانية التي تحاول دفع أميركا للتدخل عسكريا بالعراق، والمساومة على الموقف الإيراني في سوريا، تقول لنا إن المشروع الإيراني في مأزق، وأقرب إلى الفشل.
والحقيقة أن أفضل حل يمكن أن تقدمه إيران للمنطقة، سواء العراق وسوريا، هو أن تكف عن تدخلها السلبي، مع ضرورة إدراك أن ما يحدث الآن يقول للجميع إن إيران باتت تحارب السنة في كل مكان، وهذه كارثة سيكون لها عواقب وخيمة، وأبسط مثال ما هو حاصل في العراق الآن.
الشرق الأوسط

 
مبادرات مطلوبة منعا لحرب أهلية او تقسيم البلاد/ غسان العطية
ان تصاعد وتيرة الإضطرابات في المحافظات العربية المنتفضة كان متوقعا، ولكن انهيار القوات المسلحة العراقية في تلك المحافظات بالطريقة والسرعة التي تمت فيهما كانت المفاجأة.
وربما نحتاج لمزيد من الوقت لمعرفة حقيقة هذا الإنهيار واسبابه، فهناك من يتحدث عن مؤامرة وآخر عن خيانة، الا ان هناك حقيقة واضحة هي ان العراق انتقل الى حالة جديدة وليس من السهل عودة الامور الى ما كانت عليه سابقا. فالسؤال: أي مستقبل ينتظر العراق؟
مسؤولية المالكي
ان النهج الطائفي واحتكار السلطة من قبل المالكي كان وراء حالة الإستياء الشعبي الواسعة بين أبناء المحافظات المنتفضة، فالمالكي الذي تولى الحكم مجددا عام 2010 كان يحظى بدعم شيعي كما استجاب له الكثير من قادة الاكراد والعرب السنة، ولكن خلال السنوات الاربع الماضية خسر ثقة الكرد والعرب السنة وحتى اطراف شيعية تخلت عنه كالمجلس الإسلامي الاعلى والصدريين وآخرين.
ان سياسة المالكي في الإنفراد بالحكم واستخدامه للشحن الطائفي والإثني من اجل مكاسب انتخابية، واعتماد سياسة فرق تسد في التعامل مع شركائه في الحكم، واللجوء الى الاقصاء والتهميش والإضطهاد، اضافة للفشل الاقتصادي والإجتماعي وتفشي الفساد، وأخيرا استخدام الآلة العسكرية، بصفته القائد العام للقوات المسلحة، بافراط لفرض سيطرته على ابناء المحافظات العربية السنية بينما حول جيشه الى قوات إحتلال في تلك المناطق. كل ذلك دفع تلك المحافظات للإنتفاض فتحولت عمليا حاضنة ومساندة للعنف. لقد كانت القوى العربية السنية المعتدلة اول ضحايا نهج المالكي، علما بان تقويتها هو الضمان لوقف التطرف المذهبي الاسلامي.
ان تمتع إقليم كردستان بحالة من الإستقلال وفر لهم الحماية، الأمر الذي جعل من ابناء المحافظات العربية السنية ضحية المالكي الأساسية.
ولم يصغِ المالكي حتى لنصائح واشنطن بضرورة تعديل سياساته تجاه شركائه خاصة العرب السنة والكرد، وزاد الطين بلة بان عزل العراق عربيا واقليميا ليصبح عمليا أسير القرار الايراني، الذي له الفضل في الحيلولة دون نزع الثقة عنه برلمانيا عام 2012.
المبادرة المطلوبة:
تصحيح العملية السياسية
لن يكون سهلا تجاوز الأزمة عراقيا الا بتضافر جهود اطراف لم تحسن التنسيق سابقا، بدء بالتحالف الإسلامي الشيعي والقوى العربية السنية البرلمانية والأكراد.
لقد انطلقت العملية السياسية باعتماد تحالف الأحزاب الإسلامية الشيعية مع الأحزاب الكردية وصاغت هذه القوى الدستور والإنتخابات حسب مقاييسها وتم تغييب العرب السنة باجراءات حل الجيش واجتثاث البعث وغيرهما، ولكن سرعان ما وجدت الأحزاب الاسلامية الشيعية والكردية نفسها تهمش لصالح انفراد المالكي بالسلطة.
ان المطلوب هو مبادرة لتصحيح العملية السياسية ووضع ميثاق يكرس المصالحة الوطنية بمشاركة ممثلي كافة المحافظات والقوى السياسية تلك هي الخطوة الاولى في هذا الاتجاه، خاصة وان البرلمان انتهت ولايته وبالتالي تعتبر الحكومة مستقيلة، اذن الوقت مناسب لحكومة انقاذ وطني يشكلها اقطاب سياسيون لهم حضورهم واحترامهم في مناطقهم الشعبية برئاسة شخصية معتدلة تعمل من اجل تسوية سياسية.
من أهم مسؤوليات مثل هذه الحكومة فتح باب الحوار مع قوى المعارضة المسلحة العراقية بعيدا عن القوى ذات الأجندات الإقليمية والدولية باسم الخلافة الإسلامية وغيرها.
ثم ان هناك شخصيات عراقية من مختلف المشارب الأثنية والدينية التي يمكن ان تمد الجسور مع ابناء المحافظات المنتفضة.
المطلوب إعطاء ابناء تلك المحافظات خيارا حقيقيا في الإصلاح والمشاركة بعيدا عن العنف، وهذا ليس بالسهل بعد اتساع شقة الخلاف الطائفي والأثني. ومن هنا الحاجة لمساعدة دولية وبالذات من الأمم المتحدة والولايات المتحدة ومساعدة اقليمية من كافة دول الجوار واعتقد ان التعاون التركي ـ الايراني قد يصب في هذا الاتجاه، كما على الدول العربية وخاصة الخليجية ان لا تترك الامر للآخرين في انتظار ما سينجلي عليه. ان دعوة البعض لتدخل عسكري أمريكي او غيره لم تعد مناسبة، فليس هناك طرف مستعد للتورط باحتلال العراق مجددا او تحمل مسؤولية حسم الخلافات الطائفية فيه، كما ان اي تدخل عسكري اجنبي منفرد (التايمز اللندنية 12 حزيران/يونيو 2014/دخول 150 عنصرا من قوات القدس واخرى من «الصابرين» الايرانية للعراق لدعم المالكي)، لصالح طرف عراقي ضد اخر يتحول الى دعوة لحرب اهلية، كما ليس من مصلحة العراقيين ان يتحولوا الى حطب في صراع طائفي اقليمي.
ان المصالحة الوطنية العراقية ودرء العنف والتطرف لم تعد حاجة عراقية فحسب بل حاجة اقليمية ودولية، وما خشية العالم من انقطاع النفط العراقي الا أحد أوجه الأزمة.
وان الخطوات التي قد تضطر اليها الاحزاب الاسلامية الشيعية والتي سوف يعتبرها البعض تنازلات، يقابلها نجاح في الحفاظ على العراق ووحدته، فالحرب الأهلية لم تعد فزاعة بل هي حقيقة يجب تجنبها، كما ان التقسيم يمثل طريقا للهروب للأمام لا يتحقق الا بمزيد من القتل والخراب بما يجعل من الكل خاسرا، فالمطلوب تسوية سياسية يشعر كل طرف ان ربحه اكثر من خسارته ان كانت هناك خسارة بالنسبة للبعض.
مسؤولية القوى
الشعبية المنتفضة
ان حمل السلاح ليس هدفا بحد ذاته، بل يجب ان يكون وسيلة لغرض سياسي، من هنا الحاجة لبلورة اهداف واقعية وواضحة تخدم أبناء تلك المناطق التي سبق ان نزفت دما ومالا، بما يؤدي في المحصلة الى استرجاع العراق لعافيته واستقلاله.
فالحكمة السياسية لا تقل اليوم أهمية عن شجاعة حمل السلاح، والخوف كل الخوف ان تنقسم هذه القوى المسلحة كما حصل في سوريا وتترك المجال واسعا لمزيد من الأذى لابناء المحافظات المنتفضة لتصبح هدفا للبراميل المتفجرة والعقوبات الجماعية تماما كما حصل للفلوجة وما النزوح الجماعي عن الموصل الا خوفا من هذا الاحتمال، علما بان ما صدر في الموصل عن تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام من (وثيقة المدينة) التي تفرض اسلوب حياة متشددة على المواطنين يثير رعب الناس هناك.
لقد حان الوقت لان تخرج قيادات الفصائل المسلحة من الظل لتطل على الناس باسماء وشخصيات وبرنامج عمل قادر على تمثيل ابناء تلك المناطق بعيدا عن الغلو الطائفي او الديني والاستعداد لمد الجسور مع القوى العراقية في الوسط والجنوب وكردستان بهدف التوصل الى تسوية سياسية. ان آخر سلاح من الممكن ان يلجأ له الحاكم في بغداد هو اشعال الحرب الطــائفية مستغلا سلوكا خاطئا من بعض القوى العربية السنية لحشد العرب الشيعة باسم الدفاع عن الطائفية كما يحصل في سوريا.
ان الفرصة مواتية لإعادة لحمة وحدة عرب العراق، وهذه ليست دعوة لمواجهة الكرد أو غيرهم، ولكن ما يمكن ان يعيد للعراق عافيته هو تعافي العمود الفقري الذي يوحد العراق الا وهو عرب العراق، لأن إنقسام العراق مذهبيا يؤدي الى سقوطه وإنتهاء دوره وطنيا وإقليميا.
القدس العربي
إما المستبد العسكري القاتل وإما الإرهابي الإسلامي الذابح/ يوسف بزي
من الخمينية إلى البن لادنية، وما بينهما الصدامية والأسدية والقذافية، مسار مبتدئ من أولئك الضباط الصغار الريفيين وانقلاباتهم منذ سبعين عاماً، ومتصل بضغائن الطوائف وأحقاد المذاهب، كما برهاب الأقليات الفتّاك وبطش الأكثريات القاتل.. مسار مبتدئ بـ»ممانعة» دينية إسلامية عميقة، و»ممانعة» أيديولوجية فاشية فاجرة. ممانعتان ضد التاريخ وضد العالم، ولا تقترحان سوى التقاتل والتذابح، في ملحمة دموية لا تتوقف إلا بإفناء الذات والآخر، والإنتحار الشامل.
كان الرد من الممانعتين على الرؤيا التبشيرية الأميركية بإنهاء الديكتاتورية وبناء الديموقراطية في العراق، كحجر أساس ونموذج للمنطقة كلها، أن صنعتا أبو مصعب الزرقاوي، ومقتدى الصدر وأشباههما، وأغدقت إيران الحرسية بالمال والسلاح والمتفجرات على زمرها في العراق من الإنتحاريين والإرهابيين ومجاميع الهستيريا المذهبية، وانخرط النظام السوري بجمع وتأليف وتدريب وتمويل مجموعات القتل والتفجير من بقايا مجرمي صدام حسين، ومن متطوعي تنظيم «القاعدة» الآتين من كل جهات الأرض، منظماً تهريبهم إلى العراق، وإيوائهم في معسكراته، فيما تكفلت مؤسسات وجمعيات سلفية وأصولية مهووسة، في دول خليجية، بضخ أرقام فلكية من الأموال كما من المتطوعين، للقتال و»الجهاد».
تحت شعار «مقاومة الإحتلال»، ومن الفلوجة إلى البصرة، ابتدأت حرب الجميع على الجميع، مجزرة لمئات الآلاف لم تنته بعد. وكان محتماً الفشل الأميركي. لكن بالتأكيد كان ذلك الفشل يعني القضاء على مشروع بناء الدولة العراقية، وتمزيق المجتمع العراقي بأشنع الصور، لتحويله الفظائع اليومية إلى مجتمع مريض بالعنف، موقوف على اليأس، مهيأ للإنتحار، ولا يعتاد سوى على الموت وخيالات القبور.
لم تكن «مقاومة الإحتلال» سوى تعبير عن حرب مذهبية مصطنعة، وموغلة بالذبح القروسطي، تخوضها دول المنطقة كلها على الأرض العراقية، خوفاً من ذاك العراق الذي تخيله الأميركيون السذج. لقد تم فرض الهمجية من قبل تلك الممانعتين، على المشرق العربي، صوناً للنظام الخميني في إيران، وحفاظاً على الاستبداد في الدول الأخرى، وحماية لـ»فقه» الظلام والبداوة.
وكما لا شيء إسمه «تنظيم القاعدة» إلا كشعار تستطيع أي مجموعة متعصبة تبنّيه، أو حتى فرد مجنون إدعاءه، أو جهاز استخبارات استعارته («فتح الإسلام» مثالاً)، كذلك هي اليوم «داعش». هي الوحش أو المسخ الذي ولد من طبخة سم الممانعتين. هو العشائر والمذاهب والقتلة والمجرمون والسلفيون وقطاع الطرق والمتبطلون وطوابير المخابرات الكثيرة، وفتيان الشوارع، وطلقاء سجون الأنظمة وزنزاناتها، وبعثيون سابقون، وجنود سابقون، و»مجاهدون» مغتربون… بل لنقل أنهم بقايا مجتمعات تم تمزيقها والإيغال في دمها وفي فقرها وفي أمّيتها وفي مذلتها ومظلوميتها.
أنبثقت «داعش» من تلك الهوة السحيقة التي يقبع فيها العراق، حيث ما يسمى «نخبة» كانت قد سلمت دولتها للحرس الثوري الإيراني، وانكبت على أفضح أنواع الفساد والنهب، وأسست جيشاً مترعاً بمذهبيته المتعصبة، واستدامت فوضى متفاقمة منذ الإنسحاب الأميركي، وبنت استبداداً جديداً ينهل من تراث الصدامية البعثية، ويضيف إليه تمييزاً طائفياً فاقعاً، والأسوأ أنه يفتقد للإنضباط والسيطرة اللذين تميزت بهما الديكتاتورية البعثية.
إلى جانب «داعش» و»جبهة النصرة» أتت جحافل «عصائب أهل الحق» وألوية «أبو فضل العباس» وفرق «حزب الله»، سوية للتذابح، ولذبح الآخرين في الوقت ذاته. الإنقضاض على الثورات الشعبية، وعلى الأقليات وعلى الدولة وعلى المدن.. وعلى آبار النفط ومال النفط. حرب مذاهب وعشائر وإثنيات لا نهاية لها ولا أعراف فيها.
«داعش» هي انتصار ساطع لـ»الممانعة» بجناحيها، ولمقولتها: هذه المجتمعات لا تستحق الحرية ولا العدالة ولا المساواة ولا حتى الشفقة. لا شيء يحول بينها وبين تخريب العالم كله سوى ديكتاتورية إجرامية، لا تتورع عن استخدام الأسلحة الكيماوية وإبادة السكان. فانسوا مبادئ حقوق الإنسان والديموقراطية.. هؤلاء لا يعرفون الإنضباط إلا بالسوط والرصاص والإذلال اليومي والإعدام الفوري. بهذا المعنى، «داعش» هي رسالة بشار الأسد وحزب الله والحرس الثوري الإيراني وأيمن الظواهري ونوري المالكي وأبو بكر البغدادي، إلى العالم: هذه شعوب منذورة لـ»ولي أمر» سيّاف بطاش، وإلا انفلتت كالوحوش.
مسخ البربرية الذي ولد في أحضان الممانعة الفاشية والممانعة الدينية، ها هو يفتك بسوريا وبالعراق، تماماً كما أراد نوري المالكي تخويفاً، وأراد بشار الأسد ترهيباً، وأرادت إيران ابتزازاً.. وانجرفت فيها مجتمعات أهلية نحو تحطيم ذاتها، وتدمير جيوشها النظامية، وحرق اقتصادها، وتخريب ما تبقى من عمرانها، وتصحير بلادها.
سنّة وشيعة، تكفيريون وحزب اللهيون، سلفيون وأصوليون، يتولون اليوم تمزيق خارطة «سايكس ـ بيكو»، وبالتأكيد لا طمعاً بـ»وحدة» أو تكامل أو إلغاء لـ»حدود مصطنعة»، بل للعودة القهقرى نحو زمن الولاة والأمراء والسناجق والدويلات القائمة على السلب والنهب والغزوات والمجازر وقطع الرؤوس والأيدي وسبي النساء وفرض الجزية والأتاوات، وحيث السكان، كما يخبرنا التاريخ، ليسوا سوى عشائر وملل لا تتوقف عن التمرد والفوضى والتدمير.
«داعش» هي جواب الممانعة على ثورات الحرية: إما المستبد العسكري القاتل وإما الإرهابي الإسلامي الذابح. فلا تحلموا بغير ذلك.
المستقبل

 
الآثار المتناقضة سورياً للحدث العراقي/ بشير هلال
ليس تحويل الاهتمام الإعلامي عن الثورة السورية وسط تصاعد مناورات النظام الأسدي لاستعادة شرعية شعبية مُدَّعاة عبر الانتخابات الرئاسية المهزلة والعفو العام الملتبس، سوى أثر فرعي من آثار الحدث العراقي «العسكري» المتواصل.
فسواء تواصل هذا الحدث تحت عنوان «الدولة الإسلامية في العراق والشام» التي تروِّج بنفسها وبصورة اختزالية لتفردها بقيادته إلى جانب معظم الإعلاميْن الغربي والعربي لأسبابٍ مختلفة، أو اتخذ مسميات جديدة، وأسفر عن ترك كل غطاء وتعيين مكوناته بأسمائها الحقيقية، وسواء احتفظ التحالف المهاجم بالمدن التي كسبها واحتل أخرى جديدة أو تركها، فإنه علامة على نهاية نموذج دولة الغلبة المُكرَّس في مرحلة ما بعد الديكتاتورية الصدّامية، واختلال المعادلات التي استند إليها في اشتغاله الداخلي وتحالفه التبعي مع السلطة الإيرانية الخمينية. وهما أمران غُطِّيا أميركياً برغبة الرئيس باراك أوباما ووعده بتعجيل الانسحاب الأميركي وتوجهه إلى بدء التفاوض النشط مع إيران، واتخذا شكلاً سافراً عبَّر عنه التخلي عن «الصحوات» السنّية التي ساعدت الأميركيين في الحرب على «القاعدة» واستمرار استخدامات عملية «اجتثاث البعث» في إبعاد النخب السنّية وصولاً إلى دعم النظام الأسدي وترك الحبل على غاربه لميليشيات «أبو الفضل العباس» وسواها للقتال إلى جانب الأسد، بذريعة حماية المراقد والمقامات الشيعية.
وإذا كان طبيعياً أن تجتذب هذه الهزة الجيواستراتيجية غير المسبوقة منذ سايكس- بيكو معظم التركيز الإعلامي والديبلوماسي، حاجبة بذلك جزئياً التركيز السابق على الملفين السوري والأوكراني، فمما لا شك فيه، أنها ستترك بصمات استثنائية على الثورة السورية.
فالحدث العراقي إذا تسنى للتحالف الذي نظّمه تكريس سلطته في «العراق السنّي العربي»، قد يؤدي في ما يؤدي، ومرحلياً على الأقل، إلى نقل إزالة الحدود الرمزية مع سورية والتي أجراها في بعض المعابر، من حيزها الرمزي إلى المستوى السياسي الدستوري، بسبب الاستعدادات «الطبيعية» لمكوناته لمثل هذه الفرضية. وفي هذا السياق ركّزت وسائل الإعلام على نشر حساب «أخبار ولاية البركة – الحسكة» تقريراً مصوراً يُظهر مجموعات مسلحة تُزيل السواتر الترابية على الحدود تحت عنوان «تحطيم حدود سايكس – بيكو».
والحال أن توحيد جهتي الحدود في المناطق السنّية، لن يعني تحطيم حدود سايكس- بيكو فحسب، بل أيضاً وموضوعياً تساوقاً مع ما يُنسَب إلى النظام الأسدي وحليفيه الإيراني والروسي من خططٍ لجعل مهمة استعادة السلطة وترميم النظام مقتصرة على المناطق الداخلة في ما يسمونه «سورية المفيدة»… ما سيعني استخدام الحرب الدموية الشاملة التي يستمر النظام في شنها على المناطق غير الخاضعة لسيطرته لاستكمال نتائج وسائلها البربرية و «تحسينها» في إتمام إعادة هيكلة الديموغرافيا الطائفية والاجتماعية والجهوية و «الحدودية» وشرعنة التنفيذ العملي لتقسيمٍ متزامن للعراق وسورية تتعدَّى آثاره البلدين، ويمكن أن تمتد لاحقاً إلى لبنان وتركيا.
وتُسهّل هذا السيناريو طبيعة المكونات الثلاثة الداخلية المنخرطة في الهجوم على سلطة نوري المالكي والمؤسسات الرسمية. فلا موانع مبدئية تتعارض لديها مع هذا الاحتمال خارج الإكراهات الدولية والتدخل الإيراني الافتراضي، بل على العكس، بدءاً بالأيديولوجيا القومية لبقايا «البعث» والجيش الصدَّاميين وتنظيمات «المقاومة» وخلاياها النائمة مما نشأ خلال فترة الاحتلال الأميركي وتلقّح بإسلام «صوفي» متعاون مع منظماتٍ «قاعدية» الهوى، وانتهاءً بحلم «داعش» المُعلَن بدولة خلافة إسلامية.
بيْد أن الاستعدادات «الطبيعية» لا تكفي وحدها لحسم الوجهة التي سيتخذها التحالف الصانع الحدث العراقي والذي يصفه الإعلام بالجهادي في استسهالٍ للنسخ على صورة «داعش» في سورية. فالمكوّن البعثي – الجيشي في حاجةٍ أكبر إلى استعادة سلطة تعويضية أو جزء منها من حاجته إلى الثأر من «الأميركي». والمُكون العشائري الشعبي – السنّي في حاجةٍ إلى إزالة الاختلال في السلطة الفعلية وفي توزيع الموارد العامة. والمكونان، خصوصاً ثانيهما وهو أهمهما يعيشان في العالم الواقعي للمصالح المحلية المتعددة المستوى والعلاقات الإقليمية والدولية… بالتالي، فإن فرضية حتمية توجهه إلى إنشاء كيانٍ دولتي سنّي على جهتي الحدود العراقية- السورية غير أكيدة وستتعلق بميزان القوى داخل التحالف المذكور وطبيعة التطورات اللاحقة القابلة باتجاهي الحرب الأهلية المؤقلمة، أو إقرار صيغة جديدة للعلاقات والمحاصصة بين المكونات العراقية. وهذا سياقٌ لا يلغي فرضية أخرى هي تعميق فدرلة العراق وتطييفه عبر خلق إقليم يجمع المحافظات السنّية العربية بعد إجراء تعديلاتٍ ديموغرافية – اقتصادية نتيجة ميزان القوى الجديد.
الخطر الآخر للحدث العراقي على الثورة السورية، هو إعادة ضخ مزيد من الطابع الديني بالإكراه أو بـ «قوة المثال» وزيادة مكابدتها مع قوة تنظيم «داعش» وقدراته التعطيلية البالغة السلبية على المناطق الخارجة على سيطرة النظام، وإضعاف التوجه الأميركي- الغربي لزيادة دعم «الفصائل المعتدلة» في الثورة السورية.
أما الخطر الثالث للحدث العراقي، إذا لم يقترن بإنقاص الحصة المعلنة لـ «داعش» في صناعته اللاحقة، فهو خدمة محاولات إعادة تأهيل النظام الأسدي في «المجتمع الدولي» واستدراج عودة مفهوم «الحرب على الإرهاب» بقيادة أميركية يريدها «الممانعون» متصالحة مع التوسعية الخمينية. وتؤكد ردود الفعل الدولية حتى الآن، من اجتماع مجلس الأمن في وقتٍ قياسي إلى تصريحات أوباما أن عنوان التصدي لسيطرة «الإسلاميين المتطرفين» سيتصاعد لكنه لن يبلغ حد إرسال قوات أميركية أو غربية على الأرض، وسيكون مصحوباً بتطلب تنازلات سياسية من إيران وحلفائها في العراق. وأكد أوباما ذلك مواربة عندما قال إنه أبلغ المالكي «مباشرة» قلقه في شأن «نقص التعاون السياسي» داخل البلاد، وأنه خلال السنوات الماضية لم يرَ «ثقة حقيقية وتعاوناً يتطوران بين القادة المعتدلين من السنّة والشيعة».
ليس ذلك التناقض الوحيد في الآثار المحتملة للحدث «العسكري» العراقي. فبدء الإعلان عن إنشاء تشكيلات للدفاع عن السلطة العراقية الحالية و «المراقد»، واحتمال اضطرار إيران لسحب قسم من الميليشيات العراقية الداعمة للأسد و/ أو الاضطرار للتدخل المباشر، لن يكونا في مصلحة الأخير فيما قد تستدرج خطر انتقال التوتر المذهبي إلى مرحلة الانفجار الشامل.
الحياة

 

“داعش”… أو طالبان بر الشام على أبواب بغداد/ حازم الامين
لا يكفي القول إن العراق دولة فاشلة لنفسر الانهيار السريع لجيشه في الموصل وغيرها من مناطق شمال العراق وغربه. نعم، هو دولة فاشلة، لا بل إنه سجل سبقاً تاريخياً على هذا المستوى.
هناك واقعة مذهلة تفوق في رمزيتها هزيمة عشرات الآلاف من جنود الجيش وقادته أمام مئات من مقاتلي «داعش» وغيرهم من المجموعات المتشددة في الموصل، واقعة كاشفة لمستوى الاهتراء السياسي والإداري. إنها قرار سلطات الطيران المدني في مطار بغداد منع طائرة مدنية لبنانية من الهبوط لأنها لم تنتظر قبل اقلاعها نجل وزير النقل هادي العامري الذي تأخر عن موعد إقلاعها. الوزير القريب من رئيس الحكومة نوري المالكي بقي في منصبه على رغم أن الخبر أذهل العالم لفرادته. بقي بعدها الوزير وزيراً ورئيسه مرشحاً لولاية ثالثة.
الاهتراء والفساد قناتان رئيستان لطالما وظفتهما «القاعدة» في نشاطها. باكستان نموذج سبق العراق على هذا الصعيد، واليمن أيضاً. لكنهما ليسا شرطين كافيين لفعالية الاختراق. ثمة شرط ثالث، أمّنه المالكي في العراق، هو الانقسام الطائفي. فما رشح حتى الآن من الموصل هو أن «داعش» لم تكن لتصل إلى المدينة ولم تتسلم مفاتيحها لولا أن المالكي وجيشه كانا غريبين عن أهلها، وكان ثمة شعور سائد بأنهما أقرب إلى قوة احتلال منهما إلى رئيس وجيش وطني. صحيح أن المصلاويين لم يرحبوا بالقادمين، لا بل أشّر النزوح الكثيف الذي ترافق مع دخول «داعش» إلى أن هلعاً أصابهم، لكن الصحيح أيضاً أن القادة والجنود لم يطلقوا رصاصة واحدة في وجه القوة الجديدة المحتلة، ولم يشعروا بأن الموصل مدينتهم، وأن القضية تستحق معركة وتضحية. قالوا لـ «داعش»: هذه مفاتيح المدينة، وغادروا. قالوا لها هذه مدينتك وليست مدينتنا.
مَنْ كان في الموصل قبل دخول «داعش» إليها لم يكن جيشاً عراقياً. كان جيش المالكي. هذا الوصف دقيق وعلمي، وليس تقريبياً وتشبيهياً. الجيش كان يشعر بهذه الحقيقة، والسكان أيضاً. كانت الطائفية الشرط السياسي لبقاء المالكي في الحكم، واستكمل هذا الشرط بالفساد. والرجل كان يعرف أنه لن يحاسب طالما أنه ممسك بزمام الشرطين في بلد متنازع. نتائج الانتخابات النيابية تكشف على نحو مخيف هذه الحقيقة. ذاك أن أحداً لم يدفع فيها ثمن الفشل، لا بل إن الفاشلين، وهو على رأسهم، هم مَنْ أحرز النسب الأعلى من المقاعد.
لكن للفشل وللطائفية في العراق وظائف تتعدى حماية المواقع. لهذا الفشل وظيفة إقليمية أيضاً. فالحاجة الإيرانية لعراق فاشل تقتضي مد الفشل بأسباب البقاء. في لبنان كان الفساد أيضاً شرطاً لاستمرار نفوذ النظام السوري، وأينما حل الفساد حلت معه إمكانية الاختراق. والعراق المخترق في جنوبه ووسطه من ايران وفي شماله وغربه من «داعش» ما كان ليبلغ هذا المستوى من الاهتراء لولا ذلك.
صار صعباً اليوم أن نحدد من يقف وراء هذا الانهيار. فالعوامل متداخلة بحيث يصعب فرز الوقائع. ايران مستفيدة من دون شك من دولة «داعشية» تخترق الأنبار وتصل الى بر الشام، فهذه الولاية تجعل النفوذ الإيراني في محيطها وحولها حاجة أكيدة، وهذا أكثر ما يمكن أن تتمناه لعدوك. الوقائع غير المُفسَّرة حول ما جرى لا يمكن أن تكون بمنأى عن هذه الحقيقة. عشرات الآلاف من قادة وعناصر الجيش الذي يقوده المالكي، حليف ايران الأول في العراق والمنطقة، ينسحبون أمام مئات من مقاتلي «داعش»! ألا يدفع ذلك للتساؤل عن المصلحة الإيرانية من وراء هذه التراجيديا، المصلحة الممتدة من الشام وبيروت وصولاً إلى بغداد؟
ويمكن والحال هذه الذهاب في هذه الفكرة إلى أقصاها مع قليل من المبالغة، فإيران التي اخترعت «داعش»، وقالت للسنة هذا هو حزبكم، أفرحتها السهولة التي قبل بها خصومها حزباً اختارته لهم. هناك الآن قوتان وحيدتان في المنطقة. هناك ايران و»داعش»، ولا شيء غيرهما أو بينهما. في سورية تصح هذه المعادلة الى حد بعيد، وفي العراق هي حقيقة لم تعد قابلة للدحض.
ثمة ما هو غير قابل للفهم هنا. من هي «داعش»؟، المصلاويون غادروا مدينتهم حين قدمت، ولا عمق إقليمياً لها. هي اليوم أغنى تنظيم ارهابي في العالم، بعدما استولت على ودائع المصرف المركزي في الموصل. وهي اليوم أكثر تسليحاً بعدما ترك لها جيش المالكي عتاده الحديث في المدينة. تنظيم على هذا المقدار من التمويل والتسليح والتصميم، لا يُعرف له أب أو أم. لا بيئة محددة له، ومقاتلوه غرباء في البيئة التي يقاتلون فيها، وقائده لم يُعرف له صوت أو صورة أو هوية. «طالبان» لم تكن كذلك على الإطلاق. «طالبان» كانت البشتون كلهم، وكان ثمة صورة للملا عمر، وكان للأخير ذات يوم مقر وضيوف ونساء، وكانت وراءه باكستان.
لا توصيف اجتماعياً وسياسياً لـ «داعش» سوى أن ضباطاً سابقين في الجيش العراقي يتولون قيادتها العــسكرية. هي ابنة الفراغ الكبير الذي خلفه انكفاء الأميركيين والعرب عن العراق، وهي ابنة الرغبة الإيرانية في عدو قبيح. وأن تربي عدواً، فهذه خبرة ربما كانت فريدة من نوعها، ذاك أن المخابرات الباكستانية (آي أس آي) حين تولت تنشئة «طالبان» في المدارس الدينية في بيشاور ووزيرستان كانت بصدد تربية حليف، لا عدو. التجربة هنا مختلفة، لكنها لا تقل وضوحاً. انهزم جيش يفوق عدد أفراده الخمسين ألفاً أمام مئات من المقاتلين، وفُتحت للأعداء خزنة المصرف المركزي، وتُركت لهم معدات قتالية حديثة! المهمة كانت أسهل من مهمة الـ «آي أس آي»، حين تولت تنشئة «طالبان»، فالأمر في حينه تطلّب مدارس وأساتذة ومعسكرات تدريب.
الأرجح أن مهمة استعادة الموصل من «داعش» لن تكون مستحيلة. لكن هذا التنظيم بعد هذه المعركة لن يكون كما كان قبلها. في حوزته الآن موازنة لسنوات طويلة، وأسلحة متطورة، والأهم أن «نصره» في الموصل وديالى والأنبار سيتحول عنصر جذب كبير لكثيرين من شذاذ الآفاق ولغيرهم من المحبطين الباحثين عن نصر يُداوون به هزائمهم الخاصة والعامة.
«داعش» حقيقتنا المشرقية الجديدة.
الحياة
“داعش” أو الحرب الطائفية؟/ سعد كيوان
“داعش” في سورية، “داعش” في العراق، و”داعش” تذر بقرنها في لبنان، فهل يأتي قريباً دور الاردن؟
هل ترسم “داعش” الشرق الاوسط الجديد، أم أنها الاسم الحركي للحرب التي باتت الآن معلنة بين السنّة والشيعة؟ مقاتلو “دولة الاسلام في العراق وبلاد الشام” يتقدمون، بشكل مفاجئ وبسرعة لافتة، في شمال العراق، حيث أبصروا النور، ويهددون بالزحف على بغداد. وفي سورية، أقاموا موطئ قدم لهم في محافظة الرقة، وبدأوا بتطبيق شريعتهم وقوانينهم، منذ أكثر من سنة. وفي لبنان “اكتفوا”، حتى الآن، بعمليات تفجير وإرهاب، رداً على تدخل “حزب الله” في سورية، إلى جانب نظام بشار الأسد. فهل يرسل “حزب الله” مقاتليه لنصرة المالكي أيضاً؟
كل ذلك في ظل موقفٍ أقل ما يقال فيه إنه ملتبس لإيران، الحاضرة بقوة في هذه الدول الثلاث. فهي باتت حاضرة عسكرياً في سورية بشكل مباشر منذ اندلاع الثورة، في 15 مارس/ آذار 2011، وعبر ميليشياتها الشيعية، كـ”حزب الله” اللبناني، و”لواء أبو فضل العباس” العراقي، وغيرها من المجموعات. وفي العراق، عبر السلطة نفسها التي يتزعمها نوري المالكي، وداخل ألوية الجيش، والآن، تهدد بالتدخل العسكري المباشر، مثل الولايات المتحدة، لمواجهة خطر دخول “داعش” بغداد، وسيطرتها على بلاد الرافدين.
“المالكي يشنّ، منذ أشهر، حملته على الفلوجة، بذريعة محاربة “داعش”، ووصل به الأمر إلى استنساخ نموذج البراميل المتفجرة الذي ابتدعه الأسد ضد السوريين. فهل المطلوب حرف المواجهة السلمية عن مسارها، ووضع “داعش” في الواجهة، لكي يتم تحويلها إلى “حرب ضد الإرهاب”.”
رسمياً، تقاتل “داعش” النظامين، العلوي في سورية، والشيعي في العراق، الحليفين التابعين لنظام الملالي في طهران، إلا أنها تقف عملياً في سورية إلى جانب النظام، وإنْ بطريقةٍ غير مباشرة، بدليل أنها لا تقاتل النظام، وإنما تشتبك باستمرار مع “جبهة النصرة”، المولودة من الرحم نفسه، ومع “الجيش السوري الحر”، وتصدر فتاوى تشرّع التعاطي فقط مع العلويين، بحجة ضرورة عدم التعامل مع “المرتدين” و”الكفار”. ناهيك عن أن معظم قيادييها كانوا معتقلين في السجون السورية، وأطلق النظام سراحهم بعد اندلاع الانتفاضة. في المقابل، لا تهاجم قوات الأسد مقاتلي “داعش”، ولا تقصف المناطق التي تسيطر عليها. طبعاً، إن وجود “داعش” و”النصرة” وغيرها من الحركات التكفيرية، ساعد الأسد على تسويق معركته على أنها “حرب ضد الإرهاب”، وليست معركة الشعب السوري، من أجل الحرية والكرامة.
وفي العراق، أخلى قرار الانسحاب الأميركي الساحة لإيران التي تمددت، بشكل كبير وواسع، في مفاصل الدولة، عبر أجهزتها الأمنية والعسكرية، وذهبت بعيداً في دعمها وتغطيتها حكومة نوري المالكي، زعيم حزب الدعوة الذي راح يستأثر بالسلطة على الصعد كافة، إلى درجة أنه أغضب حتى حلفاءه من المكونات الشيعية الأخرى. وعلى الرغم من عدم تمكنه من الحصول على الأغلبية في الانتخابات الأخيرة، إلا أنه يسعى، بكل الوسائل، إلى أن يمدد بقاءه للمرة الثالثة رئيساً للحكومة، غير أن “داعش” فاجأت الجميع بهذا الظهور القوي، وركوبها موجة الاحتجاجات السنّية المستمرة والمتصاعدة منذ أكثر من سنة ونصف السنة، أي في نهاية 2012. فالمالكي يشنّ، منذ أشهر، حملته على الفلوجة، بذريعة محاربة “داعش”، ووصل به الأمر إلى استنساخ نموذج البراميل المتفجرة الذي ابتدعه الأسد ضد السوريين. فهل المطلوب حرف المواجهة السلمية عن مسارها، ووضع “داعش” في الواجهة، لكي يتم تحويلها إلى “حرب ضد الإرهاب”، كما حصل في سورية، وأن تتحول انتفاضة مناطق الشمال إلى انتفاضة مسلحة؟
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، بقوة، هو حول النوايا الحقيقية للقيادة الإيرانية، وهل إنها تسعى إلى مواجهة شاملة في العراق وسورية، مع هذا التنظيم، بحجة محاربة الإرهاب، وكسب الولايات المتحدة إلى حانبها؟ فقد هدد الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بعمل عسكري ما، إلا أنه سبق وهدد بشار الأسد، وأعلن ساعة الصفر، ولكنه لم يفعل. كما أن طهران نفسها، ومعها المالكي والأسد يعرفون تماماً أن “داعش”، بدورها، تلعب لعبة تصدّر الحراك السني. علماً أن “داعش” هي إحدى أضلع تنظيم “القاعدة” الذي تستضيف إيران قياديين منه.
فهل تهدف طهران، بالتالي، إلى خلط الأوراق، وإحراج دول الخليج، عبر تحويل المواجهة السنية ـ الشيعية، الكامنة تحت الرماد منذ سنوات، إلى مواجهة علنية مفتوحة على امتداد المنطقة. وهل إن الأسد والمالكي يستأهلا كل هذه المغامرة، أم أنهما مجرد أداة تستعملهما طهران، لكي تتمكن من إحكام قبضتها على المنطقة؟
العربي الجديد

 
العراق : سياسات المالكي أم مبالغات داعش؟
المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات
طرح الانهيار السريع لقوات الجيش والشرطة العراقية في الموصل وفرارها من مواجهة المسلحين سيناريوهات عديدة في محاولة الاقتراب من تفهم الحدث وتفسيره، تراوحت بين: قراءة تآمرية، نظرت إلى الحدث باعتباره خطة محكمة يديرها المالكي لضمان ولاية ثالثة بالتنسيق مع الولايات المتحدة وإيران. قراءة تهويلية، تضع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام في المركز باعتباره قوة إرهابية صاعدة. وقراءة تهوينية، نظرت إلى الحدث باعتباره محصلة طبيعية لحركة الاحتجاجات الشعبية في المحافظات السنيّة. لا ترى هذه الورقة أن أيا من هذه القراءات تفسّر ما حصل في العراق خلال الايام القليلة الماضية.
المالكي والولايات المتحدة، حدود المؤامرة
يستند سيناريو المؤامرة على الاعتقاد بأن المالكي يسعى لضمان ولاية ثالثة عبر فرض حالة الطوارئ بسبب استعصاء الحل السياسي عقب الفوز الهزيل لائتلافه في الانتخابات التي جرت في 17 أبريل/نيسان الماضي في ظل تصاعد عمليات العنف في البلاد، فعقب الهجوم على الموصل فجر الثلاثاء 10 يونيو/ حزيران، 2014، وإعلان محافظ نينوى أثيل النجيفي سقوط الموصل في قبضة “الدولة الإسلامية في العراق والشام” طالب المالكي البرلمان “إعلان حالة الطوارئ في البلاد”، وفقاً لقانون الطوارئ العراقي الصادر في عام 2010، الأمر الذي يسمح للمالكي تجميد العمل بالدستور والقانون، وفرض الأحكام العرفية في البلاد، تحت ذريعة استعادة السيطرة الأمنية.
و قد عزز فرضية التواطؤ لدى البعض اتهام رئيس حكومة إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني حكومة المالكي بعدم تجاوبها مع نداءات حكومته قبل يومين من سقوط الموصل، للتنسيق بهدف توفير الحماية للمدينة. في الاثناء استذكر البعض تصريحات سابقة لوزير العدل العراقي حسن الشمري عندما ذكر أن هروب مئات المعتقلين من سجني أبو غريب والتاجي في 29 تموز/ يولو 2013 ومعظمهم ينتمون إلى تنظيم “القاعدة” كان مدبراً بمعرفة مسؤولين عراقيين كبار، وبأن الهدف كان اقناع واشنطن بالتخلي عن خططها لضرب نظام الرئيس السوري بشار الأسد، عبر تعظيم دور القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. أنصار نظرية المؤامرة يستندون أيضاً إلى أن المالكي لا يزال خيارا أميركيا وإيرانياً مفضلاً في عراق ما بعد الاحتلال التابع لإيران والذي بات فيه المكون العربي السني مهمشا ومعزولا ويعامل كأقلية.
يقوم الإطار الجامع بين الولايات المتحدة والمالكي على تبني سياسات “الحرب على الإرهاب”، وفق مقاربة عسكرية أمنية تتعامل مع نتائج ومخرجات منظومة الفساد والاستبداد وغياب الشفافية والعدالة، دون أن تلتفت إلى الأسباب والشروط الموضوعية المنتجة لظاهرة التطرّف العنيف التي توصم بـ “الإرهاب”، فقد استخدم المالكي “قانون الإرهاب” للتخلص من معارضيه وخصومه السياسيين، وتدعيم سلطته الدكتاتورية، واستثمر “قانون المساءلة والعدالة” الذي حل مكان قانون “اجتثاث البعث”، في تهميش واستبعاد سياسيين بارزين من السنة بحجة وجود ارتباطات مزعومة لهم بمراتب عليا في حزب البعث السابق.
وقد تغاضت الولايات المتحدة عن عمليات التهميش والإقصاء الطائفي التي مارسها المالكي تحت ذريعة “الحرب على الإرهاب” و ذلك لضمان مصالحها بتأمين “الاستقرار. وعقب انطلاق الثورة السورية في منتصف آذار/ مارس 2011، وبروز الجماعات الجهادية السنية وتصاعد نفوذ تنظيم القاعدة، باتت مسألة محاربة الإرهاب تهيمن على مجمل الرؤى والتصورات، الأمر الذي دفع المالكي إلى التمادي في سياساته الرعناء في التعامل مع الحركة الاحتجاجية السنيّه السلمية نهاية عام 2012. لقد اتخذ المالكي قرارا حازما بعدم الاستجابة ولو جزئيا لمطالب الاعتصامات السلمية والعمل على فضها بالقوة. ووصل في ذلك حد قتل 50 محتج سلمي وجرح أكثر من 110 في مدينة الحويجة في محافظة كركوك بتاريخ 23 نيسان/ ابريل 2013. وقبل أحداث الحويجة، اصطدمت قوات الأمن بالمتظاهرين في مناسبتين، في الفلوجة في 25 كانون الثاني/يناير، وفي الموصل في 8 آذار/مارس ما أدى إلى مصرع سبعة أشخاص في الحادثة الأولى وشخص في الحادثة الثانية، والتي تعامل معها برعونة واستخفاف باعتبارها تمردا يقوده “الصداميين والبعثيين والإرهابين”، كما لجأ المالكي إلى تكتيكات أكثر خطورة في التعامل مع الاحتجاجات السلمية، من خلال الادعاء بأن المتظاهرين ترعاهم تركيا ودول الخليج، والإصرار على أن بينهم إرهابيين ينتمون إلى حزب البعث السابق، أو أنهم مدفوعين بالعداء الطائفي للشيعة، وقد عمل ذلك على تحويل الطائفة الشيعية نحو قدر أكبر من الراديكالية، الأمر الذي بلور قناعة لدى المحتجين بعدم جدوى النضال السلمي، وهو ما استثمره تنظيم البغدادي بتوسيع دائرة التجنيد وتكثيف نطاق عملياته المسلحة.
لقد حذر قادة العشائر العربية المالكي من مغبة محاولة إعادة احتلال الأنبار. ولكنه لم يستمع لهم، وبدا وكأن السياسي المقبول على المالكي هو من يقبل بهيمنة الشيعية السياسية ويعمل في خدمتهاـ وقد عبر العرب السنة بأشكال مختلفة عن يأسهم من العملية السياسية، ومن عجز ممثليهم الذين شاركوا فيها، وفقد الأخيرون قواعدهم الشعبية.
وعلى الرغم من سياسات المالكي الطائفية إلا أن الولايات المتحدة وافقت خلال زيارته إلى واشنطن مطلع تشرين الثاني / نوفمبر 2013، على بيع حكومته كميات كبيرة من الأسلحة المتطوّرة بما فيها طائرات الاستطلاع وصواريخ هلفاير، بذريعة محاربة “الإرهاب” وعدم السماح بانتقال الفوضى إلى الدول المجاورة. كما تتفاوض واشنطن مع بغداد على تدريب قوات خاصة مشتركة، وتعمل على تأسيس قواعد لطائرات بدون طيار بحجة التصدي لتنظيم “القاعدة”.
ومع تحول الاحتجاجات السلمية إلى مسلحة بدأت في الرمادي ثم توجت بالسيطرة على الفلوجة، جرى تأسيس مجالس عسكرية للعشائر والسكان عموما تعامل معها المالكي باعتبارها إرهابا تقوده القاعدة والدولة الإسلامية في العراق والشام، وساندته في هذا الولايات المتحدة ثم مجلس الأمن الدولي الذي أعرب في 11 كانون ثاني/ يناير 2014 عن دعمه لجهود الحكومة العراقية في الأنبار ضد ما أسماه العنف والإرهاب، مدينا هجمات تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، دون الإشارة إلى الفاعلين الشعبيين والأهليين الآخرين، ولا إلى المطالب العادلة لاهالي هذه المناطق.
“داعش” كقوة صاعدة
تستند القراءة التهويلية إلى الاعتقاد أن انسحاب القوات الأمريكية عام 2011 من العراق، والذي تزامن مع بدء فعاليات حركات الاحتجاج الثوري في العالم العربي ودخوله إلى سوريا منتصف آذار/ مارس ثم وصوله إلى العراق نهاية 2012 عمل على ولادة ثالثة لتنظيم القاعدة، وبعث الحياة في جسد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام وتكوين سلالة جديدة أكثر عنفا وأشد فتكا، فقد استثمرت دولة البغدادي الظروف الموضوعية التي تمثلت بالثورة السورية، والحركة الاحتجاجية التي شهدتها المحافظات العراقية السنية الست المنتفضة؛ وهي الموصل والأنبار وديالى وصلاح الدين، وأجزاء عدة من بغداد وكركوك.
وترتبط ولادة “داعش”، وهي التسمية المختصرة لجماعة الدولة “الإسلامية” في العراق والشام، بتمرد الفرع العراقي للقاعدة على القيادة المركزية للتنظيم بزعامة الظواهري، فقد أبرزت الثورة السورية التي ولدت من رحم “الربيع العربي” عددا من الخلافات الإيديولوجية والتنظيمية التاريخية بين القاعدة المركزية وفروعها الإقليمية. وجاء إعلان أبو بكر البغدادي أمير “الدولة الإسلامية في العراق” في التاسع نيسان/ إبريل 2013 عن ضم “جبهة النصرة” في سوريا إلى دولته لتصبح “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، تتويجاً حتمياً للخلافات التاريخية بين الفرع والمركز والتي تم احتوائها إبان زعامة بن لادن، وقد تطور الخلاف بعد أن أصدر زعيم “جبهة النصرة” أبو محمد الجولاني في اليوم التالي لإعلان الدمج في العاشر من نيسان/ إبريل خطابا يرفض فيه الامتثال للدمج والانضمام لـتنظيم “الدولة”، ومعلنا ارتباطه بالتنظيم المركزي للقاعدة وتأكيد بيعته الصريحة للظواهري. ولم تفلح جهود الظواهري في احتواء الخلاف حين أصدر قراره القاضي بتحديد الولاية المكانية للفرعين في 9 حزيران/ يونيو 2013، والفصل ببطلان الدمج وحل “دولة العراق والشام الإسلامية” مع بقاء “جبهة النصرة” و”دولة العراق الإسلامية” كفرعين منفصلين يتبعان تنظيم القاعدة.
وقد تدرّج الخلاف بين الفرع العراقي للقاعدة والتنظيم المركزي منذ بيعة الزرقاوي لبن لادن وصولا إلى “إعلان الدولة”، فأجندة القاعدة تهدف منذ الإعلان عن تأسيس “الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين” عام 1998إلى قتال الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا باعتبارها حامية للأنظمة العربية الاستبدادية، وراعية لحليفتها الاستراتيجية إسرائيل المغتصبة لفلسطين من جهة، والسعي لتطبيق الشريعة وإقامة الخلافة من جهة أخرى. فمواجهة الغرب ورفع الهيمنة الخارجية، والتصدي للاستبداد وتمكين الشريعة داخليا هما ركنا القاعدة الأساسيين.
أما أجندة الدولة الإسلامية في العراق والشام فتقوم على أولوية مواجهة النفوذ والتوسع الإيراني في المنطقة ومحاربة “المشروع الصفوي” كما تصفه، وخصوصا بعد رحيل القوات الأمريكية عن العراق، فالأساس الهوياتي (السني –الشيعي) هو المحرك الرئيس لسلوك الفرع العراقي بينما الأساس المصلحي الجيوسياسي هو المحرك الرئيس للقيادة المركزية للقاعدة، أما تمكين الشريعة فهو الهدف المشترك للطرفين، إلا أن توقيت الإعلان عن قيام الدولة في العراق فجّر خلافات جرى تجاوزها آنذاك نظرا للظروف الموضوعية والأسباب العملية، وساهم وجود بن لادن على رأس التنظيم بما يمتلكه من كاريزما على تدبير الاختلاف والتعايش الحذر، على الرغم من الانتقادات التي لم تنقطع لنهج وممارسة الفرع العراقي المتعلق بتكتيكاته القتالية من خلال التوسع في استخدام العمليات الانتحارية وتحديد دائرة الاستهداف.
وعلى الرغم من انضمام الفرع العراقي لتنظيم القاعدة المركزي ومبايعة بن لادن، إلا أن المؤسس الأول للتنظيم العراقي أبو مصعب الزرقاوي (أحمد فضيل الخلايلة) عمل على تأسيس شبكته الممتدة الخاصة المستقلة بدءا من الأردن وتنظيم “بيعة الإمام” مرورا بأفغانستان وإنشاء “معسكر هيرات” وختاما في العراق، حيث عمل على توسيع دائرة نفوذه وتأثيره عقب احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق عام 2003، وأعلن على تأسيس جماعة “التوحيد والجهاد” في أيلول/ سبتمبر 2003، وقد أعلن عن تأسيس “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين” عقب بيعة بن لادن بتاريخ 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2004، بعد مقتل الزرقاوي في 7 يونيو/ حزيران 2006، أعلن عن تأسيس “دولة العراق الإسلامية” في 15 تشرين الثاني/ أكتوبر 2006 بزعامة أبو عمر البغدادي (حامد داود الزاوي)، وعقب مقتل أبو عمر البغدادي في 19أبريل/نيسان 2010، إلى جانب وزير حربه، أبوحمزه المهاجر، تولى الإمارة أبو بكر البغدادي (“أبو دعاء” إبراهيم عواد البدري) بتاريخ 16 أيار/ مايو 2010، وهي الحقبة التي شهدت تحولا في البنية التنظيمية للفرع العراقي بعد سيطرة عدد من العسكريين الذين عملوا في المؤسسة العسكرية في عهد صدام حسين، ومنهم العميد الركن محمد الندى الجبوري المعروف بالراعي والذي استلم قيادة أركان الدولة بتكليف من المهاجر، وهو الذي وضع العميد الركن سمير عبد محمد المعروف بـ (حجي بكر) نائباً له، والذي أصبح بعد أشهر قائدا لأركان الدولة بعد مقتل الراعي.
سيطرت “داعش” على مساحات شاسعة غرب العراق وخصوصا محافظة الأنبار وشرق سوريا خصوصا محافظة الرقة، ولم يعد التنظيم يحفل برضا القاعدة والجماعات الإسلامية المسلحة، إذ يتعامل معها بالقوة المميته باعتبارها جماعات مرتدة وصحوات، وخصوصا عقب الصدام المسلح المفتوح منذ انفجاره في 3 كانون الثاني/ يناير 2014م، مع الفصائل الإسلامية المسلحة وفي مقدمتها جبهة النصرة، وجيش المجاهدين، والجبهة الإسلامية، وجبهة ثوار سوريا، فضلا عن تشكيلات الجيش الحر وقوى المجتمع المحلي.
يبلغ عدد أعضاء التنظيم حوالي 15 ألف مقاتل، وهو يستقطب النسبة الأكبر من المقاتلين الأجانب، ويتوافر على موارد مالية كبيرة تعتمد على فرض الإتاوات في مناطق نفوذه في العراق، وعلى التبرعات التي تأتيه من شبكة منظمة في دول عديدة، وشهدت موارده نموا كبيرا عقب دخوله سوريا من خلال سيطرته على موارد رئيسية تركز معظمها في المنطقة الشرقية، كالنفط، فقد استولى التنظيم على عدة حقول للنفط والغاز في الرقة والحسكة ودير الزور، وعلى قطاع الزراعة، حيث استولى التنظيم على صوامع الحبوب في الحسكة، وهو يتحكم بإدارة المنتجات الزراعية واستثمارها، وتعتبر الفدية من مصادر تمويله التقليدية، فقد اعتقل التنظيم عددا من السوريين والأجانب وأفرج عنهم بعد أخذ فدية مالية.
على الرغم من قوة تنظيم “داعش” الذاتية، إلا أن قوتها الحقيقية موضوعية، فالمشاكل السياسية والاقتصادية في العراق وسوريا توفر بيئات حاضنة للتطرف، فالطبيعة السلطوية والطائفية لنظامي الأسد والمالكي المسندة من إيران وانحراف طبائع الصراع إلى شكل هوياتي طائفي بين السنة والشيعة وفر بيئة مثالية خصبة للتعبئة، وجاذبية إيديولوجية للتنظيم.
المعارضة السنيّة، انبعاث الحركات المسلحة
تستند القراءة التهوينية في تفهم حدث سقوط الموصل وانهيار المنظومة العسكرية والأمنية باعتباره محصلة طبيعية لحركة الاحتجاجات الشعبية في المحافظات السنيّة المنتفضة، إذ إدت سياسات المالكي الطائفية الفجة إلى فقدان السياسيين السنة الذين لم ينضموا لها لمصداقيتهم، وإلى تحوّل الحركة الاحتجاجية السلمية التي انطلقت مع نهاية 2012 نفسها إلى حركات مسلحة، فالسياسات الهوياتية الاستبدادية الفاسدة التي طبعت مسارات الدولة منذ بداية الاحتلال عملت على إذلال المكون العربي السني، ولم تجلب محاولات العرب السنة الانخراط في العملية السياسية سوى مزيد من التهميش والشعور بالظلم والتمييز، وقد تنامت هذه المشاعر وتعززت عقب اقتحام قوات المالكي خيم المعتصمين على الطريق الدولي الرابط بين بغداد وعمان ودمشق، ققد استخدم المالكي كافة الوسائل الممكنة المغلفة بالقانون والشرعية لاستبعاد خصومه السياسيين، وفي ترسيخ سلطته الفردية من خلال توليه كافة الملفات الحيوية في الدولة. فهو بالإضافة لتولّيه منصب رئاسة الوزراء يتولى المسؤولية عن وزارة الدفاع والداخلية والأمن الوطني، ويتحكم بتفسير وتأويل وتطبيق جملة من القوانين بدءا بقانون الإرهاب الذي بات سيفا مصلتا يستخدمه للتخلص من معارضيه وخصومه السياسيين، وتدعيم سلطته الدكتاتورية، كما حدث مع نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي الذي بات ملاحقا باعتباره إرهابيا، مرورا بالتعامل مع وزير المال رافع العيساوي واعتقال حراساته، ورئيس البرلمان أسامه النجيفي وأتباعه، وصولا إلى اعتقال النائب أحمد العلواني وقتل شقيقه، وانتهاءا بقانون المساءلة والعدالة الذي حل مكان قانون اجتثاث البعث، ومن خلاله تم تهميش واستبعاد سياسيين بارزين من السنة بحجة وجود ارتباطات مزعومة عليا بحزب البعث السابق، كما أن قوات المالكي كانت تنتشر بشكل استفزازي في سائر الأحياء السنيّة في بغداد، وفي المحافظات التي يقطنها السنة في الأنبار، وصلاح الدين، ونينوى، وكركوك، وديالى.
بعد أن تفجّرت الأوضاع في الأنبار وسيطرت قوات العشائر على الفلوجة والرمادي، تشكلت مجالس عسكرية مكونة من بعض أفراد الجيش العراقي السابق، وعناصر عشائرية مسلحة وآخرون من بقايا جماعات المقاومة العراقية أمثال: “الجيش الاسلامي”، و”حماس العراق”، و”كتائب ثورة العشرين”، و”جيش المجاهدين”، و”أنصار السنّة”. ولا يجوز تجاهل المكون الشعبي في الانتفاضة العراقية السلمية السابقة والمسلحة الحالية.
خلاصة
تلامس القراءات الأحادية تلامس جانبا من الحقيقة ، إلا أنها تبقى خاطئة لهذا السبب بالذات. والقراءة التعددية المركبة تؤكد على أنها تتكامل في رسم صورة أكثر دقة. فرواية المالكي السلطوية الطامحة بولاية ثالثة تصر على أنها تواجه تنظيم القاعدة، وبأن “داعش” هو من يسيطر وحده على الأنبار والموصل، وبأنه يحارب الإرهاب الممتد من العراق إلى سوريا، وهو بذلك يتماهى مع السياسات الأمريكية المتعلقة بمحاربة “الإرهاب”، وتأمين “الاستقرار” لضمان مصالحها، ولا شك بأن سياسات المالكي الأمنية العنيفة المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية وإيران في الوقت ذاته دفعت القوى السنيّة السلمية المطالبة بالعدالة والديمقراطية والحرية ومحاربة الفساد والاستبداد إلى الاقتناع بعدم جدوى المطالبات السلمية والانتقال إلى المقاومة العسكرية في صد الهجوم، الأمر الذي استثمره تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام لتوسيع نفوذه وملء الفراغ والدخول في تحالفات موضوعية مضمرة مع القوى المسلحة السنيّة في مواجهة عدو مشترك يمثله الحلف المالكي-الأمريكي، إلا أن السؤال الأهم هل ستصمد التحالفات السابقة أم أنها ستبدأ بالتفكك والبحث عن بدائل أخرى بعد تبين فشل المالكي. والسؤال الثاني هو سوف تدرك القوى العربية السنية التي عانت الأمرّين منذ الاحتلال أن داعش هي في النهاية عبء حقيقي معاد للديمقراطية والمدنية على حد سواء، في العراق كما في سورية، وأنه لا بد من طرح المطالب العربية بصياغة ديمقراطية، وأن الموقف ضد الطائفية السياسية يجب أن يكون ضد كل طائفية سياسية في العراق، وفي هذا المشرق العربي عموماً.

 

العراق: “العملية السياسية” إنتهت/ عبد الامير الركابي
مهما تكن حصيلة سقوط مدينة الموصل، واختراق بعض مدن غرب العراق من قبل تحالف “داعش-النقشبندية”، فإن “العملية السياسية الطائفية” القائمة فقدت قدرتها على الاستمرار. على الأقل وفق القواعد والآليات التي ظلت متبعة حتى الآن. هذا في حال استبعاد احتمال التدخل الخارجي والإقليمي، ومايمكن أن يترتب في حال حصوله من تداعيات بعيدة، وأكثر خطورة من المتوقعة، بعد الإهتزاز العميق الذي طرأ فجأة على التوازنات الداخلية.
ومهما تكن النتائج التي سيسفر عنها الوضع الحالي، فإنها على أي حال لن يتم بلوغها بسهولة. وستستغرق وقتاً وجهداً لأسباب ناجمة عن حالة الأطراف المتصارعة، سواء تلك التي تدخل المدن وتُسقط بعضها، أو التي انهارت وتسعى بحماس للتجمع مرة أخرى. فالمسلحون لا يمتلكون بالفعل من الناحية العسكرية مقومات إستدامة زخم انتصاراتهم على امتداد مساحة كبيرة؛ تتطلب أعداداً هائلة من المقاتلين، وأنواعاً من الأسلحة، وتغطية جوية، وخطوط إمداد لتأمين الحفاظ على الأرض التي يتم احتلالها. وبدورها، فإن القوات الحكومية وجيش السلطة المركزية، لا يتوفر على اللازم من الجاهزية، أو هو غير قادر على تأمينها بالسرعة المطلوبة، حتى وإن أُعلن النفير العام، أو ارتكز للفتاوى. هذا مع العلم أنه بالأصل ضعيف القدرات ولا يتمتع بالتماسك اللازم، وغير مدرب كما يجب، ولايملك الوقت لذلك. كما أن بنيته لا تتيح له خوض المعارك التي فرضها عليه المسلحون، واللذين يمزجون بين أساليب حرب العصابات والحروب التقليدية. يضاف إلى ذلك براعة استخبارية، واستخدام ملفت للحرب النفسية، وهذه أسباب موضوعية من شأنها أن تجعل المعركة الحالية ليست قصيرة بأي حال.
الأغلب أن متغيرات جوهرية، سوف تطرأ على قواعد اللعبة السياسية المتبعة منذ قيام “العملية السياسية المحاصصاتية” حتى اليوم. فحالة الطوارئ لم تعلن، لعدم عقد جلسة البرلمان لهذا الغرض عند منتصف الأسبوع الماضي بسبب عدم اكتمال النصاب. إلا أن الممارسة العملية العامة، سوف تأخذ هذا المضمون، وسيتراجع إلى الحد الأدنى دور البرلمان والكتل السياسية الأخرى. وقد أعلن المالكي باعتباره “القائد العام للقوات المسلحة” الإستنفار الأقصى في صفوف القوات المسلحة. وهو على الأغلب سيلجأ إذا دعت الضرورة، كما يراها، إلى تعطيل الدستور وتسيير البلاد بالأحكام العرفية. فإن فعل، سيُفتح الباب أمام آلية جديدة تتعدى أسس وقواعد الحالة المتوافق عليها اليوم. وبهذا تكون المجابهة الراهنة ونتائجها وسياقاتها، قد جعلت منه المتصرف الوحيد عملياً. بينما سيتضاءل باضطراد دور ومكانة القوى المنافسة، أو عموم أركان “العملية السياسية الطائفية”، مع احتمال ظهور حلفاء جدد، يضعون أيديهم بيد المالكي، ويشكلون كتلة أو كتلاً غير القائمة، أو تلك التي تشكلت وتبلورت، خلال حقبة “العملية السياسية المحاصصاتية”، المنتهية اليوم.
لاطريق وسطاً، فالذي يتقدم اليوم هو مستوى آخر غير المستوى السياسي المحاصصاتي البحت، وقد انتقل الوضع وتأمين استمراره والحفاظ عليه، نحو خانة مختلفة من الممارسة. وسيترتب على المالكي أن يخوضها بأدوات ليس من المؤكد أنه يملك منها ما يتناسب مع حجم ونوع وتفاصيل ماهو مفروض عليه من مصاعب وتحديات. كذلك فإنه من غير المستبعد أن يفرز المشهد المتنامي منذ الآن، خيارات لم تكن قابلة للتداول، أو أنها لم تكن مبررة أو قابلة للتبني دولياً وإقليمياً من قبل. مثل دعوة الانتقال بالبلاد إلى نوع آخر من النظام السياسي، أو من “العملية السياسية الوطنية” المتعدية للطائفية وللمحاصصة.
لا طريق يمكن تصوره والحالة هذه، سوى الدعوة إلى “المؤتمر الوطني العام”، أي اجتماع كافة المكونات والتيارات والقوى العراقية، لأجل التفاهم على صيغة العيش المشترك الجديدة. وذلك بعد سحق وانهيار الدولة الحديثة الإكراهية، إثر الاحتلال عام 2003، وبعد تعثر وعجز “العملية السياسية الطائفية”. وهو خيار نموذجي وإن كان يحتاج إلى دعم، يصل إلى تقبل نشوء عملية سياسية موازية، إذا تطلب الأمر. مما سيستدعي جهداً أوسع وأبعد من قدرات القوى العراقية، ذات التوجهات الديموقراطية الفعلية والسلمية.
وفي هذه الأجواء المتنامية، يبدو الخيار الأخير ملجأ لتقليص السياسات الرامية لتوجيه الأحداث الأخيرة، وجهة طائفية بحتة. بحيث تُرهن عملية الرد على ماجرى ويجري، بالاستنفار وفق المحركات المعتادة في العملية السياسية الحالية. حيث استمر التأجيج الطائفي كمحرك أساسي الذي رافق العملية الانتخابية، مع التغيير الحالي المسلّح. واذا ربط ذلك بالمحركات الطائفية مع مفعول انقلابي، فهو خطر على ما تبقى من الروابط الوطنية ومقومات وحدة الكيان.
المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى