مقالات لكتاب عرب تناولت “داعش”
التحالف و«داعش» والثمن/ غسان شربل
موقف باراك أوباما شديد الوضوح. لن يرسل الجنود الأميركيين ليقاتلوا في الفلوجة أو الرقة. الجيش الأميركي ليس قوة للإيجار. الرئيس غير راغب وغير قادر أيضاً. لن يحرر المحافظات السنية العراقية من «داعش» لتستأنف إيران الإمساك بالقرار في بغداد. لن يسترجع المحافظات السورية من «داعش» لتعود مجدداً إلى قبضة النظام السوري. المساهمة في اقتلاع «داعش» مشروطة بتغييرات فعلية في المسرح الذي شهد إطلالتها وتمددها.
يخاطب أوباما أهل المنطقة بما معناه هذه مشكلتكم أولاً وأنتم أول ضحاياها. لسنا على استعداد للقتال نيابة عنكم. سندافع عن مصالحنا لكننا لن نتطوع لدفع الأثمان الباهظة. نحن نساعدكم وندعمكم. وقبل ذلك عليكم اتخاذ قرارات واضحة مهما كانت صعبة أو مكلفة.
يذهب أوباما أبعد في التفاصيل. ولد «داعش» في المناطق السنية. لمكافحته لا بد من دور نشط لأبناء البيئة نفسها. السني المعتدل يجب أن يحارب السني المتطرف. شيء يشبه فكرة الصحوات العراقية مع اختلاف الظروف. الحكومات في مسرح القتال يجب أن تكون حكومات جامعة. أي أن تكون جزءاً من الحل لا من المشكلة. لا يساعد في المعركة استقدام ميليشيات شيعية لتحرير مدن سنية من «داعش». الجيوش التي ستشارك يجب ألا تكون متهمة بأنها من لون واحد أو أنها تقاتل لتكريس هيمنة مكون على مكون آخر. إشراك الجيوش المتهمة سيُعطي التنظيم فرصة الحصول على تعاطف في البيئة التي عانت سابقاً من ارتكابات الجيوش الفئوية.
لن يجد التحالف الدولي صعوبة في العثور على شركاء من الدول السنية الرئيسية في المنطقة. موقف مجلس التعاون الخليجي واضح في هذا السياق. الموقف السعودي شديد الوضوح عكسته تحذيرات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لدى استقباله عدداً من السفراء. ندد بممارسات الإرهابيين ولفت إلى أن خطرهم مرشح للامتداد سريعاً إلى أوروبا وأميركا. مصر والأردن شريكان طبيعيان في مثل هذا التحالف. وتركيا التي سهلت تدفق المتطرفين إلى سورية ستكون مضطرة إلى التعويض عما فعلته. لكن السؤال هو ماذا سيطلب جون كيري من الحلفاء السنة وما هي حدود أدوارهم ومسؤولياتهم؟.
الحرب الجدية على «داعش» لا بد أن تشمل ملاذه الآمن في سورية. هنا العقدة. تباطأت أميركا في دعم «الجيش الحر» وتباخلت عليه. لم يعد قادراً أن يكون شريكاً أساسياً في الحرب على «داعش». إعادة تأهيله تستلزم وقتاً بعدما التهم «داعش» الكثير من مواقعه فضلاً عن «جبهة النصرة». الجيش النظامي هو القوة الرئيسية القادرة على المشاركة في الحرب ضد «داعش». لكن هل سيأتي التحالف لإنقاذ النظام الذي كان اعتبره فاقداً للشرعية وليقدم بذلك هدية إلى إيران وروسيا؟ وهل يقبل النظام بحل سياسي كان يرفضه ليتمكن من تقديم أوراق اعتماده للتحالف الجديد؟. واضح أن عدم إشراك الجيش النظامي السوري في الحرب على «داعش» يعني أن الحرب في الحلقة السورية ستكون طويلة. واضح أيضاً أن الدعوات إلى إشراكه تصطدم حتى الآن بمعارضة أميركية وأوروبية علاوة على صعوبة عودته إلى مناطق أخرج منها وعاقبها.
لإيران مصلحة في اقتلاع «داعش». لكن شروط اقتلاعه تقلص بالضرورة من نفوذ إيران في المنطقة. أي حكومة متوازنة وواسعة التمثيل في العراق تقلص قدرة إيران على إدارة العراق. أي حل سياسي في سورية يقلص قدرة إيران على التفرد بإدارة الوضع السوري خصوصاً أنه يعني بالضرورة تغييراً في موقع سورية فضلاً عن خروج «حزب الله» من الأراضي السورية. لهذا ليس سهلاً إشراك إيران وليس بسيطاً تجاهلها.
التحالف لاقتلاع «داعش» مستحيل من دون قيادة أميركية كاملة. هذا يعني نهاية الانكفاء الأميركي الذي أعقب الانسحاب من العراق. التحالف نفسه يشكل هزيمة لروسيا التي لم تنجح في التحول جزءاً من الحل وظلت جزءاً من المشكلة. يضاف إلى ذلك أن فلاديمير بوتين خلع حديثاً الأقنعة التي ارتداها طويلاً. إصراره على زعزعة استقرار أوكرانيا ووحدة أراضيها أيقظ صورة روسيا العدوانية ووتر علاقاتها بالاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي وأميركا.
مهمة اقتلاع «داعش» ليست مستحيلة لكنها ليست سهلة. فعملية الاقتلاع ستؤدي في حال نجاحها إلى تعديل في المشهد على مستوى الهلال الملتهب وداخل خرائطه الممزقة. والخيار جلي إما كارثة استمرار «داعش» وإما دفع الثمن الضروري لاقتلاعه. السؤال مطروح على مستوى المنطقة لكنه شديد الإلحاح على طاولات المرشد الإيراني والرئيس السوري ورئيس الوزراء العراقي المكلف فضلاً عن طاولة زعيم «حزب الله».
الحياة
حيدر عبادي» آخر في سورية لحشر «داعش»؟/ جورج سمعان
القضاء على «داعش» لن يكون سهلاً وسريعاً. لن تكون الحرب الدولية خاطفة كما كان صعود التنظيم صاعقاً ومفاجئاً. والرئيس باراك أوباما كان صائباً بإعلانه أن ليس لإدارته استراتيجية بعد. قيام «الدولة الإسلامية» جبّ كل السياسات السابقة. أسقط حسابات وأهدافاً ومواقع وأربك علاقات. والتحالف الذي تسعى إليه أميركا من دون بنائه تعقيداتٌ جمة تفوق ما يتوقع المتفائلون بإنهاء هذه «الظاهرة» بين ليلة وضحاها. لن ينجح مثل هذا البناء إذا اقتصر على الميدان العسكري والأمني. سيقوم أعرج على ساق واحدة ما لم تواكبه تفاهمات سياسية كان غيابها في أساس ما آلت إليه أوضاع بلاد الشام كلها. ولا مبالغة في هذا المجال إذا كان الجميع ينتظرون صورة الحـــكومة العراقية الجديدة. ستؤشر تركيبتها وعنــــاصرها وتوزيع «الحصص» فيها إلى مدى اقتناع جميع اللاعبين، داخليين وخارجيين، بأن صفحة قديمة طويت ولا يمكن تكرار النموذج السابق. لا مجال لتأجيل أو مماطلة أو تذاكٍ في استجابة رغبات كل الــمكونات السياسية والمذهبية والأثنية. أي التفاهم على صيغة لا بد من أن تلزم الجميع بخفض توقعاتهم وتقديم تنازلات… إذا كان على العراق أن يتعافى ويستعيد الحد الأدنى من وحدته.
إن قيام حكومة عراقية تحظى بقبول جميع المكونات يعني ببساطة أن السياسة السابقة التي نهجتها النخب الشيعية الغالبة، ومن خلفها إيران، باتت من الماضي. وان هناك مقاربة مختلفة وسياسة عقلانية وواقعية. وهو ما سيسهل قيام تفاهم داخلي على مقارعة «داعش». سيشجع كل القوى، خصوصاً منها السنّية المترددة، على الانضمام إلى الكتل والعشائر التي قررت محاربة التنظيم. العامل الأساس في التفاهم المتوقع إذاً سياسي بامتياز، وليس عسكرياً. الخصم العنيد لأهل السنّة والذي حُمّل مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في العراق خرج من مكتب رئاسة الوزراء. لكنه لا يزال رقماً في اللعبة السياسية لا يمكن تجاهله. وكان خروجه خطوة باركها جميع العراقيين وكل المعنيين إقليمياً ودولياً. حتى بادرت إيران إلى تغيير فريقها الذي كان يـــتولــى إدارة الشأن العراقي. وإذا سارت الأمور كـــما هو مقدر لها سيعني ذلك أن ثـــمة مجالاً للتـــفــاهم بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة، كما حصل عشية الحرب الأميركية على أفغانستان ثم في الحرب على نظام الرئيس صدام حسين إذا… تــلاقت الأهــداف أو كانت المخاطر والتحديات مشتركة. وسيعني أيضاً ان ثمة مجالاً للتفاهم أيضاً بين طهران وجيرانها الذين تعاطفوا ويتعاطفون مع مطالب المحافظات والكتل السنية.
النموذج العراقي هذا يظل يتيماً، إذا قام وتوافرت له أسباب البقاء. وقد ينجح في تطويق انتشار «داعش» واحتواء خطره الداهم. لكنه لن يمهد للقضاء عليه. الإرهابيون سيجدون في مناطق نفوذهم السورية ملاذاً آمناً لإعادة تنظيم صفوفهم والإنطلاق مجدداً عبر الحدود المفتوحة بين البلدين. لذلك لا بد من إيجاد شريك سوري لخوض معركة مماثلة لتلك التي تخوضها «البيشمركة» وقوات النخبة العراقية وقد تنضم إليها مكونات أخرى. ولن يكون أمام التحالف الدولي والإقليمي سوى الاعتماد على الفصائل المعتدلة في المعارضة السورية التي خاضت معارك طويلة مع التنظيم. ولن تكون هذه قادرة على رفع التحدي ما لم تتلق تسليحاً نوعياً، ومدداً مالياً يمكنها به إغراء الملتحقين بـ «الدولة الإسلامية». وهنا يطرح السؤال عن موقف إيران التي تبدي حماسة شديدة للمشاركة في هذه الحرب الكونية. لكنها من جهة ثانية تمد نظام الرئيس بشار الأسد بكل أسباب الصمود. وهو ما يعيق لقاءها مع المطالبين برحيل هذا النظام من قوى محلية وخارجية.
ليست هذه الإشكالية الوحيدة. فالتعويل على القوى السنية المعتدلة في سورية والمنطقة المتأهبة لمواجهة «دولة الخلافة» يستدعي شروطاً وتنازلات من الآخرين. أرجأ تحركها حتى الآن صمت الولايات المتحدة وأوروبا على ما تعرض له أهل السنة في كل من العراق وسورية ولبنان. وأغضبها «الكـــيل بمكيالين»: الغرب لم يحرك ساكناً حيال ما يــــتعرض له السوريون من قتل وتهجير ليسا أقل فظاعة مما يجري على أيدي «الدواعش». بل لم يتحرك طوال شهرين بعد موقعة الموصل لمواجهة «الدولة الإسلامية»، إلا عندما شعر بتعرض مصالحه للخطر في كردستان. وهال هذه القوى أيضاً «تغول» طهران وسياسة «التمكين» عبر حضورها ونفوذها الثقيلين في قلب المنطقة العربية وضفافها.
الكرة في ملعب إيران أيضاً. فإذا كانت جادة في قتال «داعش» في سورية كما في العراق، لن يكون أمامها سوى تعميم النموذج العراقي. وترجمة رغبتها يكون باستجابة رغبات أساسية لأهل السنة في بلاد الشام. ويمكن في هذا الإطار أن يكون الحوار الذي انطلق بينها وبين المملكة العربية السعودية عاملاً مساعداً. فهي تدرك مدى قدرة الرياض وتأثيرها في قسم واسع من القوى في سورية كما في العراق ولبنان، خصوصاً بعد التطورات في الفضاء المحيط بشبه الجزيرة. لقد تبدد جزء غير يسير من المخاوف التي استبدت بالسعوديين والخليجيين عموماً في السنوات الثلاث الماضية. أقلقتهم أحداث «الربيع العربي» والمتغيرات التي حملها خصوصاً في مصر. شعر «مجلس تعاونهم» بأنه بات تحت حصار خانق. تعرى من أسباب القوة، فيما الشريك الأميركي لا يعير اهتماماً لمخاوفهم ومصير أمنهم ومصالحهم. فالحدود الشمالية والشرقية تشتعل اضطراباً، وإيران تجول وتصول وتتمدد عبرها وخلفها. وكذلك الأمر في اليمن حيث تتمدد الحركة الحوثية.
تبدل المشهد ويتبدل تدريجاً: مصر عادت إلى الفضاء الخليجي وعاد إليها أهل الخليج. وصمد الأردن الذي شكل على الدوام منطقة عازلة بين شبه الجزيرة وأحداث الشام. والاجتماع الوزاري الخليجي قبل يومين خطوة على طريق إعادة اللحمة إلى هذا التكتل العربي. وحدته تمنح المملكة وشركاءها في المنطقة مزيداً من القدرة على الحركة. كان من الصعب قبل الأحداث الأخيرة في العراق وسورية أن يجلس الطرفان السعودي والإيراني إلى الطاولة. كان مطلوباً من الجمهورية الإسلامية أن تقدم تنازلات في ساحات عدة فيما هي تحمل كماً من الأوراق. ولم تكن المملكة والحال هذه في موقع مقايضة. تبدل المشهد اليوم في القاهرة وعمان. حتى أهل السنة في العراق وسورية الذين عولوا طويلاً على جيرانهم العرب، وراقبوا بما يشبه «الحياد» ولكن على مضض، تقدم قوى الإرهاب التي تقاتل في الدرجة الأولى الشيعة والقوى المرتبطة بإيران، أثبت «غيابهم» أو «تغييبهم» عن سلطة القرار أنهم قادرون إلى حد ما على قلب المعادلة القائمة. ولا شك في أن انصافهم في تشكيلة حيدر العبادي سيكون مقياساً لما ستكون عليه وجهة الحرب المقبلة الشاملة، خصوصاً في الجبهة السورية.
الظروف القائمة في العراق تختلف بالطبع عن مثيلتها في سورية. وانخراط إيران في التفاهم على الحكم الجديد في بغداد أملاه في الدرجة الأولى الخوف من تداعيات الحدث «الداعشي» ليس على موقعها في بلاد الرافدين فحسب بل في سورية ولبنان لاحقاً. وسيكون موقفها قريباً مما يجري في سورية مؤشراً مفصلياً إلى مدى تبـــدل حقــــيقي في سياستها حيال المنطقة برمتــها. في حين لا يشي الحدث اليمني بمثل هذا التـــبدل، إلا إذا كانت الغاية مقايضة تحد عبرها من الخسائر المحتملة. فقد قفز الحوثيون فجأة إلى مقدم الصورة. كأن المطلوب أن توضع هذه الورقة على الطاولة بيد طهران للمساومة، على حد ما قال الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي من أن الجمهورية الإسلامية تريد أن تضع صنعاء في مقابل دمشق!
حتى الآن لا يبدو أن تعويم النظام السوري من أجل المساهمة في الحرب على «داعش» وارد في سياسة جميع الساعين إلى التحالف لبناء الحرب المنتظرة. لعل أكبر المحاذير في التنسيق مع هذا النظام الذي يسوق الجميع اتهامات إليه بأنه كان وراء استدراج كل قوى التطرف إلى سورية، أنه سيقود إلى مزيد من المناصرين لـ «الدولة الإسلامية» في عموم بلاد الشام. وسيدفع أهل السنة في العراق إلى مد يد العون إلى «أهلهم» في سورية، ما دامت الحدود سقطت بين البلدين. وما دام «الخصمان» المتواجهان يخوضان المعارك في ساحة واحدة من جلولاء إلى عرسال اللبنانية مروراً بالرقة ودير الزور. لذا لا مفر أمام إيران سوى استكمال انعطافتها التي بدأت في العراق، إذا باتت فعلاً مقتـــنعة بوجــوب نهج سياسي مختلف. فهل يكون رأس النظام في النهاية هو الثمن؟
لن يكون سهلاً اقناع القوى التي تقف خلف الرئيس بشار الأسد بالتخلي عنه بعد كل ما جرى في البلاد. الأسهل والواقعي العودة إلى المسار السياسي بقيام حكومة جديدة تشارك فيها كل المكونات تنشر مظلة من الأمان والاطمئنان إلى مستقبل هذه المكونات وأقلياتها خصوصاً. ولا يضير مثل هذا التغيير إيران. ذلك أن الكتلة التي دعمتها طوال الأزمة لا بد من أن تكون حاضرة في الحـــكم. ما لم يتوافق المتحفزون لمنازلة «داعش» على حيدر العبادي «السوري» لن تجدي الحرب على «الدولة الإســـلامية». وما لم تبادر الجمهورية الإسلامية وحلفاؤها وخصومها العرب إلى بناء استراتيجية واقعية مشتركة سينتظرون طويلاً استراتيجية الرئيس أوباما الغائب الأكبر منذ دخوله البيت الأبيض… كيــفما تلفتوا: من ليبيا إلى مصر وفلسطين، ومن اليمن … إلى أوكرانيا مروراً بالشرق ووحوشه الإرهابيين!
الحياة
المنطقة على موعد مع حرب عمياء سياسياً/ خالد الدخيل
هناك إجماع شعبي، أو على الأقل ما يشبه الإجماع، على محاربة الإرهاب في كل بلدان العالم، وأولها البلدان العربية. وعلى رغم ذلك، فإن هذه الحرب لم تؤدّ إلى النتيجة المنتظرة. على العكس، الإرهاب في تزايد، وعدد الميليشيات في تصاعد، والملتحقون بهذه الميليشيات وذلك الإرهاب في تزايد أيضاً. الإحصاءات الأوروبية والأميركية والعربية عن الإرهاب بأنواعه تؤكد هذه النتيجة. بدأت الحرب على هذا الإرهاب عام 2001، وذلك بعد هجمات11 أيلول (سبتمبر). كم كان عدد التنظيمات والميليشيات الإرهابية آنذاك؟ لم يكن مشهوراً منها آنذاك إلا تنظيم «القاعدة».
الآن، وبعد 13 عاماً على بداية الحرب على الإرهاب لم يعد من الممكن إحصاء عدد التنظيمات والميليشيات الإرهابية، السني والشيعي منها. المشهد في العراق وسورية ولبنان واليمن يؤكد ذلك. بات «القاعدة» الذي تسيّد المشهد حتى أواخر القرن الماضي مجرد فصيل يتنافس مع فصائل كثيرة في ساحة صراع، لم يعد من المستحيل إمكان توسعها مع الوقت، ومع تعقد الصراعات وتعثر السياسات الإقليمية والدولية، أصبحت هذه التنظيمات بميليشياتها وتطلعاتها عابرة للدول، لا تعترف بالحدود السياسية. ربما أن «داعش» هو من ألغى هذه الحدود عملياً، وأعلن عما يسميه دولته الإسلامية في العراق وسورية معاً، لكن قبل «داعش» كان «حزب الله» اللبناني أعطى لنفسه عام 2012، وبقوة السلاح، حق عبور الحدود اللبنانية للقتال في سورية، دفاعاً عن النظام السوري. عندما فعل ما فعل لم يكن «داعش» مرتبطاً بدولة بعينها، لأنه غير معترف به من أي دولة. على العكس، هو في حال حرب مع كل الدول تقريباً. أما «حزب الله»، فهو مسجل رسمياً كحزب من أحزاب الدولة اللبنانية، لكنه يتصرف بمعزل عن قوانين هذه الدولة ومصالحها. يتصرف كدولة بذاته، مرتهن في مواقفه ونشاطاته وسياساته لدولة أخرى هي إيران. مرجعية الحزب ليست في بيروت، أو في ساحة النجمة، أو السرايا وقصر بعبدا. مرجعيته السياسية والأيديولوجية في طهران. وليس أمام سلطات الدولة اللبنانية، وبقوة إرهاب السلاح أيضاً، إلا الخضوع لذلك، والتظاهر بأنه إما لم يحدث، أو أن حدوثه مبرر بحكم الظروف السائدة.
يكشف مثال «داعش» و «حزب الله» أن للإرهاب الذي يضرب المنطقة ويهدد مفهوم الدولة والاستقرار فيها، وجهين متكاملين: إرهاب متفلت من أية قيود سياسية رسمية، لأنه لا يتمتع بغطاء سياسي رسمي على المستويين الإقليمي والدولي، وهذا هو الإرهاب السنّي، كما يتمثل في «جبهة النصرة» و «داعش» و «القاعدة في جزيرة العرب»، على سبيل المثال وحسب. هذا الإرهاب يضع نفسه في مواجهة جميع الدول تقريباً.
على الجانب الآخر هناك الإرهاب الشيعي، الذي يحظى بتبنّ ورعاية إقليميين تحت قيادة إيران، فالأحزاب الشيعية في حكومة العراق إما أن لها ميليشيات خاصة بها، مثل «جيش المهدي» التابع لرجل الدين مقتدى الصدر، و «فيلق بدر» الذي أسسه محمد باقر الحكيم في إيران أثناء حكم النظام العراقي السابق، أو أنها تدعم وتتبنى ميليشيات شيعية ليست تابعة لها رسمياً، مثل «عصائب أهل الحق»، و «كتائب أبو الفضل العباس». وتشارك هذه الميليشيات الجيش العراقي في حربه على «داعش».
في سورية لا تسمح طبيعة النظام بنشوء ميليشيات محلية على غرار ما حصل في العراق ولبنان، وهذا فضلاً عن أن الأغلبية السنية في المجتمع السوري جعلت هذا الخيار ينطوي على مخاطر لا يحتملها النظام، ولذلك اضطر بعد الثورة للاستعانة بالميليشيات التابعة لإيران مثل «حزب الله» اللبناني و «عصائب أهل الحق» وغيرهما، إلى جانب ميليشيا الشبيحة التي شكّلها من الطائفة العلوية، التي تنحدر منها العائلة الحاكمة في سورية.
في ظل هذا المشهد الذي يتقاطع فيه مفهوم الدولة مع الإرهاب، وتتداخل الطائفية مع مفهوم الحقوق الإنسانية والسياسية، صارت للتنظيمات المنتشرة هياكل إدارية ومالية وسياسية، وصار لها مقاتلون وحقوق وأجهزة علاقات عامة وفضائيات، وموازنات، وتحالفات ورعاية إقليمية، وربما دولية، وأتباع يتزايدون مع الوقت.
حتى الآن لا يبدو أن «الحرب على الإرهاب» التي يجري التخطيط لها، تأخذ في اعتبارها الواقع الطائفي والسياسي للإرهاب كما هو، وأنه المنبع الذي يغذي هذه الظاهرة، فأميركا لا تريد أن تتعثر مفاوضاتها النووية مع إيران، وتخشى من تفاقم الوضع السياسي للحكومة العراقية، ولذلك تتجنب طرح موضوع الميليشيات الشيعية، بل قبلت بتوفير غطاء جوي لمحاربة هذه الميليشيات «داعش» في العراق. إلى جانب ذلك، تخشى واشنطن من أن توسيع مفهوم الإرهاب سيضعها في الحال السورية أمام خيارين ترفضهما حتى الآن: إما دعم النظام السوري في حربه على هذا التنظيم، وهو نظام تقول إنه فقد شرعيته، وإما إعلان الحرب عليهما معاً. الدول العربية تتجنب بدورها توسيع مفهوم الحرب على الإرهاب، لأنها تخشى أن يفرض عليها هذا المنحى إصلاحات سياسية وفكرية تحاول تجنبها. أما إيران فلا يقل مأزقها صعوبة، فهي من ناحية تريد حصر الحرب على الميليشيات السنية، وإبقاء الميليشيات الشيعية التابعة لها خارج الاستهداف. لكنها تدرك الآن أن هذا الخيار هو الذي خلق حاضنة شعبية لـ «داعش» وغيره في المجتمعات السنية داخل العراق وسورية وخارجهما، وبالتالي سمح لـ «داعش» بإعلان «الدولة الإسلامية» على حدودها، وقطع خط إمدادات طهران للنظام السوري. هزيمة «داعش»، وهي أمر مرجح أمام تحالف إقليمي ودولي، لن تلغي هذه المعادلة، بل ستعززها.
على رغم كل ذلك، يبدو أن الحرب المزمع إعلانها ستكون على «داعش»، وليست على الإرهاب. ماذا عن «جبهة النصرة»، و «الجبهة الإسلامية»، و «حزب الله»، و «عصائب أهل الحق»… والقائمة تطول كثيراً؟ ستكون حرباً ناقصة ومتحيزة، وبالتالي حرباً مشوهة. وهنا ستكون الكارثة. قبل ذلك كانت الحرب على «القاعدة»، التي انتهت بإضعاف هذا التنظيم الدولي لكن لتحل محله مئات التنظيمات. ها هي أميركا التي حاربت «القاعدة» في باكستان وأفغانستان، تعود الآن مجبرة لتحارب «داعش» في العراق، ولم تقرر بعد كيف ستحاربه في سورية. والسؤال الذي يجب أن يقلق الدول العربية قبل غيرها، وأن ينطلق منه التخطيط هو: لماذا لا تزال الحرب على الإرهاب متعثرة على رغم ضرورتها، وعلى رغم مشروعيتها، وعلى رغم ضراوتها وتكاليفها الباهظة، وعمرها الزمني الطويل؟ بل لماذا يبدو من المرجح، وهذا هو الأسوأ، أن منحنى الإرهاب سيستمر في خطه التصاعدي، وإنْ هُزم «داعش»؟
مهما كانت الإجابة فإنها لا يمكن أن تتجاهل حقيقة أن الدولة في المنطقة، خصوصاً الدولة العربية، تواجه تحدياً خطراً لم تعرفه في تاريخها الحديث ولا قبل هذا التاريخ. وأن التحدي الأخطر في ذلك هو هذه التنظيمات والميليشيات العابرة للدول التي تجاهد بسلاحها وفكرها وقيمها وتحالفاتها، الشعبية والرسمية، كي تجعل من نفسها البديل لهذه الدولة. انطلاقاً من ذلك يمكن القول إن فشل الحرب على الإرهاب يعود لفشلها في عدم الربط العضوي بين الطائفية والإرهاب، وعجزها عن استهداف مفهوم التنظيم والميليشيا العابرة للدول بهويته السنية والشيعية. وفشلت هذه الحرب لأنها بقيت أسيرة لبعدها وهدفها الأمني. وليس غريباً والحال هذه إن بقي الخطاب الديني الذي يشرعن للإرهاب يحظى بشعبية واضحة، لأنه في نظر أتباعه ليس كذلك، وإنما هو خطاب ينافح عن وجود هذه الطائفة أو تلك، وعن حقوقها الدينية والسياسية.
بعبارة أخرى، فشلت الدولة في أن تقدم البديل السياسي والفكري والقانوني الذي يجعل الجميع يستغني عن هذا الخطاب، وعن التنظيمات التي يفرزها وتقوم على أساس منه. فشلت في أن تكون دولة للجميع، تحمي حقوقهم وهويتهم وأمنهم. ثم تعود الولايات المتحدة مرة أخرى لمحاربة الإرهاب من داخل هذا الإطار الفاشل.
لم يعد خافياً أن هذه الحرب تركز على توظيف بشاعة الإرهاب، وضلالاته الفكرية، وبشاعة ممارساته لتبرير واقع سياسي فقد صلاحيته. ماذا لو أن الإرهاب ليس إلا صيغة عنيفة للتعبير عن الاحتجاج على هذا الواقع؟ احتجاج على مجتمعات تتغير، وأجيال تتعاقب، ونظام دولي لا يستقر على حال، وأسواق تنمو من دون توقف، وأفكار تترى وتتراكم في الوعي واللاوعي، وتكنولوجيا تسابق الزمن، في مقابل جمود سياسي إسلامي عربي لا يعرف التغيير، ولا يعترف بأي تغيير. كيف يمكن تفسير أن عشرات، بل مئات الآلاف من الشباب العربي والمسلم، يأتون حتى من أوروبا وينخرطون في تنظيمات سنية وشيعية؟ يرمون بأنفسهم إلى التهلكة، ويضعون أرواحهم على أكفهم بالانضمام إلى هذه التنظيمات وهي متوحشة في رؤيتها، ودموية في سلوكياتها، بعضها يحلم بإقامة الخلافة، والبعض الآخر بإقامة ولاية الفقيه. أي حرب على الإرهاب لا تنطلق من هذه الاعتبارات ستكون حرباً فاشلة، ولن تضيف إلا مزيداً من المرارة والأحقاد، ومزيداً من الطائفية، والتطرف، ومن الميليشيات، والدمار، كما فعلت الحرب التي قبلها. بات من الواضح أن الدولة العربية التي قامت بعد الحرب العالمية الأولى تمر بحال تصدع وانهيار، ولا أحد يريد أن يواجه هذا الواقع كما هو. بدلاً من ذلك يتم الهرب إلى حرب مشوهة لن تقود إلا إلى استكمال هذا التصدع والانهيار، ومن دون ضوء يشير إلى بديل في نهاية النفق.
* كاتب وأكاديمي سعودي
الحياة
داعش.. لكمة من أوباما أم ضربة قاضية؟/ نجاة شرف الدين
كان رئيس هيئة الأركان الأميركي، الجنرال مارتن ديمبسي، واضحاً في قوله إنه لا يمكن القضاء على داعش في العراق، من غير التصدي له في سورية. خلط هذا الكلام الأوراق الأميركية، وأثار جدلاً واسعاً عن معنى توسيع الضربات الجوية إلى خارج العراق، وإمكانية الدخول في الصراع السوري الداخلي، لا بل تأتي خطوة ضرب داعش لمصلحة النظام السوري، وهو ما لا تريده الولايات المتحدة، وبالطبع ما ترفضه عدة مراكز أبحاث، وكتّاب وإنتلجنسيا، يرون أنفسهم، وخصوصاً بعد انتشار صورة الصحافي الأميركي، جيمس فولي، وهو يُعدَم بوحشية، أسرى بين النظام وداعش، في وقت تراجعت فيه المعارضة “المعتدلة” أو ما يمثّله الجيش السوري الحر على الأرض.
الدراسات والتحاليل والمقالات لا تتوقف، لا سيما في الصحافة الأميركية والغربية، عن ظاهرة داعش وامتداداتها وسرعة تمدّدها وسيطرتها على مساحةٍ تمتد إلى 230 ألف كيلومتر مربع بين سورية والعراق، كما حول تهديدها الوجودي لكل المنطقة. وقد أصبح هذا الهاجس الداعشي، إعلامياً وسياسياً، يشكل تهديداً، أيضاً، للولايات المتحدة، بعدما أجمعت أجهزتها الأمنية والاستخباراتية، وفي مقدمتها “سي آي إيه”، إلى اعتباره كذلك، خصوصاً بسبب مجموعات أجنبية انضمّت للجهاد مع داعش.
“أصبح هذا الهاجس الداعشي، إعلامياً وسياسياً، يشكل تهديداً، أيضاً، للولايات المتحدة، بعدما أجمعت أجهزتها الأمنية والاستخباراتية، وفي مقدمتها “سي آي إيه”، إلى اعتباره كذلك، خصوصاً بسبب المجموعات الأجنبية التي انضمت للجهاد مع داعش”
طائرة الاستطلاع فوق سورية، والتي أعلنت عنها القيادة الأميركية، لا تعدو كونها عملية استطلاع، في وقت لا يزال أوباما يدرس فيها الخطط الممكنة، ما ترك المجال لمنتقديه، وفي مقدمتهم السيناتور الجمهوري جون ماكين، الذي اعتبر أن ما يقوم به أوباما لا يعدو كونه “وخزاً” لا معنى له. أوباما، الذي واجه انتقادات حتى من الديمقراطيين لقوله: “إن البيت الأبيض لا يملك استراتيجية في التعامل مع داعش”، قالت عنه ديان فينشتاين، رئيسة لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي: “تعلّمتُ شيئاً واحداً عن هذا الرئيس، هو أنه حذر جداً، وربما في هذه اللحظة أكثر حذراً”. وانتقدت فينشتاين، الديمقراطية، نهج أوباما في تعامله مع تهديدات الدولة الإسلامية، معتبرة أنه سيأخذ وقتاً للرد على هذا التهديد، وهي أملت أن تتحوّل الخطط التي يدرسها أوباما حالياً إلى استراتيجية، من خلال التعاون مع الحلفاء لاستخدامها في المواجهة، وهي قالت لقناة “إن بي سي”: “ما فهمته أن أوباما يحاول أن يعطي فرصة للحكومة العراقية الجديدة التي يمكن أن تقدم بديلاً للسنّة للقيام بالتحرك”.
ولا تزال الآراء بشأن الضربات الجوية وامتدادها إلى سورية تراوح في الإدارة بين مَن يؤيد إنما بتنسيق غير مباشر مع النظام السوري عبر القناتين العراقية والروسية، في ما يتعلق بالمعلومات على الأرض، ومَن يرى في ذلك إنعاشاً وانتعاشاً للنظام السوري، وفي مقدمته الأسد، والذي طالبه أوباما منذ سنتين بالتنحي، وهو ما ظهر في المؤتمر الصحافي لوزير الخارجية، وليد المعلم، والذي رحّب بالحرب الدولية على داعش، داعياً إلى التعاون من طرف واحد.
وفي مقال في “فورين بوليسي”، اختصر الكاتب والمستشار السابق في الخارجية الأميركية، آرون ميللر، الأسباب، برأيه، لعدم إمكانية نجاح توسيع مهمة الضربات في سورية، ومنها اختلاف العراق عن سورية، حيث حلفاء أميركا الأكراد والتعاون مع الجيش العراقي الأمني، وحتى السياسي، ووجود خبراء ورجال استخبارات على الأرض، يساهمون في إصابة الهدف وهو غير متوافر في سورية، لا بل يكاد يكون مفقوداً بسبب ضعف المعارضة المنقسمة، والجيش الحر دوره أقل من الواقع. وقد قلّل ميللر من أهمية التهديد الاستراتيجي لأميركا من داعش، إنما اعتبر أنه، مع الأموال والسلاح التي حصلت عليها، والخلايا للمقاتلين المولودين في أميركا، ويعودون إلى بلادهم، ويقومون بأعمال إرهابية، ربما تشكل خطراً.
بالطبع، لا يقلّل ميللر من حجم الخوف الأميركي، كما الحذر من الدخول في مغامرة عراقية جديدة غير واقعية، إلا أنه يعتبر أن تسويق حرب من دون أهداف لن تكون شعبية، وأن أوباما وجد التبرير بكلمة “حماية أميركا”.
صحيح أن قرار أوباما أصبح أقرب إلى توجيه الضربات الجوية، لا بل اللكمات، كما سمّاها ميللر، إلا أن ذلك لن يقضي على داعش، أو يقطع رأسها بالضربة القاضية، كما تريد الإدارة الأميركية وتعلن، بل سيفتح الباب أمام جولاتٍ قد تمتد فترة طويلة، وطويلة جداً
العربي الجديد
كيف كشف لبنان النظام السوري؟/ خيرالله خيرالله
يسعى النظام السوري إلى اعادة تأهيل نفسه عن طريق المشاركة في الحرب على الإرهاب. كان المؤتمر الصحافي الذي عقده وزير الخارجية وليد المعلّم قبل أيّام محاولة أخرى للعب ورقة الإرهاب. ذهب وليد المعلّم إلى حد القول إنّ أي «عدوان» على سوريا يجب أن يكون بالتنسيق مع النظام السوري. فحوى كلام وزير خارجية النظام السوري أن النظام مستعدّ حتّى لتبرير أي عدوان أجنبي على سوريا شرط أن يصبّ هذا العدوان في خدمة النظام واستمراره. المهمّ متابعة قتل السوريين بكلّ الوسائل المتاحة، خصوصاً بواسطة البراميل المتفجّرة.
ما زال هذا النظام يعتقد أنّ في استطاعته استخدام «داعش» لتحقيق هذا الغرض. كلّ ما يريده النظام هو الاحتفاظ بالسلطة لا أكثر. السلطة المطلقة، التي تعني استعباد السوريين، هي الأداة التي تسمح له بنهب خيرات سوريا إلى الأبد. أوليس شعار النظام «الأسد إلى الأبد»؟
تجربة النظام الطويلة مع لبنان، وهي تجربة امتدت ما يزيد على أربعة عقود أكثر من كافية لتأكيد أنّ تحويل النظام إلى مشارك في الحرب على الإرهاب من رابع المستحيلات.
قبل كلّ شيء، لعب النظام السوري منذ ما قبل استحواذ حافظ الأسد على السلطة كلها في خريف العام دوراً في إغراق لبنان بالسلاح. كان الأسد الأب، وكان لا يزال وزيراً للدفاع، وهو منصب شغله بين العامين و، من باشر في إغراق لبنان بالسلاح. كان الشيء الوحيد المهمّ للنظام السوري الذي بدأ في الثالث والعشرين من شباط ـ فبراير من العام يتحوّل إلى نظام علوي لا أكثر، توريط مسيحيي لبنان في حرب مع الفلسطينيين.
كان مطلوباً تسليح المسيحيين والفلسطينيين في الوقت ذاته واستخدام التناقضات الداخلية اللبنانية من أجل أن يصبح الفلسطينيون «جيش المسلمين»، خصوصاً جيش أهل السنّة في لبنان.
في كلّ وقت من الأوقات كان همّ النظام السوري، الذي سعى دائماً إلى التقرّب من شيعة لبنان واستيعابهم، محصوراً في إشعال الحرائق في البلد وذلك كي يسمح له الأميركيون، بمباركة اسرائيلية، بوضع يده على الوطن الصغير.
لم يكن النظام السوري في يوم من الأيّام بعيداً عن حلف الأقلّيات الذي اراد من خلاله جعل علويي سوريا الطرف المهيمن في هذا الحلف المرتبط بطريقة أو بأخرى بمسيحيي لبنان والشيعة فيه. المؤسف أنّ المسيحيين لم يستوعبوا في أيّ وقت مآرب النظام السوري. كانت النتيجة سقوطهم في الفخّ الذي نصبه لهم حافظ الأسد الذي استنجدوا به في يوم من الأيّام من أجل وقف الزحف الفلسطيني في اتجاه الجبل المسيحي والقرى المسيحية.
لم يكن المسيحيون وحدهم الذين لم يستوعبوا ما الذي يريده النظام السوري. بعض أهل السنّة عجزوا عن ذلك. كذلك عجز الدرزي كمال جنبلاط الذي اعتقد أن الفلسطينيين سيكونون قادرين على تغيير الصيغة اللبنانية بما يصبّ في مصلحته. لمّا أدرك كمال جنبلاط أن اللعبة من أولّها إلى آخرها لعبة النظام السوري، كان الأوان قد فات.
ذهب كمال جنبلاط، الذي اغتاله النظام السوري في العام ، ضحيّة هذا الإدراك المتأخّر لطبيعة نظام، كان يستخدم الفلسطينيين لوضع اليد على لبنان. كان على الفلسطينيين إشعال الحرائق بأسلحة مصدرها سوريا، لتبرير استنجاد الأميركيين بجيش النظام السوري بغية «السيطرة على مسلحي منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان». تلك هي العبارة التي استخدمها هنري كيسينجر وزير الخارجية الأميركية وقتذاك، لإقناع اسرائيل بضرورة قبول الوجود العسكري السوري في لبنان والاعتراف بأهمّيته.
كان مفترضاً في هذا الوجود العسكري تغطية كلّ الأراضي اللبنانية لولا «الخطوط الحمر» التي رسمتها اسرائيل بحجة أنّها متمسّكة بالوجود الفلسطيني المسلّح في جنوب لبنان. كانت حجة اسرائيل وقتذاك أنّها «في حاجة إلى الاشتباك مع المسلّحين الفلسطينيين بين حين وآخر». الأكيد أنّه كانت لديها أهداف خاصة بها تستدعي بقاء الجيش اللبناني خارج جنوب لبنان. كانت تلك نقطة التقاء اسرائيلية مع النظام السوري الذي اعتبر في كلّ الوقت أن جنوب لبنان يجب أن يبقى جرحاً نازفاً.
حتى العام ، بقي جنوب لبنان في عهدة المسلحين الفلسطينيين ثم تحت سيطرة «حزب الله» الذي ليس سوى لواء في «الحرس الثوري» الإيراني. كان ذلك مطلوباً اسرائيلياً. كان مطلوباً تبرير الادعاءات الإسرائيلية التي تبرّر الهرب من أي مفاوضات جدّية مع الفلسطينيين والعرب بحجة أنّها «دولة مهدّدة».
لم يتوقف النظام السوري في أيّ وقت عن ممارسة لعبة مدروسة قائمة على ضرورة الاستعانة به من أجل مكافحة الإرهاب، علماً بأنّه مصدر من مصادر الإرهاب.
كشف لبنان النظام السوري منذ زمن طويل. كشف طبيعته الحقيقية، خصوصاً بعد تفجير موكب الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من شباط ـ فبراير . بعد ذلك اليوم الذي خرج فيه اللبنانيون إلى الشارع موجهين أصابع الاتهام إلى النظام السوري، انتهت اللعبة التي مارسها النظام واعتاد عليها. مارسها أطول بكثير مما يجب بموافقة قوى إقليمية على رأسها ايران واسرائيل، فيما المجتمع الدولي، على رأسه الولايات المتحدة يتفرّج، بل يصفّق.
لم يعد من مجال لممارسة هذه اللعبة. كان ظهور وليد المعلّم في مؤتمره الصحافي الأخير باهتاً، نظراً إلى أن معظم العالم يعرف ما هي «داعش» وكيف خلق النظام السوري هذا التنظيم بمباركة ايرانية بغية ابتزاز الولايات المتحدة في العراق بعد احتلالها لهذا البلد في العام .
تغيّرت طبيعة «داعش» مع مرور الوقت وتطوّر الحوادث. انقلب السحر على الساحر. هناك الآن «داعش» المتعاونة مع النظام السوري و«داعش» أخرى تمتلك حسابات خاصة بها. كلّ ما في الأمر أنّ نظاماً مثل النظام السوري، يستطيع الادعاء أنّه يقاتل الإرهاب لو لم يكن نظاماً يلجأ إلى الإرهاب بغية تبرير وجوده لا أكثر ولا أقلّ. من يستعين بمقاتلين لبنانيين وايرانيين وعراقيين للدفاع عن وجوده في دمشق من منطلق مذهبي بحت، لا يستطيع بأيّ شكل الاستعانة بـ«داعش» وجرائمها كي يجد لنفسه مقعداً مع المشاركين الحقيقيين في الحرب على الإرهاب.
لا يمكن بأي شكل تبرير جرائم «داعش» التنظيم الإرهابي المتخلّف. ولكن في الوقت ذاته، لا يمكن تجاهل أن «داعش» ربطت بين مناطق سنّية في سوريا والعراق، بعدما اعتبرت ايران، ممثّلة بميليشا «حزب الله»، أنّ الحدود بين بلدين عربيين مستقلّين هما لبنان وسوريا لا قيمة لها، وأن ما يعلو على الحدود هو الرابط المذهبي بين النظام السوري وما يمثّله الحزب.
هناك بكلّ بساطة ما هو أبعد من الحرب على «داعش». هناك أنظمة مثل النظام السوري أسست لقيام مثل هذه الظاهرة بعدما شاركت في لعبة إثارة الغرائز المذهبية. هذه لعبة يمكن لعب دور في اطلاقها ولكن يستحيل التحكّم بها في المراحل اللاحقة.
من يشارك في اطلاق مثل هذا النوع من الألعاب الخطيرة ليس مؤهلاً للعب دور في كبحها من أجل اعادة تأهيل نفسه. هذا ما لا يستطيع النظام السوري فهمه بغض النظر عن مدى سذاجة ادارة أميركية مثل ادارة باراك أوباما…
المستقبل
سؤال «لماذا» ودوره في حملات إبادة اليزيديين/ هَلْكَوْت حكيم
أخذت حرب «داعش» طابعاً جديداً في العنف منذ ان أعلنت الخلافة الاسلامية. طابع الحرب الديني العنصري، بعد ان كان حرباً مذهبية طائفية. والشحنة النفسية التي تخلقها في نفوس الآخرين هي الرهبة. الرهبة من داعش والدولة الاسلامية والمجاهدين الملثمين وفرسان الخلافة، ومن الخلافة ذاتها، من العلم الاسود وما كتب عليه، ومما تسميه بالفتوحات المباركة وغزوات التأديب وكل ما يواكب حربها في العراق وسورية.
اليوم نرى على الشاشات الصغيرة كيف تتم فتوحات الدولة الاسلامية من طريق الذبح والإذلال وسبي النساء وسرقة الاملاك والأموال. هناك صور لمواقع مر بها فرسان الخلافة. ثمة شهادات لمن فروا قبل مرور الفاتحين او عانوا من السحق والإذلال ولم يُقْتلوا كي يشهدوا امام كل من يريد ان يقاوم تقدم الدولة الاسلامية. اليوم نشاهد فتيات يزيديات في قفص يباع من فيه في سوق الموصل.
«الإيزيديون»، كما يسمون انفسهم منذ قرون وهو الاسم الكردي المنبثق من كلمة يزدان الايرانية القديمة وتعني «الاله، الخالق، الله». تاريخهم غير معروف كثيراً وبالاخص المذابح الجماعية التي تعرضوا لها على يد الأقوام والحكومات الاسلامية غير معروف، منذ ظهورهم في التاريخ الاسلامي بالاسماء العربية التي عرفهم الجميع بها: اليزيدي، اليزيدية، اليزيديون.
أكثر الظن أن اليزيديين تبنوا المعتقدات السنية المحافظة والمؤمنة بموقف الجماعة. ولا دراسة حتى الآن تختلف في مسألة كون احد منابع اليزيدية هي الطريقة العدوية وشيخها عادي بن مسافر (1072 – 1162). فاليزيدية في بعض مظاهرها المعروفة منذ قرون ولدت بعد هذه الفترة. الاسماء والصور التي التصقت بها اسماء عربية رغم ان لها جذوراً تتجاوز من دون شك ظهور الاسلام. ولنا شهادات تعود الى اكثر من قرنين نراهم يحاولون فيها ان يقنعوا من يستمع اليهم من المبشرين بخطأ ما كان المسلمون يقولون وينشرون عنهم وحتى تسميتهم. واذا الصقهم العالم الاسلامي القديم بصورة يزيد بن معاوية (645 – 683)، وقدمهم كحراس شخصيين له، فان الاسلام المعاصر جعل منهم احفاد يزيد الذي يكرهه الشيعة لقتله الحسين ويرى فيه السنّة إماماً، رغم انهم يحبذون عدم الحديث عنه.
ما تركه لهم مؤسس الطريقة العدوية وقديس اليزيديين الشيخ عادي، والذي ولد بعد موت يزيد بن معاوية بأربعة قرون، هو نبذ اللعنة. فهم لا يلعنون كائناً من كان، حتى الشيطان. انهم ليسوا عبدة الشيطان وإنما لا يشاطرون الآخرين اللعنة التي انزلتها الاديان عليه. مِنْ هنا تبنوا فكرة عادي بن مسافر وصارت معتقداً عندهم. وكانت مسألة الشيطان في تلك الفترة من القضايا التي يتحدث الفقهاء والفلاسفة المسلمون عنها ويكتبون الكثير حولها.
والمسألة الاساسية التي التصقت بهم هي فكرتهم حول الشيطان وصورته. وهي تتعلق اساساً بقضية وجود الشر وكأنه خارج عن ارادة الاله وقدرته على كل شيء. وتتجسد المسألة كمشكلة لأول مرة في تاريخ الانسان، وحسب الاديان، في لعنة الله للشيطان وأسبابها وتأثيرها ونتائجها على بني آدم والحكمة منها. وكموضوع فكري قابل للمناقشة شغلت المسألة الكثير من العقول. يذكر المفكر العراقي علي الوردي في كتابه «مهزلة العقل البشري» سبعة اسئلة صاغها الشهرستاني (1088 – 1153) على لسان ابليس اعتراضاً على اللعنة التي خصه الله بها والحكم الذي تبع اللعنة. وكل هذه الاسئلة تبدأ او تنتهي بـ»لماذا»، وتتوجه الى الله.
فهو يسأل الله لِمَ خلقه وهو يعرف ما سوف يقوم به؟ وما دام خَلَقه بإرادته ومشيئته فلماذا كلفه بمعرفته وطاعته وهو لا ينتفع بطاعة احد ولا يتضرر بمعصيته؟ وهو اذ خلقه وكلفه بعدم السجود لغيره فالتزم تكليفه فلماذا كلفه بعد ذلك بالسجود لآدم؟ ولماذا دانه وهو لم يرفض له امراً غير السجود لغيره، تماماً كما التزم بذلك قبل خلق آدم؟ لماذا سمح له بخداع آدم وإخراجه من الجنة، فحرم هكذا ابناءه من الجنان حتى يوم الدين؟ ولماذا ابقاه حياً الى يوم القيامة وسلطه على بني آدم بحيث يراهم ولا يرونه، فيُدْخل الخوف والرهبة في قلوبهم وحياتهم؟ لماذا لم يهلكه رأساً فينقذ الانسان من وسوسته ومؤامراته ودسائسه؟
فبالإضافة الى وصف الشهرستاني لكلمة «لماذا» بالرعناء وجعلها سبباً لكل شبهة دخلت عقل بني آدم منذ الخليقة، يذكر الوردي ايضاً جواب الله على حجج ابليس، كما ذكره الشهرستاني، «لو كنت يا ابليس صادقاً مخلصاً في الاعتقاد بأني الهك واله الخلق ما احتكمت عليَ بكلمة لماذا؟ فأنا الله لا إله الا أنا، غير مسؤول عما افعل، والخلق كلهم مسؤولون».
الاسئلة التي طرحها ابليس اوجدت جوابين رئيسيين. اولهما، كما يذكر الوردي، الجواب الذي يقول انه لا يحق الاعتراض على ارادة الله او مناقشة حكمه. ويتبنى الجواب الثاني حق الاعتراض والمناقشة. وهذا ما يقود اصحابه الى رفض الرواية المدونة حول الموضوع في الكتب الدينية.
أما اليزيديون فلهم موقف ثالث ولا نعرف بوضوح من اين جاءهم، وهو ان الرواية الدينية صحيحة ولكن الجواب الديني يضع الانسان في حيرة ولا يرتقي الى مستوى الاسئلة. وهذا ما يستغربونه على عظمة الله وقدرته. ويرون ان الحكم الذي صدر مصدر استغراب، بخاصة أمام العدالة الالهية. فالإنسان يدفع ثمناً باهظاً. ويتوصل اليزيديون الى نتيجة ان هناك سوء تفاهم بين الله وابليس، رئيس الملائكة وأحبهم اليه. فمن مصلحة الانسان الا يتدخل في الموضوع وان يترك الامر لحل في المستقبل بينهما. وعلى الانسان ان يهاب الشيطان ومخاطره فيحاول استمالته لا الوقوف بوجهه ولعنه.
هذه الفكرة التي اصبحت معتقداً دينياً لدى اليزيديين كلفتهم الكثير من المجازر الدموية والسبايا التي اقترفها جيرانهم بحقهم عرباً كانوا ام اتراكاً او اكراداً او فرساً. وفي كل مجزرة يتكرر السيناريو ذاته: قتل الرجال، سبي النساء، سرقة الاموال وهدم الاماكن المقدسة لديهم. وكل ذلك تحت شعار الجهاد في سبيل الله والاسلام. ولكن دوافع اخرى كانت وراء تنظيم المجازر لابادتهم. بخاصة ان قتل اليزيدي لا يعاقَب عليه الجاني لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة. وقد استمر بعض المجازر فترات طويلة.
لقد دفع اليزيديون ثمن جواب عن اسئلة قد يكون الشيخ عادي صاحبها بخاصة وهو معاصر للشهرستاني ومؤسس فكرة نبذ اللعنة. فكانت النتيجة ان قليلاً من اجيال اليزيديين لم يتعرض لمجزرة. كم من اليزيديين يعرفون اليوم ان السبب الاول وراء الحملات لإبادتهم انما هو كلمة «لماذا»؟
* أستاذ في جامعة باريس
الحياة
لماذا تصعب مقاومة «داعش» وطنيّاً؟/ حازم صاغية
ما إن وضع القتال في غزّة أوزاره، وقبل استئناف التفاوض في القاهرة حيث يُفترض أن يُترجم القتال إلى سياسة، انفجرت الحرب السياسيّة بين محمود عبّاس وسلطته في الضفّة الغربيّة وبين حركة «حماس» وسلطتها في غزّة.
الكلام الصادر عن طرفي النزاع الفلسطينيّين كلام نقض، لا كلام نقد. فما من شيء فعلته «حماس»، التي نسبت إلى نفسها وإلى حربها أسماء الله الحسنى، مقبول من عبّاس. وإذ شكّكت الأولى مراراً وتكراراً بأفعال الثاني وأقواله، وكادت تنزع عنه «الوطنيّة» التي تحتكرها، شكّك الثاني بإطالتها زمن القتال ومضاعفتها عدد الضحايا من دون جدوى، هاجياً قتلها «العملاء» بالطريقة التي فعلت، وإقرارَها بعمليّة خطف المستوطنين الثلاثة بعد إنكار، فضلاً عن اتّهامها بالتآمر لإطاحة سلطته.
وانفجار المعركة السياسيّة هذه قبل أن تسكت المدافع مع إسرائيل يقول، مرّة أخرى، إنّ انشقاق الضفّة – غزّة أعمق كثيراً من أن يتحايل عليه الاشتراك في وفد سبق أن فاوض في القاهرة، أو حتّى في حكومة ائتلافيّة حجبتها الأحداث الكبرى التي انفجرت بُعيد ولادتها.
وهذا ما لا علاقة له بـ»داعش» من بعيد أو قريب. إلاّ أنّه يشي بأحد أبرز الأسباب، إن لم يكن أبرزها، وراء نشأة ظاهرات «داعشيّة»: إنّه هشاشة الوطنيّات العربيّة، ومن ثمّ هشاشة الأُطر التي تحتويها أو تعبّر عنها.
وقد سبق أن رأينا أشكالاً فادحة كثيرة لتلك الهشاشة في مهود «داعش» الأصليّة. فالنظام السوريّ أغلق، على مدى ما يقارب الأربع سنوات، كلّ فرص التسوية المعقولة مع الثائرين عليه ممّن هم أكثريّة شعبه. وهو، في هذا، آثر أن يردّ بالقتل الوحشيّ الذي تعدّدت أشكاله فيما بقي هدفه واحداً: «الأسد أو نحرق البلد».
وفي العراق اليوم، وعلى رغم الضغوط الدوليّة والإقليميّة الهائلة، لا يزال باب التسوية موصداً، على ما يدلّ انهيار المفاوضات التي يُفترض أن يتأدّى عنها تشكيل حكومة حيدر العبادي، والتي لا يضمن استئنافُها نجاحَها الصعب. والأمر لا يعدو كونه تنازعاً على الحصص بين القوى السنّيّة والتحالف الشيعيّ، بعدما اتّفق الجميع ظاهريّاً على إدانة الاستئثار الذي مارسه نوري المالكي واعتباره واحداً من الأسباب المفضية إلى «داعش».
والحال أنّ القوى المسلّحة المناهضة لسلطتي دمشق وبغداد لم تُبدِ من الحرص على الوحدة الوطنيّة والعيش المشترك أكثر ممّا أبداه النظامان، والبرهان هو بالضبط نجاح «داعش»، وسيطرة القوى الإسلاميّة السنّيّة المتطرّفة على المشهد المعارض في البلدين.
أمّا اللبنانيّون بدورهم، فيُفترض ألاّ يصدمهم القول، المعزّز بتجربة عرسال وعدم انتخاب رئيس والتمديد للبرلمان وترقيع تشكيلة حكوميّة، إنّ وطنيّتهم قد تكون أسوأ أسلحتهم وأضعفها في وجه «داعش».
وحيال هذا الهزال الذي تتكشّف عنه الوطنيّات العربيّة، وصولاً إلى ليبيا غرباً واليمن جنوباً، تستقلّ الحالة الكرديّة بخصوصيّة لافتة. فهي أصلاً براء من هذا الافتراض الوطنيّ الذي كانت تراه قسريّاً فصارت، بعد الثورات، تراه فولكلوريّاً. وإنّما بالمعنى هذا يخوض الأكراد معركتهم من دون أن يكونوا مخدوعين بوطنيّةٍ لم يحملوها مرّة على محمل الجدّ، ومن دون أن يكونوا مهمومين بتمتين نسيجها الذي يعرفون أنّه لا يقبل التمتين لأنّه غير قائم أصلاً.
وتُغري خلاصة هذه الأحداث بافتراض قد يؤلم البعض، وهو استحالة التصدّي لـ»داعش» على قاعدة مزعومة أو مُتَخيّلة اسمها الوطنية. أمّا تتمّة هذا الافتراض فأن يكافح الأكرادُ «داعشَ» بوصفهم أكراداً، وهكذا دواليك بلداً بلداً وجماعةً جماعة.
وهذا، أكان أوباما متراخياً أم كان حازماً، مصدر الإضعاف الأوّل لحرب قد ينوي شنّها على «داعش».
الحياة
تحالف الفاشلين/ امين قمورية
تمثل “داعش” خلاصة العفن الذي ابتليت به المنطقة منذ قرون، هي نتاج الأمراض الكثيرة التي نخرت مجتمعاتنا، هي نسيج معقد للادران الطائفية التي تشابكت تاريخياً مع مثيلاتها الثقافية والتربوية والسياسية لتنتج معاً مسخاً مخيفاً يعشق الدم. لكن ظهورها الصاعق الآن لم يكن لينفجر هذا الانفجار العظيم على امتداد الجغرافيا المشرقية لولا التراكم الهائل للسياسات الخاطئة. صعود هذا المخلوق العجيب، هو إثبات لفشل صانعي السياسات في المنطقة وتخبّطهم وتعاملهم البائس مع شعوبهم ومع زلزال التغيير الذي هزّ تونس قبل أن يتمدّد شرقاً وغرباً.
دعك من دعاة التغيير الديموقراطي، الذين يفترض ان يكونوا الوجه النقيض لـ”داعش” والماضي السحيق الذي تمثله، فهؤلاء أصلاً قوة هامشية جداً اثبتوا فعلاً أنهم غير موجودين واقعاً على امتداد خريطة التغيير، ولكن ماذا عن القوى الفاعلة والأنظمة التي صادرت الساحات وأمسكت بتفاصيل المشهد السياسي منذ هزة التغيير الاولى والتي تدعي اليوم رفع لواء محاربة مارد التخلف الأسود الجديد؟
في العراق، “داعش” هي أولاً إحدى نتائج الغزو الاميركي. استبدل المحتل ديكتاتورية الزعيم الفرد بديكتاتورية الطائفة، وعالج تهميش فئة من العراقيين بتهميش فئة أخرى. كان الظلم آفة العراق قبل مجيئه، وبقي الظلم سيد الموقف بعد خروجه وساد معه الارهاب والفساد. رحل الاميركي وكرست الحكومات المتعاقبة ومن خلفها ايران كل الآفات الموروثة عن الديكتاتور والمحتل معاً، وأضاف اليها آفاته حتى صار البلد مرتعاً لشذاذ الآفاق. واشنطن ارتكبت خطايا في العراق لم تصححها النخب العراقية الجديدة ولا حليفتها ايران التي عمقتها وزاد تعميقها خصومها في الخليج الناقمون على توسعها ودورها الجديد.
في سوريا، كما في العراق، ليس غريباً ان يطفو “قرش داعش” على سطح الماء بعدما اذابت البراميل المتفجرة والحارقة طبقة الجليد الرقيقة التي كانت تعزلها. القمع الاعمى للنظام وإصرار حلفائه على مقولة هو أو لا أحد، وهشاشة ما يسمى المعارضة المعتدلة وهزالها وهزلها، وأحقاد “أصدقائهم” ودعمهم السخي والمدمر للمتطرفين من بينهم، ورعونة سياسات “الخلفاء العثمانيين الجدد” وطموحاتهم المجنونة التي لم تترك لهم صديقاً، وانتهاج جميع اللاعبين المحليين والخارجيين الالعاب الانتحارية في أرض ليست أرضهم، وأخيراً الصمت الاميركي المشبوه… أليس هذا كافياً لإطلاق كل الوحوش من جحورها؟
فشل سياسات هؤلاء أوصلنا الى المصيبة التي نحن فيها. واليوم، كل هؤلاء الفاشلين يتسابقون للانضمام الى تحالف لمحاربة ما ساهمت أيديهم وفشلهم في صنعه، بينما الراعي الأميركي الأكبر لهذا التحالف ينتقي من هؤلاء أكثرهم فشلاً لمشاركته في حملته الجديدة. فاذا كان فشل هؤلاء بالمفرق أوصلنا الى ما وصلنا اليه، فما هي النتائج التي قد يرتبها علينا فشلهم بالجملة؟
النهار
عرسال ليست الأولى ولن تكون الأخيرة/ عبد الوهاب بدرخان
صيف 2001 لم يكن بسخونة صيف 2014، لكن خريفهما سيتشابه إلى حد كبير. سيقف باراك أوباما على المنبر نفسه في الأمم المتحدة، كما فعل جورج دبليو بوش قبله، ليدعو أو يطالب بـ«تحالف دولي» ضد إرهاب «داعش». قال بوش آنذاك إن «الحرب على الإرهاب» حتمية ووشيكة. بعد نحو عقد من الزمن أعلن أوباما «نهاية» تلك الحرب، ليدرك في منتصف ولايته الثانية أنها لم تنتهِ، وأنه رغم كل محاولاته للتهرّب والتملّص أصبح مضطراً لخوض حرب جديدة. لم يجد بوش عناء يُذكر في تشكيل «تحالفه»، بل كان هناك تنافس للمشاركة فيه، لأن أميركا هي التي ضُربت واللحظة مؤاتية لإبداء أقصى التضامن معها. هذه المرّة ثمة صعوبات لبلورة مثل هذا التحالف، ولأن هناك مشاكل كثيرة أبرزها مشكلة اسمها أوباما، فحتى أقرب الحلفاء لا يعرف حقيقة تفكيره أو يصاب بخيبة أمل إذا عرف. في تحالف 2001 كانت هناك دولٌ مستبعدة وغير مرغوب فيها، تحديداً تلك التي جاء منها إرهابيو 11 سبتمبر، أو تلك المصنفة أميركياً بأنها راعية مزمنة للإرهاب.
والجميع يذكر «محور الشرّ»، كما سمّاه بوش. أما في 2014، فإن معظم المدعوين إلى التحالف هم أولئك الذين استُبعدوا سابقاً، بالإضافة إلى الذين يحاولون دعوة أنفسهم، ومنهم اثنان من أعمدة «محور الشرّ». طبعاً سيكون هناك الحلفاء الغربيون الذين يعتبرون أنفسهم أبرياء، مثل أميركا، من أي مسؤولية عن نشوء ظاهرة الإرهاب، وأن الواجب «الإنساني» وحده دافعهم إلى هذه الحرب. أما العرب الذين اتهمتهم أميركا بعد هجمات 11 سبتمبر، فتبحث حالياً عن مشاركتهم في المهمة الجديدة. هكذا مثل «السلام عليكم وعليكم السلام، تعرفون لدينا الآن، بالأحرى لديكم، معضلة اسمها داعش، ونريد تعاونكم للقضاء عليها وإنهائها».
هكذا، وكأن ما يحصل في العراق، ليس نتيجة أخطاء أميركية فادحة، أو كأن ما حصل في سوريا وما حصل ويحصل في فلسطين ليس نتيجة تهاون إدارة أوباما وخذلانها وخضوعها للتوجيهات الإسرائيلية، أو أخيراً كأن «التحالف» – الضمني والموضوعي – بين أميركا وإيران (وإسرائيل) ليس مسؤولاً عن انهيار سوريا والعراق وتمزّق مجتمعيهما، ودفع دولتيهما نحو التفكك. فكل ذلك صنع على مرّ السنين الأرضية العفنة التي ولد فيها الإرهاب، بأنواعه التي عُرفت أو التي لم تُعرف بعد.
حددت الولايات المتحدة شروطاً عدة للانخراط في الحرب على «داعش»، بينها «تضامن البيئة السنّية» ووجود «تحالف إقليمي – دولي»، فضلاً عن الاعتماد على قوى محلّية وعدم التورّط بإنزال جنود أميركيين أو غربيين إلى الأرض. لا جدال في أن «داعش» وإرهابه مقبولان فقط في بيئات هامشية جداً أو مكتومة تحت الأرض. فحتى الذين وضعوا يدهم في يد هذا الشيطان للخلاص من شيطان آخر في العراق أو الذين رحبوا به في سوريا ظناً بأنه رافد لثورة الشعب، لم يكونوا مخيّرين، وما لبثوا أن أدركوا الخدعة وبدأوا يتمايزون عنه لكن بتكلفة بشرية هائلة.
أما إذا كانت الحكومات «السنّية» هي المقصودة بالتضامن المنشود، فهذه أيضاً لا خيارات أخرى لها، لكن لديها الكثير من الشكوك في سيناريوهات هذه الحرب ومؤدّاها. وأول ما تريد التعرّف إليه هو نيات أميركا والدول الغربية لما بعد تلك الحرب، وهل أن العرب مدعوون إلى عمل دولي يهدف فعلاً إلى ضرب الإرهاب الذي يتهددهم أم إلى موقعة نارية يكونون وقودها وحطبها وحطامها، وهل أن محاربة الإرهاب مجرّد عنوان لـ «شرعنة» تقسيم المنطقة وتقطيع خرائطها وتوزيع أشلائها على دول إقليمية تدّعي نفوذاً عليها وعلى شعوبها، وإذا لم يكن هذا هو الهدف فلماذا تعاملت أميركا بلامبالاة مذهلة حيال سفك الدماء طوال الأعوام الماضية؟ ولماذا تغاضت عن تدخل إيران واتباعها على هذا النحو المؤذي في العراق وسوريا؟ ولماذا سكتت عن المنظومات الاستخبارية لتسهيل نشوء «داعش» ونموّه وتسليحه؟
في معرض البحث عن «تحالف» ضد «داعش» بات مؤكّداً عملياً، وشبه مؤكّد «رسمياً»، أن أميركا ودول الغرب تعتبر التعاون مع النظام السوري تحصيل حاصل. لكن العواصم كافة تقول إنها ترفض ذلك، بل تستفظع مجرّد فكرة التعامل مع «مجرم حرب»، علماً بأنها هي نفسها من أكثر المدلّلين لمجرم الحرب الإسرائيلي والمدافعين عن «أمنه». لكن كيف يمكن الحصول على تضامن البيئة السنّية، إذ كأن تعاون نظام دمشق يمحو جرائمه ويؤهله للبقاء في الحكم، وكيف يستوي إشراكه في ضرب الإرهاب مع العلم بأنه من صانعيه. وتنطبق المآخذ ذاتها على إيران وعلى دول أخرى شاركت في استغلال مرحلة التحوّلات في العالم العربي. وفي مثل هذه الحالة، لم يتبقَّ سوى أن يُدعى زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري للانضمام إلى «التحالف»، ولمَ لا فقد يكون مفيداً لأن له ثأراً على «داعش» وزعيمه؟
الاتحاد
هل اتفق الخليجيون خوفا من «داعش»؟/ عبد الرحمن الراشد
ترددت في الأيام القليلة الماضية رواية تقول إن دول الخليج اضطرت لترك خلافاتها جانبا خشية من تنظيم «داعش»!
فهل فعلا بلغت هذه الجماعة الإرهابية من الخطر ما أنهى الخلاف الخليجي؟ وهل حقا «داعش» قادر على إسقاط عواصم الخليج؟!
طبعا لا يمكن أن يصدق هذه الرواية إلا شخص بعيد عن المنطقة، أو مقيم جاهل بتفاصيل التطورات السياسية. جغرافيًا، الأمر صعب، إلا إذا كان لدى الإرهابيين سلاح جو، وهذا غير ممكن. فأقرب مدينة عراقية تجاور الخليج يوجد فيها حاليا تنظيم «داعش»، هي مدينة الرمادي، في محافظة الأنبار العراقية المحاذية للحدود السعودية. والكويت أقرب عاصمة خليجية لها، مع هذا فإن المسافة شاسعة، أكثر من سبعمائة وستين كيلومترا، عن مدينة الرمادي، والطريق معظمه منطقة صحراوية جرداء. أما العاصمة السعودية فهي أبعد بنحو الضعف، بأكثر من ألف وأربعمائة كيلومتر عن الرمادي. ويكاد يكون وصول «داعش» برا إلى بقية عواصم الدول الخليجية الأخرى، قطر والبحرين والإمارات وعمان، من سابع المستحيلات، مهما كان قويا وسريعا ومسلحا! مقاتلو «داعش» نجحوا في التسلل من سوريا بعشرات السيارات المسلحة عبر منفذ القائم إلى مدينة الموصل العراقية. أولا، لأنها قريبة. وثانيا، بسبب الفوضى نتيجة سقوط الدولة في سوريا، وكذلك بسبب الفراغ الأمني في العراق نتيجة ضعف السلطة المركزية.
وبالتالي، الاستنتاج بأن حكومات الخليج نحت خلافاتها جانبا خوفا من «داعش»، فيه شيء من المبالغة، مع أن المنطق يقضي بأن تنهي هذه الحكومات خلافاتها لأسباب وجيهة كثيرة، ليس بينها شبح «داعش»، أبدا.
المفارقة أن إشكالات دول الخليج هي مميزاتها! تتشابه مع بعضها في ثلاث؛ النفوذ المالي، والعلاقات القوية مع الغرب، والاستقرار السياسي. وبدل أن يتم توجيه هذه المنافع المشتركة نحو أهداف متماثلة تعود بالخير على شعوب الخليج، وشعوب المنطقة عموما، فقد شهدت ارتفاعا في موجة «الحروب» بالوكالة، التي أنفقت عليها مليارات الدولارات، وستحقق في النهاية ضررا عاما، ولن يكسب منها أحد شيئا. سخرت لشراء خدمات دولية عسكرية وقانونية وإعلامية وسياسية وتجارية، ضمن «حرب باردة» بين دول مجلس «التعاون» تعكس حالة من العبث السياسي لم تعرف المنطقة مثلها من قبل!
دول الخليج عندما تتفق، تصبح قوة كبيرة، وعندما تختلف تتقاتل في ميادين غيرها. ومن المرات التي تعاونت دول الخليج فيما بينها، عندما قررت دعم البحرين في محنتها عام 2011، وكان هناك قلق من أن تنهار أصغر دول الخليج مساحة، وأكثرها حساسية طائفية، نتيجة تدخلات إيرانية وغيرها. وبالفعل نجح التعاون الخليجي على مستويات دولية وداخلية في المحافظة على البحرين، وتم تجنيب البلاد الفوضى والحرب الطويلة.
الخوف على الخليج هو من عبث أهل الخليج، وليس من «داعش». فالإرهاب يمثل خطرا مباشرا على نظامي العراق وسوريا، لأنه ينمو ويكبر حيث يوجد الفراغ والفوضى، كما شاهدنا في أفغانستان وليبيا واليمن. أما تربة دول الخليج فعصية على «داعش»، ومن قبله عجزت عنها «القاعدة». وهذا لا ينفي تهديد الجماعات المتطرفة المسلحة للاستقرار، وإرباك الوضع الداخلي، والإضرار بالأنظمة الخليجية وإحراجها دوليا.
أزمة دول الخليج الحالية أنها تتعارك فيما بينها على مسطح جغرافي واسع من سوريا إلى موريتانيا. وحتى لو انتصر أي طرف خليجي ضد الآخر فإنه يظل انتصارا لا قيمة له، لأن دول الخليج ليست دولا كبرى عالمية تستطيع ترجمة الانتصارات إلى مناطق نفوذ أو مصالح، بل ولا تستطيع حتى المحافظة على مكاسبها لفترة طويلة، كما حدث في ليبيا وتونس ومصر وسوريا بالنسبة لقطر، وسوريا واليمن للسعودية!
إنها لعبة فيديو باهظة الثمن دون مردود حقيقي، باستثناء السعودية، لأنها مضطرة لحماية حدودها مع العراق واليمن. ومحتاجة إلى دعم مصر، لأن الفوضى هناك قد تمسها مباشرة. وبشكل عام فإن وقف التنافس السلبي الخليجي من صالح الجميع، لكن الادعاء بأن المصالحة خوف من «داعش»، تفسير غير واقعي.
الشرق الأوسط
الصور الغائبة في مرآة «داعش/ محمد برهومة
يذهب المتفائلون منا إلى أن ظاهرة «داعش» وسواها ظاهرة عابرة على المستوى السياسي؛ بالنظر إلى أنّ أيديولوجيتها وعداءها للمحيط المحلي والإقليمي والدولي يشكّلان عناصر فنائها ذاتياً. غير أنّ هذا، على وجاهته، ينبغي ألا يصرف النظر عن وثيق الصلة، سوسيولوجياً، بين ظهور «داعش» وسواها وأزمة المجتمعات العربية من جهة تآكل الطبقة الوسطى أو تفككها من الداخل أو انكماشها، وفق خلافات بين الخبراء والباحثين عن التوصيف.
وظهور «داعش» وغيرها من تيارات الإرهاب والتشدد والعنف الديني والطائفية السياسية إنما هو مرآة لمسألة «الصراع على الإسلام» من جانب أهله، بلغة رضوان السيد، وضعف مقولة «الاعتدال الإسلامي» من جهة تجاهلها لقيمتي الحرية ومركزية دور الإنسان في الحياة المتمثلة في استقلاليته في صنع الحياة والمستقبل.
من المؤكد، على المستوى الفردي، وجود معتدلين إسلاميين، لكنّ الكتلة الاجتماعية العربية الأوسع امتداداً، وهي بالتأكيد متفاوتة وغير منسجمة، لا تملك وحدها ولا تتوافر على الإمكانات الذاتية والموضوعية التي تؤهلها للوقوف في وجه التطرف الديني والطائفي والسياسي في البلدان العربية، وهي تعوّل، بسبب ضعفها الذاتي والموضوعي، على الطرف الحكومي أو الأطراف السياسية المؤدلجة لمواجهة التطرف والطائفية والعنف ومنع الحروب الأهلية.
في هذا المعنى الغائب كثيراً عن النقاش لدى استجلاء صورة «داعش»، فإن الأخيرة تعدّ ظاهرة تختزل مأزق الطبقة الوسطى العربية البنيوي، الذي صار يمنعها من ممارسة دورها الأصلي والتاريخي، وهو تحقيق الاستقرار وتكريس الاعتدال وقيادة الإصلاح وتثبيت قيم الانفتاح والتحضر والتمدن في أي مجتمع، عبر قيادة التعليم والفنون والآداب والصحافة والصحة والترفيه.
لقد تم تحويل أهداف الطبقة الوسطى، بفعل الكثير من العوامل، من المشاركة في الشأن العام إلى التمحور حول الأهداف الشخصية الصغرى (تربية الأولاد، تعليم الأولاد، تأمين تكاليف المعيشة…)، مع أنّ هذه الأخيرة تعدّ «تحصيل حاصل» للمتعلمين والمثقفين في أي مجتمع، وليست، في الأحوال الطبيعية، هي مدار طموحاتهم وغاياتهم ومسؤولياتهم وتطلعاتهم التي تتمثل في الحقيقة في المشاركة في تطوير قيم المجتمع وإنشاء التضامن والتجانس بين مكوناته وأفراده ورفع مستوى انفتاحه وتمدنه ونهضته.
وهذا الوضع جعل النخب في المجتمعات العربية تدور حول نفسها وتعاني خفة الوزن وتفتقر إلى التراكم في الفعل والإنجازات في مواجهة الظروف الاقتصادية والسياسية التي انتجت احتكاراً للسلطة وتضييقاً للمشاركة فيها، وهو ما نشأ عنه في المحصلة عزوفاً للشريحة الأوسع للطبقة الوسطى عن الشأن العام والمشاركة الفاعلة في صنع المستقبل والحياة والاجتماع.
اعتلال الاجتماع العربي وضعف الإصلاح السياسي يُنتجان اليوم «داعش» ومن شابهها، وهو يعني أنها ليست عابرة، على الأقل، فكرياً وسياسياً. وحين تمرض الطبقة الوسطى في أي مجتمع، ينتشر بين المتعلمين والأهالي المثقفين الخوف من الحسد والغيرة والزبونية والأنانية وتراجع الضوابط الأخلاقية التي تحكم كيفية تحصيل المال وتأمين مستقبل الأسرة وتوفير العيش الكريم لأفرادها، حيث يغدو «الفساد شطارة».
وينتج من هذا، في المحصلة، تراجع في الكفاءة المهنية لدى الطبقة الوسطى، التي هي أساساً منجم الكفاءات ومصدرها، ما يقود بالتالي، مع مرور السنين، إلى الانحدار المهني وانحدار التنافسية، وهما مقتلان للطبقة الوسطى، إذْ بعدما كانت جامعاتنا تنتج مثقفين وكتّاباً ومتنورين ونقّاداً وسياسيين، نرى أنها اليوم تكتفي بتخريج متعلمين، وثمة شكوك كبيرة في أنْ يكونوا مثقفين متنورين ومتأهبين للمشاركة في الشأن العام وجهود الإصلاح الديني والنهوض الفكري والعلمي وتطوير قيم التحضّر والتمدن والتحديث، والسهر على أهم وظائفهم المتمثلة في كونهم «باروميتر» الانفتاح والضمير والوازع الأخلاقي الحيّ.
* كاتب أردني
الحياة
لا نهاية وشيكة لموسم قطع الرؤوس/ موناليزا فريحة
لا شيء حتى الان يوحي بأن موسم قطع الرؤوس يشارف نهايته. لا أثر لخطة مضادة لسياسة حزّ الاعناق. لا ملامح لتحالف يضع حداً لسياسة التطهير العرقي والمذهبي والاتني التي تمارسها “الدولة الاسلامية”. لا قرار نهائياً بعد في شأن ضربها في سوريا، على رغم الاقرار بضرورة ذلك. الامر الوحيد المحسوم حتى الان هو أن “داعش” سيتمدد حتى اشعار آخر.
عندما انتشر الشريط المريع لذبح الصحافي الاميركي جيمس فولي، استنفر العالم وخرج الرئيس الاميركي باراك اوباما متوعداً باستئصال سرطان “داعش”. أوحى بتوسيع محتمل للحملة التي أطلقها ضد التنظيم في العراق باعطائه الاذن بطلعات استطلاعية فوق سوريا.هذا قبل أن يطل معلنا ببساطة أن” ليست لدينا استراتيجية بعد”.
وبعد فولي قطعت رؤوس كثيرة.لكنّ أقصى ما أُثاره فيديو ذبح مقاتل البشمركة في الموصل هو بضع عبارات استنكار. أما منظر الجندي اللبناني علي السيد مضرجا بدمائه، فلم يدفع أحداً الى رثائه لا في الغرب ولا في الشرق، ربما في انتظار نتائج تحاليل “الدي ان اي”!
لم يحدث في الماضي القريب وربما البعيد أن أجمعت دول المنطقة والعالم على أمر باجماعها اليوم على خطر “داعش”. طهران قلقة من التهديد الذي يمثله التنظيم للعراق، حليفها الاستراتيجي. وهي تخشاه أيضاً على مصالحها في سوريا، حتى أن ثمة معلومات عن محاولات ايرانية للتنسيق مع بعض شخصيات المعارضة السورية.
كذلك، تخشى السعودية نمو جيل جديد من الجهاديين يستلهم أفكار “داعش” ويجعل المملكة هدفاً له. وعلى رغم الانقسام في المؤسسة الدينية بين من يعتبر المنتمين الى “داعش” مرتدين (العضو في هيئة كبار العلماء سابقاً الشيخ سعد بن ناصر الشثري)، ومن يدعو الى رد معتدل ، بدعوى أن “الغلو يحتاج الى اعتدال في نقده وتقويمه” (الشيخ عبد العزيز الطريفي)، ثمة اقتناع متزايد بأن هذا التنظيم يمثل خطراً على المملكة، لرفضه السلطات السياسية الحاكمة وشرعيتها الدينية. أما تركيا التي يعتبرها البعض راهنا “خزان” الجهاديين، نظراً الى التسهيلات التي توفرها لحركة الاجانب منهم، فلن تكون بمنأى عن خطر هؤلاء المسلحين عندما يصيرون قادرين على الاستغناء عنها.
وليست موسكو بعيدة من هذه المخاوف، هي التي تذرعت بخطر المد الاسلامي لدعم نظام الاسد. أما الغرب فلم يلزمه وقت طويل ليقتنع بأن تنظيماً لا دين له ولا رب كـ”داعش” يمثل تهديدا حقيقياً لأمنه القومي. ولكن على رغم الاجماع الاستثنائي على هذا الخطر ومع كل الرؤوس التي قطعت وكل الارواح التي أزهقت، لا استراتيجية بعد لاستئصال هذا السرطان، ولا توقعات لنهاية قريبة لموسم قطع الرؤوس.
النهار
المعاني الخفيّة لطلب «النصرة» حذفها من قائمة الإرهاب
رأي القدس
وجّه رفع «جبهة النصرة» العلم الذي تعارف عليه السوريون على أنه يمثل الثورة السورية على معبر القنيطرة في هضبة الجولان السورية نوعاً من المفاجأة تبعته مفاجأة أكبر حين طالبت «الجبهة» الأمم المتحدة بإخراجها من لائحتها للمنظمات الإرهابية.
مبعث المفاجأة الأولى هو أن «جبهة النصرة» تعتبر الممثل «الشرعيّ والوحيد» لتنظيم «القاعدة» في سوريا، وذلك بإعلان صريح من تنظيم «القاعدة»، كما أن «الجبهة» بالمقابل كانت قد أعلنت مبايعتها لأيمن الظواهري، القائد الافتراضي للتنظيم، وأظهرت أكثر من مرة امتثالها لقراراته وتوجيهاته.
رفع علم الثورة السورية بدلاً من علم تنظيم «القاعدة» الشهير يمثّل تغييرا رمزياً كبيراً فالمعروف عن شقيقات «النصرة» المنتميات لأسرة «القاعدة»، تحت أسماء شتّى، التمسّك المتعصّب والشديد براية «القاعدة»، والذي ليس إلا تنويعاً على أشكال التعصّب الدوغمائية الأخرى والتي خاضت «القاعدة» لأجلها معارك قد تصل الى حدّ إفناء معارضيها.
غير أن الإشارة السياسية الأخرى التي لا تقلّ أهمية عن الأولى كانت في مطلب «الجبهة» حذف اسمها من قائمة المنظمات الإرهابية الخاصة بالأمم المتحدة، فمن المعروف أيضاً عن التنظيمات الشقيقة لـ «القاعدة» في أرجاء العالم، موقفها السياسي المناهض للمنظمات الأممية عموما، وقد سبق لـ «القاعدة» أن استهدفت الأمم المتحدة بشكل مباشر كما حصل في 19 آب/أغسطس عام 2003 وقتل في التفجير ممثل الأمين العام للأمم المتحدة (آنذاك) كوفي عنان إضافة الى 21 شخصا وجرح اكثر من 100 آخرين.
طلب «جبهة النصرة» ترافق مع خطف 45 جندياً فيجياً من قوة حفظ السلام على هضبة الجولان المحتلة، لكن كونه أقرب للتهديد والابتزاز، لا يقلّل من قيمة الدلالات السياسية له، فرغم معرفة «الجبهة» أن اسم «القاعدة» مرتبط بفظاعات إرهابية عالمية، وأن عناصر التنظيم و»شقيقاته» مطلوبون من كل السلطات في العالم، وأن عملية الخطف نفسها تدخل في باب الإرهاب، فإنّها لابد تعلم أيضاً أن التاريخ السياسي الحديث يحفل بمناسبات غيّر فيها العالم، ومسح أو عدّل، تعريفاته السابقة للإرهاب بل ورفع بعض الإرهابيين السابقين وحوّلهم الى رؤساء دول ووزارات بل إن بعضهم نال جوائز نوبل للسلام!
إضافة الى ذلك فمجرّد مطالبة الأمم المتحدة بحذف «النصرة» من قائمة المنظمات الإرهابية العالمية هو شكل من أشكال الاعتراف بالمنظمة الأممية، وإذا عطفناه على فعل الإنضمام الرمزي للحالة السورية (رفع علم الثورة)، أمكننا اعتبار ذلك علامات تغيّر وتحوّل مهمّين في الوضع السوريّ، بقدر أهميتهما للعالم.
والواقع أن ممارسات تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي انشقّ عن تنظيم «القاعدة» وحاول استئصال «جبهة النصرة» قد تعتبر العامل الأساسي في دفع «النصرة» لتمييز متزايد لنفسها عن ذلك التنظيم الذي بزّ كل التنظيمات المتطرفة السابقة عليه في وحشيته وتطرفه، ومن ذلك ما كان من طريقة تعامل «النصرة» مع راهبات دير مار تقلا في بلدة معلولا والتي أدت الى مفاجأة إشكالية حين قامت رئيسة الدير الأم بيلاجيا سياف بالثناء على أمير «جبهة النصرة» في يبرود واصفة إياه بـ «الإنسان الشريف» فشن مؤيدو النظام السوري حملة كبيرة عليهن مطالبين بطردهن من الخدمة الكنسية، لأنها، بحسب عريضة قدمت للبطريرك يوحنا العاشر، «متعاطفة تماماً مع المجرمين». وينطبق الأمر كذلك على إطلاق «جبهة النصرة» لخمسة من العسكريين اللبنانيين، فيما قام تنظيم «الدولة الإسلامية» بذبح أحدهم وبث شريط فيديو للعملية وأرسل جثمانه إلى أهله، في سعي متقصّد لمضاعفة أثر الإرهاب.
والحال أن تمييز «جبهة النصرة» لنفسها عن «الدولة الإسلامية»، مع الإبقاء على مبايعتها لأيمن الظواهري وتنظيم «القاعدة»، يخلقان إشكالية محلية وعالمية، فـ «النصرة»، برفعها علم الثورة السورية، تحلّ نفسها بطريقة مواربة من علاقتها بممارسات «القاعدة» التقليدية، كما أنها تطرح نفسها كمثال جديد لإمكان قبول «القاعدة»، بعد ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية»، بتغيير متدرّج لاستراتيجيتها، وهو أمر لا يجب أن يقلّل العالم من شأنه بالتأكيد.
القدس العربي
نحن نزداد تطرفا؟!/ محمد كريشان
ربنا يُـلحقك به ويُضرب عنقك أنت الآخر!!»… «تدافع عن أمريكي أيها (…) وتتناسى المآسي التي سببها الأمريكيون في فلسطين والعراق وأفغانستان، إلى الجحيم معه يا (…)!!»… «هذا جاسوس وعميل … إلى جهنم وبئس المصير!!». هذه عينة من بعض الردود على مواقع التواصل الإجتماعي تعليقا على ذبح تنظيم «الدولة الإسلامية» للصحافي الأمريكي جيمس فولي في سوريا مؤخرا. يوجه هذا الكلام إلى كل من عبـّــر عن امتعاضه وإدانته لهذا الأسلوب الهمجي في تصفية حساب مع شخص لا ناقة له ولا جمل في سياسات بلاده لا في سوريا ولا في غيرها. أما إذا قلت أن هذا يتنافى مع الإسلام دين الرحمة والتآخي فستتلقى سيلا لا أول له ولا آخر من الشتائم.
بالطبع توجد آراء أخرى مختلفة تماما لكنها تبدو وجلة وفاترة في الغالب مقابل هذا النوع المرعب من الآراء الأكثر انتشارا والأكثر توثبا للإنقضاض، وبكثافة لافتة، على كل من يعبر عن وجهة نظر مـُــدينة لما تشهده المنطقة من تطرف مخيف وغير مسبوق. الأخطر أن هذه الآراء المعبر عنها لا تكتفي بالتصلب في مواقفها، وهذا من حقها في نهاية المطاف، بل تمارس على مخالفيها ترهيبا واضحا في محاولة لثنيهم مستقبلا عن التعبير عن أي رأي يخالف ما يرونه الحقيقة المطلقة السرمدية. بعض أصحاب هذه الآراء يضعون صور راية «الدولة الإسلامية» السوداء إلى جانب أسمائهم المستعارة لكن البعض الآخر يتبنى نفس الطروحات التخوينية والتكفيرية والشتائم التخويفية بكامل أسمائهم وصورهم الشخصية، إذا صدقنا فعلا أنها حقيقية.
لا أحد يستطيع أن يجزم أن عناصر «التدخل السريع» هؤلاء في مواقع «تويتر» و»فيسبوك» هم التعبير الصادق عن الخط المهيمن في أوساط الرأي العام العربي حاليا لكن الأكيد أنهم الأعلى صوتا والأكثر جرأة، وحتى وقاحة، في النيل من خصومهم لردعهم عن مواصلة التصدي لهم. هذا التصدي لا يتعدى الآن مجرد كتابة سطرين أو ثلاثة ليس إلا وعلى أرضية غير معادية للدين الإسلامي الحنيف لكنها تمتلك فهما مغايرا له ليس أكثر. مقابل هؤلاء، يبدو أصحاب «الضفة الأخرى» أميلَ تدريجيا إلى إيثار السلامة وتجنب الإصطدام بأمثال هؤلاء والاكتفاء بمحاولة تغيير ما يرونه منكرا بالقلب فقط، من باب أضعف الإيمان.
لا أحد بإمكانه أن يعطي على وجه الدقة نسبة هؤلاء مقابل أولئك في مجتمعاتنا العربية لكن المقلق حقا هو احتمال أن تكون النخبة السياسية والإعلامية والثقافية في بلادنا العربية غير واعية أو مقدرة لحجم ما يمكن أن يكون قد تسرب تدريجيا عندنا طوال السنوات الماضية من غلو وتشدد في أوساط واسعة ليس فقط من الطبقة الشعبية بل كذلك الطبقة الوسطى وحتى تلك المرفهة. الخشية أن تكون لهذه النخبة تصوراتها المغلوطة أو المنشودة عن طبيعة مجتمعاتهم دون أن تكون على دراية حقيقة وعلمية بما طرأ على هذه المجتمعات من تغيرات عميقة نتيجة الإحباط المتعدد المستويات والأبعاد.
علماء الاجتماع والباحثون المختصون ومراكز الدراسات هم الأنسب لتشخيص علمي دقيق لاتجاهات الرأي العام لدينا حتى نقف أمام أنفسنا في المرآة لنرى صورتنا على حقيقتها فيفرح بها من يفرح ويندب حظه من يندب. قد يكون حجم التطرف عندنا مبالغا فيه أو مضخما لأغراض شتى، وقد يكون فعلا في اتساع مطرد لما لهذا التطرف من جذور عميقة ممتدة في تنشأتنا وتعليمنا وتاريخنا وزاد من حدته عقود القمع والفساد في الداخل والشعور المتنامي بالظلم والاستهداف المنظم في الخارج.
ما حصل أيضا من انتكاس للآمال العريضة التي بعثها الربيع العربي، وتعثر لعملية الانتقال الديمقراطي في مصر، وتعفن للأوضاع في سوريا وليبيا واليمن مع ازدياد حدة الاصطفافات الطائفية في العراق والمنطقة عموما، واستمرار إسرائيل في عدوانها الدائم على الفلسطينيين ونفاق الدول الغربية الغربية والولايات المتحدة أساسا في دعمها الدائم، وخيبات الفلسطينيين والعرب من أي تسوية منصفة.. . كلها عوامل صبت مزيدا من الزيت على نار تطرف لم يخمد أبدا وإنما كان خطه البياني يصعد وينزل حسب سياق التطورات والأحداث. ثم إن الشعور الدائم، والمرضي أحيانا، بالمظلومية، و»الارتياح» للعب دور الضحية بإلقاء كل المسؤولية على «الآخر» بشكل شبه آلي، والتغني المستمر بماض تليد لا معنى لأي مستقبل دون استعادته، بلا نقد أو مراجعة… كله بعض من أعراض التطرف الذي يتهم به العرب والمسلمون حقا وباطلا.. فهل يمكن أن نفلح في تشخيص منصف وشجاع لأنفسنا وبأنفسنا، حتى وإن كان صادما أو مؤلما، قبل اتساع الخرق على الراتق؟
٭ كاتب من تونس
القدس العربي
إسلام» الإرهابيين إذ يمضي في تدمير الإسلام/ عبدالوهاب بدرخان
لا بدّ من التصارح. فالرؤوس تُقطع والدم يُراق والأرواح تُزهق والناس تُروّع وتُذلّ والبلاد تُضَيّع، والشرق يُسلب فلذة التنوّع أو ما تبقّى منها كعنوان لروحانيته وتسامحه وتعايشاته وآخر أمل في حضاريته. لا مجال للتراوغ اذاً، فالمسلمون متيقنون بأنهم مستهدفون في دينهم تشويهاً وشيطنةً وأدلجةً وأن أعداءهم منهم وفيهم بمقدار ما هم خارجيون، والمسيحيون وغيرهم من الأقليات يشعرون بأنهم يُسقَطون اسقاطاً من معادلة الشرق «الجديد» لجعله معزلاً مغلقاً، وأن العهود الاسلامية القديمة تلاشت تحت وطأة خطر «اسلامي» محدق أيضاً بالمسلمين أنفسهم، أما الضمانات الغربية الأقل قِدَماً فتبدو كما لو أنها تبخّرت، فلا جهة في المجتمع الدولي اليوم تعتبر حماية المسيحيين من أولوياتها. أصبح مصيرهم في معمعة الصراع الدولي، الدائر باحتراب أهلي – طائفي بالوكالة، أن يكونوا الثمن، وأن يدفعوا هذا الثمن.
لم تكن المشكلة الرئيسة في أي بلد، لا في مصر ولا في سورية أو العراق أو فلسطين، أن هناك سكاناً زائدين، أن هناك مسيحيين وآخرين يطالبون باحترام حقوقهم وخصوصياتهم. بل كانت هناك أنظمة حكم مستبدة وفاسدة عاملت الجميع بالقمع وبالشدّة الدموية ولم تعترف بـ «مواطنية» أي من رعاياها، كما لم يسعفها استعلاؤها على الأعراف والأخلاقيات ولا تكوينها السياسي والعقائدي في إعلاء القانون فوق الجميع. ترد «الحال الفلسطينية» في هذا السياق لأن اسرائيل شكّلت تاريخياً – باعتمادها على الارهاب والمجازر واحتقار القانون الدولي وطرد السكان الى مخيمات اللجوء – النموذج الأول في المنطقة للأنظمة التي نشأت تباعاً في المشرق العربي وراحت تتجذّر في التطرّف، الى أن أجبرتها هزائمها العسكرية على توسّل الدعم الغربي لبقائها وقد نالته بشروط مركّبة ومتداخلة خلخلت «شرعيتها» إن وُجدت أصلاً، اذ كان تحصين وجود الدولة العبرية وأمنها أول هذه الشروط.
كانت تلك الثغرة التي بحث تيار الاسلام السياسي عنها طوال عقود، فراح يطرح نفسه كبديل داخلي (ضد الأنظمة المستبدّة لكن أيضاً ضد اليسار العلماني) وقومي (ضد العدو الصهيوني) وإسلامي (ضد الشيوعية الملحدة)، ما أوجد تقاطعات مصالح دفعت الأنظمة أحياناً الى استمالة هذا التيار ضد معارضيها الآخرين، وأغرت رعاتها الغربيين أحياناً اخرى باستخدامه كما حصل في افغانستان، هناك حيث اختمرت البذرة الأولى للإرهاب الخاص الذي انتج تنظيمات كان «القاعدة» رائدها المنظّم ثم أفرخت العشرات وصولاً الى «داعش». لكن قبل أن تتبلور تجربة «الأفغان العرب» في مشروع مغرق في الفوضوية والضبابية، كانت ايران الثورة سبقتهم بطرحها «تصدير الثورة» كمشروع هادف ومنظّم يتبنّى بل يتخطّى منطلقات «الأفغان العرب» وأهدافهم (ضد اميركا والغرب، وضد الأنظمة العربية)، مستخدماً بعض خططهم ومطوّراً أساليب اخرى (نسف السفارة الاميركية ومقار عسكرية غربية، أو خطف رهائن غربيين، في بيروت). كان العالم لا يتحدّث إلا عن «الارهاب الايراني» الذي صنّفه كثيرون بـ «الاسلامي» وأشار اليه البعض بـ «الشيعي» (طوال الثمانينات)، ثم تبدّلت الحال مع ظهور التنظيمات المنبثقة من المستنقع الأفغاني، اذ راح الارهاب الايراني يتمايز مستفيداً من أخطاء المشروع الآخر ومغامراته، وبعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة لم يعد «الارهاب الاسلامي» ايرانياً أو شيعياً، بل سنّياً. ثم أن حربي افغانستان والعراق أتاحتا لايران سبلاً جديدة غير متوقعة لتطوير مشروعها الذي ظهرت أهدافه ومعالمه أولاً في لبنان ثم في العراق وسورية وغزّة واليمن والبحرين وغيرها، معتمداً «مأسسة» الارهاب في ميليشيات مسلّحة أو فرق مدرّبة على أعمال العنف.
في سياق المواجهة بين الأنظمة والتيار الاسلامي استسهل الأخير استهداف الأقليات تحدياً للغرب وباعتبارها متمتعة بـ «حصانة» غربية. وعندما ضعفت تلك الأنظمة داخلياً ثم سقطت بشكل أو بآخر، بالغزو في العراق أو برفع الدعم الاميركي في مصر أو حتى بترك النظام السوري يقتل مواطنيه ويدمّر بلاده، لم يكن متوقعاً شيء آخر غير صعود الاسلاميين الى الحكم أو الى الواجهة. جاؤوا مستعجلين ومتعطشين الى السلطة التي لم يعرفوها ولم يخْبروها، وجاؤوا مدججين بحمولة عقائدية ثقيلة وبالية لا تفيد في ادارة الدول، ما حال دون رؤيتهم حقيقة مجتمعاتهم التي مرّت بالكثير من التحوّلات على مدى قرن كامل، وإذا كانت ترحّب بوجودهم في المشهد وبمساهماتهم الايجابية المحتملة في التغيير والاصلاح، إلا أنها ترفض اطروحاتهم الاجتماعية وتطبيقهم البدائي لما يعتبرونه «الاسلام». وبمعزل عن وصولهم الى السلطة عبر صناديق الاقتراع (العراق ومصر وتونس وفلسطين) أو محاولتهم التسلّط ولو بافتعال حرب أهلية (ليبيا واليمن)، فإن المشتَرَك بينهم، سنّة وشيعة، أنهم غير مؤهلين للحكم أو لقبول الآخر، وكونهم انتخبوا لم يمنعهم بحثهم عن «التمكين» من توسل الدعم الاميركي ايضاً.
لعل تجربة العراق التي امتدّت لثمانية أعوام تمثّل، أكثر من التجارب الاخرى، حالاً يمكن الحكم عليها بالقول إن الاسلاميين حققوا فشلاً ذريعاً، اذ اهتموا بـ «مشروعهم» أياً كانت مذاهبهم ومرجعياتهم، وأرادوا التأسيس من الصفر لإقصاء كل من كان قبلهم. ومنذ لحظة سقوط النظام السابق تعامل الحكام الجدد للعراق مع الأقليات ولا سيما المسيحيين باعتبارهم حلفاء لذلك النظام، واذا لم يتعمّدوا الاساءة اليهم علناً ومباشرةً، فإن التمييز والتهميش والإهمال كانت بمثابة ترخيص لاستهدافهم من الارهابيين ورميهم بين أنيابهم وتحت حوافرهم… لكن الأخطر والأهم أن هؤلاء الحكام دخلوا السرايات بعقول مثقلة بتقاليد عملهم سابقاً في المعارضة ولم يفطنوا الى أن عقلية الدولة ومسؤولياتها تحتّم عليهم اتخاذ موقف بالغ الوضوح والحزم ضد جماعات الارهاب والتطرّف والعنف وليس اعتبارها من زمالات النضال، لذلك عندما حان انكشاف فشلهم وسقوطهم لم يكن متوقعاً شيء آخر غير صعود الارهابيين الى الواجهة كبديل منهم.
لم يعش أقباط مصر حقبة أكثر سوءاً من العامين اللذين أعقبا ثورة 25 يناير 2011، فمنذ بوادر وصول الاسلاميين الى الحكم وحتى غداة تنحية الرئيس «الاخواني» تكررت الاعتداءات عليهم بوتيرة متسارعة قتلاً وتنكيلاً واحراقاً للكنائس وتحرضاً سافراً. اما في سورية حيث نصّب النظام نفسه حامياً للمسيحيين وسائر الأقليات لأن نواته المذهبية تأتي أساساً من النسيج الأقلوي، لكن جرائمه وأخطاءه وغباءاته عرّضتهم لمواقف لا يريدونها ولمواجهات لا يحبذونها ولأخطار ليسوا مضطرّين لها، فقد كانوا يجدون السبل للتعايش مع مَن في الحكم ومّن في المعارضة، وعلى رغم بطش النظام بالمعارضة، فإن هذه لم تستهدفهم لكونهم مسيحيين، غير أن تعاظم دور الارهاب الذي استورده النظام ورعاه فتك أولاً بالغالبية السنّية وثورتها وبات يرجّح مصائر المسيحيين بين الهجرة والتشرّد والذبح.
المصارحة المطلوبة هي داخل بيت المسلمين أنفسهم. فالعالم يقول إن ثمة مشكلة إما في الاسلام أو تحديداً في تطبيقاته، أو في فتاواه، أو حتى في «صمت» الدول العربية والاسلامية الذي شكا منه بيان لبطاركة الشرق بعد اجتماعهم الاسبوع الماضي في لبنان، اذ قال إنها «مدعوة الى اصدار فتوى دينية جامعة تحرّم تكفير الآخر الى أي دين أو مذهب أو معتقد انتمى». اللافت أكثر في ذلك البيان دعوته أيضاً الى «فصل الدين عن الدولة وقيام الدولة المدنية (حتى) لا يعود الدين يستولي على السياسة ولا السلطة السياسية توظّف الدين في خدمة مصالحها، ولا المنظومة الفقهية تسيطر على مقتضيات الحداثة». معلوم أن جهداً بذل ويبذل لتنظيم الإفتاء لكنه فقد فرصة النجاح، فالمؤسسة الدينية ظلّت طويلاً ضعيفة أمام كل ما يدّعي الاسلام مرجعية حتى علقت في فخ المجموعات الارهابية واستغلالها الدين تسويغاً لجرائمها. وإذا كان العاهل السعودي وجّه لوماً الى علماء الدين، فإن الواقع يُظهر أن «المؤسسة» لم تأتِ بأي موقف قوي وواضح في مواجهة خطاب «داعش» ولا الفظاعات التي ترتكبها ولا اقدام زعيمها على ادّعاء «الخلافة».
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة
برودة أوباما أنعشت صيف “داعش”/ جويس كرم
طوال الأعوام الثلاثة، ماطل الرئيس الأميركي باراك أوباما وأجل واستمهل وضع استراتيجية والقيام بتحرك فاعل على المستوى الدبلوماسي أو العسكري في سورية. عذره كان إما البقاء بعيداً عما وصفه مسؤولوه بـ«حرب استنزاف» بين النظام والمعارضة، أو عدم وجود مظلة وتوافق دوليين، لذلك هو يتحرك اليوم بكلفة كبيرة.
سياسة الاحتواء والتردد الأميركي في سورية ساهما جزئيا في صعود، أو على الأقل إعادة إحياء تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) الذي اكتسح في ١٠ حزيران (يونيو) الماضي الحدود العراقية-السورية وسيطر على الموصل، مستفيداً من وجوده في الرقة ودير الزور شرق سورية.
ما بعد الموصل ليس كما قبله في واشنطن، إذ وجد أوباما، البارد والحذر، نفسه مضطرا للعودة إلى الساحة الحربية في العراق والتخلي عن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وها هو اليوم يدرس توسيع الضربات الجوية إلى داخل سورية لشل «داعش» وتفادي أفغانستان جديدة في قلب الشرق الأدنى، نقطة تقاطع المصالح الجيو-الإستراتيجية والنفطية الدولية.
«داعش» هو محطة انهيار عقيدة أوباما الاحتوائية في سورية. فبعد عامين من تجاهل التحذيرات من شركاء إقليميين ومسؤولي الاستخبارات من داخل الإدارة الأميركية عن الحاجة إلى التعاطي بحزم أكبر مع ما يجري في سورية، وتعهد من حلفاء الولايات المتحدة بالمساعدة في مواجهة التطرف هناك، يواجه أوباما أكبر تحدٍ لسياسته الخارجية، وبوتيرة أسرع وتنظيمات أكثر شراسة من «القاعدة». وكلام رئيس هيئة الأركان مارتن ديمبسي عن عدم القدرة على هزيمة «داعش» من دون التحرك في سورية، يعكس عمق الأزمة. هذا التحرك بات شبه حتمي اليوم مع قتل «داعش» أمس الصحافي الأميركي ستيفن سوتلوف بعد زميله جايمس فولي، وتأكيد الاستطلاعات أن٦٠ في المئة من الأميركيين يؤيدون الضربات، واستعجال الكونغرس لوضع خطة شاملة لذلك.
الأوساط الأميركية المعنية بهذا التحرك، وفي حال أقره أوباما، تقول لـ«الحياة» أن قيادة «داعش»، وعلى رأسها أبو بكر البغدادي، موجودة في سورية، والضربات في العراق لن تكفي لهزيمتها، لا بل من غير الممكن استقرار العراق كليا طالما أن «داعش» متمدد في الشرق السوري والحدود سائبة بين الجانبين. غير أنها تتحدث عن جدل داخل الإدارة حول كيفية ضرب التنظيم الإرهابي من دون أن يتحول ذلك كمساعدة للرئيس السوري بشار الأسد الذي دعاه أوباما إلى التنحي في آب (أغسطس) ٢٠١١. وتقول صحيفة «وول ستريت جورنال» أن الضربات في حال شنها داخل سورية ستكون مركزة على الجهة الشرقية من البلاد ومحافظتي الرقة ودير الزور، إذ يعد الوجود الأكبر للتنظيم وقيادته. ولم تبد القيادة العسكرية الأميركية اكتراثا لدفاعات ومضادات النظام السوري وقالت أنها ستدخل من دون إذن وكون هذه المضادات إما «معطلة» أو «بطيئة الرد».
أي خطة أميركية ستأخذ في الاعتبار أيضاً رص تحالف إقليمي ودولي حولها، وانطلاقا من كون التهديد يطال دول المنطقة وأيضا أوروبا وأستراليا التي يتوافد منها مقاتلون بالمئات لمساندة «داعش». وتأمل واشنطن من هكذا تحرك شل التنظيم بعد وقف زحفه في العراق، وطي صفحة صيف «داعشي» حار اختصر المسافة بين الرقة وواشنطن.
الحياة
“التحالف المرّ” ضد “داعش”/ زهير قصيباتي
سكين «داعش» التي ذبحت الصحافي الأميركي ستيفن سوتلوف بعد الصحافي جيمس فولي، يسلّطها تنظيم «الدولة الإسلامية» على عنق سياسة الرئيس باراك أوباما الذي اختار التريث، جرياً على نهجه، والبدء بضربات جوية لمواقع «داعش» في العراق، بالتقسيط.
وواضح أن التنظيم الذي يحتجز رهائن غربيين ويهدد بذبح بريطاني، يعتمد «استراتيجية» الذبح للردع، فيما اضطر أوباما الذي تزامن بدء جولته الأوروبية مع النهاية المأسوية لسوتلوف، إلى إعلان ما تردد مرات في قوله عن وجود استراتيجية أميركية للتعامل مع خطر «داعش» ووحشيته. يجيب الرئيس الأميركي إذاً عن تساؤلات أثارها زعماء الكونغرس الذين انتقد كثيرون منهم تردده وتحفّظه المبالغ فيه… هو لا يكشف بالطبع جوهر تلك الاستراتيجية التي يفترض أن تكون «ذكية» مثلما أحبَّ دائماً كل شيء «ذكي»، وكرّر مرات أن حكمته إنما تكمن في مقاومة الانزلاق إلى سياسات «غبية».
ما بدا «ذكياً» في حسابات أوباما الذي أعلن في أستونيا أن إدارته باشرت الحرب على «داعش»، هو تحديد إطارين لهذه المواجهة، فيتولى الأميركيون ضرب مواقع «الدولة الإسلامية» في العراق، بغارات جوية، وتُترك بقية المهمة لتحالف إقليمي… وتعتقد الإدارة بأن الاشتباك البري والعمليات الميدانية ضد «السرطان» هي من واجب كل الدول التي ستلتحق بالتحالف في المنطقة. هكذا تكون إيران في صفوفه مثل مصر والسعودية، رغم تباين مواقف الرياض وطهران من مصير النظام السوري، في حين لا يمكن الغرب تجاهل الامتداد الجغرافي لـ «خلافة» أبو بكر البغدادي، من الموصل في شمال العراق الى الفرات.
معضلتان إذاً تواجهان مهمة ما يسميه أوباما وقف «تمدد سرطان داعش» وهمجيته، ومحوه الحدود بين العراق وسورية:
1- تشكيل ائتلاف يريده إقليمياً، لئلا تضطر عواصم غربية إلى إرسال قوات إلى المنطقة، فيما يُفترض ان يؤدي الى تنسيق أمني- عسكري بين دول سياساتها غير مؤتلفة إزاء ما تتعرض له شعوب عربية من تنكيل ومجازر وإرهاب.
2- جدلية العلاقة بين حتمية ضرب مواقع «داعش» في الرقة السورية، وتجاهل الغرب أو ضرباته الجوية مواقع للنظام السوري الذي يكابد- بلا جدوى حتى الآن- لحجز مقعد الشريك في الحرب على «الدولة الإسلامية»، لكنه لا يوقف حرب البراميل المتفجرة على فصائل سورية معارضة وأحياء سكنية.
دور الشريك لم يستطع الروس تجاهله أو الصمت عنه طويلاً، في دفاع متجدد عن استعادة شرعية النظام السوري، لذلك لا ترى موسكو سوى تناقض بين «محاربة داعش في العراق ورفض التعاون مع الأسد في سورية».
وقد تستنتج دول عربية لها مصلحة أكيدة في وقف إرهاب «داعش» ومذابحه وتمدده، أن ما يريده الأميركيون ببساطة هو إبعاد خطر «الدولة الإسلامية» عن أبواب أوروبا والولايات المتحدة، وتوجيه دفة القتال عن بُعد، باستثناء التدخل جواً… ولتحشد دول المنطقة ما شاءت، ومهما سال من دماء، فهي تدافع عن حدودها ووجودها.
ما يطمح إليه الرئيس الأميركي هو ألاّ يبقى تنظيم «داعش» مصدر «تهديد للمنطقة»، لكنّ المهمة تتطلب وقتاً أطول بكثير من أسبوعين. ألا يكفي هذا المقدار من الواقعية «الذكية» لإثارة مزيد من القلق حول ساحات المواجهة مع «الخلافة» وأثمانها وآفاقها؟
مرة أخرى يتبيّن كم كان مكلفاً غباء التردد في وقف المجزرة الكبرى في سورية والتي حوّلت أرض الفرات الى مرتع إرهاب قضَم الثورة ولم يجرح النظام.
وحين يقر أوباما بالحاجة الى استراتيجية إقليمية للتحرك على الأرض، وعدم الاكتفاء بالضربات الجوية لعله يرجّح عشية قمة الحلف الأطلسي، توزيع الأدوار لدول في المنطقة… ولن يجد بالتأكيد جواباً ذكياً حول كيفية ترميم الثقة مع إيران التي شجعت استبداداً في العراق، كان بذوراً خصبة لـ «داعش» ورعت حرباً وحشية في سورية، كان لا بد من أن تنجب الوحش.
الحياة
“داعش” والبيئة الحاضنة/ هشام ملحم
بدأت التيارات والحركات الاسلامية بإعادة تشكيل وتأهيل نفسها بعد هزيمة 1967 وذلك بعد تهميشها وعزلها في دول مثل مصر وسوريا والعراق منذ الحرب العالمية الثانية وبروز التيارات القومية واليسارية. ومنذ سبعينات القرن الماضي بدأ بعض هذه التيارات بنشاط سياسي علني وبعضها الآخر بنشاط سري ومسلح، وقامت جماعة الاخوان المسلمين في سوريا بحملة عنيفة على النظام في سوريا انتهت بمجززة حماه في 1982، وقامت “الجماعة الاسلامية” وغيرها في مصر بحملة ارهاب ضد النظام وحتى السياح الاجانب في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. ومنذ 1967 وعملية “أسلمة” الحياة السياسية في الدول العربية مستمرة من دون توقف، على رغم تعرضها بين وقت وآخر لنكسة كبيرة كما رأينا في الانقلاب على نظام “الاخوان المسلمين” في مصر في 2013. وعندما نراقب الحياة السياسية في المغرب مرورا بتونس وليبيا وحتى مصر ولبنان وسوريا والعراق واليمن، نرى ان الحراك السياسي في هذه المجتمعات هو نتيجة نشاطات حركات اسلامية سنية وشيعية مثل النهضة، و”الاخوان”، والسلفيين، و”حزب الله” في لبنان، والاحزاب الشيعية في العراق والحوثيين في اليمن، أي ان الحياة السياسة تحولت اجتهادات داخل العائلة الاسلامية الكبيرة بفروعها وغصونها المتعددة.
لكن أحد أسباب عودة هذه التيارات الى البروز، هو الخراب السياسي والاجتماعي الذي تسببت به التيارات القومية واليسارية المراهقة والسلطوية من مصر الناصرية، الى سوريا والعراق البعثيين، مرورا باليمن الجنوبي الاشتراكي وانتهاء بالنظامين العسكريين في ليبيا والجزائر. ومدى عقود من الزمن أقامت هذه الانظمة التي سميت او ادّعت انها “علمانية” على خنق المجتمعات المدنية، من خلال احتكار مؤسساتها، وتفريغها من مضمونها الانساني والثقافي، وتشكيل الاحزاب المهيمنة وترهيب الديموقراطيين من علمانيين وتقدميين وقوميين متنورين. ومن هذه الارض المحروقة عادت بذور التيارات الاسلامية الى النمو وقد رأت في القحط السياسي الذي خلفته الانظمة “العلمانية السلطوية” (التي أخفقت في مجالات التنمية الاقتصادية او استعادة الاراضي المحتلة، او حتى اقامة مؤسسات تعليمية حديثة) البيئة الحاضنة لطروحاتها وأوهامها. بعد الغزو السوفياتي لافغانستان ادى تعاون واشنطن والقاهرة والرياض واسلام اباد الى أسلمة حرب تحرير افغانستان من الاحتلال السوفياتي وتعزيز الاسلام المتطرف المتمثل بـ”الجماعة الاسلامية” وتنظيم “القاعدة”، وهبوب رياح اسلامية صحراوية متزمتة ومتعصبة للغاية.
والغزو الاميركي للعراق أظهر بشكل فاضح الى أي مدى نجح نظام صدام حسين في تفكيك العراق الى مكوناته الكردية والسنية والشيعية. وعندما بدأت الانتفاضة السورية بدت واضحة معالم الاذى الذي تسببت به طائفية البعث وطغيانه ومدى نهب الطغمة الحاكمة (بمكوناتها العلوية والسنية والمسيحية) ثروات البلاد. في هذه البيئة الحاضنة ولدت داعش.
النهار
فيديو ثاني… «الذين يذبحون الاسلام والمسلمين»
رأي القدس
نشر موقع «سايت» للرصد فيديو جديدا منسوبا للتنظيم المعروف اعلاميا باسم «داعش» يظهر ذبح ثاني صحافي أمريكي اسمه ستيفن سوتلوف.
وحمل الفيديو تحذيرا بشأن رهينة بريطاني اسمه ديفيد هاينز، كما طالب الحكومات التي دخلت فيما سماه «تحالف الشر» إلى التراجع .
جاء الفيديو الجديد فيما مازال العالم والانسانية تحت آثار صدمة الفيديو الاول الذي يظهر عملية ذبح الصحافي الأمريكي جيمس فولي الذي اختفى في سوريا قبل عامين.
كانت والدة ستيفن سوتلوف وجهت رسالة مصورة قبل أيام إلى زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي ناشدته فيه الإفراج عن ابنها.. وقالت الأم: «منذ احتجاز ستيفن تعلمت الكثير عن الإسلام، وتعلمت بأنه لا يحاسب المرء على ذنب غيره، وستيفن لا يملك سلطة على ما تفعله الحكومة الأمريكية، إنه صحافي بريء.. وكوالدة أطلب منك أن تمنح العدل والرأفة لابني، وأن تستخدم سلطتك لإنقاذ حياته».
وبالطبع لم يستجب البغدادي لهذه الكلمات التي لا تعبر فقط عن لوعة ام على ابنها، ولكنها تقرر بالفعل حقيقة ثابتة في الاسلام، شدد عليها القرآن الكريم في الآية المشهورة «ولا تزر وازرة وزر أخرى».
حقا لم يوجه التنظيم أي اتهام لشخص الصحافي سوتلوف، بل اوضح انه يذبحه ردا على الغارات الامريكية المستمرة في العراق، وكأن سوتلوف يشغل منصب رئيس هيئة الاركان الامريكية.
وفي تأبينه للصحافي المذبوح، قال الرئيس الامريكي باراك اوباما امس اثناء مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الاستوني، ان «سوتلوف كان يحب العالم الاسلامي»، وكأن لسان حاله يقول «ومن الحب ما ذبح».
وللمفارقة فان هذا هو المعنى الذي سيقرأه كثيرون في الغرب لذبح سوتلوف. وبكلمات اخرى فان اوباما يقول للعالم المصدوم»هذه نهاية من يحب المسلمين او يقترب منهم او يتعاطف معهم لاي سبب سواء من غزة الى افغانستان او غيرها».
وجاء التهديد الداعشي بذبح مواطن بريطاني ليحرك موقف رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، اذا تعهد امام جلسة عاصفة لمجلس العموم خيم عليها فيديو الذبح البشع بالقضاء على داعش في العراق، عبر تحالف قوي بمشاركة بريطانية، الا انه استبعد ان تشمل الغارات المتوقعة قوات التنظيم في سوريا «نظرا لعدم وجود دعوة من نظام الاسد الى ذلك» حسب تسريبات حكومية.
وتبحث الحكومة البريطانية فرض مجموعة من الاجراءات المشددة وغير المسبوقة لمنع وصول خطر «داعش» الى شوارعها، عبر حزمة قوانين جديدة وصفها الاعلام البريطاني بانها ستكون «من وحي داعش».
وبالفعل المح كاميرون الى ان الحكومة تملك الحق القانوني في منع دخول البريطانيين حاملي الجنسية المزدوجة، ان اقتضت ذلك مصلحة الامن القومي، في اشارة الى عدد كبير من الشباب البريطاني من اصول عربية وآسيوية من الذين يقاتلون مع التنظيم الارهابي في سوريا.
معنى هذا، ان الحكومة البريطانية اعلنت الحرب رسميا على ارهاب «داعش» والقاعدة واخواتهما الكثر (مهما تعددت الفروع وتنوعت الاسماء وتبدلت الرايات)، سواء الذين يحاربون في الخارج، او من يروجون لافكارهم في الداخل عبر اي وسيلة اعلامية او غيرها. ومن التجربة نعرف ان الضحية الاولى لهذه الحرب، هم المسلمون وصورة الاسلام الذي هو بريء من الارهاب وكل من يرتكبه.
ولا نبالغ عندما نقول ان ذلك الارهابي البريطاني الجنسية (جون) بلهجته المعروفة باسم (الكوكني) والمنتشرة في جنوب انكلترا، والذي يقال انه مصري الاصل، انما يذبح صورة الاسلام وامة بأكملها، بتلك السكين الصدئة التي يتفاخر بها.
ومن العجيب ان المسلمين الذين يتصدرون قائمة الضحايا، يأتون في المؤخرة عندما يتعلق الامر بخطة عملية لمواجهة ذلك السرطان الارهابي. اذ لم نسمع عن تحرك حقيقي في اي بلد لاصدار قانون لحماية الشعب، او الاسلام بمراجعة علمية لروايات وتفسيرات فقهية مزعومة يعتمد عليها اولئك التكفيريون، وكأننا نستحق اولئك الارهابيين والمتقاعسين عن انقاذنا منهم، ويستحقوننا.
القدس العربي
دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام/ كمال عبد اللطيف
ليس عنوان هذه المقالة محوراً من محاور درسٍ في تاريخ الدولة ونظام الحكم في الإسلام. إنه يشير إلى أفقٍ وخيار سياسي لمجموعات جهادية. وقد قرأت البيان الأول العلني لمجموعة اختارت طريقها لبناء الخلافة الإسلامية مجدداً. وقد أدرجت “داعش”، في البداية، ضمن دائرة الانفجار الطائفي، الموظَّف في قلب الفوضى المتنامية في مجتمعاتنا، وتابعت، بحذر شديد، علاقة هذه الطائفة بالأمكنة في كل من سورية والعراق، وفي المجال المفترض لبلاد الإسلام. ثم وسَّعتُ المجال الجغرافي، بإدخال الجغرافية الإقليمية وخريطة التموقعات السياسية القائمة، ومن دون أن أُغفل مُتغير الاستقطاب الدولي الأوسع، إلا أنّ فواجع ما يجري على الأرض في المشرق العربي، وما يجري في الإعلام الذي يركِّب الصُّور من مواقع معينة، جعل الأوراق مختلطةً أمامي بصورة لا مثيل لها. فقلت في نفسي، بلغة العزاء: ليس من الضروري فهم كل ما يجري في العالم أمامنا.
انتبهت، في إحدى لحظات حيرتي، إلى تقارير دولية، أصبحت تُعمَّم أخيراً، في قنوات تلفزيونيةٍ دولية وعربية كثيرة، انتبهت إلى معطياتٍ غريبة كثيرة، تتعلق بمصادر تمويل المجموعة وأجور المرتزقة من المتأسلمين، كما يتعلق بهيمنة الداعشيين على آبار البترول في شمال العراق، وكيفيات صرفهم الأموال الناتجة عن تسويقها، حيث يتم العمل بجمع أكبر قدر من المتطوعين، لكن معطيات هذه التقارير جاءت مرتَّبة بصورةٍ، تدعو إلى حذر كثير.
تركت الموضوع بصورة مؤقتة، وانخرطت في تفاؤل لا نظير له بمنجزات المقاومة في غزة، إلى أن انتبهت، ثانيةً، إلى بداية ظهور تقارير مضادة لما سبق في موضوع داعش، تقارير تفضح التقارير السابقة، وتعتبر أن ما يجري مهيأ سلفاً لمزيد من تفتيت الدولة والمجتمع في المشرق العربي. نحن، في النهاية، أمام سيناريو مؤامراتي، يروم القيام بتفكيك الأنظمة السياسية القائمة، والفزاعة المستعملة لذلك هي دولة الخلافة الإسلامية القادمة، عنوان مجد قديم في طريقه إلى العودة!
بدأت أتابع محتوى التقارير الجديدة، كما أعاين في قنوات التلفزة قصص الرعب في شمال العراق، وما يجري في سورية من قتل وتهجير، وكذا صور الخطف والاختطاف والدِّيات المالية العالية، وكذا انخراط الشباب، من كل حدب وصوب، في بناء أنوية المجموعة في بلدان المغرب العربي وأوروبا، فتبينت، في النهاية، أنني أقف أمام القاعدة رقم 2، من دون أن يعني هذا أن القاعدة رقم 1 انتهت، أو دخلت في سبات مؤقت.
تحضر في داعش القاعدة، وفي القاعدة يتواصل منطق الجهاد مع داعش. وما عزَّز اقتناعي بترجيح هذا الموقف، الجوامع المشتركة بينهما. لا يتعلق الأمر في موضوع المشترك والموحد بينهما باللباس واللحى وبعض الأمارات الدالة (العلم الأسود والشهادة)، ولا بأشكال الاستقطاب الذي تُوظِّف الإسلام بطريقة مخيفة، بل بالوسائل المستعملة من التنظيميْن في المعارك القائمة، سواء منها التي تجري على الأرض، أو التي تملأ القنوات التلفزيونية، أو المعارك الأخرى التي تغذّي المواقع الافتراضية، وتصنع الأخويات بوسائل التواصل الاجتماعي المتطورة.
“فواجع ما يجري على الأرض في المشرق العربي، وما يجري في الإعلام الذي يركِّب الصُّور من مواقع معينة، جعل الأوراق مختلطةً أمامي بصورة لا مثيل لها”
وقد ازددت تأكداً من وجود جوامع بين داعش والقاعدة وتيارات التشدد السلفية ومن يدور في فلكها، من أولئك الذين يحاربون جاهلية عصرنا بتقنياته وفتوحاته العلمية، عندما انتبهت إلى الأساليب الجديدة المستخدمة، اليوم، في الحروب المشتعلة في أكثر من ساحة عربية، أدركت أننا أمام جهاد متواصل، ذلك أن التفجيرات الانتحارية للأفراد والأمكنة ووسائل المواصلات، والصناعات الحربية الجديدة في مجال الغازات، وتسميم المواد الغذائية، أساليب واحدة تمارس، اليوم، عمليات قَتلٍ متواصلةٍ، من دون حروب تقليدية، وهي تحصل بواسطة فاعلين بأهداف متنوعة، تجمعهم مرحلياً شعاراتٌ ترتبط بغاياتٍ ليست دائمة واحدة، ولا متفق عليها.
أما صناعة المِلَل والنِّحَل وتجديدها ثم خَلَطها، وهي الظاهرة التي تنامت وتزايدت بصورة لا مثيل لها في أغلب المجتمعات العربية، فإنه يمكننا أن نُدرجها، أيضاً، ضمن الأدوات الحربية الجديدة، المستخدمة في حروبنا، اليوم، مع بعضنا ومع العالم.
يمكن أن نضيف إلى ما سبق ظاهرة خلط الأوراق والمواقف السياسية والاستراتيجية، ولا نقصد بذلك ما يعرف بنظرية الفوضى الخلاقة، بل الفوضى فقط، الفوضى الانتقامية، الأمر الذي يضعنا أمام “الكاوس” الغموض المطلق، حيث لا بارقة أمل، وحيث الفوضى علامة الساعة.
يمكننا أن ندرج كل ما سبق ضمن المعارك التي تنتظرنا، وهي معارك تقتضي منا فهم ما يجري، كما تقتضي منا الحسم فيما لم نحسم فيها.
وإلى أن يحصل ذلك، أسألكم وأسأل نفسي: ماذا يقع اليوم في العراق وسورية؟
العربي الجديد
“داعش” الداء والدواء/ أمجد ناصر
خلط الأوراق في المنطقة يجري على قدم وساق. أراهن على أن أكبر كومبيوتر في العالم لا يستطيع أن يحلّل ويفرز ما يجري في العالم العربي، ووضعه في خانات قابلة للفهم. لنرجع إلى الوراء، أشهراً فقط: كانت البؤرة المشتعلة في مسرح “الشرق الأوسط” سورية. كان هناك انشغال، ولو شكلي، بما يجري فيها، ومحاولة إيجاد حلول سياسية لهذه المأساة الأكبر في الحياة العربية منذ نكبة فلسطين، وفجأة تبخَّرت محاولات الحل السياسي. كان العراق مجرد ساحة خلفية لما يجري في سورية، وليبيا تواصل تفككها العادي، ما بعد القذافي، وغزة على موعدٍ مع جولة دموية جديدة مع إسرائيل، فيما لبنان يتلقى الانعكاسات المتوقعة للحرب في سورية. أما سورية نفسها، البؤرة المشتعلة، فكانت قوى المعارضة المسلحة، بما فيها “النصرة” (فرع القاعدة السوري) تخوض معركتين متلازمتين: ضد النظام و”داعش” التي لم تكن تشكل، في أي تحليل سياسي، خطراً يتجاوز إلهاء المعارضة المسلحة عن معركتها “المركزية” ضد النظام، بل، بالعكس، جاءت لحظة كادت أن تطرد فيها “داعش” من معظم المناطق التي انتزعتها من قوى المعارضة السورية المسلحة، فصرنا نراها تولّي الأدبار في اتجاه المناطق السورية الشرقية، ومنها إلى العراق. ثم فجأة تغيَّر كل شيء، وحصل ما يشبه الانقلاب في موازين القوى. عمدت “داعش” المطرودة، تقريباً، من الشمال السوري، وغيره من المناطق، إلى اجتياح المناطق العراقية الغربية واحتلال الموصل، المدينة الثانية في البلاد، في أقل من شهر. انهار الجيش العراقي الذي “أنفق” عليه المالكي، دفترياً، مليارات الدولارات، تسليحاً وإعداداً، فشلح ثيابه العسكرية، وهرب من المعركة بالملابس الداخلية.
ما سبق مجرد تخطيط سريع (كروكيه) لما يجري. والسؤال الآن: كيف أمكن لبضعة آلاف داعشي (أكثر من نصفهم غير عراقيين) أن يحتلوا نصف العراق، ويبسطوا سيطرتهم على حقول نفط وسدود ونقاط عبور دولية، ويرتدوا إلى سورية، فيعيدون السيطرة على ما فقدوه من مناطق، بل يتوسعون أكثر.
كيف حصل هذا؟ بأي دعم؟ بأية أضواء خضراء؟ ومن بيده أزرار هذه الأضواء الخضراء؟ لست، هنا، في معرض تحليل الظاهرة الداعشية، وكيف استوت على الصورة التي نراها، بل للتساؤل عما حصل، وما تلاه. ما حصل نعرفه، أما ما تلاه فيتكشف لنا، الآن، فصولاً.
ملاحظاتي على هذا المشهد الملتبس هي:
-واشنطن لم تتحرك عندما كانت “داعش” تنتشر كالفطر السام في سورية، دع جانباً عدم تحركها، على أيّ نحو، ضد الجرائم التي ارتكبها (ولا يزال) نظام بشار الأسد، بما في ذلك الخط الأحمر الذي لوّحت به على الملأ: الكيماوي.
– ولكن، عندما اقتربت “داعش” من أربيل وبغداد تحرَّكت، ولكن ليس قبل إعلان الكلفة المالية (من سيدفعها؟ العرب طبعاً) والكلام عن حلفٍ يضم دول المنطقة.
-إيران تقاتل مع واشنطن في العراق، وضد خطابها المعلن (الخطاب فقط) في سورية.
-التحرك السريع للحلف الغربي (والعربي) الذي كان وراء احتلال العراق. ولكن، “دفاعاً” عن كردستان هذه المرة.
-“الاحتفاء” العجيب بفيديوهات “داعش” لقطع الرؤوس، والتركيز عليها لصنع انقباض شديد في أمعاء الرأي العام العالمي، ودفعه إلى التقيؤ.
-الكلام الذي لم يعد خجولاً ألبتة عن التعاون مع نظام الأسد في مواجهة “داعش” التي أطاحت أحد صانعيها (المالكي، وهذا مطلوب)، وربما يأتي الدور على بشار الأسد الذي رباها في سجونه وغذاها.
-كل ما تقدَّم يجعل عودة أميركا إلى المنطقة ليست مطلباً، بل أمنية وصلاة.
***
أبعد من هذه الملاحظات السريعة التي تمكن مضاعفتها، يُطرح السؤال: هل هناك ترابط بين ما يجري بدءاً من ليبيا وصولاً إلى كردستان العراق، مروراً بغزة ولبنان وسورية واليمن؟ هل الهدف واحد؟ ليس لدي جواب. ولكني أظن أنَّ كل ما نراه في حياتنا العامة، ما بعد الربيع العربي، يعملُ، بالدرجة الأولى، على تحويل الاستبداد، الذي ثرنا عليه، إلى مطلب شعبي ووطني.. هكذا تكون “داعش” (وأخواتها)، التي صُنِّعت جيداً في أقبية المخابرات، هي الداء الذي ينخرُ.. والدواء الذي يُشْفي!
العربي الجديد
داعش” ورايته المقدسة/ دلال البزري
الوقائع بسيطة: شباب غاضب في حيّ الأشرفية المسيحي من بيروت، يحرقون علم “داعش”، تعبيراً عن غضبهم من ممارسات هذا التنظيم التي وصلت حدود لبنان الشرقية، فاختطف جنودا من جيشه، وذبح واحدا منهم، وما زال متأهبا لمعركة لبنان الى خلافته الاسلامية، تحقيقاً لأمنية الوصول إلى شواطىء البحر المتوسط. ثم وزير يرفع عليهم قضية ويطالب القضاء بأن ينزل عليهم “أشد العقوبات”، بداعي ان هؤلاء الشباب حرقوا “رمزاً دينياً”، أي كلمة “لا إله إلا الله”، المزِّينة للعلَم الداعشي. ومن أجل أن ينتهي الموضوع بالشعار البائت “لا غالب ولا مغلوب”، قام شباب مسلم من العاصمة الثانية طرابلس، بطرق أبواب بعض كنائسها ووصمها بشعارات داعشية؛ فقام الوزير نفسه بمطالبة القضاء، أيضا، بانزال أشد العقوبات عليهم. هكذا إعتقد بان الموضوع “انتهى”، بالمناصفة، و لا حاجة إذن إلى كل “هذا الضجيج”…
ولكن هذه “التسوية الذكية” لا تلغي السؤال: لماذا؟ لماذا يرى الوزير علم “داعش” مقدساً؟ هل لأنه يعتبر “داعش” كما يقدم نفسه، أي صاحب الاسلام؟ وانه، أي الوزير، يتمنى فعلاً أن تشيّد دولته الإسلامية، طالما الأمر آتٍ من أصحاب راية مقدسة؟ هل كان تصرفه عفوياً، من دون تمحيص، يعبّر عن أعمق مكنوناته، بأن “داعش” يمثل الإسلام؟ أم إن الموضوع حساب سياسي ضيق، يتعلق بمدينة طرابلس، مسقط رأسه، حيث جماهير “قادة المحاور”، رافعي علم “داعش”؟ أم لأنه غائص حتى أذنيه في ثنائية 14 و 8 آذار، معسكري لبنان المتخاصمين، فلا يرى في “داعش” غير “ثأر” للمعسكر الذي ينتمي اليه؟ أم إن وظيفة الوزير في وزارة “الوحدة الوطنية”، هي وظيفة إستنسابية، طالما ان ملخص إجتماعات مجلسها تدور حول أسئلة الجدل البيزنطي من نوع “من يلعب بالبلد؟”.
والحال ان الذي يستحق العقاب باستباحته الرموز المقدّسة، هو “داعش” نفسه. فتحت راية “لا إله إلا الله”، دمر أضرحة الأولياء والحسينيات المزارات والمساجد والكنائس، وهدر الارواح والحريات واسقط الأوطان… وها هو يتأهب على حدود لبنان الشرقية، لربما بلغ البحر المتوسط، فتكتمل معالم دولته بتطهير لبنان من المرتدين والروافض والنصارى. قتلة، لصوص، خاطفون، يذبحون، يصْلبون، يسْبون، متباهون ببشاعتهم، يروجونها على اليوتيوب؛ قلْ ما شئت عنهم، وسوف يكون صحيحاً… هؤلاء هم الذين يستحقون المحاكمة، وليس نفراً من الشباب، ما زال يمتلك شيئا من آدميته، وحرق الأعلام عنده تقليد سياسي عريق، لا يرى فيه بدائيته السياسية.
ولكن ماذا تفعل؟ ماذا تقول؟ “داعش” وصل الى لبنان قبل جيوشه الجرّارة. ها هو لبنان رهينته. فبدل ان يحتج أهالي العسكر المخطوفين على جرائمه، صاروا يتوسلونه، يهمسون في آذانهم، يرجونه، يستعطفونه، يقولون له معك حق، انت فوق رأسنا، قل ما تريد، إفعل ما تريد، ولكن أعِد لنا أولادنا. بعض الزعماء المسيحيين التقطوا النغمة، ووجدوا انها خير سبيل لبلوغ المراد: مسامحة “داعش” على كل ما عليه، استنكار حماسة الشباب الصادقة المتهورة بحرق علم التنظيم الإجرامي، الذي لا يرفع إسمه إلا مبخّراً، والرجاء مرة اخرى تسليم أولادنا سالمين. طبعاً، لا يمكن مؤاخذة أهل وجدوا للمرة الألف ان دولتهم عبارة عن قماشة رقيقة من النايلون المهترىء، وحيدين أمام قدرهم… هكذا كان الوضع أيام الوصاية السورية: يسكتون عن الذين يقتلونهم، حفاظاً على رقابهم.
الشباب الذين أحرقوا علم “داعش” في ساحة ساسين ربما تأخروا في موعدهم مع المعركة. ومعركتهم مع الوزير المشتكي عليهم أمام القضاء هي من صلب معركتهم من اجل وجودهم. هم مهددون، مثل الشيعة، مثل السنّة، بوجودهم المادي المباشر، بوصفهم كتلاً، مكوِّنات بشرية بعينها. وهم يرون بالمقابل طبقة سياسية فاسدة ومعطلة، وذات قصر نظر رهيب، لا تفعل شيئاً غير السفسطة. القصص التي تبلغهم عن مسيحيي العراق تقشعر لها أبدانهم. إنهم مستهدفون… فيما شركاؤهم في الوطن، وطن “العيش المشترك” النموذجي دائماً، لهم “عمقهم” العربي، الإسلامي، الإقليمي، هم لا يملكون إلا الغرب التاريخي، غرب الذكريات مع الراحلة “الأم الحنون”، فرنسا، ليس إلا. تعبيرهم عن رعبهم من “داعش” لم يكن موفقاً، ولكنهم يقولون ما تضمره الغالبية العظمى من اللبنانيين، مهما كانت أهواؤها: “الله يلعن داعش!”. وهذا دعاء وحده كفيل باحراق أعلام “داعش” كلها، من العراق وحتى شواطىء البحار والمحيطات.
المدن
تغيير الخطاب حل لاثناء الغربيين عن القتال في صفوف الدولة الإسلامية/ اكي بيريتز
من أكثر الجوانب مدعاة للقلق في عملية جز العنق التي راح ضحيتها الصحفيان الامريكيان جيمس فولي وستيفن سوتلوف أن رجلا طليق اللسان يتحدث بلكنة بريطانية هو القاتل فيما يبدو.
وقد كان قيام رجل غربي متعلم بذبح غربيين متعلمين آخرين ثم رفع الشرائط التي تصور عملية القتل على الانترنت سببا كافيا ليهيمن ذلك على ما عداه من أخبار.
لكن هذا الغربي ذا النهج العنيف الذي يرتدي السواد ليس وحده. فقد انضم حوالي 500 مواطن بريطاني للقتال في سوريا والعراق ومناطق أخرى من الشرق الاوسط إلى جانب آلاف غيرهم من الأجانب. وعاد نحو 250 منهم إلى بريطانيا.
وقد انضم أغلبهم إلى صفوف جماعات جهادية متشددة مثل تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام (الذي أطلق عليه فيما بعد الدولة الاسلامية) وكذلك جبهة النصرة فرع القاعدة. وشارك كثيرون في القتل كما قتل كثيرون. وفي وقت سابق هذا الصيف هاجم أمريكي هو منير محمد أبو صالحة الذي كان يعيش في فلوريدا مطعما بشاحنة محملة بالمتفجرات كان يقودها.وفي الأسابيع الأخيرة لقي أمريكيون آخرون يشتبه أنهم قاتلوا في صفوف الدولة الاسلامية حتفهم.
وكثيرون ممن قاموا بهذه الرحلة يحفزهم الخطاب الموجه لهم وخلاصته: الرئيس الاسد وحزب الله وايران يقمعون المسلمين السنة وبلادكم لا تعير الأمر التفاتا ونحن فقط — الدولة الاسلامية أو أي جماعة جهادية أخرى — سنحمي هؤلاء الأبرياء من الذئاب. فهل ستنضمون إلى القضية؟
وهذا الخطاب له إغراؤه لأنه يمس شغاف القلب ويخاطب العقل إذ يمس وترا حساسا لدى كثيرين فيما يتعلق بهويتهم الدينية وبالاحساس بالظلم ويستغل حس المغامرة ويطرح دعوة ملموسة للعمل. ويتعاظم هذا الخطاب بلغات متعددة عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى جانب الصحافة العادية. كذلك فإنه يحظى بمباركة من رجال دين معروفين من المحافظين أمثال يوسف القرضاوي الذي قال في العام الماضي إن على كل مسلم مدرب على القتال وقادر عليه أن يتقدم للقتال في سوريا.
لا يوجد سوى طريقة واحدة لهزيمة هذا الخطاب وهي صياغة خطاب مضاد أفضل منه. فقد خاض الغرب حرب الأفكار طويلة النفس ضد الاتحاد السوفيتي. وعليه أن يحشد هذه الجهود مرة أخرى للصراعات العقائدية اليوم.
ومع ذلك فالدول كثيرا ما لا تصلح لتوجيه مثل هذا الخطاب لمن يكون لديهم الميل أن يصبحوا جهاديين. فحامل الرسالة في هذه الحالة هو الرسالة نفسها. وعلى سبيل المثال تدير وزارة الخارجية الامريكية حسابا على تويتر يفتقر للبراعة باسم (@ThinkAgain_DOS) يحاول أن يقنع الجهاديين بلغة تويتر ولم يحقق نجاحا كبيرا.
وفي العادة يستلزم الأمر شخصا تربطه صلة حميمة بالمجند المحتمل أكبر كثيرا من المسؤول الحكومي أو الناطق الرسمي لكسر شوكة الخطاب المتطرف. وفي الوقت الراهن تتفوق القوى الجهادية على الجانب الذي يريد أن يبقي أبناءه وبناته بعيدا عن سوريا في سلاح الخطاب والقدرة على المناورة. وهذا الجانب يحتاج للعون.
فما الذي يجب أن يقوله أي شخص — سواء فرد في أسرة أو مدرس أو صديق — إذا اشتبه أن أحدا ما يفكر في القتال في سوريا؟ السطور البسيطة المؤلمة هي الأفضل. وإليكم بعض الاقتراحات:
* لا يذهب إلى سوريا سوى الحمقى
وهذا يقودنا مباشرة إلى فكرة أن القتال في سوريا سيمنح هؤلاء الناس ما يتوقون إليه من احترام. فالتصرف مثل المحاربين المجاهدين الأقوياء هو ما يريده كثيرون مثلما توضح حساباتهم على تويتر وانستجرام وفيسبوك.
ومن المفهوم لماذا قد يرغب بعض الناس في أن يكونوا جزءا من هذه القوة الجهادية الأكبر لأنه يضفي معنى على حياتهم الرتيبة. وقالت الطبيبة النفسية سامانثا رودمان “الانتماء احتياج انساني أساسي والناس سيخاطرون في كثير من الأحيان لكي يكونوا جزءا من مجموعة مترابطة تتقبلهم.”
فهل يستحق التطابق الذي يشعر هؤلاء أنه يجمع بينهم وبين هذه المجموعة ذلك الجهد؟ لنكن صرحاء لا توجد نهاية لطابور الشبان والشابات الذين ينتهي بهم الحال إلى القتال في سبيل قضايا مشكوك فيها أو أسوأ من ذلك.
وهناك أمثلة كالمجموعة التي ذبحت مقاتلا أمام الكاميرات ثم اضطرت للاعتذار عندما اتضح أنهم قتلوا جهاديا من زملائهم. أو المدرب في العراق الذي نسف 21 شخصا يطمحون أن يكونوا مفجرين انتحاريين لانه أطلق متفجراته بطريق الخطأ. أو الشخص الذي لم يكن “منبوذا اجتماعيا” بل مجرد “شخص عادي”. أو الشخص الذي اضطر والداه لتدبير خطفه لابعاده عن الجهاد. ولا نهاية للقائمة.
* ستقتل سنيين مثلك ولن تدافع عنهم
وهذا لا يفترق عن السطر الأول لأنه يضعف بدرجة أكبر دواعي رغبتهم في الذهاب إلى سوريا في المقام الأول. ومنذ بداية العام تخوض الدولة الاسلامية حرب الكل على الكل بما في ذلك على رفاق الجهاد والجماعات المتمردة “المعتدلة”. إذ يستمر ضبط أجانب وهم يخوضون معركة لا تنجز شيئا يذكر لتحرير السنة فعليا.
وللدولة الاسلامية سجل مريع بصفة خاصة في قتل السنة. فقد قتلت الجماعة الكثير من المقاتلين بما في ذلك رئيس جماعة أحرار الشام الجهادية بالاضافة إلى مبعوث القاعدة في سوريا أبو خالد السوري. فأي صنف من الجماعات الجهادية يقتل — عن طريق تفجير انتحاري لا أقل — متطرفين بارزين لا غبار عليهم؟
* أنتم تتجولون والبنادق مصوبة إليكم
فالسكان المحليون يستخفون بالغرباء لان الأجانب هم المقاتلون الأعنف من غيرهم. والجماعات الأخرى تكرهكم بالفعل لانكم تعملون لحساب الدولة الاسلامية. كما أن قادة الدولة الاسلامية يعتبرونكم حشو مدفع يمكن استخدامه للهجمات الانتحارية وسيعدمونكم إذا حاولتم الهرب. وكل هذا في جانب السنة فحسب. فهو وضع خاسر لكل أجنبي وهو ما يقودنا إلى النقطة الأولى: لا يذهب إلى سوريا سوى الحمقى.
وبالطبع لا تكفي “نقاط التحاور” هذه في حد ذاتها لوقف تيار الذاهبين إلى القتال. فهذه الحرب على الجهاديين — حرب الافكار هذه — لن تخوضها الطائرات دون طيار أو قوات العمليات الخاصة بل الآباء والمدرسون والأصدقاء وكبار المجتمع. وستكون ساحة المعركة هي الانترنت ووسائل الاعلام وكذلك حول موائد العشاء وفي المقاهي وداخل ساحات السجون وأفنية المدارس.
حرب الأفكار هذه ستكون طويلة ومضنية. وأقل ما يجب أن نفعله هو أن نبدأ تزويد جانب المدنية بأسلحة بلاغية مفيدة في الحرب على الارهابيين.
(اكي بيريتز من كتاب المقالات في رويترز لكن الآراء الواردة في هذا المقال هي آراؤه الشخصية) (رويترز) –
(إعداد منير البويطي للنشرة العربية – سيف الدين حمدان)
فشل = داعش/ حـازم الأميـن
دخل زميلنا إلى غرفة الإخراج في الصحيفة، وقال لزميلته أن توقف رسم الصفحة، ذاك أن تعديلاً طرأ على خبر وصول جثة الجندي اللبناني علي السيّد، فقال إنها وصلت من دون رأس وأن اتصالات تجري الآن لكي ترسل “داعش” رأس الجندي. ردت الزميلة أنها اتصلت بأحد أبناء عرسال وقال لها إن “داعش” أرسلت رأساً لكن ثبت أنه لا يخص الجثة، فأعيد إليها.
هذه التراجيديا التي ينطوي عليها حوار الزميلين، قد لا تثبت وقائعها، لكن ذلك لا يُوقف ما يمكن أن تولّده الكلمات من صور. تُرى رأس من ذاك الذي أُرسل؟ رأس مجهول، وبعد أن فصلته “داعش” عن جسم صاحبه، صار رأساً فقط. والرأس إذ يشكل تكثيفاً لهوية الجثة التي تحمله قبل أن يُفصل عنها، يصبح بعد فصله عنها، نصفها المجهول. لا تصح هنا عبارة: “يا أيها الإنسان أنت رأسك”، فـ”داعش”، إذ تقطعه، تقول: “يا أيها الإنسان أنت جسمك”. ففي الرأس تراكم كل ما ترغب “داعش” في استئصاله منا. ليس العقل ما نعنيه هنا، فـ”داعش” هي منتهى العقل، ولا شيء مجرماً وقاسياً ومنظماً كالعقل في لحظة الهذيان هذه. ما ترغب “داعش” في استئصاله، عبر فصل الرأس عن الجسم، هو نحن، وهذه الـ”نحن” هي كل شيء غير عاقل فينا. هو جوهرنا كأناس مشكَّلين من تراكم مئات من السنين خارج ضبطها.
في أفلام الخيال العلمي، تلك التي تَظهر فيها كائنات غريبة متشكِّلة من أجسام بشرية تملك قدرات تحوّلية، يحصل ذلك بعد أن أقدم أحد ما على خطأ. لعب بمواد كيماوية في مختبر، أو شخص تعرض للدغة حشرة غريبة… تملك “داعش” قدرة على دفعنا إلى تصديق وقائع من هذا النوع. تملك قدرة على دفعنا للبحث عنها في هذه الاحتمالات.
هناك فشل خلف الصعود الصاروخي لـ”داعش”. في العراق فشل المالكي فكانت “داعش”، وفي سورية فشل النظام وفشل الجيش الحر فكانت “داعش”… أما في لبنان، فمن الذي فشل؟
الإجابات أعلاه تحمل قدراً من التسرع والإختصار والتلخيص، لكنها في النهاية حصيلة ما جرى. في العراق فشل المالكي ولكن… وفي سورية فشل النظام وفشلت المعارضة ولكن… هذا صحيح لكن الحصيلة واحدة، وهي أن “داعش” اليوم على أبواب العواصم بعد أن أخذت المدن.
وبالعودة إلى فشلنا، فبالنسبة إليّ المعادلة على هذا النحو: فشل حزب الله فكانت “داعش”. صحيح أن فشل حزب الله في لبنان ما زال دون فشل نوري المالكي في العراق، ودون فشل النظام والمعارضة في سورية، لكننا نشهد هنا وقائع فشل سائر نحو العرقنة والسورنة. الجميع يعترف أن “داعش” لا يمكن أن تطلّ برأسها من دون سلطة فاشلة. حزب الله كان السلطة العميقة في السنوات التسع الأخيرة في لبنان. لا أحد يمكنه أن يُنكر ذلك. السلطة وليس الدولة، والفارق هنا يعرفه كل اللبنانيين. الحزب كان له شركاء في الدولة، لكنه كان بلا شركاء في السلطة. وليد جنبلاط مثلاً كان شريكه في حكومة نجيب ميقاتي، لكنه لم يكن شريكاً في السلطة التي شكّلت تلك الحكومة (القمصان السود)
“14 آذار” فشلت في 15 آذار، والطعن بجثة فعل داعشي لن نُقدم عليه، والمسؤولية الأولى عن انضمام لبنان إلى الهلال الداعشي تتحملها “القوى الحيّة”.
إلغاء الحدود هو المهمة التي تولاها “حزب الله” منذ أكثر من ثلاث سنوات. مسؤوليته عن ذلك لا تقل عن مسؤولية نوري المالكي في العراق، وإن كان ثمة فارق ما زال لمصلحته في هذه المقارنة، يتمثل في أن طريق التراجع ما زال ممكناً، و”داعش” لم تتمكن منّا بعد.
موقع لبنان ناو
الحرب على «داعش» في سورية وشروطها/ وليد شقير
هل يقود تقاطع المصالح بين القوى الإقليمية والدولية على محاربة تنظيم «داعش» والتطرف في الدول التي انفتحت الصراعات المتعددة الأوجه فيها على مصراعيها، إلى تغيير في خريطة التحالفات والخصومات، أم أن الأمر سينحصر بهذا التلاقي بين هذه القوى في مواجهة الإرهاب؟
يتوقف الأمر على الوجهة التي ستسلكها الولايات المتحدة الأميركية، فـ «داعش» كان رأس جبل الجليد لسياسات أدت إلى الوقوع في فخ «الإسلام الجهادي»، وإذا جاز الحكم على تدحرج الأحداث من خلال التفاعلات التي تركها صعود الإسلام السياسي في المنطقة بفعل الربيع العربي، فإن واشنطن ودولاً في الإقليم ساهمت في هذا الصعود، حين راهنت على النموذج التركي، الناجح نسبياً في قيادة الدولة وتنظيم شؤون المجتمع، فانسحبت تلك المراهنة على مصر «الإخوان» وعلى تونس «حركة النهضة» وعلى شبيههما في ليبيا. إلا أن ما حصل بعد تعثر هذه التجارب أدى إلى بروز «الإسلام الجهادي»، الذي أثبت التاريخ أنه يولد من رحم الإسلام السياسي التواق إلى السلطة. جاءت تلك المراهنة في سياق الانفتاح الأميركي على الإسلام السياسي (الشيعي) أيضاً في إيران، لعله يساهم في خفض حماوة الصراع الإقليمي بالتوازي مع انكفاء واشنطن عن منطقة أتعبتها بينما المردود الأساسي المقابل لتورطها المباشر، أي النفط، لم يعد بالأهمية التي كانت في السابق، فاكتشافاتها في مجال غاز الصخور ونفطها أخذ يخفض من استيرادها الذهب الأسود، ويحصر اهتمامها بضمان أمن طرق الإمداد إلى حلفائها الأوروبيين والآسيويين. والعقل الأميركي اعتبر أن التشكيلات الإقليمية التابعة لطهران لها مربط قادر على ضبطها مقابل التشكيلات الأخرى السنية المنفلتة من ضوابط أي دولة. لكنها غفلت عن أن طهران تستخدم هذا النوع من الإرهاب لخدمة استراتيجيتها، مثلما فعلت بالتعاون مع النظام في دمشق وحكم نوري المالكي في العراق. وكما أفلت هذا الاستخدام من دول مثل تركيا أفلت من طهران نفسها.
فجأة، اكتشفت إدارة الرئيس باراك أوباما مساوئ مراهنتها تلك، التي أمِلت أن تستبدل بها نفوذها المباشر فإذا بها تنتج وحشاً كاسراً، كما حصل في العراق. ومع أنها تأخرت في تقدير إمكان تضافر عوامل متناقضة في صعود التكفيريين الذين يعيشون خارج العصر، فإنها انتبهت إلى أن الإسلام السياسي بشقيه المذهبيين، غير قادر على قيادة المجتمعات العربية، أو على الأقل هو لن يثمر استقراراً.
تأتي إدارة باراك أوباما إلى المواجهة الحتمية مع «داعش» من مكان بعيد سياسياً لا يقاس بالمسافة الجغرافية، وهي لذلك تحتاج إلى ما سماه الرئيس الأميركي استراتيجية تتطلب التنسيق مع دول المنطقة ومن سمّاهم الحلفاء السنّة، بعدما أهمل تحفظات هؤلاء عن سلوك واشنطن في المنطقة. ولهذا السبب أقرن أوباما تعهده بتدمير»الدولة الإسلامية» بالقول إنه يتطلب وقتاً. وإذا كانت فظاعات «داعش» وانهيار التركيبة الإيرانية التي اعتمد عليها اوباما في بغداد فرضت عليه بدء المواجهة قبل اتضاح هذه الاستراتيجية، فإن استكمالها على امتداد الإقليم يحتاج إلى خطة سياسية متكاملة، مثلما هي أمنية وعسكرية، تتناول «داعش» في سورية التي انطلقت منها نحو بلاد الرافدين.
ومع أن المواقف العلنية لأوباما ولمعظم القادة الأوروبيين بدت حاسمة في أن نظام بشار الأسد لا يمكن أن يكون جزءاً من هذه الاستراتيجية لأنه «ساعد» في صنع «داعش»، فإن على قيادة الحملة ضد هذا الصنف من الإرهاب أن تحسم العديد من الأمور. وإذا كانت المملكة العربية السعودية تصدرت الوقوف الحاسم ضد هذا الصنف في وقت مبكر، وبإجراءات واضحة إن في الداخل أو في الإقليم، خصوصاً في لبنان، وبددت بذلك كل الاتهامات من إيران وحلفائها بأنها تقف وراء هذا الإرهاب، فإن على دول أخرى شريكة في هذه المواجهة أن تحسم أمرها.
وفضلاً عن أن اشتراك إيران في هذه الاستراتيجية يتطلب معالجة خصوماتها مع دول في الإقليم، ولا سيما السعودية، فمن الطبيعي أن تحسم دول أخرى موقفها من «الإسلام الجهادي»، بدءاً بتركيا وانتهاء بقطر.
يحتاج الانتقال بالمواجهة إلى سورية إلى شروط، وإلى الإجابة على العديد من الأسئلة، فهل يتم استهداف «داعش» ليستقوي نظام الأسد على المعارضة المعتدلة بعدما ساهم الغرب في إضعافها، أم يُكتفى بالضربات الجوية في العراق التي ستؤدي إلى انكفاء «داعش» إلى بلاد الشام، ليُستنزف هو والنظام في معارك بينهما (وربما المعارضة «الأخرى» غير الإرهابية) تمهيداً لضربه بعد ذلك؟ وإذا كانت المواجهة في سورية والعراق معاً حتمية، فهل ستلتزم واشنطن، ثم تركيا وغيرها، دعم المعارضة المعتدلة وتوحيدها لتتمكن من استيعاب نتائج الضربات وصولاً إلى حل سياسي للأزمة السورية؟ وهل ستسلّم موسكو وطهران بالحاجة إلى هذا الحل أم ستتابعان دعم الأسد في كل الأحوال؟
الحياة
الرعب الآتي من داخلنا/ حسام عيتاني
يصلح التحقيقان اللذان نشرتهما «الحياة» في الثاني والثالث من أيلول (سبتمبر) الحالي لسامان نوح حول مأساة الإيزيديين في سنجار كملخص لتاريخ المشرق العربي حيث الكراهية بين الجماعات العرقية والطائفية هي القاعدة والتعايش هو الاستثناء.
تبدو النوائب التي نزلت بالايزيديين فريدة في بابها في زمن الإعلام الفوري والاتصالات الحديثة، بيد أنها لا تختلف كثيراً عن مجازر وجرائم ارتكبتها وترتكبها الجماعات ضد بعضها و»الدولة» ضد مواطنيها، من أزمان سحيقة في القدم، ومن آخرها مذابح الأرمن على أيدي «الفرق الحميدية» والكلدان- الأشوريين ثم الأكراد في حملة «الأنفال» الصدامية والتصفيات الواسعة السنّية- الشيعية المتبادلة بين 2006 و2008، ناهيك عن حروب أهلية في لبنان وسورية والأردن (1970) وعدد لا يحصى من الاغتيالات والسيارات المفخخة والإعدامات الجماعية من دون محاكمات، على أرضية من التسلط الاعتباطي يمارسه أفراد استمدوا قوتهم من الغيب والعشيرة وقرابة الدم. حتى ليبدو تاريخ هذه المنطقة سلسلة لا تتوقف من أعمال الجنون الدموي الذي لا يحول ولا يزول.
ما تناوله التحقيقان من وصف للأهوال التي تعانيها أقلية تخلى العالم عنها، ليس غير جانب من مشهد عبثي استمرأ المشاركة فيه مغاربة وتوانسة وسعوديون وشيشان وأوزبك قذفت بهم ريح الفوضى إلى تلك البقعة من الأرض. وليس من مانع جدي في انتقالهم قريباً إلى بقاع أخرى قريبة وبعيدة ما دامت المعالجات تقتصر على محاولات عسكرية وأمنية بائسة لحصر المرض في مناطق الأكثرية السنية والاعتقاد أن العلاج يجب أن يتولاه أهل السنّة الذين خرج هؤلاء المجرمون من بين ظهرانيهم.
لا يحتاج إخفاق المعالجات الأمنية السابقة إلى براهين، فظهور الكيان الإرهابي الجديد دليل على فشل يملأ الأفق للمقاربات العسكرية والأمنية. أما القول بضرورة تولي الأكثرية السنية التصدي لظاهرة «داعش» فيدل على أمرين: الأول، أن «الدولة» العربية خرجت من أي نقاش حول مستقبل المنطقة، سيان أكانت الدولة هذه حديثة أو وطنية أو ضارية أو تسلطية أو قائمة على العصبية. إعلان وفاة الدولة العربية التي عرفناها منذ سقوط السلطنة العثمانية وخروج قوى الاستعمار، يطرح سؤالاً كبيراً عن طبيعة الكيانات البديلة وحدودها ومكوناتها السكانية.
الأمر الثاني، أن الاعتقاد الذي روج له إسلاميون عن تشكيل السنّة لصلب «الأمة» ومركزها فيما تقيم الأقليات في هوامش التسامح الذي تمنّ الأكثرية به عليها، قد انتهى إلى فضيحة وكارثة. فالأكثرية المتخيلة منقسمة على ذاتها ضمن هويات أعمق من الانتماء إلى الإسلام السني التقليدي. هويات وطنية وجهوية وعشائرية وطبقية تجعل أي اعتقاد بإمكان «شد العصب» السنّي مقابل عصبيات الأقليات المعادية، مجرد وهم مكلف، على ما اثبت تخبط الإسلاميين السوريين منذ سعيهم المبكر إلى الهيمنة على «المجلس الوطني» وصولاً إلى العجز عن إخراج الثورة من متاهات الحرب الطائفية. لقد قدم هؤلاء خدمة جليلة إلى النظام بنقل اللعبة إلى ملعبه المفضل. فـ «الإسلام السنّي» تتنازعه تيارات سياسية شديدة التنافر لا يخفي بعضها استعداده للرهان على «داعش» وسواها لتحقيق تعديل في موازين القوى المختل.
وتصور وجود إسلام معتدل موحد الرؤية إلى ظاهرة شديدة التعقيد والتركيب مثل الطور الحالي من الإسلام الجهادي، يتجاهل حقيقة العلاقة التي تفرضها السلطات على المؤسسات الدينية، أولاً، وغياب الحامل الاجتماعي للموقف المعترض على «داعش» رغم بيانات خجولة صدرت عن بعض رجال الدين ودور الإفتاء.
يدفع الايزيديون اليوم ثمن انهيار المجتمع والدولة العربيين. لكن الدور سيصل إلى الجميع.
الحياة
لا ظروف لحلّ في سوريا كما في العراق وتوظيف لأزمة عرسال في تعويم النظام/ روزانا بومنصف
فتح الكلام على استراتيجية لم تكتمل معالمها بعد لدى الادارة الاميركية من أجل مواجهة تنظيم ما يسمى بالدولة الاسلامية في العراق وتالياً في سوريا باعتبار ان لا جدوى من اقتصار دحر داعش في العراق حيث يمكنها ان تلجأ الى سوريا وتعيد رص صفوفها وقواها من أجل الانطلاق مجدداً، الباب أمام احتمال ان يكون النظام السوري شريكا في معركة التحالف الاقليمي والدولي الذي سينشأ لهذا الغرض. طالبت روسيا بذلك علنا كما طالبت دمشق به من منطلق أن ثمة حاجة لشراكة ميدانية على الأرض كما هي الحال بالنسبة الى العراق حيث تمّ دعم الاكراد والبشمركة والجيش العراقي فضلاً عن مواكبة ذلك بالضغط من أجل اقامة حكومة وحدة وطنية ترضي السنة والاكراد جنباً الى جنب مع الشيعة. وروسيا ودمشق سعتا ولا تزالان لأن يكون النظام الشريك المطلوب فغاب عن أدبيات كل منهما الكلام على الحاجة الى قرار دولي في مجلس الامن يتيح توجيه ضربات في سوريا. وكانت الولايات المتحدة تحدثت عن عدم امكان تحركها ضد النظام السوري في وقت سابق من دون غطاء دولي فوقفت روسيا سداً منيعاً ضد اي قرار يتصل بسوريا في مجلس الامن خلال ما يزيد على ثلاثة اعوام من عمر الحرب في سوريا حتى الآن. والشراكة المطلوبة من دمشق وروسيا مع النظام السوري من أجل مواجهة تنظيم داعش تعفي على ما يبدو من ضرورة السعي الى اي قرار دولي حيث لم تأت العاصمتان على اي اشارة لذلك في الوقت الذي كانت موسكو تلوح بمعارضتها هذا الاحتمال في كل مناسبة. الجواب أتى من الولايات المتحدة حيث اعتبر الرئيس الاميركي ان بشار الاسد لا يستطيع تحقيق الاستقرار في منطقة ذات غالبية سنية ولكنه أتى أكثر قوة وزخماً من الدول الاوروبية التي أعلن قادتها رفضهم التعاون مع النظام السوري من أجل مواجهة داعش في الاصرار على اعتبار ان النظام مسؤول عن نشوء داعش وعن استمرار استدراج المقاتلين للانخراط في صفوفها. ما يشي وفق ما تقول مصادر ديبلوماسية في لبنان بأن ثمة محاولة جدية وتفاوضاً من أجل ان يكون النظام السوري جزءاً من التحالف ما يؤدي عملياً الى تعويمه سياسياً وتالياً اعادة مركزية الحل السياسي في سوريا اليه. وهناك من يعتقد بأن نغمة التوظيف السياسي لما جرى ويجري في عرسال منذ أكثر من شهر والتي تصب في رغبة يعبر عنها مسؤولون في قوى 8 آذار من أجل التعاون مع النظام وتالياً اعادة الاعتبار الى شرعيته من البوابة اللبنانية هو احد الابواب التي فتحت من أجل اعطاء دفع لهذا المنحى. وهو امر يخشى الا يتراجع في المدى المنظور.
في المقابل فان توقع الرئيس الاميركي مواجهة طويلة الأمد مع داعش واستغراق الأمر “بعض الوقت قبل ان نتمكن من اجبارهم على التراجع ومن أجل بناء تحالفات على الارض” وفق ما أعلن يعني ان المواجهة راهناً قد لا تتخطى وفق المصادر الديبلوماسية في بيروت أكثر من رسم حدود من أجل عدم تخطيها بعد دفع داعش الى التراجع في العراق لكن من دون احتمال ان تشمل هذه المواجهة سوريا أولاً: لصعوبة اكتمال شروط تحالف اقليمي دولي من أجل المضي قدماً نحو مواجهة التنظيم في سوريا. وثانياً للحاجة الى التثبت من نجاح او اختبار قوة التحالف في العراق وقدرته على تحقيق خرق ملموس في الوضع هناك. وثالثاً الحاجة الى تحصين اي عمل عسكري بحل سياسي لا يبدو متاحاً بعد. وتضيف المصادر ان الأمر يتصل بمدى الخطورة التي يمكن ان تشعر بها ايران في سوريا كما شعرت بها في العراق ما دفعها الى تنازلات سياسية من أجل منع تقسيم العراق وامتداد الحريق الى داخلها. وهو ما لم تشعر به بعد في سوريا وكذلك الأمر بالنسبة الى روسيا من أجل السير قدماً بحل سياسي على غرار العراق من خلال التخلي عن نوري المالكي والضغط من أجل توزيع مقبول للسلطات بين السنة والشيعة والاكراد يساهم في تضييق قاعدة داعش، فيتم التخلي عن بشار الاسد في السياق نفسه. اذ ان التعاون مع الاسد من أجل محاربة تنظيم الدولة الاسلامية لا يعني النجاح في دحره من دون اثمان سياسية ترضي السنة كما هي الحال في العراق. ومن هذه الزاوية ترى المصادر الديبلوماسية صعوبة في الا يتم توظيف مخاطر داعش في سوريا كما في العراق من أجل الدفع لاعطاء السنة حقوقهم في السلطة في الوقت الذي أكدت دول مجلس التعاون الخليجي في الاجتماع الذي عقده وزراء خارجيتها الاسبوع الماضي من أجل الدفع بالمصالحة بين هذه الدول ضرورة اعادة الاعتبار لبيان جنيف 1 في شأن ايجاد حلّ للازمة السورية بالتزامن مع الترحيب بالمنحى الذي اخذته الامور في العراق حتى الآن على الصعيد السياسي. وثمة اثمان كبيرة تترتب على كل الاطراف لا تبدو متوافرة بعد في الحرب السورية فيما لا تملك هذه المصادر سوى ان تلاحظ مدى تغير المشهد السياسي في المنطقة منذ الاعلان عن اتفاق مبدئي بين الدول الغربية مع ايران على ملفها النووي وما اثاره ذلك من مخاوف في المنطقة.
النهار
أعداء الأمس في خندق واحد ضد “داعش”/ رندة حيدر
لم تعد إسرائيل بمنأى عن خطر “داعش” بعد سيطرة تنظيمات تابعة للمعارضة السورية بينها جبهة النصرة على معبر القنيطرة واقترابها من السياج الحدودي في هضبة الجولان وانسحاب المراقبين الدوليين من هناك. صحيح ان هذا التنظيم ليس حتى الآن بين التنظيمات الموجودة هناك، لكن هذا لم يمنع رفع علم الدولة الإسلامية في مواجهة مواقع الجيش الإسرائيلي في الجولان.
تبدل الوضع في الجولان يضع إسرائيل امام تحديات جديدة، فقد باتت الآن محاطة بتنظيمات مسلحة معادية لها على حدودها الشمالية والجنوبية والشرقية. ففي الشمال هناك “حزب الله”، وفي الجنوب هناك “حماس”، والتنظيمات الجهادية في الشرق. صحيح أن هذه التنظيمات لم توجه سلاحها حتى الآن نحو إسرائيل، لكنها تضمر لها العداء الشديد ولا يستطيع احد التنبؤ بما قد تفعله مستقبلاً.
ترافق هذا التطور مع صور ذبح الصحافيين الأميركيين مما أثار موجة من القلق الشديد في إسرائيل برزت على المستويين الرسمي والشعبي، حاول المسؤولون الإسرائيليون تبديدها بتشديدهم على اتخاذ الجيش الإسرائيلي كل الخطوات الممكنة في هضبة الجولان من اجل درء مخاطر احتمال شن الجهاديين هجمات من هناك.
وكانت إسرائيل منذ نشوب الثورة السورية عام 2011 وتفكك الجيش السوري النظامي قد عززت سياجها الحدودي ونشرت قوات عسكرية خاصة على طول الحدود، وعملت على فتح قنوات اتصال مع مجموعات المسلحين في الجانب الآخر من الحدود، وانشأت عدداً من المستشفيات الميدانية لمعالجة جرحى المعارضة السورية، في مسعى واضح للبقاء على علم بالتغييرات الحاصلة على حدودها وجمع المعلومات الاستخبارية الضرورية لها.
ان التخوف الأساسي في إسرائيل هو من احتمال تحول منطقة الجولان القريبة منها بؤرة للحركات الجهادية السلفية تزيد عدم الاستقرار في المنطقة المتاخمة للحدود. أما الخطر الثاني فهو تسلل الايديولوجيا الجهادية الى الضفة الغربية وقطاع غزة، وزيادة حدة الكراهية والعداء لإسرائيل.
وعلى رغم اجماع عدد من المعلقين الإسرائيليين على ان بلادهم ليست عرضة لخطر “داعش ” على المدى القريب، وان الجيش الإسرائيلي يملك كل الوسائل لمواجهة هذا الخطر، فان هذا لا يلغي خطر “الدولة الإسلامية” على المدى البعيد، وضرورة التفكير جدياَ في الانخراط في التحالف الإقليمي – الدولي الذي تعمل الولايات المتحدة على تأليفه من أجل محاربة “الدولة الإسلامية” في العراق أولاً ثم في سوريا. وهنا ستجد إسرائيل نفسها ضمن تحالف غريب يجمعها مع اعداء الامس وفي طليعتهم إيران و”حزب الله”. ويكون خطر الدولة الإسلامية وضع اعداء الامس في خندق واحد.
النهار
الصراع «القاعدي» ـ «الداعشي»: من الشام .. إلى الهند/ وسام متّى
نحن اليوم بفضل الله سبحانه وتعالى نعيد رسم خريطة العالم الإسلامي لتصبح دولةً واحدة تحت راية الخلافة… ونحن اليوم بفضله سبحانه وتعالى نكتب تاريخاً ناصعاً لأهل الإيمان في هذا الزمن الذي ادلهمّ فيه الظلم، وانتشر فيه الجور والفساد والكفر في مشارق الأرض ومغاربها، فالسعيد من يثبته الله سبحانه وتعالى بجوار راية التوحيد».
بهذا الجزء من الخطبة المصوّرة لزعيم «القاعدة» الراحل اسامة بن لادن، استهلت «مؤسسة السحاب الإعلامي للانتاج الإعلامي» شريطها الجديد، الذي تناقلته المواقع والمنتديات الجهادية، مساء يوم امس، والذي حمل عنوان «الإصدار الخاص لمناسبة وحدة صفوف المجاهدين وإنشاء جماعة قاعدة الجهاد في شبه القارة الهندية».
وفي هذا «الإصدار الخاص»، رسائل ثلاث، الأولى لزعيم «القاعدة» ايمن الظواهري بعنوان «إعلان إنشاء فرع جديد لجماعة قاعدة الجهاد في شبة القارة الهندية ـ عصابة تغزو الهند بإذن الله»، والثانية للمتحدث باسم الفرع الجديد اسامة محمود بعنوان «تجديد البيعة وأهداف الجماعة»، فيما الثالثة لـ«امير الجماعة» عاصم عمر بعنوان «طريقنا القتال».
«عصابة تغزو الهند…»
بعد البسملة والحمدلة، «زفّ» الظواهري، إلى «المسلمين في العالم عامة وفي شبه القارة الهندية خاصة» قيام فرع جديد لجماعة قاعدة الجهاد وهو جماعة «قاعدة الجهاد في شبه القارة الهندية»، وذلك «سعياً لرفع علم الجهاد وعودة الحكم الإسلامي وتحكيم شريعته في ربوع شبه القارة الهندية التي كانت يوما ما جزءاً من ديار المسلمين، إلى أن احتلها العدو الكافر فقسّمها الى أجزاء وفرّقها إلى مناطق».
وأشار الظواهري، في رسالته المصوّرة، إلى ان هذا الفرع الجديد «لم ينشأ اليوم، ولكنه ثمرة جهد مبارك منذ أكثر من سنتين، لتجميع المجاهدين في شبه القارة الهندية في كيان واحد يكون مع الأصل جماعة قاعدة الجهاد من جنود الإمارة الإسلامية، وأميرها المنتصر بإذن الله أمير المؤمنين الملا محمد عمر مجاهد حفظه الله».
وأضاف أن «هذا الكيان المبارك بإذن الله قام ليتحد مع إخوانه المجاهدين والمسلمين في كل الدنيا، وليحطم الحدود المصطنعة التي أقامها المحتل الإنكليزي ليفرق بين المسلمين في شبه القارة الهندية. ولذلك فهو يدعو المسلمين في شبه القارة الهندية إلى أن يتّحدوا حول كلمة التوحيد، وأن يعملوا على نصرة الإسلام بسلوك طريق الرسل والأنبياء عليهم السلام وأتباعهم، طريق الدعوة والجهاد».
واعتبر الظواهري ان «قيام هذا الفرع الجديد بشرى للمسلمين في كل الدنيا وأن دعوة الجهاد تحت إمارة الإمارة الإسلامية بفضل الله في تمدد وتوسع»، وخص بالذكر «المستضعفين في شبه القارة الهندية»، في بورما وبنغلاديش وآسام وكجرات وأحمد آباد وكشمير، متوجهاً إليهم بالقول إن «إخوانكم في جماعة قاعدة الجهاد لم ينسوكم، وأنهم يبذلون ما يستطيعون لتخليصكم من الظلم والقهر والاضطهاد والمعاناة».
وبعد الاسهاب في التأكيد على «فشل الأسلوب الديموقراطي العلماني الذي يدعوكم إلى أن تتحاكموا لهوى الجماهير وتتخلوا عن عقيدة الحاكمية التي لا يتحقق إيمان مسلم إلا بها»، اسهب الظواهري في الحديث عن ضرورة الوحدة بين المسلمين والاعتصام بحبل الله، إلى ان ختم رسالته بحديث للنبي محمد جاء فيه: «عصابتان من أمتي أحرزهما الله من النار عصابة تغزو الهند وعصابة تكون مع عيسى بن مريم عليه السلام».
الهند تدق ناقوس الخطر
وفور رصد الشريط المصوّر للظواهري سارعت نيودلهي الى دق ناقوس الخطر، حيث اصدرت تحذيراً أمنياً لعدد من الولايات، بحسب ما تسرّب من اجتماع امني للحكومة المركزية.
وقال متحدث باسم حزب «باهاراتيا جاناتا» الحاكم، ان رسالة الظواهري تعد «مصدر قلق جدي»، لكنه طمأن إلى أن «لا شيء يدعو الى الخوف، فهناك حكومة قوية على المستوى الفدرالي».
ومن المعروف ان الهند لم تشهد أي وجود رسمي لتنظيم «القاعدة» على اراضيها، لكن تقارير صحافية واستخباراتية تؤكد أن جماعات من «الجهاديين» تنشط في كشمير، ومعظمهم باكستانيون، بالإضافة إلى اقلية من جنسيات اخرى، علماً بأن تنظيم «القاعدة» تعرض لضربة قوية في هذا الاقليم المضطرب، حين تمكنت الطائرات الاميركية من اغتيال القيادي «الجهادي» البارز الياس الكشميري في العام 2012.
وبالرغم من التحذيرات الدولية بشأن تمدد «القاعدة» إلى الهند، وهي تحذيرات تعود إلى الأيام الأولى لبدء «الحرب على الارهاب» غداة هجمات الحادي عشر من أيلول العام 2001، الا ان هذا الشبح لم يقض مضاجع المسؤولين الامنيين في البلاد كثيراً، وذلك لاعتبارات عدّة، ابرزها الطبيعة الديموقراطية لنظام الحكم في الهند، بما يضمنه من شراكة سياسية واجتماعية، فضلاً عن القطيعة الايديولوجية بين الإسلام الهندي وبين المدرسة الوهابية، وهو ما شكل سدّاً منيعاً امام محاولات التنظيمات المتشددة اجتذاب مسلمي الهند، البالغ عددهم قرابة 175 مليوناً.
ولكن الأشهر القليلة الماضية شهدت تطوّرات اثارت قلق اجهزة الامن الهندية، ففي السادس عشر من تموز الماضي، نقلت صحيفة «دايلي ميل» البريطانية عن مصادر في وكالات استخباراتية قولها إن «شبكات الإرهاب تحقق نجاحات في الهند». وبحسب المعلومات الاستخباراتية التي نشرتها «دايلي ميل» وقتها، فإن «القاعدة» يمتلك خططاً جاهزة لتعبئة «موارده الجهادية» في الهند، يما يمهّد لتحقيق الهدف الايديولوجي الذي يحمل شعار «غزوة الهند»، وهي تسمية برزت مؤخراً، وتم تداولها على نطاق واسع عبر المواقع والمنتديات الجهادية على شبكة الانترنت.
وقبل ذلك بأسابيع، تم رصد مقطع فيديو نشر على موقع «يوتيوب» بعنوان «الحرب يجب ان تستمر»، وتوجه من خلاله احد القياديين الإسلاميين المتشددين بدعوة إلى مسلمي كشمير لـ«الجهاد» ضد السلطات الهندية بهدف «تحرير» الاقليم المضطرب.
ويضاف الى ذلك، ما كُشف مؤخراً عن مقتل احد طلاب الهندسة الهنود في العراق، خلال مشاركته في العمليات العسكرية إلى جانب «داعش»، وهو واحد من بين عشرات الهنود المنحدرين من اقليم مهارشترا (الشطر الغربي من الهند الذي يضم مدينة مومباي)، والذين تؤكد المعلومات الاستخباراتية المتداولة أنهم انضموا مؤخراً الى التنظيم المتشدد.
وبالرغم من ان رسالة الظواهري لم تتضمن اي تهديد محدد، إلا أن صحيفة «انديان اكسبرس» توقعت أن «تنتقل عاصفة العنف التي تضرب الى الهند». ويمكن استشعار الخطر «القاعدي» على الهند، في جزء من خطاب الظواهري، الذي أتى فيه مرّتين على ذكر كجرات، وهي المقاطعة ذات الغالبية الاسلامية، التي شهدت مواجهات دامية اودت بحياة اكثر من الف شخص في العام 2002، حين كان رئيس الوزراء الهندي الحالي ناريندا مودي حاكماً عليها، وهي احداث اكتسب مودي بسببها شهرته في العداء للمسلمين.
ومن غير المعروف بعد ما إذا كان «القاعدة» قد نجح في تحويل هذه المقاطعة الى بيئة حاضنة، في ظل التضارب الحاصل بين اجهزة الامن المحلية والعالمية، فهناك رأي يقول بأن التنظيم المتشدد ما زال عاجزا عن اختراق الحدود الهندية، بدليل أن مخططي هجمات مومباي (2008) اضطروا للاستعانة بمقاتلين باكستانيين بعد اخفاقهم في تجنيد متشددين هنود، فيما يبرز رأي آخر يحذر اصحابه من وجود خلايا نائمة يمكن ان تصحو في اي وقت، خصوصاً ان رسالة الظواهري تضمنت إشارة إلى أن انشاء الفرع الهندي هو «ثمرة جهد مبارك منذ أكثر من سنتين».
وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى ما ذكرته صحيفة «الغارديان» في آذار الماضي، حين تحدثت عن وجود تنظيم سري باسم «قاعدة الهند»، ويضم قرابة 300 ناشط إسلامي، يرتبطون بالشبكات الجهادية، ويعملون تحت غطاء منظمات غير حكومية، وبعضهم تلقى تدريبات على ايدي جماعة «مجاهدي الهند» المحظورة.
الصراع على «الجهاد»
ومن بين التحليلات التي تقلل من خطر اختراق «القاعدة» للهند ـ من دون ان تنفي احتمال نجاح بنسب متفاوتة ـ تلك التي يرى اصحابها ان رسالة الظواهري ما هي الا قنبلة اعلامية، الهدف منها اعادة الاعتبار لتنظيمه الهرم، في ظل هيمنة تنظيم «داعش» الفتي على المشهد «الجهادي» في العالم.
ومعروف ان الصراع بين «القاعدة» و«الدولة الإسلامية»، وتحديداً بين الظواهري وابي مصعب الزرقاوي، تعود جذوره إلى ما قبل اغتيال بن لادن بسنوات، وقد تطور بشكل دراماتيكي خلال الاحداث في سوريا، إلى ان بلغ درجة القطيعة والاقتتال، عقب تأسيس «داعش» بشكلها الحالي.
أما خلفيات هذا الصراع، وكما كشفت عنها الوثائق التي عثرت عليها القوات الاميركية في عملية تصفية بن لادن في باكستان العام 2011، فهي تناقضات منهجية، تتعلق بخروج الزرقاوي (وبعده ابو بكر البغدادي) عن مبدأ «الجهاد العالمي»، الذي يحدد من خلاله «التنظيم الام» اطار عملياته بـ«استهداف اميركا واليهود» في عقر دارهم، واينما وجدوا، وسلوك «داعش» منهجاً خاصاً يقوم على التأسيس لـ«دولة الخلافة»، فضلاً عن اختلافات اخرى مرتبطة بالمنهج والاسلوب.
وفي هذا الإطار يمكن رصد الكثير من الفقرات التي تلمّح الى هذا الخلاف في الرسائل الثلاث، التي نشرت امس الاول، خصوصاً في التشديد على «وحدة المجاهدين» (رسالة الظواهري)، و«القتال ضد اميركا واليهود» (اسامة محمود)، وعدم التعرض للمسلمين في مناطق الغزو (الظواهري)، وعدم اجبار «الكفار» على اعتناق الاسلام (عاصم عمر)، وهي تلميحات تبدو موجهة للفت الأنظار الى سلوكيات «داعش»، مع الإشارة ايضاً إلى أن الثلاثة شددوا في رسائلهم على أن البيعة هي للملا محمد عمر.
وبدا واضحاً ان «داعش»، بالنظر إلى السطوة التي فرضها على المجتمعات التي سيطر عليها في العراق وسوريا، واعلانه «دولة الخلافة»، قد نجح في دغدغة مشاعر المتطرفين الإسلاميين، ما مكّنه من استقطاب الآلاف الذين كانوا محسوبين بشكل او بآخر على «القاعدة».
ولا شك ان هذا الامر يشكل مصدر قلق للظواهري، الذي يقترب تنظيمه من ان يكون اطاراً لقيادات كهلة تفتقد إلى «الكاريزما» الجهادية التي يتمتع بها البغدادي وامراؤه، علماً بأن نفوذ «داعش»، وبحسب ما تشير التقارير المنشورة في الصحف المحلية والعالمية، قد امتد مؤخراً إلى كشمير، احدى مناطق نفوذ «التنظيم الام».
وفي اواخر شهر حزيران الماضي، نشرت صحيفة «دي ان آيه انديا» تقريراً بشأن تمدد «داعش» في كشمير، بعد ظهور مقنعين يحملون رايات التنظيم المتشدد، خلال تجمع للمصلّين في عيد الفطر، فيما تشير تقارير استخباراتية نشرتها الصحافة العالمية مؤخراً الى ان الطلاب السوريين واليمنيين في الهند يحاولون تجنيد زملائهم الهنود للقتال في الشرق الاوسط، فيما يُقدر عدد الهنود المنخرطين في القتال في سوريا بنحو مئتين.
كما تم رصد بيانات عدّة على شبكة الانترنت تظهر ان بعض الجماعات الاسلامية المتطرفة في باكستان ابدت استعدادها لمبايعة امير «داعش»، في حين تشير وسائل إعلام هندية إلى ان ثمة حملات تجنيد يقوم بها هذا التنظيم في بيشاور، حيث يتم توزيع منشورات تحمل اسم «الدولة الإسلامية»، فيما تحفل جدران هذه المنطقة بشعارات ورسومات مستوحات من «داعش».
بذلك يبدو ان الهدف من اعلان الظواهري عن قيام الفرع الهندي لـ«القاعدة» هو قطع الطريق امام تسرّب الجهاديين الى «داعش»، واعادة تقديم التنظيم الام بصورة «الوكيل الحصري» للعمل «الجهادي حول العالم»، علاوة على ان توسيع النشاط «القاعدي» ليشمل القارة الهندية بأكملها، قد يشكل حافزاً للهيئات الداعمة لـ«المجاهدين» لكي تكثف اهتمامها بالتنظيم الام، بعدما تحوّل جزء كبير من الدعم والتمويل إلى تنظيم البغدادي، على حساب تنظيم الظواهري.
وبالرغم من ان رسالة زعيم «القاعدة» كانت موجهة إلى «الجهاديين» في كافة انحاء العالم، إلا ان الظواهري يأمل في ان تؤتي خطوة تأسيس الفرع الجديد ثمارها في شبه القارة الهندية بشكل خاص، باعتبار ان «جهاديي» هذه المنطقة الشاسعة سينجذبون اكثر من غيرهم إلى فرع اقليمي يمثل مصالحهم، ويؤمن لهم الغطاء الشرعي.
ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى نموذج تحدثت عنه «انديان اكسبرس»، وهو جماعة «مجاهدي الهند» التي تقاتل على الحدود الباكستانية ـ الأفغانية، والتي تعرضت مؤخراً لضربة قوية تمثلت في اعتقال احد قيادييها البارزين، ويدعى ياسين باتكال، في حين يشكو زعيمها رياد باتكال من غياب الدعم الباكستاني لأي نشاط لها داخل الهند.
ولا تستبعد اجهزة الاستخبارات المحلية والعالمية ان تكون «مجاهدي الهند»، شأن الكثير من التنظيمات المتشددة في شبه الجزيرة الهندية، أول من يلتقط رسالة الظواهري، ويسارع الى الانضمام للفرع الجديد.
ومع ذلك، لا بد ان الظواهري يراقب الأوضاع خلف الأفق، وتحديداً الحراك الذي تقوده الولايات المتحدة لتشكيل تحالف ضد «داعش»، وربما يأمل في ان يؤدي هذا الحراك الاقليمي ـ الدولي إلى القضاء على خصمه اللدود، أو على الاقل تحجيمه، بما يمكّنه من اعادة فرض سطوة «القاعدة» على المشهد العالمي كملاذ واسع، واكثر اماناً لـ«الجهاديين».
السفير
إسرائيل و«الدولة الإسلامية»: الصورة والمرآة
بعد تأخر لا يخلو من دلالات، دخلت إسرائيل مؤخرا على قضية تنظيم «الدولة الإسلامية» من خلال إعلان وزارة «الدفاع» الإسرائيلية الأربعاء الماضي «الدولة الإسلامية» تنظيماً إرهابياً، وجاء ذلك بعد الكشف عن أن الصحافي الأمريكي ستيفن سوتولوف الذي قامت «الدولة الإسلامية» بذبحه هو يهودي امريكي يعيش في إسرائيل.
بإعلانها هذا تنضم إسرائيل الى سلسلة طويلة من الدول والمنظمات السياسية والعسكرية في العالم بحيث تتجمع قائمة غريبة من الحلفاء المتقاربين سياسيا وعسكريا (أمريكا وأوروبا وأصدقاؤهما في المنطقة والعالم) والأعداء الذين لا تقل عداواتهم لبعضهم البعض عن عداوتهم ل»الدولة الإسلامية»، بحيث تجد الآن إسرائيل جنباً إلى جنب مع «حزب الله»، وروسيا المنقضّة على أوكرانيا وسوريا مع الميليشيات العراقية الشيعية مع الإئتلاف الوطني السوري و»الجيش الحر» و»الجبهة الإسلامية» وصولاً الى «جبهة النصرة» التي هي فرع تنظيم «القاعدة» في سوريا، ناهيك عن تركيا والبيشمركة وحزب العمال الكردستاني، والسعودية وإيران، وحماس وفتح، والحكومة المصرية وجماعة الإخوان!
ولعلّ التأخر في إعلان إسرائيل التنظيم إرهابياً ناتج عن انشغال التنظيم المذكور بمعارك مفتوحة مع أطراف سبق لها أن اشتبكت مع إسرائيل (مثل «حزب الله» اللبناني)، وهو ما أظهره كنوع من الحليف الموضوعي غير المتوقع لتل أبيب، وهي سياسة التزمها أيضا النظام السوري، الذي سبق أن استخدم «القاعدة» ضد الاحتلال الأمريكي في العراق، وراهن بعد الثورة السورية على انشغال «الدولة الإسلامية» بالنزاع مع أطراف المعارضة السورية المسلحة الأخرى، كما راهن على استفحال خطره للمساهمة في إعادة تأهيل النظام عالميا.
يضاف إلى ذلك انتظام ما يحصل في المنطقة، وخصوصا في سوريا والعراق ولبنان، ضمن رؤية كلبيّة إسرائيلية للإشكاليات العربية باعتبارها مشاكل «الغوييم» (الأغيار) على اختلاف أشكالهم وألوانهم، وهي أمور لا تهمّ إسرائيل، ما دام الهلاك المعمم والفوضى القيامية يجريان خارج حدودها ولا يمسّان الدم اليهودي المقدّس.
لكنّ الشيء الذي لن يتجرأ الإسرائيليون على التفكير فيه في موضوع «الدولة الإسلامية» هو حجم التشابهات بين الكيانين، وخصوصاً تشاركهما فكرة الدولة الدينية، التي كانت إسرائيل سبّاقة إليها في المنطقة، منذ تكريسها في مؤتمر الصهيونية العالمي الأول في بازل عام 1897، وبذلك تكون إسرائيل أول من بذر بذور كيان فكرة الدولة الدينية في «الشرق الأوسط».
العلاقة التشابهية بين الطرفين لا تقتصر على ذلك، فإنشاء الدولة اليهودية قام أيضاً على الإرهاب الممنهج عبر وسائل التطهير العرقي والمذابح الجماعية والتهجير المبرمج للجماعة البشرية الفلسطينية، والذي شكلت حرب غزة الأخيرة نموذجاً معدّلاً منه، توازى مع المذابح التي كان التنظيم يقوم بها في العراق وسوريا، كما أن طرق الاستيلاء على البلدات والقرى والمدن التي استخدمتها التنظيمات الإرهابية الصهيونية لا تختلف البتة عن طرق «الدولة الإسلامية» في احتلال المدن والبلدات والقرى في سوريا والعراق.
لعل التشابه (أو الفارق) الأساسي بين إسرائيل و»الدولة الإسلامية» هو أن الأخيرة هي جماع آلام ومظالم واستبدادات انحرفت الى هروب أعمى نحو استبداد باسم الدين، كما أن إسرائيل هي مشروع استثماري غربيّ استخدم آلام اليهود في أوروبا لينقض على شعب بريء ويستخلص منه أرضه بإسم السماء.
وبذلك قامت إسرائيل و»الدولة الإسلامية» باحتلال مشؤوم لدينين سماويين، وشرّعت الإجرام تحت إسمي اليهودية والإسلام، وبذلك تنافس الطرفان في سباق المكروهيّة العالمي، وشوّها المعاني السامية الكامنة في الإسلام أو اليهودية.
حين تأخرت إسرائيل في انتباهها الى كون «الدولة الإسلامية» تنظيماً إرهابياً، كانت في لا وعيها حين تنظر إليه لا ترى غير صورتها القديمة في المرآة.
رأي القدس
القدس العربي
كيف نتصدى لمشكلة آلاف الغربيين من مقاتلي «داعش»؟
حين قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما الأسبوع الماضي أن ليس للادارة حتى الان أية استراتيجية لمواجهة تنظيم الدولة الاسلامية، تعرض لكثير من الانتقاد. ولكن مخاوفه تعكس بالضبط المشكلة المشتركة اليوم لعموم دول الغرب: كيف التصدي لمشكلة عودة مئات وحتى الالاف من ابناء الغرب ممن سافروا للقتال كجهاديين في سوريا وفي العراق ويعتزمون العودة الى بلادهم.
أفلام إعدام الصحافيين الأمريكيين جيمز فولي وستيفان سوتلوف بقطع الرأس، على يد عضو تنظيم الدولة الاسلامية، الذي بدا يتكلم الانجليزية بلكنة لندنية واضحة – شكلت نداء استيقاظ أخير في الغرب. فقبل أربعة اشهر من ذلك فقط استيقظ الناس في واشنطن، لندن وبروكسل على مقتل أربعة أشخاص في المتحف اليهودي في العاصمة البلجيكية على يد مهدي نموش، وهو مسلم فرنسي عاد قبل بضعة أشهر من ذلك بعد سنة قاتل فيها بصفوف الدولة الاسلامية في سوريا. ومنذئذ، وعلى مدى الأشهر الأخيرة ازداد الاهتمام الاعلامي بما يجري في حروب الشرق الأوسط حين بات التهديد هذه المرة ليس فقط على الاستقرار في هذه المنطقة بل وأيضاً على أمن مواطني الدول الغربية.
ولكن هذا لم يفاجيء رجال الاستخبارات في الغرب. فمنذ أكثر من سنة وهم يحذرون من خطر الجهاديين من انتاج محلي. وفي عدة حالات احبطت محاولات منهم – بما في ذلك في بريطانيا وفرنسا – لتنفيذ العمليات. ولكن الان، عندما باتت الدولة الاسلامية تتحدث بالفرنسية والانجليزية وتظهر كل يوم على شاشة التلفزيون وفي العناوين الرئيسة للصحف، فان حقيقة أن الدول التي توجد على بؤرة الاستهداف عديمة الوسيلة، تحظى بالتشديد. إن مشكلة هذه الدول هي مشكلة معقدة. فبعضها يعود الى غياب المعلومات عن هوية الجهاديين وأعدادهم. وبينما قدر الاتحاد الاوروبي عدد المسافرين الى سوريا باكثر من الفين، تقدر اجهزة الامن البلجيكية بأن العدد مضاعف، على الاقل. مسألة أخرى هي مسألة اليوم التالي، فليس واضحاً كم من بين أولئك الذين يعودون الى بلادهم يعتزمون مواصلة النشاط. وبينما بعض ممن يخضعون للتحقيق لدى أجهزة الامن في دولهم ادعوا بان قادتهم يتوقعون منهم مواصلة النشاط في دولهم، قال آخرون ان الوحشية التي اصطدموا بها دفعتهم لان يعيدوا النظر في طريق الجهاد.
ولكن حتى عندما تنجح الدول في بلورة سياسة لمواجهة آلاف الجهاديين الذين سيعودون الى حدودها، يتبين بأن السبيل الى تطبيقها لا يزال طويلاً. وهكذا ففي الأسبوع الماضي فقط تحدث رئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون عن سلسلة خطوات ضرورية لمنع سفر الجهاديين المحتملين وعودة أولئك الذين سبق أن سافروا منها. وضمن أمور أخرى، تحدث عن قيود الحركة، الاعتقالات الوقائية وسحب الجوازات. ومرت بضعة أيام ويوم الثلاثاء تم عرض الخطة التي استصعبت ذكر التصريحات من الأسبوع الماضي. وبتوصية رجال القانون وبعد ضغوط من جانب قسم من أعضاء حزبه – ممن ادعوا بأن هذا مس غير متوازن بحريات الفرد – عرضت رواية اكثر رقة بكثير. والان ايضا يوجد تخوف من أن يكون البند الذي سعى الى منع عودة المواطنين الذين سبق أن سافروا الى سوريا، وبموجبه يحتمل ألا يكون دستوريا كون الدولة لا يمكنها أن تسحب من مواطنيها الحق في العودة اليها.
وحسب التقديرات المختلفة، فان نحو 500 مواطن بريطاني سافروا للمشاركة في الجهاد ونصفهم عاد منذ الان. ويعتقد جهاز الامن البريطاني MI-5 بأن بعضهم على الأقل يبقى على اتصال ويخطط لتنفيذ عمليات مستقبلية على مسافة أقرب من الوطن. وكان العمل الذي قامت به وزارة الداخلية في السنة الماضية هو سحب جوازات 23 مواطن كي لا يتمكنوا من مغادرة الدولة. ولكن واضح منذ الآن بأن هذا الأمل لم ينجح في أن يقلص بشكل بارز تيار الجهاديين. ومن الجهة الاخرى ينشأ السؤال أيضاً كيف يمكن القول إن شاباً يشتري بطاقة سفر الى تركيا ليس في طريقه الى اجازة في انطاليا بل يعتزم اجتياح الحدود الى سوريا.
طريقة عمل تبنتها الولايات المتحدة بعد 11 ايلول – واستخدمت في اسرائيل ايضا، ولكن ليس في اوروبا بعد – هي الطلب من شركات الطيران ان تحول مسبقا قائمة مسافريها كي تسمح للسلطات بفرض حظر دخول للمشبوهين بأعمال ارهابية. يحتمل أن يكون اتخاذ هذه الوسيلة من شأنها أن يساعد في منع الجهاديين المحتملين من السفر الى سوريا والتحذير من عودتهم، ولكن رغم أن بريطانيا والدول الاوروبية الاخرى تسعى الى تبنيها، واجهت اعتراضات من جانب الاتحاد الاوروبي الذي يخشى المس بمبدأ الحدود المفتوحة بين دول الاتحاد.
بعض الدول الأوروبية، بما فيها بريطانيا، ألمانيا والسويد، بلورت خططاً هدفها العثور على الشبان الذين قد يقعون في شباك الاسلام المتطرف أو ممن انجرفوا منذ الان في هذا الاتجاه. وفي إطار هذه الخطة يتم إبعاد الشبان عن عناصر الخطر ويتم اشراكهم في المجتمع بمرافقة ثابتة. ويدعي مؤيدو هذه الخطط من جهة بانهم نجحوا في أن يقلصوا بشكل واضح اعداد منفذي العمليات المحتملين ومن جهة اخرى بان الاجراءات العقابية في كل الاحوال لم تكن ناجعة ضد من يرى منذ الان في سلطات القانون عدوا. اما عمليا فتجد هذه الخطط صعوبة في توفير جواب على الظاهرة المتسعة والخوف من مئات الجهاديين الذين يتجولون بحرية في القارة ولا يمكن معرفة متى واين يختارون العمل. هكذا كان في حالة نموش الفرنسي الذي اجتاز بسهولة بارزة الحدود الى بلجيكيا ونفذ العملية في دولة لا تعرفه فيها الشرطة.
موضوع آخر يقلق المجتمع الغربي بشكل كبير هو طريقة تجنيد أولئك الشبان، فالدولة الاسلامية وغيرها من المنظمات المتطرفة تجند المؤيدين عبر الانترنت أساساً وفي الشبكات الاجتماعية. ومع أنه كانت في الغرب محاولات للعمل مع مواقع مثل تويتر وفيسبوك لاغلاق حسابات شعبية للجهاديين الغربيين، ولكنه لم يمر وقت طويل الى أن فتحت حسابات جديدة بدلا منها أو أن هؤلاء ببساطة انتقلوا الى شبكات اخرى يصعب فيها التقاطهم.
على الرغم من أن الصحافيين اللذين قتلا بقطع الرأس هما أمريكيان، ورغم حقيقة أنَّ غارات سلاح الجو الأمريكي في العراق تشتد فان السكان في نيويورك، واشنطن ولوس أنجلوس يشعرون الان بأمان أكبر من سكان أوروبا. ولعلهم يشعرون بذلك بفضل نشاط سلطات القانون في الدولة التي عمدت الى الاعتقالات الوقائية لكل من يشتبه بمشاركته في الارهاب. ولكن يساهم في ذلك أيضاً حقيقة أن نصيب الطائفة الاسلامية بين اجمالي السكان في الولايات المتحدة أصغر بكثير مقارنة بالوضع في أوروبا، وتوجد مخاوف أقل من المظاهرات والاحتجاجات الواسعة. ولكن كل هذا لا يمنع سناتورات جمهوريين من أن يدعوا منذ الان الى سحب الجنسية من الجهاديين وحتى ادارة اوباما الديمقراطية اعدمت عمليا نشطاء القاعدة مع جنسية امريكية في احباطات مركزة قامت بها الطائرات غير المأهولة في اليمن.
في هذه الأثناء تنفذ الولايات المتحدة غارات جوية في العراق وتعتزم توسيع حملتها الجوية لتشمل سوريا أيضاً. ليس واضحاً اذا كان هذا سيكفي لمنع انتشار الدولة الاسلامية وهذا أغلب الظن لن يغير حقيقة أن التنظيم يشكل مصدر جذب للشبان الذين لاسباب متنوعة ملوا حياتهم الغربية.
في كل الاحوال فان الحل الوحيد على الطاولة الان هو إلحاق الهزيمة بالاسلاميين – النتيجة التي قد تستغرق سنوات هذا اذا كانت ستتحقق في أي وقت من الاوقات. وفي المستقبل الأقرب ستضطر كل الدول الغربية التي تتعرض لهذا التهديد الى التعاون، التنسيق وتبادل المعلومات. وبالنسبة لاوروبا يحتمل أن يتعين على حكوماتها أن تتساءل اذا كان بوسعها أن تقاتل تنظيما لا يعترف بالحدود او القوانين دون أن تمس بحقوق أعضائها.
أنشل بابر
هآرتس 4/9/2014
القدس العربي
داعش.. ومخاطر إجهاض مسارات التحول الديمقراطي/ د. عبد العلي حامي الدين
كتابات كثيرة تحاول تحليل ظاهرة «داعش» الملفتة للانتباه، هذا التنظيم الذي بات يسيطر على مساحات شاسعة من سوريا والعراق..
القراءة الأولى تستند إلى نظرية المؤامرة وتطرح السؤال على الشكل التالي: من يقف وراء تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام؟ هذه القراءة تلجأ مباشرة إلى اتهام جهة خارجية بالوقوف وراء هذا التنظيم ومده بأسباب القوة والنجاح لأهداف استراتيجية، قد تكون هذه الجهة ـ حسب البعض ـ هي المخابرات الأمريكية من أجل خلق نوع من التوازن مع الشيعة في المنطقة، وقد تكون هي المخابرات الإيرانية من أجل تشويه نموذج الدولة الإسلامية الذي تطرحه الجماعات السلفية السنية وتقديمه للعالم في صورة مقززة قصد كسب رأي عام عالمي مساند لها في معركتها إلى جانب النظام السوري والعراقي، وقد تكون بعض الأنظمة الخليجية دعما للجماعات السنية ضد الشيعة..
هذه القراءة تستند إلى اعتبارات سياسية بالدرجة الأولى، يحاول فيها كل طرف استغلال بشاعة هذا التنظيم لتشويه الطرف الآخر..
أما القراءة الثانية فتنطلق في تحليل الظاهرة من السؤال التالي: ماهي العوامل التي ساهمت في بروز ظاهرة داعش، وكيف تشكل هذا التنظيم خلال السنوات الأخيرة، أي منذ الاحتلال الأمريكي للعراق؟ هذه القراءة تعتمد على قراءة الظاهرة من الداخل عبر دراسة مسارات قيادييها ورصد أهم مواقفها وأسلوبها في العمل.
القراءة الثانية تبدو أكثر تماسكا وموضوعية. غير أن ذلك لا يعني بأن القراءة الأولى ليس لها قدر من الحضور. كيف ذلك؟
أولا، لا يتعلق الأمر بتنظيم له مرجعية فكرية يمكن محاكمته على أساسها، على خلاف تنظيمات السلفية الجهادية، ولا تعرف بين قياداته أية أسماء لها وزن شرعي أو علمي بل إن جميع الشخصيات ذات التكوين الشرعي والمعروفة في الوسط الجهادي (من أمثال أبو محمد المقدسي، وأبو قتادة الفلسطيني، وهاني السباعي، فضلاً عن زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري) أصدرت عدة بيانات تحذر فيها من غلو تنظيم الدولة الإسلامية، وإفراطه في التكفير وسفك الدماء، كما عبرت عن عدم شرعية إعلانه الدولة ثم الخلافة الإسلامية.
وفي الوقت الذي أقدمت «داعش» على ذبح صحافي أمريكي بطريقة متوحشة، قام تنظيم القاعدة بتسليم صحافي أمريكي إلى القوات الأمريكية بعد وساطة قطرية وذلك لإعلان التمايز الحاصل بين التنظيمين.
بالمقابل هناك حضور قوي لشخصيات عسكرية بعثية لها سوابق في الجيش العراقي أيام الراحل صدام حسين، وهو ما يطرح الكثير من الأسئلة حول المسار الذي قطعته هذه الشخصيات لتصل إلى قيادة هذا التنظيم الذي يرفع راية «الدولة الإسلامية»، وتأثير هذا المسار على مقدار الوحشية والعنف المتمثل في الإعدامات الجماعية وقطع الرؤوس والتمثيل بالجثث.
إن مسار العديد من قيادات هذا التنظيم يجر وراءه تراكما هائلا من البطش والتنكيل والتعذيب منذ زمن الحكم الدكتاتوري لصدام مرورا بالحرب العراقية الإيرانية، بعدها حرب الخليج الأولى والثانية وما أعقبهما من احتلال أمريكي مارس أبشع أشكال التنكيل والقمع بالمواطنين العراقيين، قبل أن تسقط البلاد في يد نظام طائفي مغلق تسبب في اندلاع حرب طائفية مروعة ذهب ضحيتها الآلاف بسبب الاختلاف في المذهب..
يضاف إلى هذا المسار أن اعتماد العنف بطريقة بشعة تركز على القتل والذبح ونحر الرؤوس، وما يتبع ذلك من نشر ودعاية على أوسع نطاق هو «استراتيجية منهجية» لبث الرعب في المخالفين، وهو ما نجح فيه هذا التنظيم إلى حدود الساعة، ساعد في ذلك التكوين العسكري لقياداته ونزوعاتها البراغماتية التي تركز على الإنجاز مقابل تحللها من أي التزامات أخلاقية أو شرعية.. أما عن قدرة هذا التنظيم على استقطاب عدد من الشباب الغاضب من جنسيات مختلفة فلا يمكن تفسيره إلا بانجذاب هؤلاء الشباب نحو حلم «الدولة الإسلامية»..
في مقالة طويلة للباحث السعودي الرصين نواف القديمي، يسلط الضوء على مختلف العناصر التي كانت وراء التقدم السريع لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق في سوريا، ولا يتردد في استبعاد وجود أي دولة وراء هذا التنظيم، غير أن ذلك لا يعني بأن هناك الكثير من الأدلة والبراهين التي تدفع إلى الاستنتاج بأن أنظمة معينة حاولت الاستفادة من وحشية هذا التنظيم، من أبرزها النظام الإيراني والنظام السوري.
لقد مثلت حالة الانقسام الشيعي في العراق عائقا أمام الرؤية الإيرانية في التحكم في مفاصل الدولة العراقية الجديدة وهو ما دفع الساسة الإيرانيين إلى توظيف «الحالة الجهادية» وبالخصوص ظاهرة داعش كـ «خطر وجودي» يتهدد الجميع ويدعو إلى التوحد وراء إيران لمواجهة هذا العدو. لقد كانت إيران حريصة دائما على وجود تنظيم القاعدة في العراق مع امتلاكه عناصر القوة والتأثير، بالقدر الذي يُحقق الهدف المطلوب بتحالف الفصائل الشيعية واستعانتها بإيران، ولا يتجاوزه إلى تشكيل خطر حقيقي على الوجود الشيعي.
لقد مثلت إيران ممرا آمنا لمعظم قيادات القاعدة الهاربة من أفغانستان نحو العراق بعد الضربة الأمريكية لأفغانستان ولبعض مواقع القاعدة في باكستان، بالموازاة مع دعم عمليات التغيير الديمغرافي الطائفي في العراق، وتشجيع الميليشيات الشيعية المدعومة من حكومة بغداد، على تهجير السنة من المناطق المهمة جيوسياسياً، كالعاصمة بغداد، ومحافظة ديالى المتاخمة لحدودها.. أما النظام السوري فعمل على توظيف»داعش» للقضاء على الثورة، وذلك بحرصه على بث القلق لدى جميع الدول من أن البديل الوحيد للنظام السوري، في حال سقوطه سيكون هو تنظيم القاعدة أو تنظيم داعش.
وهكذا عمل على تغليب كفة تنظيم داعش، ودفعها لالتهام كل المناطق التي يسيطر عليها الثوار. ولتحقيق هذه الغاية يرصد الباحث نواف القديمي كيف أن النظام السوري، بعد بدء الثورة، قام بالإفراج عن مئات المعتقلين الجهاديين في سجن صيدنايا، كما أنه لم يدخل في معارك واسعة مع تنظيم الدولة الإسلامية، وتجنب قصف مواقعه، عدا استثناءات محدودة، بل وعمل في كثير من الأحيان على ترجيح كفته عبر ضرب الفصائل الثورية أثناء اشتداد معاركها مع تنظيم داعش.. بالمقابل فإن مقاتلي داعش تجنوا مواجهة الجيش السوري لاعتبارات براغماتية مرتبطة بموازين القوى وفضلوا الاستيلاء على مواقع الثوار والتنظيمات الجهادية، هذه الأخيرة التي ترددت في مواجهة الزحف الداعشي بسبب الحرج الفقهي والسياسي في مقاتلة «إخوة المنهج»..
بالإضافة إلى النظامين الإيراني والسوري، يعتبر الباحث بأن هناك دولا، أو أجهزة داخل دول، حاولت الاستفادة من بروز الحالة الجهادية في سوريا، وسهلت خروج المقاتلين من أراضيها لكي يلتحقوا بالفصائل الجهادية. وهي تتوقع أن تقوم بعض هذه العناصر بعد عودتها إلى بلدانها الأصلية، بتنفيذ عمليات تفجيرية في بلدانها، خاصة في بلدان «الربيع العربي»، وهو ما سيمكنها من توظيف هذه العمليات في التنافس السياسي الداخلي، وإعادة هيمنة الأجهزة الأمنية على القرار السياسي، والحد من مسار التطور الديموقراطي تحت لافتة مواجهة الإرهاب…
وهو التوقع الذي ينبغي أخذه بالجدية اللازمة نظرا لما يحمله من مخاطر حقيقية على مسارات التحول الديمقراطي الناشئة في بعض بلدان المنطقة العربية..
٭ كاتب من المغرب
القدس العربي
ضرب «داعش» بلا إذن الأسد/ عبد الرحمن الراشد
ردا على طلب وزير الخارجية السوري ضرورة الحصول على موافقة من حكومة بشار الأسد، قال رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون، في افتتاح قمة «الناتو»: «سنضرب (داعش) في الأراضي السورية، ولن نطلب إذنا من أحد، حيث لا توجد حكومة شرعية هناك».
الأسد لن يمانع طالما أن القصف لا يطاله لاحقا، إذا ما تغيرت المهمة وقصفت قواته والميليشيات التي تقاتل إلى جانبه من «حزب الله» اللبناني، و«عصائب الحق» العراقية، والحرس الثوري الإيراني.
الإذن الذي اشترطه وزير الخارجية السوري هدفه استعادة الاعتراف بحكومة الأسد دولة ذات سيادة، وهو ما رفضه كاميرون.
الجانب الأصعب أن قتال تنظيم «داعش» لن يكفيه القصف الجوي، خاصة أن الجماعات الإرهابية اختبأت في وسط المدن، من أجل الاحتماء بالمدنيين، كما فعل تنظيم القاعدة في العراق، طوال السنوات الماضية؛ فكيف سيمكن لقوات حلف الناتو، والدول الإقليمية الحليفة، إنهاء «داعش» من الجو؟ لقد قاتل الأميركيون لسنوات بضراوة تنظيم القاعدة في العراق، بكل أنواع الأسلحة، لكنهم لم ينتصروا فعلا – فقط – إلا بعد أن استعانوا بالأهالي والعشائر العراقية.
ولذا نشكك في فعالية سياسة «القيادة من الخلف» وحدها، وكذلك نحن متأكدون من فشل سياسة القتال من الجو. الحل يكمن أولا في «التعاقد» مع حليف سوري على الأرض، ولن يجدوا حليفا سوريا مستعدا لمقاتلة تنظيمات «داعش» و«جبهة النصرة» و«أحرار الشام»، وبقية التنظيمات الإرهابية إلا الجيش الحر، القوة السورية الوطنية الوحيدة التي تملك الشرعية الشعبية والقيم المدنية، فالحرب على الجماعات الإرهابية ستستغرق من التحالف الدولي الجديد ما يصل إلى عامين، وهذه المدة الزمنية الطويلة نسبيا تتطلب ترتيبات على الأرض، كما حدث في العراق.
وسوريا، لا العراق، أصبحت موطن الإرهاب العالمي اليوم، فيها مراكز وجيوش «داعش»، وبقية الجماعات الإرهابية. لا يمكن للقصف الجوي وحده أن يفعل الكثير في سوريا، ولا يمكن للدعم المحدود للجيش السوري الحر أن يفلح في محاصرة الإرهابيين، ولن يقبل المنضوون تحت علم الجيش الحر أن تتحول مهمتهم إلى مقاتلة «داعش» وشقيقاتها، والتخلي عن إسقاط نظام الأسد.
مشروعهم الرئيس الاستيلاء على العاصمة دمشق، وإقامة نظام جديد لكل السوريين يكون مسؤولا عن تحرير بقية الأراضي السورية من الجماعات الإرهابية، وكذلك من المرتزقة الذين يحاربون إلى جانب النظام السوري. على التحالف الجديد أن يعترف بالجيش الحر، ويدعمه، ليتحمل المسؤولية كاملة، وليس فقط أن يكون مجرد كتيبة تطارد «داعش» إرضاء للغرب والعرب.
الشرق الأوسط
بوتين والبغدادي في قمة الأطلسي/ الياس حرفوش
كانت صورة كل من فلاديمير بوتين وأبي بكر البغدادي هي المهيمنة على اجتماعات قادة الحلف الاطلسي في قمتهم التي انتهت امس في مقاطعة ويلز البريطانية. الاول بسبب الحملة التي يخوضها في شرقي اوكرانيا على رغم المعارضة الغربية للتدخل الروسي في تلك الدولة الجارة. أما البغدادي فقد نجح في فرض نفسه على الاطلسيين بحدّ السيف، بعد ان أقدم رجاله على ذبح صحافيَّين اميركيَّين على مرأى من العالم، ويهددون بذبح بريطاني.
28 زعيماً لـ 28 دولة غربية لم يجدوا الكثير يستطيعون به إحداث تغيير في الحالتين. ما يدل على مدى العجز الذي يشعر به العالم إذا قررت دولة ما أو تنظيم ارهابي، كما «داعش»، اللجوء الى البلطجة في مواجهة النظام العالمي السائد. اذ ماذا تستطيع الدول الغربية ان تفعل امام التمدد الروسي في اوكرانيا بعد ان تمكن بوتين من ابتلاع شبه جزيرة القرم بلا حساب، وها هو يدعو اليوم الى وضع سياسي خاص لمناطق الشرق الاوكراني، ما يعني عملياً قطع اوصال هذا البلد وإرغامه على دفع ثمن المطالبة بعضوية الاتحاد الاوروبي وحلف الاطلسي. في هذا الاطار، جاء تهديد الرئيس الاميركي باراك اوباما ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في المقال المشترك الذي نشراه في صحيفة «التايمز» البريطانية، بالدفاع عن أعضاء الحلف في وجه أي تهديد روسي، فارغاً من أي قيمة، اذ ان التزامات الحلف لا تنطبق على اوكرانيا، باعتبارها ليست عضواً فيه. وبالتالي يستطيع بوتين أن يستفيد من هذا الفراغ الامني عند حدوده الجنوبية الغربية مع اوروبا ليزعم ان ما يحصل في اوكرانيا ازمة داخلية لا علاقة لموسكو بها.
اما في الجانب المتعلق بالحرب المفتوحة مع تنظيم «داعش»، فلم يجد الاطلسيون هنا ايضاً سوى الدعوة الى تحالف دولي واسع في وجه هذا التنظيم، من دون أي اشارة الى السبيل العملي للقضاء عليه ولاستعادة الغنائم التي كسبها على الارض، في سورية والعراق، واعادة الوضع السياسي والجغرافي في هذين البلدين الى ما كان عليه قبل تمدد «داعش» وبلوغه مرحلة التهديد الخطر ليس فقط لأمن المنطقة التي انطلق منها، بل ايضاً للأمن الغربي بشكل عام. ومن الدلالات البالغة الوضوح على هذا التهديد الارقام التي ذكرها ديفيد كاميرون عن اعداد المقاتلين من حاملي الجنسيات الغربية الذين يعملون لدى أبي بكر البغدادي: 500 على الاقل من بريطانيا، 700 من فرنسا، 400 من المانيا والمئات من دول اخرى من بينها الولايات المتحدة وكندا والنمسا والدانمارك واسبانيا والسويد وبلجيكا وهولندا واستراليا. وهكذا فإن «الارهابي جون» الذي وضعت الصحف الشعبية البريطانية صورته على صدر صفحاتها حاملاً سكين الذبح واعتبرت أنه المسؤول عن تصفية الصحافيَّين الاميركيَّين ليس الغربي الوحيد الذي استطاع «داعش» تجنيده، وربما لا يكون الاكثر شهرة والارفع درجة في القيادة.
هذه المشكلة الامنية والاجتماعية والثقافية التي فرضها «داعش» على عقول الغربيين وعلى مؤسسات الحكم عندهم باتت تفرض معالجة مختلفة وأكثر جذرية، لا بد ان تتعدى المواجهة العسكرية كما حصل سابقاً مع «القاعدة». واذا كان صحيحاً ما تحدث عنه اوباما وكاميرون، في المقال الذي أشرنا اليه، عن «قوس عدم الاستقرار» الذي يمتد من شمال افريقيا الى بلدان الساحل الافريقي وصولاً الى منطقة الشرق الاوسط، فإن الاكيد ان اعادة الاستقرار الى هذه المناطق تحتاج الى اعادة قراءة وتصحيح للمفاهيم والقناعات الدينية لا بد ان يقوم بها أهل هذه المناطق انفسهم، قبل ان ينجح التدخل الغربي في إحداث أي تغيير، بل ربما كان تدخله سبباً في تعميق الازمة وتفاقم عدم الاستقرار.
لقد نجح تسرب هذه القناعات والمفاهيم المتطرفة في الوصول الى عقول مئات الشباب الغربي الذي يفترض ان يكون قد نشأ في بيئات ومجتمعات بعيدة عن التعصب والانعزال. وهذا يقتضي ايضاً ان تنظر المجتمعات الغربية الى ذاتها وان تعيد النظر في سياسات الاندماج التي تتبعها، لأن ما أثبته اتساع رقعة انضواء الشباب الغربي تحت علم «داعش» ان الازمة الثقافية ليست أزمة شرق أوسطية او عربية فقط، فالمجتمع الغربي لا يوفر هو ايضاً المناعة التي كنا جميعاً نتوقعها.
الحياة
ما سرّ الاطمئنان التركي والإسرائيلي؟/ سميح صعب
وقت تستشعر دول في المنطقة والعالم خطر الجهاديين، وبعضها محق في ذلك ويرفعه الى مصاف الخطر الوجودي، ثمة دولتان لا تستشعران هذا الخطر بالنسبة عينها ولا تعيرانه اي اهتمام، انهما تركيا واسرائيل.
الاولى لا تزال حدودها مفتوحة أمام الجهاديين الآتين من كل أصقاع الارض ليقاتلوا في سوريا والعراق. وبينما العالم مشغول بوضع استراتيجية فاعلة لمواجهة “داعش” و”جبهة النصرة”، ينشغل الرئيس التركي بانتخابات السنة المقبلة لتضمن له غالبية الثلثين في مجلس النواب وتاليا تعديل الدستور لتوسيع صلاحيات الرئيس بحيث يكون ديكتاتورا بثياب ديموقراطية. ومن يدري، ربما كان طموحه استرداد “الخلافة” من أبو بكر البغدادي!
واذا ما سئل المسؤولون الاتراك عن الامارات التي يقيمها الجهاديون في الجانب الآخر من الحدود التركية، يأتي جوابهم المكرور بأن الرئيس السوري بشار الاسد هو المسؤول عن ايصال سوريا الى ما وصلت اليه، وكأن تركيا فتحت حدودها أمام عشرات الآلاف من الجهاديين الى سوريا كي تفعل ذلك من منطلق انساني وليس من منطلق تخريب سوريا ودفعها الى الفوضى.
أما الأكثر حيرة، فهي إسرائيل التي لم تبد أي رد فعل استثنائي على سيطرة الجهاديين على معبر القنيطرة في الجولان حتى بات مقاتلو “جبهة النصرة” التابعة لتنظيم “القاعدة” الام على مسافة أمتار من المواقع الاسرائيلية في الشطر المحتل من الجولان. وعلى رغم ذلك، ثمة اطمئنان اسرائيلي الى وقائع المعارك التي ابعدت الجيش السوري
عن الحدود. وهذا الاطمئنان يثير اسئلة لا تحظى بأجوبة قاطعة.
صحيح ان الجهاديين الذين يقاتلون في سوريا لا يولون قتال اسرائيل أهمية ولا تدخل في أجندتهم المعلنة دعوة الى القتال في فلسطين. لكن هل هذا كاف ليطمئن اسرائيل الى انها ستبقى خارج نطاق عمل الجهاديين مستقبلا؟ أم أنها تنطلق من مقولة ان قيام دول دينية في المنطقة يسبغ شرعية عليها هي “دولة يهودية”؟ أم أن اسرائيل ترى في “حزب الله” و”حماس” خطرا عليها يفوق بكثير خطر الجهاديين؟ أم أن مهادنة الجهاديين مردها الى عدم الرغبة في استفزاز هؤلاء لئلا يحولوا زخم هجماتهم نحو اسرائيل عوض توجيهها الى سوريا والعراق ومصر؟
في الواقع تصعب الاجابة عن كل هذه التساؤلات. انما ذلك لا يلغي واقع الاطمئنان في تركيا وفي اسرائيل، على رغم التطورات المرعبة في المنطقة وشعور الاخرين بأن الخطر الزاحف لن يتوقف عند سوريا والعراق أو الخليج وأوروبا وأميركا.
النهار
الحنكة والقوة لسحق “داعش”!/ راجح الخوري
السؤال الأساسي كان مطروحاً قبل اجتماع حلف الاطلسي في ويلز:
تستطيع اميركا والأطلسي اطلاق عاصفة نارية جوية تدك مواقع “داعش” من الموصل في العراق الى الرقة في سوريا، لكن كيف يمكن تشكيل تحالف يخوض المعركة في الميدان او على الأرض حيث تبرز صعوبات عميقة للمواءمة بين دول الاقليم، لأن الدول الغربية ليست متحمسة للقتال على الارض؟
في العراق تبدو الأمور أقل تعقيداً مما هي عليه في سوريا، فالتعاون بين قوات البشمركة الكردية، التي حصلت حتى على أسلحة ايرانية، والقوات الحكومية المطعّمة بميليشيا مذهبية اوقف تقدم “داعش”، لكن ان يذهب نوري المالكي الى الجبهة ليحاول إعلان مواقف بطولية، بعدما كانت سياساته المذهبية والإقصائية قد ساعدت في خلق بيئة حاضنة للإرهابيين، فذلك لن يفيد في استئصال “داعش”.
على مكتب باراك أوباما تقارير واضحة تذكّر بأن الإنتصار على الارهاب مسألة تحتاج الى الحنكة قبل القوة. ففي عام ٢٠٠٦ تمكنت “الصحوات” التي شكّلها الاميركيون من رجال القبائل السنّية ان تهزم “القاعدة” في الأنبار، لكن المالكي سارع الى حل “الصحوات” بعد انسحاب اميركا.
والحنكة تعني انه عندما تعلن هذه القبائل الآن انها مستعدة لتأمين ٢٠ الفاً من مقاتليها لشن هجوم على “داعش”، فعلى الاميركيين ان يعرفوا ان هذا يشكّل عنصراً ملائماً لتركيب تحالف ميداني يساعد على تجاوز المشاعر المذهبية التي يثيرها دفع قوات مطعّمة بمقاتلين ايرانيين الى المناطق السنيّة التي سبق لها ان عانت من سياسات المالكي الاستبدادية.
والحديث عن صعوبات قانونية تواجه تركيب جناح ميداني يقاتل “داعش” في سوريا يبدو نوعاً من المخادعة، لا لأن العالم يجمع على ان نظام الاسد فقد شرعيته، بل لأن الامم المتحدة تتهمه صراحة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، وهو ما يسمح قانونياً بتركيب تحالف يهاجم “داعش” في موطنها الاصلي سوريا، ويسقط اي تفكير في التعاون مع النظام الذي خلق “داعش”، كما يقول الفرنسيون والأميركيون.
ايضاً على مكتب أوباما تقارير تقول إنه بالتوازي مع تسديد الضربات الجوية والميدانية الى مواقع “داعش” في العراق، يمكن المباشرة في دعم “الجيش السوري الحر” وتقويته جدياً بعدما ترك وحده من دون تسليح يقاتل النظام والارهابيين في وقت واحد، بينما كان أوباما يتعامى عن المذابح واستعمال الكيميائي الذي ولد منه سرطان الارهاب كما يسميه.
ايضاً وايضاً على مكتب أوباما وفي كواليس حلف الاطلسي تقارير تحذّر من ان إشراك ايران مباشرة في تحالف يشن حرباً على “داعش” سيعمّق الجنوح الى المسالك الارهابية، من منطلق ان رعايتها لسياسة المالكي في العراق ودعمها لحرب الاسد التدميرية في سوريا ساعدا في ولادة “داعش”، وقد يستنسخها بصورة أبشع!
النهار
عولمة الأمن/ سليمان تقي الدين
إذا كان جمهور واسع من المسلمين مأخوذاً بفكرة إعادة التاريخ إلى زمن “الدولة الإسلامية القوية” كما يتصورها أو يفترضها الخيال الشعبي، فإن حكومات الغرب تحرّض على ذلك وتحاول إشعار المسلمين بالدونية وتستدعيهم إلى منازلة غير متكافئة. هذا الصدام بين الإسلام والغرب ليس حدثاً طارئاً أو عابراً. هناك مشهد كاريكاتوري حين يحتشد الغرب الأطلسي والأوروبي في حلف عالمي ضد “داعش” ـ أو “دولة الإسلام” التي تتأسس اليوم على قطعة صغيرة من صحراء العرب. تنطوي أفكار “داعش” على كل مضامين “الإرهاب” وقد تنشر شظاياها في أربع رياح الأرض، لكنها بالمحصلة الفعلية جزيرة صغيرة في خضمّ هذا العالم الواسع. ولا نظن أن هذه المنظومة تحتاج إلى تحالف دولي لمواجهتها.
“داعش” ظاهرة خطيرة من تداعيات أزمات العالم المعاصر: أزمة العرب والمسلمين في انزوائهم عن التاريخ خلف حجب الاستبداد وثقافة إسلام سياسي تمّ إنتاجه على مدى قرن لتبرير مشروع “صراع الحضارات” وإعادة انتشار الغرب بمهمة مزدوجة “تدميرية إعمارية” وتمدينية عند الحاجة.
هذا الغرب الأطلسي الأوروبي الغربي يتجمّع ليس فقط ضد ظاهرة هي حقيقة من إفرازات التاريخ البربرية، ولكنه كذلك لتجديد أو استكمال المواجهة مع جزء مهم من العالم يطمح أن يكون شريكاً في صناعة نظام جديد قد لا يكون حاملاً لقيم انكسرت في القرن الماضي لكن لمصالح متنوعة تتكامل فتتراجع معها احتمالات الحروب وسباقات التسلح وما تلقيه على هذا الكوكب من أعباء ثقيلة تطاول البشرية جمعاء.
نود فعلاً محاصرة الحريق في هذا “الشرق الأوسط” بكل الأشكال والوسائل ولكننا لا نجد إلا سياسات دولية تستثمر على هذا الحريق خططاً جديدة للتوسع والاستنزاف وإدارة الفوضى.
ما يطاول الغرب حتى الآن من “الإرهاب” هو النزر اليسير، أو لنقل إنه يتأثر بالإرهاب في الكثير من مسار حياته الهادئة. لكن “الإرهاب المنظّم” الذي يصدّره الغرب ويرعاه أو يباركه كما في حالات عدة منها النموذج الإسرائيلي والحروب الأهلية التي يديرها وينظمها أحياناً أفظع من ذلك بكثير. فهل كان حصار العراق لعشر سنوات ومن ثم احتلاله وتدميره عملاً حضارياً مع ما خلّفه من مآسٍ وكوارث، أو إدارة الحرب السورية أو الليبية من الأمور الأقل أهمية قياساً لنموذج “داعش”؟
ما يجري الآن هو إعادة تشكيل العالم في سياق حرب دولية بدأت منذ ربع قرن، وما يُراد له أن يكون عوالم كما من قبل أولاً وثانياً وثالثاً، وأن تُحوَّر فيه المشكلات من تنافس على التقدم والتنمية المادية والبشرية إلى مراتب تبررها ثقافات وسلوكيات وأنماط تفكير. وفي عالم كهذا يتصدر “الأمن” بصفته الشبكة الناظمة المخترقة لكل الدول والقارات لينتهي عند قمة الهرم الدولي. فلسنا إذاً بصدد تصور دولي سياسي بقدر ما نحن أمام “عولمة أمنية” يتصدرها الحلف المزعوم ضد الإرهاب.
لذلك يُراد للإرهاب أن ينتشر ويتوسّع ليصبح ظاهرة كونية لا أن يكون دولة أو جغرافية. ويُراد للتحالف الدولي أن يوزع على الدول التابعة مهمات في جدول أعمال كهذا وأولويات كتلك. وخلافاً للتصورات التي راهنت على تراجع “العولمة العسكرية الأميركية” فإن “العولمة الأمنية” تطل برأسها مكشوفة في وفود الخبراء وأجهزة القيادة والأمن وبيع الأسلحة المتقدمة على هذا الصعيد.
ولعل شبكات “الإرهاب” التي جرى تنظيمها من قبل أو رعايتها مثل “القاعدة” هي على استعداد الآن لتقديم خدمات كبيرة لمشروع كهذا بادر إليه زعيم “القاعدة” في توسيع مهامه نحو شبه الجزيرة الهندية.
السفير
حرب الناتو على «داعش»… والدور العربي المحتمل
أسفرت قمة حلف شمال الاطلسي (ناتو) التي اختتمت اعمالها في نيوبورت بمقاطعة ويلز البريطانية الجمعة عن اعلان قيام عشر دول بتشكيل «تحالف» لمحاربة تنظيم «داعش» في العراق.
وتضم المبادرة، التي تقودها الولايات المتحدة وبريطانيا، ايضا المانيا وفرنسا وايطاليا والدنمارك وبولندا وتركيا وكندا اضافة الى استراليا غير العضو في الناتو.
كما وافق أعضاء «الناتو» على تشكيل «قوة تدخل سريع»، تضم عدة آلاف من الجنود، يمكن نشرها في غضون أيام قليلة، لمواجهة ما وصفتها بـ»تهديدات عالمية»، قد يكون من بينها تنظيم «داعش»، والتصدي للتهديدات الروسية في أوكرانيا.
وقال الأمين العام للحلف، أندريس فوغ راسموسن إن قوة التدخل السريع، التي سيكون غالبية قوامها من قوات المشاة، سيتم تعزيزها بوحدات خاصة من القوات الجوية والبحرية، وسيكون مقر قيادتها في شرق أوروبا.
وفيما يتعلق بتهديد تنظيم «داعش»، قال راسموسن إن الحلف أبدى استعداده لمساعدة الحكومة العراقية، في حالة إذا ما طلبت بغداد ذلك.
واستبعد الرئيس الفرنسي فرانسوا اولاند ان تشمل الحرب المرتقبة قوات داعش في سوريا، وهو ما يثير شكوكا واسعة حول امكانية نجاح الحلف في القضاء على التنظيم او اضعافه خاصة اذا اقتصر التدخل على الغارات الجوية.
الا ان ضم دولة مثل استراليا، وهي ليست عضوا في الناتو، الى التحالف المعادي لداعش، يشير الى احتمال الاستعانة بها لنشر قوات برية في العراق ان تطلب الأمر ذلك.
وبالطبع فان اي تحرك للناتو يبقى مرهونا بطلب رسمي من حكومة بغداد المفترض ان تكون واسعة التمثيل والمرضي عنها من كافة فئات الشعب العراقي، لتوفير غطاء من الشرعية المستندة الى القانون الدولي.
واشارت تلميحات امريكية متكررة الى ان دولا عربية ابدت استعدادا لارسال قوات رمزية لتوفير غطاء عربي واسلامي للحرب. وتمثل هذه التلميحات نوعا من الضغط على تلك الدول التي تخشى عواقب التورط في حرب مفتوحة ضد التنظيم.
وتكرست هذه الضغوط مع تصريحات رسمية في الولايات المتحدة واوروبا اشارت الى ان «داعش» هي في الاساس مشكلة وتهديد للعالم الاسلامي قبل غيره، ومن ثم يتوجب عليه ان يقوم بدور فاعل في مواجهته.
الا ان مشاركة عربية علنية في حرب قوامها حلف الناتو على تنظيم يسمي نفسه «الدولة الاسلامية» ليست امرا بسيطا كما قد يتصور البعض، خاصة اننا نتحدث عن «محيط عربي ملغوم» من الحواضن الثقافية والاجتماعية بل والتنظيمية لافكار «داعش».
وقد حذر البعض في الأردن بالفعل من ان «أي دور رسمي للأردن في حرب إقليمية، ليس من مصلحة البلاد، باعتبار انها حرب «لا ناقة ولا بعير لنا فيها»، وهو ما عزاه مراقبون الى وجود تيارعريض مؤيد لداعش بين اتباع السلفية الجهادية في البلاد.
اما بالنسبة الى مصر، فكان مصدر عسكري قال في اطار نفيه خبرا نشرته صحيفة «صانداي تايمز» الشهر الماضي حول وجود قوات مصرية وباكستانية على الحدود العراقية السعودية ان «ارسال اي قوات مصرية الى خارج البلاد غير ممكن الا وفق ضوابط وطنية محددة وفي اطار احترام القانون الدولي».
وهو تصريح لا يغلق الباب امام امكانية مشاركة قوات مصرية في مواجهة داعش اذا تلقت القاهرة طلبا رسميا من حكومة بغداد الجديدة بهذا الشأن، خاصة وان كان هذا الطلب مدعوما من حلفائها في الخليج.
إلا أن هذا لن يعفي الحكومة المصرية من ردود فعل انتقامية من تنظيمات «داعشية» محلية بدأت بالفعل حملة لقطع الرؤوس في سيناء.
ولايختلف الامر كثيرا بالنسبة الى دول الخليج، التي لن يقتصر دورها على التمويل، بل سيطلب منها اتاحة استخدام قواعد جوية وعسكرية في شن الغارات، وهو ما سيعده التنظيم مشاركة فاعلة في الحرب.
ولا يمكن استبعاد اشراك قوات رمزية من بعض دول المغرب العربي، كما حدث في حرب تحرير الكويت في العام 1991.
الا ان الواقع هو ان اغلب الدول العربية ستفضل ان تكون مشاركتها في اضيق الحدود، وبعيدا عن الاضواء، خشية تعرضها لهجمات انتقامية، خاصة بالنظر الى النتائج الكارثية التي اسفرت عنها حملة الناتو الجوية ضد ليبيا، اذ أودت بالآلاف من الابرياء، وفتحت الباب واسعا امام دخول الجماعات الارهابية من كل حدب وصوب.
انها حرب اخرى تلوح بوادرها في شرق أوسط لم يتوقف نزيفه اصلا منذ عقود.
فيا لها من حرب، ويا لها من عواقب محتملة سواء لخوضها او للتراجع عنها.
رأي القدس
القدس العربي
أوباما و«داعش»… والرئيس الحائر/ خير الله خير الله
لدى التمعّن في تصرّفات ادارة الرئيس باراك أوباما وفي كلام الرئيس الأميركي نفسه، هناك بالفعل ما يصدم. هناك حيرة خلقها رئيس حائر. أكثر ما يعبّر عن هذه الحيرة الرغبة في ضرب «داعش» في العراق والتغاضي عمّا تقوم به في سورية. كيف يمكن تفسير هذا المنطق العجيب الغريب الأقرب إلى اللا منطق من أيّ شيء آخر؟
هناك من جهة رغبة في دعم الحكومة العراقية المفترضة برئاسة حيدر العبادي، وهي حكومة لم تبصر النور بعد، وهناك من جهة أخرى اصرار على حماية الأكراد. حماية الأكراد أمر أكثر من مطلوب، لكنّ هذه الحماية كان يجب أن تترافق منذ زمن مع ضغوط على الحكومة العراقية السابقة برئاسة نوري المالكي التي تغاضت عن كلّ أذى يمكن أن يلحق بالمسيحيين والأقلّيات الأخرى. أكثر من ذلك، احتقرت حكومة المالكي السنّة بشكل عام ورفضت أيّ مشاركة كردية حقيقية في القرار السياسي.
بدت تلك الحكومة وكأنّها معنية فقط بشيعة العراق، بل بقسم منهم من الذي أعلنوا ولاءهم لها وقبلوا الدخول بعد السنة 2011 في لعبة دعم النظام السوري من منطلق مذهبي بحت تلبية للرغبات الإيرانية.
لعلّ أكثر ما يحيّر في مواقف الرئيس الحائر رغبة من نوع آخر في التغاضي عن «داعش» في سورية نظرا إلى أنّ كلّ ما ارتكبه هذا التنظيم الإرهابي يصبّ في خدمة النظام السوري. إنّه النظام السوري نفسه الذي وضع له باراك أوباما «الخطوط الحمر» التي تبيّن أنّها بكلّ الألوان باستثناء اللون الأحمر.
يصعب ايجاد تفسير للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، على الرغم من العقوبات الجديدة التي فُرضت على ايران والتي تشير للمرّة الأولى إلى احتمال حدوث تغيير ما في الموقف من طهران. كلّ ما يمكن قوله إنّنا أمام إدارة أميركية لا ترى سوى الملف النووي الإيراني. يبدو هذا الملفّ وكأنّه يختزل الشرق الأوسط ومشاكله وتعقيداته، أقلّه إلى الآن.
ما يبدو صعبا على الإدارة الأميركية فهمه يتمثّل في أنّ التقدّم الذي حقّقته «داعش» في داخل العراق يعكس جانبا من المشكلة الضخمة القائمة في البلد والتي في اساسها سوء التصرّف الأميركي في مرحلة ما بعد اسقاط النظام العائلي – البعثي لصدّام حسين، وهو نظام لعب دورا كبيرا ومهمّا في القضاء على نسيج المجتمع العراقي. استكمل الأميركيون، عندما عملوا على ترسيخ الطائفية والمذهبية والمناطقية، ما بدأه نظام صدّام الذي، ربّما، حسنته الوحيدة أنّه لم يميّز يوما في القمع بين عراقي وآخر بغض النظر عن مذهبه أو طائفته أو قوميته. استفادت «داعش» في العراق من الظلم الذي تعرّض له أهل السنّة. سمح لها ذلك في ايجاد بيئة تتحرّك فيها بحرّية وأمان. أمّا في سورية، فإنّ مهمّة «داعش» كانت ولا تزال تتمثّل في ضرب الثورة الشعبية السورية وتصوير الثوّار بأنّهم مجرّد «إرهابيين» يريدون قلب نظام علماني. تبدو معادلة «داعش» في سورية والعراق معادلة من النوع المعقّد الذي يصعب على عقل أوباما التعاطي معه. ولذلك، يسهل على الإدارة الاكتفاء بتوجيه ضربات للتنظيم الإرهابي في العراق بدل ملاحقته في سورية أيضا خدمة للمعارضة الوطنية السورية التي تواجه النظام بصدور عارية منذ ما يزيد على ثلاث سنوات وخمسة اشهر…
من أجل المساهمة في تمكين باراك أوباما من الخروج من حيرته والتغلّب عليها، قد يكون مفيدا الكلام عن أمرين. الأوّل يخص العراق والآخر سورية. بالنسبة إلى العراق، لا يمكن محاربة «داعش» والقضاء عليها من دون حكومة شراكة وطنية فعلية بعيدا عن مقولة «الأكثرية الشيعية» في هذا البلد. الأهمّ من ذلك، لا مفرّ من اعادة الاعتبار لسنّة العراق وليس لسنّة نوري المالكي ووقف عمليات التطهير العرقي في هذه المنطقة أو تلك والتي تقوم بها ميليشيات محسوبة على احزاب معيّنة معروفة بارتباطها بايران.
ليس مطلوبا قيام «حلف سنّي» لمواجهة «داعش» بمقدار ما أنّ المطلوب اعادة الاعتبار لمكونات العراق، أي للعرب والأكراد والتركمان وكلّ الطوائف والمذاهب، بمن في ذلك الأقليتان المسيحية والإيزيدية اللتان ظلمتا ظلما شديدا.
بكلام أوضح، إن حكومة جديدة تكون أبعد ما يكون عن حكومة المالكي تستطيع أن تلعب دورا في المواجهة مع «داعش». هل يمكن لشخصية من حزب «الدعوة»، كحيدر العبادي، تشكيل مثل هذا النوع من الحكومات الجامعة؟ هذا السؤال برسم الإدارة الأميركية في حال كانت تعتبر «داعش» خطرا فعليا ولديها نية في اجتثاثها على غرار اجتثاث نظام صدّام حسين غير المأسوف عليه.
أمّا بالنسبة إلى سورية، فإنّ «داعش» لعبت دورا في ضرب الثورة الشعبية. ولذلك، كان النظام أوّل من شجّع «داعش» ودعمها. من هذا المنطلق، لا يمكن تجاهل أن «داعش» حظيت برعاية النظام السوري، الذي عرف في البداية كيف يستفيد منها في العراق، أيام «أبو مصعب الزرقاوي» الذي وُجد بين العرب من يتخلّص منه في الوقت المناسب. في تلك المرحلة، مرحلة الزرقاوي، ومرحلة ما قبل اندلاع الثورة السورية، كان نوري المالكي نفسه يشكو من بشّار الأسد. كان الأسد الابن يرسل، من وجهة نظر المالكي، ارهابيين لتنفيذ عمليات انتحارية وتفجيرات في العراق. كان هدف النظام السوري واضحا وقتذاك. كان هذا الهدف يتمثّل في ابتزاز الأميركيين في العراق واظهار سورية في مظهر النظام القادر على التعاطي مع ظاهرة الإرهاب وضبطها متى شاء ذلك…
باختصار شديد، لا يمكن الفصل بين النظام السوري و«داعش». من يطيل عمر النظام، يساعد في انتشار «داعش» التي باتت على الحدود اللبنانية. المعركة مع النظام السوري مكملة للمعركة مع «داعش». هذا ما فهم الأوروبيون أخيراً، وهذا ما يفترض أن يكون واضحاً لدى ادارة أوباما في حال كانت جدّية في معركتها مع «داعش» وما شابهها من تنظيمات ارهابية لا علاقة لها بالإسلام الحقيقي من قريب أو بعيد.
هل كثير على ادارة أوباما أن تبدأ في فهم الشرق الأوسط بدل الاكتفاء بردّات الفعل التي جعلت من رئيس القوة العظمى الوحيدة في العالم يتصرّف بالطريقة التي تصرّف بها الاتحاد السوفياتي في مرحلة سقوط جدار برلين في خريف العام 1989؟
هل الولايات المتحدة من الضعف ما يجعلها تتصرّف، في أوكرانيا وغير أوكرانيا، على سبيل المثال وليس الحصر، كدولة مقبلة على الانهيار… أم المشكلة في باراك أوباما نفسه الذي يعتقد أنّ الحيرة يمكن أن تكون سياسة وأن تغني عن أيّ موقف يتطلّب حزما وحسما وصفات قيادية؟
* “الراي” الكويتية
قطر وتمويل «داعش»: المقاربة الأمريكية/ لوري بلوتكين بوغارت
معهد واشنطن
ترى الولايات المتحدة في حليفتها المقرّبة قطر بؤرةً لتمويل الإرهاب، إلى حد أن واشنطن وصفت هذه الدولة الخليجية الصغيرة بأنها بيئة متساهلة مع تمويل الجماعات الإرهابية.
وتقول الولايات المتحدة إنها لا تملك أدلة على أن الحكومة القطرية تموّل الجماعة الإرهابية المعروفة الآن باسم «الدولة الإسلامية» (أو «الدولة الإسلامية في العراق والشام» [«داعش»]). وتعتقد أن أفراداً في قطر يساهمون على المستوى الشخصي في تمويل هذا التنظيم وغيره من أمثاله، لا بل تعتبر أن الدولة الخليجية لا تبذل جهوداً كافية لوضع حد لهذه الظاهرة.
وفي سبيل التأثير على السياسات القطرية، انتهجت الولايات المتحدة مقاربة العصا والجزرة مع حليفتها القطرية بحيث انهالت عليها بالثناء على الأنظمة الجديدة التي وضعتها لمكافحة تمويل الإرهاب، فيما عمدت إلى ردعها في السر عن دعم التنظيمات الإرهابية وأحياناً لومها علناً على ذلك.
لكن المشكلة الجوهرية هي أن الأجندة الأمريكية لمكافحة الإرهاب تتعارض أحياناً مع ما تعتبره قطر مصالحها السياسية الخاصة. فقد اقتضت الاستراتيجية الأمنية لقطر أن تدعم عدد كبير من التنظيمات الإقليمية والدولية بهدف ردّ التهديدات عن البلاد. وقد تضمنت هذه الاستراتيجية تقديم المساعدات السخية للمنظمات الإسلامية، بما فيها تلك المقاتلة مثل «حماس» وطالبان. ويشكل السماح بجمع التبرعات المحلية والخاصة لصالح جماعات إسلامية في الخارج جزءاً من هذا النهج. لذلك فإن إغلاق قنوات الدعم للمسلحين الإسلاميين – وهو ما تريده واشنطن من الدوحة – يتنافى مع المقاربة الأساسية التي تعتمدها قطر إزاء أمنها الخاص.
لقد ثبت أن الضغط الأمريكي والدولي قادر على التأثير في سياسات مكافحة تمويل الإرهاب لدى دول الخليج. وأحدث مثال على ذلك هو الكويت. فقد عمدت الكويت تحت ضغط كبير هذا العام إلى تعزيز أنظمتها المتراخية حول مكافحة تمويل الإرهاب. وثمة دلائل على أن بعض القوانين الجديدة على الأقل ستنفذ بصرامة – وهذه مشكلة كبيرة عندما يتعلق الأمر بدول الخليج.
يجدر بالولايات المتحدة أن تنظر إلى علاقتها الوطيدة مع قطر كسبيلٍ لحثّ حليفتها على المضيّ في اتجاه أفضل. وتمثل المكاسب المقلقة التي حققتها «داعش» في العراق وسوريا فرصة خاصة أمام واشنطن للعمل مع قطر على تطبيق إجراءات مكافحة تمويل الإرهاب. وقد تُوطّد قطر عزمها على تضييق الخناق على القنوات الخاصة لجمع الأموال إذا ما شعرت بتهديد مباشر من «الدولة الإسلامية» أو من الجماعات الإرهابية الأخرى التي تدعمها الأطراف المانحة المحلية، أو إذا اعتبرت أن الجهاديين القطريين العائدين إلى ديارهم من العراق وسوريا يشكلون خطراً أمنياً عليها. وفي الواقع أن الإشارات التي تُظهر أن “انتصارات” «داعش» ربما تقود إلى رفع مستوى التبرعات الخاصة التي تأتي من الخليج إلى غيرها من الجماعات السنية المسلحة، تضفي أهمية أكبر على الحاجة إلى اتخاذ تدابير مؤاتية لمكافحة تمويل الإرهاب.
وفي الوقت نفسه، إن إضعاف «داعش» مالياً يتطلب مقاربةً لا ترتكز على الهبات الخليجية الخاصة. وتكسب «الدولة الإسلامية» النسبة الكبرى من دخلها بشكل مستقل – من تهريب النفط والابتزاز وغيرها من الجرائم في العراق وسوريا. لذلك فإنّ تقويض القاعدة المالية لهذا التنظيم يستوجب دحر قدرته على النفاذ إلى هذه المصادر من الدخل المحلي.
لوري بلوتكين بوغارت هي زميلة أبحاث في برنامج سياسة الخليج في معهد واشنطن.
تحالف دولي ضد «داعش» :هذه هي العقبات/ سام منسى
لم يعد خافياً أن الإدارة الأميركية بدأت انعطافة واضحة للانخراط مجدداً في شؤون المنطقة العربية، بعد الانكفاء غير المسبوق، أو ما اصطلح على وصفه بالنأي بالنفس عن المشاكل والأزمات، وقد فعّل هذه العودة وسرّعها «ذبح» الصحافيَّين الأميركيَّين المقززة.
في هذا السياق لا بد من أن يسجل متابع الحدث في المنطقة، وعلى هامش الموضوع، أن أداء «داعش» صار حافزاً لتدخّل الولايات المتحدة والغرب، ليس فقط نتيجة عمليات الذبح «المتلفزة» فحسب، بل نتيجة ممارسات مريبة وغير مبررة لأي سبب من الأسباب.
بدأت بوادر الانخراط الجديد مع إرسال ٣ دفعات من القوات الأميركية إلى العراق، آخرها ٣٥٠ جندياً، بحجة مهمات استشارية وحماية السفارة الأميركية وطاقمها، وشنّ الغارات الأميركية على مواقع «داعش» في العراق. ودعا الرئيس الأميركي أيضاً إلى تشكيل تحالف عالمي لمحاربة تنظيم «داعش» والتهديد بإبادته وإبداء العزم على إيفاد وزيري الخارجية والدفاع إلى المنطقة لبلورة هذا التحالف.
واضح أن رد الفعل الأميركي البارز عبر لهجة الرئيس والمسؤولين الأميركيين، يعبّر عن «نقزة» أميركية، كمن أوقظ من نوم عميق بعد حدث جلل.
وأصدق تعبير عن الارتباك والمفاجأة أن الرئيس والإدارة وصفا «داعش» تارة بالسرطان قبل أن يتوقّعا أن تطول محاربته، وصولاً إلى القول إن القضاء على «داعش» يحتاج إلى حرب عالمية ضده. حتى إن الرئيس الأميركي نفسه، وبعد أن قال إن الإدارة ليس لديها استراتيجية لمحاربة «داعش» عاد، وبعد أيام قليلة، ليؤكد أن بلاده لديها هذه الاستراتيجية وهو عازم على القضاء على «داعش». والغريب في هذا الكلام إنجاز استراتيجية لدولة عظمى بحجم الولايات المتحدة في غضون أيام لمواجهة حدث يحتاج إلى تكاتف العالم؟
تدلّ المؤشرات كافة على أن الإدارة الأميركية تلحق بالحدث أو حتى تلهث وراءه لاحتوائه، ولا تزال إما غير راغبة أو غير قادرة على التأثير فيه ومعالجته ووضع حد له.
ويتوقع المتابعون لهذا المسار ألّا تثمر الزيارة المنوي أن يقوم بها الوزيران كيري وهاغل عن النتائج المرجوة منها، أقله في القريب العاجل، ولأسباب كثيرة على رأسها أنه، على رغم ما نسمع ونشاهد، لا يزال الرئيس الأميركي في رأي هؤلاء المتابعين غير راغب بحرب أميركية منفردة ضد «داعش»، بل يسعى إلى تكتل دولي وإقليمي، من ضمنه طبعاً الولايات المتحدة، يخوض هذه الحرب.
لكن هذا التحالف دونه عقبات كثيرة، أهمها:
1- أن الإدارة الأميركية تكاد ترتكب الخطأ الذي سبق أن ارتكبته مع سورية، اي اختزال الأزمة والحرب بامتلاك النظام أسلحة كيماوية.
اليوم، واشنطن تختزل الاضطراب الذي تشهده المنطقة وفي أكثر من دولة بتمدد «داعش» وممارساته. وبدل اعتبار ظاهرة «داعش» نتيجة للنزاعات والأزمات التي تعيشها المنطقة منذ عقود وفي أكثر من مكان وعلى أكثر من صعيد، فإن المقاربة تقوم على أن «داعش» هو لب المشكلة، والقضاء عليه سيعيد الأمن والاستقرار إلى المنطقة. وهذا الأمر يعيد إلى الأذهان كيف اعتبرت تصفية أسامة بن لادن اجتثاثاً للإرهاب، ليتبين لاحقاً أنه نما وازدهر بعد بن لادن أكثر مما كان عليه قبل مقتله.
كما أن سياسة الغرب بعامة والولايات المتحدة ومقاربتهما للإرهاب، فشلت فشلاً ذريعاً ومدوياً. وتؤكد نظرة سريعة لهذه الظاهرة وتناميها في العالم والإقليم منذ عام ٢٠٠١ وحتى عام ٢٠١٤ صحة ما نقول، ما يعني أن مجمل سياسة الغرب بما فيه روسيا والصين بمقاربة هذه الظاهرة أدى إلى انتشارها، حتى باتت تسيطر على مناطق شاسعة وتحكم الملايين من السكان، وتدفع الدول الكبرى إلى التكاتف والتعاون لمحاربتها: كم يصعب على المراقب أن يصدق أن القضاء على «داعش» بات يحتاج إلى كل هذا الحشد من الدول العظمى؟
2- الإمعان في مقاربة أزمات المنطقة ومشاكلها باعتبارها غير مترابطة. لا تزال الإدارة الاميركية الحالية مصرة على معالجة كل مشكلة على حدة، منطلقة من أن لا علاقة لها بمشاكل أخرى. بكلام آخر لا سياسة أو لا رؤية استراتيجية لمعالجة أزمات المنطقة. ولا تزال السياسة مبنية على ردود فعل، كما هي الحال مع ممارسات «داعش» أخيراً ومع غيره في أوقات ومراحل سابقة.
لم تتحرك الولايات المتحدة بخاصة والغرب بعامة بالشكل المطلوب وبالفعالية والجدية التي تتطلبها حرب مثل تلك التي تدور في سورية، أدت إلى سقوط أكثر من ٢٠٠ ألف قتيل و٩ ملايين نازح ومهجر. لم يتحرك الغرب حتى الآن لمواجهة ما يجري في ليبيا، والذي قد يمتد إلى الدول المجاورة. كما لم تتحرك واشنطن لوضع حد لممارسات نوري المالكي في العراق، والمساعدة في احتواء الحراك الحوثي في اليمن.
جاء رد الفعل الغربي بعامة والأميركي بخاصة، نتيجة تهديد المناطق الكردية في العراق والممارسات الهمجية ضد الأقليتين المسيحية والإيزيدية في العراق.
بعض الدول التي سيزورها الوزير كيري والوزير هاغل ستسأل الإدارة عن المواقف الأميركية الملتبسة.
لن يستطيع الرئيس أوباما وأركان إدارته تفسير التراجع عن النأي بالنفس عن مشاكل المنطقة، لا سيما إذا لم يحمل الوزيران مواقف واضحة إزاء التباين حول قضايا كثيرة، على رأسها الموقف من إيران ودورها في الإقليم.
3- تباين واضح بين بعض الأطراف التي تنتمي إلى ما يمكن اعتباره حلفاً. ويتمحور التباين حول أكثر من موضوع خلافي، إنما النقطة الخلافية الأبرز هي الموقف من نظام الأسد كما الموقف من الإسلام السياسي نفسه ومن المنظمات المتشددة.
4- إذا كان من السذاجة اعتبار أن حل ظاهرة «داعش» وغيرها من حالات الاضطراب والنزاع في الإقليم يصلح بالدور الأجنبي، فإن من السذاجة والتبسيط أيضاً تجاهل عمق المشاكل المحلية وتجذرها في دول الإقليم، لا سيما فقدان الحكم الصالح والمشاكل داخل المكونات وبين هذه المكونات والسلطة.
كشفت السنوات الثلاث الماضية الكثير من الحقائق حول الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية في عالمنا العربي. ما ظهر في سورية وليبيا والعراق ومصر وتونس ولبنان وفلسطين وغيرها من عفن ثقافي واجتماعي وتخلف وعنف، لا يشي بحلول سريعة ومستقبل قريب واعد.
وهذا قد يبرر للرئيس الأميركي عدم ضرورة الانخراط في شؤون المنطقة، وقناعته بأن التدخل في منطقة فاشلة أو على مشارف الفشل، نتائجه باهظة على بلاده.
وبمعزل عن صواب هذه المقاربة أو خطئها تبين للرئيس الأميركي أن من الصعب التخلي أو الابتعاد.
وفي السياق نفسه، لا سيما مع الحديث عن اقتراب أكثر من دولة في المنطقة من الفشل وتحولها إلى بيئات صالحة لتفريخ الإرهابيين واحتضان المقبلين من الغرب، يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً: إذا صح أن العالم العربي أضحى بيئة حاضنة ومنتجة للإرهاب، ماذا في شأن أولئك المقبلين من الغرب، هل لندن وسيدني ولوس أنجليس واستوكهولم بيئات خصبة أيضاً؟
* إعلامي لبناني
الحياة
سرعة لبنانية مستجدة في الالتحاق بـ “الجهاد العالمي”/ حازم الامين
ألقت السلطات الدنماركية القبض على سيدة من أصل لبناني كانت تجمع تبرعات لـ»داعش». ليس هذا خبراً عابراً. إنه مؤشر إذا ما أضيف إلى مؤشرات سبقته في الأشهر القليلة الفائتة، فإن على اللبنانيين أن يباشروا إحصاء مزيد من الوقائع المفضية إلى حقيقة أنهم بدأوا يتفوقون على غيرهم من مجتمعات المنطقة في مجال «الجهاد العالمي». فقبل نحو شهرين تم الكشف عن أن الذباح الرئيسي في «داعش» هو أسترالي من أصل لبناني، وقبل ذلك أيضاً أقدم شقيقان سويديان من أصل لبناني على تنفيذ عملية انتحارية مشتركة في منطقة تل كلخ السورية.
وقابل ارتفاع نسبة مساهمة الدياسبورا اللبنانية في «الجهاد العالمي»، ارتفاع في مساهمة «السلفية الجهادية اللبنانية» المقيمة في هذا «الجهاد» أيضاً، فأقدم طرابلسيان خلال الشهر الفائت على تنفيذ عمليتين انتحاريتين في بغداد، وغادر عشرات من المدينة ومن محيطها للالتحاق بـ»داعش» ما أن أعلن البغدادي خلافته.
المساهمة اللبنانية في «الجهاد العالمي» بقيت، حتى سنتين انقضتا، الأدنى بين مساهمات دول ومجتمعات مجاورة. «السلفية الجهادية» لم تُرسِ تقاليد نشاط لها في لبنان في ذروة نشاطها العالمي، واقتصر انتشارها فيه على مجموعات ضيقة ونخب لم تتمكن من تجاوز عتبات مساجدها. لا مفتين لها ولا فتوات، ومن سعى إلى الإفتاء والفتوة فيها من بين اللبنانيين لم يلق الكثير من التجاوب. وفي لائحة ضمت 700 اسم من مقاتلي «القاعدة» في العراق نشرتها القوات الأميركية في عام 2007، لم يكن بينهم إلا لبناني واحد، في حين ضمت اللائحة في حينها نحو 90 سورياً و70 أردنياً ولم ينزل رقم أي بلد عربي عن 10 مقاتلين.
ثمة تحول سريع إذاً. تضخم مفاجئ للقابلية اللبنانية على ممارسة العنف وعلى الانخراط في «الجهاد العالمي». وصار يمكننا أن نتحدث عن «تفوق لبناني» على هذا الصعيد أيضاً.
القول إن «سلفية جهادية» مفاجئة أصابت الفتية اللبنانيين ودفعتهم إلى «الجهاد العالمي» فيه بعض التسرع. ثمة ضعف مفاجئ في المناعة التي تمتع بها «المؤمن اللبناني» في السنوات العشرين الفائتة. ومن الواضح أن ضعف المناعة هذا أصاب البيئات المحلية والاغترابية في آن، وإن على نحو متفاوت. فالدياسبورا اللبنانية كانت أصلاً أضعف مناعة من بيئاتها الأصلية. معظم الأفغان اللبنانيين الذين انخرطوا في «الجهاد» الأول في أفغانستان، وهم قلة على كل حال، هم من لبنانيي الدياسبورا، وتولت المنازعات اللبنانية امتصاص رغبات كل راغب لبناني مقيم بـ»الجهاد»، وساعدها على ذلك هامشية الدعوة «السلفية الجهادية» في مختلف المدن والأرياف اللبنانية.
اليوم هناك تسريع ملحوظ في الانخراط اللبناني في هذه الظاهرة. و»داعش» إذ تُمثل في هذه المــــرحلة وجه «الجهاد» بصيغته العنفية، لا بل تمثــــل ذروته ومنتهاه، فهي على ما يبدو الجهة التـــي استثمرت في هذا المتغير. و«داعش»، كمـــا اللبنانيـــين، ضعيفة الصلة أيضاً بـ«السلفية الجهادية» كطقس وكممارسة وكامتداد، وهي أشد شبهاً بنماذج العنف المحلي وبمصادره المباشرة. المذهبية والعشائرية والضـــغائن الناجمة تهاوي أنظمة وسلطات، هذه عناصر سبقـــت «السلفية الجهادية» إلى الوعي الداعـــشي، وهذه على ما يبدو أيضاً قربت «داعش» كنموذج وكخيار، من ضائقة فتية لبنانيين.
و«داعش» تنظيم جماهيري مذهبي، وهو يملك بهذا المعنى قدرات أكبر من تلك التي تملكها «السلفية الجهادية» النخبوية على التجنيد وعلـــى جـــذب فتــية من خارج المساجد. فـ»الخلافة المؤجلة» لتنظيم القاعدة جعل من نموذجه فكرة يحتاج الإيمان فيها إلى خيال، وإلى بناء فكري ونــظري، وهي مبنية على محاجة متواصلة ودائمة، أما «داعش» فقد أعلنت «الخلافة»، ورســمت حدودها وأعلنت عن خليفتها. هي اليوم واقــع وليست فكرة «مرجأة»، وهي واقع بمواجهة واقع مذهبي موازٍ ومعادٍ. لا يحتاج الانتماء إليها إلى إشغال الذهن، بل إلى مجرد الحماسة وإلـى اشتغال الحمية والرغبة في القتال. مقاتلو «داعش» ليسوا سلفيين بالضرورة، مجرد القابلية إلى الذهاب بالعنف إلى أقصاه يُكرسهم فتوات فيها. لا بأس طبعاً بلحية سلفية، ولا بأس ببعض الصلاة والعبارات المرافقة لخطب «الخليفة»، لكن ذلك ليس جوهرياً وليس شرطاًَ شارطاً.
قد يبدو هذا الوصف محاولة للقول إن «داعش» عارض براني وطارئ، لكن الحقيقة غير ذلك فعلاً، ذاك أن قدرة هذا التنظيم الإجرامي على التوسع وعلى التجنيد وعلى التحول إلى «خيار جماهيري» هي أكبر بكثير من قدرات أسلافه في التنظيمات الجهادية العنفية. فهو يسعى إلى مخاطبة ما أنتجته فينا منازعاتنا من قابلية للقتل والثأر والاستئصال، ويذهب بهذه القابلية إلى منتهاها، ولا تتوسط بينه وبين الفتية المجندين سوى فكرة واحدة، بسيطة وجاذبة، وهي قتل العدو، والعدو هو «الآخر».
ليست المساجد ولا الجامعات هي أمكنة التجنيد، على نحو ما هي في حال «السلفية الجهادية»، «داعش» تُجند من الشوارع والساحات، ومن العشائر ومن الأحزاب المُجتثة، وهي إلى ذلك تُخضع جماعات بأكملها وتضمها إلى جسمها. المبايعات العشائرية هي أحد أشكال الإخضاع، وكذلك العلاقة الملتبسة مع تنظيمات البعث في العراق.
«داعش» ليست فكرة في وعي فتيتها، إنها «خلافة متحققة». القتال في صفوفها يُشبه الجندية، واللبنانيون إذ يمقتون الأفكار ويقدمون الواقعية عليها، فهي بذلك قريبة من أذهانهم ومن أنظارهم. إنها هناك تماماً بالقرب منهم. ليست بعيدة كثيراً عن طرابلس ولا عن صيدا، وهي إذ أطلت برأسها من جرود عرسال، راحت تُخاطب حاجتهم للقوة المنتزعة منهم، للثأر من سنوات طويلة أمضوها تحت سلطة حزب الله.
«داعش» حزب مذهبي مباشر وجلي، بينما توسطت بين «القاعدة» وبين مذهبيتها الكثير من الأفكار ومن الحسابات. «الخلافة الجديدة» تولت نزع السحر والخيال عن العنف، وجعلته واقعياً ومرتبطاً مباشرة بما يجري من نزاع. كذلك جعلته راهناً وغير ماضوي، فما يجري، إنما يجري الآن في هذه اللحظة، وهذه الصورة المرسلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليست ماضياً على نحو ما نعهده في الصورة، بل هي اللحظة التي نراها فيها.
بهذه الســـرعة غادرت والدة الانتحاري اللبناني منزلها إلى عيادة الطبيب في بيروت، لتعـــود إلـــى منزلها بعد ساعات قليلة وتكتشف أن ابنـــها الذي لم يكن سلفياً توّجه إلى العراق.
الحياة
هل يخسر داعش والأسد سياسة تمييع الوقت هذه المرة؟/ علي العائد
تواجه الغرب مع نظامي الأسد الأب والابن، مرات، في سياسة تمييع الوقت، فربح الأسدان دون أن يخسر الغرب شيئاً.
وبدءاً من ثمانينيات القرن الماضي، عانى السوريون من تلك السياسة على شكل أزمات معيشية طالت الفقراء، قبل أن تنضم إليهم الطبقة الوسطى التي ذابت في تلك الفترة مع الطبقة الفقيرة المستقرة في بؤسها. ومازال كثير ممن عاش تلك الفترة يضرب بها المثل كحالة لم يسبق لهم معايشتها، وتشبه في ظرفيتها سنوات القحط التي تزامنت مع فترة الوحدة السورية المصرية (1958 – 1961)م.
وسياسة تمييع الوقت الأسدية أصبحت مدرسة وسياسة، فحافظ الأسد نجح مرات فيها لصالح حكمه منذ بدايات ثمانينيات القرن الماضي، حين بدأت الضغوط الأمريكية والغربية ضد حكمه بعد مجزرة حماة “السريعة”، ومن ثم قمعه حركة الإخوان المسلمين في كل من حلب واللاذقية وجسر الشغور، كجزء من “إجراءات” غربية على نظامه لرفع يده عن لبنان، وليس إنصافاً للمقتولين من المدنيين الذين ذهبوا ضحية حجة “التصدي لعصابة الإخوان المسلمين العميلة”، وفي كل الحالات لإرضاء إسرائيل لدى أي تحرك منها، أو طلب من الغرب، للضغط عليه.
استمرت الضغوط على حافظ الأسد حتى بداية تسعينيات القرن الماضي، عندما شارك نظامه في حرب الخليج الأولى في عهد بوش الأب، فربح الأسد المعركة، وأعادت أميركا وأوروبا إطلاق يده في لبنان، وضغطت على إسرائيل للبدء في مفاوضات سلام في خصوص الجولان السوري المحتل.
في عهد الأسد الابن، عانى السوريون ثلاث مرات من الضغوط الغربية، قبل بدء الثورة السورية في آذار 2011، الأولى بعد الإطاحة بربيع دمشق عام 2002، من خلال الاعتقالات والملاحقات، وردة الفعل الناعمة قياساً مع سابقاتها؛ والثانية بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، والاتهامات الأميركية لنظام بشار الأسد بمساعدة فلول نظام صدام حسين المنهار، وفتح الحدود مع العراق لعبور الجهاديين السلفيين والمنتمين إلى القاعدة، بل وإطلاق المعتقلين ذوي الميول السلفية لديه وتسهيل ذهابهم إلى العراق. وهذا ما اتضحت فصوله بعد اغتيال النظام لرئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري بقصة “فتح الإسلام” وشاكر العبسي؛ والثالثة بعد اغتيال رفيق الحريري، حيث أفضت الضغوط الدولية إلى إجبار الأسد الابن على سحب قواته في وقت قياسي، ومن ثم تبادل السفارات بين سوريا ولبنان. بدا وقتها أن الأسد خسر هذه المرة في تطبيق نظرية أبيه في تمييع الوقت، لكن الأحداث اللاحقة بينت أنه كسبها، حين تم تعويمه من جديد مع زيارة سعد الحريري لدمشق في نهايات عام 2009، وكذلك فعل وليد جنبلاط، بعد أن مرت فترة ظننا فيها أن القطيعة أبدية بين هذه الأطراف.
والمرة الرابعة والأخيرة لانزال نعيش فصولها بعد الثورة السورية، وفيها دفع السوريون الثمن الباهظ للعبة تمييع الوقت بين نظام بشار الأسد والغربيين عموماً، وأميركا باراك أوباما خصوصاً.
لاشك أن الأسد نجح حتى الآن في ذلك، ظاهرياً على الأقل، لكن الغرب يعرف لعبة تمييع الوقت أيضاً، وهو من يديرها في هذه المرة، بمعنى أن ما يقال من أن الأسد نجح في تسويقه الإعلامي للثورة كمشروع جهادي قاعدي هو بالضبط ما يريده الغرب لتبرير تقاعسه. ويذهب محللون أن أمريكا أوباما لا تريد حرباً جديدة في وقت بالكاد بدأ اقتصادها يتعافى من أزمة حروبه على مدار العقدين الماضيين في العراق وأفغانستان، والتي توجت بالأزمة المالية العالمية التي لم تتلاشَ بعد جميع آثارها على الاقتصاد العالمي برمته.
إذاً، وافق ما يفعله الابن هوى الغرب، فأعطوه الوقت الذي يريد حتى الآن، وإن كان المعلن يقول عكس ذلك، كما أن الواقع يخدعنا في أن روسيا والصين هما فقط من تغطيان الأسد سياسياً، بينما تتولى إيران دعمه لوجستياً وعسكرياً، وتمده بالميليشيات المدربة والمشحونة طائفياً، بل إن الجهاديين القاعديين ليسوا بعيدين عن هذا التحليل كونهم يساهمون في دعم مبررات إعلام الأسد حول المؤامرة الكونية، والمعركة بين السلطة الشرعية ومنظمات خارجة على القانون الدولي؛ كل ذلك دعم ويدعم مبررات التقاعس الغربي الذي صب في مصلحة الأسد، حتى أن وسائل الإعلام الغربية نفسها بدأت تميل إلى نظرية الأسد، مانحة إياه الوقت ليتم ما بدأه من القضاء على “الإرهابيين”.
مع ذلك، تؤكد مراكز الأبحاث التي تتابع الوضع السوري أن عدد المقاتلين غير السوريين المنضوين في التشكيلات القاعدية، والإسلامية عموماً، قد يصل إلى 12 ألفاً، في مقابل 40 ألفاً من الميليشيات الشيعية، وفي تقديرات أخرى يصل عدد هذه الأخيرة إلى 54 ألفاً.
لا يبدو أن الطرفين الأمريكي والأوروبي في وارد إعطاء الأسد جائزة أخرى لربحه معركة تمييع الوقت معهما، بعد أن أعطياه وقتاً يساوي أرواح 250 ألف سوري، عدا ملايين اللاجئين والمهجرين والمفقودين، والأرواح الهائمة في مهاوي الليل وذل التسول، و”زواج الستر”، والبيع والشراء والاسترقاق الذي يعيشه السوريون في أوروبا، وفي قوارب البحر الذاهبة إليها، وفي مجاهل الغابات كذلك.
وعلى عكس ما كان يتوقع بعضنا ويأمل، لم يتحرك الغرب قبل سنة ضد مجزرة الكيماوي في الغوطة في نهايات أغسطس (آب) 2013، لكنه يُزمع الآن التحرك ضد داعش، وبسبب داعش، وخوفاً منها.
التوقعات هنا أن يكون الأسد ونظامه هدفاً أيضاً لهذا التحرك، وإن لم يحدث ذلك ستستمر سياسة تمييع الوقت بين الأسد الصغير والغرب، وربما سيربح الأسد مرة أخرى.