صفحات العالم

مقالات مهمة تناولت الحراك الشعبي في لبنان

عن التغيير في لبنان…/ حازم صاغية

لا داعي للمبالغات العاطفيّة والمشحونة عند الحديث عن الشبّان اللبنانيّين وتحرّكهم: فلا هم سيُسقطون النظام الطائفيّ، وقد رأينا الكلفة الباهظة لتحدّي وزير عاديّ واحد من خلال عمل سلميّ! ولا النظام الذي يواجهه الشبّان ديكتاتوريّ، وهذا يستحيل في لبنان، ولا تكفي أعمال القمع الأخيرة لصبغه بهذه الصبغة. ثمّ إنّ أيّ تغيير لبنانيّ لا بدّ أن يضع نصب عينيه الحفاظ على مكتسبات لبنان القائمة، والتقليديّة، وأهمّها الحرّيّة وسهولة الانفتاح على الغرب، كي يكون تغييراً يتجاوز القائم نحو ما هو أفضل.

والشبّان الذين يتحرّكون يرتكبون الأخطاء، بطبيعة الحال، ويقعون في المبالغات أحياناً. إلاّ أنّ نقدهم يُستحسن ألاّ يصدر عن قلوب «يستخفّها الطرب»، ولا عن استغباء أبويّ يمارسه أهل النظام نفاقاً ومزايدةً في إبداء التعاطف مع تحرّك يعرفون أنّه ضدّهم تحديداً، ويعرفون أيضاً أنّهم ضدّه تحديداً.

وفي آخر المطاف فإنّ أساس الموضوع كامن في تصلّب شرايين هذا الوضع الذي عاش ما بين 1989 و2005 بوصفه نظام تكافل وتضامن مرعيّاً سوريّاً، لكنّه منذ ذاك الحين غدا نظاماً للاختلاف المضبوط، أو أنّ اختلافه صار هو نفسه نظاماً. وفي هذا المعنى جاز الكلام عن تركيبة للتنازع الطائفيّ بوصفها امتداداً مقلوباً لتركيبة التكامل الطائفيّ. فإن لم نصدّق هذه الفرضيّة، بات علينا الاستعانة بكثير من السذاجة كي نفسّر قيام «التحالف الرباعيّ» قبل أن يجفّ دم رفيق الحريري، أو ذاك التعايش بين التخوين المتبادل لسنوات طويلة، والتشارك، لسنوات طويلة، في حكومات وطاولات حوار آخرها ستداهمنا بعد أيّام قليلة.

وهذا ليس للقول إنّ إسقاط النظام يحتلّ أيّاً من المواقع على أيّ جدول أعمال جدّيّ. لكنّ ما يثيره تحرّك الشبّان لا يتعدّى اختراقاً بسيطاً يُراد للمسائل الاجتماعيّة والشبابيّة أن تُحدثه، بما يفتح قناة ضيّقة لتجديد النخب تجاور القنوات العريضة المتاحة للطوائف ونُخبها. وهذا لن يُفقد 8 و14 آذار قاعدتيهما الطائفيّتين بالطبع، إلا أنّه يفقدهما الكثير من الزعم الإيديولوجيّ الذي يقنّع طائفيّتهما (علماً بوجود يساريّين مستعدّين للمضيّ دفاعاً عن عفاف إيديولوجيٍّ لـ «حزب الله» يفوق ما يدّعيه الحزب لنفسه). لكنْ من دون الوقوع في أيّة فولكلوريّة طبقيّة متفائلة، قد تتّسع قليلاً قاعدة الذين يباشرون التخلّي عن خياراتهم الطائفيّة، والانحياز إلى ما يجمعهم بسواهم من هموم ومعاناة.

في المقابل، لا يعود النقد الذي يطاول شطراً من النظام هو النقد الذي يمارسه شطره الآخر، وتكفّ الخلافات عن الانضباط الكلّيّ بثنائيّة 8 و14 آذار. هكذا نسمع ما يهبّ علينا من بيئة مختلفة ونظيفة هي التي تثار فيها الضمانات الاجتماعيّة لمن هم أكثر عوزاً، والمساواة بين الرجال والنساء، وحريّة الإبداع في مواجهة الرقابات على أنواعها، والعمالة الأجنبيّة وقضايا العنصريّة. وغنيّ عن القول إنّ قيماً كهذه لا تجافي قيم الأقطاب في 8 و14 آذار فحسب، بل تجافي القيم السائدة في المنطقة التي يراد استيرادها من الرعاة الإقليميّين.

فإن لم ينجح الشبّان في إحداث هذا الاختراق الصغير، مجسّداً في وجوه وفي قيم، لم يبقَ من معاني لبنان إلاّ أنّه «ليس» ديكتاتوريّة عسكريّة، أو أنّ «داعش» لا تعيث فيه فساداً. وهذا لا يكفي ولا يستجيب لطموح طامح متواضع في زمننا. فوق ذلك، قد يغدو تكيّف النظام مع هذه المطالب المتواضعة «الخرطوشة الأخيرة» في الحفاظ على لبنان وتجنّب الانهيار الكامل لهذه الوحدة التي تتزايد شكليّتها وخواؤها.

أمّا المهجوسون بالتخريب الذي قد يُحدثه تحرّك الشبّان فيفوتهم أنّ التخريب بالغٌ اليوم حّده الأقصى، بشهادة النفايات والكهرباء والأمن وسواها، وهو ما لا يترك للشبّان شيئاً يخرّبونه. هل نضيف: للأسف!

الحياة

 

 

 

صورة نصرالله/ حازم صاغية

لنا أن نسمّي واحداً من فصول الإعداد لتظاهرة بيروت الأخيرة فصلَ الصورة، صورة السيّد حسن نصرالله. ذاك أنّه حين وُضعت الأخيرة إلى جانب صور باقي القادة السياسيّين المتّهمين بالفساد، تدافعت التهديدات في وسائط التواصل الاجتماعيّ كما في العالم الفعليّ، واحمرّت الأعين، وربّما وُضعت أيدٍ على الزناد.

فالصورة، كما نعلم، ليست مجرّد «فوتوغراف»، بل هي «إيميج» يضاف فيه التصوّر المصنوع إلى الوجه الطبيعيّ. هكذا يخترق «العدوانُ» على الصورة عينَ الرائي إلى عقل صانع المعاني بحيث يغدو جبهُ هذا «العدوان» من قِبل «المعتدى عليهم» أمر اليوم المُلحّ. وتجنّباً لخطر كبير ومحدق، ومن أجل إنجاح تظاهرة سلميّة، عثر البعض على مخرج مؤدّاه استبعاد صور الزعماء جميعاً، وأخذ بعض آخر بفتوى تقول باسترجاع صورة قديمة للزعماء يتمثّل فيها «حزب الله» برئيس كتلته النيابيّة محمّد رعد.

غنيّ عن القول إنّ من يفرض استثناءه بالقوّة لا يكون استثنائيّاً إلاّ في القوّة. أمّا في السياسات المعتمدة فهناك الاحتقار أيضاً. ذاك أنّ تنزيه نصرالله عن حلفاء له، كنبيه برّي وميشال عون، والرفض الحاسم لوضع صورته جنباً إلى جنب صورهم يوحيان بإقرار ضمنيّ بأنّ المذكورين فاسدون. هكذا يغدو السؤال المنطقيّ: لماذا يتحالف نصرالله معهم إذاً؟

بيد أنّ الموضوع أبعد من المناكفة السياسيّة. فسيّد «حزب الله» يراد تقديمه ككائن متعالٍ عن السياسة، لا يندرج في خاناتها. فهو بالتالي أقرب إلى الأسطوريّ منه إلى الإنسانيّ، مع أنّه هو ذاته كان إنسانيّاً حين أقرّ بخطئه في خطابه الشهير «لو كنت أعلم»، وحين اعترف بأنّه في سرّه بكى نجله الشابّ. وحتّى لو كان السيّد ناصع النزاهة شخصيّاً، وهذا مرجّح، فذلك لا يلغي احتلال حزبه موقعاً راسخاً في نظام الحصص الطائفيّة الفاسد يمتدّ هبوطاً من المشاركة في الحكومة والبرلمان إلى ما تشهد عليها بوّابات المرفأ والمطار. وهذا ناهيك عن أنّ الحزب، الذي يُريحه الوضع القائم، لا يملك أيّ تصوّر اقتصاديّ أو اجتماعيّ يخالف فيه تصوّرات منافسيه السياسيّين. ويبقى، في آخر المطاف، أنّ قضم الدولة بأنياب دولة أقوى منها تمكينٌ للفساد لا يرقى إليه شكّ.

أهمّ من ذلك كلّه الحرص على التنزيه النابع من أنّ قضيّة نصرالله تعلو على السياسة ولا تستمدّ شرعيّتها منها. ونعلم أنّ الزعماء غير الديموقراطيّين كثيراً ما أغراهم وصفُهم بـ»الملهَمين»، أي أنّ مساءلتهم ترقى إلى تجاوزٍ على الله لأنّ ما فعلوه لم يكن غير إلهامه لهم. وهذا نمط من الزعماء يوفّر موقعه في الدين حصانة ضدّ نقده في السياسة. ومن دون أن يشكّك عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر بالقدرات الخارقة لهذا النمط من الزعماء، والتي تُمارَس عبر الخطابة خصوصاً، فقد ربطها بممارسة «السحر» على مسحورين. ومع السحر ينتفي النقد وتنعدم السياسة وتستحيل الديموقراطيّة. ذاك أنّ مصدر الشرعيّة، والحال هذه، لا يعود مرهوناً بأيّ من الإنجازات الملموسة للسياسة، اقتصاداً أم تعليماً أم صحّةً أم غير ذلك، ناهيك عن ارتهانه بالإرادة الشعبيّة. وحتّى لو وافقنا على التعامل مع «المقاومة» بوصفها موضوعاً سياسيّاً يدرّ الإنجازات الملموسة، فإنّ انتقالها إلى سوريّة يلغي قابليّتها للقياس، ومن ثمّ للمحاسبة، أي أنّه يُدرجها في السحريّ والمقدّس.

لكنْ إذا صحّ ما قاله التحليل النفسيّ من أنّ الزعيم الذي من الصنف هذا أبٌ مؤمثَل، وأنّ شعوراً بالذنب ناجماً عن قتل الأب الفعليّ هو ما أمثَلَه، جاز أن نتساءل عن حجم الشعور بالذنب الذي ينتاب بعضنا.

الحياة

 

 

 

حاجة “حزب الله” إلى … “14 آذار”/ حازم الامين

انقض «حزب الله» على «الحراك» اللبناني ما إن شعر أن المُستهدف هو ما يُمكن أن يكون «النظام». أطلق العنان لـ «حليفه» ميشال عون، ودفع بإعلامه نحو حملة على الناشطين، فهم تارة «صبية سفارات» وتارة أخرى مراهقون لا يدرون ماذا يفعلون. والحال أنه ليس رفع بعض المتظاهرين صورة أمين عام «حزب الله» حسن نصرالله كواحد من أركان النظام الفاسد ما أثار الحزب، بل شعور الأخير أن السير في هذا الطريق سيفضي حكماً للبحث في دور الحزب وموقعه من التركيبة السياسية والمذهبية اللبنانية.

ما دأب كثيرون على قوله بالتزامن مع «الحراك»، لجهة أنه لا يوجد نظام في لبنان لإسقاطه، غير صحيح إطلاقاً. ففي لبنان «نظام» له وظيفة دقيقة وقائم على توازنات، وهو اليوم في لحظة اختلال كبرى، ليس بسبب «الحراك» إنما لأسباب سابقة عليه. ومنذ 2005 يتخبط لبنان بتبعات هذا الاختلال، إلى أن وصل إلى لحظة ذروة لم يعد فيها قادراً على تلبية وظائفه البديهية.

إنه نظام ما بعد عالم 1990، وهو ليس نظام الطائف على ما قد يتبادر للذهن. فقد تم تجاوز الطائف منذ اللحظة الأولى من مــباشرة تطبيقه. وحدد الراعي الإقليمي لهذا النظام وظيفتين، الأولى داخلية تولاها الرئيس الراحل رفيق الحريري، والثانية إقليمية تولاها «حزب الله». وإذا كانت للأول مهمة خارجية فقد حُصرت في تلبية المهمة الثانية. وما إن شعر «النظام» أن الحريري الأب ذهب في مهمته الإقليمية إلى أكثر من الوظيفة التي أناطها به حتى قتله.

اهتز «النظام» ما إن قُتل الحريري، لكنه لم يسقط، فقد استعيض عن الفراغ فيه نتيجة انسحاب الجيش السوري وتقلص نفوذ نظام دمشق في بيروت، بنفوذ أمني وعسكري مباشر لـ «حزب الله» (7 أيار/ مايو، نموذجاً). جرى ذلك في ظل إفساح المجال لقوى تقليدية (المستقبل والاشتراكي) لا تخضع لتأثير الحزب وطهران، لكنها لا تُهدد النفوذ. كما ضمت قوى جديدة إلى منطقة النفوذ كالتيار العوني، وغيره من قوى صغيرة كانت شعرت باليتم مع مغادرة الجيش السوري لبنان.

كان توازناً هشاً ذاك الذي أعاد «النظام» تأمينه لنفسه، لكنه استمر في تأدية الوظيفة الرئيسة له، كركيزة سياسية وأمنية وخدماتية للذراع الإقليمية لمحور الممانعة.

صحيح أن «إسقاط النظام» يعني وفق الذين سارعوا إلى تبني هذا الشعار، إسقاط نظام الفساد والمحاصصة الطائفية، لكنه قبل ذلك يعني إسقاط الوظيفة الفعلية لهذا النظام. فـ «النظام» ليس سعد الحريري، ذاك أن الرجل خارج لبنان اليوم، وتياره يترنح بأزمات أين منها أزمة اللبنانيين مع شركة «سوكلين». و «النظام» طبعاً ليس ميشال عون، وجل طموح الرجل أن يُمضي سنواته الأخيرة رئيساً من دون صلاحيات. «النظام» معد لمهمة واحدة ثابتة، هي الدور الإقليمي لـ «حزب الله». ولنراقب البيانات الوزارية منذ 1990 إلى اليوم. فالثابت الوحيد فيها هو تشريع سلاح «حزب الله»، فيما التسويات قد تطال كل شيء خارج هذا البند.

الفساد وظيفته تسويات تُمرر بند السلاح، والمحاصصة أيضاً هذه وظيفتها. والقول إن «حزب الله» ليس جزءاً من آلة الفساد تتفاوت صحته إذا كان المقصود الفساد المباشر، لكن الفساد كان نظام مكافآت في ظل المهمة المركزية. وهذه الآلية شهدت ذروتها بعد اختلال التوازن الأول الذي كان قائماً على الوظيفتين الداخلية والإقليمية. فتيار المستقبل بعد مقتل الحريري الأب فقد الكثير من شروط الشراكة، ما أفسح مجالاً لحصة أكبر لـ «حزب الله» في «النظام». سلاح المقاومة انتقل إلى مهمة جديدة في سورية، وهو تجاوز للبيان الوزاري، وهذا الأمر سهلته الانكفاءة الحريرية، ذاك أن الحزب لم يعد يشعر بأن «النظام» مهدد بهذه المهمة.

نعم، مَن غير «النظام» من أتاح لـ «حزب الله» أن يقاتل في سورية؟ فالحزب شريك مباشر في حكومة «النظام» ويتمتع بتمثيل واسع في برلمانه وبشبكة تحالفات متنوعة فيه. وهل من شيء نموذجي أكثر من ذلك لتعزيز المهمة الإقليمية التي يؤديها.

سريعاً ما تراجع حلفاء الحزب في الحراك عن مقولة «إسقاط النظام». الأرجح أن إصبعاً لاحت محذرة من شطحة «المراهقة» هذه. لكن الأمر لن يقتصر على هذا التراجع، فيبدو أن قصر المطالب على مكافحة الفساد ومحاسبة المسؤولين، وإن كانوا من خصوم الحزب، سيتحول لاحقاً إلى خطيئة بحق المقاومة. ذاك أن الخصومة هنا قائمة على توازن ضمن النظام. وبهذا المعنى فالحراك اللبناني وإن اقتصر على مطلب محاسبة المسؤولين عن فضيحة النفايات، ومعظمهم ربما كانوا من خصوم الحزب، سيفضي لاحقاً إلى تهديد مهمة النظام المركزية، أي إبقاء لبنان ركيزة الوظيفة الاقليمية التي يتولاها «حزب الله».

السؤال هنا هو: هل من قوة لبنانية تُهدد مهمة «حزب الله» الإقليمية؟ الجواب الحاسم هو لا كبيرة. إذاً ما هي مصلحة «حزب الله» في حراك قد ينتج معادلات مختلفة؟ هذا السؤال وحده ما يُفسر انقلاب حلفاء الحزب على الحراك.

ثمة شيء آخر مذهل كشفه الحراك اللبناني على هذا الصعيد، ويتمثل في أن وجود «14 آذار» في لبنان ضرورة لقيام الحزب بمهامه. فلنتخيل مثلاً لبنان من دون «14 آذار»! كيف كان الحزب سيعالج هذا الاختلال؟ فموقفه إلى جانب وزراء في «14 آذار» كشف كم تبدو حاجته لهذا الانقسام جوهرية، وأنه لا يستطيع تأدية مهمته من دونه.

فأن تواجه وزراء في «14 آذار» من خارج الانقسام يعني أنك تواجه «نظام الانقسام»، وهذا الأخير تتمثل مهمته الرئيسة في تأمين المهمة الإقليمية، لقاء مكافاءات يتوزعها الخصوم والحلفاء. هذه لحظة كشفتها تظاهرة 29 آب (أغسطس) في بيروت.

المجيء إلى التظاهرة من خارج 8 و14 آذار، أقدم عليه هذه المرة شباب كانوا إلى اليوم الذي سبق التظاهرة جزءاً من هذا الانقسام، وهو وإن اقتصر على مطلب متعلق بالنفايات وبالفساد، إلا أنه كان رقصاً خارج «النظام». وعندما استجاب الناشطون لتهديدات بضرورة سحب صورة نصرالله من بين صور الزعماء المستهدفين بشعارات التظاهرة، شعر الحزب بأن الاستجابة خطوة ماكرة، وأنه مستهدف ضمناً، فباشر أنصاره حملة تخوين الناشطين.

الحياة

 

 

عن حدود التسييس وتجاوزها/ سامر فرنجيّة

ليس ضرورياً لحركة شبابية احتجاجية، كحركة #طلعت – ريحتكم، أن يكون لها برنامج سياسي يقدم خطة عمل مفصّلة وبديلاً فعلياً وعملياً لواقع بات مأزوماً. فمطالبة وزير بالاستقالة أو حكومة بحلّ أزمة بيئية، هي في حدّ ذاتها مطالبة سياسية بامتياز، وكافية لتحرّك لم يدّعِ أصلاً تقديم بديل عن «النظام». بيد أنّ البعض يصرّ على مطالبة التحرّك بتوضيح موقفه السياسي، وتحديد موقعه من الاصطفافات الحالية، والإعلان عن برنامج سياسي، وهذا إما بتخوين التحرّك أو تحذيره أو محاولة فرض عناوين سياسية عليه.

والإصرار هذا مستغرب، وقد يعود إلى عقلية «مركزية» في فهم السياسة، إضافة إلى بعض المحاولات غير البريئة لاستمالة التحرّك نحو أحد الطرفين المتصارعين. فعلى رغم نجاح التحرّك بعدم الانزلاق إلى أحد الخندقين، مهما هوّل البعض، وفعاليته «غير المباشرة» في السياسة اللبنانية، في دفع السياسيين نحو طاولات حوار وتسويات، مثلاً، يعود البعض ويؤكد أنه حان الوقت الآن للتنظيم والتنسيق والبرامج والبيانات والجبهات الإنقاذية.

قد يكون من الضروري بعض التنسيق والتنظيم للتحرّك، على مستوى المواكبة القانونية أو في ما يخصّ تنظيم التحرّكات الشعبية، مثلاً، بيد أنّ كل ما يتعدى مسألة التنسيق التقني ينطوي على أخطار لها علاقة بطبيعة الواقع الراهن.

يواجه التحرّك عقبتين في السياسة، يمكن تجاهلهما في الوقت الراهن أو تفادي التعاطي المباشر معهما، لكنّهما سيفرضان نفسيهما عليه إذا قرر خوض معارك سياسية كخيار بديل أو ثالث.

العقبة الأولى مسألة حزب الله وسلاحه وحروبه السورية. فإذا كان من الممكن لتحرّك أن يتجاهل مسألة كهذه في بداياته، فلا مهرب من أن يعود ويصطدم بها، بخاصة إذا قرر الدخول في السياسة اللبنانية بوصفه طرفاً. لقد باتت هذه المسألة العقبة الأساس في السياسة اللبنانية، والإشكالية الراهنة الأساس أمام أي إعادة اعتبار لـ «النظام»، أكانت إسقاطاً أو إصلاحاً. هناك من لا يزال متمسّكاً بمقولة الإصلاح تحت غطاء حزب الله، غير أنّ خياراً كهذا بات مستحيلاً اليوم، بعد البراميل والتسليح والحروب. وقد لا يكون من الذكاء السياسي وضع مسألة السلاح في واجهة كل تحرّك، غير أنّه أيضاً من السذاجة اعتبار أنّها غير موجودة لمجرّد سحب «الصورة».

أما العقبة الثانية، والمرتبطة بالأولى، فهي توترات الوضع الراهن وانقساماته الطائفية والمذهبية. فالتحرّك هو نتيجة توازن رعب بارد، وإن كان هشّاً، سمح له بالبروز وأمّن له شرط الوجود. وأي انتكاسة لهذا التوازن، إمّا من خلال سيطرة طرف على الآخر أو من خلال عودة التوترات الطائفية أو عبر حرب مفتوحة، كفيلة بالقضاء على التحرّك. هناك ناس «علّقت» عضويتها في إحدى المجموعتين لكي تبحث عن مساحة مشتركة، بيد أنّ هذا التعليق لا يزال هشّاً أيضاً، وقد لا يحتمل عودة التشنّج الطائفي وعصبياته. هذا ليس للقول أنّ على التحرّك أن يأخذ على عاتقه الحفاظ على التوازن السياسي، بل الانتباه إلى أنه خارج ساحات الفرح، لا يزال هناك حزن طائفي، قد ينقضّ على التحرّك في أية لحظة.

وبالتالي، إذا كان لا بد من تسييس فمن خلال التفات التحرّك إلى شروط وجوده، والتي هي ممثلة بالدولة وبحدّ أدنى من السلم الأهلي. والمفارقة قد تكون أنّ هذا التحرّك ربما غدا آخر مكوّن في المجتمع اللبناني ما زال يعتبر الدولة هدفاً يستحق المخاطرة من أجله، وإن من خلال أضعف مؤسساتها. خارج هذا الهدف الذي يمكن اقتحامه، نعود أفراداً في صراع طائفي لا مكان لنا فيه. فالتسييس، إذا أصرّ البعض عليه، يبدأ من هنا، من خلال البحث عن طرق ربط المسألة الاجتماعية بالمسألة السياسية والسيادية والميثاقية. وهذه قد لا تكون اليوم أوليّة أو مسؤولية التحرّك، لكنّها سؤال بات يلوح في الأفق.

وانطلاقاً من هاتين النقطتين، فإن تنظيم أو تسييس التحرّك يحتاج إلى التعاطي مع تلك العقبات، وليس الهروب منها من خلال طرح بديل لواقع قد لا ينتظر الزمن المطلوب للتراكم التنظيمي. أو على الأقل، قد يكون من المفيد التفكير في نوع من التراكم غير المركزي، الذي يؤمن بعضاً من المرونة في وجه وضع سياسي صلب وهشّ في آن.

وهنا قد لا يكون الجواب في تنظيرات تسقط على الحراك، بل في أخرى نابعة من طبيعة الحراك نفسه، هذا إذا قبلنا النظر إليه من خارج الاصطفافات المعهودة. فالتحرّك ليس محصوراً بالنفايات، وإن كانت النفايات شعاره. فهو تحرك مطلبي وصراع أجيال وصرخة أخلاقية ونضال نقابي وتفجير لتوازنات صغيرة وصراعات جانبية ومحاولات تجديد وأزمة ثقافية، وقد باتت كلها ترتبط بطبيعة الحكم في لبنان. هذا التعدّد ليس مصدر ضعف، بل قد يكون مصدر القوة الأساسي الذي يجب البناء عليه. فطاقة اعتراضية كهذه قد يستحيل تنسيقها ومتابعتها، لكنْ يجب الاستفادة منها من خلال توسيع موجة الاحتجاجات لكي تؤمن شبكة حماية للحراك، كفيلة باستيعاب ردة الفعل المحافظة التي باتت متوقعة في أي لحظة.

قد لا نكون في بداية طريق طويلة وشاقة، لأنّه ليس هنا من طريق. نحن في لحظة نادرة ثُلم فيها حدّ النظام، وسيعود بعنف محافظ بعد بضعة أسابيع. فإما أن تُفتح الآن جبهات مطلبيّة متعدّدة، وإما أن نجد أنفسنا في وجه منظومة حكم ثأرية، وليس لدينا إلا ملف واحد للمناورة به.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى