صفحات الثقافة

مقالان عن معرض عاصم باشا الأخير في باريس

 

 

 

عاصم الباشا.. معدن الألم/ أحمد باشا

عند مطالعة سيرة النحات السوري عاصم الباشا، الذي تستضيف صالة “أوروبيا” في باريس معرضاً له يستمر حتى 17 من الشهر الجاري، لا بد من استحضار سير أمكنة وحقب تاريخية صهرها الفنان الأرجنتينيّ المولد (1948) مع مواد ومعادن أعماله.

في هذا المعرض، الذي يضم اشتغالات الفنان الأخيرة، التي أنتج غالبيتها إثر خروجه من سوريا، يتجلّى حضور الثورة بشكل ملحوظ، حيث يعيد الفنان، بواسطة المعدن والرسوم الخزفية (أكسيد النحاس)، تشكيل الآلام والتشوهات التي أصابت بلده وأبناءها. أعمال مثل “نازح”، و”الطريق إلى باب عمرو”، تصلح أمثلة على ذلك الألم الدفين، الذي يستمد مادته من المأساة السورية.

الباشا، المولود لأب سوري مهاجر وأم أرجنتينية، سيعود عام 1959 إلى مسقط رأس والده، مدينة يبرود (80 كلم شمال دمشق)، حيث ستبدأ أنامل ابن الـ 11 عاماً بتحسس صلابة لغتين: العربية، وصخور مدينته. قبل هذه العودة، سيرسله والده، وهو في عمر السابعة، إلى إحدى الأكاديميات الفنية في العاصمة الأرجنيتينة. لكن دراسته النحت، لاحقاً، في موسكو، ستكون مدخله إلى الاتجاهات الجديدة في الفن الحديث، وطريقه للاحتكاك بعدد من أهم التجارب المعاصرة، في روسيا كما في أوروبا.

هكذا، سينهي الشاب اليبرودي دراسته، ليعود إلى دمشق عام 1977. لكن عزوفه عن دخول دائرة صنّاع تماثيل عائلة الأسد، سيجعل منه شخصاً غير مرغوب به. هكذا، سيُبعَد إلى مدينة الحسكة، على الحدود التركية العراقية، ليدرّس الرسم في مدرسة ابتدائية هناك. لكن إقامة الباشا لن تطول في بلده؛ فبعد إقامته المعرض الفردي الأول في دمشق (1977)، سيحزم حقائبه ويسافر إلى إسبانيا. بعد أربع سنوات، يعود إلى دمشق، ويصدر روايته “بعض من أيام أُخَر” (1984)، ثم يودّع البلاد مرة أخرى بمعرض سمّاه “معرض الوداع”.

فترة الغياب الأطول عن دمشق قضاها الباشا في مشغله الغرناطي، إلا أن أخبار أعماله ونجاحاته لم تغب يوماً عن بلده، فكانت دائماً حديث الأصدقاء والنقاد والمهتمين بالحركة الفنية، وهو ما لا يخفيه الاحتفاء به في دمشق عند إقامة معرضه الاستعادي في غاليري “تجليات” عام 2010، بعد غياب دام 24 عاماً.

تبرز في أعمال الباشا موضوعات دائمة الحضور، مثل الانتظار والذعر والقسوة والخصوبة. لكن الأسى لا يحضر بصيغة تراجيدية أو جنائزية في أعماله، إذ لا يبحث النحات في اشتغالاته عن لحظة توثيق جمالية عابرة، بل يذهب أبعد من ذلك جاهداً في أن تشي المنحوتة، بكل ما تختزنه من حركة كامنة، بلحظة الخلاص من العذابات، وإن بدت، بشكل غير مباشر، أكثر تراجيدية من سلسلة العذابات نفسها.

وفي هذا السياق، تبدو شخوص الباشا مرتهنة لحركتها فقط؛ تسير بكبرياء نحو حتفها، في سبيل الانفلات من اللحظة الزمنية، وكأنها تعي صيرورة المادة التي إن أخذت شكلاً واحداً، أضحت بلا معنى. كأن الباشا ينقل إلينا ما تنشده شخوصه وهي تضع أقدامها على أبواب الجحيم، كما في منحوتة “في انتظار البراميل”.

إضافة إلى النحت، لم يتوقف عاصم الباشا عن الكتابة، هو الذي يصر دائماً على أنه “نحّات يكتب”. إضافة إلى روايته، أصدر مجموعتين قصصيتين، “رسالة في الأسى” (1988) و”باكراَ في صلاة العشاء” (1994)، كما حاز كتابه “الشامي الأخير في غرناطة” على “جائزة ابن بطوطة”، فرع اليوميات (2009).

قبل أن يغادر سوريا بعد انطلاقة الثورة، دفن عاصم منحوتاته في يبرود، كي يحميها من القصف. هكذا، راح يراقب من بعيد حصيلة 24 عاماً من العمل، وتحويل المواد الساكنة إلى فن يحكي، إلى أن جاء خبر نهبها، إبان المعركة التي شهدتها المدينة، مطلع العام الحالي، بين مجموعات من المعارضة المسلحة من جهة، وقوات النظام السوري وحليفها “حزب الله” من جهة أخرى.

 

عاصم الباشا: نحت المأساة السورية/ محمد عمران

في معرضه المقام حالياً في غاليري أوروبيا في باريس يقدم التشكيلي السوري عصام الباشا مجموعة من أعمال النحت المعدنية، بالإضافة لرسوم على الخزف. أنتج أغلبها في العام 2012 وموضوعها الأساسي الراهن السوري.

اتجاه النحت في هذا المعرض، وإن تقاطع مع الرسم الخزفي من حيث الموضوعة، فإنه لا يشبهه من حيث الروح، فالنحت يعتمد، على التأليف، بواسطة اللحام المعدني، بين قطع معدنية متنوعة ذات أشكال هندسية على الأغلب تمثل أشخاص في وضعية وقوف كما في “سيدة القلمون”، “إمرأة حامل” و”رجل” (يوم مقتل نمير)، حيث يقف الشكل في وضعية ثبات، مختلفة عن باقي التماثيل، معلنة حالةً من التحدي والمقاومة.

العمل تكريم لنمير الأخ الأصغر لعاصم والذي اعتقلته الأجهزة الأمنية بتهمة مساعدة النازحين من حمص ليخرج، بعد ثمانية أشهر، جثة هامدة. عن هذه المنحوتة يقول الباشا “كنت أعمل عليها عندما جاءني خبر موت نمير، لاحقاً قمت بتكبير العمل كبّرته بالفعل بارتفاع ثلاثة أمتار تحية لذكراه وعرض العمل في مدريد وقرطبة، ويقف الآن أمام مشغلي الغرناطي” .

أحياناً يتوسع العمل ليشمل ثلاث شخصيات في تمثال واحد ففي “مظاهرة” نشاهد ثلاثة تكوينات على هيئة إنسان في حالة من الرقص تحاكي حالة المظاهرة السلمية بداية الإنتفاضة السورية. اللافت في أعمال الباشا الهيئة الخشنة التي يصر عليها الفنان، فهو لا يلجأ إلى صقل السطح بل يتركه كما هو.

أما أعمال الرسم فقد اختار الباشا الرسم بأكسيد النحاس على خزف مربع الشكل أغلب الأحيان. اصطفاف المربعات إلى جانب بعضها البعض يحيلها إلى فكرة النافذة، نوافذ تطل على المأساة السورية وهذا ما تؤكده عناوين الأعمال كما في “مشهد سوري” حيث الأب يحمل ابنه القتيل أو “الطريق إلى بابا عمرو” التي تبرز هيئات بشرية مبهمة مرفوعة على صلبان. في عمل “النازحون” نستطيع أن نميز، ضمن الحشد، وجه الفنان وكأنه يريد أن يتورط أكثر في التراجيديا السورية.

وعلى العكس من أعمال المعدن فخطوط الرسم عفوية وسريعة تحمل شحنة إنفعالية واضحة وتتقاطع، من حيث الإتجاه مع منحوتات الباشا من الصلصال المشوي الذي غاب عن المعرض.

لم يتوقع النحات السوري عاصم الباشا، كمعظم السوريين، أن الحراك الذي استحال ثورة سيتطور إلى حرب طاحنة تغيّر مسارات الناس ومنهم هو نفسه. كان قد اتخذ قراره بالعودة من غرناطة “منفاه الاختياري” – على حد تعبيره – إلى بلدته يبرود في السابع من آذار/ مارس أي قبل بداية الاحتجاحات، حيث أسس محترفه هناك واستجلب حصيلة ما يقارب الأربعين سنة من العمل. كانت النية إنشاء مؤسسة ثقافية هناك بالتعاون مع نشطاء فيها. أجبرته الظروف وتصاعد العنف إلى العودة إلى غرناطة لتسقط بعدها البلدة وتنهب بما فيها ومن ضمن ذلك مشغله.

فقد الباشا ما عمله خلال أربعة عقود “هو تفصيل كفيل للدعوة إلى الانتحار لكنني ما زلت أعمل” يعلّق الباشا. الدليل أعماله المعروضة حتى السابع عشر من الشهر الحالي في غاليري أوروبيا الباريسي.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى