مقالين لزينة ارحيم من رحم الانتفاضة الشعبية في سورية
باصات استبدلت الركاب بمعتقلين وأحياء محررة من صور الأسد: رحلة تهزّ الروح الى دمشق
زينة ارحيم
ليلة عصيبة من الشجارات مع أصدقائي المحبيّن الذين لم يصدقوا أول الأمر قراري بالعودة لسورية، ‘هو جنون ستعدل عنه قبل أن يحين موعد الطائرة المغادرة للندن بعد عدّة ساعات’ قالوا، وما إن بدأ العدّ التنازلي لعودتهم وشاهدوا بريق الإصرار بعيني صامداً أمام كل حكايات التعذيب وشهادات المعتقلين والقصص المروعة لتلك الأقبية التي يتوقف عندها الزمن، انتقلوا للمرحلة الثانية: محاولات لسرقة جواز السفر وحقائبي، انتهت بإعلام أهلي بقدومي وسيل من الهواتف والوعيد والترهيب، فشلت كلها أمام عنادي، حسمت أمري… أنا ذاهبة للشام.
أقلعت طيّارتي بمقعدي الخالي بينما رحلت أنا مع اضطراب عواطفي لتلك الغرفة المزدحمة التي تنتظرني خلف الحدود، عشت رطوبتها ووساختها محاولة سرقة بضعة أنفاس، أغمضت عيوني وراجعت تلك اللحظة على كورنيش بيروت، اللحظة القادرة على تغيير حياتي للأبد وقبل أن أعرف فيما إذا كنت سأرطم رأسي بالحائط ندما، أو سأحييّ جنوني وأتحمل عاقبة اختياري، استيقظت
أنظر طويلا لسماء بيروت باحثة عن بريق ‘نجوم الليل’ التي حملها أهلي بحي الرمل الجنوبي في مظاهراتهم الليلة، أودّع الشاطئ والسماء وأغفو على موعدي غدا مع الأقبية، مساكن النبلاء من أهلي.
استيقظ دون منبّه، أقصّ أظافري لأجعل مهمتهم في اقتلاعها أصعب، أفكر بقص شعري لأمنعهم من جرّي منه ثم أعدل عن الفكرة فهو حماية لرأسي عندما تتكاثر عليه الهراوات، أتحسر لعدم توافر الاختراع الماليزي الجديد (ثياب داخلية حديدية لها قفل) أجل فكرت بذلك، فالاغتصاب أيضا من سيم الوحوش.
ارتديت ملابسي الفضفاضة والمريحة، حزمت حقائبي وعدّلت أسماء أصدقائي على هاتفي وبعد أن أرسلت كمبيوتري المحمول لبريطانيا لم يبق علي إلا تمزيق بعض الأوراق التي كانت تحمل أسماء العائلات السورية اللاجئة في لبنان وتفاصيل عن كيفية مساعدتنا لهم، وانطلقت.
تشنجات قوية في معدتي وآيات كنت قد نسيتها تقفز لرأسي وأرردها بنهم وخاصة آية ‘وجعلنا من بين أيديهم سدّا ومن خلفهم سدّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون’ من سورة ياسين.
وصلنا الحدود وأنا بحالة ذهول ألاحق بحركات لا إرادية المسافرين، ‘لا تستطيعين الدخول بالهوية لسورية وأنت قادمة من مطار بيروت’ قالها الضابط اللبناني، شردت، فسألني ‘فيه مشكلة’ أجبته ‘ربما’ فنصحني بإخبارهم بأنني أضعت قسيمة الدخول. ذاكرتي فارغة تماماً إلا من صوت هاتف السائق الذي لم يتوقف عن الرنين وطلبي، وأصوات مألوفة متعددة تطالبني بالنزول حالا والعودة من حيث أتيت…
على الحدود السورية، بدأت الوجوه العابسة تتكاثف، يخفق قلبي وأنا أستذكرها هنا على بعد آلاف الأميال.
دخلت الفرع وقد اشتدت مغصات معدتي، ‘سورية لينا وماهي لبيت الأسد’ كنت أسبّح بها داخلي بحالة هستيرية وأنا أشاهد صور الأسد بكل مكان، وقفت عند أطول طابور.. لكن الدور وصلني.
أعطيت الضابط جوازي متجاوزة نصيحة الضابط اللبناني، فقد هجرتني فجأة كل الكلمات، رفعت نفسي قليلا لأشاهد ما يكتبه، خرست كل الأصوات حولي فجأةً، وحدها ضربات أصابعه الثقيلة على لوحة المفاتيح وضربات قلبي علت بذلك المكان المشحور، ‘ماذا تفعلين في بريطانيا’ سألني، أجبته ‘أنا طالبة’، ودون أن ينظر إلي تابع ‘وماذا تدرسين’ فحاك لساني كذبة سريعة ‘إنكليزي’، تساءلت بعدها كثيراً، لو لم تحضرني بديهتي بتلك اللحظة ماذا كانوا ليفعلون بي وأنا التي انهيت ماجستيرا في ذلك العلم ‘المغرض’ ‘الهدّام’ ‘المتآمر’ المسمّى تدليعاً إعلام؟
ختم جوازي ورماه لي… وأنا واقفة لم أتحرك، نظر إلي مستغربا، ‘خلصنا؟’ سألته..أجاب ‘نعم’، ‘عنجد؟’ سألته مرة ثانية بتعجب فقطّب حاجبيه مستنكراً بلادتي، فانسحبت مع خليط من المشاعر وهتفت بصمتي ‘يحيا الغباء’
السيارة تسير وعيوني تائهة تبحث عن لافتة شاهدتها العام الماضي على حدود المصنع كُتب عليها ‘سورية الأسد ترحب بكم’ فلم أجدها..هنا فقط توقفت معدتي عن الحشرجة وبدأت التهم الطريق والصور واللافتات.
أغلب اللوحات الطريقة كانت لسيرياتل ومبادرة ‘كل مواطن مسؤول’ والتي نشرت لافتات عليها صورة يد مرفوعة كتب قربها عبارات كـ’ ماضي هو ماضيك.. أنا مع سورية’، و ‘متشائم أو متفائل.. أنا مع القانون’ …
لافتة زرقاء عالية أوعزت لدموعي بالانهمار للمرة الأولى في سوريتنا…’درعا’… تلك الحروف الأربعة هزّت روحي وعلقّت عيني فيها إلى أن غابت تماماً، وما إن بدأت استعيد شجوني حتى بدت لوحة تدلّ لطريق ‘الزبداني’ ومعها صور اللافتات المتقنة الجميلة وأسماء أصدقائي المسجونين هناك منذ شهور خلف الحواجز الأمنية العديدة.
هنا الشام
على أتوستراد المزة، تلبّستني حالة من الذهول سترافقني طوال زيارتي، لم تيقظني منها لفحة الشمس الحارقة التي نسي جلدي ملمسها منذ سنة، ولا ضجيج الشارع وأبنيته التي لم ألحظ قبلاً أنها بهذه الوساخة. كانت حركة الشوارع والمقاهي طبيعية نسبة ليوم رمضانيّ صيفي، لافتات ‘سورية بخير’ تحتل لوحات الإعلانات، وحدها البنوك كانت تشهد حركة غير طبيعية، عدة أشخاص يجادلون الموظفين مطالبين بسحب أموالهم أو يحتجون لعدم قدرتهم على ذلك والكثير من المنتظرين.
صور قليلة للأسد توزعت على مفارز حراسة السفارات وبناء شركة للكابلات إضافة لأحد البيوت الذي نشر صورته مع علم البعث على حبل الغسيل.
كل الكآبة التي عصفت بروحي بالمزة تلاشت عندما دخلت حيّ الميدان، حججت للجوامع الثائرة من زين العابدين إلى الحسن ومنجك والدقاق وطفت بعلاقتي الجديدة مع الجوامع التي حفظت أسماءها عن ظهر قلب، من العمري بدرعا لجامع سعد بإدلب ومن قاسمو بالقامشلي للرحمن في اللاذقية.
عبثاً بحثت في حارات الميدان عن صورة منسية للأسد، فحتى تلك الصورة الوحيدة التي بقيت عند محلات أبو عرب حيدر والمعروف بعلاقته بالنظام تم استبدالها بعلم سوري ‘سادة’، (ويسمّى العلم السوري بالسادة للتفريق بينه وبين العلم الممهور بصورة الأسد). تحت المتحلق الجنوبي ينتشر عدد مهول من الشبيحة يرتدون لباسا عسكريا يشبه بذّات الفتوة التي اعتدنا ارتداءها بالمدرسة، ومعهم أسلحة لامعة وعصيّ والبعض يحمل روسيّات، وبجوارهم تقف عشرة باصات فارغة معدّة لاستقبال المعتقلين الجدد. في شوارع دمشق، استبدلت باصات النقل الخضراء والبيضاء ركابها التعبين بوجوه مدمّاة، يحكي تحدّي عيونها خلف النوافذ حكايات حياة ملّونة وظلم أسود يقتادون إليه.
لحظة التقت عيوننا بساحة الأمويين المزدحمة تفتت قلبي بألم لم أشعر بمثله في حياتي، اعتصر العجز أنفاسي، ذراع واحدة وحقول مثمرة بالشجاعة تفصلني عنهم، عيون غاضبة وراءهم تستنكر دفق المشاعر بعيني، لا أستجيب، ألاحقهم حتى يغيبوا في الزحام. تطاردني عيونهم في أحلامي، تؤرق ابتسامة خاطفة ارسمها للقاء عزيز، لن أركب تلك المعتقلات المتحركة بحياتي أبداً.
أعادني الشعلان لواقع دمشق (قبل اقتحام مسجد الرفاعي)، متسوقون ‘للعيد’، شباب يتسكعون ويعاكسون بينما يُقتل أصدقاؤهم على بعد بضعة دقائق في برزة والقابون والقدم والميدان، على طول الشارع الرئيسي للسوق تنتشر وبشكل متناظر صور للأسد مكتوب عليها ‘نحنا رجالك سوريّة’ لُصقت بلؤم على الأعمدة الفاصلة بين المحال التجارية، تستطيع أن ترى بوضوح محاولات تمزيقها الفاشلة حيث تم وضع اللاصق على إطار الصورة ووسطها أيضا.
موعدي الثاني مع البكاء كان هناك، عندما التقيت صديقي عامر مطر، كان نحوله قد ازداد وبقي على قصة الشعر القصيرة من اعتقاله السابق، لكنه احتفظ بضحتكه ولهفته، وكأن العتم لم يخطفه منّا شهراً، كنا نتحدث بسرعة وضجّة لنعوضّ الكثير الذي فاتنا، كان الوحيد الذي فرح بقدومي بظل مقاطعة كل المحبين من أهلي وزوجي لما أسموه ‘جنوني’.
جنوني الذي تٌوّج ذاك اليوم بمقابلتي لأم جوزف، الصبية الحرّة التي سأخوض معها أول مغامراتي الاندساسية في دوما المحررة مساء…
لقاء بأصغر مطلوبة أمنيا… وصبية رشيقة تقود مظاهرة: مشاهدات من دمشق خلال جمعة ‘الموت ولا المذلة‘
يرّن هاتفها ‘ألو، أستطيع أن أؤمن لك سبعين نسخةً من الكتاب، ورقه نوعيةٌ جيدة وتستطيع قراءته بأسبوعين’ تُنهي المكالمة وتلتفت إلي مترجمةً ‘يحتاجون إلى مساعدات لأهالي المعتقلين والشهداء في برزة والقابون وعندي سبعين كرتونة من مواد غذائية تكفي كلاً منها عائلة لأسبوعين’.
هاتفٌ آخر ‘لازم نعمل العملية للولد سريعاً يا أبو نبيل، لعمليته الأولوية بعدها نتدّبر أدوية أمك’، تغلق وتشرح مرةً ثانية ‘هو متظاهر من الصفوف الأولى كان مصاباً واقتحم الشبيحة منزله ليحولوا عظامه إلى هشيم، جمعنا تكاليف عمليته ونحاول إدخاله إلى المشفى بحجة أن تعرض لحادث سيارة لئلا يعتقلوه منها، أما أدوية أم نبيل فهي طلبية أكياس دم ومواد طبية علينا تأمينها لدوما’.
هاتفٌ تلوَ الآخر وهي تلعن الظُلاّم الذين حولوا علاج الجرحى وتهريب الطعام لأهلها المُحاصرين إلى تهمة، صديقتي التي تُلقّب نفسها بـ’أم جوزف’ سأصلّي دائماً لذلك الصليب المتدلّي من راديوا سيارتك، وللإنسانية التي تخفق في مُحيّاك.
تعيش أم جوزف في كوكب أسميته ‘الحياة’ يعلو فيه صخب الحرية وأنصارها، لا يهدأ.. يزرعه المتظاهرون والنشطاء والأطباء الإنسانييون وجامعو المساعدات لعائلات الشهداء والمعتقلين كل يوماً حبّاً وغداً أجمل.
يدور كوكب أصدقائي ذاك في فُلك دمشق مع كوكب ‘المنحوتات’ الذي تتحرك به أجسادٌ جبصينيةٌ بلا روح تضحك وتسهر وتحتفل وتملأ صالونات التجميل والنوادي الليلية فيما تضجّ مقابر دمشق وغوطتها بالشهداء.
نظامٌ معقدٌّ يُسّير هذه الكواكب المختلفة بدمشق مع كوكب المتألمين الصامتين وكوكب الشبيحة الذي زرته في جمعة ‘الموت ولا المذلة’ بحي الميدان بدمشق.
مئاتٌ من الشبيحة بلباس خاكيّ وبعضهم مدّني يحملون هراواتٍ وعصي خضراء- ربما هي كهربائية- مع سكاكين، كانوا ينتظرون تحت جسر المتحلق الجنوبي وخلف جامع الحسن في حديقة صغيرة احتلّوها بالكامل، تأخر الشيخ كريّم راجح في خطبته فضجّت النساء تلفّ الشرفات جيئةً وذهاباً باحثات عن أسباب تأخرهم عن الموعد.
سيدة في الخمسينات من عمرها كانت تنتظرهم على باب الجامع ومعها لافتةٌ كَتبت عليها ‘مبروك لثوّار ليبيا من أحرار سورية’ وما إن خرج المصلون حتى انساب صوتها بين أصواتهم الخشنة التي تعالت بالتكبير قبل أن تتحول لهتاف ‘الشعب يريد إعدام الرئيس’ و’السوري يرفع إيدو، بشار ما منريدو’.
الشبيحة خرجوا من مخابئهم ليشكّلوا جدراناً عازلةً على الشوارع الرئيسة يمنعون بها التقاء مظاهرات الجوامع مع بعضها، كالمجانين يركضون بكل الاتجاهات ويصرخون كلاماً بذئياً لم أفهم معظمه.
المظاهرة تنقسم لمظاهرات عدة لتشتيتهم وما زالت الهتافات تخفق بسماء الميدان، هاهي القنابل المسيلة للدموع تٌطلق هنا وهناك وبلمح البصر يختفي المتظاهرون، ثلاث صبايا بخمارٍ أبيض كنّ يهتفن مع إحدى المظاهرات الفرعية ثم دخلن ببناء ما إن هجم الشبيحة.
بصلٌ وزجاجات كازوز وزجاجات ماء تُرمى من الشرفات على الشبيحة لتعيق حركتهم وليستخدمها المتظاهرون لإزالة آثار الغازات الحارقة للعيون، من خلف الغمامات البيض ذات الرائحة اللاذعة تراءى لي شاب وسيم يرتدي كنزةً بنفسجية، وقف وحيداً على طرف حديقة تجمع الشبيحة وصرخ بصوت عشرة رجال ‘حريّة للأبد غصباً عنك يا أسد’ ليُقاسم أصدقاءه قسماً من الشبيحة.
ورغم أن تلك الجمعة كانت ‘من أقل الأيام عنفاً في الميدان، فلم يستشهد فيها أحد، وإنما اعتقل – من أمام جامع الحسن وحده – حوالي خمسين شخصاً ككل يوم جمعة!’، إلا أن ذالك القرب الجسدي من الشبيحة أنهك روحي، أجل أعرف أنهم أشخاص من لحم ودم لكنني تفاجأت بذلك!، وبكمّ الحقد واللؤم الذي يضربون به أناساً لا يعرفون منهم سوى صوت حرّ يهتف لسورية أجمل دون عصيّهم وهراواتهم.
ولو خُيّرت بين الرصاص الذي أٌطلق علينا في دوما والهروات التي انهالت في الميدان لاخترت الرصاص، لأستشهد بعيداً عن الوحوش.
‘دوما وقصاع.. واحد’
بين دوما والرصاص علاقة عمرها ستة أشهر، إلا أن الرصاص ‘العادي وغير المخيف’ – كما تصّر أم عبادة وهي تبتسم – كان سطراً رميته في ذاكرتي القصيرة وسيُمحى أمام تلك الملاحم التي ستخلّد عن تلك الرحلة في مدينة الحرية. دوما التي لم يخطر ببالي زيارتها خلال السنوات السبعة التي عشت فيها بدمشق، رقصَت في أذني لحناً لا يقاوَم إغواءه عندما أخبرتني صديقتي أم جوزف أننا سنزورهم مساءً.
قبل الموعد حضر الجميع، ستة صبايا وتسعة شبّان بينهم شاب دوماني رافقنا طوال الرحلة ليتفقّد الطرق ويختار أقلّها حواجز.
وصلنا دوما، وأنا أحاول البحث عن الخوف فيّ، لأفاجأ بفراغه الواسع، لا ذرة من الخوف في قلبي، لا لشجاعتي وإنما لثقتي بأنني محمية بين أهلي في تلك المدينة التي لم أزُرها بحياتي ولا أعرف أحداً فيها.
قادنا صديقنا الدوماني إلى طريق مختصر أخرجنا فيه بوسط المظاهرة عند الخط الفاصل بين النسائية والرجاليّة، وقفت أو ربما مشيت أو ركضت لا أعرف، ما أعرفه أن قلبي كان يرقص على وقع طبل تعزف عليه صبيةٌ رشيقة تقود المظاهرة.
في دوما الحرية كان موعدي الثالث مع البكاء، سيدات بخمار سحبتنا للمشاركة بعد أن وزّعت علينا أعلاماً سورية نحملها وأخرى نتخّمر بها من الكاميرات والعواينية، وهانحن وسط المظاهرة، استغرق استيعابي لما يجري عدّة هتافات، ولأنني لم أكن أتابعهم هتفت وحدي ‘الشعب يريد إسقاط النظام’! وإذ بإحداهن تضربني برفق على كتفي مؤنّبة ‘نظام مين يا حبيبتي! نحنا عنا عصابة’ استسمحتها بهتاف واحد أطفئ فيه حرقتي التي تجاوز عمرها الخمسة شهور، كنت فيها ميّتةً أمام شاشة كمبيوتر حجريّة يبثون فيها الحياة بكل مظاهرة، فسامحتني.
صبيّة كانت تنظّم حركة المظاهرة بالتنسيق مع عدد من الرجال الذين طوّقونا خوفاً من ‘غدر الأمن’ وأخرى جرّتنا نحن الستة لنتصّدر المسير بعد أن وزّعت علينا شموعاً، لم أكد ألحظ انطفاء شمعتي حتى تشعلها إحداهن، تلتقي عيوننا، نبتسم ثم نعود للهتاف.
وفي غمرة انهماكي بالهتاف أول المظاهرة أمسكت إحداهن بيدي وأوعزت لي لأقرأ ترحيبهم بنا، التفتت إلى السيدات السائرات خلفنا وإذ بلافتةٍ كبيرة كتبن عليها ‘تنسيقية نساء دوما الحرّة ترحب بأحرار القصّاع’ وانطلق الهتاف ‘يا قصّاع دوما معاكي للموت’ و ‘واحد واحد واحد…قصّاع ودوما واحد’ بينما كانت صديقاتي -اللواتي اكتشفت لاحقاً أنهنّ من القصّاع فعلاً – يندبن القصّاع التي اتخذها النظام مقراً لحفلات الرقص على دماء الشهداء.
أخبروني بأننا تظاهرنا لأربعين دقيقة، مشينا في الشارع الرئيسي، الشرفات والأرصفة تضجّ بالمتفرجين، تفيض عيون بعضهم بالحب والتقدير فيما يعتري البرود أخرى.
قطع هتافنا صوت الرصاص الذي ترافق مع انقطاعٍ كاملٍ للكهرباء عن المدينة، الرجال يركضون نحونا وفي لحظاتٍ تحولنا لنواة تحيط بها مدارات جسدية كثيرة، صرخوا ‘تفرقن الآن وخبّئن الأعلام السورية’، تهمس في أذني صبية تشعّ فطنةً ‘أجل العلم السوري تهمة، مالم تكن صورة الأفندي عليه’. بقينا واقفات ونحن نهتف ‘مو خايفين..الله معنا’ غضب الرجال ثم تمالكوا نفسهم وترجونا أن نفترق لأن الأمن وصل لمفرق الشارع، وبينما كانت السيدات تتنافسن لاستضافتنا جَمعنا أبو أحمد في سيارته وانطلق بنا لمنزله.
قدّمت لنا بنات أم أحمد الرقيقات الماء والعصير بابتسامهّن المفعمة بالحياة وعرفتني إحداهن بنفسها قائلةً ‘أنا أصغر مطلوبة للأمن في دوما’، ‘والنعم والله’ قالت أم أحمد ضاحكة ثم أضافت بجديّة ‘إذا داهم الشبيحة البيت لا تقلقن.. لن يقتربوا من غرفة النساء’ وعندما شاهدت علامات الدهشة علينا تابعت ‘هذا البيت مُحطّم ومُداهم أربع مرات، عادي، لا تقلقن!’.
كنت كطفلة مستجدّة بالصف اسجل كل مايجري حولي، على يساري جلست صبيةٌ جميلة كانت تخبر أم عبادة عن مشاركتها في مظاهرة القيمرية ‘تخيلي قالوا عني سلفية عرعورية وأنا مسيحية ومن القصّاع كمان!’ تسبّهم أم عبادة وتدعو عليهم قبل أن تقاطعها الجميلة ‘يا ستي أنا مسيحية وأريد الحرية وسنسقط النظام’.
في تلك اللحظة انفّك ارتباط مقولة ‘سورية بخير’ عنه وانتقل إليهم، فأضحت اللافتات الكثيرة التي تحملها تثير فيّ ذكراهم وابتسامة بدلا من الغضب من تلك الكذبة الباهتة.
لن تكفِ هذي الصفحات لأرسم دفء تلك الليلة ونقاء جلستنا النسائية الثورية على أضواء الشموع بذاك الحر الخانق الذي استحال برداً وسلاماً على جميلات القصّاع ودوما و بينهما أنا ‘بالخطأ’ الأكثر صحّةً في حياتي.
أما مكاني أنا فإدلبتي التي سأسافر إليها غداً متخفيةً بخمارٍ لم ألبسه بحياتي، غطى معظم ملامحي وترك عيوني التي سترتشف إدلبتي الجديد، شارعاً شارعاً، وحريّةً حريّة.
‘ كاتبة سورية
القدس العربي
تشعر بالقرف عندما تقرأ أحدهم يستعرض شجاعته ومساعدته لاجئين وغير ذلك..هذا ليس مقال دعم للثورة..هذا استعراض فاخر لكاتبة لا أدري متى أصبحت كاتبة..فعلاً مضحك مبكي ويبقى لسورية الرجال والنساء الصادقين
انها موجة والشاطر يعرف كيف يركبها ويبدو ان من ينسبون أنفسهم لفئة المثقفين هم وحدهم يعرفون من أين تؤكل الكتف…. على كل الأحوال صاحبة المقال تستعرض يومياً عبر صفحتها على الفيسبوك كما روت بكثير من الدراماتيكية تفاصيل تخفيها وإنشاء صفحة لها موالية ومؤيدة للحكومة السورية وكانت “عايشة الدور” كما يقال مخافة أن يتم اعتقالها باعتبارها تشكل تهديداً خطيراً للنظام من خلال ما تكتبه أو”تردحه” ولكن بعد جولتها المظفرة في سورية لم يفطن أحد لسؤالها إن كان قص الأظافر مخافة الاقتلاع أو قص الشعر تحاشياً للجر من او الثياب الداخلية ذات الاقفال تفادياً للاغتصاب هل كان لها مبرر؟؟؟؟ هل اعترضها أحد؟؟؟ هل سألها أحد؟؟ لا انها مواطنة سورية شأنها شأن الجميع لها حرية الحركة والكلام والتعبير طالما أنها لم تحمل سلاحاً ولو أنها تشارك اعجابها بصفحات تشجع القتل والذبح كصفحة “مسلخ الشبيحة وأعوان النظام”!!!!!!!!!! ترى هل تستحق الاقامة في انكلترا كل ذلك يا زينة؟؟