صفحات سوريةعمر قدور

مقاول الأنفار رئيسا/ عمر قدور

 

 

في العديد من المسلسلات المصرية ثمة مهنة يُصوَّر صاحبها عادة بسخرية فنية صاحبها يدعى مقاول أنفار. عادة يكون مقاول الأنفار في المدينة رئيساً على مجموعة من عمال البناء، ويتمتع بالسطوة عليهم في سوق العمل، ولا يندر أن يجمع بين صفات القبضاي والبلطجي، حيث يُظهر الأولى أمام مقاولي البناء بينما يُظهر الثانية أمام أنفاره الغلابة. ولكي تكتمل السخرية، المستوى التعليمي لهذا المقاول يكون متدنياً، مع ادّعاء بالمعرفة متأتٍّ من سطوته، ومن زعمه بأن المدرسة الأمثل هي الحياة. صحيفة “اليوم السابع”، على سبيل المثال، كانت قد سلطت الضوء على واحد من هؤلاء المقاولين طرح نفسه مرشحاً رئاسياً في سباق انتخابات عام 2012. المعلم “فرغل أبو ضيف عطية” الحاصل على الشهادة الابتدائية يؤكد بحسب الصحيفة معرفته بكافة مشاكل مصر التاريخية والحالية، لأن الحياة علمته الكثير دون حاجة إلى تعليم ومؤهلات عليا أو متوسطة. يصرّح المعلم فرغل للصحيفة بأنه سيبقى وفياً للجلابية التقليدية التي يظهر بها في الصور المرافقة للريبورتاج، أسوة بالرسول والصحابة الذين كانوا يرتدونها، وبأنه سيبقى وفياً للتردد على مقهاه المفضّل في حيه الشعبي لكنه سيغيّر اسمه ليصبح “مقهى السيد الرئيس”. مشكلة المعلم فرغل الوحيدة، على ما يبدو حينها، أنه كان بحاجة إلى جمع 30 ألف توكيل من 15 محافظة وإلى تزكية 30 نائباً في البرلمان المصري.

سيكون مسلّياً أن نتخيل وصول مقاول أنفار، كما تصوّره السخرية الميلودرامية، إلى سدة الرئاسة. أن نتخيل، على سبيل المثال، نفراً من أنفاره يصبح مدير مكتبه الرئاسي على أرضية الطاعة العمياء ليس إلا. زيادة في المبالغة، لنا أن نتخيل قناة “مكمّلين” وهي تبث تسريبات من المكتب الرئاسي بينه وبين أنفاره المقرّبين، حيث لا تُستبعد مخاطبته الذكر منهم بـ”يا واد”، ومخاطبة السكرتيرة بـ”يا بت”، بينما يخاطبون الريّس بـ”يا معلّم”. وقد نتخيل حواراً من نوع يبدأه المعلم بالقول: “يا واد الأميركان دول مش فاهمين حاجة”. فيضحك النفر مدير المكتب، وهو يقدّم الشيشة للريّس، قائلاً: “دول طول عمرهم كده يا معلم، أنت فاكر الباش مهندس الأميركاني اللي اشتغلنا معاه في مقاولة الزمالك؟”. ثم يقهقه الاثنان طويلاً، وهما يتذكران ذلك الأميركاني الطريف الذي ستنشغل وسائل الإعلام بعد التسريبات بمعرفة من يكون ليأخذ حيزاً من الاهتمام الرئاسي.

لكننا لا نجافي الواقع، ولا ندخل حيز السخرية، إذا قلنا بأن قادة هذه الأنظمة دأبوا على النظر إلى شعوبهم على أنها كتلة من الأنفار الغلابة. على ذلك، ليس جديداً فيما سرّبته قناة مكمّلين عن مكتب السيسي، وهو يتهيأ لاستلام الرئاسة، من وصف للمصريين على لسان مدير مكتبه يقول فيه: “ورانا شعب جعان ومتنيّل بنيلة وظروفه أنيل، وأنتو فلوسكو متلتلة قد كده”. ضمير المخاطَب في الجملة الأخيرة يعود على دول الخليج، حيث يُفترض بحسب هذه المقارنة أنها مسؤولة عن الشعب المصري الذي يُختزل بأنه “شعب جعان”. وقد يظن القارئ أن هذه الدول هي التي استلمت السلطة في مصر طوال عقود فمارست الفساد، وتناوب ملوكها وأمراؤها على نهب خيراتها بلا رحمة، فلا تذهب ظنونه مطلقاً إلى طبقة أثرياء الفساد المصري الذين تصل ثروة البعض منهم إلى أرقام فلكية، فتحول الكثير منهم من مرتبة “مقاول أنفار” بسيط وخلع جلابيته ليصبح في مرتبة الباشوات.

طفرة أثرياء الفساد المصرية، وإعجازهم في الحصول على الثروة، هما ما يدفع السيسي نفسه إلى الاستهانة بعشرات بلايين الدولارات. فرقم ثلاثين مليار “من الدولارات لا من الرز” الذي يريده فقط من ثلاث دول خليجية يصبح من وجهة نظره رقماً تافهاً جداً، أما “القرشين” اللذين يطلب وضعهما في الخزينة العامة فلا ندري كم يساويان بالدولارات. فضلاً عن ذلك، طريقة طلب المبلغ أشبه بطلب الأتاوة، وفي أحسن الأحول هي أشبه بطلب المبلغ لقاء مقاولة ينفذّها. المثير للانتباه في التسجيل أن السيسي لا يحتقر دول الخليج فقط، حسبما يُشاع، وإنما يوافق مدير مكتبه ضمناً على احتقار أنظمة التحويل الخليجية والمصرية، لأنها قد تكشف أو تحد من تدفق الأموال بلا ضوابط وحسب الطلب. وعندما يشير مدير المكتب إلى ذلك بالقول: “دُولْ أقذر من عندنا” لا يصحح له شتمه القوانين المصرية بل يجيبه: “لا أقذر ولا حاجة”.

لا شك أن اللوحة كانت ستكتمل لو كان لكل بلد قناة تلفزيونية تستطيع الحصول على تسريبات من أروقة الحكم، كنا حينها سنحصل على صورة أدق لنظرة كل طبقة سياسية عربية إلى “أنفارها” وإلى نظيراتها. ومع التنويه بأن كاتب هذه السطور لا يتبنى أية نظرة تمييزية تجاه المهن، فإن المنطوق السائد في الإعلام المصري يتعاطى بفوقية واضحة إزاء مقاول الأنفار، لذا لا يغيب هذا الوصف عن التراشق الإعلامي ويُستخدم على سبيل الشتيمة. هناك شخصيات مصرية معروفة اتُهمت بوصفها مقاول أنفار للإخوان، وهناك غيرها اتهم بوصفه مقاول أنفار لنظام حسني مبارك، وأيضاً هناك من اتهم بوصفه مقاول أنفار للعسكر. في كل الأحوال، ينبغي التأكيد على أن السخرية أو النقد يذهبان إلى نمط من ممارسي المهنة لا إلى عموم ممارسيها. هذا ضروري أيضاً من حيث قدرة النمط على اختراق كافة المهن بالمعنى المذموم له، إذ لا يندر أن نجد مقاول أنفار في الطبقة السياسية، أو شبيهاً له في “سوق الصحافة”، ولا يندر حتى أن نجد مقاول أنفار اعتلى سدة الرئاسة، من دون أن يأتي فعلاً من تلك المهنة على غرار ما كان يطمح إليه المعلم فرغل أبو عطية.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى