مقاومة.. ممانعة ومتانحة/ هيثم المالح
عقب استقلال سوريا بدأت تجربة ديمقراطية كانت الأولى في العالم العربي، ولم يكمل المجلس النيابي الأول مدته، حين أقدم الضابط حسني الزعيم على اختطاف السلطة والانقلاب على الشرعية بتحريض ودفع من السفارة الأميركية في دمشق – لطفا انظر كتاب «لعبة الأمم» لمايلز كوبلن. وكان من مهام الانقلاب الدخول في المفاوضات مع الكيان الإسرائيلي وتوقيع معاهدة تمرير خط التابلاين عبر الأراضي السورية، وتم ذلك.. وفي غضون أربعة أشهر ونصف الشهر تمت الإطاحة بحسني الزعيم، وأعدم هو ورئيس وزرائه محسن البرازي، وتتالت الانقلابات العسكرية التي كانت الأولى من نوعها في العالم العربي حتى وصلنا إلى انقلاب الضابط أديب الشيشكلي الذي حكم بين عامي 1951 ومطلع 1954 حين وقع انشقاق في الجيش بين شمال سوريا وجنوبها.. وعلى الرغم من أنه كان يملك القوة العسكرية القادرة على التغلب على الطرف الآخر، غإنه آثر الاستقالة ورفض السماح بسيلان الدم السوري من أجل السلطة، وأعقب زوال حكمه بداية مرحلة جديدة من الديمقراطية. وفي المجلس النيابي تقدم ناظم القدسي، الذي كان نائبا عن حلب، باقتراح لإصدار قانون لمحاسبة الانقلابيين الذين يعتبرون مجرمين باغتصاب السلطة بموجب قانون العقوبات السوري، إلا أن اقتراحه لم يلق قبولا، ثم جاء عهد الوحدة التي اشترط عبد الناصر لقيامها حل الأحزاب في سوريا، وتم له ذلك. وقد أجريت المفاوضات من أجل الوحدة بين فريق من العسكريين الذين زاروا القاهرة وتباحثوا مع عبد الناصر لإقامة الوحدة، وبدأ عهد جديد في سوريا تمثل في إنشاء حكم قائم على الأجهزة الأمنية، وانعدم فيه الحراك السياسي الذي اختصر في جهاز السلطة الحاكمة.
عقب الانفصال الذي قاده انقلابيون عسكريون أواخر عام 1961 بدأت سوريا بالعودة للحياة الديمقراطية، إلا أن الاضطرابات التي وقعت عام 1962 بتحريض من قوى خارجية وامتداداتها الداخلية أدت للفشل في قيادة البلاد، مما مهد لوقوع انقلاب 8 مارس (آذار) 1963 بقيادة ضباط بعثيين وناصريين، وأعلنت في ذلك الوقت حالة الطوارئ، وأبعد عدد كبير من المفكرين والسياسيين عن الساحة العامة بصدور مرسوم العزل المدني الذي شمل هؤلاء.. وفي 17 يوليو (تموز) تمكن البعثيون من تصفية خصومهم من الناصريين واستفردوا بالحكم. وبغض النظر عن الاضطرابات التي وقعت في أعوام 1964 و1965 لا بد من وقفة قصيرة مع الكارثة التي ألمت بالأمة في الخامس من يونيو (حزيران) عام 1967 حين سقطت الجولان كما سقطت سيناء في يد الكيان الإسرائيلي في فلسطين.
كتب خليل مصطفى بريز، الذي كان ضابط استخبارات الجيش في الجولان، كتابا بعنوان «سقوط الجولان»، اتهم فيه حافظ الأسد بالخيانة العظمى، وكان الأسد في ذلك الوقت وزيرا للدفاع، ومن مخبئه في دمشق أعلن سقوط الجولان، وأمر الجيش بالانسحاب كيفيا أي من دون تحضير، في الوقت الذي لم يكن فيه أي جندي من جنود العدو قد وطئت قدماه الجولان. وفقط للعلم فإن تلك المنطقة كانت من أكثر المناطق تحصينا، إذ تحتوي على ملاجئ ضد الذرة واستحكامات قوية جدا، ولم يجر أي اشتباك بين الجيش السوري وجيش العدو.. وفي عام 1968 اختطف مؤلف الكتاب وجيء به من لبنان إلى دمشق، وحكم عليه من قبل محكمة عسكرية بالسجن خمسة عشر عاما قضاها ثمانية وعشرين عاما، ولم يسأل وزير الدفاع سؤالا واحدا حول سقوط الجولان، وبدل أن تتم تنحيته من منصبه – حتى لو سلمنا جدلا بتقصير غير مقصود – وصل إلى منصب رئيس الجمهورية، وهكذا قبض ثمن خيانته، ومع ذلك تدفقت على نظامه مليارات الدولارات من دول الخليج بداعي ما سمي دول الطوق، وطبعا سرقت كميات كبيرة من تلك الأموال وأودعت خارج سوريا في أماكن متعددة، وتحول نظام الخيانة إلى نظام «مقاومة وممانعة».
وأعقب كل ذلك حرب 1973 التي فاجأ بها الجيشان السوري والمصري الكيان الإسرائيلي ومع ذلك ولولا وصول امدادات عراقية ساندت الجيش السوري في الجهة الجنوبية لكان جيش الصهاينة قطع طريق دمشق درعا، وهكذا خسرنا في هذه المعارك ضعف ما خسرناه في عام 1967، ولم يتم استرداد القنيطرة مهدمة إلا بالمفاوضات وهي لا تزال مهدمة حتى الآن، وما زال أهلها مشردين خارجها. وورث بشار الأسد نظام أبيه القائم على استقرار العدو ،الإسرائيلي في الجولان منذ احتلالها وحتى الآن، فيما بقي النظام يرفع كذبا شعار الممانعة والمقاومة، وإذا شئنا المتانحة، ويتمترس النظام خلف هذه الشعارات، بينما هو يحافظ على أمن الكيان ،الإسرائيلي ومستوطنيه في الجولان المحتل، ولم يطلق رصاصة واحدة باتجاه أي غارة جوية شنها العدو الإسرائيلي على مواقع متعددة في سوريا، ولا على طيرانه الذي يحلق فوق سمائنا.
في موقع قرب دير الزور، ما سمي مفاعلا نوويا، هبطت طائرات العدو يومين متتاليين قرب الموقع فدمرته، واصطحبت طائراتها بعض الخبراء وعادوا سالمين إلى الكيان الذي احتلوه، ودائما تصرح خارجية النظام بأنها سترد في الوقت المناسب، بينما غصت سجون النظام بالآلاف من أصحاب الرأي، ومورس القمع والاضطهاد على أوسع مجال، وازداد الشعب احتقانا حتى كانت ثورته التي بدأت مع تباشير الربيع العربي في تونس ومصر، فما كان من أجهزة السلطة الحاكمة إلا أن واجهت المتظاهرين بالرصاص الحي طوال ستة شهور من بدء الثورة، وقد سقط في هذه الشهور خمسة آلاف شهيد صرعى رصاص الغدر والطغيان الأسدي الذي لا يزال يتمترس خلف شعار المقاومة والممانعة، في حين صرح رامي مخلوف مع بواكير الثورة بأن أمن إسرائيل هو من أمن سوريا.
كانت شعارات الممانعة والمقاومة هي مجرد خداع الرأي العربي والداخلي. وقد انخدعت فعلا العديد من القوى والفعاليات العربية من دون أن يعلموا ماذا يجري في الداخل. واستمر نظام آل الأسد في حربه على المنتفضين من الشعب السوري فنشر ثلاثة آلاف دبابة على مختلف المدن والقرى السورية، وبدأ في استعمال كل أنواع الأسلحة لقمع الشعب المنتفض، وبدأت أجهزته تجري تمشيطا في البيوت فتكسر زجاج النوافذ وتطلق النار على خزانات المياه حتى لا يستفيد منها أحد، وتخلط المواد التموينية في البيوت، في خطوة واضحة تهدف إلى تجويع الشعب ورميه فريسة الأمراض، كما عمدت شبيحته ورجال أمنه في خطوة دنيئة للتحرش بالفتيات واغتصابهن في أسلوب ممنهج بهدف كسر شوكة الثورة.
دخلت كتائب عديدة لتحارب مع العصابة الحاكمة من الحرس الثوري الإيراني، واتخذ رئيس الحرس قاعدته في دمشق وكذلك من حزب الله في لبنان ومن ألوية أبو الفضل العباس وآخرين من العراق وحوثيين من اليمن وباكستانيين والعديد من دول ومناطق متعددة، حتى بلغ تعداد المقاتلين من هذه الجهات أكثر من ستين ألف مقاتل وخمس وعشرين كتيبة من جهات مختلفة.. كما دخلت إيران بكل قوتها المالية التي ضخت إلى العصابة الحاكمة دفعة واحدة اثني عشر مليارا من الدولارات وخمسمائة مليون دولار شهريا، علاوة عن السلاح الذي يتدفق عبر العراق. وقد صرح وزير خارجية العراق هوشير زباري مرارا معترفا بذلك، كما ضخت روسيا السلاح إلى العصابة الحاكمة بلا حدود، ووقفت في مجلس الأمن في وجه أي قرار ينقذ الشعب السوري ويوقف شلال الدم، ونشرت بعضا من أسطولها على الشواطئ السورية.. هذا المشهد الذي ذكرته آنفا هو ما ساعد العصابة الحاكمة على استمرارها في مقاتلة الشعب السوري.
وأضحت إيران مع كل أذيالها من حزب الله إلى ألوية شيعة العراق وغيرها وروسيا شركاء العصابة الحاكمة في قتل السوريين واستمرار سفك دمائهم، وقد تجاوز عدد الشهداء مائتي ألف سوري ونصف مليون معتقل ومليوني دار مدمرة وعشرة ملايين مشرد.
يحق لنا هنا أن نتساءل كيف يمكن لمثقفين وصحافيين كبار في مصر والأردن وغيرها أن يجاهروا بدعم نظام يقتل شعبه بغض النظر عن اعتقادهم بممانعة النظام ومقاومته؟.. فهل يجوز لأي نظام مهما كانت صفته أن يمارس القتل في شعبه والتنكيل به وتدمير بنيته التحتية والفوقية، وبعد ذلك نجد هؤلاء الذين يسمون مثقفين أو كتابا أو صحافيين يقفون مع المجرم ضد الضحية؟
لقد خلد التاريخ نيرون لإحراقه روما، ونحن الآن في سوريا أمام عصابة اغتصبت السلطة ابتداء لكنها دمرت دولة ومجتمعا، فهل يعتقد من يقف في جانب العصابة الحاكمة أن من دمّر مليوني مسكن هم المتطرفون الذين جاءوا إلى سوريا بسبب رؤيتهم لمشاهد ذبح الأطفال والنساء الذين تجاوز عدد شهدائهم خمسة وعشرين ألف شهيد، بينما تجاوز عدد المغتصبات سبعة آلاف وخمسمائة مغتصبة. وقد صرح هؤلاء المتطرفون بأنهم جاءوا لمساعدة الشعب السوري الذي يدافع عن نفسه، أفلم ير هؤلاء الذين يجاهرون بمعاونة نظام قاتل مجرم أنهم يقفون إلى جانب الجلاد؟ فلو عاد هؤلاء جميعا – حين كانت بلدانهم تئن تحت نير الاستعمار – إلى الشعب السوري الذي يقتل الآن سيجدون أنه كان هو الذي يساند جميع حركات التحرر في العالم العربي وغير العربي.
فشعبنا في سوريا وقف ولا يزال في مواجهة الاستعمار وأعوان الاستعمار، ففي مراحل الديمقراطية حين لم يكن هؤلاء الحكام موجودين على الساحة كانت الشعارات التي ترفع «فلسطين عربية وستبقى عربية ولو أطبقت عليها شعوب الأرض»، فلم يذهب حكام ذلك الزمان لحضور مؤتمر مدريد مصالحة مع الكيان الإسرائيلي، ولم يتخذوا شعار «السلام مع الكيان الإسرائيلي هو خيار استراتيجي» كما كان يقول حافظ الأسد قبل الرحيل إلى جهنم.
اغتيل السياسي اللبناني محمد شطح، وأستطيع أن أضمه إلى قافلة المستهدفين اغتيالا من قبل النظام السوري، وأولهم المرحوم سليم اللوزي صاحب جريدة «الحوادث» اللبنانية الذي اختطف ثم غطست يداه بالأسيد ومات تحت التعذيب في سجون النظام الدموي. وللعلم فلم نكن نعرف في تاريخ سوريا الحديث معنى الاغتيالات إلا بعد مجيء نظام أسرة الأسد إلى الحكم، وأذكر هنا فقط باغتيال مفتي لبنان الشيخ حسن خالد والمفكر الشيخ صبحي الصالح ورفيق الحريري والصحافيين الأخريين الذين سقطوا بمتفجرات الغدر للنظام السوري، الذي وصلت جرائمه إلى اغتيال زوجة الأستاذ عصام العطار، وكذلك صلاح البيطار في باريس، وباختصار شديد ودائما يجب أن توجه أصبع الاتهام في كل اغتيال على ساحتنا إلى العصابة المجرمة التي تحكم سوريا.
لدى عيسى شاليش ابن خالة بشار الأسد وأحد مسؤولي القصر استراحة ومحطة وقود في منطقة تدعى الكسارة على مسافة تقدر مائة كيلومتر من دمشق بعد بلدة الضمير، ويجري تخزين السيارات المسروقة من لبنان في تلك المنطقة، ومن هذه السيارات سيارة تم تفخيخها بإشراف اثنين من مركز البحوث التابع لجيش النظام وقادها إلى الحدود اللبنانية أربعة أشخاص بالتناوب، ثم أدخلت إلى لبنان ليجري تفجيرها في موكب الحريري، ويهرّب حسن نصر الله مسؤولين متهمين في حادثة الاغتيال من حزبه من وجه العدالة، ثم نرى مثقفين عربا يوجهون رسالة تأييد إلى هذا المجرم الذي يقتل الشعب السوري بإيعاذ من أسياده في طهران أصحاب ولاية الفقيه ومشاركة مع رأس الأجرام بشار الأسد.
أحببت بأن أضع هذه الإضاءات أمام القارئ الكريم حتى يرى كم انحدر من يسمون أنفسهم مثقفين ليمالئوا نظام الأجرام والخيانة في سوريا ويشدوا على عضد القتلة.
لا يحرر الأوطان إلا الأحرار، والعبيد مكانهم مزبلة التاريخ، ومن يحبون عطر البساطير فليذهبوا إلى الجحيم.. «وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون».
*عضو الائتلاف
السوري المعارض
الشرق الأوسط